الجمعة، 31 مايو 2019

في أهمّية وسائل التواصل الاجتماعي. الشذرة الجادة. [عن الأستاذ الجامعي]. (الدكتور جمال نعيم)


في أهمِّيَّة وسائل التَّواصل الاجتماعيّ

-الشَّذرة الجادَّة- [عن الأستاذ الجامعي]
(الدكتور جمال نعيم)


أكثرُ ما يحزُّ في نفسي ويُحزنني، عندما أقرأ نصًّا لأستاذٍ جامعيٍّ، هو ركاكةُ هذا النّص، مبنًى ومعنًى، أسلوبًا ومضمونًا. ويزداد حزني وأسفي عندما أقرأ له نصًّا بالعامّيَّة من دون أيِّ احترامٍ لقواعد اللُّغة وبلاغتِها وجمالِها، نصًّا يخجلُ أن يكتُبَه تلميذٌ في الخامس-أساسي، أو عندما يملأ حسابَه بصورٍ وبوزاتٍ شخصيَّةٍ، وهو يحتلُّ منصبًا رفيعًا في الجامعة، أو عندما يدعو إلى مناسبةٍ فكريَّةٍ له من دون أن يكتبَ أيَّ شذرةٍ عن فكرتِها، لا قبل عقدها ولا بعد عقدِها، خوفًا من سرقة أفكاره العظيمة!!! التي يودُّ أن ينشرَها في كتابٍ مستقلٍّ له، كأنَّ النَّاس يقرأون الكتُبَ ويعزِفون عن قراءة الشَّذرات أو كأنَّه، في حال كونِه مشهورًا، يصبح مشهورًا أكثر ومقروءًا أكثر في حال بيع كتابُه!!! كم من كُتُبٍ تُبتَاعُ فقط للزِّينة والدِّيكور وليس للقراءة والمطالعة؟!
ولعلَّ ما سبق عائقٌ أساسيٌّ من عوائق التَّنوير، فإذا كان هذا هو حال المفكِّر والأستاذ الجامعيّ والأستاذ (البروفسّور) الذي يحتلُّ منصِبًا رفيعًا في الجامعة، فماذا عساه يكون حال غيرهم من عشَّاق الفكر والثَّقافة؟!!
لقد آن الأوان لنعترفَ بتقصيرنا جميعًا، ولنَكُفَّ عن رميِ مسؤوليَّة التَّخلُّف على السِّياسيّ وعلى الإنسان العاميّ. لسنَا، للأسف، مناراتٍ إشعاعيَّةٍ. ولا نقوم بدورنا مع أنَّنا نقبض معاشاتٍ جيِّدة. كم من كتابٍ يُؤلَّف، سنويًّا، في الجامعات اللبنانيَّة؟ كم من بحثٍ جادٍّ يصدر عن هذه الصُّروح الفكريّة العريقة؟ كم من روايةٍ متميِّزةٍ، أسلوبًا ومضمونًا، يُبدعها أساتذة الآداب في لبنان؟ وما أكثرهم؟
وما يحزُّ في النَّفس أكثر عندما نجد الأستاذ الجامعيَّ الأكاديميَّ يقف على باب السِّياسيِّ ليحصل على منصبٍ هنا أو منصبٍ هناك (مدير كلّيّة، عميد كلّيّة، رئيس الجامعة،... وحتى رئيس القِسم) من دون أن يكون له أيُّ رؤيةٍ ثقافيَّةٍ أو فنِّيَّةٍ أو فكريَّةٍ أو علميَّة، كأنَّ من خصائص الباحثَ الأكاديميَّ الجادَّ أن يتلهَّى بالمناصب الإداريَّة الرُّوتينيّة التي تُضيِّع وقتَه في العمل الإداريّ اليوميّ المتشابه والمتماثل على مدار السَّنة. إنَّهم يركضون ويلهثون وراء المناصب الأكاديميّة من أجل الوَجاهة والبرستيج وليس من أجل البحث العلميّ.
نُطالبُ باستقلال الجامعة اللبنانيّة، وهو مطلبٌ محقٌّ. لكنَّنا لا نعمل، على المستوى الفرديّ والجَمَاعيّ، من أجل استقلالها. ونلُوم الشَّعبَ الذي يُجدِّد ويعيدُ انتخاب الطَّبقة السِّياسيَّة ذاتَها، التي هي، في أدبيَّاتِنا، مسؤولةٌ عن كل هذا الفساد والخراب اللذين نعاني منهما، لكنَّنا، للأسف، نمارس الفعل ذاته.
لا استقلالَ ولا مكانةَ للجامعة اللبنانيّة إنْ لم يترفَّع الأستاذ الجامعيُّ نفسُه وإنْ لم يفكّ تبعيَّته للسِّياسيّ. دائمًا، نرى أنفسنا في منزلةٍ أدنى من منزلة السِّياسيّ وتستهوينا السُّلطة التي تُسيطر علينا وتتحكَّم بنا.
لقد آن الأوان لننْهمَّ بمستوانا الجامعيّ والثَّفافيّ والعلميّ الذي، وحده، يُعبِّد الطَّريق أمام استقلال الجامعة ورفع مكانتها. وشرط شروط هذا الاستقلال هو الانفكاك عن السِّياسيّ.
إنَّ الباحث الأكاديميَّ الجدِّيَّ لا يقبل أن يكون تابعًا للسِّياسيِّ، كما لا يسعى وراء المناصب الإداريَّة، لا بل يرفضها حتى لو فُرِضت عليه. وهو يُعرف بأبحاثه ومنجزاتِه العلميَّة لا بولائه السِّياسيّ أو منصبه الوظيفيّ.
وفي مسيرتي الجامعيَّة، تتَلمذْتُ على أيدي ثلاثة أساتذةٍ كبار: موسى وهبه وجورج زيناتي وعلي زيعور. لم يتولَّ أيُّ واحدٍ منهم أيَّ منصبٍ إداريٍّ، بل كانوا يتجنَّبون ذلك. ولم ينتمِ أيُّ واحدٍ منهم إلى أيِّ تيَّارٍ سياسيٍّ. كان انتماؤهم للفلسفة. ونشاطهم الفلسفيُّ والفكريُّ هو الذي رَفَعَهم إلى أعلى المستويات. وستبقى أسماؤهم مضيئةً في سماء العرب أكثر من أيِّ عميدٍ أو رئيسٍ للجامعة اللبنانيّة، وضَعَتْه السِّياسةُ في المكان غير المناسب له.
كان ماركس لاجئًا من بلدٍ إلى آخر. وكان مضطهَدًا من السُّلطات أينما حلَّ إلى أن استقبله صديقه ورفيق دربه إنجلز في بريطانيا، فشعر بنوعٍ من الحماية والسَّلام. ولم يُعرف عن نيتشه الذي أثَّر التَّأثير الأكبر في أجيالٍ من الفلاسفة وعلماء النّفس والكتَّاب أيُّ سعيٍ وراء أيِّ منصب. وأكبر حماقةٍ ارتكبها هيدغر في حياته هو قبوله بمنصب رئاسة الجامعة في العهد النَّازيّ. لقد ألحق العار به وبالفلسفة إلى الأبد. عن هذه الحادثة المشؤومة يقول دولوز: "لم يفعلْها فنَّانٌ كبيرٌ، لكنَّ فيلسوفًا كبيرًا فعلها!!!".
هذه نماذجُ ممّا يجب على المفكِّر أو العالِم أو الفنَّان أن يتطلَّعَ إليه أو يقتدي به. ما يحصل عندنا هو العكس في غالبيّة الأحيان. فبدلًا من أن تبدأ المسيرة العلميَّة بعد شهادة الدكتوراه، فإذا بها تكتمل وتنتهي مع هذه الشَّهادة، فلا نعود نرى أيَّ إنتاجٍ ذي قيمة. وهكذا نتوه في حمأةِ السِّياسة وندور في فلك السِّياسيّ. وبسبب ذلك، لن تقوم للجامعة قائمة.
في الفلسفة، لا ينفصل المعنى عن المبنى ولا المضمون عن الأسلوب. وكلُّ مضمونٍ يجب أن يتجسَّد في أسلوب. لذا، علينا أن نهتمَّ بالأسلوب. وإذا اتفقنا أنَّ الأسلوب المناسب، اليومَ، هو أسلوب الشَّذرات، فيكون علينا، إذًا، الاهتمام بالشَّذرة. والشَّذرة يجب أن تُنحتَ كما تُنحت المنحوتة الصَّخريّة. ويجب أن تُرسمَ كما تُرسم اللوحةُ الفنِّيَّة. لذا، تتطلَّب كثيرًا من العناية والاهتمام بالأسلوب الذي تُكتبُ به حيث يجب أن يكون بالفصحى وخاليًا من الأخطاء ومشكَّلًا ويحترم علامات الوقف، وبالمضمون الذي يجب أن يكون غنيًّا وعميقًا ومكثَّفًا ويُعبِّر عن فكرةٍ فلسفيّةٍ أو علميَّةٍ جديدةٍ أو يصوغ مشكلةً ويطرحها للمعالجة. لذا، فإنَّ الشَّذرةَ تتطلَّب كثيرًا من العناية ومهارةً عاليةً وتمرينًا طويلًا وشاقًّا حتى تأتيَ عميقةً وغنيَّةً ومكثَّفةً ومكتفيةً بذاتها ومعبِّرةً بكلماتٍ قليلةٍ عن فكر صاحبها وعن المشكلة التي يطرحها ويُعالجها.
من هنا، علينا أن نربِّي أجيالًا جديدةً من الكتَّاب على هذا الأسلوب من الكتابة، الذي نراه صالحًا ومناسبًا للعصر الافتراضيّ.


(31/5/2019) 

الثلاثاء، 28 مايو 2019

بين الثقافة والنبوّة (وجهة نظر)؛ م. ح.



 بين الثقافة والنبوّة (وجهة نظر).

لطالما اهتمت الأبحاث والدراسات بالبيئة التي عاش فيها النبي محمد، البيئة الثقافية والدينية والمعرفية..
الديانات التي كانت سائدةً في الجزيرة العربية وبلاد الشام، الأشخاص الذين التقى بهم وتعرّف إليهم..
خديجة وورقة وبحيرا الراهب والأحناف وغيرهم..
لقائلٍ أن يقول، إن هذه الأبحاث تضمر فرضيّةَ أن محمداً قد جاء بما جاء به من خلال تلك المعارف التي تعرّف إليها وتأمّل بها. وبمعنىً آخر، إن خلفية تلك الأبحاث هي إنكار الوحي الإلهي عن النبيّ محمد، وهذا غالباً صحيح. لكن ليس بالمطلق.
هل افتراض وجود الوحي الإلهي، أو الإيمان به، يفترض انفصال ذلك الوحي عن معارف النبي وآرائه وتأملاته؟
هل افتراض الوحي الإلهي يستلزم القول بأن معارف النبي كانت جديدة عليه ولم يتعرّف إليها قبل الوحي؟ وهل جاء الوحي ليلغي عنده معتقداته السابقة؟ أم إن تأهله للنبوّة وللوحي كان بسبب اقتراب معارفه ومعتقداته مما سيأتي به الوحي؟
وما هو الوحي؟ هل هناك فرق بين تأملات النبيّ والوحي، أم إنه هي؟
حتى حين كان يتراجع (النبيّ) عن مواقف سابقة، بفضل ما جاء به "الوحي"، ألا يمكن افتراض أن الوحي كان ناتجاً عن مراجعات وتأملاتٍ عميقة في ما تراجع عنه، وأن هذه التأملات العميقة هي الوحي؟
هل النبوّة هي هذا النضج الشخصي للأنبياء بفضل اهتمامهم وتأملاتهم ومعاناتهم، أم إن شخصيتهم قبل الوحي كانت تشبه شخصية أي فرد في مجتمعهم، وفجأة جاء "الوحي" فصاروا أنبياء، واستبدِلت شخصيةُ النبي بشخصيتهم العاديّة السابقة؟
هل كان الأنبياء مثلاً عبدة أصنام، وفي ليلة وحي جاء الإلهام فجأة ليصبح من كان مثله مثل بقية القوم في يومٍ نبياً ومؤمناً بالتوحيد في اليوم التالي؟
هل كانت النبوّة انقلاباً في حياة الأنبياء، أم كانت المرحلة التي أُترِعَ فيها إناءُ شخصيتهم ففاض نبوّةً بعد مسارٍ من التأمّل والنضج والبحث؟


26/5/2019 

(عن الفيسبوك)

الخميس، 23 مايو 2019

جورج سارتون: مهد الحضارة الغربية: في الشرق الأوسط؛ ترجمة فاطمة عصام صبري.




