الخميس، 29 يونيو 2023

من مقدمة إسماعيل المصدق كتاب "أزمة العلوم الأوروبية" لـ إدموند هوسّرل

  من مقدمة إسماعيل المصدق كتاب "أزمة العلوم الأوروبية" لـ إدموند هوسّرل:



هوسرل (1859ـ 1938) من أبوين يهوديين، اعتنق البروتستانتية عام 1886.

درس الرياضيات والفلسفة في جامعتي لايبزج وبرلين. وحصل على الدكتوراه في الرياضيات سنة 1882ـ 1883.

[أهم أعمال هوسّرل:

1887: "حول مفهوم العدد ـ تحليلات سيكولوجية" (أطروحة)

1900: "أبحاث منطقية" في جزأيْن: "مقدمات للمنطق الخالص" و"أبحاث في الفينومينولوجيا ونظرية المعرفة".

1913: "أفكار من أجل فينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجية"

1929: "المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي"

1931: "تأملات ديكارتية ـ مدخل إلى الفينومينولوجيا"

1936: "أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية ـ مدخل إلى الفلسفة الفينومينولوجية"

1938: "الحكم والتجربة ـ أبحاث في جينيالوجيا المنطق".]

في سنة 1916 انتقل [هوسرل] إلى جامعة فرايبورج حيث ظل يشغل كرسيّ الفلسفة إلى حين تقاعده سنة 1928. وباقتراح منه خلفه على هذا الكرسيّ هايدغر.

في سنة 1931 نُشرت الترجمة الفرنسية لكتابه "تأملات ديكارتية ـ مدخل إلى الفينومينولوجيا"، وهو يستند إلى محاضرتين مطوّلتين ألقاهما هوسرل في جامعة السوربون بباريس سنة 1929.

إن العمل الحقيقي لهوسرل تركز حول أبحاث وتحليلات فينومينولوجية عينيّة، ونظراً إلى أنه اعتاد أن يسجل باستمرار أفكارَه وخواطره، فقد ملأ [هوسرل] بين سنة 1890 وسنة 1938 حوالي 45000 صفحة مكتوبة .. وظل يتابع عمله بكل حزم وإصرار، وحتى مضايقات النازية التي منعته من دخول الجامعة والاشتغال في خزانتها لم تنل من عزيمته. مباشرةً بعد وفاته هرّب هرمان ليو فان بريدا ـ وهو راهب فرنسيسكاني مهتم بفلسفة هوسرل ـ مخلفاته خوفاً من أن يتلفها النازيون، وأسس سنة 1949 بجامعة لوفان ببلجيكا أرشيف هوسرل، الذي أصدر ابتداءً من سنة 1950، بتعاون مع أرشيف هوسرل بكولونيا الذي تم تأسيسه لاحقاً وبدعم من منظمة اليونسكو، الأعمال الكاملة لهوسرل تحت اسم هوسرليانا. هذه المجموعة الكاملة التي صدر منها لحد الآن 38 مجلداً تضم المؤلفات التي نشرها هو ذاته أو التي كان قد هيأها للنشر بالإضافة إلى محاضرات ودروس ومقالات وتحليلات مأخوذة من مخطوطاته.

(اسماعيل المصدق؛ ص 12)

 

في سنة 1911 نشر هوسرل في العدد الأول من مجلة لوغوس مقالاً بعنوان "الفلسفة كعلمٍ صارم". هذا العنوان يلخص تصور هوسرل للفلسفة. في مقابل التصور الرائج آنذاك، الذي يختزل الفلسفة إلى مجرد رؤية للعالم ليس من حقها أن تطمح إلى العلمية أو أن تدعي صلاحية تتعدى شرطيتها التاريخية، يرى هوسرل أن مهمة الفلسفة هي إنشاء معرفة صارمة ومتحررة جذرياً من كل الآراء والأحكام المسبقة.

[نقد النزعة السيكولوجية]

أو: [أضواء على نقد النزعة السيكولوجية عند هوسرل، مع أني أظن أنها غير كافية. لكن لأهمية هذا التمييز عند هوسرل، أنقل ما كتبه اسماعيل المصدق كما هو، في تقديمه كتاب "أزمة العلوم الأوروبية"]

يتجلّى تشبّث هوسرل بهذا التصوّر للفلسفة منذ مؤلَّفه "أبحاث منطقية" [1900] الذي قام في جزئه الأول "مقدمات للمنطق الخالص" بتفنيد دعاوى النزعة السيكولوجية وبيان مخاطرها التي تتجلى في أنها تقود إلى نزعة نسبيةٍ متطرّفة، بل وريبيّة، تقضي على طموح العلم نحو إنشاء معرفةٍ صارمة لها صلاحيةٌ موضوعية.

يقوم التوجّه الأساسي للنزعة السيكولوجية على اعتبار أنّ العمليات المنطقية هي عمليات سيكولوجية تجري واقعياً في الذهن البشري، وأن القوانين التي تسمى منطقية ليست سوى القوانين العامة التي تجري حسبُها هذه العمليات. إذ إن القوانين المنطقية هي بالنسبة للعمليات السيكولوجية بمثابة القوانين الطبيعية بالنسبة لظواهر العالم المادي. هكذا تفسر النزعة السيكولوجية المنطق انطلاقاً من السيكولوجيا وترفع هذه الأخيرة إلى مرتبة العلم الأساسي.

يأخذ هوسرل على النزعة السيكولوجية أنها تخلط السؤال عن التفكير الصحيح مع الوصف التجريبي للعمليات الفكرية. أي تخلط بين الفكرة بصفتها ما يتمّ تفكيره وبين عملية التفكير [؟]. لبيان ذلك يلجأ هوسرل إلى مثال الحُكْم. إذ إن النزعة السيكولوجية لا تميّز بين الحكم بوصفه عمليةً سيكولوجية تجري واقعياً والحكم بوصفه مضموناً موضوعياً مستقلاً عن الإنجاز الفعلي لهذه العملية من طرفِ وعيٍ ما: الأول يمكن وصفُه تجريبياً، أما الثاني فلا يقبل هذا النوع من الوصف؛ الأول هو عمليةٌ واقعية تجري في الزمان، أما الثاني فهو يتمتع بصلاحيةٍ فوق زمنية. مثلاً الحكم بأن 2+2=4 هو بالمعنى الأول عملية واقعية قد تجري اليوم أو غداً، وقد تجري منّي أو من غيري. أما الحكم 2+2=4 مضموناً موضوعياً فهو لا يتكرر، وهو يتمتع بصلاحيةٍ موضوعية سواءٌ تم إنجاه بالفعل أم لا. الحكم بالمعنى الأول يدخل في مجال اهتمام السيكولوجيا، أما بالمعنى الثاني فينتمي إلى ميدان المنطق. هناك إذاً فرقٌ جوهري بين القوانين السيكولوجية التي يجري حسبها تفكيرنا من حيث هو عمليةٌ تحدث فعلياً في العالم الواقعي، وبين القوانين المنطقية التي هي بمثابة قواعد أو معايير "مثالية" للتفكير.

