الأربعاء، 30 أغسطس 2017

محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا؛ محسن المحمدي.



محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا

كتب القرنين السابع عشر والثامن عشر الفلسفية عدته غير مؤهل لمعرفة الحقيقة
محسن المحمدي.


يكتشف المتأمل لعناوين الكتب الفلسفية التي هيمنت على القرنين السابع عشر والثامن عشر، أنها، كلها، كانت عبارة عن محاكمة للعقل، وفحص لقدراته، ورسم لحدود إمكاناته في المعرفة. فقبل كتاب ديكارت «مقال في المنهج لحسن قيادة العقل»، كتب فرنسيس بيكون (1561 - 1626)، كتابه «الأرغانون الجديد» أو الآلة الجديدة، التي يجب أن توجه العقل وتزيل أوهامه. وبعد ديكارت، كتب إسبينوزا (1632 - 1677)، كتابًا بعنوان «رسالة في إصلاح العقل وفي أفضل منهج نسلكه لمعرفة الأشياء معرفة صادقة». كما ألف جون لوك (1632 - 1704)، كتابه الذي يعد أول تشريح للعقل البشري بعنوان «محاولة في الفهم البشري». ثم جاء كتاب آخر لفيلسوف استطاع أن يخلف أثرًا كبيرًا على فلسفة كانط ويوقظه من سباته، إنه الفيلسوف ديفيد هيوم (1711 - 1776)، وكان بعنوان «تحقيق في الذهن البشري». وكم لكلمة تحقيق من دلالة هنا. فهذا الكتاب، هو حديث عن الجغرافيا الذهنية، وتحديد لأجزاء العقل وقواه المتمايزة. هو بحث في أصل الأفكار المكدسة في الذهن وعلاقتها بالواقع. وهو محاولة للبرهنة على عجز العقل على الخوض في الموضوعات الميتافيزيقية التي ليس لها جذر في الإحساس. بل هو دعوة لتحطيم كل فلسفة مستغلقة مليئة بالرطانة الميتافيزيقية، لتتوج، في النهاية، هذا المسلسل من التحقيق في العقل، بأشهر محاكمة كان بطلها الحكيم العالمي كانط، بعناوين لكتبه تتضمن كلمة نقد وهي: «نقد العقل الخالص»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد ملكة الحكم»، أي نقد للعقل النظري وللعقل الأخلاقي وللعقل الجمالي.
وإذا ما تساءلنا عن السبب الذي أدى إلى الهجوم على العقل، والقول إنه ساقط في الوهم والمزاعم، إلى درجة السذاجة والغفلة، فإن الجواب يكمن في ذلك الزلزال الذي أحدثته الثورة الفلكية الكوبيرنيكية خلال القرن السادس عشر. فبقولها إن الأرض تدور والشمس ثابتة، فهذا يعني مباشرة، أن العالم قد خدع البشرية طوال القرون السابقة. فهو كان يظهر نفسه على شاكلة مضللة ومزيفة، ما خلق أزمة إدراك حسي رهيب، جعل الشك ينتشر في كل شيء، بما فيه حتى العقل وقدراته.
وجراء أزمة الإدراك الحسي، والقول بحقيقة للكون غير مرئية ولا متلائمة مع الحس المشترك، بدأ العمل وبجهد جهيد، على غربلة العقل وتنظيفه. فهو مشحون بالأفكار التي وجب التأكد من مدى حقيقتها. إن هذه العملية ستفضي إلى مأزق خطير، وهو اكتشاف أن العقل يتضمن أفكارًا يمكن الحسم فيها كونيًا، ومعايير صدقها متاحة للعقل. لكن في الوقت نفسه، به أفكار أخرى، ليس للعقل أي سند يسمح له بالقطع بصحتها. فالقضايا الرياضية مثلاً، هي صائبة لدواعٍ عقلية صرف. فخمسة مضروبة في ثلاثة تساوي خمسة عشر. فأنا أعلن صدقها بعملية فكرية، يكفي فيها العقل نفسه بنفسه. كذلك القضايا الفيزيائية، فهي ممكنة الحسم بوضعها في محك التجربة. فعندما أردد فكرة كون الحديد يتمدد بالحرارة، فهي صائبة لدواعٍ تجريبية. إذن عقلنا البشري له معياريان أساسيان للبث في مسألة الحقيقة: معيار عقلي صرف في علوم الهندسة والجبر، ومعيار آخر تجريبي في العلوم الطبيعية. فأن أقول لك: «إن الشمس لن تشرق غدًا»، فإنك لن تتمكن من الطعن في كلامي، ولا أن تضعه في تناقض. فالخيار الوحيد المتبقي لك، هو انتظار التجربة قصد التكذيب. لكن ما القول في الأفكار التي لا تخضع لهذين المعيارين، وهي القضايا الغير محسوسة المسماة ميتافيزيقية (كالله والنفس والعالم)؟ يقول الفيلسوف ديفيد هيوم بشأنها، كلامًا قاسيًا. فهو، بعد أن ينتهي من تشريح العقل وإبراز حدوده، سيكتب، في آخر كتابه، عبارة تلخص كل شيء: «عندما ندخل إلى مكتباتنا، وإذا ما كنا أوفياء لمبادئنا، فأي الرزايا يجب الابتعاد عنها؟ سنسأل أنفسنا إذا ما أمسكنا بأي كتاب في اللاهوت أو الميتافيزيقا المدرسية مثلاً: هل يتضمن استدلالات مجردة حول الكم أو العدد؟ كلا. هل يتضمن استدلالات تجريبية حول الوقائع والوجود العيني؟ كلا. فلتقذف به إذن في النار، لأنه لا يمكن أن يحتوي إلا على السفسطة والوهم».