جورج سارتون: مهد الحضارة الغربية: في الشرق الأوسط.
ترجمة فاطمة عصام صبري.


أنا لست موسيقياً مبدعاً ولكني وقفت سنين طوالاً من حياتي وأنا أسبغ مسحةَ التآلف على البون بين العلم والثقافة الإنسانية وأشرح وجهات الاختلاف بين الشرق والغرب، فليس في الأرض ولا في السماء موسيقى تعدل في جمالها توافق القلوب الصديقة أو المتحابّة.
رأى الشاعر اليوناني القديم هسيود مثلاً أن عصر الذهب الذي كان عصر السلام والكمال تلاه عصر الفضّة ثم عصر الصُفر ثم عصر الحديد. وإذا تابعنا تأملاته لزم أن نكون الآن في عصر اللدائن (البلاستيك) أو في عصر النفط. أفتكون تلك النهاية أم بدايةَ عصرٍ جديد؟
.. بتعبير آخر لم يؤمن القدماء بالتقدم إيماننا به اليوم، بل كانوا بالأحرى يؤمنون بالتقهقر وبأنه بعد العصر الذهبي الذي وُجِد قبل زمن طويل في الشرق الأوسط ما فتئ النوع البشري يتحدر من السيّئ إلى الأسوأ. ولقد شذّ استثناء واحدٌ عن هذه القاعدة وهو رجل بلغ به التفاؤل حدَّ الإيمان بالمستقبل. ذلكم هو الفيلسوف الروماني العظيم: سينيكا القرطبي، الذي عبّر عن حقيقة التقدم في مجال المعرفة تعبيراً واضحاً جداً. (* هامش: إن إيمان سينيكا بالتقدم العلمي يتلامح بعض الشيء في أفكار برنارد الشارتري (في النصف الأول من القرن الثاني عشر) حين قال: "نحن بالنسبة إلى الأقدمين أقزام تجلس على أكتاف العمالقة.. وقد ذهب هذا القول مثلاً..)
إن وجوه النشاط العلمي هي وحدها بين الأعمال الإنسانية تتواتر وتتقدم، ولهذا السبب يجب أن يتركز تاريخ النوع البشري في تاريخ العلم. (141)
ومن الطريف حقاً أن المصلحين الذين كثيراً ما ندّدوا بمصائب المجتمع ومظالمه كانوا متحمسين كبقية الناس يؤمنون مثلهم بأنالعالم (على سوئه) يتقدم يوماً بعد يوم.
بل إن رجال العلم إذ ذاك تجاوزوا في تفاؤلهم حدود الحكمة. بيد أن الكشوف الثورية التي تمّت في نهاية القرن الماضي [التاسع عشر] وغرّة هذا القرن [العشرين] هشمت ذلك الاطمئنان العلمي وغدا أفاضل رجالات العلم أقلّ ثقة من أقرانهم في الماضي وأكثر تواضعاً.
وقد تزعزع هذا التفاؤل الصلف عند إولئك الموسرين منالناس في إبان الحرب العالمية الأولى ثم انهار تقريباً في غمار الحرب الثانية. وها نحن أولاء قد عدنا إلى موقفٍ أقرب من الصواب.
إن التقدّم لا يقتصر على مجال العلم وحدَه حيث يبدو واضحاً، وإنما يتجاوزه إلى مجالاتٍ أخرى متعددة، ولكن يجب ألا نغالي في التفاؤل، ذلك لأن كل تقدم اجتماعي إذا وُجِد كان دائماً معرّضاً للزوال وقد تساوره الكوارث فتقطع عليه سبيله أو تردي به. وقد يكون التقدم على مرّ الزمن حقيقة واقعةً لا ارتياب فيها وأكيدة. لكن حياتنا شوطٌ قصير وربما لا يساعدنا الجد أن نشهد ذلك التقدم، إن المدنية ليست مرضاً بل هي توازن دقيق جداً قد ينقلب فيمسّه الاختلال بطرقٍ شتى. وكلما ازدادت المدنية اشتباكاً كان التوازن الذي ترتكز عليه أكثرَ وهناً وأسرعَ عطباً، وكلما سمت علوّاً كان انهيارها أعظم، لقد كان انهيار ألمانيا واليابان عبرةً للمعتبرين.
وعلى أيّة حال إذا شئنا أن نتفهم تاريخ النوع الإنساني أي أن ندرك كنهه فإن علينا أن نركّز انتباهنا على عناصر التقدم فيه أي على تكامل العلم. فتاريخ العلم (أو تاريخ المعرفة) يجب أن يكون نواة كل تارخ للحوادث الإنسانية. والإنسان يميّزه عن سائر الحيوان ذلك الاهتمام المتّقد بالخير والعدالة والجمال والحقيقة، فإن هو فقد اهتمامه بأيٍّ من هذه القيم الروحية فإنه لا يعدو أن يكون بهيمة، بل هو أشد البهائم قدرةً وأعنفها قسوة. ولذلك يكون أهمّ فصول التارخ تاريخَ الدين وتاريخ الفن وتاريخ العلم. على أن التقدم في تاريخ العلم وحدَه من فصول التاريخ تلك كلها يبدو ملموساً وأكيداً ولذلك لزم أن يتبوّأ تاريخُ العلم مكان الصدارة في صورة التاريخ كلِّه. وعلى هذا يكون تاريخ العلم قد بدأ حقاً فيما تواضع الناس على تسميته بالشرق الأوسط، مع أنه يستحيل الجزم في أي جزءٍ من الشرق الأوسط استهلت تلك البداية، بالجزء الغربي منه: أي مصر، أم بالجزء الضارب إلى الشرق، أي ما بين النهرين.
.. لقد كان عسيراً قبل هذا القرن [العشرين] قبول [فكرة] أن مهد المدنية الغربية إنما يقع على شواطئ النيل والفرات، بيد أن هذه الحقيقة أصبحت اليوم ساطعةً جداً، ونحن نستطيع أن نجزم بلا تردد فنعلن أن العلم الغربي قد ولِد في تلك البلاد..
ومنذ عهدٍ غير بعيد حسب الباحثون أن جذور المدنية الغربية ينبغي أن تُلتَمس في اليونان للعلم وفي فلسطين للدين، ولم يحاولوا أن يذهبوا إلى أبعدَ من ذلك. واليوم نعرف أن اليونان واليهود هم جميعاً مدينون للمصريين وللبابليين بل ربما أخذوا أيضاً عن شعوب أخرى رائدة.
فالعلم اليوناني لم يكن بدءاً جديداً وإنما هو استمرار لجهودٍ يرجع تاريخها إلى أبعد من ألفي عام وراء ذلك على الأقل. لدينا مؤلفات مصرية مفصّلة في الرياضيات والطب يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر (ق.م) غير أنها مستقاة من كتاباتٍ أخرى تقدمت عليها أيضاً بعدّة قرون. ويتحدث أطباؤنا عن أبقراط على أنه أبو الطب وخيرٌ لهم أن يتذكروا أن أبقراط لا يقف في أول طريقِ الطب بل في منتصفه بين الطبيب المصري القديم أمحوتب وبيننا.
إن أقدم علماء الطبيعة بين اليونان (هم الذين كانوا يدرسون الطبيعة) وأقدم فلاسفتهم (محبي الحكمة) لم تتألّق نجومهم في أوروبة بل على شاطئ أسية الغربي والجزر المجاورة له. كانوا ينتمون إلى جاليات يونانية ولكنهم خضعوا للتأثيرات الشرقية. كان اليونان أنفسهم يرنون بأبصارهم إلى الجنوب وإلى الشرق يلتمسون مهد المعرفة والحكمة. وكثيرٌ منهم من رحل إلى مصر وبابل بغية البحث. إني أدعوهم يوناناً وهو تعبير يفتقر إلى الدقّة. إذ شد ما اختلطت العروق مراراً في الشرق الأوسط وشرقيّ البحر المتوسط في غرّة الألف الثاني (قبل الميلاد).
لقد حجب المؤرخون الكلاسيكيون عنّا النظر في هذه الحقائق. لنأخذ مثلاً أقوالهم في الحروب الفارسية وأقوالهم عن المآثر المجيدة لموقعتيّ ماراتون (490 ق. م) وسالاميس (480 ق. م)، إذ قد تصوَّر هذه الحروب على أنها نزاع بين الاستبداد الآسيوي والديموقراطية اليونانية، بيد أنه من التضليل الكبير أن تُعتَبر حرباً بين الشرق والغرب. ذلك أن الفرس كانوا حلفاء للفينيقيين الذين كانوا يتشبّهون بالغربيين تشبّه يهود العصر الحاضر بهم، في حين كان كثيرٌ من اليونانيين يترسّمون خُطا الشرقيين. ولم تكن تلك الحروب كذلك نزاعاً بين الآريين والساميين، لأن الفرس كانوا كأغلب اليونان آريين على حين كان حلفاء الفرس الفينيقيون ساميين. وكذلك كانت الأمبراطورية الأخامانية تركيباً كشتبكاً من عروق الشرق الأوسط وشعوبه، امتزجت جميعاً مراراً في إبّان ألوف السنين. وكانت الآرامية هي اللغة العامة في تلك الأمبراطورية وهي لغة ساميّة. يجب ألا يغرب عن بالنا أن الشرق الأوسط هو أرض تقع في ملتقى سبلٍ متعددة. وإذا دُعِيت بلادُنا أحياناً بالبوتقة، فإنه لوصفٌ أشد انطباقاً على الشرق الأوسط، مع فارقٍ كبير هو أن أمريكة كانت بوتقةً زمناً ينيف قليلاً على مائتي عام، على حين كان الشرق الأوسط كذلك موطناً لامتزاج الشعوب مدةً أطول بعشرين مرّة على الأقل.
لنعد إلى العلم اليوناني. لقد تخلّلته تأثيرات شرقية متنوّعة إيرانية وبابلية ومصريّة. أمثال تلك التأثيرات يمكن أن نتقفاها في كتابات أفلاطون فضلاً عن كثير من الكتّاب اليونان الآخرين الذين بدا الأثر الشرقي في ما كتبوا أشد وضوحاً.
ولو أمكن إجراء مسحٍ لجميع الأفكار الشرقية التي تتضمنها الكتابات العلمية اليونانية لكان ذلك مفيداً، بيد إنها مهمّة طويلة ليس بوسعنا إلا التنويه بها في الوقت الحاضر. (144)
بدلاً من ذلك يجب علينا الآن أن نهجر الماضي البعيد ونحلّق طوال القرون حتى نصل إلى القرن السادس الميلادي، ولنقُل على وجه التحديد إلى سنة 529م التي أبرمها القدر حين أُغلِقت أكاديمية أثينا وافتُتِح دير مونت كاسينو، إذ ليس بوسع المرء أن يجد تاريخاً أكثر ملاءمةً من تلك السنة ليكون الحد الروحي الفاصل بين عهدين اصطلح على دعوتِهما العصر القديم والعصر الوسيط. في ذلك الوقت كانت كنائس الشرق الأوسط المتعددة، المارونية والنسطورية والجريجورية والقبطية والحبشية واليعقوبية (وهذه الأربع الأخيرة تؤمن بالطبيعة الواحدة في المسيح) قد توطدت أركانُها وبعُدت كثيراً عن حظيرة الكنيسة الرئيسية.
وزاد الحال سوءاً أن وحدة تلك الحظيرة تمزّقت شطرين بالانشقاق المشتد بين الكنيسة البيزنطية أو الأرثوذوكسية في الشرق والكنيسة الكاثوليكية في الغرب.
وكثيراً ما يتردّد الكلام اليومَ على الستار الحديدي الذي يفصل شرقيّ أوروبة عن غربيّها فمثل هذا الستار فصل لمدةٍ طويلة في العصر الوسيط بين العالمين اليوناني واللاتيني.
(*) وجهة النظر الأرثوذوكسية ترى للمسيح طبيعتين إلا أنها تعتبره شخصاً أو أقنوماً واحداً. أما النسطورية فتذهب إلى أنه ذو طبيعتين وأنه شخصان أو أقنومان. وقد حكم على هذه الآراء بالكفر في مجمع أفسوس سنة 435م. أما القائلون بالطبيعة الواحدة فيأخذون الجانب المقابل في الجدال ويزعمون بأن المسيح طبيعة واحدة فقط وشخص واحد وقد حكم عليهم بالكفر مجمع خلقيدونية أيضاً عام 451م.)
وفي ختام القرن الثامن كان ذلك الانقسام تاماً والخصومة مستحكمة بين اليونان واللاتين حتى إن اللاتين لما أرادوا أن ينهلوا من ينابيع الحكمة القديمة آثروا أن يتعلموا اللغة العربية على اللغة اليونانية.
ولكني أجدني مسرعاً في الرواية. إذ يجب علينا أن نتوقّف لحظةً لنقصّ ولو باختصار حادثاً من أخصب حوادث تاريخ الإنسانية وهو مولد الإسلام.
.. المنصفون يقولون ببساطة أن الإسلام هو ثالث.. الأديان العظيمة الثلاثة التي تتتام والتي تنتمي لزمرة واحدة. يبدو الإسلام بأحسن ملامحه كما صوّره السلفيون في كتبهم مشبهاً لمذهب التوحيد النصراني، ويبدو بأسوأ مظاهره حين تسربت إليه الخرافات على نحوٍ لم تبلغه الكاثوليكية في أحط صورها ولا العبادة البيزنطية. بيد أن هذا لا شأن له بالدين ذاته وإنما يرجع إلى أن أشد طبقات المسلمين فقراً كانت نسبياً أكثر عدداً وأدهى تأخراً وأقلّ ثقافةً من جماهير العامة في إيطالية أو أسبانية مثلاً. (146)
.. إن الرسول لم يكن يعرف لغةً غير لغته، فمن الطبيعي إذاً أن يعلّق أهميةً كبيرةً على تلك اللغة. إن الذين يتكلمون لغةً واحدةً لا سيما أولئك الذين هم على حظٍ ضئيل من الثقافة يجنحون غالباً إلى اعتبار لغتهم اللغة الوحيدة الفذّة، فالوحي الإلهي إنما نزل على الرسول بالعربية (وليس في ذلك ما يدهشنا!) وعلى ذلك تكون العربية لغةَ الله.
(*) كلما تكلم المؤلف على الإسلام أبدى زيادة جهل وعلى الأقل نسي كل الخلاف الطويل العريض الذي ثار في تاريخ الكلام حول كلام الله، والأفضل أن يرجع إلى بسائط كتب التوحيد المتداوَلة بين المسلمين ـ المترجِمة. (فاطمة عصام صبري)
وقد ألحّ الرسول على وجوب تلاوة القرآن بالعربية، وبسبب ذلك التصوّر وصدق تأكيده على شرعية اللغة العربية وحدها، هيّأ لهذه اللغة أن تكون إحدى اللغات القليلة البارزة في العالم وإحدى الوسائل الرئيسية للثقافة في العصر والوسيط وظلت حتى اليوم لغةً عالمية الانتشار.
اسمحوا لي أن أستطرد قليلاً فأشير إلى أنّ نشوء ألوفٍ من اللغات وتكاملها مستقلاً بعضُها عن بعض، لهُوَ سرٌّ من الأسرار العظيمة في الحياة. بعض هذه اللغات آية في البراعة والتركيب المنطقي والاشتباك. وإنه ليتعذّر علينا أن ندرك كيف نمت تلك البنى المشتبكة الجميلة حقاً إذ كان ذلك النموُّ عفوياً إلى حدٍّ بعيد.
لقد وُجِدت اللغات الطبيعية قبل أن يفكر الإنسان في النحو والصرف أو في اللغة بزمنٍ طويل. وأُنشئت حقاً فرائدُ الأدب اليوناني قبل أن تدوَّن كتب النحو اليوناني الأولى، ويجوز أن يعالَج كمال كلِّ لغةٍ بالتحليل والوصف ولكن في آخر الأمر لا يمكن أن يناله التنويه أكثر مما ينال التنويه جمالَ طيرٍ أو زهر. وقصارانا أن نعرب عن إعجابنا بالجمال فنباركُه بالتمجيد (أو نقول ما شاء الله)، ولقد اتفق أن اللغة الوحيدة التي عرفها الرسول كانت من أجمل اللغات في الوجود (وما كان الرسول ليستشفّ من وراء الغيب ذلك لو لم تكن له بصيرةٌ إلهية). [يقع سارتون في التناقض بين القول بالجنوح إلى اعتبار اللغة العربية هي اللغة الوحيدة الفذة وأنها لغة الله إلى "حظٍ ضئيلٍ من الثقافة"، وبين اكتشاف الرسول أن العربية "كانت من أجمل اللغات" بفضل "بصيرةٍ إلهية"، أو لنقل بفضل عبقريته]
إن كنوز الكلمات العربية زاخرةٌ لا تُحصى، وتكاد سعة ازديادها لا تقف عند حدّ، لأن تصريف اللغة المشتبك الأنيق ييسر إنشاء مشتقّاتٍ جديدةٍ من الجذع الأصلي بحسب مقتضى الحاجات. (*)
(* هامش للمؤلف): انظر مثلاً مصدر (س ل م). سلم يمعنى نجا من الخطر، سلّم: حيّا، سالم: دخل في السلم، أسلم: أذعن ومنها كلمة الإسلام، تسلّم: تقبل ، سلام: تحية، سليم: صحيح، استلام مصدر التقبّل، الاستسلام: الانقياد، مسلم: المؤمن بالإسلام، المستلم: المتقبل، مسالم: مائل إلى السلام وهلم جرا إلى ما لانهاية له تقريباً، وفق ذلك يجري التصريف على نظام متسقٍ جداً بحيث إذا مرّت بالقارئ صيغةٌ جديدة استطاع أن يستنبط بوجه العموم معناها من سياق الكلام. ويسع دارسي العبرية أن يفهموا ذلك كدارسي اللغة العربية، إلا أن طواعية العربية تفوق جداً طواعية العبرية. (سارتون)
[يشير الدكتور عبد الرحمن السليمان، المتخصص في الترجمة، عن مرونة اللغة العربية بإعطاء مثال كلمة "استكتب"، والتي يقول بأنه للتعبير عن هذا المعنى في لغةٍ أخرى نحن بحاجة إلى كتابة عبارة طويلة]
إن كنوز الكلمات العربية زاخرةٌ لا تحصى، وتكاد سعة ازديادها لا تقف عند حدّ، لأن تصريف اللغة المشتبك الأنيق ييسر إنشاء مشتقاتٍ جديدة من الجذع الأصلي بحسب مقتضى الحاجات.
وكأنما قيِّض للغة التي لم يتداولها قبل القرن السابع إلى البداة الجفاة أن تغدوَ مطيّةً رئيسيةً للدين والعلم في العالم. ولمّا كانت لغةُ القرآن لغةَ الله كانت كاملةً بالتعريف. وإنه لاتفاق رائع أيضاً أن يكون الرسول علماً باسقاً في اللغة (*) قميناً أن يتلقى الوحي الإلهي بدقّة وأن تكون صيغة ذلك الوحي كالشعر أو بليغةً مثله.
(* هامش للمؤلّف): بالرغم مما يريد أن يؤمن به المسلمون لم يكن الرسول معصوماً عن الخطأ. وفي القرآن جُمَلٌ متعددة كان بوسع النحاة أن يعتبروها غير صحيحة لو وجدوها في أي كتابٍ آخر. ومع ذلك لعلّه من التعسّف ومن التحذلق الإلحاح على هذه النقطة، إذ من السهل أن يجد المرء ألواناً من اللحن والعجمة في أيّ أثرٍ أدبيٍّ رائع. ووجود هذه الأخطاء في الكتب المقدسة لا يناقض كمال الله بل إن تفسيرها أسهل من تسويغ وجود الشر في العالم لأن هذه الكتب المقدسة إنما كتبها ونقلها البشر.
(** تعقيب للمترجِمة): لا يُنتظَر من أعجمي أن يفهم اللغة مثلَ كبار العلماء الذين لم يكن لهم مثيل في الاطلاع وسعة الدراية وقد قضَوْا حياتَهم في الإعجاب بمعجزة البيان في القرآن التي كانت تحدياً للعالمين. وقد أفاض علماء العرب بذلك وكتبوا الكتب المطوّلة. وربما كان معذوراً شخصٌ تعلّم اللغة العربية، دون أن يتقنها، أن يظنّ ذلك، لأنه لا يستطيع فهم كلام العرب القديم، بل القرآن الكريم. والأخطاء التي يشير إليها المؤلف  لا شك أنه لم يفهم وجوه البلاغة فيها كما شرحها المفسّرون. وورودها في القرآن الكريم وتلقي العرب لها دليلٌ على صحتها وأصالتها لأن السماع في اللغة هو الأصل فهو حجة على النحويين شأنه في ذلك كشأن كلام العرب الفصحاء وليس النحويون حجة على كلام العرب بل القرآن الكريم. (فاطمة صبري)

