الأحد، 30 سبتمبر 2018

المثل الأعلى والعمل أو جدلية السيد والعبد؛ جورج زيناتي.




الحرية والفاعلية
المثل الأعلى والعمل أو جدلية السيد والعبد



(غالبية فصول كتاب الدكتور جورج زيناتي، يمكن أن تُنشر كمقالات مستقلة، دون أن يعني مطلقاً أن كتابه "الحرية والعنف" عبارةً عن مجموعة مقالات تم جمعها. فالكتاب يشكل وحدة عضوية متكاملة، كل فصل فيه له وظيفته الضرورية في سياق الكتاب.
قد يحدس القارئ ما الموضوع الذي يروم زيناتي معالجته في كتابه، لكنه (أي القارئ) لا يمكنه أن يفهم نظرة الكاتب إلى موضوع الحرية والعنف، وهو عنوان الكتاب، إلا بعد تتبع المسار السلس لفكرة الحرية التي تتم معالجتها على مستوى الفلسفة النظرية في القسم الأول، ثم الانتقال إلى بُعدها الإشكالي الآخر خلال الانتقال إلى تمظهر مشكلة الحرية على مستوى العمل من خلال متابعتها عند سارتر ثم في الفلسفة السياسية عند هيغل ثم ماركس.
هذه المقالة المقتطفة إذاً من كتاب زيناتي، رغم أنها تبدو مقالة مستقلة عن هيغل وماركس، إلا أن لها موقعها ودورها العضوي في الكتاب كوحدة متكاملة فاقتضى التنويه. (محمد الحجيري)
**
إن مفهوم الفاعلية، حين يوضع في خدمة مثلٍ أعلى مهما كان نبيلاً، يشكل خطورةً كبرى؛ فهو في أغلب الأحيان لا يترك وراءه سوى الخراب. إنه خادم جيد غير أنه غاية في السوء. وحكاية "المفتش الأكبر" في إسبانيا التي يرويها دوستويفسكي في روايته الأشهر "الإخوة كارامازوف"، لهي غايةٌ في الدلالة. تخطف سلطة سياسية أو دينية مثلاً أعلى وتستعيده باسم الفاعلية كي تجعل منه وسيلةً في خدمتها. "إن التاريخ مليء برجال السياسة الذين يعتبرون الدين أفضل الوسائل السياسية لقهر الإنسان". (فويرباخ).
لا يكفي إذاً أن يكون المثل الأعلى الذي تريد الحرية أن تخدمه نبيلاً كي تكون لدينا ضمانةٌ أكيدة بنبل الوسائل المستعملة، ذلك أننا غالباً ما نشاهد انقلاباً في الأدوار؛ فبدلاً من خدمة المثل الأعلى، يُستخدم لهدف آخر. ويصبح المثل الأعلى الذي كان حافز الجماهير وسيلة قمع. ما كان يمارس دور الغية بات يمارس دور الوسيلة. وبعملية استعادة معروفة، نرى أمامنا ظاهرة نستطيع أن نطبق عليها ديالكتيك السيد والعبد: العبد يصبح سيدَ سيده. وبدلاً من أن يخدم الناسُ بأمانةٍ مثلَهم الأعلى، يصبح المثلُ الأعلى هو خادمهم الأمثل. باسم الفاعلية تبرر محاكم التفتيش الدينية، في "الإخوة كارامازوف"، وتتحول الماركسية إلى ستالينية، وتنحط النيتشوية لتخدم النازية، "حيث إن تأسس الأخلاق على اللاهوت يمكن أن يبرّر الأمور الأبعد عن الأخلاق والأكثر ظلماً والمخجلة تماماً." (لودفيغ فويرباخ)
إن أبلغ مثلٍ على ما نقوله ربما كان فلسفة هيغل؛ فهو جعل من الدولة التجسيد الفعلي للفكر بشكلٍ عام ومن الدولة البروسية التجسيد الأخير للفكرة، مؤكداً أن المهم هو تسهيل مسيرة الروح، معلناً أن الدرجات التاريخية لتطور الروح "قد أُعطيت كمبادئ طبيعية مباشرة"، ولذا تكمن مهمة "الشعب الذي يتلقى هذا العنصر على أنه مبدأ طبيعي في إتمامه في المسيرة التطورية لروح العالم وفي وعيه لِذَاتِه. وهذا الشعب هو شعب مسيطر ومهيمن على تاريخ العالم في عصرٍ معيّن. وهو لا يختزل هذا العصر إلا مرةً واحدة. أما حقه المطلق فيأتي من كونه الممثل الحقيقي للدرجة المعطاة لروح العالم. أما روح الشعوب الأخرى فهو من دون أي حقوق، كحال الأرواح التي مضى عصرُها والتي ما عادت تُحسب من التاريخ". (هيغل)
هل كان هيغل عبقرية رجعيةً أم كان ليبرالياً شدد على دور الدولة؟ لكلٍ أن يؤوّل كما يشاء، لكنه حين شدد على ضرورة العمل الجماعي كي ينتصر الكلّي، والكوني، والمطلق، فإنه أدخل العنف إلى داخل الروح، وجدلية (ديالكتيك) السيد والعبد التي نادى بها هي التي أحدثت التغيير الجذري: الروح الذي كان السيد الذي كانت الشعوب تخدمه أصبح العبدَ الذي يخدم الرجالَ الكبارَ في التاريخ كي يبرروا جرائمَهم.