إذا كان هيوم سيجعل من الميتافيزيقا مضيعة للوقت، وسيعلن عدم جدواها، فإن كانط، وهو المتأثر بهيوم، سيعمل على الخروج من المأزق، بإنقاذ الميتافيزيقا وإيجاد مخرج لها. فكيف ذلك؟
- الحل الكانطي لمفارقة الميتافيزيقا.
إن النقد الهيومي للميتافيزيقا كان في الحقيقة هو العنوان الأكبر لكل القرن الثامن عشر، حيث تم شن هجوم شرس عليها. فها هو الفيلسوف وعالم الرياضة د. لمبرت d.alembert (1717 – 1783)، يقول «إن صفة «الميتافيزيقي» قد أصبحت مهانة أمام العقل السليم». بل إن فولتير (voltaire (1694 - 1778، وبسخريته المعهودة، سيزدري الميتافيزيقا قائلا: «إذا رأيت اثنين يتناقشان في موضوع ما ولا يفهم أحدهما الآخر، فاعلم أنهما يتناقشان في الميتافيزيقا»، سيعيش كانط في ظل هذه الهجمة الشرسة على الميتافيزيقا، وسيقتنع بأنها في ورطة، ليعلن ضرورة إعادة النظر فيها، وسيجند نفسه للبحث عن شرعية لوجودها.
ينطلق كانط بداية، من مقارنة بين العلوم والميتافيزيقا، وذلك بعد النجاح النيوتوني الكبير في الفيزياء، ليؤكد أن الأولى عرفت درب العلم الآمنة، أما الثانية فلم يحالفها الحظ في ذلك، على الرغم من أنها أقدم معرفة عقلية. فالعقل دائم التعثر في القضايا ألمًا فوق حسية (الله، النفس، العالم)، إلى درجة يمكن القول، إن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ الصراع والمبارزة، تاريخ النزاعات غير المحسومة.
وإجمالاً، أدى البحث في الميتافيزيقا عبر تاريخها إلى نزعتين: نزعة مادية تنكر وجود أشياء خارج المادة، بما فيها الله والكائنات الروحانية، وتعتقد في قدم العالم، وفي الضرورة الشاملة لقوانينها. ونزعة أخرى مثالية مؤمنة، تعتقد في أسبقية الروح على المادة، وفي خلود النفس ووجود الله. وكل نزعة تقدم براهينها المنطقية وحججها التي يصعب الحسم فيها. هنا بالضبط، سيتدخل كانط ليؤكد أن النزعة الأولى التجريبية، تغالي في رفضها للأفكار الميتافيزيقية، على الرغم من أنها تجتاحنا من دون استئذان. فاحتقار الميتافيزيقا عند كانط، أمر مرفوض. فهو يقول في رسالة إلى مندلسون ( 1729 - m.mendelsson (1786: «إنني أبعد ما أكون عن النظر إلى الميتافيزيقا، على أنها شيء تافه يمكن الاستغناء عنه، لدرجة أنني مقتنع بأن الوجود الحق والدائم للجنس البشري، لا يقوم إلا عليها ولا يكون إلا بها». كما أنه يصفها بأنها «ملكة العلوم» و«طفلنا المدلل». وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يحب بلا تنفس، فهو لا يقوى على أن يتخلى عن الميتافيزيقا. لكن في مقابل ذلك، هناك مجازفة ووثوقية مبالغ فيها من طرف النزعة المؤمنة المثالية المقابلة، التي تدعي معرفة عالم ما فوق التجربة. فالله كمثال، ليس له سند موضوعي يحتكم إليه. إنه قضية تتجاوز الزمان والمكان. فنحن أمام مفارقة للميتافيزيقا واضحة، لا يمكن التغاضي عنها من جهة، ولا يمكن الرضا عما تقدمه من جهة أخرى. فلكي يخرج كانط من هذه المعضلة، قام بالتفرقة بين مجال المعرفة ومجال التفكير. فعقلنا يجب أن يحاكم، بحيث يجب ألا يخلط ما بين المجالين. فنحن نعرف عالم الظاهر (الفنومين)، ونفكر في عالم الشيء في ذاته (النومين). فالظواهر الخاضعة للمكان والزمان، يكون فيها العقل مؤهلاً لمعرفتها، وله الإطارات اللازمة لإدراكها، بينما الأشياء في ذاتها. فأقصى ما يمكن أن يقوم به العقل تجاهها، هو أن يفكر فيها، والزيف كل الزيف أن يدعي معرفتها. إذن مع كانط، ليس العيب في أن يتجه العقل نحو التفكير في العالم المفارق للتجربة. فذلك نزوع أصيل فيه. بل العيب في أن يعزو لهذه الأفكار، وجودًا موضوعيًا من دون الاستناد إلى أساس معرفي سليم. لهذا فطموح الميتافيزيقي في معرفة عالم الشيء في ذاته، يوقعه في التناقض. لأنه يستخدم آليات لا تصلح إلا في عالم الظواهر. هذا الخلط هو ما جعل الميتافيزيقا لا تتحرك ولا خطوة واحدة. بل هو ما جعلها تدور في حلقة مفرغة عاقت دربها الأمن نحو العلم، على عكس العلوم الأخرى. بكلمة واحدة، نصل مع كانط إلى النتيجة التالية: إن العقل غير مؤهل لمعرفة الحقيقة، أي: «الشيء في ذاته». فهو يعرف فقط عالم الظواهر، عالم الزمان والمكان، الأمر الذي يجب أن يفضي إلى ضرورة تواضع الميتافيزيقي. وعوضًا عن الحديث عن معرفة القضايا المجاوزة للحس، وجب عليه الاكتفاء بالتفكير فيها. ففي ذلك احترام لحدود العقل وإمكاناته. فخطأ الميتافيزيقيين واللاهوتيين عند كانط، نابع من خلطهم العالم المحسوس بالعالم المعقول المافوق حسي دون مبرر.