لقد ساعد القرآن على توحيد اللغة العربية، وما كان له أن يمنع نموّ عدّة لهجات في الاستعمال الشائع لا سيما حين صار يتكلم أبناء الشعوب الأخرى، ولكنه هيّأ من تلك اللغة نموذجاً عالمياً لأرفع مآرب الحياة.
الأمر الثاني أن الرسول قد أعلن فريضة الحج على كل مسلم مرة في العمر على الأقل من استطاع إليه سبيلا. لقد كان الحج أمراً بسيطاً نسبياً لسكان الجزيرة العربية مواطني الرسول، كان رحلةً معتدلة الأمد في إقليم اعتادوه وألِفوه (ولم يكن أحدٌ يفكر إذّاك في سكان البلاد الأخرى (*) ولكن لمّا أن انتشر المسلمون في بقعةٍ كبيرة من الأرض صار الحج عند بعضهم فرضاً ثقيلاً. ربما ساتغرق عاماً أو أكثر وربما استلزم من المشقّات وضروب الحرمان ما هو بعيد عن التصديق. وقد عمل على تأديته عددٌ مدهش كبير من الناس على رغم كل عقبة. وعلى أيّة حال، فإن معظم الزعماء أدَّوْه غالباً أكثر من مرّة. فقد حجّ أبو الفداء مثلاً ثلاث مرّات على الأقل، وحجّ ابن بطوطة ست مرات.
وفي الموسم المخصّص لأداء الواجب المقدّس هذا تصبح مكة والمدينة وكأنهما مقرُّ مؤتمرٍ عالميّ يؤمّه أناس وحّد بينهم الفكر فيجتمعون فيه ويتبادلون وجهات النظر. وليس الهدف من ذلك أن يلتقي كل حاجٍ أريب بحجاج البلاد الأخرى وحسب فيوسع بذلك معرفته بالعالم الإسلامي أو ما يمكن دعوته (بدار الإسلام)، بل كانت تلك المواسم المقدسة بما تثيره من حماسة عامة تقوي أيضاً إيمان الحاج بدينه وبوحدة أمّته.
(* تعليق للمترجمة): هذا غير صحيح لأن المسلمين منذ بداية أمرهم فكّروا في تحرير إخوانهم العرب من سلطان الروم وسلطان فارس وكذلك في القرآن إشاراتٌ كثيرة إلى رسالة الرسول العالمية.
ثم إن التعبير غير دقيق فإن فريضة الحج وحيٌ إلى الرسول ورد في القرآن الكريم. (فاطمة صبري) (148)
وإنه لعسير على المرء أن يتصوّر وسيلةً أبسط وأنجع لضمان الوحدة الروحية لدى الجماعة المسلمة من هذه الوسيلة التي دعا لها الرسول قبل أن ينتشر المسلمون في البلاد الأجنبية والأقاليم البعيدة وتصبح الحاجة إلى الوحدة أشدَّ مسّاً وأكثر اقتضاءاً أضعافاً مضاعفة. وإن دارس الحضارة العربية ليعجب أشد العجب بالسرعة التي كانت تسري بها الثقافة من أقصى دار الإسلام إلى أقصاها. فعندما ازدهرت مثلاً فلسفة إخوان الصفاء وعلمُهم (في النصف الثاني من القرن العاشر) في البصرة، عرفت ذلك أسبانيا في وقتٍ جدِّ قصير، وكذلك في المقابل سرعان ما انتشرت في سورية آراء ابن عربي الإشبيلي الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث عشر، إذ أقام في دمشق بعد أدائه فريضة الحج وبقي فيها حتى مات عام 1240م. وقصارى ما يراه الباحثون في هذا الشأن أن الحج كان في القرون الوسطى يعادل ما ندعوه رحلات البحث وتبادل الأساتذة بين المعاهد وأمثال ذلك في عصرنا هذا، بل إنه ليفوق  نسبياً هذه الرحلات أهميةً لأن وسائل الاتصال الأخرى (كالمجلات والصحف) لم تكن إذّاك معروفة. كان طالب العلم يستطيع أن يوفّق بسهولةٍ بين طلب العلم وبين الحج فيتوقف في طريقه مواقف متعددة ولفترات تتفاوت حسب الاقتضاء ليلتقي بأئمة العلماء في كل بلد ويأخذ عن مشهوري الأساتذة في حلقاتهم بالمدارس المختلفة، وربما تزوج ثانيةً وثالثة كما فعل ابن بطوطة، لعلّ هذا يخوّله أن يمتاح من ينابيعَ جديدةٍ للمعرفة. (148)

