الاثنين، 29 أغسطس 2016

وردة باراكيلسوس. / خورخي بورخيس



وردة باراكيلسوس

  خورخي لويس بورخيس

في مشغله الذي يحتل حجرتين في القبو دعا باراكيلسوس (1) ربّه، أن يرسل إليه تلميذاً. كانت الدنيا قد أظلمت. وألقت النارُ الواهنةُ في الموقد ظلالاً غيرَ منتظمة. بذل هو جهداً كبيراً لكي ينهض ويشعلَ المصباح الحديديّ. كان باراكيلسوس الشارد البال بسبب التعب قد نسي دعاءه. وحين محا الليلُ هيئاتِ البوتقة والأنابيقِ المترِبة، ارتفعت أصواتُ قرعٍ علي البوابة.
نهض مغالباً النعاس وصعد السلالم الحلزونيّة القصيرةَ ثم فتح إحدي ضلفتي الباب.

 دخل رجلٌ غريب. كان هو أيضا متعَباً جداً. أشار باراكيلسوس إلى المصطبة لكي يجلس الغريب. جلس هذا وانتظر. لوقتٍ ما لم يتبادلا الكلام..
كان الأستاذ هو البادئ بالكلام:
ــ أنا أتذكر وجوهاً من الغرب ووجوهاً من الشرق ــ قال ـ لكن ليس من دون انفعال معيّن ــ إلا أن وجهك لا أتذكره. من أنت وماذا تريد مني؟.
ــ اسمي لا أهمية له ــ أجاب الغريب. ــ ثلاثة أيام وليال قضيتها في الطريق لكي أدخل إلى بيتك. أريد أن أكون تلميذَك. جئتك بكل ما أملكه.
أخرج كيسَ نقودٍ وهزّه فوق الطاولة. فعل ذلك بيده اليمني. كانت قطعُ النقود كثيرةً ومن الذهب. وقف باراكيلسوس خلف الغريب لكي يشعل المصباح. وعندما التفت لاحظ أن يد القادم اليسري تمسك بوردة. الوردة أقلقته.
انحني وجمع أطراف أصابع يديه ثم قال:
ــ أنت تتصور بأنني قادر على خلق حجارةٍ تحّول كلَّ العناصر إلى ذهب بينما أنت نفسك تعطيني الذهب. أنا لا أبحث عن الذهب، وإذا أردتَ الذهب فسوف لن تكون تلميذي أبداً.
ــ أنا لا أريد الذهب ــ أجاب الغريب. ــ وهذه النقود لاتشهد إلا علي أمر واحد وهو إرادتي القوية في الدرس. أريد أن تعلمني الفن. أريد أن أقطع الى جانبك الطريق الذي يؤدي الي ( الحجر).
أجاب باراكيلسوس ببطء:
ــ الطريق هو (الحجر). البداية هي (الحجر) وإذا لم تفهم هذه الكلمات فهذا يعني أنك لم تبدأ في الفهم بعد. إن كل خطوة تقوم بها هي الهدف.
نظر الغريب إليه وهو غير مصدّق. قال بصوت متبدل:
ــ ولكن هل يوجد الهدف ؟.
ابتسم باراكيلسوس:
ــ المفترون الذين لايقل عددهم عن عدد الحمقي يدّعون بأن لاوجود له وهم ينعتوني بالدجّال. أنا لا أعطيهم الحق. ولو أنه ليس من المستبعد أن الهدف هو محض وهم. أنا أعرف بأن الطريق موجود.
ساد الصمت الذي قطعه الغريب:
ــ أنا مستعد لقطع الطريق معك وحتى لوكان علينا أن نتجول لسنوات طويلة. اسمح لي بأن أقطع الصحراء، اسمح لي بأن أرى، ولو من بعيد، الأرضَ الموعودة، وحتى لو لم تسمح لي النجوم بوضع قدمي عليها. أنا أرغب بدليلٍ قبل أن أمضي في الطريق.
ــ متى؟ ــ ساءله باراكيلسوس بقلق.
ــ فوراً ــ قال التلميذ بحزم مفاجئ.
كانا قد بدءا الحديث باللاتينية، والآن أخذا يتكلمان بالألمانية.
رفع الشاب الوردة إلى أعلى.
ــ يروون ــ قال ــ إنك تقدر على حرق الوردة وعلى بعثها بقدرة فنّك. اسمح لي بأن أكون شاهدَ هذه المعجزة. أنا أرجوك من أجل ذلك، وبعدها أعطيك حياتي كلها.
ــ أنت سريع التصديق ــ قال الأستاذ. ــ وأنا لست بحاجة إلى هذا، أنا أطالب بالإيمان.
ــ ولكنني لست سريع التصديق ولذلك أرغب أن أرى بعيني تدمير هذه الوردة وبعثها.
أخذ باراكيلسوس الوردة وبدأ يلهو بها أثناء الحديث.
ــ أنت سريع التصديق ــ قال. ــ تقول بأنني أقدر على تدميرها؟.
ــ كل واحد قادر علي تدميرها ــ قال التلميذ.
ــ أنت مخطئ هل تظن بأن أي شيء يمكنه أن يعيد العدم؟ هل تظن بأن الإنسان الأول في (الجنة) كان قادرا علي أن يدمر زهرة واحدة ولو ورقة واحدة من العشب؟.
ــ لسنا في (الجنة) ــ قال الشاب بعناد.ــ نحن هنا تحت القمر وكل شيء هو فان.
