السبت، 13 أغسطس 2016

غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضوية والطبيعة البشرية. (الجزء الثاني)/ عديّ الزعبي


 
غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضوية والطبيعة البشرية/ الجزء الثاني/
عديّ الزعبي.

ثالثاً، الفوضوية.

 يرى تشومسكي أن الفوضوية هي الوريث الشرعي لليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية معاً. تحرير قدرات الناس كان في صلب اهتمامات الليبراليين الأوائل، على أنهم لم يدركوا أن رأس المال سيتحكم بالناس بطريقة مشابهة لما تفعله الدولة أو الكنيسة في زمنهم. هذا ما رآه ماركس والاشتراكيون بوضوح في القرن التاسع عشر.

تكمن أحد أبرز إنجازات تشومسكي في الفلسفة السياسية فيما يلي: يربط تشومسكي بين دراسته للغة وبين أعمال أقطاب الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية والفوضوية. ما قال به ديكارت، وما أثبتته اللسانيات التوليدية، يُضاف إلى أعمالٍ تتراكم منذ الخمسينيات عن البنى الرئيسة الإدراكية، تربط الطبيعة البشرية الخلّاقة التي قال بها باكونين وكروبوتكين وآخرون، مع الاستخدام الخلّاق للّغة عند ديكارت: ربطُ تراثِ ديكارت بتراثِ باكونين هو إنجازُ تشومسكي الرئيس في الفلسفة السياسية.

أقطاب الفوضوية، كباكونين وكروبوتكين، بالإضافة إلى راسل وهمبولت، دافعوا عن الطبيعة البشرية ولم يكونوا تجريبيين. تقوم فكرتهم على ما يلي: هناك طبيعة خلاٌقة، فطرية، حرة وغنية، يجب إطلاقها كي يعيش البشر بسعادة. باكونين، أشهر الفوضويين، آمن بوجود غريزة أصيلة في كل البشر، هي غريزة الحرية. يجد تشومسكي أن الملكة اللغوية فطرية، وخلّاقة أيضاً، وهو أمرٌ قال به ديكارت. ويجادلُ بأن معظم قدرات البشر الإدراكية فطرية وخلّاقة معاً. يتيح هذا لتشومسكي أن يربط عقلانية ديكارت، التي تقوم على فكرة أن القدرات اللغوية للإنسان فطرية وغير محدودة، بغريزة الحرية التي نادى بها باكونين.

إطلاق الطاقات الخلّاقة الفطرية هو جوهر الليبرالية الكلاسيكية كما نجدها عند همبولت وروسو، وجوهر الاشتراكية أيضاً التي تعادي تشييء الإنسان واغترابه. ماركس الشاب آمن بطبيعة بشرية جعلته يدافع عن العمال ويرفض تحويلهم إلى آلات: منطقياً، يجب القول بطبيعة بشرية كي يستقيم هذا الدفاع. لو استطعنا تكييف وتغيير العمال كي يقوموا بما تريده السلطات، لانتفى مفهوم الاغتراب.

في المحصلة، تقسيمات اليمين واليسار لا تتطابق مع تقسيمات من ينكر أو من يعترف بالطبيعة البشرية:

يشير تشومسكي إلى أن منظّري الإيديولوجيا اليمينية والمؤمنين بالرأسمالية يرتكزون، أحياناً، على مفهوم أناني للطبيعة البشرية. آدم سميث وأتباعه، مثلاً، يرون أن الإنسان أناني وطمّاع، مما يسوّغ بناء مفهوم حول سعيه الدائم للربح20. في المقابل، أيضاً، تبنى كواين وغودمان وسكينر، أشهر منكري الطبيعة البشرية وأتباع التجريبية بنسختها المعتدلة، مواقف يمينية عموماً.

على الضفة الأخرى، يميل اليسار عموماً إلى إنكار الطبيعة البشرية21: يستشهد تشومسكي بغرامشي ولينين وماركس الكهل22، كأمثلة. في المقابل، بعض أقطاب اليسار، كباكونين وكروبوتكين وراسل، يرون أن الإنسان يسعى إلى التعاون مع الآخرين بشكلٍ فطري، كجزءٍ رئيسٍ من الطبيعة البشرية المشتركة. أكثر من ذلك، يرى باكونين وراسل وتشومسكي أن الطبيعة البشرية معقدة وفيها اتجاهات مختلفة ومتناقضة. على النظام السياسي أن يشجع نزعات التعاون، لا أن يشجع على الطمع والأنانية، كما هو الحال في الرأسمالية. أرى في هذا الرأي معقوليةً أكبر من أيٍ من الآراء الأخرى.

ختاماً، يرى تشومسكي أنه لا مجال لإنكار الطبيعة البشرية، إلا أننا نجهل ماهية هذه الطبيعة. إنكار الطبيعة البشرية مذهبٌ فكريٌ فاسدٌ تماماً، إلا أن له أتباعاً؛ تبعاته الأخلاقية متنوّعة ومختلفة. ولكن، بحسب تشومسكي، الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية، بالرغم من أننا لا نستطيع اليوم أن نتوثق منه، وربما لن نستطيع أبداً التوثق منه، يتيح لنا الدفاع عن الحرية في كل مكان وزمان، ولكل الناس.

في القسم الأخير، سنشرح أهمية عمل تشومسكي في فهم مشاكلنا، اليوم، في أزمة الربيع العربي.

الطبيعة البشرية ومستقبل الربيع العربي

يبدو لي أن عمل تشومسكي مفيد في الدفاع عن الربيع العربي، وقيمِه التي حملها في تحرير الناس من العبودية. يرى تشومسكي في الفوضوية محاولة لتحرير الناس وإطلاق طاقاتهم الكامنة. ينطبق هذا التحليل على كل الناس. كل أفراد الجنس البشري يتمتعون بغريزة الحرية، وبطاقاتٍ كامنة، مختلفة ومتعددة وغنية، وعلينا أن نسعى إلى نظام اجتماعي يتيح لهم تطوير قدراتهم هذه. لا فارق بين العرب والصينيين، بين المسلمين واليهود، بين النساء والرجال؛ كل البشر يحق لهم التعبير عن أنفسهم بالأسلوب الذي يرونه مناسباً. إطلاق الطاقات الكامنة في الفرد البشري قيمة كونية مشتركة23.

منذ بدايات النهضة العربية، أي في القرن الثامن عشر، طُرِحَ السؤال حول القيم المشتركة بيننا وبين الأوربيين الغزاة. لم يكن الجواب سهلاً: من جهة، جلبَ الغزاة معهم مفاهيم التنوير: الديموقراطية والانتخابات وحقوق الإنسان24؛ وفي الوقت ذاته، عاث هؤلاء الغزاة فساداً في بلداننا، ضاربين عرض الحائط بكل مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة. إلى اليوم، ما زالت العلاقة مع الغزاة ذاتها: يحاضر علينا قادتهم في حقوق الإنسان، ويتعاونون مع أعتى طغاتنا بوقاحة منقطعة النظير.

السؤال الذي طُرِحَ وما زال يُطرح: هل هناك قيمٌ مشتركة لجميع الناس، بغض النظر عن ثقافتهم وزمنهم وبيئتهم؟ الجواب الذي أقدمه هو نعم بالطبع.

قيم التنوير عامة مشتركة. تنوير تشومسكي مستمدٌ من تنوير كنط، من الإيمان بأن تحرير الناس ليستخدموا عقلهم في الحكم، وفي إدارة حياتهم كما يريدون، هو جوهر إنسانيتنا. بعيداً عن تفاصيل ملحّة وخاصة في كل مكان بعملية تحرير الناس من السلطات القامعة، يشكل دفاع تشومسكي عن تنوير حقيقي وعن فوضوية تبدأ من الناس ولا تُفرض عليهم من أعلى، ليحرروا قواهم الخلاقة ويستخدموا إمكانياتهم إلى أبعد مدى، قاعدة نستطيع البناء عليها جميعاً في معركتنا ضد الاستبداد: قاعدة لكافة البشر دن استثناء.