الأمر الثالث هو فرض الصيام نهاراً لمدّة شهر،
.. وخلاصة القول أن الرسول أذاع عقيدة التوحيد قبل مجيء طائفة الموحّدين المسيحيين بما يناهز تسعة قرون [لم أفهم المقصود من هذه العبارة] وأعلن تفوّق اللغة العربية دون ان يعرف لغةً غيرَها، وأنشأت مركزاً حضارياً للإسلام قبل أن تبرز شدة الحاجة إلى مثل هذا المركز حين بدأ الناس يدخلون في الدين أفواجاً من مختلف الشعوب والعروق، وبادر إلى تحريم المسكِرات بزمن طويل قبل أن يصبح أو يوشك أن يصبح السكر كارثةً كما هو في أيامنا هذه.
دعوني أؤكد هذه النقطة: لم يتح لنبيٍّ أن يحقق نبوّته تحقيقاً تاماً كهذا الرسول. وبصورةٍ خاصة قيّض تنويهه بعلوّ اللغة العربية وبحاجة الدين إليها انتشارها الراهن وسيادتها قروناً كثيرة.
ولولا دفاعُه الضمني عنها لبقيت العربية لغةً قبليةً لا شأن لها أو لاندثرت الاندثار كله على نحو ما تعرضت للزوال لغتا نصارى الشرق الأوسط المقدستان: السريانية والقبطية لما توانَوْا في أمرها. لم يكن ممد نبيّ الإسلام وحسب بل هو فوق ذلك نبيّ اللغة العربية والحضارة العربية بصرف النظر عن العروق والقوميات التي تنتمي إليها.
لقد قبلت القبائل العربية عموماً الدين الجديد بسرعة مذهلة وهكذا وجدت أنفسها موحّدة على أساسٍ متين لأول مرة في تاريخ وجودها. وهنالك برهان أكيد على سرعةِ قبول هذا الدين وهو وضع التقويم الجديد (الذي لا يعنى به إلا المسلمون) وكذلك اتخاذ ترايخ جديد يعتبر مطلعه 15 تموز سنة 622م، أي بعد الهجرة بسبعة عشر عاماً فقط. على حين مرّ خمسة قرون أو عشرة على وضع التاريخ [التقويم] المسيحي حتى رسخ (*). ولكن الذي سهّل توطيد التقويم الإسلامي طبعاً أنه ورد في القرآن فغدا بذلك جزءاً هاماً في الدين، وأثناء ذلك اتسعت رقعة الإسلام بالسيف، وفي هذا الاتساع كان الحظ والشجاعة حليفين متكافئين عقدا الغار على رؤوس الفاتحين، فلا يعود الفضل في انتصاراتهم إلى قوّتهم واتقاد حماستهم (وإن كانا عظيمين) أكثر منه إلى ضعف أعدائهم وتفرقهم. لقد كانت الأمبراطوريتان البيزنطية والفارسية تتداعيان منذ قرون. وقد أوهنت كلٌّ منهما الأخرى بحروب متصلة، وعلاوة على ذلك كانت الإدارة البيزنطية الكنسية والمدنية ترهق نصارى أسية احتقاراً وظلماً حتى غدا هؤلاء سراعاً في خيانتهم لها إلى عدوٍّ ذي بأس، فما كان بوسع كلتا الأمبراطوريتين أن تقاوم العاصفة.
وقصة الفتوحات الإسلامية الأولى تحكي إلى حدٍ بعيد قصة انتصارات هتلر في أوروبة في عصرنا هذا. سقطت دمشق في آذار عام 635م، وخطّت موقعة القادسية في شهر تشرين الثاني من العام نفسه نهاية الأمبراطورية الفارسية، واستسلمت القدس وخضعت بلاد ما بين النهرين سنة 647م. وفتحت مصر فس 640ـ 641م. أما فتح أسبانية فقد تأخر إلى سنة 710ـ 712م الموافق 91ـ 93هـ. تم كل هذا في إبان القرن الإسلامي الأول.
(* هامش): إن الفروق بين القرآن والعهد الجديد شاسعة جداً. وذلك يعود إلى أن القرآن صدع به وتلاه الرسول نفسُه وقد كان يعلم تمام العلم ماذا ينبغي فاشتمل على جميع المسائل الجوهرية في حياة المسلم من دين وتوحيد وشريعة وتقويم ولغة. أما العهد الجديد فلم يمسَّ قضيّة اللغة، وإذا طوينا صفحاً عن ألف لغة نُقِل إليها الإنجيل، يكفي أن نذكر أن الكنيسة الكاثوليكية قد نجحت تقريباً في إحلال لغة أخرى (مقدسة) وهي اللاتينية محل لغته الأصلية. وكذلك لم يبتكر الإنجيل تقويماً جديداً. وإنما أدخل التاريخَ المسيحيَّ راهبٌ سيثي من النصف الأول من القرن السادس يدعى ديونيسيوس إيكسيغوس وكان قبوله تدريجياً فاتراً. (المؤلف)
ولكي نقدّر هذه الحوادث حق قدرها يجب أن نتذكر أن العرب كانوا إذ ذاك قريبي عهدٍ من حال البداوة. لقد قايس بعضُ المؤرخين الفتوحات العربية لآسية وإفريقية وأوروبة بهجرة الجفاة المتوحشين (الهون ـ القوط ـ الفاندال وغيرهم) الذين قوّضوا الأمبراطورية الغربية (عام 476) واستمروا في طمس معالم أوروبة قروناً متعددة بعد ذلك. إن البدو لم يكونوا ليختلفوا عن الهنود الحمر، في الخير والشر، وانتصارهم على أكثر البلاد تمدناً في ذلك العهد يبدو لأول وهلةٍ متناقضاً كما لو نجح الهنود [الحمر] بالتغلب على الرواد الأمريكيين وامتلكوا أعنّة أمورِهم وأدخلوهم في خدمتهم. قد يفيد مثل تلك الموازنة لبيان التناقض الكبير بين المنتصرين والمغلوبين، ولكنه داحضٌ في جوهره. لقد كان الفاتحون العرب في أول أمرهم بداةً أمّيين إلا أن إيماناً ملتهباً كان يوحّد صفوفهم ويزيدهم مجداً، وفي هذا الشأو أيضاً تحققت نبوّة الرسول تمام التحقق. لم تكن الفتوحات العربية نتيجة صراعٍ بين متوحشين جياع وسكان مدنٍ متداعية، بل كانت على الأصح نتيجة صراعٍ بين دين جديد وحضارةٍ جديدة ناشئية من جهة وبين عدّة مدنيات منحلّة سيّئة مضطربة من جهةٍ أخرى. كانت إلى حدٍ بعيد ضرباً من حربٍ صليبية مضادة. كانت انتصاراً للهلال على الصليب.
تفصيلات هذه الجهود الهائلة تعني المؤرخين السياسيين، ولكن الأحوال النفسية القومية التي تتلامح وراءها لدى الجانبين: الجانب المغلوب والجانب الغالب، موضع اهتمامٍ بالغ عند مؤرخي العلوم. لقد كان الإيمان المسيحي يتقوّض منذ عدة قرون بسبب المشاحنات اللاهوتية وحرمان عضوية الكنيسة الذي كان يتبادله المسيحيون، وكان الإسلام من جهةٍ ثانية في ريعان نموّه مجتمع الكلمة، والجنود المسلمون تحفزهم آمالٌ جسام بالثراء والسلطان في هذا العالم وآمالٌ بالثواب الخالد في العالم الآخر. كان الإفيمان في الإسلام بسيطاً كريماً معتدلاً ومع ذلك إذا جدّ الجِدُّ اتقد إلى أبعدِ مدىً وانقلب المحاربون إولي بأسٍ شديد يبلغهم الظفر أو الشهادة، كلاهما سيّان عندهم. ومع أن المسلمين كانوا قادرين على التسامح فإن قوّتهم كانت مترتّبة إلى حدٍّ بعيد على شعورهم بالتفوّق الذي بعثه في نفوسهم النصر السريع وعلى الازدراء الأصيل الذي يكنّونه لغير المؤمنين (*).
(* هامش): لقد بالغ السير توماس أرنولد (1864ـ 1930) في وصف تسامح المسلمين مع الشعوب الأخرى التي تدين بعقائد مختلفة .. وذلك لرغبته العميقة في كسب صداقتهم. وغالباً ما يستشهد المدافعون عن الإسلام بالآية (لا إكراه في الدين) إلا أن هذا ناقضته آياتٌ أخلى في القرآن وفي الأحاديث تشرح فريضة جهاد الكفار، وعلى هذا يمكننا في مسألة التسامح أن نرسم للمسلمين صورةً ناصعة البياض أو حالكة السواد ومثل هذا يصدق على المسيحيين أيضاً. (المؤلف)
وما كان بوسع الغزاة المسلمين في مطلع فتوحاتهم أن يغالوا في التشدد لأنهم كانوا بحاجة للتعاون مع الشعوب المغلوبة، كان أطفال البادية يجهلون كل شيءٍ إلا دينَهم وشعرَهم فلم يكن يسعهم إدارة البلاد المفتوحة، ومن حسن حظهم أن فريقاً ساخطاً بين اليونان والسوريين واليهود والأقباط وأهل العراق والأسبان وغيرهم كانوا راغبين في خدمتهم. وقولنا إن العرب كانوا بحاجة لعون بعض هؤلاء الغرباء تعبير غير كافٍ، فإنهم لم يكونوا قادرين على أن يصنعوا شيئاً دون ذلك العون. لقد شيدت الأمبراطورية الإسلامية بالمشاركة الراضية من قبل اليونان والفرس والأقباط وغيرهم، نصارى ومجوساً وصابئةً ويهوداً. ولم يكن المسلمون بحاجة للعون في مجالَيّ الدين والأدب، أو هكذا حسبوا، ولكنهم سرعان ما أدركوا أن الامتياز الثقافي لبعض الأجانب يرجع الفضل فيه إلى جهازهم التقني أو العلمي.
وهذا يمهد لبيان ما يمكن أن ندعوَه معجة العلم العربي مستعملين كلمة معجزة لترمز إلى قصورنا عن تفسير ما قدّموا من منجزات تكاد لا تصدّق، وليس في تاريخ العالم كلّه ما يشابهها إلا تمثّل اليابانيين للعلم الحديث والتكنولوجية في العصر الميجي (*). وهذه الموازنة مفيدة لتماثل الحالين في الأصل: أدرك قادة الفكر العربي إلحاح الحاجة إلى العلم اليوناني إدراك اليابانيين قبل جيلين مدى حاجتهم إلى العلم الأوروبي. كلا الفريقين كان إلحاح الحاجة خير معلّمٍ له. كلاهما توافرت له الإرادة وضربٌ من الطاقة الروحية يتغلّب على العقبات الكؤد.
ولم يتح لهم ما يكفي من التجربة ولا من الصبر للتأمل في تلك العقبات فيخشوها. إنهم اقتحموها اقتحاماً.
(* هامش): وذلك في حكم الأمبراطور موتسو هيتو (1868ـ 1912) الذي دام أقل من نصف قرن. وكان هذا العهد أقصر مدّة من عهد تمثّل العرب للثقافة اليونانية. وهذا أمرٌ طبيعي فكل شيء كان أبطأ في العصور الوسطى وما كان للعرب تلك الأدوات المدهشة التي تزيد في سرعة كل عملية تربوية (كالمطابع والمحركات البخارية والبرق وغيرها..). هذا ويجوز أن نقايس تمثل اليابانيين للثقافة الصينية بتمثّل العرب للثقافة اليونانية في طول المدة. ولكن تمثل اليابانيين وقف عند ذلك الحد على حين أن المكاسب العربية كانت حلقة في تطور حضارتنا نحن، ولذا جاز أن نهمل الثقافة اليابانية إلا أننا لا نستطيع أن نضرب صفحاً عن الحضارة العربية دون خسارة.
.. يجد التنويه بأن تكامل العلم العربي الذي جاوز التصديق لم يبدأ إلا منذ النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة. كان الرسول عميق الاهتمام بالحياة الأخرى وبقضايا الأخلاق والدين التي تتصل بالحياة الدنيا فشغله ذلك بعض الشيء عن العلم. حاول بعض المدافعين عن الإسلام في العصر الحديث أن يتلمّسوا في القرآن طائفةً من الآراء العلمية ولكن هذا ليس بمقدورهم إلا إذا أعطوا الكلمات مضموناً ما خطر على بال الرسول أبداً ولا على بال أحدٍ غيره مدى قرون ولم يكن الخلفاء الراشدين أكثر عنايةً بالعلوم من الرسول، ويبدو أن الكتّاب اليونان الذين [كانوا] في خدمتهم كان إلمامُهم بتصريف الأعمال والإدارة أكبر من إلمامهم بالعلوم كما غبروا [؟] منذ حين عاجزين عن تقدير أعمال أجدادِهم الفكرية.
وبالجملة لم يوجد علم يمكن التحدث عنه في المدينة أو في مكة أو حتى في دمشق، ولم تظهر معجزة النهضة العربية قبل قيام الخلافة العباسية في بغداد. فما الذي حدث هنالك؟ لقد نشطت العبقرية العربية بفعل الخميرة الإيرانية إذ كانت المحاسن العربية والفارسية (والعيوب كذلك) متتامّة. ويرجع الفضل في معجزة العلم العربي إلى تفاعل العزيمة والمجد العربيين والإيمان الإسلامي بالفضول والتفلسف الفارسيَين.
ولوضع هذا القول في صيغةٍ أعمّ نقول: إن العلم العربي كان ثمرة لقاح العبقرية السامية بالعبقرية الإيرانية. ولعل هذا القول عام جداً وبعيدٌ من أن يكون قولاً محكماً دقيقاً ولكنه يساعدنا بوجه التقريب على فهم ما تم حدوثه في بغداد. فقد استطاع الحكّام المسلمون خلال قرنين من الزمن (750ـ 950م) أن ينقلوا المعرفة اليونانية إلى اللغة العربية بوساطة رعاياهم الذين يتقنون عدة لغات وأكثر هؤلاء نصارى ويهود.