(ص 13)

يرتبط نقد هوسرل للنزعة السيكولوجية بتأكيد أن العام، سواءٌ اتخذ شكل ماهيات أو مقولات، له وجودٌ موضوعي وصلاحية موضوعية. والأمر الحاسم عند هوسرل هو أن العام يمكن أن يعطى هو أيضاً في نوعٍ خاص من الحدس. في هذه النقطة يعارض هوسرل وجهة نظر كانط. وهذا الأخير يرى أن الخاص، سواءٌ أكان موضوعاً للحس الخارجي أو للحس الداخلي، هو وحده يعطى في الحدس، كما يرى أنه ليس هناك إلا نوعٌ واحد من الحدس هو الحدس الحسي. وعليه، فالحساسية وحدها تحدس؛ أما الفهم فلا يحدس، بل فقط يوحد ويربط المتنوع المعطى في الحدس الحسي، وهو يقوم بعملية التوحيد والربط اعتماداً على المقولات. صحيح أن المقولات تتوفر حسب كانط على صلاحية عامة وموضوعية في مجال الظواهر، إلا أنها لا تعطى في الحدس، إنها وظائف كما يقول أو كيفيات للربط تنبثق تلقائياً من فعالية الفهم؛ فموطنها هو الذات بوصفها قدرة تمثلية، إنها جزء من بنية الذات. أما هوسرل فيخرج المقولات من دائرة الذات ويمنحها وجوداً موضوعياً. صحيح أن وجودها يختلف جذرياً عن وجود الأشياء الواقعية الحسية؛ إلا أن ذلك لا يمنع من أنها تتمتع بوجود موضوعي مثالي. وهذا ما ينطبق حسب هوسرل على الماهيات أيضاً. إن المقولات والماهيات تعطى في نوعٍ خاص للحدس. هكذا يتكلم هوسرل على حدس المقولات وحدس الماهيات. والحدس عموماً هو الكيفية التي يعطى بها موضوع ما بحيث يكون حاضراً أمامنا هو ذاته، بلحمه ودمه، كما يقول هوسرل. كما أننا في الإدراك الحسي نحدس الأجسام الخارجية، بحيث تكون حاضرةً أمامنا هي ذاتها، فإنه بإمكاننا أيضاً أن نحدس ماهية رياضيةً أو قانوناً منطقياً أو قيمة أخلاقية، بحيث يكون ما نحدسه حاضراً أمامنا هو ذاته.

إلا أن ذلك لا يعني، من جهةٍ أخرى، أن العام يسبح في سماء المثل الأفلاطونية. إن ما هو صحيح موضوعياً لا يمكن بلوغه في مضمونه المستقل عن الإنجازات الذاتية الفعلية إلا من خلال كيفية ذاتية للعطاء مناسبةٍ له. وهذا صحيح كذلك بالنسبة لقوانين المنطق. وهي بوصفها أفكاراً مرتبطةٌ بإنجازاتٍ فكرية تتم في وضعيات معيّنة. إن شعار هوسرل هو" "إلى الأشياء ذاتِها"، إلا أن الأشياء ذاتها لا تعطى حسب هوسرل إلا في إنجازات ذاتية. محل هذه الإنجازات هو الوعي البشري. لهذا سيصبح الوعي الخالص هو مجال البحث الخاص بالفينومينولوجيا الهوسرلية. لكن ما الذي يحمي الفينومينولوجيا التي تفهم ذاتها بحثاً في الوعي من السقوط في النزعة السيكولوجية؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نستحضر هنا مفهوماً مركزياً عند هوسرل هو قصدية الوعي. يرتبط مفهوم القصدية عند هوسرل بفكرة التعالق بين فعل الوعي وموضوعه ارتباطاً وثيقاً. إن الوعي ليس وعاءً محايداً إزاء ما يمكن أن يُملأ به، بل إنه يتكوّن من أفعالٍ يتحدد طابع كلٍ منها حسب نوع الموضوع الذي يتعلق به والذي لا (15) يمكن أن يظهر للوعي إلا في كيفيات العطاء المناسبة له. إن الفعل القصدي، سواءٌ أكان إدراكاً أو تذكراً أو تخيلاً، أو حباً أو كرهاً، أو رغبةً أو نزوعاً، أو قراراً عملياً أو تقويماً أخلاقياً، يتعلق انطلاقاً من ذاته بموضوعٍ ما بهذه الكيفية أو تلك. يمكن القول: إن الوعي القصدي يحمل في ذاته الارتباط بالموضوع. (16)

[الكيفيات الأصليّة للعطاء]

... كلّ موضوعٍ يتعلّق به الوعي يمكن أن يظهر لنا إما في كيفيّة أصليّةٍ، أيّ حدسيّاً، وإما في كيفيّة يعرف منها الوعي أنّ موضوعَه غير معطى أصليّاً، وأنه لتحقيق ما يقصده في تلك الكيفيّة غير الأصليّة أو لتأكيده، فإنه يتوقف على كيفيّة أصليّة للعطاء لا ينجزها حاليّاً.

إنّ الكيفيّات غير الأصلية للعطاء تحيل الوعي إلى كيفيّات أصليّة يعطى فيها الموضوع حدسيّاً. وهذا ليس صحيحاً بالنسبة للمعرفة النظرية فقط، بل بالنسبة إلى كلّ أفعال الوعي: الإدراك، والرغبة، والنزوع، والحب، والاعتقاد، والتقويم الأخلاقي.. إلخ.

ما يميّز إذاً تصوّر هوسّرل للقصديّة هو اعتباره أنّ الوعي يعيش إحالةً وتوقّفاً على كيفيّات أصليّة للعطاء، أي على ما يسميه التقليد الفلسفي البداهة. لو لم يكن الوعيُ يتضمّن معرفةً بالإحالة ويمتلك القدرةَ على تحقيق ما يقصده في الكيفيّات غير الأصلية للعطاء، لما كان له أيُّ موضوع قصدي. لكيّ يكون هناك وعيٌ بشيءٍ يجبُ أن يكون الوعيُ عارفاً بقدرته على أن يجعلَ هذا الشيء يظهر حدسيّاً. إنّ قصد الوعي لموضوعٍ ما ليس ارتباطاً سكونيّاً بشيء، بل إنه يحمل اتجاها نحو العطاء الأصلي. إنّ الوعيَ في كلّ أشكاله يجد امتلاءً أو إشباعاً في الامتلاك الحدسي للموضوع. (16)

يطبّق هوسّرل فكرة إحال ةكلّ تجربةٍ على كيفيّات أصليّة للعطاء، حتى على المعرفة الفلسفيّة ذاتِها. ذلك أنه من دون قربٍ من الأشياء، ومن دون حدس، يبقى التفكير الفلسفي مجرّد حجاجٍ وتركيبٍ فارغين. ضدّ هذا اللعب بالألفاظ والمفاهيم يطرح هوسّرل الوصف الفينومينولوجي المستند إلى البداهة والحدس. ينبغي على الفلسفة ألا تدّعي أكثر مما يسمح به الحدس الذي يعطي الشيءَ بكيفيةٍ أصليةٍ ولا أقلَّ منه. (17)

إن الفهم القصدي للوعي يحمي من إذابة الموضوع الذي تتعلق به إنجازات الوعي في هذه الإنجازات على طريقة النزعة السيكولوجية؛ ذلك أن طابع أفعال الوعي يتحدد بالضبط انطلاقاً من الموضوع الذي تتعلق به. والأمر الحاسم هنا هو أن ذلك صحيح بغضّ النظر عن الوجود الواقعي للموضوع المقصود. ويجب الإشارة هنا إلى أن هوسرل يستعمل لفظ الموضوع بمعنىً واسعٍ جداً للدلالة على كل ما يمكن أن يتعلق به فعلٌ من أفعال الوعي، وليس فقط على الموضوع الذي له وجودٌ واقعي. إن الموضوع القصدي لإدراكي الآن هو مثلاً هذا الكرسيّ من حيث هو مدرَك؛ وعندما أتخيل جبلاً من ذهب، يكون هذا الجبل هو الموضوع القصدي الذي يتعلق به فعلُ تخيّلي؛ كما يمكن أن يكون الموضوع ماهيّةً رياضيةً أو قانوناً منطقياً؛ بل قد أجعل فعلَ الوعي ذاته، كما يحدث في البحث الفينومينولوجي، موضوعاً لإدراكٍ داخلي.