نهض باراكيلسوس
ــ وفي أي مكان آخر نحن؟ هل تعتقد بأن (السقوط) هو شيء آخر غير جهلنا بأننا في الجنة؟.
ــ يمكن لكل وردة أن تحترق ــ قال التلميذ بتحدٍّ.
ــ ما تزال النار في المدفئة ــ قال باراكيلسوس.ــ وإذا رميت الوردة في الموقد هل تعتقد بأن النار تلتهمُها وليس من شيء حقيقي غير الرماد. أقول لك إن الوردة خالدةٌ ولا يتغير فيها شيء سوى الشكل. وقد تكفيك كلمتي لكي ترى الوردة من جديد.
ــ كلمة واحدة؟ ــ سأل التلميذ مستغرباً ــ البوتقة مطفأة والأنابيق مملوءة بالرماد. هل تفعل شيئاً لكي تبعث الوردة؟.
نظر باراكيلسوس إليه بحزن.
ــ البوتقة مطفأة ــ كرر الكلام ــ والأنابيق مملوءة بالرماد. عند غروب أيامي الطويلة أنا أستعمل أدواتٍ أخرى.
ــ أنا لا أجرؤ على السؤال: أي أدوات ــ قال الغريب بمكر، ولربما بتواضع.
ــ أنا أتكلم عن الأداة التي استخدمت في خلق السماء والأرض و(الجنة) غير المرئية التي نحن فيها، ولكن الخطيئة الأولي تخفيها عنا. أنا أتكلم عن (الكلمة) التي تعلمنا إياها القِبلة (2) [ القبلة: نصوص صوفية يهودية]
قال التلميذ ببرود:
ــ أنا أرجوك بكل تواضع. أرني كيف تختفي الوردة وتظهر. لا فارق لديّ إن كنت تستخدم الإنبيق أم (الكلمة).
استغرق باراكيلسوس في التفكير. وفي الأخير قال:
ــ لو فعلت هذا الشيء لقلت أنت إن هذا الشكل منحه السحر لعينيك. ولَمَا أعطتك المعجزةُ الإيمانَ الذي تبحث عنه. ابقِ الوردةَ على حالها.
بقي الشاب ينظر إليه غير مصدّق. رفع الأستاذ صوته وقال:
ــ من أنت بالضبط كي تأتي الي بيت الأستاذ وتطلب منه معجزة؟ وأيَّ شيء قمتَ به لكي تستأهل مثل هذه الهبة ؟.
أجاب التلميذ وهو يرتعش:
ــ أعرف بأنني لم أنجز شيئا. أرجوك باسم هذه السنوات الطويلة التي أضحي بها في التدرب في ظل شخصك، اسمح لي بأن أري الرماد ثم الوردة. أنا لا أرجوك بأكثر من هذا. وسأصدق بشهادة عينيّ.
مسك، بعنف، الوردة القرمزية التي وضعها باراكيلسوس على المنصّة، ورماها في اللهيب. اختفي اللون ولم يبق غيرُ عرقٍ من الرماد. وخلال لحظة غير منتهية انتظر [التلميذ] كلمةً ومعجزة.
وقف باراكيلسوس بدون حراك. قال ببساطة خاصة:
ــ كل رجال الطب وكل الصيادلة في بازل يجزمون بأنني محتال. وقد يكون الحق معهم. هذا هو الرماد الذي كان وردة وهو لن يكون إياها أبداً.
شعر الشاب بالخجل. إما ان يكون باراكيلسوس مشعوذا وإما متنبئا عادياً، أما هو فطفيلي اجتاز عتبة بيته ويرغمه الآن على الاعتراف بأن فنون سحرِه المشهورةَ هي محضُ مظاهرَ خادعة.
ركع وقال له:
ــ إن فعلتي لا تغتفر. لقد افتقدت الإيمان الذي تطالب به يا سيدي المؤمنين.. اسمح لي بأن أشاهد الرماد. سأعود عندما سأكون أقوى وحينها سأكون تلميذك، وفي نهاية ( الطريق) سأرى الوردة.
قال بعاطفة صادقة إلا أن هذه العاطفة كانت شفقة أثارها فيه الأستاذ العجوز المحبوب كثيراً والمهاب كثيراً والمشهور كثيراً وبسبب هذا هو مغترٌ كثيراً. من كان هو، يوهانيس غريزيباخ، لكي يقوم باكتشاف مدنس للمقدّس، وأنه تحت القناع لم يكن هناك أحد؟. ولو أبقى النقود الذهبية لكان ذلك صدقة. جمعها وخرج. رافقه باراكيلسوس إلى أسفل السلالم وقال له بأنه سيكون منتظراً في هذا البيت. كلاهما عرف بأنهما لن يلتقيا أبداً.


بقي باراكيلسوس لوحده. وقبل أن يطفئ المصباح جلس على مقعده المتعب. نثر على راحة يده قبضة رماد وقال بصوت خفيض كلمتين فقط .. وبُعِثَت الوردة.

*******
إحالات المترجم:
(1) باراكيلسوس (1493 ــ 1541) طبيب وكيميائي ألماني وأستاذ جامعة بازل، ويعتبر أول من إستخدم المستحضرات الطبية الكيمياوية. وكان باراكيلسوس من ممثلي فلسفة الطبيعة النهضوية.
(2) وهي التعليم النقلي التصوفي عند اليهود.

ليست هناك تعليقات: