الجمعة، 28 فبراير 2020

نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية؛ يحيى محمد.








نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية
يحيى محمد

لفيلسوف العلم المعاصر نظرية لتأسيس القضايا العلمية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الاستقرائي في بناء هذه القضايا. إذ وضع بوبر منهجاً عَدَّه ليس من الدليل الاستقرائي بشيء، وأطلق عليه المذهب الاستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللانهائي كما تقتضيه العملية الاستقرائية بوصفها عادةً نفسية تقوم على التشابه المستند بدوره إلى الاستقراء، وهكذا، معتبراً أن ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الاستقراء والاحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللانهائي1. الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت إلى العملية الاستقرائية.
فهو يبتدئ بوضع فرَض معين ذهنياً، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الاختبار، وهو في حالة الاختبار لا يلجأ إلى مبدأ التأييد بالشواهد كما تقتضيها العملية الاستقرائية، إذ أي عدد يمكن استقراؤه فإنه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية. فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي يظهر فيها البجع أبيض فإن ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع أبيض2، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الأبيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع أبيض، حتى اكتشفوا - في يوم ما - البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الاستدلال الاستقرائي إلى نتيجة زائفة3.
على هذا فقد لجأ بوبر إلى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الافتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع إلى تكذيبه فإنه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس. فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية المنطقية، كما يؤكد، هو ان الصورة المنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع الموضوعي، مع هذا فإنه يمكن مناقضة القضايا الأولى بالاخيرة (الشخصية)، أي انه من الممكن البرهنة من صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية، بفعل عملية الإختبار من التكذيب. في حين أن مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من القضايا الشخصية، وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير والأخذ بمسلك التأييد4. وعليه اعتبر بوبر ان النظريات العلمية لا تقبل التبرير أو التحقيق، وإنما تقبل الإختبار، فحيث أنها تصمد أمام الاختبارات الشاقة والتفصيلية فإنه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة5، وهو ما يفسر النمو العلمي وقلب النظريات. فمثلاً إن نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن عند معرفة ان الكواكب تتحرك اهليجياً وليس دائرياً. كما ان نظرية نيوتن استبدلت بنظرية أينشتاين للشذوذ الملاحظ في مدار كوكب عطارد6.
لقد كان أينشتاين ذاته يميل إلى المنهج الاستنباطي عوض الاستقرائي، إذ كان يعمل وفق الطريقة الافتراضية الاستنباطية في صياغة المبادئ النظرية والتصورات العقلية ليستخرج منها النتائج التجريبية. ويعتبر أن المفاهيم والقوانين الأساسية كما تحددها المبادئ النظرية هي ابتكارات حرة للفكر الإنساني، باعتبارها غير منتزعة عن التجربة والاستقراء. لكن هذه الابتكارات الحرة ليست مفصولة كلياً عن الإختبار والتجربة، فهي ليست كالرياضيات العقلية المحضة، كما أنها لا تشبه حرية كاتب الروايات الادبية أو تخيلاته، بل هي أقرب إلى حرية من يقوم بحل لغز من ألغاز الكلمات المتقاطعة. صحيح أنه يستطيع اقتراح أي كلمة لحل اللغز، لكن ليس هناك إلا كلمة واحدة فقط تحل اللغز في جميع اجزائه. ومن ثم فالطبيعة تتخذ مثل هذا الطابع للغز7.
ولسنا هنا بصدد نقد ما نصّ عليه أينشتاين، فقد فعلنا ذلك في (منهج العلم والفهم الديني)، فالمعنى الذي ذكره مبالغ في التعبير عن التفسير النظري لعلاقات الطبيعة، فمازالت التفسيرات مفتوحة على مصراعيها، ففي كل مرة يظن العلماء بأن الكلمة الأخيرة قد وجدت لحل اللغز في جميع أجزاء الكلمات المتقاطعة، إلا أنه يظهر بأن هذه الكلمة ليست هي المطلوبة على نحو الدقة، ومن ذلك أنه ثبت بأن النظرية النسبية لأينشتاين لم تكن الكلمة الأخيرة لحل اللغز، ولا توجد نظرية لحد الآن تقوم بهذا الدور العظيم. لكن ما يستفاد من تمثيل أينشتاين السابق هو أنه أراد أن يجعل الحدس العلمي الخلاق مهماً للغاية في التعبير عن الوصول إلى النظريات المناسبة، خلافاً للطريقة الاستقرائية التقليدية، لهذا وصف الحرية في هذا العمل العلمي بالتعبير (ضد الاستقرائية)، وهو ما يعني صياغة المبادئ النظرية غير المستخلصة من التجربة مباشرة وفق أرضية منطقية بحتة. وقد اعتمد في ذلك على لحاظ التعارض بين النظريات دون الاهتمام بالتجارب الفعلية.
لقد أصرّ العلم على ضرورة الأخذ بالتعميمات العلمية لأهميتها، حتى وان وجدت بعض الشواهد التي تكذبها أو تتنافى معها. فقد اظهر العلم انه يغض الطرف عن الشواهد السلبية للتعميمات، ويعتبرها وكأنها غير موجودة أو لا تعنيه ما لم تكن هناك نظرية تعميمية افضل. وبالتالي انه يعمل خلاف ما يتبناه كارل بوبر في نزعته التكذيبية. ففي المجال العلمي قد تحظى النظرية بالقبول رغم ما تحمله من شذوذ. ومن ذلك أن العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات خسوف القمر غير صحيحة. وأنهم لم يرفضوا هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، فقد انقضت (85 سنة) على قبول هذا الشذوذ ثم إعتبرت شاهداً مكذباً أو مستبعداً للنظرية8، وذلك عندما تمّ تفسير هذا الشذوذ تبعاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين.
لذا أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى مورداً للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى. وكما يرى أينشتاين ان المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات9. بل إن هذا الوضع قد يسمح بالأخذ بمبدأ الحفاظ على النظريات المفنّدة كالذي زعمه فيرابند10، فكل نظرية مفندة – أو لنقل مستبعدة - قد تعود مرة أخرى عندما يُكتشف من جديد أن هناك ما يؤيدها. بمعنى أن الاستبعاد ليس عاملاً حاسماً لإسقاط النظرية كلياً.
ومثل ذلك صرح توماس كون بأن كل نماذج العلم تتضمن حالات شاذة، كنظرية كوبرنيك حول الحجم الظاهري لكوكب الزهرة، ونظرية نيوتن حول مدار عطارد، ومع ذلك فقد كانت هذه النظريات مقبولة خلافاً لتصور النزعات التكذيبية كما لدى كارل بوبر11. وعلى رأي فيرابند لا يوجد شاهد واحد يؤيد نظرية بوبر التكذيبية12. لذلك كان أينشتاين يرى بأن المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات13. وكما يشاطره الفيزيائي والفيلسوف الوضعي فيليب فرانك فإن النظريات العلمية فروض ليست حتمية التصديق ولا يوجد معيار للحقيقة سوى التعزيز بالمشاهدات14. أو كما اتفق عليه العلماء اليوم بأن الفرضية العلمية لا تحتاج إلى الحسم التجريبي، بل هي بحاجة لأن تكون مثمرة وقابلة للتأييد فحسب15. وهو الحال الذي يجعل كل نظرية تحمل في أحشائها سرَّ فنائها كما يرى توماس كون16. أو هو أمر يجعل كل نظرية قابلة للموت المؤجل، فالعلم هو مقبرة للنظريات.. لكن في الوقت ذاته قد يُسمح للنظرية بالحياة من جديد، كالذي أشرنا إليه سلفاً، رغم أننا لم نسمع عن عودة نظرية تمّ تركها بتمامها، إنما قد تعاد صياغتها ضمن التكيف مع التطورات الجديدة. ومن ذلك ان النظرية الجسيمية للضوء كما لدى نيوتن قد تمّ التخلي عنها عندما ثبت بالتجارب الحاسمة بأن الضوء ذو طبيعة موجية، لكنها مع ذلك أُعيد لها الحياة من جديد، ولو بالتكيف مع النظرية الموجية المتينة، كالتي دشّنها أينشتاين (عام 1905).
ومع ان بوبر لا يعد مسلكه يرتد إلى المنهج الاستقرائي، إلا أنه ـ كما نعتقد ـ يمارس عملاً استقرائياً، سواء في البدء أو في المنتهى. ففي البدء إنه من العبث ان يضع الباحث فرضاً ذهنياً وهو معزول مطلقاً عن النظر إلى الواقع والقرائن المتعلقة به، بشهادة سيرة كل من الناس وعلماء الطبيعة. فليس هناك فرض يمكن عزله عن السوابق من الملاحظات الخاصة بالقرائن التي تؤيد الفرض، سواء بوعي أو بغير وعي.
أما في المنتهى فمن غير المعقول ان يقال بأن التأييد ليس له تأثير على قوة الفرض، فمن منطق الحساب الاحتمالي أن اعتبار القرينة التأييدية لا بد أن تقوي من قيمة احتمال الفرض. وبوبر لا ينكر هذا الأمر، لكنه اعتبر ذلك ليس بقوة ما تفعله القرينة التكذيبية، بل حسِب أن القرار المؤيد إنما يؤيد النظرية فقط من الناحية الزمنية، باعتبار أن أي قرار سلبي لاحق يمكنه ان يؤدي إلى طرح النظرية17، وأنه لا يوجد برهان حاسم لأي نظرية علمية ‹‹لأنه من الممكن دائماً أن نقول إن النتائج التجريبية لا يوثق بها››18، وبالتالي فهي قابلة للتكذيب. وقد يقال أليس هذا الحكم حكماً تعميمياً لا يجد تبريراً له من غير ملاحظة ما سبق أن تعرضت له النظريات، فكيف جاز هذا التعميم القائم بدوره على الإستقراء، وما هو مدى صدقه على أرض الواقع؟
مع هذا قد يقال ان حكم بوبر السابق يرتد إلى موقف ميتافيزيقي ليس بذي أثر على ما نحى إليه من تأسيس للمنهج العلمي، وذلك مثل موقفه من مبدأ السببية العامة واطّراد قوانين الطبيعة. إذ كان حريصاً كل الحرص أن يبعد هذه القضايا عن مجال العلم ويعتبرها ميتافيزيقية طالما أنها لا تقبل التكذيب. وبالتالي فإن القضية العلمية لديه هي تلك التي تقبل التكذيب فحسب. لكنه مع هذا يجعل تفكيك القضايا عائداً إلى اختياراتنا ومواضعاتنا الذاتية، بالرغم من أنها قضايا معرفية ترتد إلى الواقع الموضوعي. فإذا كان الأمر مجرد ترتيب إجرائي فله أن يفعل ما يشاء، لكنه حين ينطلق من منطلقات فلسفية ويُشْكل على الدليل الاستقرائي ومن ثم يتمسك بالشبهة الهيومية، ولم يقتنع بالحل الوضعي في معالجة الاستقراء؛ كل ذلك يجعلنا ندرك أن عمله التفكيكي ليس قائماً على مجرد الحمل الاجرائي، ويظل الإشكال وارداً: بأي حق نعتبر مثل تلك القضايا التعميمية قضايا ميتافيزيقية؟ وكيف يمكن التثبت من كونها لا تخطئ ولا تقبل التكذيب؟ وإذا كان من الواضح أنها لم تتأسس إلا بفعل الدليل الاستقرائي، فكيف يلجأ إليه بوبر وهو قد رفضه جملة؟!
[أظن أن مناقشة بوبر على هذا النحو لا تصح. فتعريف النظرية العلمية الصحيحة أن لا تشذ عنها أية حالة فردية. وتعميمه بأن الاستقراء لا يؤمّن هذه الخاصية، ليس استقرائياً، إنه من طبيعة تفنيدية، بمعنى أنه يكفي أن يجد نظرية علمية واحدة قامت على الاستقراء ثم ثبت خطؤها، لتكون نظرية بوبر صحيحة. وهذا قد حصل.]
[التفنيد البوبري كاحتمال]
أما بصدد مناقشة بوبر على صعيد المنهج العلمي فيلاحظ أن عملية التكذيب وإن كانت تعبر عن قضية مضادة للتأييد، إلا أنها أيضاً ـ مثلها مثل التأييد ـ تستند في تضادها مع الفرض انطلاقاً من العملية الاحتمالية وتقوم بدورها على مسند استقرائي يثبت كونها تكذيبية بالفعل. وأبرز مثال على ذلك ما يتعلق باكتشاف كوكب نبتون طبقاً لنظرية الجاذبية. ففي البداية عُد الانحراف في مدار كوكب (يورانوس) شاهداً سلبياً بالنسبة إلى الجاذبية، لكن ذلك لم يطرح النظرية كلياً، وإنما أضعف من مصداقيتها، طالما كان من الممكن توجيه الشاهد بشكل لا يخرج فيه عن فحوى النظرية، وهو ما حصل فعلاً من قبل بعض أتباعها، حيث وجهوا الشاهد بالشكل الذي لا يكون فيه مناقضاً لمبدأ الجاذبية، فافترضوا وجود كوكب آخر مجهولٍ هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار. وبالفعل إن أحد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما أطلق عليه كوكب نبتون، الأمر الذي قوّى من مصداقية النظرية أكثر.
على ان الذي يستفاد من هذا المثال هو ان شاهد انحراف (يورانوس) لا يمكن أن يعدّ - في بادئ الأمر - شاهداً تكذيبياً، بدلالة انه كان من الممكن توجيهه توجيهاً يتفق فيه مع نظرية الجاذبية، ويظل البحث فيما لو كان التوجيه سيجد تأييداً في الاكتشافات المقبلة أو انه سيلقى التكذيب، وهو الأمر الذي يجعل من التأييد والتكذيب كلاهما يعتمدان على ما تفضي إليه العملية الاستقرائية من كشف ميداني. ففي مثالنا السابق تحدد الاختبار بالبحث حول كوكب ما يحتمل أن يكون هو السبب في انحراف مدار (يورانوس). فلو ثبت وجود هذا الكوكب لكان تأييداً لها، أما لو ثبت عدم وجوده تماماً لكان تكذيباً للنظرية، وفي كلا الحالين ان المرجع في ذلك هو البحث الإستقرائي ودلالته الإحتمالية. كما أنه بكلا الحالين لا يمكن اعتبار التأييد والتكذيب تامين ومطلقين، إذ يظل احتمال وجود عناصر أخرى لم يُلتفت لها هي التي تؤثر على ظاهرة الانحراف في مدار (يورانوس)، فعدم وجود كوكب قريب مؤثر مثل نبتون لا يعني بالضرورة انه لا يوجد هناك شيء آخر مؤثر يمكن أن يتسق مع جاذبية نيوتن، كذلك فإن اكتشاف نبتون لا يعني بالضرورة انه يؤكد صحة النظرية صحة تامة ومطلقة.
لذا لا يكفي أن يقال بأن التكذيب إنما يحصل بما يمكن أن تطرحه النظرية من تنبؤات واستنتاجات لا يدل الكشف عنها. فقد تكون المشكلة لا تتعلق بالنظرية ذاتها، وإنما بما يستنتج عنها من تقريرات تنبؤية. ففي مثالنا السابق ان من الطبيعي بادئ الأمر ان يكون التنبؤ الذي ينبغي ان تتخذه نظرية الجاذبية هو ان المدارات التي تسير فيها الكواكب هي مدارات لا يلوحها انحراف، وذلك عند لحاظ عدد منها، فقد لا يرد في البال ان يحصل الانحراف لدى بعضها، ورغم أنه تمّ التأكد من وجود هذا الانحراف، إلا انه مع ذلك لم يعد شاهداً مكذباً للنظرية طالما أمكن توجيهه الوجهة المناسبة.
كذلك في حالات كثيرة يلاحظ ان النظريات العلمية تتنافس فيما بينها بحسب ما تستند إليه من مرجعيات متضادة؛ رغم أن الشواهد قابلة لأن تُفسر بأي من هذه المرجعيات بلا تأييد ولا تكذيب، ولعل أقرب صورة لهذا الشكل ما أكد عليه فلاسفة العلم الإصطلاحيون من أمثال بوانكاريه من أنه يستحيل معرفة شكل الهندسة الكونية إن كانت إقليدية أو غير إقليدية، فمن الممكن تفسير الظواهر الكونية طبقاً للفرضين باعتبارات مختلفة، وبالتالي فليس بإمكاننا أن نجعل من الشواهد مكذبة لأحد الفرضين، الأمر الذي لا يتسق مع المنهجة التي عليها نظرية بوبر، إذ سوف لا تكون هذه القضية من القضايا العلمية طالما أنها لا تخضع للتكذيب، أي ليس من القضايا العلمية أن يقال بأن الهندسة الكونية قد تكون إقليدية أو غير إقليدية، طالما ليس هناك قابلية على تكذيب أي من الفرضين، فمثلما يمكن تفسير انحناء الأشعة الضوئية طبقاً لانحناء الكون، وبالتالي فإن الهندسة ليست اقليدية، كذلك فإنه يمكن تفسيرها بإعتبار آخر قائم على أساس الجذب، استناداً إلى الهندسة الاقليدية وأن الفضاء ليس بمنحن، وبالتالي فمسار الأشعة يتصف بالاستقامة لولا ظاهرة الجذب التي تسببها الكتل المادية في الفضاء فتجعلها منحنية.
بل هناك قضايا كثيرة تعتبر علمية رغم أنها لا تخضع لقاعدة القابلية للتكذيب، وعلى رأسها القانون الأول لنظرية الجاذبية لنيوتن، وهو المتعلق بالعطالة أو القصور الذاتي. ومثل ذلك الكثير من النظريات التخمينية التي يتصف بها النظام الميتافيزيائي كالذي عرضناه في (منهج العلم والفهم الديني).
يضاف إلى أن هذه القاعدة لا تنطبق على التنبؤ بشذوذ القضايا الجزئية ضمن التعميمات الاستقرائية، فمثلاً لا يمكننا تكذيب قضية جزئية كالقول بوجود غراب أبيض مهما امتدت دائرة البحث الاستقرائي، في حين أنه يمكن إثباتها. فاثبات الجزئي ضمن العام ممكن، لكن تكذيبه غير ممكن. وهو على عكس الكلي، حيث إن إثباته غير ممكن في حين أن تكذيبه ممكن، وهو الذي تمسك به بوبر دون ما يقابله.
من جانب آخر قد يقال إن دلالة التكذيب تفوق دلالة التأييد، إذ إن التأييد لا يحتم صحة النظرية، حيث كل ما يمكن أن يقال هو أنها تتسق مع الشاهد التأييدي أكثر فأكثر، ولا يعني أنها صحيحة فعلاً، بدلالة انه قد تنافسها نظرية أخرى تتفق مع جميع الشواهد المؤيدة للنظرية الأولى، وبالتالي لا يتحتم صدق هذه النظرية بالتأييد. في حين أن الشاهد المكذب يمكنه ان يبطل النظرية ويسقطها من الحساب تماماً.
والجواب على ذلك هو ان الأمر يتوقف على الفروض المطروحة إن كانت تسمح بالتصديق بالنظرية عند الشاهد المؤيد، أو إبطالها عند الشاهد المكذب. فليس بالضرورة أن يكون الشاهد المكذب مبطلاً للنظرية إلا بالقدر الذي يثبت عدم قدرتها على إيجاد مخرج للتوجيه، مثلما ليس بالضرورة أن يثبت التأييد صحة النظرية إلا بالقدر الذي يثبت جدارتها من دون منافس. ويظل أن لطبيعة الشواهد من التأييد والتكذيب دخلاً كبيراً في تحديد القيم الموجهة للنظرية، فطبيعة الاختلاف في الشواهد يجعلها تختلف فيما تحمله من قيم احتمالية اتجاه صدق النظرية، فبعض الشواهد يحمل من القيمة ما يفوق البعض الآخر، وينطبق هذا الأمر؛ سواء على الشواهد التأييدية أو التكذيبية. ومثلما قد يكون الشاهد المكذب أقوى دلالة من الشاهد المؤيد؛ فإن العكس يحصل كذلك، إذ لو فرضنا أن هناك عدداً قوياً من الشواهد المؤيدة للنظرية في قبال شاهد يبدو عليه التكذيب؛ فإنه ليس من السهل التضحية بالشواهد المؤيدة لحساب ذلك المكذب، بل قد يقتضي الأمر تأويل الشاهد وتوجيهه بالشكل الذي لا يناقض النظرية؛ ما لم تكن هناك نظرية أخرى باستطاعتها ان تستوعب جميع تلك الشواهد وتفسرها.
وعلى العموم يمكن القول إن النظرية العلمية تقوم على قابلية كل من التأييد والتكذيب، وإن العلم لا يلتزم بواحد من هذين الطرفين، فضلاً عن وجود عناصر أخرى يستند إليها في قبول النظرية العلمية. ورغم أن بوبر كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 1934، لكنه بعد ثلاثين سنة تقريباً، أي بعد اعادة طباعة الكتاب (سنة 1963)، أعاد النظر في دفاعه عن ذلك الأساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر أخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الأشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر بأنه لا يمكن ارجاع مبدأ البساطة إلى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل19.
ونشير إلى أن بوبر يرى بأن القابلية على اختبارالقضايا العلمية لا تنتهي عند حد معين. فأنساق النظريات تُختبر عن طريق استنباط قضايا أخرى ذات مستوى أقل عمومية. وهذه يجب أن تكون قابلة للاختبار بنفس الأسلوب، وهكذا من غير حد ولا نهاية. مع هذا فإن بوبر لا يرى هذه العملية تفضي إلى الوقوع في دائرة الارتداد اللانهائي الذي سبق أن نقد فيه المنهج الإستقرائي. صحيح أنه يعتبر القضية العلمية يجب أن تكون قابلة للإختبار دون توقف، لكنه لا يطلب أن تكون كل قضية علمية قد اختبرت في الواقع قبل قبولها، فالاختبارات لا يمكن تنفيذها إلى ما لا نهاية، حيث لا بد من أن نتوقف آجلاً أو عاجلاً، إنما الذي يطالب به هو ان تكون القضية قابلة للاختبار لا غير. وبالتالي فهو يرفض وجهة النظر القائلة بوجود قضايا في العلم يجب علينا قبولها والموافقة على صدقها بحجة استحالة اختبارها لاسباب منطقية20.
لكن تأسيس القضايا العلمية كما طرحها بوبر يجعلها عاجزة عن التخلص من شبهة الوقوع في الارتداد الصفري، طالما إنه لا يعتقد بإمكانية بلوغ اليقين في الإطار العلمي21، أو إن القضايا العلمية عنده هي قضايا احتمالية. وبالتالي إذا كان بعضها يتوقف على البعض الآخر، فلا فرق عندئذ، سواء تعرضت كلها للإختبار - وهو أمر مستحيل للارتداد اللانهائي -، أو تعرض بعضها لذلك، فإنه في كلا الحالين ان أي قضية يراد تقدير قيمتها الإحتمالية فسوف تؤدي إلى الاقتراب من المستوى الصفري، مثلما لاحظنا الحال مع الوضعية المنطقية.
***
يبقى ان نلخص النتائج السابقة المتعلقة بموقف نظرية كارل بوبر من الاستقراء ونقدها، فقد كان هذا الفيلسوف يرى التالي:
1ـ انه يسلم بالشبهة الهيومية في معارضة الدليل الاستقرائي.
2ـ انه يعوّل على الفرض الاستنباطي، وقد كان أينشتاين يذهب إلى ذلك في معارضة الطريقة الاستقرائية كمنهج.
3ـ يعتبر بوبر أن حالات التأييد الاستقرائي لا تحسم نتائج القضايا العلمية، خلافاً لحالات التكذيب. رغم أنه يعتبر القضايا العلمية هي احتمالية على الدوام.
4ـ تعتمد نظريته على الاختبارات التي يمكن أن تكذب النظرية، دون البحث عما يؤيدها. فالنظريات العلمية لا تقبل التبرير والتحقيق، بل تقبل الاختبار من حيث صمودها أمام الإختبارات الشاقة والتفصيلية.
5ـ يقوم العلم على مبدأ القابلية على التكذيب. فالقضية العلمية هي من لها هذه القابلية، خلافاً للقضية غير العلمية، فقد تكون ميتافيزيقية كالسببية مثلاً.
أما إجمال نتائج النقد لهذه النظرية فكما يلي:
1.   ان العمل العلمي يمارس الطريقة الاستقرائية، سواء في البدء أو المنتهى. ففي البدء لا يمكن عزل الفرض العلمي عن السوابق من الخبرة والملاحظات التي يمكن توظيفها لدعم الفرض، بوعي وبغير وعي. أما في المنتهى فلا يعقل أن لا يكون للتأييد دور في دعم النظرية العلمية. وبوبر لا ينكر ذلك لكنه يخفف من أهميته قبال التكذيب.
2.   ليس الشاهد التكذيبي معوّل عليه في ابطال النظرية العلمية دائماً، بل قد يتحول إلى نوع من التأييد للنظرية مثلما هو الحال مع انحراف يورانوس واكتشاف نبتون.
3.   قد تتنافس نظريتان علميتان من دون علاقة بمبدأ التكذيب، كالتصور القائم على المذهب الاصطلاحي في تنافس النظريتين الاقليدية واللااقليدية.
4.   يفترض بوبر أن الطبيعة مطّردة كمبدأ ميتافيزيقي باعتباره لا يقبل التكذيب، مع انه مستنتج بالطريقة الاستقرائية.
5.   إن أهم مبدأ معول عليه اليوم في ترجيح النظرية العلمية هو مبدأ البساطة، وهو لا يتنافى مع الشواهد المناقضة أو الشاذة، خلافاً لمبدأ التكذيب.
6.   إن إعتبار القضايا العلمية احتمالية وإن بعضها يقوم على البعض الآخر يفضي بالنتيجة إلى القيمة الصفرية والارتداد اللانهائي.