إن طابع إنجازات الوعي ليس تابعاً للمعطيات التجريبية الموجودة عَرَضاً، بل لماهية الموضوعات، أي للتحديد العام لأنواعها. وهكذا، فهناك أنواعٌ من الموضوعات أو قطاعات من الوجود، كما يقول هوسرل، تتمايز حسب ماهيتها التي يمكن ان (17)  تعطَى في حدسٍ أصليّ. بناءً على مبدأ التعالق، هناك تقابل بين ماهية الموضوع وماهية الفعل القصدي الذي يتعلق به. ونظراً إلى أنه يمكن أن ننظر إلى الأفعال وموضوعاتِها باستقلال عن الوقائع الجزئية القابلة للملاحظة التجريبية، فإن تعالقَها له طابع قبليّ.  (18)

[الإرجاع الماهوي]:

تتقدم أنواع الموضوعات وكيفيات عطائها للبحث الفلسفي بوصفه حقلاً من المعرفة المستقلة عن التجربة. والفينومينولوجيا تسعى لصياغة قوانين ماهوية عامة وضرورية تحدد بناء أفعال الوعي وبناء قطاعات الوجود التي تظهر فيها. إن رد الخصائص العارضة للأفعال القصدية ولموضوعاتها إلى تحديدات ماهوية تكون الخصائص العارضة بالنسبة إليها مجرد أمثلة قابلة للاستبدال، هو ما يسميه هوسرل الإرجاع الماهوي. يتطلب الإرجاع الماهوي إذاً غضّ الطرف عن الوقائع الجزئية لفائدة عمومية الماهيات. (18)

اعتبر أتباع هوسرل الأوائل التحول نحو الموضوع نتيجةً أساسيةً لنقد هوسرل للنزعة السيكولوجية،

بحيث إنهم رأَوْا أنّ عمله الأساسي يكمن في أنه أعاد للفلسفة توجهها نحو الموضوع، واعتقدوا أنّ ذلك من شأنه أن يحرّر الفلسفة من أسرها في النزعة الذاتية التي ظهرت مع بداية العصر الحديث. لقد تمّ فهم التحوّل نحو الموضوع بوصفه إنقاذاً للعام ولموضوعيّته، وبدأ الاهتمام بالعام في المقام الأول في مجال الماهيّات. هكذا شكّل البحث في بنية ماهية مجالات الموضوعات والأفعال التي تتعلّق بها مهمّة الفينومينولوجيا بالنسبة لرفاق هوسّرل في غوتنغن وميونخ. إنّ تحليلاتهم الدقيقة للماهيات المنطقية والرياضية والأخلاقية والقانونية وغيرها جعلت من الفينومينولوجيا المبكرة منهجاً لدراسة الماهيّات قبل كلّ شيء.

لكن عندما استخلص هوسّرل في الكتاب الأول من "الأفكار" [1913] تبعاً للاهتمام بالوعي القصدي نتائج راديكالية تخطّت حدود البحث الفينومينولوجي في الماهيات، رفضوا هذه النتائج ورأوا فيها سقوطاً في النزعة الذاتية.

أما هوسرل فقد كان يعتقد أن التحوّل الذي أنجزه في الكتاب الأول من "الأفكار" كان ضرورياً. إذ إن الفينومينولوجيا تريد بلوغ معرفةٍ صارمةٍ متحررةٍ جذرياً من كل المسبقات، وهي لن تتمكن من ذلك إذا بقيت مقتصرةً على دراسة ماهيات مجالاتٍ أو قطاعات محددة من الوجود؛ ذلك أنه، في هذه الحال، يبقى الخطر قائماً في أن تظل تحليلاتها تحت تأثير مسبقات خفية قادمةٍ من مجالات لم تندرج بعد في المعرفة الفينومينولوجية. لكي تتجنب الفينومينولوجيا هذا الخطر، يجب أن تتحول إلى فلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة، أي إلى معرفةٍ بكلّية الموجود. يسمي هوسرل كلّية الموجود العالم. (19)

[الموقف الطبيعي والفينومينولوجيا]

يحدد هوسرل مفهومه للمعرفة الفلسفية انطلاقاً من تعارضها مع الموقف الطبيعي، أي مع الموقف الذي يتخذه الإنسان من العالم تلقائياً وضمنياً قبل كل فلسفة..

بناءً على مبدأ التعالق، يصف هوسرل الموقف الطبيعي كما يلي: تظهر لي الموضوعات في كيفيات للعطاء مشروطة بوضعيات معيّنة. إن الطاورة مثلاً لا يمكن أن تعطَى إلا بحيث يظهر لي في كلِّ مرّةٍ جانبٌ أو مقطع منها. هذه المقاطع لها طابع ذاتي نسبي لأنها مرتبطة بوضعيات ذاتيةٍ نسبية للعطاء. ومع ذلك، فأنا أنسب للطاولة وجوداً موضوعياً يتخطى كيفيات عطائها الذاتية النسبية، إنني أعني بالموضوع أكثر مما يظهر لي منه في كل كيفيةٍ للعطاء. في الموقف الطبيعي نكون مقتنعين تلقائياً بأن الموضوع قائمٌ في ذاته وأنّ وجودَه يتعالى على ظهوره الذاتي النسبي. بهذا المعنى فإن الوعي يصدر في الموقف الطبيعي دائماً "حكماً" ضمنياً حول وجود الموضوعات، إنه يتضمّن في العادة وضعاً أو إثباتاً لوجود موضوعه.

في مسار تجربتنا اليومية لا نتوصّل دائماً إلى تأكيد أو تحقيق اعتقاداتنا بوجود موضوعات معيّنة، بل أحياناً [نصل] إلى إخفاقات. قد يتبيّن لنا أن الموضوع الذي اعتقدنا في وجوده غير موجود، أو أن الصفة التي نسبناها له لا توجد فيه. ولكن مع ذلك يبقى هناك اعتقاد أساسي لا يمكن المساس به، هو الاعتقاد بوجود العالم أرضيّةً نضع عليها بمعنىً ما كلَّ الموضوعات. وهكذا يبقى الاعتقاد في وجود العالم قائم الصلاحيّة حتى إذا اضطُرِرنا إلى حذف ادعاء وجود أو كيفيّة وجود هذا الموضوع أو ذاك. هذا الاعتقاد الضمني بوجود العالم يسميه هوسرل الأطروحة العامة للموقف الطبيعي.

إنّ الإنسان يتوفّر إذاً في حياته الطبيعيّة على موقف ضمني من العالم، والمطروح على الفينومينولوجيا هو تحويل هذا الموقف الطبيعي إلى موقف فلسفي.

.. يكون الوعي القصدي في الموقف الطبيعي غارقاً في الموضوعات التي ينصبّ عليها اهتمامُه، أما كيفيّات العطاء التي من خلالها يتعلّق الوعي بموضوعاته، فتبقى في العادة خارج دائرة انتباهنا. لكن الفينومينولوجي يجعل من كيفيّات العطاء التي ننجزها دون أن نعير لها بالاً محطّ اهتمامه. إنّ اهتمامه لا يتّجه أبداً نحو الموضوع الذي يقصده الوعي، بل نحو الموضوع في كيفيّات عطائه للوعي وفي اندراج هذه الكيفيّات في أفق العالم. لذلك، عليه أن يتوقّف عن إنجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات المقصودة وأن يتحوّل إلى ملاحِظ غيرِ مهتمّ أو غيرِ مشارك. وهذا لا يعني أن يتّخذ موقفاً شكّياً ينفي وجود هذه الموضوعات، بل أن يمتنع عن اتخاذ أيّ موقفٍ يتعلّق بوجود الموضوعات سواءٌ أكان إثباتاً أو نفياً أو موقفاً وسطاً بينهما. (20)

هذا الامتناع عن اتخاذ أيّ موقف من هذا النوع، أي الحياد إزاء كلّ أشكاله الممكنة، يسمّيه هوسّرل تعليق الحكم، الإيبوخيي.