الخميس، 3 أغسطس 2017

الحقيقة والواقع عند [بعض] الفلاسفة.




الحقيقة والواقع عند [بعض] الفلاسفة.



الفيلسوف الفرنسي لالاند Lalande. يحدد هذا الفيلسوف المعنى الفلسفي لمفهوم الحقيقة في خمس دلالات هي : ·
الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق. ·
الحقيقة هي القضية الصادقة. ·
الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه. ·
الحقيقة هي شهادة الشاهد الذي يتكلم عما رآه أو ما سمعه … ·
الحقيقة هي الواقع.
 من خلال ما قدمه لالاند يتبين أن مفهوم الحقيقة في دلالته الفلسفية العامة يتأرجح بين عدة مدلولات. وهذا ما يتيح لنا فرصة طرح الإشكالية الفلسفية لهذا الدرس، والتي يمكن التعبير عنها بواسطة التساؤلات التالية :
ما هي علاقة الحقيقة بالواقع؟ ما هي أنواع الحقيقة؟ فيم تكمن قيمة الحقيقة؟

2.الحقيقة والواقع: قبل استعراض بعض من النماذج الفلسفية التي تعالج هذه الإشكالية، نتوقف عند مفهوم الواقع لشرح دلالته الفلسفية. إن مفهوم الواقع يتحدد فلسفيا في عدة معان :
فقد يقصد به كل ما هو تجريبي عيني وقابل للإدراك الحسي المباشر.
وقد يفيد وجودا أنطولوجيا معقولا يفرض نفسه على الذهن…
هكذا يتأرجح مفهوم الواقع في دلالته الفلسفية بين ما هو عقلي وما هو مادي حسي، ومن ثمة نستطيع القول بأن الواقع فلسفيا يفيد كل معطىً موضوعي يوجد خارج الذات، ويتميز باستقلاله عنها. إن هذا التحديد لمفهوم الواقع سيسهل علينا معالجة العلاقة بين الحقيقة والواقع. ومن أجل بلوغ هذا الهدف فإننا سنقارب هذه الإشكالية من خلال محورين :
الحقيقة بما هي واقع،
 والحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع.
1.2 الحقيقة بما هي واقع لما كانت الحقيقة عند بعض الفلاسفة مرادفا لما هو ثابت ومستقر ؛ فإننا نصادف عدة طروحات حول الحقيقة بما هي واقع.
** عند افلاطون:
 أفلاطون يميز أنطولوجيا بين عالمين: عالم المحسوسات، وعالم المثل.
أما الأول فهو عالم مادي محسوس متغير، زائف، وناقص. وموجوداته هي بمثابة ظلال وأشباح لموجودات عالم المثل. وهذا الأخير، عالم معقول، ثابت كامل، وفيه توجد النماذج العليا لكل الموجودات. والعلاقة بين العالمين هي علاقة حقيقة بخيال (أو شبح). فالحقيقة يجسدها عالم المثل، ومن هنا تكون المعرفة الحق –في نظر أفلاطون – هي إدراك عالم المثل في صورته المطلقة بواسطة الجدل الصاعد أي ذلك المجهود الفكري الذي ينتقل بنا من الأدنى إلى الأعلى، من الحسي إلى المجرد، ويخلصه من أوهام المعرفة الحسية.
أما أرسطو::
فيختلف مع أستاذه أفلاطون في الاعتقاد بوجود حقيقة ثابتة مفارقة لهذا العالم. فكل شيء – في نظر أرسطو – في هذا العالم عبارة عن جوهر (ماهية) وصورة. والجوهر هو الحقيقة الثابتة التي على المفكر أن يصل إليها وأن يدركها في شكلها المطلق. لكن ذلك لن يتم إلا من خلال التمثل الحسي للصور. فمعرفة الصورة تساعد على معرفة الجوهر، لأن الحسي هو الطريق إلى المجرد والمعقول، شرط أن نعرف أن الحقيقة لا تتاح كاملة إلا بتجاوز الحسي.
إن هذا الهاجس هو الذي جعل ديكارت لا يعترف بقيمة المعرفة الحسية؛ فجعل من الشك الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة. هكذا شك ديكارت في كل المعارف الموروثة، وفي المعرفة الحسية. واعتبر أن الحقيقة من إنشاء العقل نفسه. فالحقيقة هي ما ينتهي إليه الشك. وعلى هذا الأساس، لا يكون الحقيقي إلا ما هو واضح وبديهي ومتميز. [لكن هل البرهان على وجود الله عند ديكارت يعتمد على البداهة والتميّز؟] أو بتعبير آخر، إن معايير الحقيقة تتلخص في البداهة والوضوح والتميز.
وديكارت ::
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم الكوجتو الديكارتي : “أنا أفكر أنا إذن موجود “. فخاصية التفكير هي حقيقة الوجود البشري وإذا توقف الإنسان عن التفكير توقف عن الوجود.
من خلال المقارنة بين الأطروحات الثلاث نستطيع أن نخلص إلى ما يلي: هناك أطروحات تؤكد أن الحقيقة هي واقع أنطولوجي معقول يوجد خلف المدارك الحسية (أفلاطون وأرسطو)، إلا أن هذا الواقع في اعتقاد أفلاطون مفارق للعالم الحسي، وهو في اعتقاد أرسطو محايث له (= متصل به). أما ديكارت فيختلف عن الفيلسوفين، لأن الحقيقة، في نظره، غير موجودة في الواقع لأنها بناء عقلي يتم من خلال عملية الشك. [؟] هكذا يكون الفكر هو الذي يحتضن الحقيقة، ولا وجود لحقيقة خارج الفكر.
2.2 الحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع
إذا اعتبرنا الحقيقة بناء عقليا مجردا وتمثلات ذهنية متجاوزة للإدراك الحسي ؛ فإننا نجد الأطروحتين، الأفلاطونية والأرسطية، تعتبران الحقيقة بناء فكريا يتجلى في تمثل واقع موضوعي مفارق للواقع المادي الحسي (أفلاطون) أم محايث له (أرسطو) … إلا أن الأمر مختلف مع ديكارت، فدعوة هذا الفيلسوف إلى تجاوز المعرفة الحسية لا تعني بالضرورة تجاوز العالم المادي إلى واقع غيبي ميتافزيقي. وهنا تتوالى عدة تساؤلات : كيف يمكن التحقق من مطابقة الفكر للواقع، رغم غياب الاعتماد على التجربة الحسية؟ ما الذي يضمن صدق البداهات العقلية؟ للإجابة على هذه الأسئلة لجأ ديكارت إلى فكرة الضمان الإلهي، مؤكدا أن طيبوبة الله واتصافه بالكمال يحولان دون وقوع العقل في الخطأ. ومن ثمة ما يبدو للعقل أنه يقيني، فهو كذلك.
وقد أتت الأطروحة الكانطية كأطروحة نقدية لمثل هذه التصورات.
فاعتبرت الحقيقة بناء عقليا يتم بتضافر العقل والحواس، فالحواس تمد العقل بمادة المعرفة، والعقل يوظف مقولاته القبلية لإعطاء هذه المادة صورا إبستيمية. وهكذا يبين كانط أن الحقيقة ليست على نحو جاهز لا في الواقع ولا في الفكر، وإنما الحقيقة تفاعل دياليكتيكي بين معطيات التجربة والمفاهيم العقلية. ومهما بلغت درجة معرفتنا، فإنها ستظل نسبية ما دمنا نجهل حقيقة النومين والأمور الميتافزيقية.
أما مارتن هيدجر M. Heidegger ،
فقد حاول أن يتجاوز أطروحات الفلسفة التقليدية حول المطابقة بأن تساءل حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخا للواقع وترجمة أمينة له!؟! فالتطابق لا يمكن أن يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟!! لذا يرى هيدجر أن المقر الفعلي للحقيقة ليس هو الفكر (أو المنطوق) لأن الحقيقة انكشاف وحرية. أو بتعبير آخر: الحقيقة هي انفتاح على الواقع واستعداد لاستقباله في الصورة التي ينكشف بها أمام الذات، وهي كذلك تعبير حر للذات في تعاملها مع الواقع، أو كما قال هيدغر: “الحقيقة هي الحرية”. من خلال المقارنة بين التمثلات الفلسفية المعروضة،
يتضح أن الفلاسفة يؤسسون خطابات متعددة حول الحقيقة. وهذا ما يدعو إلى طرح التساؤل الآتي :
ألا يمكن الحديث عن حقائق (بدل الحقيقة الواحدة)؟!!
3. أنواع الحقيقة:
 لعل الاختلاف حول تحديد مفهوم الحقيقة، والتنوع الحاصل في تمثلها بصورة واحدة، هو ما جعل الشكاك المذهبيين يشكون في إمكانية وجود حقيقة. وما غاب عن هؤلاء هو أن الحقيقة لا تنكشف من ذاتها لأنها خطاب يبنى ويتأسس حول منطلقات تختلف باختلاف الظرفية التاريخية والضرورة العقلية التي تفرضها … فمنذ أرسطو ظهرت الحقيقة كضرورة لإقناع الخصم وإفحامه ؛ لهذا تأسست على البرهان. ومن ثمة يكون الحكم الذي يقدم نفسه كحكم صادق، يقدم نفسه في ذات الوقت على أنه حكم أقيم عليه البرهان باعتباره نتيجة استقراء [تام]. فالبرهان هو القوة التي تدعم الحقيقة من الداخل . أما الحقيقة التي تحمل برهانها في ذاتها فإنها تسمى بديهية
غير أن ابن رشد ::
يرى أن الحقيقة الدينية واحدة إلا أنها تتمظهر في صور متعددة نظرا لاختلاف طبائع الناس وتباين فطرهم في التصديق: فهناك من يصدق بالقياس الخطابي، وهناك من يصدق بالقياس الجدلي، وأخيرا هناك من يصدق بالبرهان. ولما كانت الحقيقة الدينية استهدفت كافة الناس فإنها استعملت أشكالا ثلاثة من القياس. وهذا لا يفيد تعدد الحقائق، لأن ذلك يعني فقط تعدد أشكال الخطاب التي يمكن أن تعبر عن نفس الحقيقة. وهذا يفترض أن تتمظهر الحقيقة في صورة الخطاب الذي يؤسسها، ومن ثم يدافع كل واحد على خطابه باعتباره الحقيقة المطلقة.
ولعل تفسير ذلك يوجد عند ميشيل فوكو M. Foucault،
الذي يرى، أن الحقيقة لا توجد خارج السلطة، بل إنها ذاتها هي السلطة لأنها نتيجة إكراهات متعددة. فالسياسة العامة للحقيقة تفرض أن يحدد المجتمع نوع (أو أنواع) الخطابات التي يعتبرها حقيقة. فالحقيقة في المجتمعات المعاصرة – مثلا – تنحصر في الخطاب العلمي .. ومن هذا المنطلق ينتج المجتمع ويحدد الأشخاص والآليات والهيئات التي تسند إليها مهمة الاهتمام بالحقيقة. وهذا ما يفيد أن الطابع المؤسساتي هو الذي أصبح يطغى اليوم على مفهوم الحقيقة: لأن الحقيقة نابعة من مؤسسات وتروّجها وتحميها مؤسسات، تلك المؤسسات التي قسمها ألتوسير Althusser إلى نوعين :
*المؤسسات الأيديولوجية، *والمؤسسات القمعية. إن الطابع المؤسساتي للحقيقة هو الذي يؤدي إلى وجود الصراع حول الحقيقة. مع العلم أن الصراع لا يكون من أجل الحد من سلطوية الحقيقة، وإنما يكون من أجل إبعاد الحقيقة عن أشكال الهيمنة التي يمكن أن تؤسسها خطابات حول الحقيقة. إلا أن استقراء تاريخ الفكر البشري، يؤكد بأن الحقيقة لم تستطع أن تتواجد في معزل عن اللاحقيقة ؛ ونقصد بذلك أضداد الحقيقة التي يمكن تلخيصها في نوعين أساسين : الخطأ والوهم. فالحقيقة العلمية التي تعتبر النموذج الأعلى لليقين لم تستطع أن تعيش في معزل عن الأخطاء. فقد ظلت فكرة مركزية الأرض – مثلا – مهيمنة على العقول إلى أن تم اكتشاف خطئها. ولا تكتشف مثل هذه الأخطاء داخل العلم إلا حينما تصبح عوائق إبستيمولوجية.
لذا قال غاستون باشلار Bachelard :
تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم”. فالحقيقة العلمية، تتقدم بتجاوز العوائق الإبستيمولوجية التي تحملها في ذاتها. أما الوهم فهو أخطر من الخطأ لأنه يصعب اكتشافه بسهولة نظرا لما يحققه من الرغبات الوجدانية والنفعية للإنسان.
وقد أكد فردريك نيتشه*
أن الوهم يتولد عن حاجة الإنسان في أن يوفر لنفسه حياة سلمية وأمينة، لأن أساس الوجود البشري يقوم على الصراع من أجل البقاء (أو كما قال هوبس “حرب الكل ضد الكل”). إلا أن حب البقاء يدفع بالإنسان إلى استخدام العقل من أجل إنتاج الوهم لأن الحقيقة قاتلة. وتعتبر اللغة الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في صناعة الوهم لأنه من طبيعة استعارية ومجازية. هكذا يكون الوهم لصيقا بالحياة البشرية لأنه يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء. وبناء عليه، يرى نيتشه أن ما يعتقده الناس حقائق (المساواة، التعاون ..إلخ) ويقدسونها، ما هي إلا أوهام تم نسيانها.
4. الحقيقة بما هي قيمة:
 إن المقارنة بين الحقيقة واللاحقيقة (=أضداد الحقيقة) تدعو إلى إقامة التفاضل بينهما، وبالتالي سنجد أن الفكر أميل منطقيا إلى القول بأهمية الحقيقة، ولا أحد يجادل في أن كل الفلاسفة يجمعون على أن السعي وراء الحقيقة فضيلة … وهذا ما يؤكد أن للحقيقة قيمةً تجعل الناس يرومونها. ففيم تكمن ـ إذن ـ قيمة الحقيقة؟ إذا استقصينا تاريخ الفلسفة يتأكد أنه أعطيت للحقيقة قيم متعددة تتأرجح بين قيم فكرية ونظرية، وقيم نفعية وعملية، وقيم أكسيولوجية أخلاقية. وقد تميزت الفلسفة التقليدية في اعتبار الحقيقة غاية في ذاتها وكان الفيلسوف يطلب الحقيقة لذاتها.
وقد حاولت الفلسفة البرجماتية تجاوز هذا التصور التقليدي للحقيقة بتأكيدها أن قيمة الحقيقة تتجلى في كل ما هو نفعي، عملي، ومفيد في تغيير الفكر والواقع معا. يقول وليام جيمس W. James :
يقوم الصادق بكل بساطة في كل ما هو مفيد لفكرنا، والصائب في ما هو مفيد لسلوكنا”. إن الطرح البرجمائي لقيمة الحقيقة تقف أمامه عدة اعتراضات أهمها اعتراضات فلسفية أخلاقية، وأخرى إبستيمولوجية علمية:  (ا) يلاحظ، فلسفيا، أن الإقرار بالقيمة النفعية للحقيقة معناه فسح المجال لاعتبارات لا أخلاقية كالأنانية، والظلم، والتآمر ..إلخ  (ب) يلاحظ أن تاريخ العلم يقصي المنفعة العملية. فلو كان يضعها قيد الاعتبار لما ظهرت النظريات العلمية المعاصرة. ففي الرياضيات، مثلا، لا تظهر المنفعة العملية المباشرة التي تستفاد من النظرية الهندسية للوباشفسكي  Lobatchevski
، لكن لا أحد يستطيع أن يشك في قيمتها العلمية. كنتيجة لذلك، يلاحظ أن الفلسفة البرجماتية (رغم إيجابيتها) لا تستطيع أن تصمد أمام النقد (شأنها شأن أية فلسفة). فقد تأكد منذ سقراط أن الحقيقة غاية في ذاتها، وهذا ما جعل الفيلسوف الألماني كانط يعتبر الكذب رذيلة ولو كان لحماية صديق من مجرمين يودون قتله. فمن يكذب مرة واحدة لمصلحته أو لمصلحة غيره يعتبر مخلا بالواجب الأخلاقي الذي يمكن أن نعتبره واجبا من أجل الواجب. وهذا ما يؤكد أن الحقيقة غاية في ذاتها لذا لا يمكن أن نتعامل معها كملكية فردية
أما الفيلسوف برغسون  Bergson
فإنه يرى أن القيمة الفعلية للحقيقة تتجلى في تجاوز التصور التقليدي لقيمة الحقيقة والذي يحددها في مطابقتها لما كان أو لما هو كائن … فالحقيقة ليست استنساخا لأي شيء، وإنما الحقيقة إعلان لما سوف يكون. فالحقيقة استعداد للمستقبل وتوجه نحوه، وقيمة الحقيقة تكمن في كونها تهيئ لمعرفتنا لاستباق ما سوف يكون. وكتخريج عام لهذا الدرس، يتضح الاختلاف الحاصل في تحديد مفهوم الحقيقة ومدى مطابقتها للواقع، وبالتالي الاختلاف في حصر القيمة الأخلاقية والنظرية للحقيقة. وذلك فعلا ما يؤكد نسبية الحقيقة. ولكننا لا نقصد بذلك ما ذهب إليه كانط في وجود حدود ميتافزيقية للحقيقة؛ وإنما نطرح المسألة في منظورها عند ميشيل فوكو الذي يؤكد أن الحقيقة نتاج اجتماعي. أي أن المجتمع هو الذي ينتج الخطاب الذي يعتبره حقيقة. وبما أن الفلسفة وليدة عصرها، فإن ذلك ما يفسر تعدد الخطابات الفلسفية حول الحقيقة، وغالبا ما تضطر الفلسفة، من أجل تأسيس مفهوم جديد للحقيقة، أن تدخل في صراع مع السلطة المؤسسية للحقيقة.


الأربعاء، 2 أغسطس 2017

تكريمًا لكنط؟!؛ موسى وهبه.




تكريمًا لكنط؟!
أو كيف يمكن للعصر أن يكون عصرًا بلا روح؟

هذا النّص هو افتتاحيّة مجلة الفكر العربي، بقلم موسى وهبه، العدد ٤٨، المخصّص لكنط، والصادر في تشرين الأول من عام ١٩٨٧، بمناسبة الذكرى المئويّة الثّانية لنقد العقل المحض. وهذه الافتتاحيّة تتحدث عن تأثير كنط في التيارات الفلسفية المعاصرة وعن موت الميتافيزيقا.

د. جمال نعيم

تكريمًا لكنط؟!
بقلم موسى وهبه

طال المقام في نعي الفلسفة، وفي انتظار العودة. لكنَّ الفلسفة، لسوء حظِّنا، لم تمت ولا هي عادت مظفَّرةً. وسرعان ما تبيَّن أنَّ الجثَّة التي اسمها "ثقافة الماضي" ما زالت تسترعي الانتباه وتحظى بمزيدٍ من العناية، بدليل وفرة المعاهد الفلسفيّة وازدهار الأقوال في ردّها وفي الحاجة إليها. لكأنَّ موت الفلسفة نفسه بحاجة الى فلسفة، أو لكأنّه الاسم المجازيّ للسّبات الذي يحلّ عليها عندما يهرم العصرُ وتلوح في أفقه تباشير عصرٍ آخر، ينتظر أن يعلنه أوّلُ الصّاحين من سبات العصر. ويصاقب أن يكون الأوّل الصّاحي فيلسوفًا.
لكن ثمّة صحوةٌ وصحوة. فبين الصحوة من "السّبات الدُّغمائي" (كنط) والصّحوة من "السُّبات الإناسي" (فوكو) صحواتٌ كثيرةٌ وأشياء قد تغيَّرت: صار الفيلسوف ينكرُ لقبه. والقول الذي كان سيِّد نفسه لا مبشِّرًا بسواه (كنط)، والذي كان يحذر أن يكون واعظًا (هيغل) صار يعرض الخدمة كتابعٍ للعلم والعمل. وبدل أن يُعلن ولادة الفلسفة صار يكتفي بإعلان موت الميتافيزيقا، أو موت المثاليّة.. أو موت الإنسان.
فكيف أمكن لذلك أن يكون؟! كيف أمكن للرّوح الفلسفيّة أن تخبو؟ كيف أمكن للقول أن يصير نثرًا، وللعصر أن يصيرَ عصرًا بلا روح؟!!
قد تكون "القصّة" بدأت بكنط. ففي تصدير الطبعة الثّانية من نقد العقل المحض، أطلق كنط على محاولته تغيير طريقة التّفكير الغالبة اسم "الثورة الكوبرنيقيّة"، لأنّها تقوم على فرض أن تكون موضوعات المعرفة هي التي تنتظم وفقًا لمعرفتنا بها بدل سابق الفرض أن يكون العقل هو الذي ينتظم وفقًا لموضوعه. وكان من سوء التّدبير أن أقرّ في خاتمة ذلك التّصدير بأنّ أسلوب العرض ما زال يشكو سوء العبارة متمنّيًا على الذين أوتوا موهبة وضوح الأسلوب أن يحسنوا في العرض، لأنّ الخطر على النّقد "ليس أن يُناقض، بل أن لا يفهم". لا خوف من المناقضة لأنّ النّقد لا يسعى الى إثبات معرفة، بل الى توضيح العقل وصونه من الأخطاء، ولأنّه ليس مذهبًا، بل مهمّته، حصرًا، أن يبحث ما إذا كان المذهب ممكنًا، وكيف يكون ممكنًا.
لم يخطر ببال كنط أنّ المناقَضَة ستتذرَّع بإصلاح التَّعبير لإصلاح الفهم، فتحاول أن تفهم كنط أفضل ممَّا فهم هو نفسه: لقد قام كنط بالثَّورة الكوبرنيقيّة، إنَّما لم يسعْه أن يظلَّ أمينًا لها بفعل الإرث الفلسفيّ الكلاسيكيّ الذي أثقل تعبيره. يجب إذًا إزالة الزّوائد وتطوير "النّواة" لجعل النَّقديّة متسقة مع نفسها. بذلك يبدأ مسار تحويل المولود الجديد، سحب روحه. (ربَّ معترضٍ يحتجُّ على هذا الابتسار التّاريخي. الى هذا المعترض: يعجبني الرَّاوي، ولا يعجبني المؤرِّخ).
وعلى مرأى من كنط الذي كان يشيخ، بدأ مسار التّحويل بهدف الأمانة للفكرة طبعًا. وشاط فيشته بعيدًا: ما أنجزه كنط لم يكن سوى مجرّد تمهيدٍ لفلسفة العصر، "الفلسفة المجاوزة" [في الأصل الفلسفة الترسندالية كتعريب وتخفيف للفلسفة الترنسندنتاليّة]، والمطلوب إقامة البناء من المقدِّمات الموجودة في كنط الى جانب عناصر أخرى. فالثّورة الكوبرنيقيّة هي أساسًا ثورة على الدُّغمائيّة الفلسفيّة، يجب إذًا تطهير القول الكنطيّ من جميع عناصره الواقعيّة، بدءًا بهذا "الشّيء في ذاته" وانتهاءً بالأمر الأخلاقيّ، مرورًا بكل القراءات الأمپيريّة التي تحسب أنّ في موضوع المعرفة ما يمكن أن يصدر عن شيءٍ خارجٍ عن الأنا الأصليّ، أو التي تنظر الى العقل بوصفه كائنًا، أو تنطلق بالتّالي من النّظر الى العمل.
وتكون محصّلة التحويل الفيشتي: يجب الإنتقال من فلسفة الكائن الى فلسفة ما يجب أن يكون، أي الى قواميّة العمل على العقل النَّظريّ، لأنّ العقل هو مجرّد فعلٍ محضٍ، ولأنَّ الموضوع نفسه هو نتاج المخيِّلة بموجب هذا الفعل، أو قل إنّ هويّة الذّات والموضوع هوّيّة أصليّة، فهما لا يتمايزان الا في الاوتعاء [ الوعيان أو وعي الوعي أو وعي الذات أو وعي الذات لذاتها] الأمپيري، أي من حيث يطرح الأنا الأصليّ نفسه بوصفه لا-أنا، من حيث يُستلب ذاتيًّا، وتاريخيًّا، أي بهدف رفع الوعي الأمپيري الى الإوتعاء المحض، الى الذي لذاته...
يُلغى الشَّيء في ذاته إذًا. ويتحوّل الدّيالكتيك من منطق الغلط الى منطق التّأسيس والفعل القوّام على منطق الحقيقة بفعل قواميّة العمل على النّظر. لكن، في الوقت نفسه، يتحلَّل الأمرُ الأخلاقيُّ الكنطيُّ من "فرديّته"، وضرورة أن "تعامل الإنسانيّة في شخصك، وفي شخص كل إنسانٍ آخر، بوصفها غايةً في ذاتها دائمًا ومعًا، وليس مجرَّد وسيلةٍ قط، تُلحق بغايَةٍ أعلى؛ لأنّه اذا كان ثمّة أفرادٌ فلأنّ العقل والاوتعاء لا يمكن أن يتحقَّقا الا بالفرديّة، التي هي بالتّالي وسيلة لغاية كلّيّة، مثلما أن لا قوام للفرد الا بصدد المجتمع، وحتى يصل المجتمع الى غايته.
ولسوف يُحتفظ بهذه المحصلة رغم اختلاف المطلوب في النّشاط الفلسفيّ اللاحق. فيمعن هيغل في التّحويل. إلّا أنّ المطلوب لم يعد إصلاح كنط بل فهمه، استيعابه في القول الختم: كنط أخطأ حيث كان يجب أن يُخطىء، وظلَّ حبيس ذاتيّة الفاهمة التي لا يمكن أن ترى في الدّيالكتيك الا تناقضًا غير قابلٍ للحل، لتستطيع أن تحتفظَ بتناقضها الذاتيّ الذي تُدركه ولا تحلّه: في "الشّيء في ذاته"، بين ضرورة إثباته وعدّه في الوقت نفسه مجهولًا، وفي الأخلاق بين الطبيعة والوجب، أي بين الفاهمة المتناهية واللامتتاهية في الوقت نفسه.
وتتّضح الصورة: ليس "الشيء في ذاته" سوى مجموع ظاهراته، وليس ما يجب أن يكون سوى ما هو كائن بالنَّظر الى ما سيكون، وليست الحرّية سوى استيعاب ضرورة ما يصير ( في الاستعراض التّاريخي ).
هذا القول الختم يُنهي الفلسفة ليبدأ عصر النّثر، فلا يترك للخلف، يسارًا، سوى الانصراف الى فعل ما يجب أن يكون انطلاقًا ممّا هو كائن، وللخلف، يمينًا، سوى إعادة التّأكيد على صحة ما قال: فيقتسم "العقلُ السّياسيُّ" و"العقل الكلاميُّ"، بالتّعارض أو بالتّكامل، عالم القول الملتبس: ماتت الفلسفة أم لم تمت، العصر للعلوم الوضعيّة ولفلسفة التّاريخ. الارث الهيغلي والوضعيّة، ضد كنط أو معه: لا للميتافيزيقا.
لكن سرعان ما نسمع صيحات "العودة الى كنط" بهدف التّأسيس النّظري لمجمل المعارف العلميّة، فتُحوِّل "الكنطيّة الجديدة" النّقد الى نقديّة، أي الى مجرّد نظريّة في المعرفة، مهمِلةً كنط الأخلاقي والميتافيزيقي. وتحوِّل "الوضعيّة الجديدة" النّقديّة الى مجرّد نشاط ابستمولوجي ينحصر في فهم التجربة وتعيين شروط إمكانها. ويؤدّي هذا الاصلاح لكنط الى استبدال "الشيء في ذاته" ب"مجمل المعرفة العلميّة"، أو بحسبه مجرّد اختلاق فكريّ وراسب ميتافيزيقي شأنه شأن الواجب الأخلاقي.
وهكذا يكون إعلان موت الميتافيزيقا، مرّةً أخرى، إيذانًا بتحوُّل القول الفلسفيّ من قولٍ مؤسّس وبادىء الى قولٍ ملحق بالنّشاط العلمي الوضعيّ وتابع له.
وتختلج الرّوح الفلسفيّة بحنين العودة الى كنط من جديد، ضدّ الإلحاق الوضعيّ، وربما أيضًا، وأصلًا، ضدّ الإنهاء الهيغليّ. ويتابع هيدغر الوجوديّ، هوسرل الفينومينولوجي، ويقرأ الكنطيّة بوصفها تأسيسًا للميتافيزيقا وإعادة اعتبار للكائن.. لكنّه، في الوقت الذي يعلن فيه سيادة القول الفلسفيّ لا يجد له أساسًا سوى تأسيسه على تناهي الإنسان، في هذا الكائن-للموت، وتصبح الميتافيزيقا نوعًا من الإناسة النّظريّة، تبحث في ما هو الإنسان المنخرط في-العالم، ويضيع الفارق بين الذّاتيّة الأمپيريّة والذاتيّة الترسنداليّة [المجاوزة]، ويزمُّ "الشّيء في ذاته" الى "الشيء هدف القصد".
وهكذا يبدو كنط في أساس القول المعاصر، للعودة إليه أو لدحضه. لكن ثمّة إجماعًا بين المتنافسين والخصوم: يجب التّخلّص من هذا "الشيء في ذلته" المجهول. غير أنّ هذا المرذودل، الذي يتجدّد رذلُه بتجدّد النّزعات والميول، يجرّ معه، أيضًا وربما أصلًا، رذل إطلاقيّة الأمر الأخلاقيّ، واستبداله بقلق هشاشة الأمپيري أو ضرورة الواقع التّاريخي، أو الحساب المنفعيّ.
فهل في اقتسام عالم القول بين السّياسيّ والكلاميّ متّسعٌ لقول من نوعٍ آخر؟ ماذا يفعل القول السّياسيّ إذا كان عليه أن يصادف في المجتمع الإنسانيّ واقعة أمپيريّة تُعد غايةً في ذاتها؟! أليس شرط إمكانه أن يلحق موضوع الفعل بغاية أعلى؟ وماذا في وسع القول الكلاميّ أن يجتهد اذا كان ثمّة شيء في ذاته يخرج أصلًا عن دائرة اجتهاده؟! أليس شرط إمكانه أن يكون خبيرًا معرفيًّا؟!
ثمّ ألا تندرج الصّحوة من "السُّبات الإناسيّ" في ظل هذا الاقتسام عينه، عندما يكون شرطها أخذ العلم بموت موضوع الأشكال أصلًا!!
عصرنا بلا روح. ومع الاعتذار لكنط، ليس العصر عصر النّقد، بل هو، بخاصة عصر التّكريم، أي عصر بذل القول كرمى لغاية تتخطّاه، غاية الفعل في الواقع، أو الدّفاع عن رؤًى خارج القول نفسه. فهل أبذل القول كرمى لكنط، أم أزعم له الخروج من العصر؟
لا هذا ولا ذاك. وبالتّأكيد ليس يهدف قوليّ الى تغيير أي شيء، لأنّ القولَ لا يُغيِّر شيئًا؛ ولأنَّ لا شيء يتغيّر الا في القول. وليس يدعي أنّه القول البادىء لأنّ كل شيء قد سبق أن بدأ. قولي يكتفي بالرّواية، أو قل إنّه مجرّد تمرينٍ في إنشاء. قول: كيف يمكن للقول الفلسفيّ أن يكون؟

موسى وهبه