لقد حاول بعض المؤرخين أن يخفضوا من شأن هذه المنجزات الكبيرة مدّعين بأنه لا أصالة في ما قدّمه العرب وأنهم ليسوا سوى مقلّدين. ومثل هذا الحكم خطأٌ كلّه. ذلك أنه من وجه ما، لا شيء أعمق أصالة من ذلك السغب الشديد للمعرفة الذي كان يلج بالقادة العرب. لقد كانوا حقاً في حاجةٍ مباشرةٍ إلى جزءٍ من تلك المعرفة للإدارة والحكم ولكنهم تجاوزوا بسرعةٍ المرحلة النفعية إلى مرحلةٍ أخرى أسمى منها. قد يقول المرء إن الطب معرفةٌ عملية ومثله الفلك إذا اتصل بمآرب التنجيم، ولكن العرب ترجموا كثيراً غير ذلك في الرياضيات والفلسفة التي لم تكن تعدّ ذات نفعٍ إلا بأعلى الاعتبارات الأفلاطونية. وقد يقول معترض أيضاً إن أكثر أولئك التراجم كانوا أجانب غير مسلمين، بل كانوا غالباً من غير العرب. وعلى هذا كان كل فضلٍ في هذه الترجمات يعود إليهم لا إلى رؤسائهم.
كلا إنما الفضل لكلا الفريقين. ولقد كان أكثر أولئك التراجم أجانب لسبب بسيط وهو أن الخطة تستلزم درجةً من معرفة اللغات التي لم تتوافر للفاتحين المسلمين. فلكي يترجم المرءُ من لغةٍ إلى أخرى يجب أن يتقن كلتا اللغتين. وأمثال تلك الكفايات التي كان يتحلّى بها أولئك الأجانب كانت لازمةً ولكنها غير كافية. وبصورة عامة لا يتم عملٌ، لا سيما إذا كان عملاً طويلاً ومفروضاً إلا إذا كان ثمّة عقد العزم على أدائه. وكفل الباحثين الذين يقومون له. لقد كان الزعماء العرب تواقين إلى إنجازه متهيّئين لتيسير سبل ذلك الإنجاز ولهذا كانوا كثيراً ما تجري المنافسة الكريمة بينهم في هذا المضمار. فالمبادرة إلى ذلك إذاً كانت مبادرتَهم.
يحسن أن نتوقف قليلاً لنسأل أنفسنا: "ما التقليد؟". نحن كلنانقلد بالطبع آباءنا ومعلّمينا وأبطالنا. أما الأدعياء فيسيئون التقليد، فهم ينسخون ظواهر الأشياء وأما العباقرة فيحسنونه ويبدعون أشياءَ جديدة. وهدف التربية الحقيقي هو المحاكاة الحكيمة لأفضل الأمثلة، محاكاة المناهج لا محاكاة النتائج، وقد تم التقليد العربي في عدة مراتب وعلى عدّة أنواع منها الصالح ومنها الطالح. (152)
.. ولنرجع إلى العراق في العصور الوسطى: إن تفرد العلم العربي وخصبه إنما يكمنان في كون هذا العلم قد جمع العناصر اليونانية والشرقية وأبدع منها تركيباً جديداً أو جعل مثل هذا الإبداع ممكناً في المستقبل. كان يجوز أن ينتقل العلم اليوناني إلى الغرب اللاتيني بطريقة أبسط لو لم تكن المسيحية الكاثوليكية منفصلةً تماماً عن المسيحية الأرثوذوكسية بجدارٍ من التعصّب ومن الارتياب والضغينة. وبسبب وجود هذا الجدار وجوداً مؤسفاً لم يكن ثمة سبيلٌ للاتصال بين العلم اليوناني الغابر والعلم اللاتيني التأخر إلا بأن يعرج ذلك السبيل على العرب. وإذا نظرنا إلى ذلك من وجهة تكامل الإنسانية على أنها كلٌ مشتبك لاحت لنا الحضارة العربية الإسلامية ذاتَ أهميةٍ قصوى لأنها تقيم الصلة الرئيسية بين الشرق الأدنى والغرب كما تقيم مثل هذه الصلة بين الشرق الأوسط وآسية البوذية. (154)
لقد بلغت الفلسفة والحكمة العربيتان الذروة بفضل رجلين من المغرب الأقصى. ومن غريب الاتفاق أنهما ولدا في غضون سنين متقاربة وفي مدينة واحدة هي قرطبة التي كانت قد غدت قبل مولدهما بقليل ألمع مدينة في غربي أوروبا والتي كانت المنافسة الغربية لبغداد. ولد ابن رشد في قرطبة عام 1126م، وولد ابن ميمون بعد ذلك بتسعة أعوام في المدينة ذاتها. ومع أن ابن ميمون قد اضطر أن يرحل إلى المشرق بعد ثلاثين سنة من مولده (1165م) وأنه كتب أكثر مؤلفاته في القاهرة فإن هذا لا يبدّل شيئاً من حقيقة أخره وهي أنه كان مغربياً كابن رشد. على أن ابن ميمون كان يهودياً ولم يكن مسلماً.
لقد كانت العربية حقاً في إبان العصور الوسطى أكبر لغةٍ عَرِفت حتى ذلك الحين انتشاراً إذا كان يتداولها بالكلام والكتابة أممٌ كثيرة في الشرق والغرب ثم زيادةً على ذلك وعلى خلاف اللاتينية كانت تتداولها أيضاً شعوبٌ تدين بأديانٍ متعددة. لنعد إلى ابن رشد وابن ميمون. هذان مسلم ويهودي أتى على أعقابهما بعد قرنٍ مسيحيٌّ هو القديس توماس الأكويني. وهؤلاء الرجال الثلاثة يلخصون فلسفة العصر الوسيط. هؤلاء الرجال الثلاثة العظام، وقد ولِدوا جميعاً في الجنوب الغربي من أوروبة، يمثلون الأديان الثلاثة البارزة واللغتين الرئيسيتين في العصور الوسطى. ومن اليسير أن نورد أسماء مغربيين آخرين ليسوا قليلين زادوا جلال الحضارة العربية، ولكن حسبنا هذان العلَمان.
سجلت جهود ابن رشد وابن ميمون بلوغ الحضارة العربية أعلى منازلها، ثم بدأت تنحدر باستمرار بعد القرن الثاني عشر. على أن تلك الحضارة ظلت مؤثرة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر وإن كانت في سبيلها إلى الانحطاط. وكان من الشاق أن يدرك المشرق الإسلامي ذلك بسبب خُيَلاءَ ذاتيةٍ تزداد كلما تضاءلت الأعمال الجليلة (وإنها لقاعدةٌ عامة تنطبق على الشعوب كما تنطبق على الأفراد)، وكان الغرب أقلَّ إدراكاً كذلك لهذا التدهور فقد كانت مكانة العرب تزداد هناك [بينما] تتناقص جدارتهم بهذه المكانة. وهذه أيضاً قاعدة أخرى من قواعد الحياة. هنالك انزياح أو تخلّف دائم بين أعمال الإنسان (أو الأمة) وبين الشهرة الذائعة، تأتي الشهرة متأخرة وقد تتأخر حيناً بعد إذ تتوقف الأعمال المجيدة. وكيف لا يكون ذلك؟ والزمان لا مندوحة عنه في المآثر لكي تتاح معرفتها فيه وتقدّر حق قدرها.
إن الأعمال المجيدة التي حققتها الشعوب الناطقة بالعربية بين القرنين التاسع والثاني عشر كانت عظيمة حتى أنها أعيَت أفهامَنا. وكذلك كان انهيار الإسلام والعرب مذهلاً بسرعته وشموله مثلما كان نهوضهما. ولن يبرح الباحثون إلى الأبد يحاولون تفسير هذا الانهيار كما يحاولون تفسير انحطاط رومة وسقوطها. وأماثل هذه المسائل غايةٌ في التعقيد وتستحيل الإجابة عنها ببساطة. (155)
.. "إذا اقتلعت العاصفة بعضَ الأشجار، لا تُلام العاصفةُ وإنما تُلامُ الأشجار لخوائها."
لم تزعزِع النكسات السياسية ثقةَ المسلمين بأنفسهم بل على العكس زادت في الواقع من خُيَلائهم ولكن في طريقٍ خاطئ. فقد غدا البحث العلمي مصدوفاً عنه وليس له حافز بسبب جهل علماء الدين المسلمين واكتفائهم بما ألمّوا به. وتوقف التقدم العلمي بسبب تعنّتهم وإظلام آفاقهم. وقد استمر (العلماء) يقبلون القصة الخيالية التي كتبها علي ابن أبي الحزم ابن النفيس بعنوان (فاضل بن ناطق) بمعناها الظاهري. وهي محاكاةٌ لحيّ بن نقظان التي كتبها ابن طفيل. ألّف ابن طفيل (المتوفَّى عام 1186) قصّته الحكيمة حين كان الإسلام لا يزال في أوجه أما ابن النفيس الذي مات بعد قرن فإنه كان مثالاً لطلائع الانهيار حين قلّت المآثر وطما الغرور. وكانت الغاية التي قصدها ابن النفيس في كتابه هي أن يبيّن أنّ تسلسل الحوادث في الماضي الإٍسلامي جرى على نهجٍ لا يمكن تجنّبه، حتى إنه كان يمكن إعادة بنائه خيالاً بصورة قبلية. كان وهمُه من نوع وهمِ مسيحيٍّ يُدعى يوسيبيوس آمن أن التفوق المسيحي راجع إلى العناية الإلهية وإلى فضيلةٍ ذاتية فيه. وكذلك حسِب ابن النفيس أن الأعمال السياسية والعسكرية المذهلة التي قام بها الشعب المسلم كانت مجرد تحقيق لما خطّته العناية الإلهية.
(* هامش): أشاد بمثل هذا الدليل الفاسد ممثلو عددٍ من البلاد المتسلطة أرادوا أن يظنوا أن انتصارهم ليس أمراً عارضاً وإنما هو ببساطة ثمرة تفضّل الله لهم وعاقبة تفوّقهم الذاتي. ويعطي كتاب بوسوير "مقال في التاريخ العام (1681) مثلاً جيداً في هذا الموضوع. (المؤلف)
وقد تواتر البرهان على أن الانهيار الروحي لا شأن له بالهزائم العسكرية ولا بالكوارث السياسية. ففي هولندة مثلاً لم تكن السلطة المادية إلا ظلاً للسلطة التي نعمت بها في القرن السابع عشر ومع ذلك فقد ظلت حتى الآن بلداً من البلدان البارزة في ميدانَيّ الفن والعلم. وهنالك برهانات مشابهة قدّمتها أمم أخرى كبلجيكة وسويسرة والبلاد الاسكندنافية فهي على ضآلة قوّتها تقود العالم في شتى الأمور الروحية وهي مراكز ثقافية من الدرجة الأولى.
كلا لم يكن انحطاط الإسلام بسبب نقص القوّة المادّية والتفوّق السياسي وضياعهما بل بسبب أن القوّة الروحية فيه قد تداعت. إن الشعور بالعزّة الذي تضرمه فينا ذكرى أعمال أجدادِنا المجيدة هو شعور خطير لا سيما إذا رافقه تقاعسٌ في جهودنا. فالشعب الذي يقوم بالأعمال العظام لا يتبجّح بها إذ ليس لديه وقتٌ لذلك، وهو على تحقيق أهدافِه أشد إكباباً منه على استجداء الإطراء من الشعوب الأخرى. وعندما يهرم أفرادُه وقد أنجزوا ما كان عليهم عملَه يغالون في ترديد ذكرياتِهم وتمجيد أنفسهم. إن هذا ليس أمراً ذا بال في حياة الأفراد القصيرة إذ لا بأس من أن يسمح لهم بوقتٍ قصير يستمتعون فيه بدفء الشمس قبل أن يرحلوا، ولكنه ـ بخلاف ذلك ـ أمرٌ على جانبٍ كبير من الخطورة في حياة الأمم لأنها إذا بدأت تستريح إلى مجدها وتتباهى بماضيها دون أن تمشي قُدُما فإنها في طريق الانحطاط تسير وهي في سبيل الضياع. إنها تستمر في وجودها لأن القاعدة هي أن الأمم لا تموت ولكن حياتها محكوم عليها بالتفاهة. وهذا تماماً ما حدث للإسلام: توقف الجهد الخلاّق ورافقه ازدياد التفاخر وازدراء الآخرين، وصار النور الباطن كابياً حتى إن إيمانهم أضاع قوّته وصفاءه. وحلّت الخرافة محلّ الدين، والتعصبُ مكان الاعتقاد، والكراهيةُ بدل المحبة.
وينبغي أن نُسهِب بعض الشيء في الكلام على ذلك العامل الرئيسي في الانحطاط، ألا وهو الخُرافة، لأنها أكثر العوامل مخاتلةً، ونماؤها ليس سبباً رئيسياً للانحطاط وحسب، وإنما هو أكثر أعراضه وضوحاً.
إن الخرافة تروق دائماً للشعوب الجاهلة التي تريد أجوبةً عن أسئلتها؛ أجوبةٌ يكون العرّافون على أتمّ أهبةٍ لتقديمها. هكذا كانت الحال وأبداً ستكون: عندما تضعف الجهود العلمية العربية، تخالط الخرافةُ العلمَ نفسَه فيكون هذا أمراً مشؤوماً. لقد شرفت المؤلفات العلمية العربية بعديد من الروائع ثم بدأت تنحدر بفيضٍ من المؤلفات التنجيمية والسيميائية والسحرية. ويبدو تسرّب فضول السحر إلى الرياضيات على أتمّ شكلٍ في كتاب لمؤلِّف روحاني من الجزائر يدعى أحمد بن علي البوني، عاش في النصف الأول من القرن الثالث عشر. ولكن أفضل شرحٍ للموضوع بكامله نجده عند رجلٍ من أبرز مفكري العصور الوسطى في الشرق والغرب وهو التونسي ابن خلدون (عاش في النصف الثاني من القرن الرابع عشر).
تأملوا مثلاً ما كتبه عن الهندسة:
"واعلم أن الهندسة تفيد صاحبَها إضاءةً في عقلِه واستقامةً في فكره لأن براهينها كلَّها بيّنة الانتظام جليّة الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيسَتَها لترتيبها وانتظامِها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقلٌ على ذلك المهيع، وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب [أكاديمية] أفلاطون: من لم يكن مهندساً فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخُنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يَغسِل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران، وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه".
إن بيانه هذا على ما فيه من إطنابٍ جديرٌ بالإعجاب، أصاب فيه المحزّ وطبّق المَفصِل. فالخرافات في الفكر الإنساني كالقذارة والطفيليات في الجسم، مدعاة خزيٍ مرير. ويا ويحَ الشعوب التي تبتلي بالخرافات والطفيليات فهي لا تدرك خزيها وإنما تميل إلى الاستزادة منه وتغرق أنفسها في الحقارة يوماً بعد يوم.
إنّ مناقشة ابن خلدون للخرافات المختلفة عند المسلمين هو بحثٌ فريد في مؤلفات العصور الوسطى، مع أنه على حصافته لم يستطع أن يتحاشى تصديق بعضها. وتفاقم الأمر سوءاً بعد عصره إذ حصل إذ ذاك ما يشبه ما ندعوه اليوم بالتفاعل المتسلسل: فانحطاط الإسلام الروحي أشرع الباب إلى ازدياد الخرافات. وقد حطم جهل رجال الدين وتعصّبهم سدود العقل، وأنمت الخرافات الجديدة عند الشعب سرعة التصديق وقلّة المحاكمة والغفلة والتعصّب، وأفضت الخرافة إلى الخرافة وهكذا دواليك. وتفاقمت خطورة هذه الحال لأنه في الوقت الذي بدأت تهزل فيه الجهود العربية ويصبح الشعب العربي فريسةً سائغةً للخرافات المتزايدة كان الشعب الغربي (اللاتيني) يكشف عن سرٍّ جديد لمعرفةٍ لا تتناهى وحياةٍ زاخرة، تلك هي الطريقة التجريبة التي أنشأت حضارةً جديدة في بضعةِ قرون وبعثت فوق ذلك ثورةً في العالم كلِّه في العالم الروحي وفي العالم المادي معاً. ولم يكن للشعب الناطق باللغة العربية نصيبٌ في ذلك. بينما كانت الأمم الغربية تتقدم بحطى حثيثةٍ جداً، كان العرب مسمّرين في أمكنتهم، وهكذا بدأوا يتراجعون بلا رجاء. فالإسلام الذي بارتقائه العظيم رفع العرب إلى أسمى الذرى عاد فألقى بهم لمّا تداعى في عميق الهاوية.
ولكن هذا ليس نهائياً على أيّة حال، فالأمور في الواقع تتغيّر بسرعة. ولقد قادت شعوب الشرق الأوسط العالم مدى حقبتين طويلتين طوال ألفيّ سنة على الأقل قبل اليونان، ثم كرّةً أخرى في العصور الوسطى طوال أربعة قرون أو ما يزيد على ذلك. فليس ما يمنعها من أن تقوده مرّةً جديدة في العاجل أو في الآتي البعيد.
كان سبب قيادتهم في الحقبة الأولى عبقريتهم الخلاّقة؛ كانوا البُناة الأوّل والكتّاب الأوّل، أفاقوا قبل أن يفيق سائر العالَم. أما الحقبة الثانية فكانت أقصر من الأولى وأقلَّ أصالةً إلا أنها تظلّ مع ذلك خصيبةً غاية الخصب. لقد سبقوا بحضارتِهم القديمة اليونان في مضمار المآثر العلمية أو فتحوا السبيل لهذه المآثر فجعلوها ممكنةً ثم تغيّر الأمر فأصبحت الشعوب الناطقة باللغة العربية ورثة العلم اليوناني ونقَلَتَه إلى الغرب. ولم يكونوا نقلَةً لا نظر لهم ولا تأثير، بل على العكس، زادوا التراثَ اليونانيَّ وأورثوا خلفاءهم اللاتينيين تراثاً أغنى. ولا يرجع رقيّهم في هذه المرّة إلى أصالتهم الخلاّقة بقدر ما يرجع إلى إتقانهم وحماستهم الفذّة. لقد أدركوا إذ ذاك ما كانوا قد نسُوا من أن المعرفة يجب أن تشاد على قواعدَ راسخةٍ وإذا لم تضرب جذور الحضارة إلى عمقٍ كافٍ فإن هذه الحضارة سوف تذوي وتموت. وكانت جذورهم الدينية وافيةَ العمقِ وكذلك كانت جذورهم العلمية، لفترةٍ على الأقل، الجذور اليونانية القديمة. أدرك قادتُهم أدراكاً جليّاً أن المرء إذا شاء أن يحصل على المعرفة العلمية ينبغي أن يبدأ من جذور أوّلِ المبادئ لا من قمّة آخر التطبيقات. يسهل قطف الثمار الناضجة من أعالي الشجر. حتى الأبله يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن الأصعب منه غرس الأِشجار السليمة التي تعطي أغزر الثمار في مواسمها. هذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلّمه اليوم شعبُ الشرق الأوسط ثانيةً.
لا طريق إلى العلم قصير. من اليسير تعليم الميكانيك، ولا صعوبةَ بالغةً في تدريب المهندسين، ولكن إعداد رجل العلم عمليةٌ شاقة وطويلة. إن درب العلم لا راحة فيه ولا نهايةَ له.
ويقتضي الابتكار في العلم والمعرفة من المرء سنين طويلة ومتواصلة إن لم يستنزف عمرَه كلّه. بل إن الحياة ذاتَها جدُّ قصيرةٍ وكل رجل علمٍ يورث من يأتي بعدَه مسائلَ غير محلولة. ليس من سببٍ يعوق عرب اليوم على الإطلاق عن أن يضاهوا أسلافهم ويتبوّأوا مركز القيادة مرّةً جديدة. حقاً ليس هذا سهلاً، وهو يزداد صعوبةً كلَّ يوم، ولكنه أمرٌ ممكن. (159)
لقد تمّت انطلاقةٌ جديدة في المضمار الديني دعا إليها الشيخ محمد عبده فراق الجوّ الإسلامي. وكذلك أخذ يهود الشرق الأوسط ومسيحيّوه ينهجون نهجاً أفضلَ من قبل، وارتفع مستوى التعليم في عدّة بلادٍ ارتفاعاً ملحوظاً. وكان الفضل في جزءٍ جوهريٍّ من هذه النهضة العلمية يعود للجهود الأميركية وخاصةً الجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت منبت الرجال الصالحين والنبع الدائم للإرادة الطيّبة، فهذه الجامعة والمعاهد الأخرى في القاهرة واستانبول وبغداد لم تقدّم فقط هباتها الفائقة بأكرمِ روحٍ وإنما خلقت تنافساً ودّياً واضطرت المدارس الأخرى أن تحسّن مناهجها. ولا يستطيع المرء أن يفي المشرفين على هذه المعاهد ولا من يقومون بإدارتها حقوقهم من الشكر لكل ما أولوه من هبات مباشرة وغير مباشرة. ثم إن الاستقلال السياسي قد أعلى المطامح الروحية في كل بلد، ولا سببَ يقف حائلاً دون تحقق هذه المطامح ما دامت مدعومةً بالأعمال والتضحيات المتلاحقة لا بالكلام وحده. ثمّة عديد من المسائل ما برحت بلا حلول، ولكن حيث توجد الإرادة يوجد السبيل إلى الحل. وإن كان سبيلاً طويلاً يحتاج إلى كثيرٍ من الصبر. وأهم ما في الأمر إدراك أن النشاط العلمي شديد الصعوبة، وأن على المرء أن يشمّر عن ساعد الجِدّ لبذل جهودٍ هائلة. فالذين يضلّهم الظن أن الأمر سهلٌ وأنّ بوسعهم مراوغة الصعوبات هم أناسٌ قدّر لهم الإخفاق إذ كانت الجهود التافهة تضيع عبثاً.
ليست المدنيّة مرضاً فيعالَج، إنها معركة نضال مستمر. هي معركةٌ ليست مضمونة العاقبة. فحرّيتنا ومعرفتنا وكل ما في حياتنا من نِعمٍ هي دائماً رهن الاختبار. ينبغي أن نواصل البرهان على جدارتنا بتلك القيم وإلا فقدناها. إن تراخَينا زلّت أقدامُنا. لا نهاية لكفاح الظلم والخطأ والقبح والفقر.
أنا لا أزال أؤمن بالتقدم إيمان سينيكا لا إيمان أنصاف المتعلمين الذين يقيسونه بألفاظ التقدم المادي والرفاهية. إن التقدم المادي المحض مهلك بل إنه ليس تقدماً على الإطلاق، وإنما نكوصٌ حقيقي. والتقدم الصحيح الذي معناه إصلاح لواقع الحياة لا يمكن أن يتخذ له أساساً الشغف بالآلات والعُدد بل يجب أن يقوم على الدين والفن وفوق كل شيءٍ على العلم، على العلم الخالص، وعلى حب الله وحب الحقيقة وحب الجمال وحب العدالة.
 ويتّضح ذلك اتضاحاً كافياً حين ننظر إلى الوراء، من هم عظماء الرجال في الغابر؟ من هم أعلام المصلحين عندنا؟ لمن ندين بنعم حياتنا ومسرّاتها؟ كانوا رجالاً من أمثال أفلاطون وأرسطو وإقليدس وأرخميدس في اليونان القديمة وأمثال الفارابي وابن سينا وابن الهيثم والبيروني والغزالي وابن رشد وابن مثمون وأبي الفداء وابن خلدون في العصور الوسطى. لم يعش أولئك الرجال في معزل عن الحياة الاجتماعية، وكان الحكام والموسرون في أيامهم أعظم شهرة منهم، بيد أن الحقيقة تجلّت تدريجاً وها نحن أولاء لا نذكر من الرجال إلا هؤلاء وأمثالَهم، أما الملوك والسلاطين والوزراء فقد غدَوْا نسياً منسيّا. لقد كان الحكّام وموظفوهم يعملون ليومهم أو لعامهم أما العلماء ورجال المعرفة فقد كانوا يعملون للخلود. وإننا لنشعر شعوراً عميقاً بما ندين به لهم ونقرّ بفضلهم علينا. والذي يتضح حين ننظر إلى الوراء ينبغي أن يتضح مثله تماماً حين ننظر إلى المام فيهدي خطانا إلى المستقبل.
كثيراً ما يتحدث الناس عن التفاوت بين الشرق والغرب، هذا التفاوت قائمٌ إلا أنه أقلّ أهميةً جداً من التفاوت بين المادية والنفعية من جهة وبين المثالية من جهةٍ أخرى. فهذا التفاوت الثاني مستقل عن الزمان والمكان. ولقد وجد ويمكن أن يوجد في كل زمان ومكان. لعلّ بعض الناس يريد منّا أن نعتقد أن سكان الشرق الأوسط مثاليون وأن سكان الغرب ماديون، وذلك يفسّر لمَ أثرى الغربيون وافتقر الشرقيون. بيد أن هذا بعيدٌ عن الحقيقة. ففي الغرب فقر كثير وفي الشرق غنىً واسع. ولكن ربما كان التباين على وجه العموم بين الغنى والفقر في الشرق أعظم منه في الغرب، وأن أثرياء الغرب عامةً أكثر كرماً وحباً للخير وأعظمَ حكمةً في إحسانهم من أثرياء الشرق الذين يتّسم سخاؤهم بالمباهاة والتفاخر.
ومع أن الشرق الأوسط كان مهداً لدياناتنا ومُثُلِنا العليا في العلم والفنّ، فإنه من الخطل أن نقول إنه اليوم أشد مثالية من الغرب. يصبح هذا القول تملقاً أكثر منه صدقاً ومثل هذا التملق أذيّته أشد من نفعه. في رأيي أن الشرقيين لا يختلفون في الجوهر عن أولئك الغربيين. ففي كل بلد يجد المرء درجاتِ السلّم تامة. من أوج الولاية إلى حضيض الفساد.
ندر من هو صالح جداً، وكذلك ندر من هو فاسدٌ حقاً. والغالبية العظمى ضحايا الظروف والملابسات، قد تسمو بهم العدالة واللطف سموّاً لا يضاهى، كما قد يطوح بيسرٍ بهم البؤس والشر والكذب. تبقى المسألة الرئيسية في عالم اليوم، (بل في كل زمان) مسألة رفع المستوى الروحي للجماهير. فإذا أخفقنا في رفع هذا المستوى انقلبت كل مزايا مدنيتنا المادية عليه، فحطت منه وحطمته. إذا جعلنا قيمنا الأساسية العدالة والإحسان والحقيقة نجونا، وإذا جعلنا قيمنا الأساسية الراحة والمال حاق بنا الهلاك.
ليست المدنية مرضاً، ولكن قد يسري المرض والعفونة إلى قلوب الفاسدين من الناس. ليست المدنية شرقية ولا غربية. لم تلق عصا التسيار في واشنطن ولا قبلها في بغداد، إنما تستطيع أن تتوطد حيثما وحينما يوجد الصالحون وتوجد الصالحات من الناس الذين يدركون معناها، ويعرفون كيف يمارسونها ولا يسيئون تلك الممارسة.
إن الشرق الأوسط (إذا لزم أن نستعمل هذا المصطلح) كان مهد حضارتِنا وهو الذي هيّأ لها أسباب النجاة إبّان العصور الوسطى حين كان الستار الحديديّ يفصم العالم إلى شطرين. نرنو إلى ماضيه بعرفان الجميل، ونرنو إلى مستقبله بالأمل الوامق.





[عن الانحطاط والنهضة]؛ جورج سارتون، (عن كتاب "تاريخ العلوم")


[عن الانحطاط والنهضة]؛ جورج سارتون.
عن كتاب "مقدّمة في تاريخ العلوم" 
ترجمة فاطمة عصام صبري


لم يكن انحطاط الإسلام بسبب نقص القوّة المادّية والتفوّق السياسي وضياعهما بل بسبب أن القوّة الروحية فيه قد تداعت. إن الشعور بالعزّة الذي تضرمه فينا ذكرى أعمال أجدادِنا المجيدة هو شعور خطير لا سيما إذا رافقه تقاعسٌ في جهودنا. فالشعب الذي يقوم بالأعمال العظام لا يتبجّح بها إذ ليس لديه وقتٌ لذلك، وهو على تحقيق أهدافِه أشد إكباباً منه على استجداء الإطراء من الشعوب الأخرى. وعندما يهرم أفرادُه وقد أنجزوا ما كان عليهم عملَه يغالون في ترديد ذكرياتِهم وتمجيد أنفسهم. إن هذا ليس أمراً ذا بال في حياة الأفراد القصيرة إذ لا بأس من أن يسمح لهم بوقتٍ قصير يستمتعون فيه بدفء الشمس قبل أن يرحلوا، ولكنه ـ بخلاف ذلك ـ أمرٌ على جانبٍ كبير من الخطورة في حياة الأمم لأنها إذا بدأت تستريح إلى مجدها وتتباهى بماضيها دون أن تمشي قُدُما فإنها في طريق الانحطاط تسير وهي في سبيل الضياع. إنها تستمر في وجودها لأن القاعدة هي أن الأمم لا تموت ولكن حياتها محكوم عليها بالتفاهة. وهذا تماماً ما حدث للإسلام: توقف الجهد الخلاّق ورافقه ازدياد التفاخر وازدراء الآخرين، وصار النور الباطن كابياً حتى إن إيمانهم أضاع قوّته وصفاءه. وحلّت الخرافة محلّ الدين، والتعصبُ مكان الاعتقاد، والكراهيةُ بدل المحبة.
وينبغي أن نُسهِب بعض الشيء في الكلام على ذلك العامل الرئيسي في الانحطاط، ألا وهو الخُرافة، لأنها أكثر العوامل مخاتلةً، ونماؤها ليس سبباً رئيسياً للانحطاط وحسب، وإنما هو أكثر أعراضه وضوحاً.
إن الخرافة تروق دائماً للشعوب الجاهلة التي تريد أجوبةً عن أسئلتها؛ أجوبةٌ يكون العرّافون على أتمّ أهبةٍ لتقديمها. هكذا كانت الحال وأبداً ستكون: عندما تضعف الجهود العلمية العربية، تخالط الخرافةُ العلمَ نفسَه فيكون هذا أمراً مشؤوماً. لقد شرفت المؤلفات العلمية العربية بعديد من الروائع ثم بدأت تنحدر بفيضٍ من المؤلفات التنجيمية والسيميائية والسحرية. ويبدو تسرّب فضول السحر إلى الرياضيات على أتمّ شكلٍ في كتاب لمؤلِّف روحاني من الجزائر يدعى أحمد بن علي البوني، عاش في النصف الأول من القرن الثالث عشر. ولكن أفضل شرحٍ للموضوع بكامله نجده عند رجلٍ من أبرز مفكري العصور الوسطى في الشرق والغرب وهو التونسي ابن خلدون (عاش في النصف الثاني من القرن الرابع عشر).
تأملوا مثلاً ما كتبه عن الهندسة:
"واعلم أن الهندسة تفيد صاحبَها إضاءةً في عقلِه واستقامةً في فكره لأن براهينها كلَّها بيّنة الانتظام جليّة الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيسَتَها لترتيبها وانتظامِها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقلٌ على ذلك المهيع، وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب [أكاديمية] أفلاطون: من لم يكن مهندساً فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخُنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يَغسِل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران، وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه".
إن بيانه هذا على ما فيه من إطنابٍ جديرٌ بالإعجاب، أصاب فيه المحزّ وطبّق المَفصِل. فالخرافات في الفكر الإنساني كالقذارة والطفيليات في الجسم، مدعاة خزيٍ مرير. ويا ويحَ الشعوب التي تبتلي بالخرافات والطفيليات فهي لا تدرك خزيها وإنما تميل إلى الاستزادة منه وتغرق أنفسها في الحقارة يوماً بعد يوم.
إنّ مناقشة ابن خلدون للخرافات المختلفة عند المسلمين هو بحثٌ فريد في مؤلفات العصور الوسطى، مع أنه على حصافته لم يستطع أن يتحاشى تصديق بعضها. وتفاقم الأمر سوءاً بعد عصره إذ حصل إذ ذاك ما يشبه ما ندعوه اليوم بالتفاعل المتسلسل: فانحطاط الإسلام الروحي أشرع الباب إلى ازدياد الخرافات. وقد حطم جهل رجال الدين وتعصّبهم سدود العقل، وأنمت الخرافات الجديدة عند الشعب سرعة التصديق وقلّة المحاكمة والغفلة والتعصّب، وأفضت الخرافة إلى الخرافة وهكذا دواليك. وتفاقمت خطورة هذه الحال لأنه في الوقت الذي بدأت تهزل فيه الجهود العربية ويصبح الشعب العربي فريسةً سائغةً للخرافات المتزايدة كان الشعب الغربي (اللاتيني) يكشف عن سرٍّ جديد لمعرفةٍ لا تتناهى وحياةٍ زاخرة، تلك هي الطريقة التجريبة التي أنشأت حضارةً جديدة في بضعةِ قرون وبعثت فوق ذلك ثورةً في العالم كلِّه في العالم الروحي وفي العالم المادي معاً. ولم يكن للشعب الناطق باللغة العربية نصيبٌ في ذلك. بينما كانت الأمم الغربية تتقدم بحطى حثيثةٍ جداً، كان العرب مسمّرين في أمكنتهم، وهكذا بدأوا يتراجعون بلا رجاء. فالإسلام الذي بارتقائه العظيم رفع العرب إلى أسمى الذرى عاد فألقى بهم لمّا تداعى في عميق الهاوية.
ولكن هذا ليس نهائياً على أيّة حال، فالأمور في الواقع تتغيّر بسرعة. ولقد قادت شعوب الشرق الأوسط العالم مدى حقبتين طويلتين طوال ألفيّ سنة على الأقل قبل اليونان، ثم كرّةً أخرى في العصور الوسطى طوال أربعة قرون أو ما يزيد على ذلك. فليس ما يمنعها من أن تقوده مرّةً جديدة في العاجل أو في الآتي البعيد.
كان سبب قيادتهم في الحقبة الأولى عبقريتهم الخلاّقة؛ كانوا البُناة الأوّل والكتّاب الأوّل، أفاقوا قبل أن يفيق سائر العالَم. أما الحقبة الثانية فكانت أقصر من الأولى وأقلَّ أصالةً إلا أنها تظلّ مع ذلك خصيبةً غاية الخصب. لقد سبقوا بحضارتِهم القديمة اليونان في مضمار المآثر العلمية أو فتحوا السبيل لهذه المآثر فجعلوها ممكنةً ثم تغيّر الأمر فأصبحت الشعوب الناطقة باللغة العربية ورثة العلم اليوناني ونقَلَتَه إلى الغرب. ولم يكونوا نقلَةً لا نظر لهم ولا تأثير، بل على العكس، زادوا التراثَ اليونانيَّ وأورثوا خلفاءهم اللاتينيين تراثاً أغنى. ولا يرجع رقيّهم في هذه المرّة إلى أصالتهم الخلاّقة بقدر ما يرجع إلى إتقانهم وحماستهم الفذّة. لقد أدركوا إذ ذاك ما كانوا قد نسُوا من أن المعرفة يجب أن تشاد على قواعدَ راسخةٍ وإذا لم تضرب جذور الحضارة إلى عمقٍ كافٍ فإن هذه الحضارة سوف تذوي وتموت. وكانت جذورهم الدينية وافيةَ العمقِ وكذلك كانت جذورهم العلمية، لفترةٍ على الأقل، الجذور اليونانية القديمة. أدرك قادتُهم أدراكاً جليّاً أن المرء إذا شاء أن يحصل على المعرفة العلمية ينبغي أن يبدأ من جذور أوّلِ المبادئ لا من قمّة آخر التطبيقات. يسهل قطف الثمار الناضجة من أعالي الشجر. حتى الأبله يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن الأصعب منه غرس الأِشجار السليمة التي تعطي أغزر الثمار في مواسمها. هذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلّمه اليوم شعبُ الشرق الأوسط ثانيةً.
لا طريق إلى العلم قصير. من اليسير تعليم الميكانيك، ولا صعوبةَ بالغةً في تدريب المهندسين، ولكن إعداد رجل العلم عمليةٌ شاقة وطويلة. إن درب العلم لا راحة فيه ولا نهايةَ له.
ويقتضي الابتكار في العلم والمعرفة من المرء سنين طويلة ومتواصلة إن لم يستنزف عمرَه كلّه. بل إن الحياة ذاتَها جدُّ قصيرةٍ وكل رجل علمٍ يورث من يأتي بعدَه مسائلَ غير محلولة. ليس من سببٍ يعوق عرب اليوم على الإطلاق عن أن يضاهوا أسلافهم ويتبوّأوا مركز القيادة مرّةً جديدة. حقاً ليس هذا سهلاً، وهو يزداد صعوبةً كلَّ يوم، ولكنه أمرٌ ممكن. (159)
لقد تمّت انطلاقةٌ جديدة في المضمار الديني دعا إليها الشيخ محمد عبده فراق الجوّ الإسلامي. وكذلك أخذ يهود الشرق الأوسط ومسيحيّوه ينهجون نهجاً أفضلَ من قبل، وارتفع مستوى التعليم في عدّة بلادٍ ارتفاعاً ملحوظاً. وكان الفضل في جزءٍ جوهريٍّ من هذه النهضة العلمية يعود للجهود الأميركية وخاصةً الجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت منبت الرجال الصالحين والنبع الدائم للإرادة الطيّبة، فهذه الجامعة والمعاهد الأخرى في القاهرة واستانبول وبغداد لم تقدّم فقط هباتها الفائقة بأكرمِ روحٍ وإنما خلقت تنافساً ودّياً واضطرت المدارس الأخرى أن تحسّن مناهجها. ولا يستطيع المرء أن يفي المشرفين على هذه المعاهد ولا من يقومون بإدارتها حقوقهم من الشكر لكل ما أولوه من هبات مباشرة وغير مباشرة. ثم إن الاستقلال السياسي قد أعلى المطامح الروحية في كل بلد، ولا سببَ يقف حائلاً دون تحقق هذه المطامح ما دامت مدعومةً بالأعمال والتضحيات المتلاحقة لا بالكلام وحده. ثمّة عديد من المسائل ما برحت بلا حلول، ولكن حيث توجد الإرادة يوجد السبيل إلى الحل. وإن كان سبيلاً طويلاً يحتاج إلى كثيرٍ من الصبر. وأهم ما في الأمر إدراك أن النشاط العلمي شديد الصعوبة، وأن على المرء أن يشمّر عن ساعد الجِدّ لبذل جهودٍ هائلة. فالذين يضلّهم الظن أن الأمر سهلٌ وأنّ بوسعهم مراوغة الصعوبات هم أناسٌ قدّر لهم الإخفاق إذ كانت الجهود التافهة تضيع عبثاً.
ليست المدنيّة مرضاً فيعالَج، إنها معركة نضال مستمر. هي معركةٌ ليست مضمونة العاقبة. فحرّيتنا ومعرفتنا وكل ما في حياتنا من نِعمٍ هي دائماً رهن الاختبار. ينبغي أن نواصل البرهان على جدارتنا بتلك القيم وإلا فقدناها. إن تراخَينا زلّت أقدامُنا. لا نهاية لكفاح الظلم والخطأ والقبح والفقر.
أنا لا أزال أؤمن بالتقدم إيمان سينيكا لا إيمان أنصاف المتعلمين الذين يقيسونه بألفاظ التقدم المادي والرفاهية. إن التقدم المادي المحض مهلك بل إنه ليس تقدماً على الإطلاق، وإنما نكوصٌ حقيقي. والتقدم الصحيح الذي معناه إصلاح لواقع الحياة لا يمكن أن يتخذ له أساساً الشغف بالآلات والعُدد بل يجب أن يقوم على الدين والفن وفوق كل شيءٍ على العلم، على العلم الخالص، وعلى حب الله وحب الحقيقة وحب الجمال وحب العدالة.
 ويتّضح ذلك اتضاحاً كافياً حين ننظر إلى الوراء، من هم عظماء الرجال في الغابر؟ من هم أعلام المصلحين عندنا؟ لمن ندين بنعم حياتنا ومسرّاتها؟ كانوا رجالاً من أمثال أفلاطون وأرسطو وإقليدس وأرخميدس في اليونان القديمة وأمثال الفارابي وابن سينا وابن الهيثم والبيروني والغزالي وابن رشد وابن مثمون وأبي الفداء وابن خلدون في العصور الوسطى. لم يعش أولئك الرجال في معزل عن الحياة الاجتماعية، وكان الحكام والموسرون في أيامهم أعظم شهرة منهم، بيد أن الحقيقة تجلّت تدريجاً وها نحن أولاء لا نذكر من الرجال إلا هؤلاء وأمثالَهم، أما الملوك والسلاطين والوزراء فقد غدَوْا نسياً منسيّا. لقد كان الحكّام وموظفوهم يعملون ليومهم أو لعامهم أما العلماء ورجال المعرفة فقد كانوا يعملون للخلود. وإننا لنشعر شعوراً عميقاً بما ندين به لهم ونقرّ بفضلهم علينا. والذي يتضح حين ننظر إلى الوراء ينبغي أن يتضح مثله تماماً حين ننظر إلى المام فيهدي خطانا إلى المستقبل.
كثيراً ما يتحدث الناس عن التفاوت بين الشرق والغرب، هذا التفاوت قائمٌ إلا أنه أقلّ أهميةً جداً من التفاوت بين المادية والنفعية من جهة وبين المثالية من جهةٍ أخرى. فهذا التفاوت الثاني مستقل عن الزمان والمكان. ولقد وجد ويمكن أن يوجد في كل زمان ومكان. لعلّ بعض الناس يريد منّا أن نعتقد أن سكان الشرق الأوسط مثاليون وأن سكان الغرب ماديون، وذلك يفسّر لمَ أثرى الغربيون وافتقر الشرقيون. بيد أن هذا بعيدٌ عن الحقيقة. ففي الغرب فقر كثير وفي الشرق غنىً واسع. ولكن ربما كان التباين على وجه العموم بين الغنى والفقر في الشرق أعظم منه في الغرب، وأن أثرياء الغرب عامةً أكثر كرماً وحباً للخير وأعظمَ حكمةً في إحسانهم من أثرياء الشرق الذين يتّسم سخاؤهم بالمباهاة والتفاخر.
ومع أن الشرق الأوسط كان مهداً لدياناتنا ومُثُلِنا العليا في العلم والفنّ، فإنه من الخطل أن نقول إنه اليوم أشد مثالية من الغرب. يصبح هذا القول تملقاً أكثر منه صدقاً ومثل هذا التملق أذيّته أشد من نفعه. في رأيي أن الشرقيين لا يختلفون في الجوهر عن أولئك الغربيين. ففي كل بلد يجد المرء درجاتِ السلّم تامة. من أوج الولاية إلى حضيض الفساد.
ندر من هو صالح جداً، وكذلك ندر من هو فاسدٌ حقاً. والغالبية العظمى ضحايا الظروف والملابسات، قد تسمو بهم العدالة واللطف سموّاً لا يضاهى، كما قد يطوح بيسرٍ بهم البؤس والشر والكذب. تبقى المسألة الرئيسية في عالم اليوم، (بل في كل زمان) مسألة رفع المستوى الروحي للجماهير. فإذا أخفقنا في رفع هذا المستوى انقلبت كل مزايا مدنيتنا المادية عليه، فحطت منه وحطمته. إذا جعلنا قيمنا الأساسية العدالة والإحسان والحقيقة نجونا، وإذا جعلنا قيمنا الأساسية الراحة والمال حاق بنا الهلاك.
ليست المدنية مرضاً، ولكن قد يسري المرض والعفونة إلى قلوب الفاسدين من الناس. ليست المدنية شرقية ولا غربية. لم تلق عصا التسيار في واشنطن ولا قبلها في بغداد، إنما تستطيع أن تتوطد حيثما وحينما يوجد الصالحون وتوجد الصالحات من الناس الذين يدركون معناها، ويعرفون كيف يمارسونها ولا يسيئون تلك الممارسة.
إن الشرق الأوسط (إذا لزم أن نستعمل هذا المصطلح) كان مهد حضارتِنا وهو الذي هيّأ لها أسباب النجاة إبّان العصور الوسطى حين كان الستار الحديديّ يفصم العالم إلى شطرين. نرنو إلى ماضيه بعرفان الجميل، ونرنو إلى مستقبله بالأمل الوامق.