موقف الإيبوخي إزاء العالم هو الذي يميّز الموقف الفلسفي عن الموقف الطبيعي. الإيبوخي هو التوقف عن إنجاز الأطروحة العامّة للموقف الطبيعي. وهو ما يتيح للفينومينولوجي إرجاع الموضوعات والعالم إلى كيفيّات عطائها، هذا الإرجاع يسمّيه هوسّرل الإرجاع الفينومينولوجي أو الترنسندنتالي، وهو ما يسمح بدراسة الموضوعات في تعالقها مع الكيفيّات الذاتية لعطائها. إن الموضوعات منظوراً إليها على أنها معالقات للكيفيّات الذاتية للعطاء هي ما يسميه هوسّرل الظواهر، وهي ما تهتمّ به الفينومينولوجيا التي تعني حرفيّاًعلم الظواهر. (21)

الترنسندنتاليّة بين كانط وهوسّرل:

في الكتاب الأول من الأفكار يضع هوسّرل الفينومينولوجيا في إطار الفلسفة الترنسندنتاليّة. يحدّد كانط في مقدمة الطبعة الثانية من "نقد العقل الخالص" الفلسفة الترنسندنتاليّة بأنها لا تهتمّ بالموضوعات، بل بكيفيّتنا القبْلِيّة لمعرفة هذه الموضوعات. يوسّع هوسّرل مجال الفلسفة الترنسدنتاليّة بحيث إنه لا يقتصر حسبه على معرفة الموضوعات، بل يشمل كل العلاقات الممكنة للوعي بموضوعاته، أيّ كلّ أشكال ظهور أو عطاء الموضوعات، كلّ أشكال تعلّق الوعي بموضوعه القصدي: نزوع، رغبة، حبّ، اهتمام عملي، تقويم أخلاقي. إلا أنّ هوسّرل، بالرغم من هذا التوسيع يلتزم بتحديد كانط للفلسفة الترنسندنتاليّة، فالفينومينولوجيا هي فلسفة ترنسندنتاليّة لأنها لا تتساءل مباشرةً عن موضوعات الوعي، بل عن الكيفيّات التي تُعطى بها هذه الموضوعات للوعي، ولأنّها تعتبر أنّ هذه الكيفيّات قبلِيّة. (21)

 [أما الموقف الفلسفي (الفينومينولوجي) بحسب هوسرل فينطلق من وضع العالم بين قوسين وتطبيق مبدأ "الإيبوخي" عليه. لكن هوسّرل يلاحظ بأن الوعي وحده ينجو من هذا الإيبوخي]، لأن الوعي يتميّز "بخاصية أساسية هي إمكانية الانعكاس أو الارتباط الداخلي بذاته. عندما يدرك الوعي فعلاً من أفعاله القصدية، فإن هذا الفعل يكون محايثاً له، إنه لا يعطَى للوعي بكيفية نسبية في مظاهر أو مقاطع متنوعة، بل إنه يعطى بكيفية مطلقة. على خلاف ذلك تتميز الموضوعات الخارجية بأنها متعالية على الوعي، أي تتخطى دائرته الداخلية، إنها لا تعطى إلا بكيفية نسبية في مقاطع أو مظاهر.

نظراً لأنّ الموضوعات الخارجيّة تُعطَى بكيفيّة نسبيّة، فإنه يمكن في أيّ وقت تشطيب ادعاء وجودها، فنسبيّة العطاء تعني إمكانيّة الخداع. لهذا يمكن مبدئيّاً التفكير في انهياء الاعتقاد في وجود العالم بأكمله؛ أما ادعاء وجود الوعي فلا يمكن تشطيبه. إنّ ظواهر الوعي عناصرُ محايثةٌ للوعي، إنّ وجودها فوق كلّ شك، لأنها متضمّنَةٌ كأجزاء في تيار الوعي، أما موضوعات العال مالواقعيّة التي تتوفّر على وجود متعال خارج تيار الأفعال المحايثة للوعي، فهي غير أكيدة.

ينعت هوسّرل مختلف معطيات الوعي بأنها reell، ويعني بذلك أنها توجد بوصفها لحظات متضمَّنة في تيار الوعي؛ أما موضوعات العالم كما تبدو للوعي  في الموقف الطبيعي فينعتها بأنها real، بمعنى أنها تتوفّر على وجودٍ واقعي خارج مجال الوعي." (23)

 

[الإيبوخيه]

يكون الوعي القصدي في الموقف الطبيعي غارقاً في الموضوعات التي ينصبّ عليها اهتمامه، أما كيفيات العطاء [أظن أن المقصود بكيفيات العطاء، طريقة استحضار الموضوع إلى الوعي] التي من خلالهايتعلّق الوعي بموضوعاته، فتبقى في العادة خارج دائرة انتباهنا. لكن الفينومينولوجي يجعل من كيفيات العطاء التي ننجزها دون أن نعير لها بالاً محط اهتمامه. إن اهتمامه لا يتجه أبداً نحو الموضوع الذي يقصده الوعي، بل نحو الموضوع في كيفيات عطائه للوعي وفي اندراج هذه الكيفيات في افق العالم. لذلك، عليه أن يتوقف عن إنجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات المقصودة وأن يتحوّل إلى ملاحظٍ غير مهتم أو غير مشارك. وهذا لا يعني أن يتخذ موقفاً شكياً ينفي وجود هذه الموضوعات، بل أن يمتنع عن اتخاذ أيِّ موقفٍ يتعلق بوجود الموضوعات سواءٌ أكان إثباتاً أو نفياً أو موقفاً وسطاً بينهما. هذا الامتناع عن اتخاذ أيِّ موقفٍ من هذا النوع، أيّ الحياد إزاء كل أشكاله الممكنو، يسميه هوسرل تعليق الحكم، الإيبوخي. (21) [أظن أن هذا يشبه الشك المنهجي عند ديكارت].

[علم الظواهر، الفينومينولوجيا]:

موقف الإيبوخي إزاء العالم هو الذي يميّز الموقف الفلسفي عن الموقف الطبيعي. الإيبوخي هو التوقف عن إنجاز الأطروحة العامة للموقف الطبيعي، وهو ما يتيح للفينومينولوجي إرجاع الموضوعات والعالم إلى كيفيات عطائها، هذا الإرجاع يسمّيه هوسّرل الإرجاع الفينومينولوجي أو الترنسندنتاللي، وهو ما يسمح بدراسة الموضوعات في تعالقها مع الكيفيات الذاتية لعطائها. إن الموضوعات منظوراً إليها على أنها معالقاتٌ للكيفيات الذاتية للعطاء هي ما يسميه هوسرل الظواهر، وهي ما تهتم به الفينومينولوجيا التي تعني حرفياً علم الظواهر. (21)

[استثناء الوعي من الإيبوخي]

نعتقد في الموقف الطبيعي أن الوعي خاصيةُ الإنسان الذي هو جزء من العالم. الإيبوخي الشمولي هو التوقف عن إنجاز الاعتقاد الطبيعي بوجود العالم. لو كان الوعي ينتمي للعالم، لو كان وجود الوعي مثل وجود موضوعات العالم، لكان من غير الممكن بعد إنجاز الإيبوخي أن ننسب الوجود للوعي وأفعاله. هكذا، فلكي يؤكد هوسرل أن إنجاز الإيبوخي الشمولي لا يتعارض مع إصدار أحكام وادعاءات تتعلق بمجال الوعي، كان عليه أن يبين بأن الوعي الخالص لا ينتمي إلى العالم، وأن نمط وجوده يختلف عن نمط وجود الموضوعات في العالم، بحيث إنه، رغم إنجاز الإيبوخي الشمولي بصدد العالم، يبقى هناك مجال خاص يمكن أن نصدر فيه أحكاماً بالوجود هو مجال الوعي الخالص الذي يشكل ميدان بحث الفينومينولوجيا.

[كيف يستثني هوسرل الوعي من الإيبوخي؟]

انسجاماً مع مبدأ التعالق يبيّن هوسرل الاختلاف الجذري بين نمط وجود الموضوعات في العالم ونمط وجود الوعي من خلال التمييز بين كيفية عطاء كلٍ منهما. يتميّز الوعي بخاصيةٍ أساسية هي إمكانية الانعكاس أو الارتباط الداخلي بذاته. عندما يدرك الوعي فعلاً من أفعاله القصدية، فإن هذا الفعل يكون محايثاً له، إنه لا يعطَى للوعي بكيفية نسبية في مظاهر أو مقاطع متنوعة، بل إنه يعطى بكيفية مطلقة. على خلاف ذلك تتميز الموضوعات الخارجية بأنها متعالية على الوعي، أي تتخطى دائرته الداخلية، إنها لا تعطى إلا بكيفية نسبية في مقاطع أو مظاهر. نظراً لأن الموضوعات الخارجية تعطى بكيفية نسبية، فإنه يمكن في أيّ وقتٍ تشطيب ادعاء وجودها، فنسبية العطاء تعني إمكانية الخداع. لهذا يمكن مبدئياً التفكير في انهيار الاعتقاد في وجود العالم بأكمله؛ أما ادعاء وجود الوعي فلا يمكن تشطيبه. إن ظواهر الوعي عناصر محايثة للوعي، إن وجودها فوق كل شك، لأنها متضمّنة كأجزاء في تيار الوعي، أما موضوعات العالم الواقعية التي تتوفر على وجود متعال خارج تيار الأفعال المحايثة للوعي، فهي غير أكيدة. (23)

[ألا يشبه ذلك الكوجيتو عند ديكارت، مع بعض التعقيدات الإضافية التي كان يمكن الاستغناء عنها؟]

[يبدو أن هوسرل لا يبحث في إثبات الوجود الموضوعي لأشياء العالم، بل في كيفية تكوّن الماهيات في الوعي، من خلال الإرجاع الماهوي.]

[الفعالية والانفعالية، أو تجاوز التقابل بين تقبّلية الحساسية وتلقائية التفكير]

إن حرص هوسرل على أن تكون الفينومينولوجيا علماً صارماً متحرراً جذرياً من كل المسبقات جله يحوّل الفينومينولوجيا من بحثٍ في الماهيات إلى فلسفة ترنسندنتالية توضح بناء موضوعات الوعي. لكن لكي تكون الفينومينولوجيا فلسفةً ترنسندنتالية بمعنى الكلمة يجب أن تنشئ ترابطاً نسقياً بين مختلف تحليلات البناء. لم يتمكن هوسرل في البداية من توسيع تحليل بناء مجالات الموضوعات إلى بناء العالم، لأنه كان يتصوّر الانفعالية والفعالية طبقتين للوعي مستقلتين. هذا التصوّر استوحاه هوسرل من التمييز الكانطي بين التقبّليّة والتلقائية، تقبليّة الحساسية وتلقائية التفكير؛ إلا أنه سيتخلّى عنه فيما بعد مبيّناً أن الشرورط الانفعالية تتضمّن هي كذلك فعالية وأن كلّ الإنجازات الفعّالة للوعي تخضع هي الأخرى للانفعالية.

إن كلَّ الأشكال الانفعالية للوعي تتضمّن فعالية، حتى تأثُّرُنا الحسي بالموضوعات الخارجية لا يمكن أن يتم إلا بفضل مشاركة وعينا الحركي ـ الحسي؛ لكي أدركَ موضوعاً ما يجب أن أفتح عيني، أن أحرك رأسي، أن أمعن النظر، أن أصيخ السمع.. إلخ. وفي مقابل ذلك فإن كل الإنجازات الفعّالة التي تبتكر موضوعاً جديداً تتحوّل إلى عادات. هذا التعوّد أو الترسّب الذي يحدث في الوعي هو مسلسل انفعالي، لأن الفعل الخلاّق للتأسيس الأصلي يتم نسيانه. وهذا معناه أنه بفضل الترسّب الانفعالي للتأسيس الأصلي يتكوّن أفقٌ يعيش فيه الوعي دون أن يكون مضطراً إلى أن يعيد إنجاز النشأة الأصلية لهذا الأفق في فعالية التأسيس الأصلي.

بفضل هذه الفكرة ستتخذ تحليلات البناء بعداً جديداً تماماً. إن محطّ اهتمامها الأساسي سيصبح هو التاريخ الداخلي للوعي، هذا التاريخ الذي فيه يتكوّن ويغتني أفقُ الوعي. هكذا تتخذ الفينومينولوجيا طابعاً تكوينياً. على أن تمييز هوسرل بين الفينومينولوجيا الستاتيكية والفينومينولوجيا التكوينية لا يعني أن هناك تعارضاً بينهما، فهو يعتبرهما إمكانيتين متكاملتين للتحليل.

الفكرة الأساسية للفينومينولوجيا التكوينية عند هوسرل هي أنّ الأنا ليس قطباً ثابتاً مطابقاً لذاته، إنه ليس مجرّد صورة للأفعال والمعيشات القصدية المتتالية، كما كان يرى هوسّرل في الكتاب الأول من الأفكار [1913] بوحيٍ من كانط، بل هو أنا له قدرات، ومواقف واقتناعات. هذه القدرات والاقتناعات تحيل إلى تجاربَ ومواقفَ سابقة، إنها اعتيادات مكتسَبة من طرف الأنا لها أصلها التكويني وتاريخها. هذا التاريخ هو في الوقت نفسه تاريخ الأنا وتاريخ موضوعاته، هو تاريخ مشروط من قِبل مجموع ما خبرناه سواءٌ بواسطة تجاربَ خاصةٍ بنا نحن أنفسنا أو بواسطة التعلم من الآخرين والتواصل معهم. إن ذخيرة تجربتنا هو ذخيرةٌ جماعية، حتى إنجازات الآخرين تدخل إليها وتندمج فيها، فهم يشاركون في تحديد (25) العالم الذي نعيش فيه. لكن ذخيرة التجربة ليست ساكنة، إنها تتغيّر باستمرار وتتوسّع، بل قد تصل إلى حدّ تكسير حدود العالم المعطى مسبقاً. هكذا يحيل أفق إمكانيات تجربتنا ضرورةً إلى صيرورةٍ تاريخيةٍ جماعية.

إنّ التطوّر الذي عرفه المنهج الفينومينولوجي عند هوسّرل وخاصةً اكتشافه للبعد التاريخي للوعي من خلال نظرية البناء التكويني سيفتح لهوسّرل الطريق لتحليل الأزمة التي تعرفها البشرية الأوروبيّة آنذاك. وبالفعل فإنّ عمل هوسّرل في الآونة الأخيرة من حياته تركّز ابتداءً من سنة 1934 على موضوع الأزمة. وكانت الثمرة الأولى لهذا العمل صدور القسم الأول والثاني من كتاب "أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية"... وقد ظلّ يشتغل في الموضوع نفسِه بلا كلَل إلى أن سقط يوم 10 آب 1937 ضحية المرض الذي اوقعه طريح الفراش إلى حين وفاته في نيسان 1938. (26)

أعطى هوسّرل لكتاب "الأزمة" عنواناً فرعياً هو "مدخل إلى الفلسفة الفينومينولوجية". هذا العنوان له دلالةٌ كبرى، خاصّةً وأنّ هوسّرل أعطىعنواناً فرعياً مشابهاً لكتابين سابقين هما الكتاب الأول من "الأفكار" و"تأملات ديكارتيّة".

تجدر الإشارة إلى أنّ المدخل لا يعني عند هوسّرل نصّاً ييسّر للقارئ فهم نظريةٍ فلسفيةٍ أو اتجاه فلسفيّ. إنّ معنى المدخل يرتبط عند هوسّرل بالسؤوال عن الطريق الذي يتيح لنا الانتقال من الموقف الطبيعي الذي نعيش فيه عادةً إلى الموقف الفينومينولوجي الترنسندنتالي وعن الحوافز التي تدفع الوعي إلى التخلي عن الموقف الطبيعي وتبنّي الموقف الترانسندنتالي. وخصوصيّة مؤلَّف "الأزمة" تتجلّى في أنّه يحاول أن يرسم الطريق إلى الموقف الفينومينولوجي الترنسندنتالي انطلاقاً من تحليله لأزمة البشرية الأوروبية ونقده للعلم الحديث وللنزعة الموضوعيّة المرتبطة به. ذلك أنّ التمعّن التاريخي حول أصول الوضعيّة العلمية الفلسفية للبشرية الأوروبية يؤسس ضرورةَ التحول الفينومينولوجي الترنسندنتالي في الفلسفة، هذا التحوّل الذي يمكنه حسب هوسّرل هو وحدَه أن يخرج البشرية الأوروبية من أزمة المعنى والتوجّه التي أدخلتها فيها النزعة الموضوعية. (29)

[محتويات كتاب الأزمة]

صدر النص الكامل لكتاب "الأزمة" لأول مرة سنة 1954 ضمن المجلد السادس من مجموعة هوسرليانا. يحمل هذا المجلد عنوان: "أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية. مدخل إلى الفلسفة الفينومينولوجية"

قام فالتر بيمل بإصدار هذا المجلد الذي ضمّ إضافةً إلى نصّ الأزمة ثلاث دراسات لهوسّرل تتعلق بموضوع الأزمة و28 ضميمة لها علاقة بأبحاث الكتاب.

وفي سنة 1993 أصدر راينهولد سميد المجلد التاسع والعشرين من "هوسرليانا" تحت عنوان: "أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية. مجلد تكميلي":

يضم هذا المجلد نصوصاً غير منشورة حرّرها هوسرل بين سنتيّ 1934 و1937، وهي عموماً نصوصٌ يعمّق فيها هوسرل بعض تحليلاته ويعرض فيها مشاريعَه لمتابعة الكتاب واختتامه.

لم يكن بإمكاني أن أقدّم للقارئ العربي كل نصوص المجلّدَين التي يربو حجمها على ألف صفحة، وفي الوقت نفسه رأيتُ أنه ليس من المفيد تقديم ترجمة كتاب "الأزمة" لوحده. لهذا كان عليّ أن أنتقي النصوص التي تبدو لي أكثر أهمّية حتى أوفّر للقارئ العربي إمكانية تكوين فكرةٍ واضحةٍ عن عمل هوسرل في الفترة الأخيرة من حياته.

وعلى هذا الأساس يضمّ هذا الكتاب ثلاثة مكوّنات:

المكوّن الأول هو كتاب "الأزمة" كما نُشِر في المجلد السادس من مجموعة "هوسرليانا".

يضمّ المكوّن الثاني نصوصاً كتبها هوسّرل ملحقاتٍ لبعض فقرات الكتاب، وقد أدرجتُ في هذا المكوّن ثلاث ضمائم [من 28] منشورة في المجلد السادس من "هوسرليانا"..

أما المكوّن الثالث فيضمّ ثلاث دراسات نعتقد أنها تلقي كثيراً من الضوء على مقاصد هوسّرل. الدراسة الأولى عنوانها "السيكولوجيا وأزمة العلم الأوروبي" التي نُشِرت في المجلد التاسع والعشرين من هوسرليانا، والثانية عنوانها "أزمة البشرية الأوروبية والفلسفة" ونشِرت في المجلد السادس من هوسرليانا، أما الأخيرة فعنوانها "الغائيّة في تاريخ الفلسفة" ونشرت في المجلد التاسع والعشرين. (28)

الأزمة:

[يحدّد هوسرل في القسم الأول من كتاب "الأزمة] ماذا تعني بالنسبة له أزمة العلوم الأوروبية. إن الأزمة لا تمسّ عملية وصلاحية هذه العلوم، بل دلالتها بالنسبة للحياة. هذه العلوم لا تستطيع أن توجه الإنسان، لأنها تقصي من ميدان العلم كل الأسئلة التي لها علاقةٌ بالوجود الإنساني: أسئلة المعنى والغاية، والحرّية والتاريخ، وغيرها. يرجع هوسرل هذه الوضعية إلى سيطرة النزعة الموضوعية وفهمها للعلم على أساس النموذج الحديث للموضوعية. يطرح هوسّرل على عاتقه مهمة الكشف عن جذور هذا الفهم الضيّق للعلم بالعودة إلى تبنّي البشرية الأوروبية في عصر النهضة للمثل القديم للفلسفة والعلم وبإظهار التحريفات التي خضع لها هذا المثَل وأدت إلى فشله. (29)

.. يطرح هوسرل على عاتقه مهمة الكشف عن جذور هذا الفهم الضيّق للعلم بالعودة إلى تبنّي البشرية الأوروبية في عصر النهضة للمثَل القديم للفلسفة والعلم وبإظهار التحريفات التي خضع لها هذا المثل وأدت إلى فشله. (29)

إن علم الطبيعة الحديث والنزعة الموضوعية المرتبطة به يقوم على نسيان عالم العيش بصفته الأفق الذاتي النسبي لكل إمكانيات تجربتنا. إن عالم العيش هو عالم تجربتنا اليومية، العالم الذي نعيش فيه قبل كل موقف علمي أو نظري والذي تعطى فيه الأشياء في وضعيات ذاتية ونسبية. هذا العالم هو الأفق الشامل لكل ممارساتنا النظرية والعلمية. وحتى العالم كما تتصوّره النظريات والصيغ العلمية والذي تدعي النزعة الموضوعية استقلاله المطلق عن كل نسبية إلى الذات لا يمكن أن يقوم إلا على أساس عالم العيش. إنه هو أيضاً لا ينفلت من مبدأ التعالق بين الموضوع من جهة والظهور الذاتي النسبي في كيفيات للعطاء من جهةٍ أخرى. إن موضوعات العلم الدقيق هي أيضاً أشكال للمعنى مدينة بوجودها لإنجازات ذاتية، لممارسة نظرية خاصة تنتمي هي ذاتها إلى العيش في عالم العيش. لكنّ هوسّرل لا يبقى عند هذا الحدّ بل ينتقل إلى بيان أنّ النموذجية المزعومة لعلم الطبيعة الرياضي أثّرت على الفلسفة ذاتها بمختلف اتجاهاتِها وأدّت إلى وقوعها في مفارقاتٍ وألغازٍ لا يمكن الخروج منها إلا بتبنّي الفينومينولوجيا الترانسندنتدنتاليّة التي يتّجه إليها كلّ التطوور الفلسفي التاريخي ابتداءً من التدشين اليوناني.

بعد استعراض الألغاز والمفارقات المرتبطة بالفلسفة الترنسندنتاليّة في شكلها التقليدي يستخلص هوسّرل أنه لا يمكن تحقيق الفلسفة الترنسندنتاليّة بكيفيّة جديّية إلا إذا تمّ الاعتماد على الوصف المستند إلى الحدس والبداهة، أي على الكيفيّات الأصلية لعطاء الأشياء. لكي يتمّ تجاوز القصور الذي يعوّق الفلسفة الترنسندنتاليّة عن أداء مهمّتها التاريخية بجب أن تتخذ طابعاً فينومينولوجياً. (30)

[عالم العيش كمشكل فلسفي شامل]

إنّ الاهتمام بعالم العيش يشكّل في البداية مشكلةً جزئيّة داخل المشكلة الكلّية المتعلّقة بالعلوم الوضعية وأصل معناها. لكن في مسار تحليلات هوسّرل يتحوّل مشكل عالم العيش من مشكل جزئي لكيّ يصبح هو المشكل الفلسفي الشامل. انطلاقاً من التساؤل عن البنيات الماهويّة لعالم العيش يعرض هوسّرل ضرورة الفينومينولوجيا الترنسندنتالية ويقدّم إجراءاتِها المنهجيّة مثل الإيبوخي والإرجاع. بعد ذلك يعالج بعض المشاكل والمفارقات التي يمكن السقوط فيها إذا لم يتمّ فهم المنهج الفينومينولوجي بكيفيّة سليمة. (31)

 

يوضح هوسرل في كثيرٍ من المناسبات موقفه من السيكولوجيا ذات التوجه الوضعي ويكشف أسباب عجزها عن القيام بالدور الذي كان ينبغي أن تقوم به. بل إنه يرجع فشل الفلسفة الترنسندنتالية إلى أنها لم تجد أمامها سيكولوجيا حقيقية يمكن أن تعتمد عليها في تحليلاتها. إن السيكولوجيا التي وجدتها أمامها كانت تحاول أن تحاكي في أسلوب طرح أسئلتها وتحديد ميدانها ومناهج عملها علوم (31) الطبيعة الحديثة دون أن تعير اهتماماً للاختلاف الجذري الذي يوجد بين ميدان علوم لطبيعة وميدان السيكولوجيا، وهذا ما أدى إلى نشأة سيكولوجيا تجريبية وضعية النزعة غير قادرة على إدراك الماهية الحقة للنفس. لذلك يدعو هوسرل في مناسبات عدة إلى إصلاح السكولوجيا ويعتقد أن سيكولوجيا مفهومة فهماً يناسب قيمتها لا يمكن أن تكون إلا سيكولوجيا فينومينولوجية وإنها بهذا المعنى تمثّل طريقاً للانتقال إلى الفلسفة التنسندنتالية الفينومينولوجية (32)

 

 

الخميس، 8 يونيو 2023

الذاتية الترنسندنتاليّة: مصدر المعنى والوجود معاً. (فصل من كتاب "فلسفة إدموند هوسّرل" لنادية بونفقة)

 


فصل من كتاب فلسفة إدموند هوسّرل لنادية بونفقة

4ـ الذاتية الترنسندنتاليّة: مصدر المعنى والوجود معاً:

نستخلص من كلّ ما سبق أنّ وظيفة الفيلسوف الحقيقية والأساسيّة، حسب هوسّرل، تتمثّل في تحويل كلِّ موجودٍ إلى موجودٍ معقول، من خلال الشعور التأسيسي الذي هو قصديّة عملية أو (إنتاجية)، وهذا يعني أن التأسيسَ هو التفسير الوحيد للوجود. يقول هوسّرل: "لا شيءَ يوجد إذا لم يكن وجوده بواسطة عمليّة خاصة آنيّة أو كامنة للشعور". إذاً فالمعنى الكلّي لما هو موجود مشتقٌ من القصدية الإنتاجية أو (العمليّة) لحياة الشعور. ولقد توصّل هوسّرل انطلاقاً من قناعته بهذه الحقيقة، إلى استنتاجِ فلسفةٍ كاملةٍ تخص المعرفة الراديكاليّة للذات، ذلك أنه ما دامت كل معرفةٍ متعلقة بالموضوعية متضمّنة في معرفة الذات، فإنه يصير من الواجب علينا تجاوز هذا النسيان للذات. هذا، ولا يمكن نتيجةً لهذا، لعلمٍ فلسفيٍّ دقيق أن يتحقّق، إلا عندما يتمّ الاعتراف بأنّ كلَّ وجودٍ هو وجودٌ مرتبطٌ بالذاتيّة الترنسندنتاليّة التي يتأسّس فيها، والتي [هي] تيّارٌ دائمٌ من التأسيس.

لنقف وقفةً أطول مع هذه المسألة. لقد سبق أن بينّا أنّ الموضوعية الأولى التي يصادفها الشعور، أو بالأحرى، التي تفرض نفسها، إن صحّ التعبير، تلقائيّاً على الشعور، والتي لا يمكن، بالتالي، الشك في بداهتها، باعتبارها حاضرةً على الدوام أمام الشعور، هي العالم، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون الفينومينولوجيا، في نهاية الأمر، علماً بالعالم، وإلا فلن تكون علماً بأيّة صورة!

ذلك أنّ هدفها الأساسي الذي يتمثّل في التوغّل إلى معنى الوجود ككلّ لن يتحقق إلا إذا بدأت بالبحث في معنى العالم.

لمّا كان العالَم من منظور فينومينولوجي، هو مجموع ما هو مؤسَّس، في هوّيةٍ دائمةٍ مع ذاته، في القصديّة الإنتاجيّة للشعور، فإنَّ المعرفةَ الأوّليةَ للذات التأسيسيّة هي أيضاً معرفةٌ بالعالم، بما أنّ معنى العالم الذي هو واحدٌ دائماً، يجب العثور عليه في الذاتيّة، وفي الذاتيّة فقط. وبهذا نستطيعُ أن نقولَ إنّ الذاتيّة الترنسندنتاليّة تسبق وجودَ العالَم، لأنها هي التي تؤسِّس في ذاتها معنى هذا الوجود، ومعنى هذا أنّها تحمل في ذاتها واقع العالم في مجمله كفكرة مؤسَّسةٍ فيها حاليّاً وبالقوّة.

ومع ذلك، فيجب ألا نفهمَ من هذا أنّ الذاتيّةَ جوهرٌ يؤسِّسُ ويتضمّن معنى العالم بصورةٍ واقعيّة، ذلك أنّ الذاتيّة هي في حدّ ذاتها تأسيسٌ مستمرٌّ للمعنى. إنها قبليٌّ كلّيّ لأنها وحدةٌ دائمة للحياة القصديّة.

وبما ،ها هي التي تؤسّس العالم، فإنها لا تملك تجربة، لأنها هي تجربته، إلا أنها في الوقت الذي تؤسّس فيه الموضوعية تتأسس هي ذاتُها كذات شخصية مماثلة دوماً لنفسها، لذلك يؤكّد هوسّرل أنّ الموضوع الوحيد للفينومينولوجيا الترنسندنتالية هو الذات التي تتضمّن بداخلها كلَّ موضوعيّة، فالعالَم الوحيد الموجود هو العالم الموجود بالنسبة إلينا، والذي لا يكون موجوداً بالنسبة إلينا إلا إذا كان مؤسّساً فينا، أما خارج هذه الذاتية، فلا يوجد بكل بساطة أيّ عالم، لأن كلمة يوجد est ليس لها خارج هذه الذاتية أية دلالة.

"إن التعلّق بالشعور ليس فقط صفةً آنيّة لعالمنا، ولكنّها، طبقاً لضرورة ماهويّة، صفةُ كلِّ عالم متصوَّر"

إنّ العالم له فعلاً تغيّراته، مظاهره المتعدّدة، إلا أنّ كلّ تغيّر في العالم يعني تغيّراً في الذاتية، أي إنّ التغيّرات الآنيّة والممكنة للعالم تكون محدودةً بماهيّة الذاتية، وهذا لأنّ كلّ عالم متصوَّر يجب أن يتقدّم بواسطة التجربة، ولأنّ كلّ تجربةٍ متصوَّرة يجب أن تكون محكومةً بالقوانين الأساسيّة للذاتية.

وعلى الرغم من كل هذا، فإن هذا العالم الفينومينولوجي ليس عالماً جديداً، ليس عالماً مختلفاً موضوعياً عن عالم الموقف الطبيعي.

إنّ الموقف الفينومينولوجي لم ينشِئ عالَماً آخر، وكلُّ ما فعلَه هو أنّه أسّس معنى العالَم، أيّ إنه أعطى للعالَم الوجودَ الوحيد الذي يملكُه، وأنشأ العالَم الوحيدَ الموجود. بعبارةٍ أخرى، إنّ العالَم من الناحية الموضوعيّة، هو نفسُه في الموقفَين: الطبيعي والفينومينولوجي، كما أنّ هوّيته راجعةٌ إلى هوّية الأنا الفاعل في الموقفَين، إلا أنّ الفرق يكمن بالتحديد في أنّ الأنا الواعي بذاته، في الموقف الفينومينولوجي، هو الذي يؤسس العالم الموجود.

هناك أمرٌ يجب التنبيه إليه هنا، وهو أنّه إذا كان كلُّ شيءٍ لا يمكن أن يُعطى إلا إذا كان مؤسَّساً في الذاتيّة، وبالتالي محوَّلاً إلى موضوع، فإنّ الذاتيّة بدورِها تعطى باعتبارِها مؤسَّسةً حقاً، لكن ليس باعتبارِها محوَّلةً إلى موضوع، وهذا لأنا "الوجود ـ المعطى الأصلي" l’être-donné original، أو الحضور الأصلي الذي تُعتَبر أوَّليتُه في نظر العالم هي كونه معطى، بمعنى أنّ الذات تكون معطاةً في كلِّ موضوع، ولكن بصفتها متقدِّمةً عليه. إن العالم هو بالفعل مجموع الموضوعيّة totalité de l’objectivité، غير أنّ الموضوعيّة لا توجَد إلا في حالةِ ما إذا كانت معطاةً في الوجودـالمعطى الأصلي للذاتيّة، أيّ إن العالَم ليس موجوداً، ولا يكون موجوداً إذاً إلا إذا كان معطىً، بمعنى إلا إذا كان مردوداً إلى الوجودـالمعطى الأصلي الذي ليس موضوعيّةً لأنه هو الذاتيّة نفسُها!

هذا، وإنّ انتهاء التأملات الفينومينولوجيّة إلى نقطة الذاتيّة الترنسندنتاليّة لا يعني مجرّد عودةٍ إلى نقطة الانطلاق، أي الكوجيتو. إنه بالفعل رجوعٌ إلى الذاتيّة المعطاة في الكوجيتو، إلا أنه رجوعٌ إلى ذاتيّة مثراةٍ بكلّ التحليلات القصديّة التي أجراها هوسّرل خلال تأمّلاته.

إنّ هذه الذاتية الترنسندنتاليّة المعطاة في نهاية السير "الذاتيّة التي يكون كل الباقي معطىً فيها" ليست ذاتيّةً جديدة مستنبطَةً من المعطى الأصلي للكوجيتو ولا توضيحاً بسيطاً لما كان معطى في الأول بشكلٍ غامض فقط. وإنما نعني بها الأنا المعطى في حياة تجربةٍ تؤسّس الموضوعيّة وتتأسّس هي ذاتها في آن واحد كمصدرٍقبلي للموضوعية، مصدرٍ متطوّرٍ باستمرار، وهذا هو معنى القول إن كل ميزة للموضوعية في في الأخير ميزة للذاتية. في بداية الأمر يكون الأنا موجوداً يقينياً فارغاً، وفي الأخير يصبح يقيناً يتضمّن كلّ يقين.

إضافةً إلى ما سبق ينبغي الإشارة أيضاً إلى أنّ الذاتيّة الخالصة تكون منذ البداية معطاة، وهذا باعتبارها أساساً ذاتيةً لا موضوعيّة، وباعتبارها كذلك محدّدةً بمفهوم الزمانية الذي هو معطى أصلي "لا موضوعي" وما دامت الزمانيّة تحديداً أساسياً للذاتيّة كما هي، فإنها أيضاً شرطٌ أساسيٌّ للموضوعية.

بالإضافةِ إلى هذا، فإنها تمنحها أيضاً صفتها الأولى والأساسية، وهي كونها مندرجةً في تيار قصدي، ومحاطةً بأفق من اللاآنيّة.

وعلى كلّ حال، فإنه مما ينتمي إلى ماهيّة الذاتيّة أن تكون مرتبطةً بالموضوعية لا أن تكون معطاةً في ذاتها ببساطة، إذ ستكون في هذه الحالة موضوعاً.

وبالمقابل، فإنه مما ينتمي إلى ماهيّة الموضوعيّة أن تكون مرتبطةً بالذاتية، ذلك أنه لكي يكون شيءٌ ما موضوعاً، يجب أن يكون له معنى، والحصول على معنى يكون بالارتباط بذاتٍ ما. ولا يوجد، كما رأينا، سوى طريقةٍ واحدةٍ لشرح الارتباط المشترك بين الموضوعيّة والذاتيّة، ونعني بها فكرة التأسيس، أي تأسيس الموضوعية في الذاتية. وعلى هذا الأساس تكون الذاتية مرتبطةً حتماً بالموضوعية، لأنّ ماهيّتها هي بالتحديد أن تؤسس الموضوعية، والموضوعيّة تكون مرتبطةً حتماً بالذاتية، لأنّ ماهيّتها هي أن تكون قصداً صادراً عن تلقائيّةٍ ذاتية.

ونتيجةً لهذا، فلا يمكن أن تكون الذاتية سكونيّةً لأنها تتأسّس هي نفسها باستمرار، وهي تؤسّس الموضوعية، فهي تكون دائماً شيئاً آخر حينما تعمل على ولادة الآخر، كذلك لا يمكن أن تكون الموضوعيّة هي الأخرى سكونيّة، لأن وجودها الوحيد هو أن توجد في تيّارٍ من تجاربَ يغيّر كل عنصر منه كلَّ عنصرٍ آخر ويتغيّر بواسطته. وأخيراً فإن الذاتية هي قبليّ كلّي، وهذا نظراً إلى أنه لا يوجد أيّة موضوعيّةٍ ليست ماهيّتها محكومةً بماهيّة الذاتية، كما أن الموضوعيّة هي بدورها موضوعيّة قبلية، لأن مجموع تحقيقاتها الحاضرة والممكنة محكوم بقوانين البنية الأساسية المتضمَّنة في الذاتيّة.