يبقى السؤال اليوم، مع انسداد أفق الربيع العربي، هو: هل نتخلى عن قيم التنوير أم نعممها؟ جواب جزء من القوميين والإسلاميين، من جهة، وجزء من الغربيين، من جهة أخرى، هو أن التنوير لا يصلح لنا: العرب، أو المسلمون، أو الشرقيون، أو غير الغربيين بشكل عام، لهم قيمهم الخاصة. أما قيم التنوير: رفض القدرية التي تقول بوجود مراتب ثابتة للبشر: حكّامٌ أزليون ومحكومون أزليون؛ إعطاء دور رئيس للمواطن العادي في إدارة الشؤون العامة والسياسية؛ تحرير المرأة وإلغاء الرق؛ كل هذه القيم لا تصلح إلا للغربيين25.

ينطلق كلا الطرفين، أصحابُ الخصوصية عندنا من إسلاميين وقوميين، والغربيون ممن ينكرون علينا التنوير، سواءٌ العنصريون الذين يرون فينا تخلفاً وهمجية، أو ما بعد-الحداثيين ممن يعتقدون أنهم تقدميون بإنكارهم حقنا في التنوير، من فرضية واحدة: لا يوجد طبيعة مشتركة بين البشر، أي من تجريبية راديكالية تنكر الطبيعة البشرية. قلنا أعلاه أن هذا الإنكار خاطئ تماماً وبشكل كامل ومطلق. السؤال هنا، لماذا يتبناه البعض، بالرغم من خطئه الفاقع؟ الجواب يكمن في رغبة عميقة عند المنكرين في تبني سياسات محددة: معاداة التنوير والحرية باسم خصوصيات ثابتة ونهائية ومطلقة، خصوصيات تصنعها الثقافات والبيئات بشكل كامل. ينطبق هذا على المذكورين أعلاه: الأصوليون القوميون والغربيون العنصريون والغربيون ما بعد-الحداثيون. لكل من هذه الأطراف الثلاثة أسبابها التي لن نخوض فيها هنا. كلهم، من وجهة نظر بحثنا في الطبيعة البشرية، كما يوضّح النقاش أعلاه حول التجريبية الراديكالية، مخطئون.

إذاً، يبقى لنا هنا أن نوضّح كيف أن الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية سيساعدنا في الدفاع عن الربيع العربي.

الإيمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبأنهم يستحقون حياة أفضل من استعبادهم من قبل مجموعة طغاة مخبولين وعملاء، وأن كل البشر يملكون طاقات خلاقة حرة وغنية، يحق لهم استخدامها بالشكل الذي يرونه مناسباً لهم؛ فقط هذا الإيمان يسوّغ لنا الدفاع عن الملايين التي سعت إلى حريتها، وما زالت تسعى إليها.

بكلماتٍ أخرى، يجب تعميم التنوير ليشمل كل البشر. على القارئ أن يفكر ملياً، في حال لم يُرِد التنوير، في منظومة القيم البديلة التي يريدها. أنا أدافع عن التنوير العقلاني وأدعو إليه؛ البديل هو ظلام الخرافات. بديل قيم التنوير المشتركة هو النسبوية والخصوصيات. على سبيل المثال، تحرير المرأة والمساواة مع الرجل جزءٌ من التنوير، رفض استعباد البشر والاتجار بهم جزءٌ من التنوير، الدفاع عن حرية التعبير وميثاق حقوق الإنسان جزءٌ من التنوير؛ لا يستطيع المرء ألّا يجزع حين يجد من يرفض التنوير باسم الخصوصيات الثقافية.

أضف إلى ذلك، لا يستطيع المؤمن بنسبية القيم الدفاع عن آخرين في ثقافات مختلفة، في حين تتيح لنا القيم المشتركة توحيد جهودنا في مواجهة عدوٍ مشترك: إمبريالية توسعية غربية وشرقية، وحلفاؤها من صغار الطغاة، بالإضافة إلى مجموعات من العصابيين الذين ينكرون الحرية باسم الخصوصيات: ينتشر هؤلاء في كل مكان، من اليابان إلى الهند إلى الدنمارك وأمريكا، وعندنا بالطبع. يتشابه دعاة الخصوصية كثيراً: معظمهم يرفض مساواة الرجل بالمرأة، ويضطهدون الأقليات الدينية والعرقية، ويصبون جام غضبهم على المثليين والمتحوّلين جنسياً، وعلى كل ما هو مختلف عن السائد، ويرفضون شرعة حقوق الإنسان العالمية باسم قيم بالية ووحشية ومتخلفة وخصوصيات ثقافية مغلقة.