1 كارل بوبر: منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، ص66ـ67.
2 منطق الكشف العلمي، ص64.
3 فلسفة العلم، ص388.
4 منطق الكشف العلمي، ص78.
5المصدر، ص70 و81.
6انظر:
Imre Lakatos, ‘Falsification and the Methodology of Scientific Research programmes’, 1969, in: The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers, volume 1. edited by Worrall and Currie, Cambridge University Press, reprinted 1984, p.13ـ14.
7 أينشتاين: الفيزياء والحقيقة، ضمن: أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م، ص78. كذلك: جولينوف: أينشتاين والنزعة الإجرائية لـ (بريجمان)، ضمن: أينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، لمجموعة من الباحثين، ترجمة ثامر الصفار، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1990م، ص40، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية: .www.al-mostafa.com
8انظر مثلاً:
L. Jonathan Cohen, An Introduction To The Philosophy of Induction And Probability, Oxford university press, New york, 1989, p. 142. Imre Lakatos, The methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press, p. 30.
9أينشتاين: النسبية: النظرية الخاصة والعامة، تقديم محمود أحمد الشربيني، ترجمة رمسيس شحاته، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص188، عن مكتبة الموقع الإلكتروني ليبيا للجميع: www.libyaforall.com.
10بول فيرابند: ثلاث محاورات في المعرفة، ترجمة محمد أحمد السيد، نشر منشأة المعارف بالاسكندرية، ص43ـ44، مكتبة المصطفى الإلكترونية: www.al-mostafa.com.
11 الآن شالمرز: نظريات العلم، ترجمة الحسين سبحان وفؤاد الصفا، دار تويقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1991م، ص97، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية.
12 بول فيرابند: ثلاث محاورات في المعرفة، ص141.
13 أينشتاين: النسبية: النظرية الخاصة والعامة، ص188.
14 فلسفة العلم، ص36.
15 انظر:
Madden, E. H., p. 7.
16نجيب الحصادي: الريبة في قدسية العلم، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ليبيا، ص16، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
17 المصدر، ص70.
18 منطق الكشف العلمي، ص88.
19انظر:
Nicholas Maxwell, The Comprehensibility of the Universe, Clarendon Press, Oxford, 1998, p.37ـ38.
20 منطق الكشف العلمي، ص84.
21المصدر، ص119. 

الاثنين، 24 فبراير 2020

علم الاجتماع بين الفهم والتفسير؛ الدكتور جميل حمداوي.








علم الاجتماع بين الفهم والتفسير
الدكتور جميل حمداوي.
Table of Contents


من المعروف أن علم الاجتماع (Sociologie/Sociology/Sociologia) يدرس الظواهر المجتمعية دراسة علمية من جهة. أو من جهة أخرى، يحاول فهم الفعل الإنساني وتأويله داخل بنية مجتمعية ما، برصد مختلف الدلالات والمعاني والمقاصد التي يعبر عنها هذا الفعل أثناء عملية التفاعل والتواصل الاجتماعي. ومن ثم، يعتمد علم الاجتماع على ثلاث خطوات منهجية أساسية هي: الفهم، والتفسير، والتأويل.
ومن يتأمل علم الاجتماع بدقة، فسيجد أن هناك منهجين مهيمنين: منهجا علميا موضوعيا يتكىء على التفسير السببي والعليَ،  ومنهجا ذاتيا إنشائيا تأمليا وأخلاقيا وتأويليا يقوم على الفهم. ويعني هذا أن ثنائية الذاتية والموضوعية حاضرة  في مجال العلوم الإنسانية بشكل لافت للانتباه. وفي هذا الصدد، يقول إدغار موران (Edgar Morin): "هناك نمطان من السوسيولوجيا في مجال البحث الاجتماعي: سوسيولوجيا أولى يمكن نعتها بالعلمية، وسوسيولوجيا أخرى يمكن نعتها بالإنشائية. وتعتبر الأولى بمثابة طليعة السوسيولوجيا. في حين، تعتبر الثانية بمثابة المؤخرة التي لم تتحلل، بشكل مناسب، من إسار الفلسفة، ومن المقالة الأدبية، والتأمل الأخلاقي. يستعير النمط الأول من السوسيولوجيا نموذجا علميا كان بالضرورة هو نموذج الفيزياء في القرن التاسع عشر. ولهذا النموذج ملمحان، فهو آلي وحتمي في آن واحد، إذ يتعلق الأمر، في الواقع، بتحديد القوانين والقواعد التي تؤثر، تبعا لعلاقات سببية، خطية ومنتظمة، في موضوع تم عزله، وفي مثل هذا النموذج يتم استبعاد كل ما يحيط بالموضوع المدروس من موضوعات أخرى. يضاف إلى ذلك أن هذا الموضوع المدروس يتم تصوّرُه كما لو كان مستقلا استقلالا كليا عن شروط ملاحظته. ولاشك أن مثل هذا التصور يستبعد من الحقل السوسيولوجي كل إمكانية لتصور ذوات أو قوى فاعلة أو مسؤولية الذوات وحريتها.
أما في السوسيولوجيا الإنشائية، فإن ذات الباحث تحضر، بالمقابل، في موضوع الباحث، فهو ينطق، أحيانا، بضمير المتكلم، ولا يواري ذاته...لقد كان مفهوم الذات غير مستساغ من قبل المعرفة العلمية؛ لأنه كان مفهوما ميتافيزيقياً ومتعاليا...في حين، إن تقدم المعرفة البيولوجية الحديثة، يسمح، اليوم، بمنح مفهوم الذات أساساً بيولوجياً. فماذا يعني أن يكون الإنسان ذاتاً، اليوم؟ إنه يعني أن يضع الإنسان نفسه في قلب عالمه...فالذات هي، بالجملة، الموجود الذي يحيل على ذاته وإلى الخارج والذي يتموضع في مركز عالمه."[1]
وبناء على ما سبق، يتأكد لنا أن ثمة طريقتين في التعامل مع الظواهر المجتمعية، إما أن نعتمد على الطريقة الوضعية التفسيرية في تبيان العلاقات الثابتة التي توجد  بين الظواهر والمتغيرات، وإما أن نعتمد على طريقة الفهم لاستجلاء البعد المجتمعي، من خلال فهم أفعال الذات وتأويلها.
إذاً، هل يمكن دراسة الظواهر المجتمعية في ضوء العلوم الفيزيائية أو الطبيعية أو التجريبية على أنها أشياء ومواد وموضوعات، كما يقول الوضعيون، بما فيهم: سان سيمون (Saint-   Simon)، وهربرت سبنسر (Spinser)، وإميل دوركايم (E.Durkheim)، وأوجست كونت (A.Comte
أم ندرسها في ضوء المقاربة الذاتية أو التفهمية كما يرى فلهلم ديلتاي (Dilthey) وماكس فيبر (Max Weber
أم يمكن الجمع بين هذين المنهجين في دراسة علم الاجتماع كما يرى لوسيان ڭولدمان (Lucien Goldmann)، وأنتوتي غيدنز (Giddens)، وبول ريكور (P.RICŒUR
 وبتعبير آخر، هل يتأسس علم الاجتماع على منهج التفسير أو منهج الفهم أم هما معا؟ أم ينبغي البحث عن بديل مغاير للعلمية أو البحث عن منهج سوسيولوجي أصيل لدراسة الإنسان بصفة عامة، والظاهرة المجتمعية بصفة خاصة؟
هذا هو الموضوع الذي سوف نتوقف عنده بالرصد والتحليل والوصف والنقد.

المبحث الأول: علم الاجتماع في ضـوء منهج التفسير

نتوقف، في هذا المبحث الأول، عند كلمة التفسير بالشرح والتحليل، مع إيراد بعض النماذج التفسيرية للاستشهاد بها في مجال السوسيولوجيا الوضعية.

المطلب الأول: معنى التفسـير

تعني كلمة التفسير (Explication) في مجال علم الاجتماع بصفة خاصة، والعلوم الإنسانية بصفة عامة، دراسة الظواهر المجتمعية على أساس ارتباطها السببي والعلٌي. بمعنى دراسة المتغيرات المستقلة والمتغيرات التابعة ضمن رؤية تجريبية وعلمية، بغية استصدار القوانين والنظريات، أو اختزال مجموعة من الظواهر في أقل عدد من العمليات المنطقية الصارمة. ومن ثم، يعد التفسير من أهم مبادىء الفكر العلمي أو الفكر الوضعي الموضوعي.
لذا، تشير كلمة السوسيولوجيا إلى هذا الجانب التفسيري الوضعي، بالربط بين مفهومين متضامّين هما: علم ومجتمع. بمعنى أن السوسيولوجيا تدرس الظواهر المجتمعية دراسة علمية موضوعية، باستجلاء العلاقات السببية والارتباطية بين المتغيرات المدروسة، سواءٌ أكانت مستقلة أم تابعة. وفي هذا الإطار، يقول مارسيل موس (Marcel Mauss): "السوسيولوجيا هي كلمة وضعها أوجست كونت ليشير بها إلى العلم الذي يُعنى بدراسة المجتمعات...وكل ما تصادر عليه السوسيولوجيا هو، ببساطة، اعتبار أن ما يسمى بالوقائع الاجتماعية هي وقائع موجودة في الطبيعة. أي إنها خاضعة لمبدإ النظام والحتمية الكونيين، وأنها، بالتالي، وقائع تنطوي على معقولية.[2]"
ويسمى التفسير أيضا بالنسق العلّيَ أو السببي عند عبد الله إبراهيم في كتابه (علم الاجتماع)، ويعرفه قائلا:" قوام النسق العلّي (السببي) تصور علاقة زمنية ثابتة بين الظواهر، بحيث يؤدي وجود ظاهرة ما، بالضرورة، إلى وجود الظاهرة الثانية. كما تشير العلاقة العلية بين ظاهرتين إلى ارتباط ضروري بينهما، بحيث تسبق واحدة منها زمنيا الأخرى. ولهذا، فإنّ للبعد الزمني أهميةً في تحديد العلاقة العلّية. ولقد عرف النسق العلٌي تحديا كبيرا مع ثورة الفيزياء الكبرى، وما رافقها من انتقادات وجهت إلى العلاقة العلية التي تسير في اتجاه واحد من العلّة إلى المعلول. وبنتيجة الانتقادات انتقلت إلى النسق العلّي فكرة الكل والأجزاء، وقد حمل هذا الانتقال معه تصويبا للعلاقة العلية، بحيث لم يعد الأمر يقف عند مجرد إثبات قيام علاقة علية بين الظاهرة ونتائجها، بل لابد من إكمال الطريق لإثبات قيام علاقة علية بين النتائج، وما تحدثه النتائج من نتائج في الظاهرة.[3]"
هذا، ولقد تأثرت السوسيولوجيا مع سان سيمون (San Simon)، وهربرت سبنسر(Spencer)، وأوجست كونت (Auguste Comte)، وإميل دوركايم (Emile Durkheim)، بالمرحلة الوضعية التي تبنت مناهج العلوم الطبيعية أو مناهج العلوم التجريبية في القرن التاسع عشر الميلادي، بالاحتكام إلى الفرضيات، والملاحظة الخارجية، والتجريب، وكثرة الاختبارات، واستصدار القوانين والنظريات العامة. أي: يقوم علم الاجتماع الوضعي على الملاحظة العلمية الخالصة، والتجريب الدقيق، والمنهج المقارن، والاستعانة بالتحقيب التاريخي، والاسترشاد بالحتمية التجريبية القائمة على العلية والارتباط بين المتغيرات المستقلة والتابعة. لذا، كانت العلوم الطبيعية، بما فيها: الفيزياء، والرياضيات، والفيزيولوجيا،  والكيمياء، مثالاً ونموذجاً متميزاً وصالحاً للاقتداء به من قبل السوسيولوجيين الوضعيين.

المطلب الثاني: سان سيمون والفيزيولوجيا الاجتماعية

دعا سان سيمون (Saint - Simon)[4] [1760ـ 1825] إلى تطبيق المنهج الفيزيولوجي على علم الاجتماع، وسماه بالفيزيولوجيا الاجتماعية، إذ يقول: "تنظر الفيزيولوجيا الاجتماعية إلى الأفراد كعناصر في الهيئة الاجتماعية  التي تعنى بدراسة وظائفه العضوية بالطريقة نفسها التي تدرس بها الفيزيولوجيا الخاصة وظائف الأفراد.. (ويجب أن نسترجع إلى ذاكرتنا الطريق الذي سلكه التفكير الإنساني؛ اتجه منذ هذا القرن إلى الاعتماد على الملاحظة، فأصبح الفلك والطبيعة والكيمياء من علوم الملاحظة)، نستخلص من هذا بالضرورة أن الفيزيولوجيا العامة التي يمثل علم الإنسان الجزء الرئيسي منها، سوف تعالج بالمنهج المتبع في العلوم الطبيعية الأخرى، وأنها سوف تدخل في التعليم العام عندما تصبح وضعية...لكن ما العقبة التي تعترض- حتى اليوم- قيام معرفة فيزيولوجية للمجتمعات الإنسانية؟ (إن تلك العقبة تتجلى في الصراع الذي وجد دائما...بين الطبقات الاجتماعية...إلا أنه قد آن الأوان لإنشاء علم للإنسان، وأن نقطة البداية في إنشاء هذا العلم هي الفيزيولوجيا الاجتماعية."[5]
وهكذا، فقد تنبه سان سيمون إلى تأسيس علم جديد يدرس الإنسان في المجتمع، هو علم الاجتماع أو ما يسمى عند سان سيمون بالفيزيولوجيا الاجتماعية، وتسعى هذه السوسيولوجيا إلى دراسة الظواهر المجتمعية، مثل: العلوم الطبيعية، بالاعتماد على الملاحظة العلمية، ودراسة الوظائف العضوية التي تؤديها هذه الفيزيولوجيا الاجتماعية.
وفي سياق آخر، يقول سان سيمون: "إن القدرة العلمية الوضعية هي نفس ما يجب أن يحل محل السلطة الروحية، ففي العصر الذي كانت فيه كل معارفنا الشخصية حدسية وميتفايزيقية بصفة أساسية كان من الطبيعي أن  تكون إدارة المجتمع فيما يخص شؤونه الروحية في يد السلطة اللاهوتية، مادام اللاهوتيون آنذاك هم الميتافيزيقيين الموسوعيين الوحيدين. وبالمقابل عندما تصبح كل أجزاء معارفنا قائمة على أساس الملاحظة، فإن إدارة الشؤون الروحية يجب أن تستند إلى القدرة العلمية باعتبارها طبعا متفوقة على اللاهوتية والميتافيزيقية."[6]
هذا، ويعد سان سيمون أول من قدم تصورات علمية حول الظواهر المجتمعية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وسماها بالفيسيولوجيا الاجتماعية (physiologie sociale)، وقد كانت تعنى بدراسة الذوات المجتمعية في علاقة بتنظيماتها. وبعد ذلك، طور أوجست كونت تصورات سان سيمون، وعمقها في إطار تصور علمي ووضعي. ويعني هذا أن سان سيمون، في الحقيقة، هو المؤسس الأول لعلم الاجتماع في مفهومه الغربي. بينما يعد ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران في الثقافة العربية بلا منازع.
ويعده جان ديفينيو (Jean Duvignaud) المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع:" إن سان سيمون المعاصر لروبيسبيير وسان غوست [7] والأرستقراطي، والمراقب الشغوف لثورة يعيش بفضلها، يتمتع بالتفكير الصحيح كعالم اجتماع، وعلينا أن نعترف، أن الفضل يعود إليه، وليس إلى كونت كما نفعل دائما، بهذا الصدد."[8]
والدليل على منظوره الاجتماعي هذه القولة التي تشير إلى الجبرية الاجتماعية ودورها في توجيه الأفراد: "من إحدى التجارب الأكثر أهمية التي أقيمت حول الإنسان، هي وضعه في علاقات اجتماعية جديدة، وعرضه على كافة الطبقات، ووضعه في أكبر عدد ممكن من الظروف الاجتماعية، وخلق علائق لم تكن قد وجدت بالنسبة له أو للآخرين"[9].
ويعني هذا أن ثمة اختلافا حقيقيا حول المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، فهناك أكثر من ست شخصيات في هذا المجال: ابن خلدون، وسان سيمون، وأوجست كونت، وأليكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)[10]، وإميل دوركايم، وأدولف كوتليه (Adolphe Quetele)[11]...


المطلب الثالث: هربرت سبنسر والمماثلة العضوية

يعرف هربرت سبنسر(Herbert Spinser)[12]  [1820، 1903م.] بفلسفة التطور، كما يدل على ذلك كتابه (التطور: قانونه وأسبابه) الذي نشره سنة 1857م، وقد أثبت بأن التطور هو انتقال متدرج من البسيط نحو المركب والمختلط، ومن اللااتساق إلى الاتساق. وبالتالي، تتجه ظاهرة التطور  نحو الاختلاف والتنظيم المتدرج. وقد دافع سبنسر عن التطورية الداروينية، وسبق شارل داروين (Charles Darwin) إلى مفهومي التطور والبقاء للأقوى والأصلح. وقد أسس السوسيولوجيا التطورية أو الداروينية أو السوسيولوجيا العضوية الوظيفية. وقد شبه المجتمع بالكائن العضوي، كل عضو يقوم بوظيفة معينة في إطار النسق الكلي. وتأثر في ذلك بمبادىء الطبيعة،  وقد استعمل منهج التفسير لاستكشاف قوانين التطور لدى المجتمعات الإنسانية تحليلا وتصنيفا ومقارنة. وقد استعان سبنسر بالتاريخ لرصد تطور المجتمعات، فقد وجد أن المجتمعات البدائية كانت تتميز بسمات البساطة والصفاء. في حين، تتميز المجتمعات الحضارية بسمات التخصص والتعقيد والتركيب والاختلاف.
هذا، وقد قدم هربرت سبنسر دراسات عدة في مجال السوسيولوجيا، مثل: (الستاتيك الاجتماعي) (1850م)، و(السوسيولوجيا الوصفية) (1873م)، و(مبادىء السوسيولوجيا)  (1876-1896م)، و(مدخل إلى العلم الاجتماعي) (1884م)...
هذا، ولم يكن هدف المفكر الإنجليزي هربرت سبنسر تصحيح المجتمع أو تحسين أحواله، بل المهم هو فهم هذا المجتمع على نحو أفضل، وتفسير تطور المجتمع وتغيره من حالة إلى أخرى، اعتماداً على المنهج البيولوجي التطوري الذي بلوره شارلز داروين في كتابه (أصل الأنواع).
وعليه، لقد تمثل سبنسر منهجية داروين التطورية والعضوية في تفسير التغيرات التي تحدث في المجتمع، وتفسير الكيفية التي تتغير بها المجتمعات، وتتطور عبر مرور الزمن. ومن ثم، أسس السوسيولوجيا الداروينية. وقد طبق منهجية التطور في كتابه (مبادىء علم الاجتماع)، قصد تفسير انتقال المجتمع من بنيته البسيطة إلى بنيته المركبة. وفي هذا، يقول سبنسر: "لقد رأينا أن التطور الاجتماعي يبدأ ببعض الطوائف الصغيرة بسيطة التركيب، وأنه يزداد بسبب اتحاد بعض هذه الطوائف في طوائف أخرى أكبر منها، وأن هذه الطوائف الأخيرة تتحد فيما بينها بعد بلوغها درجة كافية من التركيز لكي تكون طوائف أخرى أكبر منها. وحينئذ فمن الواجب أن نبدأ في تصنيفنا للمجتمعات بالنوع الأول منها، أي: بأبسط المجتمعات تركيبا."[13]
وأخيرا، وليس آخرا، يعد هربرت سبنسر من رواد علم الاجتماع  الذين أخذوا بمنهج التفسير التطوري في دراسة الظواهر المجتمعية، بمقارنة المجتمعات البدائية القديمة بالمجتمعات الحديثة على مستوى المكوّنات والسمات.

المطلب الرابع: أوجست كونت والتفسير الوضعي

يعدّ أوجست كونت (Auguste Comte)[14] من أهم السوسيولوجيين الذين تبنَّوْا منهج التفسير في دراسة الظواهر السوسيولوجية، وفق أربعة إجراءات أساسية هي: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مستلهما آليات الكيمياء والفيزيولوجيا. وفي هذا الصدد، يقول نقولا تيماشيف، في كتابه (نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها): "أنكر كونت – بغض النظر عن تعليمه الرياضي الراقي- إمكان التطابق بين المنهج الوضعي واستخدام الرياضيات والإحصاء.
أما دعوى أن المعالجة الرياضية للعلوم الاجتماعية لازمة حتى يمكن اعتبارها علوما وضعية، فتمتد جذورها إلى علماء الطبيعة.وتنبعث من تعصب مؤداه أنه لايوجد يقين خارج نطاق الرياضيات. وقد كان هذا التعصب طبيعيا ومنطقيا في الوقت الذي كان فيه كل ماهو وضعي ينتمي إلى مجال الرياضيات التطبيقية، كما أن هذه الميادين الوضعية جميعا لم تكن تنطوي على ماهو غامض وتخميني، لكن هذا التعصب أصبح غير منطقي ولا مبرر له منذ ظهور العلمين الوضعيين العظيمين: الكيمياء والفيزيولوجيا، حيث لايلعب التحليل الرياضي فيهما أي دور، ولايقلا يقينا وضبطا عن العلوم الأخرى..
فكيف نستقي المعرفة الوضعية-إذاً- في رأي كونت ؟ ذكر كونت أربعة إجراءات هي: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مؤكدا أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية، وفي مجال أساليب الملاحظة لم يظهر إلا أقل تقدير للاستبطان،...وقد كان كونت مدركا أن التجربة فعليا وواقعيا تكاد تكون مستحيلة في دراسة المجتمع...كما أكد إمكانية عقد المقارنات التي تعيش معا زمنا بعينه، وبين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.
أما المنهج التاريخي، فإنه عند كونت، البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، وهي نظرة تعكس الدور المهيمن للأفكار، كما تبدى ذلك في قوانين المراحل الثلاث، ولايشترك منهج كونت التاريخي إلا في القليل من نواحيه مع المناهج التي يستخدمها المؤرخون الذين يؤكدون العلاقات السببية بين الوقائع الملموسة، ويقيمون قوانين عامة كيفما اتفق..."[15]
ومن جهة أخرى، يعد كونت من رواد الوضعية (Positivisme) الذين أسسوا علم الاجتماع على أسس علمية تجريبية، اعتمادا على الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والتاريخ. ووضع قانون المراحل الثلاث الذي يتمثل فيما يلي:
u قانون المرحلة الدينية أو اللاهوتية: كان الإنسان، في هذه المرحلة، يفكر بطريقة خيالية، وإحيائية، وأسطورية، وخرافية، وسحرية، وغيبية، ودينية؛ وكان يفسر ظواهر الطبيعة وفق قوى خفية مصدرها الأرواح، والشياطين، والعفاريت، والآلهة، ولم يكن هناك أدنى اعتراف بالحتمية التجريبية أو العلمية، فالقانون الوحيد هو الصدفة فقط.
vالمرحلة الميتافيزيقية: انتقل الإنسان، في هذه المرحلة، من الميتوس والخيال إلى اللوغوس والفكر المجرد، وبدأ يهتدي بالتأمل الفلسفي، واستخدام العقل والمنطق، والاستدلال البرهاني، والحجاج الجدلي، وتواكب هذه المرحلة الفكر الفلسفي الميتافيزيقي من مرحلة الفلسفسة اليونانية حتى القرن التاسع عشر؛ قرن التجريب والاختبار والوضعية. وكان الفلاسفة يرجعون الطبيعة إلى أصول ومبادىء كامنة في تلك الظواهر، كتفسير ظاهرة النمو في النبات إلى قوة النماء، وظاهرة الاحتراق بإله النار...
 wالمرحلة الوضعية: في هذه المرحلة، تجاوز العقل الإنساني مرحلة الخيال والتجريد، وبلغ درجة كبيرة من الوعي العلمي، والنضج التجريبي؛ إذ أصبح التجريب أو التفسير منهج البحث العلمي الحقيقي، ثم الارتكان إلى المعرفة الحسية العيانية، وتكرار الاختبارات التجريبية، وربط المتغيرات المستقلة بالمتغيرات التابعة ربطا سببيا، وذلك في ضوء مبدإ الحتمية أو الجبرية العلمية. وتعد هذه المرحلة أفضل مرحلة عند أوجست كونت، وهي نهاية تاريخ البشرية.
وتوافق كل مرحلة من هذه المراحل تطور الإنسان من الطفولة حتى الرجولة، إذ تتوافق المرحلة اللاهوتية مع مرحلة النشأة والطفولة، وتتماثل مرحلة الميتافيزيقا مع مرحلة الشباب والمراهقة، وتتطابق مرحلة الوضعية مع مرحلة النضج والرجولة والاكتمال.
وتبقى هذه الصيرورة التاريخية صيرورة نسبية وإيديولوجية؛ لأن جميع المراحل والمجتمعات الإنسانية قد أخذت بهذه الأنماط التفكيرية الثلاثة حتى لدى الشعوب القديمة. وإذا أخذنا الفكر العربي في العصر الوسيط، فنجد اهتماما كبيرا بالفكر الوضعي التجريبي. وفي الوقت نفسه، كان الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي سائدين ومتجاورين  في المجتمع جنبا إلى جنب. ثم، لايمكن للفكر أن يتوقف في لحظة معينة، كتوقف التاريخ عند فوكوياما، أو توقف المجتمع البشري عند كارل ماركس حينما يصل إلى المرحلة الشيوعية. ومن جهة أخرى، ألفينا الوضعية العقلانية قد ساهمت في ظهور فلسفات غير وضعية وغير عقلانية، مثل: السريالية، والفرويدية، والوجودية، والتأويلية، والتحليلية المنطقية...
هذا، وقد أسس كونت الفيزياء الاجتماعية، ثم استبدلها بعلم الاجتماع(Sociologie).وبعد ذلك، أصبح هذا المصطلح شائعا في الثقافة الغربية، ثم تمثلته الثقافات الكونية الأخرى. وفي هذا، يقول كونت:" لدينا الآن فيزياء سماوية، وفيزياء أرضية ميكانيكية أو كيماوية، وفيزياء نباتية، وفيزياء حيوانية، ومازلنا في حاجة إلى نوع آخر وأخير من الفيزياء وهو الفيزياء الاجتماعية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة باعتبار هذه الظواهر من روح الظواهر العلمية والطبيعية والكيميائية والفسيولجية نفسها من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة[16]".
وقد قسم أوجست كونت علم الاجتماع إلى قسمين: قسم ستاتيكي يدرس الظواهر المجتمعية في حالتها الساكنة والثابتة والنسبية، كدراسة النظم الاجتماعية الجزئية (النظام الأسري، والنظام التربوي، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي...)، بالتركيز على العلاقات الترابطية والسببية بين المتغيرات ؛ وقسم ديناميكي، يدرس التغير وحركة المجتمع عبر الصيرورة الزمنية أو التصور الدياكروني والتاريخي.
علاوة على ذلك، فقد صنف كونت العلوم إلى ست مجموعات: أولها الرياضيات، ثم الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الحياة، وعلم الاجتماع أو الفيزياء الاجتماعية. وبالتالي، فالرياضيات مفتاح العلوم جميعا، أما علم الاجتماع، فهو آخرها وتاجها جميعا، و" تلك حقيقة، إذ إن الرياضيات هي أول العلوم، فقد توصل إليها اليونانيون، ثم تلاها علم الفلك الذي ظهر على يد كوبنرك وكبلر وغاليلو، ثم الفيزياء التي ظهرت في القرن السابع عشر عند لافوازييه (Lavoisier)، ثم علم الأحياء في القرن التاسع عشر عند بيشات (Bichat) وغيره، وأخيرا علم الاجتماع في القرن التاسع عشر على يدي أوغست كونت."[17]
ويلاحظ أن أوجست كونت قد صنف العلوم من المجرد(الرياضيات) إلى المحسوس العياني (علم الاجتماع).
وعليه، فقد جاءت وضعية أوجست كونت حلا للفوضى التي كانت تعيشها فرنسا إبان انتصار الثورة الفرنسية على الإقطاع، فنتج عن ذلك مجموعة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعرف المجتمع انقساما وتفككا وتصدعا وفوضى عارمة. لذلك، حاول كونت أن يوفق بين النظام والتقدم، أو بين رغبات المجموعة المحافظة، ورغبات البورجوازية التي كانت تناصر الثورة. لذا، جاءت الوضعية للدفاع عن النظام والتقدم، وتوظيف العلم لتحقيق أمن المجتمع وسلامته. لكنه لم يوظف الفكر العلمي باعتباره نظرية لتحقيق ذلك، بل استخدمه سلاحا إيديولوجيا ليس إلا. وفي هذا، تقول وسيلة خزار:" وعلى الرغم من إيمان كونت بالمنهج الوضعي، إلا أنه لم يلتزم أساسياته، بل حوله إلى سلاح إيديولوجي، فقد حاول إقصاء الجماهير عن إدارة المجتمع وتنظيمه، وعن رسم السياسة العليا له، على أساس أن هذه الوظيفة هي وظيفة علماء الاجتماع وخبراء التنظيم؛ فهذه الصفوة هي السلطة النهائية القادرة على رسم الطريق الصحيح لتحسين حالة أبناء الطبقات الدنيا، وذهب إلى أنه ليس من حق الجماهير التساؤل عن أشياء تعلو قدراتهم ومؤهلاتهم".[18]
وهكذا، يتبين لنا بأن وضعية كونت، على الرغم من طابعها العلمي، فهي تحيز واضح إلى ماهو محافظ وساكن وثابت، مع رفض التغيير باسم الثورة، بيد أنها تقبل الإصلاح. وفي هذا السياق، يقول نبيل السمالوطي:" الوضعية في الوقت ذاته فلسفة إيجابية كما يدل على ذلك اسمها(Positivisme). والإيجاب هنا يعني قبول الأوضاع الراهنة، والوقوف منها موقف الرضا والتأييد، والعمل على الدفاع عنها ضد أي اتجاه. أي: إلى تغييرها تغييرا جذريا، فالوضعية لم تكن تعارض الإصلاح، بل التغيير، ولكن ذلك كله كان يجب أن يتم في إطار ماهو قائم وما هو موجود، محاولة كسر هذا الإطار والثورة عليه كانت مخالفة تماما لروح الفلسفة الوضعية."[19]
وخلاصة القول، اهتمت الوضعية عند أوجست كونت بدراسة الظواهر النسبية غير المطلقة، بالتوقف عند العلاقات الثابتة بين الوقائع والظواهر، في إطار ترابطها السببي، بغية استخلاص قوانينها وقواعدها النظرية والتطبيقية. ومن ثم، يمكن القول بأن أوجست كونت يعد من أهم مؤسسي علم الاجتماع الوضعي، ومن السباقين إلى الأخذ بمنهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بتمثل منهجية الفيزياء والبيولوجيا والفيزيولوجيا والكيمياء في التعاطي مع الظواهر المادية، مع الاعتماد على مجموعة من الخطوات العلمية، مثل: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والتاريخ.

المطلب الخامس: إميل دوركايم وتسييد المنهج التفسيري

 يعد إميل دوركايم (Emile Durkheim)[20] من مؤسسي علم الاجتماع في الثقافة الغربية، وهو الذي دعا إلى استقلالية هذا العلم عن باقي العلوم والمعارف الأخرى. كما يظهر ذلك جليا في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع).
 ومن ثم، أرسى دوركايم علم الاجتماع على مجموعة من القواعد، مثل: ملاحظة الظواهر المجتمعية على أساس أنها أشياء أو موضوعات مادية، يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية. وفي هذا النطاق، يقول دروكايم: "إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء..لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء...وإذاً، يجب علينا أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا...إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء."[21]
والقاعدة الثانية أن يتحرر عالم الاجتماع بصفة مطّردة من كل فكرة سابقة، بممارسة الشك المنهجي قصد الوصول إلى اليقين كما قال ديكارت (Descartes).
والقاعدة الثالثة دراسة الوقائع المجتمعية التي تشترك في خواص معينة دراسة علمية موضوعية، بملاحظتها، وتصنيفها، وتفسيرها.
وتتمثل القاعدة الرابعة في دراسة الظواهر المجتمعية التي تتميز بالتكرار، والاطّراد، والعمومية، والجبرية، والإلزام... بملاحظتها خارجيا، بعيدا عن العوامل الفردية والسيكولوجية.
 والقاعدة الخامسة هي التفريق بين الظواهر المجتمعية السليمة وبين الظواهر المجتمعية المعتلة.
والقاعدة السادسة هي تصنيف المجتمعات من حيث البنية والوظيفة. 
 هذا، وقد تبنى دوركايم منهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بالتشديد على العلاقة السببية بين الظواهر المرصودة. وفي هذا، يقول دوركايم: " فكل ما يطالب به هذا العلم هو أن يعترف الناس بأن قانون السببية يصدق أيضا على الظواهر الاجتماعية. ولكن علم الاجتماع لايقرر هذا القانون على أنه ضرورة منطقية؛ بل يقرره فقط على أنه فرض تجريبي أدى إليه استقراء مشروع. فإنه لما ثبت صدق قانون السببية في نواحي الطبيعة الأخرى، وامتد سلطانه شيئا فشيئا من العالم الطبيعي الكيميائي إلى العالم البيولوجي، ومن هذا العالم الأخير إلى العالم النفسي حق لنا التسليم بأنه يصدق أيضا على العالم الاجتماعي. ويمكننا من الآن أن نضيف الحقيقة الآتية وهي: أن البحوث التي تقوم على أساس هذا المبدأ تميل بنا إلى تأكيد صحته...
إن طريقتَنا طريقةٌ موضوعية. وذلك لأنها تقوم بأسرها على أساس الفكرة القائلة بأن الظواهر الاجتماعية أشياء، ويجب أن تعالج على أنها أشياء، ولاشك في أن مذهب كل من سبنسر وأوجست كونت يقوم على أساس هذه الفكرة نفسها. وإن وجدت لديهما على صورة مختلفة بعض الشيء."[22]
إذاً،  يقوم المنهج التفسيري في علم الاجتماع على إبعاد الذاتية، والتخلص من النزعة الـتأملية في البحث، واستعمال التجريب، وتكرار الاختبارات، والاحتكام إلى الجبرية الاجتماعية التي تستند إلى الحتمية، والعمومية، والضغط الخارجي،  والعقاب المجتمعي، والابتعاد عن التصورات المسبقة، والتخلص من الأفكار الشائعة بنقدها وغربلتها علميا وموضوعيا. وفي هذا، يقول دوركايم: "إن القاعدة التي ننطلق منها لا تفترض أي تصور ميتافيزيقي، ولا تتتضمن أي نظر تأملي في كنه الموجودات. إن ما تطلبه هو أن يضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبيه بالوضع الذي يكون عليه الفيزيائيون والكيميائيون والفيزيولوجيون، حينما ينخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن ميدانهم  العلمي. فعلى عالم الاجتماع، بدوره، وهو يحاول النفاذ إلى المجتمع أن يعي بأنه ينفذ إلى عالم مجهول. وعليه، أن يشعر بأنه، أيضا، إزاء وقائع غير منتظرة مثلما كائن عليه وقائع الحياة، قبل أن تتشكل البيولوجيا كعلم."[23]
يقوم التصور الوضعي عند دوركايم على التخلص من الخطاب التأملي الذاتي والفلسفي، وتبني مناهج العلوم الطبيعية المبنية على التجريب، والملاحظة الخارجية الدقيقة، والمقارنة العلمية (التجربة غير المباشرة)، أو الارتكان إلى الخطوات المنهجية التالية: التعريف بموضوع الدراسة، وملاحظة الظواهر بإعادة بنائها بناء علميا، وتنظيم الوقائع في ضوء استكشاف العلاقات التي تتحكم في المتغيرات المستقلة والتابعة، والالتزام بالخاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية.
 وعليه، يعتمد الموقف الوضعي على منهجية استقرائية تجريبية، وينطلق من مشكلات اجتماعية، وفرضيات علمية، والاستعانة بالتجريب التكراري والترابطي، واستثمار الإحصاء الرياضي، واستخلاص القوانين والنظريات. وفي هذا، يقول السوسيولوجي الفرنسي كلود بابييه (Jean Claude Babier): "إن السوسيولوجيا هي علم، وذلك بالتحديد، لأن من يمارسون البحث السوسيولوجي يسعون إلى القيام به بروح علمية...فالسوسيولوجيا تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد التي تتمفصل ضمن نظريات أو أبنية نظرية. وذلك من أجل كشف الظواهر الاجتماعية الي تقدم نفسها لعلماء الاجتماع ولمعاصريهم، بوصفها مشكلات اجتماعية.
فالمظهر الأول للعمل الاجتماعي هو، إذاً، تعيين المشكلة أو المشكلات الاجتماعية التي يتعين دراستها.. وتفسير الظواهر الاجتماعية يتم بالاعتماد على نظريات تشكل أنساقا وأبنية تقوم على قضايا منظمة بشكل عقلي. تقابل تلك الأبنية بوقائع تجريبية، وتتطور تبعا لمقابلتها بوقائع ومعطيات اختبارية أو تجريبية. كما تقوم تلك النظريات على مسلمات، أي على جملة من القضايا الأساسية غير مبرهن عليها، تعتبر بمثابة قضايا بديهية...وتحدد هذه المسلمات، بدورها، نموذجا نظريا. أي: إطارا تصوريا شاملا...
والسوسيولوجيا تقوم على ثلاث مسلمات، وتعتمد نموذجين نظريين أساسيين:
المسلمة الأولى: يشكل الإنسان نوعا وحيدا أو ثابتا لايتغير في الزمان...
المسلمة الثانية: يشكل مجموع الوقائع الاجتماعية (المجال الاجتماعي) مجالا خارجيا بالنظر إلى الفرد...
المسلمة الثالثة: ينطوي تنظيم الوقائع الاجتماعية على معنى يجري كشفه عن طريق تطبيق مناهج الفكر العلمي..."[24]
وهكذا، نجد إميل دوركايم، في كتابه (الانتحار)[25]، ينطلق من نتيجة أساسية، وهي أن الانتحار ليست ظاهرة نفسية أو عضوية، بل هي ظاهرة مجتمعية، مرتبطة بتقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي الصناعي. وبالتالي، يتحدد معدل الانتحار بحسب درجة اندماج الأفراد في الجماعة، والعلاقة بينهما علاقة علية أو سببية.

المبحث الثاني: علـم الاجتماع في ضـوء منهج الفهـم:

لايمكن إدراك منهج الفهم وتمثله واستيعابه إلا بتعريف مصطلح الفهم، في سياقه الفلسفي والعلمي والإبستمولوجي، مع ذكر بعض النماذج السوسيولوجية التي اعتمدت على المقاربة التفهمية على النحو التالي:

المطلب الأول:  معنى  الفهم

يستند المنهج التفهمي إلى مبدأ الفهم (Compréhension) الذي يناقض مبدأ التفسير الذي نجده عند الوضعيين. فالخاصية المميزة للفهم هي البداهة والوضوح والاستبصار، وإدراك التجربة المعاشة إدراكا مباشرا، دون إخضاعها للتفسير العليَ، أو تفسيرها بالارتباط السببي. أي: ندرك بعض الحوادث والوقائع بالبداهة والمباشرة، دون التعمق في الأسباب والعلل، وتفسير الوقائع تفسيرا علميا موضوعيا للبحث عن الحتمية أو الجبرية بين الوقائع المدروسة. ويقصد بالفهم "الإحاطة بدلالة النشاط الإنساني ومعناه والهدف منه. فنشاطات الإنسان تملك معنى، أي تملك هدفا، وفي علوم الإنسان، ينبغي فهم المعنى (sens) والدلالة (signification) والهدف.[26]"
يتبين لنا، مما سبق، بأن الفهم هو رصد معنى الفعل الإنساني داخل المجتمع، واستجلاء معانيه ومقاصده وأهدافه وغاياته وأغراضه. أي: تفكيك الوعي، ومراعاة مقصدية الفاعل، واستكشاف دلالات الرموز و الأفعال داخل بنية المجتمع.
ومن هنا، يقول السوسيولوجي الفرنسي جول مونرو(Jules Monnrot):" فالخاصية المميزة لظاهرة الفهم هي البداهة والوضوح. وما يكون موضوع تفهم يكون على قدر من الوضوح، بحيث يكون كافيا ومكتفيا بذاته. فمن المستحيل سيكولوجياً الشك في البداهة، بل يتعين التسليم بها. فالبداهة تأخذ شكل معرفة مباشرة حالما عرضت لنا بوصفها بداهة. وكل محاولة نقوم بها لتأسيس البداهة على أساس الاستقراء هي محاولة ستفضي إلى تقويضها... ففعل الفهم فعل معرفي مباشر، وعلينا أن نقول عن الفهم ما يقوله باسكال عن روح الدقة، فهو رؤية نافذة، وإدراك مباشر. إن الفهم هو إدراك لدلالة معاشة، تعطى لنا بمثابة تجربة بديهية...والفهم بالمعنى الذي نشير إليه في هذا المقام، هو دوما فهم لوضعية وجودية وجدانية، فنحن نستطيع تفهم وضعية ما أو فهم تطورها وبخلاف العلاقات القابلة للفهم، فإن العلاقات التفسيرية هي علاقات...تقوم على الاعتقاد بصحة جملة من الطرائق والإجراءات الموضوعية. فالفهم هو بداهة مباشرة. في حين، إن التفسير هو تبرير أو تعليل حدودث ظاهرة ما بافتراض ظاهرة أخرى."[27]
وعليه، إذا كان التفسير هو إدراك للعلاقات العلية والسببية بين الظواهر المدروسة ضمن المنظور الوضعي، فإن الفهم هو معرفة بالذات في علاقتها بالوجود. أي: إن الفهم معرفة واضحة وبديهية ومباشرة، تساعدنا على إدراك تجارب الذات إدراكا واضحا. أضف إلى ذلك، أن الفهم فعل ذاتي شعوري ووجداني داخلي، مرتبط بالذات العارفة أو الذات الفاهمة التي تسعى جاهدة لإدراك الواقع مباشرة، دون المرور بالوقائع العلمية أو السببية، أو اللجوء إلى الاستقراء التجريبي. وعلاوة على ذلك، يرتبط الفهم بالمعنى والدلالة والمقصدية والغاية.
وبما أن الفعل الإنساني فعل إرادي وواع، لايتكرر، وغير مطرد، فيصعب دراسته دراسة علمية تفسيرية. ومن الأفضل، الاكتفاء بفهم الفعل الإنساني وتأويله، بالنظر إليه بمثابة واقعة إنسانية دالة، وليس معطى فيزيائيا أو تجريبيا، ينبغي دراسته دراسة موضوعية، بل ينبغي دراسة الفعل الإنساني ضمن عناصره الدالة في نماذج وعبر أنماط مثالية، وليس من خلال أنساق مادية.
ويعني هذا أن الفهم هو إدراك للأفعال الإنسانية بفهمها وتأويلها، والتعبير عن التجارب الإنسانية بطريقة المشاركة والمعايشة والحدس، أو إدراك السلوك المجتمعي باعتباره تعبيرا رمزيا لنسق من المعاني.
ويعرف فلهلم ديلتاي (W.Dilthey) الفهم بكونه تجربة جوانية وحدسية داخلية، تقوم على العلامات الحسية التي تكون انعكاسا لهذا الباطن الداخلي: "نطلق اسم الفهم على السيرورة التي نعرف من خلالها ماهو جواني(باطني)، اعتمادا على علامات ندركها من الخارج بواسطة حواسنا.فحين أقول، مثلا، لم أفهم كيف تصرفت بهذه الكيفية، أو حين أقول أيضا: إنني لم أعد أفهم نفسي، فإنني أعني بذلك، في الحالة الأولى، أن مظهرا من مظاهر ذاتي الذي اندغم في العالم الحسي، أضحى يبدو لي كما لو أنه يصدر عن قوة غريبة عن ذاتي، وأنني عاجز عن تأويله كما هو، وفي الحالة الثانية أعني بذلك أنني دخلت في حالة غريبة، لاعهد لي بها.وترتيبا على ذلك، فنحن نطلق اسم الفهم على السيرورة التي نعرف بواسطتها ما هو نفسي باطني اعتمادا على علامات حسية تعتبر تجليا أو مظهرا له."[28]
وهكذا، يتبين لنا بأن الفهم عبارة عن معرفة ذاتية وداخلية للموضوع المدرك، مع رصد دلالاته ومعانيه ومقاصده، كما يتبدى لنا ذلك من خلال ملامح الحسية المباشرة.
ويمكن القول بأن الفهم مرتبط بسؤال (لماذا؟). أما التفسير فيرتبط بسؤال (كيف). ومن ثم، تحضر الذات في عملية الفهم في دراستها للذات. وهنا، يمكن الحديث عن المقترب الذاتي أو المعايشة الذاتية للموضوع المدرك (الحضور الذاتي). أما في عملية التفسير، فتلتزم  الذات بالحياد تجاه موضوعها. وهنا، يمكن الحديث عن المقترب الموضوعي أو الغياب الموضوعي. وإذا كان الفهم ينكب على المعنى في ارتباطه بالوضعيات السياقية، فالتفسير ينكب على الدلالة بعيدا عن وضعها السياقي.
وعليه، فالفهم هو بمثابة قراءة تأويلية للوقائع والنصوص في وضعها السياقي المدرك. ومن ثم، يختلف الفهم والتأويل من سياق إلى آخر.

المطلب الثاني:  فلهليم ديلثاي ومنهج الفهـم

يعد فلهلم ديلثاي (W.Dilthey) [29] من أهم الفلاسفة الألمان الذين انتقدوا الوضعية العلمية، كما يتجلى ذلك واضحا عند استيوارت ميل (John Stuart Mill) وأوجست كونت(Auguste Comte)، ولاسيما في كتابه (مدخل إلى علوم الروح) الذي نشره سنة 1883م، ويعد أيضا من الرواد الأوائل الذين تبنوا المقاربة الهيرمونطيقية في العلوم الاجتماعية. وقد دافع ديلثاي عن استقلال العلوم الإنسانية، ولاسيما العلوم التاريخية والعلوم الاجتماعية، عن العلوم الوضعية أو العلوم الفيزيائية. وقد سمى ديلثاي العلوم التي تتضمن النزعة التاريخية بعلوم الروح، مثل: علم الاجتماع، وعلم التاريخ، وعلم الثقافة...وبذلك، أحدث قطيعة إبستمولوجية مع العلوم الوضعية التي مجالها الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا...ومن ثم، يكون من الباحثين الأوائل الذين فرقوا بين علوم التفسير وعلوم الفهم، ودافعوا عن الفهم والتأويل. وقد تأثر بقولة نيتشه (Nietzsche):" ليست هناك وقائع، بل مجرد تأويلات". وبذلك، يكون نيتشه قد انتقد بدوره وضعية أوجست كونت، إذ اعتبر التاريخ عبارة عن مجموعة من الآراء على آراء. وبذلك، قد يكون قد مهد للنزعة الذاتية التفهمية.
بيد أن هذا التمييز بين الفهم والتفسير كان واضحا وجليا مع ماكس فيبر الذي قال قولته المشهورة:" نفسر الطبيعة، ونفهم الحياة النفسية." ومن ثم، يهتم ديلثاي بالسببية، بيد أنها سببية المقاصد والنوايا والغايات والمعاني. أي: يبحث في التاريخ عن آثار المعنى.ومن هنا، يرتبط الفهم عند ديلثاي بعالم الروح أو عالم الوعي. في حين، يرتبط التفسير بالمادة وعالم الطبيعة والأشياء.

المطلب الثالث: ماكس فيبر ومنهج الفهم

لايمكن فهم التصور المنهجي لدى ماكس فيبر(Max Weber)[30]  إلا باستعراض مجموعة من القضايا الأساسية في تصوره السوسيولوجي على الوجه الموالي:

الفرع الأول: تعريف السوسيولوجيا

يعد ما كس فيبر  من أهم السوسيولوجيين الألمان الذين أخذوا بمنهج الفهم. وهدف السوسيولوجيا عند ماكس فيبر هو فهم الفعل الاجتماعي وتأويله، مع تفسير هذا الفعل المرصود سببيا بربطه بالآثار والنتائج. ويقصد بالفعل سلوك الفرد أو الإنسان داخل المجتمع، مهما كان ذلك السلوك ظاهرا أو مضمرا، صادرا عن إرادة حرة أو كان نتاجا لأمر خارجي[31]. ومن ثم، يتخذ هذا الفعل -أثناء التواصل والتفاعل - معنى ذاتيا لدى الآخر أو الآخرين، مادام هذا الفعل الاجتماعي مرتبطا بالذات والمقصدية. أي: الإجابة عن سؤال جوهري ألا وهو: كيف يرى الناس سلوكهم ويفسرونه؟بمعنى أن " الفعل الإنساني عند فيبر هو السلوك الذي يحمل دلالة ومعنى وهدفا. وأما الفعل المجتمعي، فهو السوك الذي يسلك تجاه الآخرين من خلال مايراه، في سلوك الآخرين، من دلالة ومعنى وهدف."[32]
وإذا كان إميل دوركايم يدرس الظواهر المجتمعية على أنها أشياء موضوعية، فإن ماكس فيبر يدرس الفعل أو السلوك الاجتماعي الذي يتحقق عبر التفاعل بين الذوات والأغيار، ويتخذ هذا الفعل معنى ذاتيا وغرضيا. ومن هنا، فقد انتقل ماكس فيبر بعلم الاجتماع من عالم الأشياء الموضوعية إلى الأفعال الإنسانية.أي: انتقل من الموضوع إلى الذات، أو من الشيء إلى الإنسان. كما تجاوز المقاربة الوضعية نحو المقاربة الهيرمونيطيقية التي تقوم على الفهم، والتفسير السببي، والتأويل الذاتي الإنساني. وبهذا، قد أحدث قطيعة إبستمولوجية، ضمن مسار علم الاجتماع، بتأسيس المدرسة التأويلية أو الهيرمونيطيقية أو سوسيولوجية الفهم (la sociologie compréhensive).
ويعني هذا - حسب نيقولا تيماشيف- " أن فيبر  كان يأمل لعلم الاجتماع أن يحتفظ بميزات العلوم الروحية. فضلا عن ميزات العلوم الطبيعية. وهذه الميزات- كما يذهب فيبر- تكمن في تحقيق ضرب من الفهم، يرتكز على الحقيقة التي مؤداها أن الكائنات البشرية تكون على وعي مباشر وإدراك تام ببناء الأفعال الإنسانية. ففي دراسات الجماعات الاجتماعية- مثلا- نستطيع أن نفهم الأفعال والمقاصد الذاتية للفاعلين الذين يمثلون أعضاء الجماعات.
أما في العلوم الطبيعية، فإننا لانستطيع أن نفهم - بهذه الطريقة- حركات الذرات، وكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نلاحظ فقط أو نستنتج الانتظام القائم بين هذه الحركات. ولقد عبر روبرت ماكفر (Maciver) عن التعارض القائم بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية بشكل أكثر وضوحا حينما قال: إن الوقائع الاجتماعية هي في نهاية الأمر وقائع مدركة. فحينما نعرف أسباب سقوط حكومة من الحكومات، أو تحديد سعر من الأسعار، أو أسباب حدوث إضراب من الإضرابات، أو انخفاض معدل المواليد في مجتمع من المجتمعات، فإن معرفتنا هذه ستكون مختلفة- في جانب هام وحيوي- عن معرفتنا لأسباب سقوط الأمطار، أو احتفاظ القمر دائما بالمسافة التي تفصله عن الأرض، أو ظروف تجمد السوائل، أو إفادة النباتات من النيتروجين، فالوقائع التي من النوع الثاني يمكن معرفتها فقط من الخارج، أما الوقائع التي من النوع الأول، فيمكن معرفتها- إلى حد ما- من الداخل."[33]
وبناء على ما سبق، يعرف ماكس فيبر السوسيولوجيا، في كتابه(الاقتصاد والمجتمع) قائلا: " علم الاجتماع هو العلم الذي يعنى بفهم النشاط الاجتماعي وتأويله، وتفسير حدثه ونتيجته سببيا[34]."
إذاً، يدرس علم الاجتماع الفعل أو العمل أو النشاط الاجتماعي. في حين، يدرس عند دوركايم الظواهر المجتمعية. فهنا،  البعد الإنساني الذاتي مقابل البعد الاجتماعي الموضوعي الشيئي. أي: حضور الذات في مقابل الموضوع.  ويرى فيليب كابان(Philipe Cabin) وجان فرانسوا دورتيه(Jean-François Dortier)  بأن السوسيولوجيا عند فيبر" هي علم بخصوص الفعل الاجتماعي. وهو يرفض الحتمية التي يمتدحها ماركس ودوركايم اللذان يحبسان الإنسان ضمن نسيج من الضغوط الاجتماعية غير الواعية، ويعتقد فيبر بأن هذه الضغوط وهذه الحتميات لاتعدو كونها نسبية.  ليس المقصود قوانين مطلقة، إنما توجهات تترك على الدوام مكانا للصدفة وللقرار الفردي. وهو يعتبر أن المجتمع نتاج لفعل الأفراد الذين يتصرفون تبعا للقيم والدوافع وللحسابات العقلانية.إن توضيح الاجتماعي يعني - إذاً- التنبه إلى الطريقة التي يوجه بحسبها الناس فعلهم.هذا النهج هو نهج السوسيولوجيا التفهمية. يقول فيبر:" إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي."[35]
ويعني هذا أن المجتمع يتكون من مجموعة من الأشخاص الذين يقومون بسلوكيات أو أفعال أو أعمال، وهذه الأفعال هي جوهر علم الاجتماع.ويعني هذ أن مقاربة ماكس فيبر مقاربة فردية، تدرس سلوك الفرد داخل المجتمع، في إطاره التفاعلي.ويعني هذا أن الإنسان كائن واع، يتصرف عن وعي وهدف، ولسلوكه معنى وقصد، على عكس الأشياء التي يمكن إخضاعها للدراسة العلمية. هنا، ضرورة فهم العالم في ضوء أفعال الفرد، وفهم مقاصدها وأهدافها ونواياها ودلالاتها. ويستوجب فهم العالم دراسة سلوك الأفراد داخل المجتمع، ورصد دلالات الأفعال ومعانيها ومقصدياتها. ويقترب هذا من البعد التواصلي التفاعلي.
إذاً، فالعلوم الوضعية علوم تفسيرية خارجية، والعلوم الإنسانية، بما فيها علم الاجتماع، علوم روحية تفهمية،  وعلوم تأويلية داخلية.
ويعني هذا أن علم الاجتماع هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، وكيف يعطي الناس فهما ذاتيا للعالم، وكيف يوجهون سلوكهم في إطار هذا النوع من الفهم. أي: فهم نوايا هذا الفعل الاجتماعي وأسبابه.ويعني هذا أن منهجه قائم على الفهم  بدل التفسير السببي أو العلي، كما نجد ذلك عند الوضعيين الذين ينتمون إلى المدرسة الدوركايمية. ويعني هذا حضور الذات المؤولة في الفعل الاجتماعي. ولايمكن فهم هذا الفعل السلوكي إلا في سياق تاريخي معين. ولايمكن فهم هذا السلوك الاجتماعي إلا ضمن ثقافة معينة مرتبطة بمجموعة من القيم المتعارف عليها.

الفرع الثاني: منهـج الفهم

ظهر منهج الفهم مع ماكس فيبر (Max Weber)، بعد أن بلوره فلهلم ديلثاي. ويتسم هذا التوجه المنهجي بالطابع الدلالي والتفهمي والتأويلي، والتركيز على الذات بدل الموضوع.أي: دراسة الفرد في علاقته بأعضاء الجماعة التي ينتسب إليها أو علاقاته مع المجتمع في كليته، بالتوقف عند مختلف الدلالات والمعاني والمقاصد والغايات والنوايا التي يعبر عنها هذا الفعل الإنساني والسلوكي، في علاقته بأفعال الآخرين، ضمن الكينونية المجتمعية نفسها. ومن ثم، يندرج تصور ماكس فيبر ضمن النظرة التفاعلية إلى المجتمع، فالأفراد يؤثرون في المجتمع بأفعالهم الواعية والهادفة، والمجتمع بدوره يؤثر في الأفراد.
وعليه، تسعى المقاربة التفهمية مع ماكس فيبر إلى فهم الظاهرة المجتمعية، باستخلاص دلالات أفعال الأفراد، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. وفي هذا السياق، يقول يير بريشيي (Pierre Bréchier)" إن فهم الفعل الإنساني، حسب فيبر، ليس مسعى سيكولوجيا، بل هو السعي إلى فهم السيرورة المنطقية التي تقود الفاعل الاجتماعي إلى اتخاذ قرار ما في ظرف خاص.إذ يتعين إعادة تشكيل المنطق العقلي للفاعل، كما ينبغي، أيضا، فهم الجانب اللاعقلي في سلوكه، تبعا للأهداف التي يتوخاها والوسائط التي يتوسلها، من أجل التوصل إلى فهم تفسيري للفعل.[36]"
وللتوضيح أكثر، إذا كان علم الاجتماع عند إميل دوركايم يعتمد على المقاربة الوضعية التي تتعامل مع الظواهر الاجتماعية تعاملا علميا موضوعيا، على أساس أن الظواهر الاجتماعية مثل الأشياء المادية، ينبغي دراستها كالعلوم الطبيعية، بعد التخلص -أولا- من الأفكار المسبقة، وبناء الفرضيات العلمية، واللجوء إلى التجريب، وتمثل الإحصاء في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها، بغية إصدار القوانين والنظريات وتعميمها؛ فإن ماكس فيبر يعتمد منهجا تأويليا أو هيرمونيطيقيا يستند إلى الفهم ( دراسة المعنى الداخلي)، والتأويل ( إدخال الذات والمرجع على مستوى القراءة). ويعني هذا أن الفعل الاجتماعي أو الفعل الإنساني مرتبط بثقافة مجتمعية معينة. وبالتالي، لايمكن دراسة الثقافة أو الإنسان من خلال المنهج الوضعي، بل لابد من تمثل مدرسة الفهم أو الهيرمونيطيقا في ذلك. أضف إلى ذلك، أن الظاهرة الإنسانية مرتبطة بمجموعة من الأسباب، وليس بسبب واحد.لذا، يصعب تطبيق المنهج الوضعي على الظاهرة الاجتماعية التي يحضر فيها الإنسان باعتباره فاعلا ومنفعلا، وكائنا واعيا ومتغيرا.
ويستند منهج الفهم إلى ركيزتين أساسيتين هما: المثال ونسق المعاني. فالمثال إجراء عملي  ينظر إلى الظاهرة المجتمعية نظرة كلية، باستخدام الحدس والإدراك المباشر. وفي المقابل، ينظر منهج التفسير إلى الظواهر في طابعها الذري، بتفتيتها إلى أجزاء وعناصر. كما أن المثال نموذج عقلي ومنطقي ومثالي،  صالح لوصف الوقائع الواقعية المعطاة، بالتركيز على مكوناتها وسماتها وعناصرها، وإبراز خصائصها المشتركة والمميزة والمترابطة فيما بينها. كما يجسد المثال الواقع المرصود، ويختزله في نموذج فكري واضح ومتسق ومنسجم. ومن ثم، فهدف الفهم هو البحث عن معنى العناصر المكونة للواقع المجتمعي، واستكشاف دلالاتها الرمزية بتأويلها وإدراكها إدراكا مباشرا.ويعني هذا أن الفهم يدرك الظواهر المجتمعية إدراكا سليما، ويحس بها إحساسا مباشرا، ويدركها دون معالجات تجريبية أو تفسيرية أو إحصائية، ودون أي استدلال أو استنتاج مباشر. وهي تظهر للعقل ظهورا بديهيا، كما لو كانت يقينا لايضيف إليه الاستدلال شيئا[37].
أما في ما يخص الركيزة الثانية، فيمكن القول بأن الفعل الاجتماعي يتضمن نسقا رمزيا، يحمل في طياته دلالات ثاوية، ندركها عن طريق الفهم والـتأويل، انطلاقا من تجاربنا وحضورنا الذاتي في هذا العالم. ومن ثم، يكون الهدف الأساس هو الوصول إلى وحدة المعنى أو الفكرة التي تتحكم في هذا الفعل، واستجلاء مختلف النوايا والمقاصد والأهداف التي كانت تتحكم في نشأة هذا الفعل أو السلوك المجتمعي.
ويمكن القول أيضا بأن منهجية ماكس فيبر تعارض منهجية ماركس؛ لأن المنهجية الفيبيرية منهجية هيرمينوطيقية تعتمد على الفهم والتأويل، والاهتمام بالفاعل الفردي (الميتودولوجيا الفردية).في حين، تعتبر سوسيولوجية ماركس بنائية، تركز على الفاعل الجماعي، وتعطي للعوامل المادية أهمية كبيرة، على أساس أن البنية التحتية (البنية الاقتصادية ) هي التي تتحكم في البنية الفوقية والإيديولوجية( الفن، والدين، والسياسة). أما ماكس فيبر، فيرجع ماهو مادي إلى ماهو ديني وفوقي، كما وضح ذلك جليا في كتابه ( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)[38]، حيث بين أن القيم البروتستانتية الكالفانية هي التي ساهمت في بروز الرأسمالية العقلانية. أما ماركس فقد ركز على العوامل المادية والاقتصادية في ظهور هذه الرأسمالية[39]. وإذا كان ماركس قد ثار على الدين، فإن ماكس فيبر قد دافع عن فلسفة الأديان، وخاصة البروتستانتية، دعامة العقلانية والبيروقراطية والرأسمالية والحداثة الغربية. ومن ثم، تدعو البروتستانتية إلى ابتغاء الكسب المثمر، وتنمية الرأسمال، وفق دوافع سيكولوجية ومبادىء أخلاقية، مثل: الحرص، والشح، والاستثمار، وعدم التبذير، وحب العمل، ولاسيما أن المذهب البروتستاتي الذي ظهر مع مارتن لوثر  يمجد العمل باعتباره غاية للحياة وفريضة من الله." إن من لايعمل لن يأكل" كما قال القديس بولس.  ولذلك، يجتهد البروتستانتي في العمل كي لاتلحقه لعنة الله. وكما تمتاز الأخلاق البروتستانتية بتمجيدها للعمل، تمتاز أيضا بدعوتها إلى التقشف والاستثمار والادخار.وتلك هي الأسس الرئيسية التي قامت عليها الرأسمالية الحديثة...
وخلاصة القول: إن فيبر يرى أن المذهب البروتستانتي، ولاسيما مذهب كالفين(Calvin)، قد خلق ما يسمى " بأخلاق المهنة" المعتمدة على نزعة صوفية تجتهد في جمع النقود واستثمارها في المشروعات التجارية والصناعية، بروح مطمئنة، تعتبر النجاح في الدنيا دليلا على رضا من الله ورضوان.[40]
وعليه، إذا كان إميل دوركايم يدرس الظواهر الاجتماعية دراسة علمية وضعية، على أساس أن هذه الظواهر تشبه الأشياء.لذا، لابد من دراستها في ضوء علوم الطبيعة، فإن ماكس فيبر الذي تأثر كثيرا بالمقاربة الهيرمونيطيقية، كان يميز بين علوم الطبيعة وعلوم الثقافة. ومادام علم الاجتماع  يدرس الفعل الاجتماعي عند الأفراد والجماعات، فهو أقرب إلى علم الثقافة منه إلى علم الطبيعة. في حين، يمكن دراسة الاقتصاد السياسي دراسة علمية، بالاستفادة  من علوم الطبيعة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على الاختلاف المنهجي في دراسة العلوم الإنسانية، بالتشديد على التساؤل التالي: هل يمكن دراسة علوم الروح دراسة وضعية أم أنها علوم مستقلة بذاتها؟
وفي هذا الصدد، يقول السوسيولوجي الفرنسي جوليان فروند(1921-1983م):" يشكل النزاع المنهجي الذي قسم الجامعيين الألمان في أواخر القرن التاسع عشر خلفية التأمل الإبستمولوجي لماكس فيبر...موضوع خلاف يتعلق بوضع العلوم الإنسانية: هل ينبغي إخضاعها لعلوم الطبيعة، كما يريد أنصار الوضعية، أم بالعكس تأكيد استقلاليتها؟ بالطبع، سرعان ماتحول هذا الجدال إلى مناقشة حول تصنيف العلوم، وفي هذا الخصوص انتهى أنصار استقلالية العلوم الإنسانية بدورهم إلى التعارض.فقد اعتبر البعض، منهم ديلثي (Dilthey)، أن مبرر هذا التصنيف هو اختلاف الموضوع، على أساس التمييز بين عالم الطبيعة وعالم الفكر أو التاريخ. فالواقع يقسم إلى قطاعات مستقلة يوجه كل منها فئة خاصة من العلوم. في حين، إن البعض الآخر، ومنهم ويندلبند (Windelband) وريكيرت (Rickert)، يرفض تجزئة الواقع الذي يبقى واحدا هو ذاته دوما، ويقترح هؤلاء أساسا منطقيا لدراسة الواقع، حيث يسعى العالم إما إلى معرفة العلاقات العامة أو القوانين، وإما إلى معرفة الظاهرة بخصوصيتها؛ وهكذا يكون هناك منهجان رئيسيان، واحد يمكن تسميته بالعام، والآخر بالخاص..مهما يكن التمييز بين العام والخاص، فمن الخطأ القول: إن علوم الطبيعة تستخدم عمليا المنهج الطبيعي أو المنهج العام فقط، وأن علوم الثقافة تستخدم المنهج التاريخي أو الخاص فقط. لايتمتع أي من هذين المنهجين بامتياز أو تفوق بالنسبة إلى الآخر.وينكر فيبر، الملتزم بروح الإبستمولوجيا الكانطية، أن يكون بوسع المعرفة أن تكون صورة للواقع أو نسخة كاملة عنه، سواء بمعنى المدلول، أو بمعنى المفهوم. فالواقع لامتناه ولايفنى. وبناء عليه، فالمشكلة الأساسية لنظرية المعرفة هي مشكلة العلاقات بين القانون والتاريخ، بين المفهوم والواقع.وأيا يكن المنهج المعتمد، فإن كل واحد يقوم بعملية انتقاء من التنوع اللامحدود للواقع التجريبي."[41]
وقد أثبت رايمون أرون (R. Aron) بأن منهج ماكس فيبر السوسيولوجي يرتكز على ثلاثة مقومات أساسية هي: الفهم، والتاريخ، والثقافة.[42]
وخلاصة القول، يعتمد ماكس فيبر على منهج الفهم في دراسة السلوك الاجتماعي، ورصد أشكال الهيمنة والسلطة، ويعني هذا أنه من مؤسسي مدرسة الفهم في علم الاجتماع. ويعني هذا أن منهجية ماكس فيبر تهدف إلى فهم معنى التفاعلات السلوكية للأفراد داخل المجتمع.أي: يدرس علم الاجتماع العمل الاجتماعي (Action social) الذي يقصد به مجموعة من الوسائل التي يستند إليها المجتمع للحفاظ على اتساقه وانسجامه، وخاصة الوسائل القانونية والتنظيمية أو الأعمال التي تدفع الأفراد والجماعات التي تعيش نوعا من الهشاشة إلى العيش الكريم، والانصهار في وحدة المجتمع.
وقد تبلور هذا المنهج القائم على دراسة التفاعلات القائمة بين الأفراد في كتابه( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) الذي نشره في شكل مقالين سنتي1904و1905م، حيث درس فيهما أثر العوامل الدينية في ظهور العقلانية، وكيف ساهم الإصلاح البروتستانتي في نشأة الاقتصاد الرأسمالي المادي. ومن ثم، فقد ركز ماكس فيبر على العقلانية، واعتبرها مظهرا من مظاهر الحضارة الغربية، وقد جاءت مرافقة لنشوء الرأسمالية (الاقتصاد العقلاني) والبيروقراطية (الإدارة العقلانية).
ومن هنا، فالدين البروتستناتي، باعتباره فعلا إيجابيا،  هو المحرك الحقيقي للعقلانية والحداثة والاقتصاد الرأسمالي، وقد أهلته لقيادة حداثة كونية و تقديم نظرة عقلانية لرؤية العالم،. وهذا ما يجعل ماكس فيبر من مؤسسي علم اجتماع الأديان.

الفرع الثالث: النمـط المثالـي أسـاس الفهـم

النمط المثالي(L’idéal-type) - عند ماكس فيبر- مفهوم مجرد، أومقولة وصفية عامة تساعدنا على فهم مجموعة من الظواهر والتنظير لها، وليس من الضروري أن تكون خصائص هذا النمط متوفرة دائما، وبشكل جيد، في الظواهر الملاحظة والمدركة. ومن ثم، فهدف النمط المثال هو تكوين نموذج للظاهرة الاجتماعية أو منظور هادف لها. وبعد ذلك، استعمل المفهوم من قبل منظري المنظمات الاجتماعية للإشارة إلى الدراسات التجريبية المتعلقة بالبيروقراطية. ولايحيلنا مفهوم المثالي على الجودة والإتقان والحكم الإيجابي، بل هو دليل لبناء الفرضيات، ونموذج لفهم الظواهر المدركة في الواقع، أو تعبير عن الفكر المنظم. بمعنى أن النمط المثالي هو نتاج لعملية تركيبية لمجموعة من السمات والمواصفات لظاهرة مجتمعية ما، تكون مجردة وعامة، وتصنيفها ضمن نموذج فكري وعقلي ومنطقي متسق. وللتمثيل، حينما ندرس البيروقراطية، فإننا ندرسها في مجالات متعددة، وفي أمكنة مختلفة، لكننا نتحدث عنها بطريقة مثالية عامة، بالتركيز على خصائصها ومميزاتها المجردة والمشتركة في عمومها، لقولبتها ضمن نموذج مفهومي ووصفي ما.أضف إلى ذلك، أن النمط المثالي هو نتيجة لمجموعة من المقارنات والعمليات الوصفية لظاهرة مجتمعية ما. وبالتالي، فالمثالي لاعلاقة له بالقيمة، بل يرتبط بمنظومة من الخصائص والأوصاف والسمات المشتركة الناتجة عن محلاظة ظاهرة ما. وبتعبير آخر، يعني النمط المثالي تجريد أو تحويل الظاهرة المجتمعية المدركة والملاحظة إلى نموذج ذهني مجرد في شكل خصائص ومكونات وسمات مشتركة مجردة وعامة.أي: الانتقال من المحسوس إلى المجرد المثالي. فحينما يرصد الملاحظ ظاهرة مدركة ما، ومعزولة، فإنه يختزلها في مجموعة من المكونات والخصائص والسمات العامة والمجردة لبناء نمطها المثالي والمفهومي.
إذاً،  فالأنماط السلوكية، كالسلوك العقلي، والسلوك اللاعقلي، والسلوك القيمي العقلي، والسلوك العاطفي، بمثابة " نماذج أو أفكار عقلية مثالية: هي مثالية بمعنى أنها ليست صادرة من الحياة الاجتماعية الواقعية، لابمعنى أنها صادرة من ماهيات مجردة ك" مثل" أفلاطون مثلا.إنها نماذج مثالية لكونها مشتقة أساسا من الحقيقة التاريخية، تلك الحقيقة المعقدة جدا، والتي تعتبر هذه التصنيفات السلوكية مجرد تبسيط لها. ومن هنا، يدرس علم الاجتماع عند فيبر تلك الأنماط الاجتماعية المثالية التي تحدد طبيعة تصورات الإنسان وإدراكاته ومواقفه السلوكية في المجتمع.وإذا كانت هذه الأنماط كامنة حقا في بنيات المجتمع، فهي مع ذلك، بمثابة أنماط قياسية تحدد السلوك، وتوجه العقل.
وعلى رأس هذه الأنماط المحددة للسلوك الموجهة للفعل، توجد القيم الأخلاقية والدينية، ثم العرف والعادات والقانون، بالإضافة إلى أنماط أخرى ذات طبيعة سيكولوجية كالحب والكراهية والحقد...ومهما كان الأمر، وسواء كان العنصر الموجه للسلوك هو هذا النمط أو ذاك، فإن الفعل الاجتماعي الحقيقي عند فيبر هو السلوك الهادف المرتبط بغاية معينة.أما السلوك الذي لاهدف له، فهو سلوك لاعقلي، سلوك آلي لاقيمة له من الناحية التاريخية."[43]
إذاً، فالنمط المثالي أداة تصورية وإجرائية أساسية،  أو هو بمثابة منهاج أو  مقياس أو نموذج تركيبي، يستخدم لوصف الوقائع المجتمعية وتقييمها. وقد ذكر ماكس فيبر خصائص متعددة للبيروقراطية كنمط مثالي،وفي تقديمه للنموذج البيروقراطي لم يصف تنظيما بعينه، ولم يستخدم مفهوم النمط  المثالي بمعنى التقويم الإيجابي، فقد كان هدفه هو قياس درجة البيروقراطية في  التنظيم الواقعي[44]. ويستخدم مصطلح النمط المثالي أيضا  لدراسة الدين، والأسرة، والسلطة، والنظم الاقتصادية. ويعني هذا أن النمط المثالي هو أداة للفهم وإدراك الظواهر المجتمعية إدراكا مباشرا وبدهيا وواضحا. ويرى أنتوني غيدنز(Giddens) أن " الأنماط المثالية هي نماذج مفهومية وتحليلية يمكن استخدامها لفهم العالم. وقلما توجد هذه النماذج في العالم الواقعي.وربما لاتوجد على الإطلاق. وفي أغلب الحالات تتضح جوانب أو ملامح قليلة منها في الواقع. غير أن هذه النماذج الافتراضية قد تكون مفيدة جدا، عندما نحاول فهم الأوضاع الفعلية في العالم بمقارنتها بواحد من هذه الأنماط المثالية.وفي هذا السياق، تكون الأنماط المثالية بمثابة نقطة مرجعية ثابتة.وتجدر الإشارة  هنا إلى أن النمط المثالي لم يكن يعني بالنسبة إلى فيبر أن هذا التصور قد وصل حدود الكمال أو حقق الهدف المنشود.وما كان يعنيه فيبر أن النموذج يمثل صورة صافية لظاهرة ما، وقد استخدم فيبر هذه النماذج المثالية في تحليله لأشكال البيروقراطية والسوق."[45]
وللتمثيل بشكل أبسط، فشخصية " البخيل" في مسرحية موليير شخصية كاريكاتورية، مع أن احتمال أن نلتقيها في الواقع قليل، لكنها تمثل النمط الأصيل للبخل.هذه الشخصية نمط مثال للبخلاء. فالنمط المثال هو تشييد فكري لايعكس الواقع التجريبي المرصود، بل يسمح بتحليل مكوناته وخصائصه.
وعليه، يتم تحصيل النمط المثالي عند ماكس فيبر عبر الربط بين عدد من الظواهر، بتصنيفها وتنظيمها، وترتيبها، ضمن نموذج فكري منسجم ومتسق.

الفـرع الرابع: أنماط الفعل الاجتماعي

يستخدم النمط المثالي عند ماكس فيبر في فهم الفعل الاجتماعي وحتمياته، ويحمل هذا الفعل معنى ما، مادام موجها نحو الغير. ومن ثم، فهذه الأفعال أنواع وأنماط، فهناك أفعال غير واعية أو أقل وعيا، وأفعال اجتماعية، وأفعال أكثر وعيا، وأفعال أكثر اجتماعية على الشكل التالي:
uالفعل التقليدي: ينبني هذا الفعل على العادات والقيم والأعراف والتقاليد، فالأنشطة اليومية، مثل: الأكل بشوكة أو المصافحة بالأيدي تتأتى من الفعل التقليدي.
v الفعل الوجداني أو العاطفي: هو ذلك الفعل الذي توجهه العواطف. وبالتالي، فهو فعل غير عقلاني. مثل: عقاب الأم لابنها بطريقة عاطفية وانفعالية.
w  الفعل الأخلاقي العقلاني: هو فعل يتجه صوب القيم، له درجة عالية من الوعي، ويرتبط بهدف ما ضمن نظام القيم، مثل: ربان السفينة الذي يغرق مع سفينته، حين استحالة إنقاذها (فعل التضحية).
x الفعل العقلاني الهادف: يرتبط هذا الفعل بالتخطيط والترشيد العقلاني والتدبير الجيد.أي: يخطط قبل التنفيذ، ويقارن بين الوسائل المتاحة قبل العمل للوصول إلى أهدافه المرجوة، ويحلل النتائج المتوقعة الناتجة عن هذا الفعل المرتقب. مثل: الإستراتيجية العسكرية أو الاقتصادية أو الإدارية.
ويعني هذا أن فعل الفرد إما تقليدي، وإما عاطفي، وإما عقلاني. فالمستهلك يكون عقلانيا حينما يختار منتوجا لشرائه حسب دخله المادي، ووفق الأجرة التي يحصل عليها(فعل عقلاني)، وقد يكون مدفوعا بعاداته الاستهلاكية التقليدية لاختيار منتوج ما(فعل تقليدي)، أو عن طريق رغباته التي لاتقاوم (فعل وجداني). وهكذا، تتواشج الأنماط الثلاثة في النشاط الواحد للفرد (نشاط المستهلك).
و" هذه الأنماط الأربعة من السلوك ترتبط ارتباطا وظيفيا بأنماط العلاقات الاجتماعية: فالسلوك العقلي بنوعيه، هو الفعل الاجتماعي الذي يسود المجتمع عامة.أما السلوك العاطفي، فهو خاص بالجماعة. في حين، إن السلوك اللاعقلي يخص الإنسانية جمعاء، وقوامه جملة من العادات والتقاليد التي قد تتحول إلى سلطة اجتماعية قاهرة[46]."
ومن هنا، فسوسيولوجيا الفهم هي التي تنكب على رصد هذه الأفعال في المجتمع المدروس، بتصنيفها وتنميطها والبحث عن دلالاتها الظاهرة والخفية، مع تمجيد الفعل العقلاني الهادف والبناء.

الفرع الخامس: أنماط الهيمنة السياسية

تحيلنا أنماط  الأفعال إلى نمط آخر من أشكال السلطة والهيمنة السياسية التي تتمثل في الأنواع التالية:
u الهيمنة التقليدية: تنبني على شرعية الحاكم التقليدي الذي يحترم العادات والأعراف والتقاليد أثناء ممارسة سلطته السياسية، مثل: السلطة الأبوية في المجتمعات الأبيسية، وسلطة الأسياد في المجتمع الإقطاعي.
v الهيمنة الكاريزمية: تنبني على هيبة الشخص الحاكم وصورته وصفاته الخارقة(نابليون والمسيح).
w الهيمنة الشرعية القانونية: تتمثل في مدى احترام الحاكم لسلطة القوانين، ووصوله إلى الحكم عن جدارة واستحقاق، مثل: السلطة في التنظيمات السياسية الغربية الحديثة والمعاصرة.
طبعا، يدافع ماكس فيبر عن الفعل العقلاني الهادف، والهيمنة الشرعية القانونية، وهما أساس الليبرالية البيروقراطية العاقلة والراشدة. وفي هذا الصدد، يقول ماكس فيبر:" يتطلع كل علم إلى الحقيقة.والحقيقة التي يتطلع إليها العلم تكون إما عقلانية ورياضية ومنطقية، وإما لاعقلانية  شعورية.والحقيقة العقلانية، في النشاط والفعل، هي، قبل كل شيء، فكرية وواضحة وتمام الوضوح(2+2  =4). وأما الحقيقة اللاعقلانية والشعورية، في النشاط والفعل، فهي، قبل كل شيء، وجدانية...
إن الطريقة العلمية الفعالة لفهم لاعقلانية السلوك الشعورية، تقوم على اعتباراللاعقلانية مجرد انحراف عن عقلانية السلوك الخالصة.إن بناء العقلانية الخالصة يمثل نمطا (Type) يوضع بتصرف عالم الاجتماع، بهدف فهم حقيقة النشاط والفعل المجتمعي الذي تفعل فيه لاعقلانيات من كل الأنواع والأشكال.[47]"
وعليه، يرتبط الفعل العقلاني بالشرعية القانونية والنظام البيروقراطي. وهذه هي الأسس الحقيقية لليبرالية الرأسمالية المتقدمة والمزدهرة حسب ماكس فيبر.

المطلب الرابع: منهـج الفهـم  عند يورغ زميل

 تأثر يورغ زيمل (Georg Simmel)[48] كثيرا بفلسفة الفهم والتأويلية الألمانية. ومن ثم، فهو يعرف علم الاجتماع بأنه ذلك العلم الذي يدرس التفاعل بين الأفراد داخل الحياة المجتمعية. أي: دراسة الروابط ومختلف التفاعلات والعلاقات التواصلية الموجودة بين الأفراد ضمن بنية المجتمع، وفهم معنى تلك التفاعلات وتأويلها. وفي هذا، يقول زيمل:" يتبادل الأفراد النظرات، يغارون من بعضهم، يأكلون سوية، يتبادلون الرسائل، يشعرون تجاه بعضهم بالكراهية أو المحبة، يعترفون بالجميل...إلخ، آلاف الأفعال، المؤقتة أو الدائمة، الواعية أو اللاواعية، السطحية السريعة أو الغنية بنتائجها...إلخ، تربطنا الواحد بالآخر، وهي التي ترعى صلابة الحياة المجتمعية ومرونتها وتنوعها ووحدتها وتماسكها.إن التنظيمات المجتمعية الكبرى، والأنساق المجتمعية الكبرى التي تتضمنها فكرة المجتمع ليست أكثر من أساليب وطرائق ووسائل للحفاظ، في أطر مجتمعية باقية ومستقلة، على الأفعال المباشرة التي تربط الأفراد بعضهم ببعض."[49]
يلاحظ أن زيمل ينطلق من تعريف ماكس فيبر للسوسيولوجيا، بالتركيز على الفعل السلوكي للأفراد داخل المجتمع، وفهم دلالات الأفعال التواصلية، وإدراك معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. بمعنى أن زيمل يركز، في كتابه(علم الاجتماع) الذي أصدره سنة 1908م [50]، على الفعل المتبادل أو الأفعال المتبادلة بين مجموعة من الأفراد بشكل تناوبي. ومن هنا، ينبغي على  السوسيولوجي أن يلاحظ تلك الروابط والعلاقات التي تكون بين الأفراد، وخاصة تلك التي تندرج ضمن التفاعل الاجتماعي الحي أو المشاركة المجتمعية.
وبشكل أوضح، " قدم زيمل، في سبيل تحليل هذه العلاقات، تصورا رئيسيا، هو الفعل المتبادل.وببساطة هو يعني بالفعل المتبادل التأثير الذي يمارسه كل فرد على الغير.وهو فعل موجه بمجموعة من الدوافع المختلفة (الغرائز الجنسية، والمصالح العملية، والمعتقد الديني، ومتطلبات النجاة والعدوان، والمتعة في اللعب، والعمل...). وإن والكلية- المتحركة دوما- لهذه الأفعال هي التي تساهم في توحيد كل الأفراد في مجتمع بمجمله.
لكن موضوع تحليل زيمل ليس الفرد، وليس المجتمع بماهما عليه، كل اهتمامه يتركز على التفاعل الخلاق بين هذين القطبين الطرفيين.إن إنتاج المجتمع، بهذا المعنى، هو المنبت المؤسس للرباط الاجتماعي. وعلى العكس من دوركايم، ينحاز زيمل إلى صيرورة المجتمع، وليس إلى الضغط الذي يمارسه هذا المجتمع.ولهذا السبب سيتكلم بأريحية عن التنشئة الاجتماعية أكثر من حديثه عن المجتمع."[51]
ومن جهة أخرى، يميز زيمل بين مضمون الفعل المجتمعي (الدوافع التي توجه الفعل البشري) وشكله(الموضة - مثلا-).
وعليه، فثمة أربعة أنماط من الأشكال الاجتماعية عند زيمل:
u الأشكال المتصفة بالديمومة: العائلة، والدولة، والكنيسة، والمنشآت، والأحزاب السياسية..، وهي المؤسسات.
v الأشكال التي هي تصميمات مبنية مسبقا، وتتفرع عنها المنظمات التابعة لها: التراتبية، والتنافس، والصراع، والمغامرة، والإقصاء، والميراث، والتقليد...، وهي أشكال مشكلة.
w الأشكال التي تكون الإطار العام الذي تحدث ضمنه التنشئة الاجتماعية: السياسة، والاقتصاد، والقانون، والتعليم، والدين...وتلكم هي تشكلات التوافق.
x الأشكال العابرة التي تؤسس للطقوس اليومية: العادات، والطعام المشترك، والنزهات المشتركة، والتهذيب، والكياسة...[52]
وللتمثيل، يتوقف زيمل عند شكل اجتماعي مثاله (الموضة) لدراسته.لذا، يعتبرها تعبيرا عن النزعة الليبرالية الفردية، و" دون أن تتوقف مع ذلك عن فضح الفوارق الطبقية، تكشف ربما بشكل أفضل، من أي شكل آخر، جوهر دينامية الاجتماعي.تسمح الموضة في الواقع بالتفرد (الحاجة إلى التميز)، دون الانفصال عن جماعات الانتماء (الحاجة إلى التماسك). فهي شكل للحياة، من بين أشكال أخرى كثيرة؛ يسمح بأن يجتمع في فعل موحد الميل إلى المساواة الاجتماعية، والميل إلى التمايز الفردي. أي: إلى التنوع.
أخيرا تعيش الموضة من هذه المفارقة الخاصة بحداثتها، إنها شكل دائم. في حين، إن سبب وجودها هو التبدل المستمر. ومن دون ثورة مستمرة في الأفكار والأذواق، لن تكون الموضة سوى شكل اجتماعي عابر."[53]
هذا، وقد كتب زيمل دراسات عدة حول موضوعات طريفة، مثل: النقود، والموضة، والمظهر، والمرأة، والمدينة، والفن، والغريب، والفقراء، والطائفة، والفرد، والمجتمع، والمجتمعية، والتفاعل، والرابط الاجتماعي...وقد نشر كتابه (فلسفة النقود) سنة 1900م[54].
وقد انتقد إميل دوركايم فكره الغامض والمعقد، وقد تأثرت مدرسة شيكاغو كثيرا بأفكار زيمل.

المطلب الخامس: التفاعليـة الرمزيـة

إذا كانت البنائية ترى أن المجتمع هو الذي يؤثر في الذات، فإن التفاعلية ترى عكس ذلك، بأن الذات هي التي تؤثر في المجتمع، بمعنى أن الناس هم الذي يؤسسون المجتمع بأفعالهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم الواعية والهادفة. ويسمى هذا المنظور بالتفاعلية الرمزية ؛ لأن الأفراد، في تواصلهم وتفاعلهم، يستخدمون الرموز والإشارات والعلامات والأيقونات والإيماءات. وبالتالي، تتخذ أفعالهم طابعا نسقيا زاخرا بالدلالات السيميائية والرمزية التي تستوجب الفهم والتأويل. وتعد اللغة أهم عنصر لدى هؤلاء، مادامت تؤدي دورا تواصليا ورمزيا.
وينطلق أنصار هذه النظرية التفاعلية الرمزية من أن المجتمع هو الذي يشكل الأفراد ويصنعهم، ولكن للفرد أيضا دور وفعل إبداعي في صنع هذا المجتمع بأفعاله الرمزية والتواصلية، كما يرى رائد هذه المدرسة وليام توماس (W.L.Thomas). ومن ثم، فهناك تفاعل متبادل بين الذات والمجتمع، مثل تفاعل المدرس مع التلميذ بشكل مزدوج.
هذا، وقد ظهرت التفاعلية الرمزية مع مدرسة شيكاغو السوسيولوجية التي تشكلت في جامعة شيكاغو. وقد تبلورت هذه المدرسة، في البداية، في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي لدراسة السلالات الإثنية والعرقية، ومشاكل المهاجرين، وانحراف الشباب في المدن الكبرى في  الولايات المتحدة الأمريكية، باستخدام مختبرات اجتماعية،  ومن أهم رواد هذه المدرسة ويليام توماس (William I. Thomas) وروبرت بارك (Robert E. Park.)
وبعد ذلك، ظهر جيل جديد من الباحثين، بعد الأربعينيات من القرن الماضي، اهتموا بدراسة المؤسسات والأوساط المهنية والحرفية، وقد استخدموا مناهج كمية وكيفية، تاريخية وبيوغرافية، ومناهج التحقيق والمعايشة المشتركة المستعملة في الأبحاث الأتروبولوجية والإثنولوجية. وقد انصب اهتمام هذه المدرسة على معاني الأفعال لدى الأفراد داخل الوضعيات المجتمعية التي يعيشونها. ومن أهم أنصار هذه المدرسة: إرفينغ كوفمان (. Erving Goffman)، وهوارد بيكر (Howard Becker)، وأنسيلم شتروس (Anselm Strauss)، وفريدسون (Freidson)، وإفريت هاوث (Everett Hughes)، وجورج ميد (George Mead)...
وقد اهتمت هذه المدرسة بدراسة المدن الحضرية، ودراسة المهاجرين، وعلم الإجرام، والشغل، والثقافة، والفن...

المبحث الثالث: الموقف التوفيـقـي

لايمكن فهم الظواهر المجتمعية إلا بالاعتماد على الخطوات المنهجية الثلاث جميعها في الآن نفسه: الفهم، والتفسير، والتأويل. ويعني هذا أن تفسير الظواهر المجتمعية أو دراسة الأفعال الإنسانية داخل المجتمع بطريقة موضوعية سببية أو علية، بالتوقف عند بعدها الخارجي، باستعمال الملاحظة، والتجريب الدقيق، والمقارنة العلمية المحضة، غير كافية للوصول إلى اليقين أو الحقيقة التي نريدها من دراستنا. لذا، يبقى التفسير طريقة ناقصة وقاصرة في إدراك المعطى في جميع جوانبه المباشرة وغير المباشرة؛ لأن الظاهرة المجتمعية لايمكن تفسيرها بسبب عليَ واحد، بل بأسباب عدة، وهذا ما يجعل التفسير العلمي عاجزا عن إدراك الحقيقة الكلية بالمفهوم الجشطالتي. لذا، لابد من الانفتاح على الفهم لرصد المعاني التي تحملها الأفعال الإنسانية داخل الهيئة المجتمعية، بتحليل ذلك الفعل المرصود سوسيولوجيا، وفهم أسبابه المقصدية، وتحديد أهدافه ونواياه وغاياته المباشرة وغير المباشرة. وأكثر من هذا، لابد من تدخل الذات لتأويل المعطى المدرك، وفهم دلالاته القريبة والبعيدة، والبحث عن أغراضه الوظيفية. ويعني هذا أن الدراسة الحقيقية للموضوع المدرك  عبارة عن قراءات تأويلية، أو تأويلات تفسيرية متنوعة، تختلف باختلاف السياق.

المطلب الأول: لوسيان ڭولدمان والجمع بين الفهم والتفسير

يعتبر لوسيان ڭولدمان (Lucien Goldmann) [55] من أهم السوسيولوجيين الذين جمعوا بين الفهم والتفسير في دراسة الأثر الأدبي والثقافي، ضمن ما يسمى بسوسيولوجيا الأدب. وتسمى منهجيته السوسيولوجية بالبنيوية التكوينية (structuralisme Génetique)، والهدف من هذه المقاربة هو دراسة الأعمال الأدبية والفنية والجمالية بغية تحديد رؤى العالم، بالاعتماد على خطوتين إجرائيتين متكاملتين هما: الفهم (Compréhension) والتفسير(Explication). ويعني الفهم دراسة الأثر الأدبي أوالفني في كليته، دون أن نضيف إليه شيئا. وأكثر من هذا، البحث عن البنية الدالة والخاصية الدلالية لسلوك الفاعل الجماعي. بمعنى البحث عن المعنى البنيوي المحايث الموجود داخل المتن أو النص أو العمل، وإضاءة الخاصية الدلالية للأثر الثقافي.ثم، إدماج هذه البنية الدالة ضمن بنية أوسع قصد استخلاص رؤية العالم، ولن يتم ذلك إلا بتفسير الأثر الأدبي والفني والثقافي بمعطياته السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتاريخية، والثقافية، وتحديد أنماط الوعي( الوعي الزائف، والوعي القائم، والوعي الممكن).
وهكذا، يوفق لوسيان ڭولدمان[56] بين علوم الطبيعة (التفسير)، وعلوم الإنسان(الفهم)، ويوفق بين نظرية إميل دوركايم التفسيرية، ونظرية ماكس فيبر التفهمية، ضمن بوتقة منهجية واحدة سماها البنيوية التكوينية. ويعني هذا أن ليس هناك أي تعارض حقيقي بين منهج الفهم ومنهج التفسير.
وقد ركز لوسيان ڭولدمان على مجموعة من المفاهيم الإجرائية، مثل: التماثل، والكلية، والبطل الإشكالي، والوعي، والرؤية إلى العالم، والفهم، والتفسير، والانسجام[57].

المطلب الثاني: أنطوني جيدنز والجمع بين الفهم والتفسير

يتخذ أنطوني غيدينز (Giddens) [58]، في كتابه (علم الاجتماع)، موقفا قريبا من موقف لوسيان ڭولدمان، إذ يجمع بين بنية المجتمع والفاعل المجتمعي. كما يوفق بين منهجي الفهم والتفسير، إذ يثور - من جهة- على المنهج التفسيري الوضعي، ويدافع عن منهج الفهم في دراسة الظواهر المجتمعية. ومن جهة ثانية، يذكر سلبيات المنهج التفهمي الذي تنقصه العلمية والروح التجريبية. وفي هذا، يقول غيدينز:" كان دوركايم وماركس ومؤسسو علم الاجتماع الآخرون ينظرون إلى دراسة المجتمع باعتبارها علما متكاملا. ولكن هل يمكننا أن ندرس الحياة البشرية الاجتماعية بطريقة علمية؟ إن العلم يقوم على استخدام أساليب ووسائل منهجية منظمة للاستقصاء للحجج والبينات من أجل إعطاء تصور معرفي متماسك حول مسألة ما، ووفق هذا التعريف، فإن علم الاجتماع هو جهد علمي في جوهره، لأنه يستخدم هذه الأساليب والمنهجيات التي يمتاز بها العلم.غير أن دراسة الكائنات البشرية تختلف اختلافا بينا عن دراستنا للوقائع والظواهر الأخرى في عالم الطبيعة، ومن ثم لايمكن مطابقتها تماما مع دراسة الحياة الاجتماعية. فخلافا للكائنات والمخلوقات الأخرى، فإن البشر يتمتعون بالوعي، وبإدراكهم لأنفسهم،  وبإسباغهم منظومة من الأهداف والمعاني والدلالات على أفعالهم.من جهة ثانية، فإن الفرق بين دراسة العالمين: الطبيعي والبشري، يكمن في نواح جوهرية أخرى.إننا، بما نجسده من أفعال، إنما نقوم على الدوام بخلق المجتمعات التي نعيش فيها، ثم بإعادة خلقها من جديد على نحو ما من خلال أنماط التفكير والسلوك التي نمارسها.فالمجتمع ليس كيانا ساكنا لايعتريه التغير، كما أن المؤسسات الاجتماعية يعاد إنتاجها عبر الزمان والمكان من خلال سلوك الأفراد المتواتر  المتكرر. من هنا، فإن العلاقة بين علم الاجتماع والموضوع الذي يتناوله تختلف عن تلك العلاقة القائمة بين علماء الطبيعة والعالم المادي حولهم.ويعود ذلك، بصورة أساسية، إلى أن لدى الكائنات البشرية القدرة على فهم المعرفة الاجتماعية، ثم الاستجابة لهذا الفهم، والتفاعل معه بطريقة لاتستطيعها عناصر العالم الطبيعي.من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى علم الاجتماع على أساس ما يوفره للأفراد والجماعات من قدرة على تحقيق الانعتاق من واقع ما، أي إحداث التغيير في طبيعة الحياة الاجتماعية ومساراتها.
إن الباحثين الاجتماعيين يتمتعون بالقدرة على طرح الأسئلة مباشرة على الأفراد والجماعات البشرية الأخرى التي يدرسونها.غير أنهم في الوقت نفسه، وخلافا لعلماء الطبيعة، يتسببون في عدد واسع من المشكلات والمصاعب. إن الناس الذين يدركون أن أنشطتهم وتصرفاتهم تتعرض للاستقصاء والتمحيص، قد لايواصلون اتباع أنماط السلوك والتصرف التي اعتدوها، كما أنهم قد يحاولون إخفاء مواقفهم أو مشاعرهم الحقيقية أو يتسترون عليها.بل إنهم يحاولون مساعدة الباحث بإعطائه الإجابات التي يعتقدون أنه يسعى إليها."[59]
وهكذا، يبدو لنا أن أنطوني غيدنز يتجاوز ثنائية الذاتية والموضوعية، وثنائية الفهم والتفسير، وثنائية بنية المجتمع والفعل، ويحاول التوفيق بينهما. وقد وضع نظرية اجتماعية بنيوية تجمع بين البنية والفاعل.

المطلب الثالث: بول ريكور  والمنهج التأويلي

يعد بول ريكور (Paul Ricœur) [60] من الدارسين الذين جمعوا بين الفهم والتفسير والتـأويل في دراسة الخطاب الفلسفي العام، ومنه السوسيولوجيا، وكان من أهم رواد الهيرمينوطيقا الذين وفقوا بين البعدين المنهجيين: الفهم والتفسير في دراسة الظواهر الإنسانية والمجتمعية. وهنا، يتحدث بول ريكور عن جدلية ثلاثية، إذ يعتبر التأويل تركيبا للأطروحتين المتعارضتين: الفهم والتفسير. ومن ثم، فالنص هو جماع الفهم والتفسير. ويترتب عن ذلك قراءة تأويلية هيرمونيطيقية بأبعاد ثلاثة.
وعليه، تتكىء المقاربة التأويلية عند بول ريكور على مجموعة من الخطوات المنهجية في مقاربة النصوص الأدبية والإبداعية والفلسفية، وتأويل النصوص الدينية والكتب المقدسة والخطابات اللاهوتية. وتتمثل هذه الخطوات المنهجية في ثلاث مراحل أساسية، وهي: ماقبل الفهم، والتفسير، والتأويل، وذلك كله من أجل تأكيد عبارته المشهورة: " شرح أكثر لفهم أفضل". وتشكل هذه المراحل الثلاث ما يسمى بالدائرة الهيرمونيطيقية للتأويل. وتشبه هذه المراحل خطوات غادامير (H.G.Gadamer)، وهي: دقة الفهم، والتفسير، والتطبيق[61]. وتتمثل خطوات بول ريكور المنهجية فيما يلي:
u ماقبل الفهم(Précomprehention): يعني ما قبل الفهم تلك العلاقة المباشرة  التي يربطها القارىء بالنص لأول مرة. ويعني هذا الاتصال الأولي وجود المتلقي، وحضوره ذاتيا وإنيا وذهنيا ووجدانيا. بمعنى أن هذه المرحلة فيها تلتقي الذات مع النص، وهي كذلك  بداية تموقع الذات وجودا وحضورا. وهنا، يتم التركيز على الحدس والافتراض لاستخلاص ماهو كلي وعضوي، وتحصيل الدلالة الافتراضية البؤرية.
v التفسير (Explication): وهي مرحلة الشرح والتحليل، أو هي المرحلة التي نستخدم فيها المقاربات العلمية الموضوعية: الفيلولوجيا، والنقد الأدبي، والتاريخ،  واللسانيات، والسيميائيات. ويكون التفسير في خدمة الفهم والإدراك. ويعني  هذا أن التأويل أو التفسير أو الشرح هو بمثابة تحليل النص أو الخطاب في ضوء مجموعة من المقاربات النصية لسانيا، وبنيويا، وسيميائيا...، من أجل تحصيل المعنى العلمي والموضوعي للنص، واستكناه آثار الدلالة بطريقة داخلية مغلقة. وهنا، تلتقي الهيرمينوطيقا الريكورية مع السيميوطيقا الكريماصية  على مستوى المحايثة، ورصد شكل المعنى، والاكتفاء بالداخل، واستثمار مفاهيم  اللسانيات، وتمثل مصطلحات التحليل البنيوي والسيميطيقيا السردية.
w الفهم : أو ما يسمى أيضا بفهم الدلالة أو الفهم المساعد(La compréhension médiatisée). وهنا، نلتقي مع العلامات والرموز والنصوص، أو مايسمى أيضا بالوساطة الرمزية. وإذا كان دوسوسير يعرف اللغة بأنها علامات تؤدي وظيفة التواصل، فإن اللغة عند بول ريكور مجرد وسيط للفكر والتعبير عن الواقع. بمعنى أن اللغة والخيال والاستعارات والرموز والنصوص والخطابات والأساطير هي بمثابة وسائط رمزية، وقنوات لنقل الواقع، والإحالة عليه مرجعا وواقعا. ومن هنا، فقد ذهب بول ريكور في كتابه( الاستعارة الحية) (1975م)، إلى أن الاستعارة مجرد وسيط ذات وظيفة معرفية وإخبارية، وذات وظيفة إحالية تنقل لنا الواقع ليس إلا. بمعنى أن الاستعارة تنقلنا إلى عوالم تخييلية مجردة لتنقل لنا عوالم واقعية حقيقية.
ومن ثم، تعني عملية التأويل الشرح والتفسير، وتحليل الرموز الثاوية والعميقة، والمتعددة الدلالات. وهنا، ننتقل من مرحلة البحث عن الشفرة والواقعة  إلى الحديث عن الإحالة والمرجع والذات والمقصدية والرسالة. بمعنى أن العلوم الوضعية، عبر عملية الشرح، تلتزم بالواقعة والشفرة. في حين، تبحث مرحلة الفهم عن الرسالة والمقصدية. وبهذا، يكون بول ريكور قد وفق بين هيرمونيطيقا التفسير وهيرمونيطيقا الفهم.
                          

المبحث الرابع: الموقـف البديل أو المغاير

يقول الفيلسوف البلجيكي جان لادريير (Jean Ladrière)[62] باستحالة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية علمية؛ لأن هذه الدراسة تغفل الجوانب الذاتية، ولاتعنى بدراسة المقاصد والقيم والغايات التي ترتبط بتصرفات الفاعلين وسلوكياتهم داخل المجتمع. ومن ثم، يكون التركيز - هنا- على التفسير في ضوء الحتمية أو الجبرية الاجتماعية، وتهميش دور الفهم في رصد دلالات الفعل الإنساني. كما أن تبني المقاربة الذاتية أو التفهمية يلغي البعد الخارجي من الظاهرة الاجتماعية، ويكون التركيز فقط على ماهو داخلي ودلالي وفردي. ومن هنا، يصعب على الباحث السوسيولوجي أن يكتفي بمنهج واحد، ويستغني عن الآخر. وبالتالي، يستحيل تطبيق التجريب العلمي على الظاهرة الإنسانية.لذا، لابد من البحث عن بديل جديد أو علمية أخرى تتجاوز نطاق العلمية التجريبية، كأن تكون علمية مرنة تتلاءم مع مرونة العلوم الإنسانية.  أي: يدعو جان لاديير إلى تدشين صورة مغايرة للعلمية. وفي هذا الصدد، يقول جان لاديير:" هل بوسعنا أن نعتمد في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية على المناهج التي برهنت على جدارتها في ميدان علوم الطبيعة؟...وهل بالإمكان دراسة العناصر المكونة للفعل الانساني بالكيفية نفسها التي ندرس بها خصائص موضوع من الموضوعات الفيزيائية؟ ألا نجد أنفسنا، بخلاف ذلك، إزاء منظومة واقعية تستعصي، بشكل جذري، عن كل محاولة للموضعة، وذلك نظرا لأسباب مبدئية؟
يبدو ترتيبا على هذا،أننا أمام إمكانيتين اثنتين، الأولى تتطلب ايجاد وسيلة  وضع الفاعلين بين قوسين، وذلك من خلال العمل على إبراز الأنساق التي يمكن دراستها عن طريق اعتماد المناهج التي برهنت عن جدارتها في دراسة الأنساق المادية...
والإمكانية الثانية، تكمن في التخلي، بشكل كلي، عن كل المصادر الي يمكن أن تقترح من قبل علوم الطبيعة، وذلك عبر إنشاء أداة تحليل أصيلة تتلاءم وطبيعة الموضوع المدروس(الظواهر الإنسانية والاجتماعية).أي: تتلاءم والإطار العام للفعل الإنساني...
إلا أن كل طريق من هذين الطريقين تعترضه صعوبات، فإذا قررنا تناول الوقائع الاجتماعية بوصفها أشياء أو أنساقا مادية...فإننا سنطرح، بذك، من مجال المعرفة كل ما يتصل بنظام الدلالات ونسق المقاصد والغايات والقيم...
ومن جهة ثانية، إذا اخترنا طريق الفهم، ألا نتقيد بمنظور ذاتي بشكل لافكاك منه؟
إن حقل الظواهر الإنسانية والاجتماعية يمكن أن يمنحنا صورة للعلمية مغايرة للعلمية في مجال الظواهر الفيزيائية، إلا أن هذا لا يعني انتظار ظهور نمط لعلوم الإنسان مغاير كلية للشكل المميز للعلوم الطبيعية.[63]"
وعليه، يدعو جان لاديير إلى بديل آخر للعلمية، والسعي نحو إيجاد أداة أصيلة جديدة لمقاربة العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم الاجتماعية بصفة خصة، لكن لايمكن تبني هذا الطرح حتى يتم استكشاف هذا العلم البديل، والتحقق من هذه العلمية المغايرة، وتبيان خطواتها النظرية والتطبيقية، وإلا سنكون عدميين. ويعني هذا أنه لابد من التوفيق بين المنهجين: التفسيري والتفهمي لدراسة الظواهر الاجتماعية حتى يتحقق لنا بديل علمي إنساني جديد.

الخاتمة:

إذا كان إميل دوركايم يدرس المجتمع والبنيات المجتمعية والظواهر الجماعية، فإن ماكس فيبر يعنى بالفرد والنشاط الفردي، والتركيز على المعنى الذي يعبر عنه الفعل الفردي. ومن ثم، فدور الفرد ضعيف عند دوركايم؛ لأن المجتمع هو الذي يتحكم في الأفراد. في حين، دوره قوي عند فيبر ؛ لأن الأفراد هم الذين يؤسسون المجتمعي.ومن ثم، فالمجتمع نتاج بروز الأنشطة الفردية.
وإذا كان دوركايم يؤسس منظوره السوسيولوجي على مبدإ الموضوعية؛ لأن الذاتية هي عائق أمام التحليل العلمي، فإن نظرية فيبر قائمة على مبدإ الذاتية؛ لأن الفرد  هو نقطة الانطلاق في التحليل. وإذا كان دوركايم يصدر عن مقاربة تفسيرية، بالتركيز على العلاقات السببية بين المتغيرات المستقلة والتابعة، فإن فيبر يهتم بفهم معنى النشاط الفردي. وإذا كان دوركايم يتوسل بالأدوات الكمية، مثل: الاستمارة، فإن فيبر يستعين بالوسائل الكيفية، مثل: المقابلة، والملاحظة...
وبناء على الملاحظة السابقة، يعتمد المنهج السوسيولوجي الوضعي على التفسير أو دراسة العلاقات السببية والارتباطية بين الظواهر المدروسة أو الملاحظة. ويعني هذا أن التفسير " هو كشف العلاقات الثابتة التي توجد بين عدد من الحوادث والوقائع، واستنتاج أن الظواهر المدروسة تنشأ عنها.إنه منهج العالم الفيزيائي الذي يختزل مجموعة معقدة من الظواهر إلى منظومة بسيطة من العلاقات تشكل ترسيمة أو خطاطة صورية للظاهرة موضوع الدراسة. ولايتساءل العالم عن علة مثل تلك العلاقات الأولية...لأن كل تفسير، سوى ذلك، سيتجاوز نطاق العلم، ليلتحق، بوجه من الوجوه، بالأسطورة والسحر."[64]
أما منهج الفهم، فيحاول إدراك الظواهر الروحية. أي: الظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية الثقافية من خلال المشاركة والتعاطف، لكنها ليست قابلة للبحث بالمعنى الضيق لمفهوم البحث العلمي. ويمكن تسمية هذا المنهج بالفهم التعاطفي الذي يساعدنا على فهم أنماط الفعل الاجتماعي المختلفة ودراستها[65].
لكن الموقف التفهمي قاصر عن إدراك الحقائق إدراكا علميا صحيحا، ولايمكن الوصول إلى اليقين إلا بالجمع بين الفهم والتفسير معا، ذلك " أن المعرفة التي تتأسس على الفهم فقط هي معرفة مسرفة في مقتضياتها ومطالبها ومقصرة فيها في آن واحد...كما يبدو، أيضا، أن الرغبة في فهم جميع الظواهر، تجنح بالمعرفة في متاهات الأسطورة والسحر. فالذهنية البدائية هي بالضبط الذهنية التي ترمي إلى  فهم كل شيء. أي: إلى ربط جميع الظواهر، فيزيائية كانت أم ذهنية بصيرورات الوعي.[66]"
ويمكن التمثيل بالتصور الكانطي، فالعلوم الطبيعية يمكن إخضاعها للعقل والتجربة والأقيسة الرياضية والفيزيائية، أو لمنهج التفسير السببي، لكن العلوم الروحية نخضعها لمنهج الفهم القائم على المشاركة والتعاطف والإدراك الواضح المباشر.
وعليه، فثمة مجموعة من المواقف المتبناة في علم الاجتماع الغربي، وهذه المواقف هي: موقف وضعي يدعو إلى استعمال منهج التفسير كما عند سان سيمون، وهررت سبنسر، وأوجست كونت، وإميل دوركايم؛ وموقف الفهم الذي يتبناه فلهلم ديلثي، وماكس فيبر، وزيمل، ومدرسة شيكاغو، والتفاعلية الرمزية. وهناك موقف توفيقي يمثله كل من: لوسيان ڭولدمان، وأنطوني غيدنز، وبول ريكور. وموقف يدعو إلى صيغة علمية أصيلة وبديلة تتجاوز إشكالية الفهم والتفسير.





[1] -Edgar Morin: Sociologie, Fayard, Le Seuil, Points, Essais, 1984, pp:11-18.
[2] - Marcel Mauss: Essai de sociologie, éd Minuit, Paris, France, 1971, pp:6-7.
[3] - د.عبد الله إبراهيم:  علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة 2010م، ص:144.
[4] - ولد سان سيمون في باريس سنة 1760، وتوفي سنة 1825م. وقد كان عسكريا، واقتصاديا، وفيلسوفا.
[5] - سان سيمون: مذكرات عن علم الإنسان، مأخوذ بتصرف من سان سيمون، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، د.طلعت عيسى ، ص:50-51.
[6] - Pierre Ansart:Saint-Simon,Collection SUP philosophes 1ère édition,PUF,Paris,1969,p:22.
[7] - سان غوست (1767-1794م) رجل سياسي فرنسي، وهو من أهم منظري الحكومة الثورية، وتولى عدة مناصب سياسية فيها، أعدم مع روبسبيير من قبل الثورة نفسها.
[8] - جان ديفينيو: مدخل إلى علم الاجتماع، ترجمة: فاروق الحميد، دار الفرقد، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2011م، ص:19.
[9] - نقلا عن جان ديفينيو: مدخل إلى علم الاجتماع، ص:21.
[10] - توكفيل عالم اجتماع فرنسي ولد سنة 1805، وتوفي سنة 1859م. عرف بكتاباته الاجتماعية، مثل: النظام القديم والثورة، والديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية.
[11] - أدولف كوتليه سوسيولوجي بلجيكي ، ولد سنة 1796، وتوفي سنة 1874م.
[12] - هربرت سبنسر فيلسوف بريطاني،  ولد سنة 1820، وتوفي سنة 1903م.
[13] -  نقلا عن إميل دوركايم: قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة د.محمود قاسم والسيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، طبعة 1988م، ص:178.
[14] - ولد السوسيولوجي الفرنسي  أوجست كونت سنة 1798 ، وتوفي سنة1857م، ويعد مؤسس الوضعية العلمية، وأحد مؤسسي علم الاجتماع.
[15] - نقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها، ترجمة: د.محمود عودة وزملائه، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الخامسة ، 1978م، صص:51-52.
[16] -أحمد الخشاب: التفكير الاجتماعي: دراسة تكاملية للنظرية الاجتماعية، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، طبعة 1981م، ص:545.
[17] - زيدان عبد الباقي: التفكير الاجتماعي: نشأته وتطوره، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، طبعة 1981م، ص:317-318.
[18] - د.وسيلة خزار: الإيديولوجيا وعلم الاجتماع، ص:133-134.
[19] - نبيل السمالوطي: الإيديولوجيا وأزمة علم الاجتماع المعاصر: دراسة تحليلية للمشكلات النظرية والمنهجية،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، طبعة 1975م، ص:140.
[20] -  إميل دوركايم سوسيولوجي فرنسي ، ولد سنة 1858، وتوفي سنة 1917م، وهو مؤسس علم الاجتماع.
[21] - E.Durkheim:Les règles de la méthode sociologique, éd Flammarion, 1988, p:103-104.
[22] - إميل دوركايم: قواعد المنهج في علم الاجتماع، ص:276-279.
[23] - E.Durkheim:Les règles de la méthode sociologique, p:79.
[24] - Jean Claude Babier: Initiation à la sociologie, éd.Erasme, France, 1990, pp:14-17.
[25] -Émile Durkheim, Le Suicide : Étude de sociologie, Paris, Presses universitaires de France, coll. « Quadrige » (no 19), 1981, 463 p.
[26] - د.عبد الله إبراهيم: علم الاجتماع(السوسيولوجيا)، ص:71.
[27] -Jules Monnrot: Les faits sociaux ne sont pas des choses, Gallimard, Paris, pp:38-42.
[28] -M.Dilthey:Le monde se l'esprit.t1, Aubier- Montaigne, 1947, pp:320-322.
[29] - ولد الألماني فلهليم دلثاي سنة 1833 ، وتوفي سنة 1911م.
[30] - ولد ماكس فيبر بألمانيا سنة 1864، وتوفي سنة 1920م، درس الفلسفة، والتاريخ، والقانون والاقتصاد. ومن أهم كتبه( الأخلاق البروتستاتية وروح الرأسمالية)(1904-1905م)، و(الاقتصاد والمجتمع) (1922م).
[31] - Catherine Colliot-Thélène: la sociologie de Max Weber, La découverte, Paris, France, 2006, p:50.
[32] - د. عبد الله إبراهيم: الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 2010م،  ص:96.
[33] - نقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها، ص:261.
[34] -Max weber: Économie et société, Poquet, 1995, p. 28.
[35] - فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه: علم الاجتماع، ترجمة: د.إياس حسن، دار الفرقد، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2010م، ص:47-48.
[36] - Pierre Bréchier: Les grands courants de la sociologie, PUF, 2000, pp:80.
[37] - د. عبد الله إبراهيم: الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع، ص:98-99.
[38] -Max Weber: L'Éthique protestante et l'esprit du capitalisme (1904-1905), traduction par Jacques Chavy, Plon, 1964 ; nouvelles traductions par Isabelle Kalinowski, Flammarion 2000; Jean-Pierre Grossein, Gallimard 2003.
[39] - Catherine Colliot-Thélène: la sociologie de Max Weber, p:5.
[40] - د. محمد عابد الجابري وآخران:  دروس الفلسفة، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، المغرب، طبعة 1971م، ص:346.
[41] - جوليان فروند: سوسيولوجيا ماكس فيبر، ترجمة: جورج أبوصالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، ص:21-22.
[42] -R. Aron, Les étapes de la pensée sociologique, collection Tel, Gallimard, 1967, p. 504.
[43] - د. محمد عابد الجابري وآخران:  دروس الفلسفة، ص:346.
[44] - انظر: مجموعة من المؤلفين السوسيولوجيين:  قراءة معاصرة في نظريات علم الاجتماع، ترجمة:د. مصطفى خلف عبد الجواد، مطبوعات مركز  البحوث والراسات الاجتماعية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، مصر، طبعة 2002م، ص:229.
[45] -أنتوني غدينز: علم الاجتماع، ترجمة: د.فايز الصياغ، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:71.
[46] - د. محمد عابد الجابري وآخران:  نفسه،  ص:245.
[47] - Max Weber: Economie et société, introduction de Hinnerk Bruhns, traduction par Catherine Colliot-Thélène et Françoise Laroche, La Découverte, 1998, p:6.
[48] - ولد السوسيولوجي الألماني زيمل سنة 1858م، وتوفي سنة 1918م.
[49]- M.Giacobbi,J.P.Roux :Initiation à la sociologie, Hatier,paris,1996,p:254.
[50] - Simmel.G: Sociologie, étude sur les formes de la socialisation, P.U.F., 1999.
[51] -  فليب كابان وفرانسوا دوتريو: علم الاجتماع، ص:72.
[52] - فليب كابان وفرانسوا دوتريو: نفسه، ص:72-73.
[53] - فليب كابان وفرانسوا دوتريو: نفسه، ص:73
[54] -Simmel.G: Philosophie de l'argent, traduit par Sabine Cornille et Philippe Ivernel P.U.F., Paris, 1987
[55] - Lucien Goldmann : Sciences humaines et philosophie. PUF, Paris, 1951.

[56] - ولد لوسيان ڭولدمان في رومانيا سنة 1913م، وتوفي سنة 1970م بفرنسا. وهو باحث في سوسيولوجيا الأدب.
[57] -    Lucien Goldmann:   Pour une sociologie du roman. Gallimard,Paris, 1964.

[58] - أنطوني غيدنز أو البارون غيدنز عالم اجتماع بريطاني، ولد سنة 1938م. ويعرف بالتيار البنيوي الذي يجمع بين البنية والفعل.
[59] - أنطوني غيدينز: علم الاجتماع، ص:669-670.
[60] - بول ريكور فيلسوف فرنسي وعالم الإنسانيات، ولد سنة 1913م، وتوفي سنة 2005م. وهو من أهم ممثلي التيار الـتأويلي.
[61] - François- Xavier Amherdt: L'Herméneutique philosophique de Paul Ricoeur et son Importance  pour l'éxègese Biblique, les éditions de Cerf, 2004.
[62] - جان لاديير فيلسوف بلجيكي، ولد سنة 1921 ، وتوفي سنة 2007م.
[63] -Jean Ladrière:La dynamique de la recherche en sciences sociales, PUF, 1994, pp:5-11.
[64] -Gilles Gaston Granger:La raison, PUF, 1993, pp:81-83.
[65] - د. محمود عبودة: أسس علم الاجتماع، دار النهضة العربية،بيروت، لبنان، ص:66.
[66] -Gilles Gaston Granger:La raison, PUF, 1993, pp:81-83.