صحيح إن هيغل يدين التعصب حين يؤكد "أنه عملٌ غير إيجابي وآثاره ليست سوى أنقاضٍ وهدم"، غير أن المزعج حقاً هو أن الحدود الفاصلة بين تعصب شعب و"تماهي طبيعته الأساس مع مبدأ الكيانية المسكونية" ليست واضحة المعالم، إذ إنها قد تتداخل كثيراً حيث يصبح من شبه المستحيل تمييزها.
من ناحية أخرى، من المنطقي جداً من منظورٍ هيغلي أن يرتد الديالكتيك ضد الروح، أي المطلق. قبل هيغل، ما كان المطلق يحتاج إلى عمل الإنسان، لا عند أفلاطون ولا عند ديكارت ولا عند كانط، من أجل أن يوجد أو يستمر أو يتحقق أكثر فأكثر، في حين أن مطلق هيغل يحتاج إلى عمل الإنسان، في الأقل من أجل أن يعيَ ذاتَه تدريجاً. وهكذا فإن من يحتاج إلى عمل الآخر يصبح في ما بعد عبداً لهذا الآخر، لأن العبد يتحرر من نير سيده بفضل معرفته ويصبح سيّدَ سيّدِه السابق. كذلك فإن الرجال العظام في التاريخ الذين يصنعون التاريخ بالمعنى الهيغلي، يعون في لحظةٍ معيّنة ـ كما حصل مع العبد ـ أن السيد الذي يخدمونه، أي المطلق، أي الروح وفكرته في زمنٍ معيّن، يحتاج إلى خدماتِهم، ومن دونهم يتعطل العمل فيعون عندئذٍ تفوّقهم فيجعلون من المطلق عبداً عندهم يستخدمونه لطموحهم. إن كل حكمٍ مطلق، سواءٌ أكان بروسياً أم غيرَ بروسي، يمرّ بتجربةٍ كهذه. (109)
وعى ماركس، منذ كتابه نقد فلسفة الحق عند هيغل [القانون]، أن الفلسفة الألمانية، خصوصاً فلسفة هيغل، قد استعادها الحكم القائم: "إن الحزب السياسي النظري الذي يعود إلى الفلسفة قد ارتكب الخطأ عينَه لكن بعوامل معاكسة. لم يرَ في النضال الحالي سوى المعركة النقدية للفلسفة مع العالم الألماني، وهو لم يأخذ في الاعتبار أن الفلسفة الموجودة منذ ذلك الوقت تنتمي هي عينها إلى هذا العالم، وهي تكملة له حتى وإن كانت تكملة مثالية". (ماركس؛ نقد فلسفة الحق عند هيغل)
وعى ماركس إذاً أن المرء يستطيع أن يحمّل كلمة الروح ما شاء وأن يرتكب باسمها ما شاء، لذا لا بد من وضع مستوى محسوس واقعي ملموس مكانها.
ويجب التعاطي مع الإنسان الماثل أمامنا، الإنسان الحقيقي، لا المفهوم المجرد للإنسان، وهكذا من أجل الوصول إلى إنسانٍ كهذا ـ أي إلى الكائن المجسد العامل الذي يمثل الشخص البشري ـ لا إلى إنسان ينتمي إلى طبقةٍ معيّنة في حد ذاتها، لا بد من إلغاء طبقة البروليتاريا، لكن ذلك يتم بعد أن تكون هذه الطبقة قد ألغت الطبقة البرجوازية المهيمنة. ومن أجل أن تحقق الفلسفة ذاتها، عليها أن تستند إلى البروليتاريا التي نتوصل بفضل نضالها إلى إنسان المستقبل، أي الإنسان الحر الذي لم يوجد بعد.
حين أعطت الماركسية نفسها محتوى مجسداً عيانياً، وحين حاولت أن تستند إلى الجماهير الغفيرة، فإنها جعلت من مثلها الأعلى مشروعاً مستقبلياً. لم يعد هناك من روح يتحقق في كل فترةٍ زمنية، وهو حاضرٌ دائماً بما هو مطلق، كما كان الحال مع هيغل. في الماركسية هناك مطلق واحد هو مجتمع الإنسان بلا طبقات اجتماعية. يستطيع حاكمٌ ما يحكم بسلطةٍ مطلقة، أن يقول انطلاقاً من هيغل إنه يخدم المطلق، أي الروح وما ينبثق منه كالحضارة والثقافة، بينما يستخدم المطلق في الواقع ليبرر سلطته. أما في المفهوم الماركسي، فإن المطلق ـ وهو المجتمع من دون الطبقات الاجتماعية ـ ليس واقعاً على الإطلاق، وحين يصبح كذلك لا يكون هناك أي سلطة سياسية يستطيع الحاكم أن يستغلها لمصلحة طموحاته. كذلك حين شددت الماركسية على الطابع الكلياني لأغلال البروليتاريا، أعطت الفلسفةَ توجهاً جديداً حين ألغت حق أيِ أمةٍ في الهيمنة على الآخرين بحجة أنها تنفذ مهمتها التاريخية في خدمة المطلق، المثل الأعلى، التقدم الإنساني؛ أو الروح بحسب هيغل.
هل يعني هذا أن الماركسية استطاعت أن تفلت من مفهوم الفاعلية المصاحب لكل فلسفةٍ للعمل والذي يشكل مصدراً دائماً للخطر؟ (110)
لقد رأت الماركسية العلاقة الحميمة بين الحرية والعنف حين تخوض الأولى غمار العمل فتنزل إلى حلبة صراعات الواقع. هذا العنف اعتبرته الماركسية وسيلة البروليتاريا كي تضع حداً لكل عنف وتنهي تاريخ البشرية كسلسلة مستمرة من العنف المتسلط.
لقد أدخل ماركس في مرحلةٍ متأخرة من حياته الفكرية مفهوم دكتاتورية البروليتاريا إلى فلسفته العملية. يمكننا بسهولة أن نرى في مثل هذه الفكرة انهماماً كبيراً بأن يكون نظامُه الفكري عملياً أي قابلاً لأن يتحقق. يمثل هذا المفهوم ضمانةً محسوسةً بأن العمل الذي تنفذه البروليتاريا، وهو في نظرها العنف الأخير والذي سيؤدي إلى قيامة الإنسان الجديد، الإنسان الأصيل المنتصر على العنف، سيكون عملاً ناجعاً فعالاً يصل إلى مبتغاه.
لكن، للأسف، حين أدخل ماركس إلى نظامه دكتاتورية البروليتاريا، أدخل نقيضين لا يتعايشان، وما حصل بالفعل على أرض الواقع هو أن الدكتاتورية ألغت البروليتاريا، التي انسحبت سريعاً من المعركة واندثرت تاركةً الدكتاتورية تستبيح جميع المحرمات. وبدلاً من أن تخدم ما كانت قد جعلته مطلقَها المؤقت، بدأت تستخدمه لتبرر كل ما لا يمكن تبريره من الفظاعات، وخير دليل على ذلك ما حدث في عمليات التطهير الستالينية التي بلغت حداً غيرَ مسبوقٍ من الوحشية، كذلك كان حال الصين مع الثورة الثقافية المادية التي نشرت الرعب، وقمعت كل ثقافة. هذا مع العلم أن دكتاتورية البروليتاريا التي أتى بها النظام السوفياتي عمّرت طويلاً ولم تسقط إلا مع سقوط النظام الذي أتى بها؛ أي إنها لم تكن مجرد ضرورةٍ عابرة يبررها واقع الماضي المستبد، بل ما إن دخلت نسيج الثورة حتى ألغت هذه الأخيرة لتنفرد بالحكم.
من أجل أن يحافظ ماركس على فلسفته النضالية ويبقيها خارج الفلسفات المثالية وموقفها السلبي على الصعيد السياسي، ومن أجل أن يجنبها استعمال البروليتاريا كمجرد أداة مادية، ومن أجل أن يجنب الثوريين أن يظلوا أبناء طبقة واحدة، نادى في النهاية بإلغاء العمل لقاء أجرٍ معيّن، وكذلك بإلغاء الدولة لئلا تتحول من جديد إلى أداة قمعٍ وتعود الإنسانية إلى صراع المصالح المتضاربة التي لا تنتهي. إن الفلسفة التي أرادها ملتزمةً وعمليةً وقادرةً على التغيير الحقيقي لبلوغ الإنسان الحر، أوصلته في النهاية إلى مفهومٍ للسياسة يتخطى اهتمام جميع السياسيين الذين يتعاطَوْن مع الوقائع، أي مع المعطيات الحقيقية والمشكلات اليومية للشعوب قبل أي اهتمام بالأفكار. فالفيلسوف يتعاطى بالأفكار ويتعاطى مع البعيد ومع المستقبل القريب أو البعيد، أما من يتبوأ الحكم فأمامه يومياً مشكلات متراكمة يجب البتّ فيها وهي حامية، فلا عجب إذاً إن تمزقت الماركسية السياسية إلى لينينية وتروتسكية وماوية.. إلخ، وكذلك إلى اشتراكية ذات وجه إنساني.

لقد أراد ماركس أن يكون فعالاً كي يتخلص من القمع العابر للقارات وللقرون، فاستعان بدكتاتورية البروليتاريا، واكتشفنا نحن بعد وفاته وبالتجربة المرة أن جميع الدكتاتوريات تتشابه وإن اختلفت الأسماء. فالستالينية والفاشية والنازية كانت متعاصرة ومتجاورة، عاشت كلها في النصف الأول من القرن العشرين وفي أوروبا القارية، وتميّزت بقمع وتصفيات للملايين من الأبرياء من الطبقات والأجناس المختلفة. إن ماركس الذي عاب على الفلاسفة من قبله أنهم "اكتفوا بأن يؤوّلوا العالم بأساليب مختلفة في حين أن المهم هو تغييره"، مهد الطريق حين أدخل الدكتاتورية إلى منظومته الفكرية إلى تغيير العالم فعلاً، لكن ليس كما حلم به المفكر بل كما شاءه الدكتاتور: إنه عالم يحكمه الخوف، وتتكدس فيه الجماجم بسرعة غير معهودة.

( جورج زيناتي؛ الحرية والعنف؛ ص 112)


السبت، 29 سبتمبر 2018

حوار مع فرانسيس فوكوياما؛ نوفمبر 2010




وجهة نظر – في حوار مع فرانسيس فوكوياما

“لن تتخلى أمريكا عن سياسة ازدواجية المعايير، كما لن تزعزع أمن واستقرار الأنظمة التسلطية الحليفة في العالم العربي من أجل دعم الديمقراطية بالمنطقة”


أجرت الحوار هند عروب
شارحا أسباب تراجعه عن نصرة الغزو الأمريكي للعراق بعد أن كان أول الدعاة إلى استخدام منطق القوة، فرانسيس فوكوياما المفكر المثير للجدل وذو الأفكار المستوقفة، والذي يعيش حاليا مرحلة مراجعة الكثير من أفكاره، يفيض صراحة في هذا الحوار حيث يقر باتخاذ الديمقراطية ذريعة للحرب على العراق التي افتقرت لأية إستراتيجية بعيدة المدى. ولن تقف صراحته عند هذه الحدود بل سيعترف بخوف الجمهوريين من عضوية المحكمة الجنائية الدولية، وبضرورة محاكمة حتى المثقفين الذين دفعوا بفكرهم قبل الحرب، وبعدم تخلي أمريكا،
ضمن خطتها الجديدة للألفية الثالثة، عن مصالحها المستدعية لسياسة ازدواجية المعايير. في هذا الحوار أيضا، نناقش مجددا فوكوياما في فكرة نهاية التاريخ وتصدير المؤسسات الديمقراطية للبلدان الثالثية، ونهاية السيطرة الأمريكية على العالم واتجاه هذا الأخير صوب تعددية الأقطاب، ثم المواجهة بين العالم الغربي والإسلام السياسي في صيغته الراديكالية. ولن ينتهي الحوار دون أن يبوح فرانسيس فوكوياما للقراء بفحوى كتابه القادم ” جذور النظام السياسي.”

  • في سنة2003  غيرت موقفك حيال فكرة استخدام آلية القوة لتدعيم وترسيخ الديمقراطية، وفي سنة2006  نشرت مقالا تنتقد فيه سياسة المحافظين الجدد ومواقفهم وأفعالهم، ما هي الدواعي الحقيقية لهذا التحول علما أنك مصنف كواحد من مثقفي المحافظين الجدد، وواحد من دعاة استخدام القوة ضد الإرهاب والتخلص من نظام صدام؟
فرانسيس فوكوياما: حدث هذا التحول في مواقفي سنة بعد هجمات الحادي عشر من شتنبر، وسنة قبل غزوالعراق، أي في سنة2002 حين كانت إدارة بوش تحضر لغزو العراق، وكنت أنا حينها في جولة أوربية لتباحث قضايا تتعلق بالسياسة الأمريكية، وأولها مسألة الغزو مع كبار الشخصيات بأوربا. أثناء هذه المباحثات، وفي خضم متابعتي لخطوات الغزو عن كثب، تكشف لي أن إدارة بوش لم تحضر بشكل جيد لهذا الغزو، وتحديدا لمرحلة ما بعد الغزو وأن الدواعي المعلنة من قبيل الديمقراطية لا صلة لها بحقيقة الغزو ومآربه، خاصة وأني أمضيت سنوات أفكر وأبحث حالات الغزو الأمريكي كحالة الفيتنام، وفي كل مرة أخلص إلى الخلاصة ذاتها، أن الغزوالأمريكي لا يهتم ولا يدرس مرحلة ما بعد الغزو، والأمر ذاته حدث في حالة لعراق، إذ كان كلما دنا موعد الغزو تبين لي أن إدارة بوش لا تملك أي مخطط جدي لما بعد الحرب في العراق. لقد كانت مغامرة غير محسوبة العواقب على السياسة الخارجية الأمريكية. كانت نظرة بوش للغزو ونتائجه المتخيلة فوق تفاؤلية، خاصة في مسألة الاعتماد على سهولة الانتقال نحو الديمقراطية، لقد بدا جليا أنهم لا يفهمون تعقيدات الحالة وأبعادها التاريخية، الثقافية والجيواستراتيجية، إذ ليس من السهل خلق مؤسسات ديمقراطية بدولة نامية في سرعة البرق، إنهم لم يكونوا واعين بمحاذير الاختلاف البيئي والثقافي، ليتبنوا– هم أنفسهم– في ما بعد، أن الأمر لم يكن فسحة ربيعية. إذن عدم التحضير الكافي للغزو، وعدم التخطيط  له ولما بعده، جعلني متيقنا أن الخسائر والأخطاء ستكون فادحة وفظيعة، لذا غيرت موقفي ولم أعد مناصرا للغزو.
  • ألا تعد قيادة حرب باسم “الديمقراطية” جريمة ضد الإنسانية و ضد الديمقراطية ذاتها ؟ وهل يمكن بناء الديمقراطية عبر الغزو والدمار والتعذيب؟
فرانسيس فوكوياما: طبعا لا يمكن ؛ فالديمقراطية لم تكن الهدف الرئيسي من هذه الحرب، إنها ذريعة روجت وصدقها الكثيرون، لقد كان الهاجس الأول لهذه الحرب أمنيا صرفا، أما الهاجس الثاني فتجلى في إنهاء نظام صدام كجزء من مسلسل الحرب على الإرهاب وقبل أن يمتلك هذا النظام فعليا أسلحة الدمار الشامل، أما الديمقراطية فكانت مجرد مبرر.
  • ألم يكن الأمر جريمة ضد الإنسانية؟
فرانسيس فوكوياما: مبدئيا يمكن استخدام القوة لحماية حقوق الإنسان، والاتقاء من خطر هجوم ما ليس خطأ. ولكني أعتقد أن القوة يجب أن تستخدم بحذرشديد، وأن تخضع لمعايير القوانين الدولية وضوابطها، وأن يكون الهدف حماية المنظومة الدولية واحترام قوانينها.
  • مقاطعة: ولكنه تصور لمفهوم استخدام القوة بشكل وقائي، فلا أحد يضمن التجاوزات والخروقات والجرائم الشنيعة التي تقترف باسم الدفاع عن النفس، إذ كيف تصنف أبوغريب”  وما اقترفه الجيش الأمريكي بالعراق تحت ذريعة اتقاء” خطر محتمل.
فرانسيس فوكوياما: سأعطي مثالا لاستخدام القوة لغايات حسنة، كحالة سيراليون عام 1999 حيث تدخلت بريطانيا تحت المظلة الأممية، ليس من أجل الديمقراطية، ولكن من أجل استتباب الأمن، وهو نموذج لاستخدام القوة.
  • تعقيب: أعتقد أنه لا رابط بين حالة سيراليون وحالة العراق، هذا دون مناقشة أن ما يحدث بدول إفريقيا جنوب الصحراء، من اضطرابات وحروب ومجاعات، يقف خلفه القوى الكبرى بالتواطؤ مع الأنظمة المحلية، ليتستروا في ما بعد في ثوب الحمل مطوعين المظلة الأممية
فرانسيس فوكوياما) متدخلا(: ولكني مع ذلك أقول إنه من الممكن استخدام القوة من أجل الديمقراطية، مشددا في ذات الآن على أن الأمر يجب أن لا يتحول إلى عادة روتينية أو سهلة؛ لأننا لا نستطيع ضمان كيفية استخدام القوة، فالشطط والخروقات واردة كما حدث بالعراق.
  • بناءً عليه، هل التخلص من نظام صدام كان يتطلب13  سنة من الحصار والعقوبات الاقتصادية، ثم الإجهاز على العراق عبر الغزو، وتدمير بنياته التحتية، وتقتيل شعبه صغارا وكبارا؟ ألا تعتقد أنه لو تخلصت الولايات الأمريكية المتحدة من صدام بالطريقة التي تخلصت بها من نظام سلفادور أليندي، لكان الأمر أقل تكلفة من الحرب وعتادها، أم أن الثمن كان يستحق ذلك كما صرحت مادلين أولبرايت؟
فرانسيس فوكوياما: لا، مطلقا، لم يكن الثمن مستحقا لذلك، فالتخلص من نظام صدام لم يكن يستدعي جعل الشعب العراقي يتجرع كل هذه المعاناة. وأمريكا مسؤولة عن معاناة الشعب العراقي وآلامه، لقد كان الأمر خطأ فظيعا.
  • متدخلة: مجرد خطأ فظيع! أوليس الأمر جريمة؟
فرانسيس فوكوياما: ) يضحك( الحقيقة، لا يوجد معيار لتحديد صورة الجريمة وحيثياتها، لذا أقول إنه خطأ شنيع ناجم عن سياسة فظيعة، أكثر منه جريمة.
  • تعقيب: كيف ذلك؟ لا يوجد معيار؟ هناك القوانين الدولية خاصة تلك المتعلقة بالحروب اتفاقيات جنيف وباقي فصول القانون الدولي الإنساني، كما أن كبارالعلماء والمفكرين ورجال القانون الدولي وحتى بعض العسكريين الأمريكيين، أكدوا أنها جريمة بكل المقاييس والمعايير، إنها جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية
فرانسيس فوكوياما: أكتفي بالقول إن الأمر كان خطأ فظيعا.
  • حسن، لقد حضرت بمعية البروفسور لارلي دايموند، تقريرا حول ما استقام وما اعوج في التجربتين العراقية والأفغانية، تحت عنوان What went wrong and right in Iraq and Afghanistan تقيمون من خلاله التجربتين، وتسطرون الأخطاء القاتلة في كلتيهما، فما كانت هذه الأخطاء القاتلة في كل من العراق وأفغانستان؟
فرانسيس فوكوياما: إنهما حالتان مختلفتان: في الحالة الأفغانية، لم يكن الغزو الأمريكي مساندا أمميا، والخطأ القاتل يتمثل في المبادرة المبكرة لإعادة بناء دولة أفغانستان وفق المعايير الغربية، مما جعل أمريكا تتكبد تكاليف ضخمة وهائلة لم تكن تطيقها، وقد طالت المدة ووجدت القوات والإدارة الأمريكيتان نفسيهما في حالة استنزاف. أماالحالة العراقية، فهي على خلاف الأفغانية، حيث الغزو في حد ذاته يعتبر خطأ قاتلا رغم أنه كان مدعوما أمميا، إضافة إلى عدم التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، وعدم توقع حدوث الحرب الأهلية، والأشياء الفظيعة التي حدثت كأبو غريب.
  • ألكل هذه الأسباب تخشى أمريكا عضوية المحكمة الجنائية الدولية؟ وهل يمكن لإدارة أوباما الدفع في اتجاه العضوية، بعد ما رفضتها رفضا قاطعا إدارة بوش؟
فرانسيس فوكوياما: إن المشكل يكمن في عدم إمكانية المصادقة على أية معاهدة دولية دون موافقة ثلثي مجلس الشيوخ، وأوباما وحده لن يتمكن من إصدار قرار الموافقة على العضوية بالمحكمة الجنائية الدولية نظرا لسيطرة الجمهوريين الضاغطين في اتجاه الرفض.
  • معلقة: إذن هم خائفون من العضوية، ومن إمكانية محاكمة أعضاء إدارة الصقور من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
فرانسيس فوكوياما) يتأمل ثم يجيب(: أجل، الأمر كذلك، إنهم خائفون.
  • وهذا دليل على أن أيديهم ملطخة بالدماء، وأن ما اقترفوه جريمة وليس مجرد خطأ فظيع.  في نفس سياق المحاكمة والمحاسبة، ألا تعتقد أنه ينبغي محاكمة المثقفين والباحثين الذين دفعوا في اتجاه الحرب، فهم متورطون في الجريمة بفكرهم؟
فرانسيس فوكوياما: أعتقد أن أي شخص يتورط في مثل هذه الأعمال الشنيعة، ينبغي أن يحاسب، حتى المثقفين. ولكن كيف يجب أن تتم محاسبتهم؟. إنه في الحقيقة سؤال معقد، فقرار الحرب يعتبر قرارا سياسيا، وأول المتورطين هم إدارة بوش والعسكريون الذين أنجزوا هذه الحرب، أما المفكرون، فلا شيء في القانون يشير إليهم.
  • معقبة: على الأقل، تتوجب محاسبتهم من الناحية الأخلاقية.
فرانسيس فوكوياما: أجل، إني أعتقد وبشدة بضرورة محاسبة المفكرين المتورطين في الحروب، لكن الأكيد أن محاسبتهم ينبغي ألا تتم بالكيفية التي يحاسب بها العسكريون.
  • هل من المحتمل أن تقود إدارة أوباما حربا على إيران أو سوريا؟
فرانسيس فوكوياما: لا، لا أعتقد أن إدارة أوباما ستقود حربا على إيران أو سوريا. فالحرب ليست من أولويات الإدارة الأمريكية الحالية، بل إن أمريكا اليوم باتت عاجزة عن قيادة أية حرب جديدة في الشرق الأوسط، فالحرب باتت سيناريو يخشاه الكل في أمريكا. وأمريكا لن تدعم– في اعتقادي– أية خطوة حرب منفردة قد تقدم عليها إسرائيل حيال حزب الله مثلا.
  • في هذه الحالة، تعتقد جديا أن أمريكا لن تدعم إسرائيل إذا ما أقدمت على خطوة الحرب منفردة؟
فرانسيس فوكوياما: أجل، أعتقد جازما أن أمريكا حاليا لن تدفع إسرائيل لاتخاذ أية خطوة حرب، كما لن تدعمها في حالة كان القرار إسرائيليا محضا، فلو تعلق الأمر بإدارة بوش لدفع في اتجاه الحرب. والحقيقية أنه الآن، لا أحد يرغب في الدفع صوب الحرب.
  • ألا تعتقد أن المواجهة بين الإسلام الراديكالي والعالم العربي بقيادة أمريكا، فتحت عهدا جديدا من التاريخ وليس نهايته كما توقعت؟ ثم ألا ترى أن النموذج الغربي للديمقراطية وتحديدا مفهوم تحريرالسوق فتح تاريخا من العبودية والسيطرة والفقر والتبعية كما عمق الفجوة بين جنوب العالم وشماله، وبالتالي ففكرة نهاية التاريخ وتبني العالم لنموذج واحد )الديمقراطية الغربية) هي ضد الطبيعة الإنسانية ودينامية المجتمعات البشرية على الصعيدين المحلي والدولي؟
فرانسيس فوكوياما: لا أعتقد ذلك، لأنه حتى في العالم الإسلامي، الإسلام الراديكالي غيرمرحب به، والإسلاميون إجمالا لديهم مفهوم ثيوقراطي جدا للتسلط وللدولة كنموذج طالبان والحركات السلفية. ففي العالم العربي لا يوجد دعم قوي لهذه التيارات، وأشك أن تصل هذه الحركات إلى السلطة، فالعيش في ظل جمهورية إسلامية لن يجد قبولا كبيرا. ولكني أقر بأن النموذج الإسلامي– السياسي، يبقى على المستوى العالمي، بديلا من البدائل المطروحة على الساحة كالماركسية مثلا، والأكيد أنه بديل مختلف من حيث مضامينه، مبادئه ومفاهيمه، مختلف حتى في صراعه، فصراع أمريكا والإسلام الراديكالي مغاير للصراع الأمريكي– السوفياتي.
  • تتحدث في كتابكBuilding Nations  عن فكرة تصدير المؤسسات، بمعنى أنه يتوجب على أمريكا ألا تصدر السلع وأموال المساعدات فقط، بل المؤسسات الديمقراطية. ألا تعتقد أن هذه الفكرة ضد المسلسل الطبيعي لخلق المؤسسات، فأي مجتمع هو بحاجة إلى خلق مؤسساته عبر ديناميته، لا أن تُصدر له؟
فرانسيس فوكوياما: أولا، لا يمكن أن تكون لك مؤسسات ما لم يكن هناك دعم من داخل المجتمع، فإقامة المؤسسات تعني حلا للمشاكل التي يعرفها مجتمع ما، والسير به نحو حكامة مؤسساتية جيدة ولكني أيضا لا أرى ضيرا في استلهام نماذج مؤسساتية خارجية، فليس في الأمر ما يوحي باستعمار جديد.
  • إذن ما الذي تقصده بتصدير المؤسسات؟
فرانسيس فوكوياما: المقصود هو دعم المؤسسات الدولية الكبرى كالبنك الدولي للمجتمعات النامية، والضغط عليها في اتجاه المأسسة، وامتلاك مؤسسات أكثر فعالية، شفافية وديمقراطية، لهذا لا أعتقد بأن عملية تصدير المؤسسات بسيطة وسهلة.
  • معقبة: المجتمعات بحاجة إلى المسار الطبيعي لخلق مؤسساتها، أما فكرة تصديرالمؤسسات فلها وقع كولونيالي، والحقيقة انه طفح بنا الكيل من كل ما هو حامل للشارة الأمريكية – التدخل الأمريكي–  الغزو الأمريكي، الوصاية الأمريكية… حتى الدعم الأمريكيإننا في المجتمعات الثالثية بحاجة إلى ان نخط مسارنا ونخوض معركتنا لوحدنا بما لها وما عليها.. فلماذا يجب أن تفكروا بدلا عنا؟
فرانسيس فوكوياما: صحيح ما تقولينه صحيح، فمن بين أكبر التراجيديات في العقد الأخير، استغلال إدارة بوش لفكرة تنمية الديمقراطية ودعم او اتخاذها ذريعة لغزو العراق، وللتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، الأمر الذي يجرد مفهوم المساعدة من المصداقية كما أنه شوه صورة أمريكا.
  • لهذا أعتقد أنك بادرت وخبراء آخرين أمثال : Larry Diamond.& Michael AFaul Mc ، إلى كتابة وتوقيع تقرير New Day New Way,      U.S foreign assistance for the“” 21 h centry تقرير تُلاحظ فيه نبرة ضمير يقظ واعتراف بأخطاء وقطاعات السياسة الخارجية الأمريكية في كنف النظام العالمي أحادي القطبية، كما يلاحظ سعيكم إلى إعادة بناء صورة أمريكا الأخلاقية– من خلال هذا التقرير – بالقول إن لأمريكا أخلاقا أيضا وهي تستطيع أن تكون شريكا جيدا بعد أن كانت سيدا متعجرفا، لكن ما لم ألاحظه في هذا التقرير هو هل أمريكا ستُبقي في إطار سعيها إلى بناء صورة جديدة– على سياسة ازدواجية المعاير بمعنى دعم الأوتوقراطية باليمنى، والديمقراطية باليسرى؟.
فرانسيس فوكوياما: صحيح أن أمريكا تدعم الديمقراطية، وتهتم بها كأساس من أسس سياستها الخارجية، ولكن أمريكا في ذات الآن لم تهب نفسها راعية للديمقراطية عبر العالم كهدف أوحد وأسمى للسياسة الخارجية الأمريكية، فللمصالح ثقل كبير في هذه العملية. إن المصالح الأمريكية متضاربة ومتعددة بتعدد واختلاف مناطق العالم، فهناك هاجس الأمن، الحرب على الإرهاب، دعم الأوتوقراطية، ضمان الولوج الدائم لمصادر النفط.. كل هذه المصالح هي التي تسطر السياسة الأمريكية الخارجية، وبالتالي إذا كنا ندعم الديمقراطية ببقعة ما، فنحن في ذات الآن ندعم الأنظمة الأوتوقراطية في السعودية مصر، والمغرب.. إلخ وهذه الحالات تدل على أن الديمقراطية ليست أولية الأولويات على طول الخط، وإن كنا ندعم برامج التنمية والديمقراطية بالعالم العربي إلا أنها ليست أولوية في هذه المنطقة. والسؤال العملي الذي ينبغي طرحه هو كيف تغير أو على الأقل تقلص سياسة ازدواجية المعايير. الحقيقة، إني لا أعتقد بوجود حكومة ستتخلى عن هذه السياسة في تعاملها مع المصالح الأمريكية، فلا أحد سيقول “هيا لنزعزع النظام في المغرب أو في مصر من أجل الديمقراطية“ لا أحد سيفعل ذلك، إنهم حلفاؤنا وإن كانوا أوتوقراطيين، ولهم دور مهم في كبح الخطر الإسلامي والحرب على الإرهاب.
لذا، أظن وحتى تقلص أمريكا من سياسة ازدواجية المعايير، عليها الوعي أكثر بعدم تغليب كفة الاستبداد على كفة الديمقراطية، أثناء سعيها لحماية مصالحها، وبالتالي فعليها الضغط على الأنظمة الأوتوقراطية الحليفة، حتى يوسعوا من مساحة الحريات والحقوق وعدم التعرض للديمقراطيين المدافعين عن حقوق الإنسان.
  • معقبة: عذرا، حين تلقي أنظمتكم الحليفة بالقوى الديمقراطية في السجون، أو تضيق عليهم الخناق، فأمريكا تغلق عينيها، ولا تهتم بالأمر، فأي دعم  للديمقراطيين والحقوقيين هذا؟.
فرانسيس فوكوياما: تماما، لهذا أرى أنه من واجبنا كقوى فاعلة في أمريكا الضغط على حكوماتنا لاتخاذ خطوات عملية أكثر من أجل دعم حقوق الإنسان وحماية المدافعين عنها في المناطق حيث الحاكم أوتوقراطي وحليف لأمريكا في ذات الآن، ففي مصرمثلا، على أمريكا الضغط أكثرعلى مبارك للدفع بنظامه في اتجاه اتخاذ قرارات تخدم الديمقراطية أكثر، وتوفير ضمانات بعدم التعرض للمعارضين الديمقراطيين. والحقيقة إن أمريكا لا تخشى الديمقراطيين بقدر ما تخشى القوى الإسلامية في الشرق الأوسط.
  • معلقة: لذا تدعم أمريكا حكام المنطقة المتسلطين، وتمنحهم الضوء الأخضر بأن افعلوا ما شئتم، فقط ابقوا الخطر الأخضر بعيدا عنا.
فرانسيس فوكوياما: صحيح وهذا من بين الأخطاء التي اقترفتها الإدارة الأمريكية بأن استخدمت الحكام المتسلطين بالمنطقة العربية للحد من خطر الإسلاميين، ولكنهم استغلوا الأمر لقمع الديمقراطيين.
  • هل لنا أن نتعرف على الإشكالية التي يناقشها كتابك القادم The origins of political order؟
فرانسيس فوكوياما: كتابي القادم يبحث مسألة جذور الدولة وأسس هذا الكيان، ودور القانون، كما انه يغطي بعض المناطق الجغرافية والحقول السياسية المختلفة لمعاينة تجربة الدولة بكل من الصين، الهند، الخلافة الإسلامية و تجربة السلطنة بمصر، ثم تاريخ التطور السياسي والمؤسساتي بالشرق الأوسط، إضافة إلى دراسة بعض الحالات الأوروبية في السياق ذاته.
  • بعد أن غيرت مواقفك، وبعد الحروب المكلفة التي خاضتها أمريكا، وما زالت كتلك التي خاضتها ضدالإرهاب، كيف تقرأ مستقبل التاريخ الآن؟ أما زال في اتجاه النهاية التي تحدثت عنها؟ أم أنها نهاية السيطرة الأمريكية على العالم في اتجاه عالم متعدد الأقطاب؟.
فرانسيس فوكوياما) ضاحكا(: إن مقولة “نهاية التاريخ” تتعلق بفكرة الديمقراطية الغربية كنموذج جيد، وأنا ما زلت أعتقد بصحتها، إضافة إلى اعتقادي بأن نهاية السيطرة الأمريكية قد حلت بالفعل، خاصة بعد الأزمة المالية الأخيرة. لقد باتت اليوم دول أخرى تنافس أمريكا كالصين وروسيا وحتى البرازيل، لم تعد أمريكا وحدها المؤثرة في قرارات الساحة الدولية. ثم إن سيطرة دولة واحدة على العالم ليست أمرا صحيا ولا طبيعيا، فنحن اليوم متجهون صوب عالم متعدد الأقطاب وهو أمر طبيعي أكثر. 
———————————————
أجري الحوار في ستانفورد يونيفرسيتي بولاية كاليفورنيا في فاتح نوفمبر من سنة 2010
يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما كاتب ومفكر أمريكي الجنسية من أصول يابانية، ولد في مدينة شيكاغو الأمريكية عام1952. يعد من أهم مفكري المحافظين الجدد. من كتبه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير والانهيار أو التصدع العظيم و) الثقة(.
يعتبرفوكوياما واحدا من الفلاسفة والمفكرين الأميركيين المعاصرين، فضلا عن كونه أستاذا للاقتصاد السياسي الدولي ومديرا لبرنامج التنمية الدولية بجامعة جونزهوبكنز، ويعمل حاليا بمركز الأبحاث حول الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون بجامعة ستانفورد- كاليفورنيا.
تخرج فوكوياما من قسم الدراسات الكلاسيكية في جامعة كورنيل، حيث درس الفلسفة السياسية على يد ألن بلووم
Allen Bloom ، بينما حصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد، حيث تخصص في العلوم السياسية.
وفضلا عن التدريس الجامعي عمل بوظائف عديدة: عمل مستشارا في وزارة الخارجية الأمريكية.
في عام 1989 كان قراء دورية ناشيونال انترست
National Interest على موعد مع مقالة ”نهاية التاريخ” والتي أحدثت رجة فكرية، حيث قال: إن نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى إلى غير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محلها الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية. وقد أضاف وشرح فوكوياما نظريته المثيرة للجدل في كتاب صدر عام 1992 بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. وقد قصد فوكوياما أن يعارض فكرة نهاية التاريخ في نظرية كارل ماركس الشهيرة ”المادية التاريخية“، والتي اعتبر فيها أن نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني سينتهي عندما تزول الفروق بين الطبقات. كما تأثر فوكوياما في بناء نظريته بآراء الفيلسوف الشهير هيغل وأستاذه الفيلسوف ألان بلوم، حيث ربط كلاهما بين نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني واستقرار نظام السوق الحرة في الديمقراطيات الغربية.
لفترة طويلة، وقبل أن يغير مواقفه، اعتبر فرانسيس فوكوياما واحدا من منظري المحافظين الجدد حيث أسس هو ومجموعة من هؤلاء في عام 1993 مركزا ًللبحوث عرف آنذاك بمشروع القرن الأميركي، وقد دعا هو ورفاقه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون إلى ضرورة التخلص من نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
وقد عبر فوكوياما في مقالاته ومؤلفاته في السنوات الأخيرة عن قناعته بأنه على الولايات المتحدة أن تستخدم القوة في ترويجها للديمقراطية، ولكن بالتوازي مع ما أطلق عليه نموذج ديبلوماسية نيلسون الواقعي. حيث اعتبر أن استخدام القوة يجب أن يكون أخر الخيارات التي يتم اللجوء إليها، ملمحا إلى أن هذه الإستراتيجية تحتاج المزيد من الصبر والوقت. واعتبر أن التركيز على إصلاح التعليم ودعم مشاريع التنمية يمنحان سياسة الولايات المتحدة لنشر الديمقراطية أبعادا شرعية.