ولكن الدفاع المشترك عن قيم مشتركة يقدّم لنا مخرجاً من فخّ الأصوليات: لا يوجد لنا أعداء في الثقافات الأخرى، بل يوجد حلفاء حقيقيون ممن يقع على عاتقهم تحرير أنفسهم من قوى الطغيان. هذه هي الرسالة الحقيقة لنا اليوم: البحث عن حلفائنا في كل مكان، والصراع مع قوى الطغيان في كل مكان.

لا يعني ذلك تخلينا عن مفهوم الاختلاف: على العكس، بل يعني إغناء الاختلاف من خلال التعاون. إن كان لمفهوم الخصوصية أهميةٌ ما، بعيداً عن الأصوليين القوميين والدينيين وغيرهم، فهو يكمن في محاولة رفع الظلم عن الناس في كل مكان، وقبول وسائل تعبيرهم عن أنفسهم: من موسيقا وشعر ورسم، وحرف ورياضة وغيرها، في كل مكان بكافة الاختلافات الموجودة. ويعني، أيضاً، إدانة أي قمع في أي مكان، يصدر باسم الخصوصيات.

عالم اليوم بشعٌ وقذر: وحده الإيمان بالقيم المشتركة، والعمل مع المخلصين في كل بقعة من بقاع العالم، سيحررنا من هذا العالم. البديل هو الصراع بين البشر لمصلحة طغاة وحمقى، كبار وصغار، باسم نسبوية وخصوصيات ثقافية مهترئة.

للقارئ والقارئة أن يختاروا أي مستقبل يريدونه لأنفسهم وأولادهم.

*****

المراجع الرئيسية

أولاً، المراجع العربية

الزعبي، عدي. 2014. تشومسكي قارئاً راسل. مجموعة الجمهورية.

الزعبي، عدي. 2015. أخلاق مشتركة لعالم متناثر: قراءة في النسبوية والاستشراق. مجموعة الجمهورية.

تشومسكي، نعوم. 1990. اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان القزيني. دار توبقال: الدار البيضاء.

_ 2015. اللغة والحرية، ترجمة عدي الزعبي. مجموعة الجمهورية.

كوتنغهام، جون. 1997. العقلانية: فلسفة متجددة. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. مركز الإنماء الحضاري: حلب.

ثانياً، المراجع الإنكليزية.

وضعتُ اسم المرجع بالعربية في الثبت أدناه.

Chomsky, Noam. 1965. Cartesian Linguistics. New York: Harper and Row.

«اللسانيات الديكارتية»

_ 1968. Philosophers and Public Philosophy. http://www.ditext.com/chomsky/ppp.html

«الفلاسفة والفلسفة العامة».

_ 1972. Problems of Knowledge and Freedom: The Russell Lectures. New York: Pantheon.

«مشكلات المعرفة والحرية: محاضرات راسل».

_ 1979. Language and Responsibility. New York: Pantheon.

«اللغة والمسؤولية».

_ 1987. The Chomsky Reader. Ed. James Peck. Serpent’s Tail.

«قارئ تشومسكي»، ويحوي مقالتي «علم النفس والإيديولوجيا» و«المساواة»، المشار إليهما في الهوامش.

_1991. Force and opinion. https://chomsky.info/199107__/

«القوة والرأي».

_ 1996. Powers and Prospects: Reflections on Human Nature and the Social Order. Boston: South End Press.

«قوى وآفاق».

_2000. New Horizons in the Study of Language and Mind. Cambridge, England: Cambridge University Press, 2000.

«آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل».

_ (2005) Chomsky on Anarchism . Ed. Barry Pateman. AK Press.

«تشومسكي والفوضوية»، ويحوي مقال «احتواء خطر الديموقراطية» المشار إليه في الهوامش.

_ (2006). The Chomsky-Foucault Debate: On Human Nature (with Michel Foucault). New York: The New Press, distributed by W.W. Norton.

«حوار تشومسكي وفوكو».

Collins, John. 2008. Chomsky: A Guide for the Perplexed. London: Continuum.

«تشومسكي: دليل الحائرين».

 

ليست هناك تعليقات: