الثلاثاء، 31 يناير 2017

الدوافع الأربعة الأساسية لسلوك الإنسان عند برتراند راسل؛ ماريا بوبوفا. ترجمة لولوة الشدوخي.



الدوافع الأربعة الأساسية لسلوك الإنسان

عند برتراند راسل.


خطاب جائزة نوبل العظيم لبرتنارد راسل: عن الدوافع الأربع الأساسية المُحرّكة لسلوك البشر.

ماريا بوبوفا

ترجمة: لولوة الشدوخي

 ” لا يوجد في العالم ما هو أكثر إثارة من لحظة اكتشاف مفاجئ أو لحظة ابتكار، العديد من الناس قادرون على تجربة مثل هذه اللحظات أكثر مما نظن أحيانا “

يعد برتنارد راسل (18 مايو 1872_ 2 فبراير 1970) من أكثر العقول البشرية اللامعة المشرقة. إنه المبشر للحكمة الخالدة في كل المجالات. له مؤلفات عدة في الرياضيات والفلسفة والمنطق والهندسة والتاريخ والعلوم الانسانية. في عام 1950 تم منحه جائزة نوبل للآداب نظير كتاباته المتنوعة والجليلة والتي دافع فيها عن المثل الانسانية وحرية الفكر.

في الحادي عشر من ديسمبر من ذلك العام، اعتلى راسل المنصة في الثامنة والسبعين من عمره لتلقّي الجائزة الكبرى، وليلقي خطابا هو من أحسن الرسائل الي تم إلقاؤها في الفكر الانساني على الاطلاق.

يستهل بذكر الدافع الرئيسي المحرك للسلوك البشري فيقول راسل: “جل النشاط البشري مدفوع بالرغبة. هناك نظرية زائفة كلّيا يطرحها بعض الأخلاقيون المخلصون مفادها أن من الممكن مقاومة الرغبات عن طريق تنمية الإحساس بالواجب والمبادئ الاخلاقية، وأنا اقول أن هذه مغالطة. ليس لأنه لم يتصرف أحد قط من منطلق احساسه بالواجب بل لأنه لم يكن للواجب عليه أي سلطة سوى أنه “رغب” بأن يكون كذلك. إذا أردت أن تعرف كيف سيتصرف البشر، يجب أن تنظر ليس فقط إلى ظروفهم المادية، بل إلى منظومة رغباتهم برمتها، إلى جانب قواهم النسبية.

[….]

  ” يختلف الانسان عن الحيوانات الأخرى من ناحية مهمة جدا، وهي أن الانسان لديه رغبات-  لنقل أنها غير محدودة – ولا يمكن إشباعها بالكامل، إنها تبقيه قلقا حتى لو تواجد في الجنة. إن الأفعى العاصرة على سبيل المثال تخلد إلى النوم عندما يتوفر لها الغذاء الكافي ولا تستيقظ حتى تكون بحاجة إليه مرة أخرى، بينما البشر في أغلب الأحيان ليسوا كذلك!! “

  يحدد راسل أربعا من تلك الرغبات اللامحدودة وهي حب التملك، التنافس، حب الظهور وحب السلطة، ويفصلها بالترتيب:

 ” حب التملك؛ وهي الرغبة في أن يمتلك الإنسان أكثر ما يمكن من المتاع أو طلب الحق في التملك. هذه الرغبة كما أفترض أصلها نابع من الخوف، إلى جانب الحاجة إلى الضروريات. ذات مرة، قمت برعاية فتاتين من إستونيا. هربتا من الموت بأعجوبة بسبب المجاعة. عاشت الفتاتان مع عائلتي، وبالطبع كان هناك الكثير ليأكلانه. إلا انهما كانتا تقضيان وقت فراغهما بزيارة مزارع الجيران وسرقة محصولهم من البطاطس. روك فيلر والذي عانى في طفولته من فقر مدقع، قضى حياته في كِبره بطريقة مشابهة!!  “

” بغض النظر عن كثرة ما تمتلك، ستكون متطلعا دائما لامتلاك المزيد. الاكتفاء هو حلم سيستعصي عليك دائما “.

تكلم عن هذا الدافع الاساسي بوضوح هنري ميلر 1938 في تأملاته الرائعة عن المال وكيف أنه قد يتحول الى هوس بشري. وهذا ما اصطلح عليه علماء النفس المتأخرين بعد عقود عدة تحت مسمى (الحلقة المفرغة للسعادة). بالنسبة لراسل يتلاشى هذا المحرك الاساسي (حب التملك) بدافع اقوى منه ألا وهو ميلنا للمنافسة:

سيصبح العالم هذا أكثر سعادة لو أن الرغبة في التملك كانت أقوى من المنافسة. لكن الواقع أن كثيرا من الناس سيواجهون الافتقار بسرور لو أنهم استطاعوا بالمقابل تأمين دمار شامل لمنافسيهم؛ ما يفسر المستوى الحالي من الضرائب.

هذا التنافس كما يزعم راسل مدفوع بالنرجسية البشرية. وفي إحساس عميق منه بما يحدث اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي، لاحظ:

إن حب الظهور دافع ذو قوة هائلة. أي أحد تعامل مع الاطفال كثيرا سيلاحظ أنهم دائما ما يمارسون تصرفات غريبة ليقولوا “انظر إلي”.

 “انظر إلي ” هي واحدة من أكثر الرغبات الجوهرية للقلب البشري، والتي تأخذ أشكالا لا حصر لها، ابتداء من تعمد التهريج إلى السعي وراء الشهرة بعد الموت.

” من الممكن المبالغة في تأثير حب الظهور على جميع مراحل حياة الإنسان. من الطفل ذي السنوات الثلاث وحتى الزعيم الذي يرتجف العالم لغضبه”

  لكن الباعث الاقوى من هذه الأربع كما يزعم راسل هو حب القوة: “قد يكون حب القوة والرغبة في السيطرة قريبا  أو مشابها لحب الظهور، لكنهما ليسا الشيء نفسه على الإطلاق. ما يحتاجه حب الظهور ليتحقق هو المجد.  ويمكن تحقيق المجد من دون قوة. يفضّل كثير من الناس المجد على القوة، إلا أن هؤلاء الناس هم في الغالب أقل تأثيرا على مسرح الأحداث من أولئك اللذين يفضلون القوة على المجد. إن القوة مثل الغرور؛ لا يمكن اشباعها. قليل من النفوذ التام لا يرضيها بالكامل. ولأنها رذيلة الرجال النشطاء، فان الفاعلية المسببة لحب السلطة تتعدى بكثير تأثير تداولها. إنها بالفعل أقوى الدوافع في حياة الرجال المهمين.”

حب السلطة يزداد بممارستها. وينطبق هذا على القوى البسيطة كما ينطبق على قوى الملوك.”

ويضيف قائلا: “في أي نظام استبدادي، يتحول أصحاب السلطة بازدياد إلى طغاة بفضل الشعور بالمتعة التي تمنحهم  إياها ممارسة السلطة. ولأن السلطة على البشر تجعلهم يفعلون مالا يرغبون بفعله، يصبح الرجل المولع بحب القوة أكثر عرضة لإلحاق الألم بالناس من أن يسمح بالمتعة.”

لكن راسل- وهو المفكر ذو الحساسية الاستثنائية للفروق الدقيقة والازدواجية التي حُبكت منها الحياة- يحذر من اعتبار حب القوة دافعا سلبيا كلّيا.  ويشير إلى أنه من ذلك الدافع للسيطرة على المجهول، تزهر تلك المحبوبات، كالسعي نحو المعرفة والتقدم العلمي. يستعرض بعض هذه المظاهر المثمرة فيقول:” سيكون خطأ فادحا أن ندين كلّيًا حب السلطة كدافع.

“عندما يقودك هذا الدافع لأفعال خيّرة أو أفعال ضارة، ن هذا يعتمد على الوضع الاجتماعي وعلى مؤهلاتك. فلو كانت مؤهلاتك نظرية أو تقنية، فإنك ستساهم في المعرفة أو التقنية. بناء على هذا ستكون أفعالك نافعة. أما لو كنت سياسيا فلربما كنت مدفوعا بحبك للسلطة، غير أن هذا الدافع سيتمخض عادة عن رغبة في تحقيق بعض الشؤون- أنت ولبعض الأسباب- تفضلها على الوضع الراهن. “

يتحول راسل بعدها الى مجموعة ثانوية من الدوافع البشرية، ويبدأ بفكرة حب الإثارة:

” يُظهر البشر تفوقهم على سائر الحيوانات بقدرتهم على الملل. غير أنّي اعتقدت أحيانا- عن طريق ملاحظتي لبعض الثدييات في حدائق الحيوان – أنها قد تبدي ربما مقدمات لهذا الشعور بالضجر. إلا إنه بالتجربة؛ يتضح أن الهرب من الملل يعتبر واحد من أقوى الرغبات عند جميع البشر تقريبا.”

ويزعم راسل أن هذا الهوس بحب الأثارة قد تعاظم بسبب الطبيعة الخاملة للحياة المعاصرة، والتي مزقت الرابطة الطبيعية بين العقل والبدن. ويقول: ” إن تركيبة عقولنا تتناسب مع حياة شديدة العمل البدني. اعتدت في صغري على  أن أقضي وقت فراغي بالمشي، كنت أقطع ما يقارب الخمس وعشرين ميلا كل يوم، وفي المساء لم أكن بحاجة لما يبعدني عن الملل، كانت بهجتي بالجلوس تغنيني بشدة. لكن لا يمكن لهذه الحياة الحديثة أن تسير وفق هذه المبادئ الجسمية النشطة. جزء كبير من الأعمال هي أعمال ساكنة، ومعظم الأعمال المكتبية تمرّن عضلات قليلة ومحدودة. عندما اجتمعت الحشود في ساحة الطرف الأغر مبتهجين بقرار الحكومة بالحرب، لم يكونوا ليفعلوا ذلك لو أنهم مشوا خمسا وعشرين ميلا في ذلك اليوم. إنه وقبل كل شيء حب الأثارة الذي يجعل من الحشود تصفق لاندلاع الحرب، إنه بالضبط نفس الحماس أثناء متابعة كرة القدم. إلا إن هذا العلاج للعدوانية غير قابل للتطبيق، وإن أراد البشر البقاء على قيد الحياة، فلابد من تأمين منافذ بريئة لتلك الطاقة الجسدية المُعطّلة التي تنتج هذا الحماس. لم أسمع يوما بحرب سبقها رقصٌ في الصالات.”

 “صارت الحياة المتحضّرة وديعة جدا. وإن كان لها أن تستقر، فلابد من توفير متنّفس غير ضار لتلك الدوافع التي كان أسلافنا يروّضونها بالصيد… أعتقد أنه يجب أن تحتوي كل مدينة كبرى على شلالات اصطناعية يستطيع الناس النزول اليها عبر قوارب صغيرة، ويجب أن تحتوي أيضا على أحواض سباحة مليئة بأسماك القرش الميكانيكية. وأي شخص يؤيد حربا احترازية، فيجب إدانته بأن يبقى مع هذه الوحوش الاصطناعية لمدة ساعتين في اليوم. وأكثر جدية من ذلك، يجب إضافة عنصر الألم لنوفر متنفسا هادفا لحب الإثارة هذا، لا يوجد في العالم ما هو أكثر اثارة من لحظة اكتشاف مفاجئ أو لحظة ابتكار، العديد من الناس قادرون على تجربة مثل هذه اللحظات أكثر مما نظن أحيانا. “

المصدر: موقع حكمة

نيتشه، فرويد وماركس بقلم: ميشيل فوكو؛ ترجمة سهيل القش.




نيتشه، فرويد وماركس بقلم: ميشيل فوكو


ترجمة: سهيل القش

حين عرض علي مشروع “الطاولة المستديرة”، أثار ذلك اهتمامي في نفس الوقت الذي أحرجني. إنني أقترح مخرجاً لذلك: بعض الموضوعات المتعلقة بتقنيات التفسير لدى كل من ماركس، نيتشه وفرويد.
في الواقع أن هناك حلماً يتراءى من وراء هذه الموضوعات، حلم بأن يصبح بإمكاننا يوماً أن نكوّن نوعاً من الملف العام، أو الموسوعة التي تضم جميع تقنيات التفسير التي أتيح لنا أن نعرفها منذ النحويين الإغريق حتى يومنا هذا. إن هذا الملف الكبير الذي يضم كافة تقنيات التفسير، لم تصغ منه بعد الآن، على ما أعتقد، إلا فصول قليلة.
يبدو لي أن ما يمكننا قوله، كمدخل عام لفكرة تاريخ تقنيات التفسير، هو التالي: إن اللغة، على الأقل اللغة في الثقافات الهندو – أوروبية، قد ولدت دائماً نوعين من الشكوك:
– أولا الشك في أن اللغة لا تقول فعلاً ما تقول. فمن المحتمل ألا يكون المعنى الذي نفهمه، والذي يبرز مباشرة، سوى معنى ناقصاً يحمي، يختزن أو يؤدي، بالرغم من كل شيء، إلى معنى آخر، وبذلك يكون هذا المعنى الآخر هو في نفس الوقت المعنى الأقوى، المعنى “التحتي”. وهذا ما كان يطلق عليه الإغريق اسم الـallegoria  والـhiponoia.
– من جهة أخرى تولد اللغة هذا الشك الأخر: إذ أنها تتجاوز بطريقة ما شكلها الشفهي الخالص، ذلك أن ثمة أشياء أخرى في العالم تتكلم، مع أن هذه الأشياء لا تكون لغة. وفي المحصلة، من المحتمل أن كلاً من الطبيعة، والبحر، وحفيف الأشجار، والحيوانات، والوجوه، والأقنعة، والمديات المصلبة، كل هذه الأشياء قد تتكلم، من المحتمل أن ثمة لغة متمفصلة بطريقة لا شفهية. وهذا ما يسمى لدى الإغريق، إذا أردتم الـ Semainon .
إن هذين الشكين اللذين سبق لهما أن برزا لدى الإغريق، لم يزولا، وهما ما يزالان معاصرين، إذ أننا أخذنا في الاعتقاد مجدداً، بالتحديد منذ القرن التاسع عشر، أن الحركات الصامتة، والأمراض، وكل الجلبة حولنا، كل ذلك يمكن أيضاً، وأننا نصغي إلى هذه اللغة الممكنة أكثر من أي وقت مضى، محاولين أن نفاجئ تحت الكلمات خطاباً قد يكون أكثر جوهرية.
إنني أعتقد أن كل ثقافة، أي كل شكل ثقافي داخل الحضارة الغربية، كان لها نظام تفسيرها، تقنياتها، مناهجها، وطرقها الخاصة بها لكي تشتبه باللغة التي تريد أن تقول غير ما تقول، ولكي تتلمس احتمال وجود لغة ما خارج اللغة. يبدو إذن أن ثمة مشروعاً يجب تدشينه لكي نكون النظام أو اللوحة، كما كان يقال في القرن السابع عشر، التي تضم كافة أنظمة التفسير هذه.
فلكي نفهم ما هو نظام التفسير الذي أسسه القرن التاسع عشر، وبالتالي إلى أي نظام تفسير ما زلنا ننتمي نحن اليوم، يبدو لي أنه يجب أن نعتمد مرجعاً متأخراً، نوعاً من التقنية الذي قد يكون وجد مثلاً في القرن السادس عشر، فما كان يستدعي التفسير في ذلك العصر، أي موقعه العام ووحدته الدنيا التي كان على التفسير أن يعالجها، إنما كان التشابه. فحيث كانت الأشياء تتشابه، حث كان ثمة تشابه، كان ثمة شيء يريد أن يقال، ويمكن أن يتجلى، إننا نعرف أهمية الدور الذي لعبه التشابه، وكافة المفاهيم التي تدور حوله كالأقمار التابعة، داخل كل من علم الكون، وعلم النبات، وعلم الحيوان، وداخل فلسفة القرن السادس عشر. في الحقيقة، إن كل هذه الشبكة من المتشابهات تبدو لنا، نحن الذين ننظر بأعين القرن العشرين، ملتبسة ومشوشة. في الواقع إن ملف التشابه هذا الذي عرفه القرن السادس عشر، كان كامل الانتظام. فقد كانت هناك، على الأقل، خمسة مفاهيم محددة تماماً:
– مفهوم التوافق المرادف للاحكام والتوفيق (كالتوفيق مثلاً بين الروح والجسد، وبين المجموعة الحيوانية  والمجموعة النباتية).
– مفهوم التعاطف المرادف لتطابق الحوادث داخل مواد مميزة.
– مفهوم التنافس المرادف للموازاة الأكثر جدية فيما يخص صفات معينة داخل المواد أو داخل هذه المادة أو  تلك.(هكذا يشرح بورتا أن الوجه البشري، مع الأجزاء السبعة التي يحددها، هو تنافس السماء مع كواكبها السبعة).
– مفهوم التوقيع الذي يشكل بين مميزات الفرد المرئية، صورة لميزة غير مرئية ومستترة.
– ثم بالتأكيد مفهوم التماثل المرادف لتطابق العلاقات بين مادتين مميزتين أو أكثر.
إن نظرية الدلالة وتقنيات التفسير كانت ترتكز إذن، في ذلك العصر، على تعريف كلي الوضوح لكل أنماط التشابه الممكنة، وكانت تنشئ نوعين من المعرفة متميزين كلياً: الـ cognition ، الذي يعني، العبور الجانبي، نوعاً ما، من تشابه إلى آخر، والـ divinatio ، الذي كان يعني المعرفة المعمقة، التي تنتقل من تشابه سطحي إلى تشابه أكثر عمقاً. إن كل هذا التشابهات تعبر عن إجماع العالم الذي يكونها، وهي تتعارض مع الصورة الخداعة، والتشابه السيئ الذي يقوم على انشقاق الشيطان عن الله.
إذا كانت تقنيات التفسير هذه المتبعة في القرن السادس عشر قد بقيت معلقة، بسبب تطور الفكر الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإذا كان نقد التشابه الذي قدمه كل من بيكون وديكارت قد لعب دوراً كبيراً لوضع هذه التقنيات بين مزدوجين، فإن القرن التاسع عشر، وبالتحديد ماركس، نيتشه وفرويد قد فتحوا أمامنا مجدداً إمكانية جديدة للتفسير، فقد أعادوا تأسيس إمكانية تأويل نصوص قديمة مقدسة .
إن الكتاب الأول من “رأس المال”، ونصوصاً كـ”ولادة المأساة” و”أصول الأخلاق”، و”تفسير الأحلام”، تضعنا مجدداً أمام تقنيات تفسيرية. إن تأثير الصدمة، ونوع الجرح الذي تسببه هذه المؤلفات للفكر الغربي، ربما كان مصدره كون هذه المؤلفات قد شكلت مجدداً أمام أعيننا شيئاً كان يسميه ماركس نفسه “كتابات هيروغليفية”. وهذا ما وضعنا في مأزق حرج، ذلك أن تقنيات التفسير هذه تتعلق بنا بالذات، ولأننا، نحن المفسرون، قد باشرنا بتفسير أنفسنا بواسطة هذه التقنيات. علينا بالمقابل أن نستعين بتقنيات التفسير هذه، لكي نستجوب مفسرين كفرويد، نيتشه وماركس، وهذا ما يجعلنا ننزلق باستمرار في لعبة المرايا الأبدية.
يقول فرويد في مكان ما أن ثمة جروحاً نرجسية ثلاثة في الثقافة الغربية: الجرح الذي سببه كوبرنيك، وذلك الذي سببه داروين حين اكتشف أن الإنسان متسلسل من القرد، والجرح الذي سببه فرويد نفسه، حين اكتشف بدوره أن الوعي يقوم على اللاوعي. إنني أتساءل حين زجنا فرويد ونيتشه وماركس داخل عمل التفسير الذي ينعكس دائماً على نفسه، ألم يكونوا حولنا، ومن أجلنا، هذه المرايا التي تعكس صوراً، تشكل جروحها التي لا تنضب نرجسيتنا الحالية؟ في أي حال، وبهذا الصدد أريد أن أقدم بعض الاقتراحات، إن ماركس ونيتشه وفرويد لم يضاعفوا الدلالات داخل العالم الغربي. إنهم لم يعطوا معنى جديداً لأشياء لم يكن لها معنى، إنهم في الواقع قد غيروا طبيعة الدلالة، وعدلوا الطريقة التي كان يمكن للدلالة بشكل عام أن تفسر بواسطتها.
إن السؤال الأول الذي أريد أن أطرحه هو التالي: ألم يعدل كل من ماركس، فرويد ونيتشه، وبعمق، حيّز التوزيع حيث يمكن للدلالات أن تكون دلالات؟
في العصر الذي اعتمدته كنقطة مرجعية، أي في القرن السادس عشر، كانت الدلالات تنتظم بشكل متجانس ضمن حيز كان هو نفسه متجانساً، وذلك في كل الاتجاهات. كانت دلالات الأرض تردنا إلى السماء، ولكنها كانت تردنا في نفس الوقت إلى العالم الجوفي، كانت تردنا من الإنسان إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى النبات، وبالعكس، وانطلاقاً من القرن التاسع عشر، أي مع فرويد وماركس ونيتشه، أخذت الدلالات تتدرج ضمن حيز أكثر اختلافاً، حسب بعد يمكن تسميته بعد العمق، شرط ألا يكون ذلك مرادفاً للداخلية، بل بالعكس، للخارجية.
إنني أفكر بالأخص في ذلك النقاش الطويل الذي ما انفك نيتشه يقيمه مع العمق. نجد لدى نيتشه نقداً للعمق الأمثل، لعمق الوعي الذي يدحضه على أنه من ابتكار الفلاسفة، إذ يبدو هذا العمق وكأنه تفتيش صاف وداخلي عن الحقيقة. إن نيتشه يبرهن كيف يحتم هذا العمق الاستسلام، والرياء، والتقنع، بحيث أن على المفسر، حين يتناول دلالات هذا العمق ليدينها، أن ينزل على طول هذا الخط العمودي وأن يبين أن عمق الداخلية هذا ليس في الحقيقة شيئاً مختلفاً عما يقول. على المفسر بالتالي أن ينزل، وأن يكون، كما يقول:”منقب الأعماق الجيد”.
ولكن ليس بإمكاننا في الواقع حين نفسر، أن نسلك هذا الخط المنحدر، إلا لكي نرمم الخارجية البراقة التي كانت مغلفة ومطمورة. ذلك أنه إذا كان على المفسر أن يذهب بنفسه كمنقب حتى القعر، فإن حركة التفسير إنما هي، على العكس من ذلك، حركة شرفة تزداد علواً، وتدرج دائماً فوقها العمق الذي يزداد انقشاعاً، لقد استعيد العمق الآن كسر سطحي كلياً، بحيث أن طيران النسر، وصعود الجبل، وكل هذه العمودية المهمة في زرادشت، إن هي، بالمعنى الدقيق، سوى انقلاب العمق، واكتشاف حقيقة أن العمق لم يكن سوى مجرد لعبة، وثنية من ثنايا السطح. وكلما أصبح العالم أكثر عمقاً أمام النظر، كلما أدركنا أن كل مرن عمق الإنسان لم يكن سوى مجرد لعبة أطفال.
إنني أتساءل: هذه المكانية، ولعب نيتشه مع العمق، ألا يمكن مقارنتها بلعب ماركس مع التفاهة، حتى ولو كان لعبه هذا مختلفاً ظاهرياً. إن مفهوم التفاهة لدى ماركس مهم جداً، فهو يشرح في بداية “رأس المال” كيف يجب عليه، خلافاً لبرسيه، أن يغوص في الضباب لكي يبرهن في الواقع عدم وجود وحوش خرافية أو ألغاز عميقة، نظراً لأن كل العمق الموجود في الرؤية المكونة لدى البرجوازية عن النقد، والرأسمال، والقيمة … الخ .. ليس في الحقيقة سوى تفاهة.
علينا بالطبع أن نذكر بحيز التفسير الذي كونه فرويد، ليس فقط عبر مسحه المشهور للوعي واللاوعي، ولكن كذلك داخل القواعد التي صاغها للمثابرة التحليلية، واستجلاء المحلل كل ما يقال خلال “السلسلة” المحكية. يجب التذكير بالمكانية المادية التي أولاها فرويد كل اهتمام، والتي تكشف المريض أمام نظرة المحلل النفسي المشرفة.
إن الموضوع الثاني الذي أريد أن أطرحه عليكم، وهو مرتبط قليلاً بهذا الأخير، هو التنويه، انطلاقاً من هؤلاء الرجال الثلاثة الذين نتحدث عنهم الآن، بمسألة أن التفسير قد أصبح أخيراً عملاً لا نهاية له.
في الحقيقة إن التفسير كان كذلك في القرن السادس عشر، ولكن الدلالات كانت ترتد على بعضها البعض، لمجرد أنه لم يكن بإمكان التشابه إلا أن يكون محدوداً. وقد أخذت الدلالات انطلاقاً من القرن التاسع عشر تترابط في شبكة لا تنضب، ولا نهاية لها هي الأخرى، وذلك ليس بسبب أن هذه الدلالات تستند إلى تشابه لا يحكمه إطار، ولكن نظراً لوجود هوة وانفتاح لا يمكن اختزالهما.
ففي حين نجد التفسير دائماً ممزقاً ويبقى معلقاً على حافة ذاته، نجد هذا الشيء، غير الناجز في التفسير، كما أعتقد، بنفس الطريقة تقريباً لدى كل من ماركس، ونيتشه وفرويد، بشكل رفض البداية. رفض “أسطورة روبنسون”، كما كان يقول ماركس، التمييز المهم لدى نيتشه بين البداية والأصل، والطابع غير المكتمل أبداً للأسلوب، التراجعي والتحليلي لدى فرويد. إننا نجد هذه التجربة تبرز بشكل خاص لدى نيتشه وفرويد، وبدرجة أقل لدى ماركس، وأنا أعتقد أن هذه التجربة مهمة جداً للتأويل الحديث للنصوص القديمة، لدرجة أنه كلما ذهبنا بعيداً في التفسير كلما اقتربنا في نفس الوقت من منطقة خطيرة جداً، وهي منطقة لن يجد فيها التفسير نقطة تقهقره فحسب، بل سيزول فيها التفسير كتفسير، وربما أدى ذلك إلى زوال المفسر نفسه. إن وجود هذه النقطة المطلقة الدائم بالقرب من التفسير تشكل في نفس الوقت وجود نقطة انقطاع.
إننا نعرف كيف تم تدريجياً لدى فرويد اكتشاف هذا الطابع المنفتح والفاغر بنيوياً للتفسير. لقد تم هذا الاكتشاف في البداية بطريقة جد تلميحية ومستترة في “تفسير الأحلام” حين يحلل فرويد أحلامه الشخصية، ويستعين بأسباب تعود للاحتشام، أو لعدم البوح بسر شخصي لكي يتوقف عن ذلك.
إننا نجد، في تحليل دورا، بروز فكرة تقول بأن على التفسير أن يتوقف، إذ لا يمكنه أن يمضي إلى النهاية بسبب شيء سيطلق عليه بعد عدة سنوات اسم “الانتقال” ( Transfert ). ثم تتأكد، من خلال دراسة الانتقال، طبيعة التحليل التي لا تنضب، في الطابع اللامتناهي والكلي الإشكال لعلاقة المحلِل بالمحلَل، وهي علاقة مكونة بالطبع لعلم النفس التحليلي، وتفتح الحيز الذي ما فتئ علم النفس يمتد فيه دون أن يكون بإمكانه إطلاقا أن يكتمل.
من الواضح أن التفسير أيضاً لدى نيتشه هو دائماً غير مكتمل. ما هي الفلسفة بالنسبة إليه، سوى نوع من الفقه اللغوي المعل0ق أبداً، فقه لغوي لا يمكن له إطلاقاً أن يتركز؟ لماذا؟ ذلك، كما يقول في “ما وراء الخير والشر”، لأن “الموت بواسطة المعرفة المطلقة قد يشكل جزءاً من أساس الوجود”، مع أنه برهن في “Ecco Homo” كم كان قريباً من هذه المعرفة المطلقة التي تشكل جزءاً من أساس الوجود. وكذلك خلال خريف 1888 في تورين ( Turin ).
إذا أتيح لنا، من خلال مراسلات فرويد، أن نستجلي همومه الدائمة منذ اللحظة التي اكتشف فيها عالم النفس التحليلي، فبإمكاننا أن نتساءل إذا كانت تجربة فرويد تشبه في العمق تجربة نيتشه. إن ما هو مطروح في انقطاع التفسير، في اتجاه التفسير هذا نحو نقطة واحدة تجعله مستحيلاً، قد يكون شيئاً مشابهاً لتجربة الجنون.
وهي تجربة صارع نيتشه ضدها في نفس الوقت الذي فتن بها، وهي نفس التجربة التي صارع ضدها فرويد طيلة حياته، ولكن بقلق. كما لو أن تجربة الجنون هذه هي بمثابة معاقبة حركة التفسير التي تقترب من مركزها إلى ما لا نهاية ثم تنهار مكلسة.
إنني أعتقد أن عدم الاكتمال الجوهري هذا للتفسير مرتبط بمبدأين آخرين، أساسيين هما أيضاً، ويكونان مع المبدأين السابقين، اللذين تكلمت عنهما لتوي، فرضيات التأويل الحديث للنصوص القديمة. المبدأ الأول: إذا كان لا يمكن أبداً للتفسير أن يكتمل، فذلك لأنه، وبكل بساطة، لا يوجد شيء بحاجة لتفسير. لا يوجد شيء أولي بحاجة لتفسير، وذلك أن كل شيء إنما هو في العمق تفسير، فكل دلالة ليست في حد ذاتها الشيء الذي يقدم نفسه للتفسير، بل هي تفسير لدلالات أخرى.
لا وجود، إذا أردتم، لـ interpretandum  لم يصبح بعد interpretans، بحيث أن العلاقة التي تترسخ داخل التفسير إنما هي علاقة عنف بقدر ما هي علاقة توضيح. في الواقع إن التفسير لا يوضح مادة تتطلب تفسيراً كما لو كانت هذه المادة تقدم نفسها سلباً للتفسير، لا يمكن للتفسير إلا أن يستولي، وبعنف، على تفسير، قد سبق له أن أصبح هنا، وأن تطيح به، تقلبه رأساً على عقب، وتهشمه بالمطرقة.
إننا نرى ذلك لدى ماركس الذي لا يفسر تاريخ علاقات الإنتاج، بل هو يفسر علاقة سبق لها أن قدمت نفسها كتفسير، لأنها تقدم نفسها كطبيعة. وكذلك فإن فرويد لا يفسر دلالات، بل هو يفسر تفسيرات. إذ ماذا يكتشف فرويد تحت الأعراض؟ إنه لا يكتشف “عواقب صدمات” كما يقال، بل هو يبرز “تخيلات” مع شحنتها من القلق، أي أنه يبرز نواة، تكون هي نفسها، وبوجودها الخاص، تفسيراً. ففقدان الشهية مثلاً لا يردنا إلى الفطام، كما يردنا الدال إلى المدلول، ولكن فقدان الشهية، كدلالة، وكعارض بحاجة لتفسير، يردنا إلى “تخيلات” ثدي الأم السيئ، وهذا الثدي نفسه هو تفسير، سبق له أن أصبح بذاته جسماً متكلماً. لذلك ليس فرويد مضطراً لأن يفسر ما يقدم له مرضاه كأعراض بشكل مختلف عن لغتهم نفسها، إن تفسيره هو تفسير لتفسير، وبالعبارات التي يقدم بها هذا التفسير الأخير. إننا نعرف أن فرويد قد ابتكر “الأنا الأعلى”، حين قالت له إحدى مريضاته:”إنني أشعر بكلب علي”.
إن نيتشه يستولي بنفس الطريقة على التفسيرات التي سبق لها أن استولت على بعضها البعض. لا يوجد بالنسبة لنيتشه مدلول أصلي. والكلمات نفسها ليست سوى تفسيرات قبل أن تكون دلالات، وهي في النهاية لا معنى لها إلا لأنها ليست سوى تفيرات جوهرية. يشهد على ذلك اشتقاق كلمة agathos الشهير. وهذا ما يقوله أيضاً نيتشه، حين يقول أن الكلمات كانت دائماً تبتكرها الطبقات العليا، إنها لا تشير إلى مدلول، بل هي تفرض تفسيرات. وبالتالي، نحن مفروض علينا الآن واجب التفسير، ليس بسبب وجود دلالات أولى ومحجية، بل لوجود تفسيرات، ولأنه ما يزال يوجد، تحت كل ما يتكلم، نسيج التفسيرات العنيفة الكبير. ولهذا السبب توجد دلالات، دلالات تملي علينا تفسير تفسيرها، وتملي علينا أن نقلبها كدلالات رأساً على عقب. بهذا المعنى يمكن القول أن الـ allegoria والـ Hyponoia ، لا يقتصران في عمق اللغة وقبلها، على ما انزلق لاحقاً تحت الكلمات لكي يبدل أماكنها ويحركها، ولكنهما هما اللذان يولدان الكلمات، ويجعلانها تبرق بلمعان، لا يتركز أبداً. لهذا السبب أيضاً نجد أن المفسر لدى نيتشه، هو “الصادق”، إنه “الحقيقي” ليس لأنه يستولي على حقيقة مستلقية لكي ينطق بها، بل لأنه يعلن التفسير الذي تسعى كل حقيقة إلى طمسه. قد تكون أولوية التفسير هذه على الدلالات هي الشيء الأهم في التأويل الحديث للنصوص القديمة.
إن الفكرة القائلة بأن التفسير يسبق الدلالة تحتم ألا تكون الدلالة كائناً بسيطاً ولطيفاً، كما كان الأمر ما يزال في القرن السادس عشر، بحيث أن فيض الدلالات وتشابه الأشياء كانت تثبت طيبة الله فقط، ولا تبعد، إلا بستار شفاف، دلالة المدلول. يبدو لي، وبالعكس، أنه انطلاقاً من القرن التاسع عشر، أي انطلاقاً من فرويد، ماركس ونيتشه، ستصبح الدلالة سيئة النية، أريد القول أنه توجد داخل الدلالة طريقة ملتبسة وغامضة قليلاً في أن تسئ الإرادة والنية. وذلك بقدر ما تصبح الدلالة تفسيراً لا يقدم نفسه كذلك. إن الدلالات هي تفسيرات تحاول أن تبرر نفسها، وليس العكس.
هكذا يعمل النقد كما هو محدد في “نقد الاقتصاد السياسي”، وخاصة في الكتاب الأول من “رأس المال”. وهكذا تعمل الأعراض المرضية عند فرويد. ونجد لدى نيتشه أن الكلمات مثل العدالة، والتصنيفات الثنائية للخير والشر، وبالتالي الدلالات، إنما هي أقنعة. إن الدلالات باكتسابها هذه الوظيفة الجديدة القائمة على طمس التفسير، إنما تفقد وجودها البسيط كدال، وهو وجود كانت ما تزال تملكه في عصر النهضة، كما لو أن سماكتها قد اخترقت، بحيث أن كافة المفاهيم السلبية التي بقيت حتى الآن غريبة على نظرية الدلالة. قد أصبح بإمكانها أن تتسلل عبر هذا الاختراق. لم تكن نظرية الدلالة إلا اللحظة الشفافة والسلبية قليلاً للستار. أما الآن فقد أصبح من الممكن أن تقوم داخل الدلالة لعبة من المفاهيم. السلبية، والتناقضات، والتعارضات، وباختصار مجمل لعبة القوى المتفاعلة التي برع Deleuze في تحليلها في كتابه حول نيتشه.
“وضع الجدلية على رجليها”، إذا كان يجب أن يكون لهذه العبارة معنى، أفلا نكون بذلك قد وضعنا كل لعبة السلبية هذه داخل سماكة الدلالة، وداخل هذا الحيز المفتوح الفاغر والذي لا نهاية له، وداخل هذا الحيز الذي لا مضمون فعلي له ولا توفيق، كل هذه اللعبة التي أفرغتها الجدلية من محتواها حين أعطتها معنى إيجابياً؟
وأخيراً، ميزة التأويل الأخيرة: يجد التفسير نفسه مضطراً لأن يفسر ذاته إلى ما لا نهاية، ولأن يستعيد نفسه دائماً. من هنا برزت نتيجتان مهمتان. الأولى، أن التفسير سيكون من الآن فصاعداً تفسيراً بالـ”من”؟، فلا نفسر ما يوجد في المدلول، بل نفسر في العمق: من طرح التفسير؟ ليس مبدأ التفسير بشيء مختلف عن المفسر، وربما كان هذا هو المعنى الذي أعطاه نيتشه لكلمة “علم النفس”. فالنتيجة الثانية، أن على التفسير أن يسائل نفسه دائماً، فلا يتوانى عن العودة إلى ذاته. فمقابل زمن الدلالات، وهو زمن الانقضاء، ومقابل زمن الجدلية، وهو في المحصلة زمن خطي، فإننا نجد أن زمن التفسير هو زمن دائري. إن هذا ما يؤدي بمجمله، أن الخطر الوحيد الذي يهدد التفسير فعلاً، ولكنه خطر عظيم، إنما يكمن بشكل مفارق في الدلالات التي تعرض التفسير لهذا الخطر. إن موت التفسير إنما هو في الاعتقاد بوجود دلالات، وبأن هذه الدلالات موجودة أولاً، أصلاً، وفعلاً، كإشارات متجانسة، سديدة ومنظمة.
على العكس من ذلك، فإن حياة التفسير إنما هي في الاعتقاد بأنه لا وجود إلا لتفسيرات، يبدو لي أنه يجب أن ندرك هذا الشيء الذي يسهو عن بال كثير من معاصرينا، أن التأويل وعلم الأعراض هما عدوان لدودان، فالتأويل الذي ينكفئ إلى علم أعراض هو الذي يعتقد بالوجود المطلق للدلالات: إنه يتخلى عن العنف، وعدم الاكتمال، ولا نهاية التفسيرات، لكي يدع إرهاب المؤشر يسود، ولكي يشتبه باللغة. إننا نتعرف هنا على الماركسية بعد ماركس. على العكس من ذلك، فإن التأويل الذي يتجلبب بنفسه، إنما هو يدخل في مجال اللغات التي ما تنفك تحتم بعضها البعض، أي في تلك المنطقة المشتركة بين الجنون واللغة الخالصة، وهنا نتعرف على نيتشه.

.........
(المرجع): الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، فردريك نيتشه، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1983. 

الوعي واللاوعي وما قبل الوعي؛ محمد الحجيري.




الوعي واللاوعي وما قبل الوعي.

برغسون:
كان برغسون يعتبر بأن الوعيَ من طبيعةٍ روحية لا يفنى.
 كلُّ حالاتِ الوعي الماضية محفوظةٌ منذ بدايات وعيِنا الأولى في مرحلة الطفولة حتى الآن. وهي بما هي كذلك، أي من طبيعة روحية، فإنها تبقى حتى بعد تحلّل الجسد. 

كل ما في الأمر بحسب الفيلسوف الروحاني برغسون، أن الأداة التي كانت تتحكّم في استحضار الوعي لم تعد موجودة، ويقصد بذلك الدماغ، الذي هو أداةٌ لتنظيمِ حضورِ الوعي بحسب حاجة الفعل الحاضر.
 لكن قبل استحضار الخبرات الماضية والذكريات في الوعي الحاضر، أو قبل استحضار الوعي الماضي في اللحظة الحاضرة، ماذا يمكن أن نسمي ذلك الوعي الغائب الآن؟
بحسب برغسون، يكون لاواعياً.
 فاللاوعي عنده هو احتجاب الوعي الماضي عن اللحظة الحاضرة بسبب عدم الحاجة إليه، لكنه جاهزٌ للاستحضار من جديد، إذا كانت آلة الاستحضار (التي هي الدماغ) سليمة.


فرويد:ما يسمّيه برغسون "اللاوعي" يعطيه فرويد لقب "ما قبل الوعي".
 يقول فرويد في كتابه "الأنا والهو" بـ "أن العنصر النفسي (كالفكرة مثلاً) لا يكون شعورياً دائماً. فالفكرة التي تكون شعوريةً الآن لا تظل شعوريّةً في اللحظة التالية، مع أنها تستطيع أن تصبح شعوريّةً مرّةً ثانيةً تحت شروطٍ معيّنة من السهل توفّرها. أما عن حالة الفكرة في الفترة الواقعة بين هاتين الحالتين فلسنا نعرف شيئاً. نستطيع أن نقول إن الفكرة كانت "كامنة"...".
أما اللاوعي عند فرويد فيكتسب معنىً آخر. إنه الخبرة التي لا نعرف أنها قد حصلت معنا.
 إنه الوعي الذي يستحيل عليه الحضور، أو هي "الدينامية العقلية" أو "العمليات العقلية أو الأفكار" التي تظهر آثارُها في السلوك، لكنها هي نفسها لا تظهر. ببساطة لأن هناك من يمنعها من الظهور: أي الرقابة. (الأنا الأعلى).
 واللاوعي هنا هو الوعي "المكبوت" الذي تساعدنا تقنيات التحليل النفسي على استعادة الوعي به..

ديكارت: الملفتُ في أحد نصوصِ ديكارت، والذي كان ينكرُ أيَّ وجودٍ للاّوعي في الحياة النفسية، فالحياة النفسية بحسب ديكارت هي حياة واعية بالكامل، وكل حديث عن اللاوعي النفسي هو تناقض في التعبير.. الملفت هو اعرافُه بهذا اللاوعي في أحد نصوصه.
 يقول ديكارت في إحدى رسائله مفسراً حالة الانجذاب لفتاةٍ معيّنة دون أن نعرف السبب، رغم أنها قد لا تكون جميلةً. يردّ ديكارت ذلك إلى خبراتٍ ماضية منسيّة: أن يعيش الشخص حالة حبٍ في فترة الطفولة.. ثم في فتراتٍ لاحقة من عمره، تجذبه فتاة بطريقة لاواعية لأنها تشبه فتاةَ حبِّه القديم بشكل ما، دون أن يدري. بل إن معرفة سبب الانجذاب قد يقضي على الانجذاب ذاته..
الملفت للانتباه ايضاً، أن إحدى الدراسات التي تطبق منهجية التحليل النفسي (الفرويدية) على جبران خليل جبران، تظهر أنه قد أقام خلال حياته العديد من العلاقات مع النساء، وأن الجامع المشترك بين كل تلك العلاقات، أنها كانت مع نساء يكبرنه سناً، وأنهنّ كنّ يشبهن أمه بشكل أو بآخر.. وهي الحالة التي تدرسها مدرسة التحليل النفسي تحت اسم "عقدة أويب": أي الرغبة اللاواعية بامتلاك الأم.
 فهل هذه "الهفوة" التي ارتكبها ديكارت في رسالته تكشف مكابرته في إنكار وجود اللاوعي النفسي، بينما هو يعترف به بطريقة غير مقصودة أو "غير واعية"؟؟

محمد الحجيري 30/1/2017

الأحد، 29 يناير 2017

خلاصة في ضبط مصطلح العَلْمانيّة؛ الدكتور عبد الرحمن السليمان.




خلاصة في ضبط مصطلح العلمانية
الدكتور عبد الرحمن السليمان


مقالات إضافية للدكتور السليمان على الرابط التالي:

  

إن هذه الخلاصة ترمي إلى ضبط مصطلح العلمانية في العربية كما يلي: 

1.
مصطلح العلمانية: البحث في الاشتقاق اللغوي له في العربية، أي ضبط اشتقاق مصطلح (العلمانية) في العربية كما جاء في المصادر اللغوية العربية؛
2.
مصطلح العلمانية: البحث في المفهوم الأصلي/المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية) في كما جاء/جاءت في المصادر اللغوية الغربية،

وأرجو أن يفهم أن الغرض من هذه المقالة هو التوثيق لمصطلح العلمانية ومفهومه الأصلي/ومفاهيمه الأصلية، وليس الحديث في العلمانية ذاتها، فهذا موضوع آخر. والفصل بين الموضوعين، موضوع مصطلح العلمانية وبين موضوع العلمانية ذاتها، مهم جدا كي لا نقع في الخطأ لأن عدم الفصل سيؤدي حتما إلى الوقوع في الخطأ. ولكي أكون صريحا فأنا مهتم بالموضوع الأول وغير مهتم بالموضوع الثاني رغم أهميته، لكني قد أتطرق له لاحقا لشرح ما أشرت إليه في بعض ردودي على الأستاذ حكيم عباس والزملاء وذلك للتمييز بين (العلمانية المتطرفة) وبين (العلمانية الأنسنية) كما هما عليه اليوم في الغرب، حيث نشأت العلمانية وتطورت. 

وأستهل مقالتي بكلام في مصطلح (العلمانية) للدكتور عبدالوهاب المسيري، وما بين () من عندي: 

"
توجد في المعجم العربي ترجمات مختلفة لكلمة "سيكولار" و"لائيك" (= للمصطلحين الإنكليزي secularism والفرنسي laïcité):

1. "
العِلمانية"( بكسر العين) نسبة إلى العِلم؛
2. "
العَلمانية"( بفتح العين) نسبة إلى "العَلم" بمعنى "العالم"؛
3. "
الدنيوية" أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها؛
4. "
الزمنية" بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأية ماورائيات؛
5.
وتستخدم أحيانا كلمة "لائيك" ("لائيكي" و"لائيكية)، خصوصا في المغرب ولبنان، دون تغيير". (1)

إذن نحن هنا أمام مفهومين غربيين (secularism/laïcité) فسرا على أنهما مفهوم واحد ترجم إلى العربية بأربعة مرادفات ونقحر مرة ليصبح عدد المقابلات العربية له خمسة.. (2)

1.
مصطلح (العلمانية) في العربية:

جاء في المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة (مادة علم، صفحة 624) ما نصه: (العَلماني: نسبة إلى العَلم أي العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي). ا.ه.

إذن يقول المعجم الوسيط إن العلمانية منسوبة إلى (العَلم) ـ بفتح العين – وهو (العالم) بفتح اللام. وهذا يعني أن العلمانية ليست مشتقة من (العِلم) بكسر العين. 

وقد أثار نطق العامة والخاصة كلمة (علمانية) نسبة إلى العلم بكسر العين جدلا كثيرا. والمتتبع لأصل المصطلح في اللغات الأجنبية يستنتج بسهولة مطلقة أن المقصود بالمصطلح العربي (العلمانية) إنما هو ترجمة للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism) معا. وفي هذا السياق ينقل المسيري (3) قول الدكتور فؤاد زكريا التالي، وما بين () من عندي:

"
ولا شك في أن الربط بين العلمانية وبين معنى "العالم" أدق من الربط بينها وبين معنى "العِلم". ولو شئنا الدقة الكاملة لقلنا إن الترجمة الصحيحة للكلمة هي "الزمانية"، لأن الكلمة التي تدل عليها في اللغات الأجنبية، أي secular في الإنكليزية مثلا (كذا والصواب: secularism) مشتقة من كلمة (لاتينية) تعني القرن saeculum. (4)

ولقد حسم قرار لمجمع اللغة العربية في القاهرة مسألة ضبط عين "علماني" كما يلي: 

"
تردد في العصر الحديث استعمال كلمة (علماني) على أقلام بعض الكتاب والمفكرين بفتح العين غالبا وبكسرها في النادر (فمن فتح العين أراد النسب إلى العلم بمعنى العالم) (ومن كسر العين أراد النسب إلى العلم) وقد انتهت اللجنة إلى أن ضبط الكلمة هو بفتح العين لأنها ترجمة للكلمتين(laïque, seculier) هما تدلان على الانتماء إلى العالم، أو إلى الأرض، دون الانتماء إلى الدين، أو العلم". (5) وكل المصادر اللغوية العربية على هذا القول فلا داعي إلى الاستفاضة فيه لوضوحه التام. 

الخلاصة:

1.
يستفاد مما تقدم أن مصطلح (العلمانية) مشتق في العربية من (العَلم) ـ بفتح العين ـ بمعنى "العالم"، وليس من العِلم بكسرها. 
2.
يُفهم مما تقدم أن مصطلح (العلمانية) ترجمة للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism).

1.1.
كلمة "عَلم"، بفتح العين: 

إن كلمة عَلم ـ بفتح العين ـ التي اشتق منها مصطلح (العلمانية) كما تقدم ـ تعني "العالم" كما تقدم أيضا. ويستوقفنا في هذه الكلمة تعريف المعجم الوسيط لها، وخصوصا قوله: (نسبة إلى العَلم أي العالم)، وبالتحديد قوله (أي العالم) لتفسير كلمة (عَلم) بفتح العين. فالمعجم الوسيط ومعه مجمع اللغة العربية في القاهرة يريان أنه من الضروري شرح كلمة (العَلم) وتفسيرها للقراء بالجملة المضافة: (أي العالم). وضرورة الشرح والتفسير للقراء يعنيان أن الكلمة المراد شرحها وتفسيرها تستعجم على جمهور القراء. وأنا لاحظت استعجامها على الخاصة قبل العامة .. وهذا يجعلنا نتساءل:

هل كلمة (عَلم) ـ بمعنى العالم ـ عربية؟ وهل وردت (عَلم) ـ بمعنى العالم – في مصادر قديمة؟

الجواب لا! ليست كلمة (علم) بمعنى العالم عربية. وأرجح أنها لم ترد ـ حسب علمي ـ في مصادر عربية مكتوبة قبل سنة 1800. وأنا أزعم أنها مستعارة من الكلمة السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) لأن الكلمة العربية التي تدل على هذا المعنى هي (العالم). وألف المد في (عَلْما) هي أداة التعريف في السريانية لأن التعريف في السريانية، مثل التعريف في الحميرية (مثلا: ذهبن = الذهب)، يكون آخر الكلمة. 

ومن الجدير بالذكر أن الجذر السامي /ع ل م/ يفيد في جميع اللغات السامية معاني "الدهر، الدينا، العالم، الزمن اللامتناهي"، إذ يجانس كلمة "العالم" عندنا كل من الكلمة العبرية: עולם: /عُولَم [وأصلها فيها: عالم]/ والكلمة الحبشية: /عالَم/. 

فالكلمة السامية المشتركة التي تدل على العالم هي (عالم) بفتح اللام كما وردت في العربية والعبرية والحبشية وكما تقدم أعلاه. أما (عَلما) فليست موروثا ساميا مشتركا بل هي كلمة سريانية دخلت العبرية كما يقر بذلك صاحب المعجم العبري التأثيلي بصريح العبارة (6). كما أنها دخت العربية أيضا ــ أو بالأحرى ــ وُظفت في العربية بعد 1800 لنحت كلمة العلمانية منها كما سيتضح لاحقا. والدليل الحاسم على ذلك هو أن (عَلم) بفتح العين ـ أي بمعنى العالم ـ لا تستعمل في العربية لوحدها واستعمالها في العربية مقصور على كونها جذرا اشتق منه مصطلح (العلمانية) فقط.

وهذا بيان آخر للمتخصصين في اللغات السامية وفقهها: لو كانت السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) من الموروث السامي المشترك لكان مقابلها العبري من ذوات السيغول (حركة عبرية ممالة نحو الكسر)، ذلك أن كل كلمة سريانية على وزن /فَعلا/ يجانسها تأثيليا في العبرية /فِعِل/ بإمالة الفاء والعين نحو الكسر، ويجانسها في العربية /فعل/ على وزن كلب (قارن العربية /كلب/ والسريانية /كلبا/ والعبرية كِلِب). وهذا دليل صرفي وتأثيلي على عدم كينونة الكلمة السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) من الموروث السامي المشترك وأنها أي (عَلم) في العربية دخيلة من السريانية. ومنعا لأي لبس: الحديث يتعلق، في هذه المرحلة، باقتراض كلمة (علما) من السريانية وليس باشتقاق كلمة (العلمانية). وسأعود إلى ترجمة العلمانية المستعارة عن السريانية بعد الحديث في المفهوم الأصلي/المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية) في كما جاء ذلك في المصادر اللغوية الغربية.

2.
المفهوم الأصلي/المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية): 

يُفهم من مصطلح (العلمانية) في العربية أنه ترجمة للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism). ومن الضروري أن نعي جيدا أن هذين المصطلحين ليسا مرادفين. بكلام آخر: إن المصطلح الفرنسي laïcité ليس مرادفا للمصطلح الإنكليزي secularism. فهذان مصطلحان مختلفان من حيث الدلالة. فالأول يشير إلى الإيديولوجية العلمانية التي نشأت بعد الثورة الفرنسية. والثاني يشير إلى "الدنيوية/ الزمانية" أي "الدهرية". 

إلى جانب ذلك ثمة مصلح فرنسي ثالث هو laïcisme ويعني، والترجمة لي: "عَوْمَنة" أي "جعل الشيء عاميا"، بعكس الكهنوتي. وهذا المعنى قديم قدم النصرانية، أو بالأحرى، قدم الكنيسة فيها، فقد كان بهذا المعنى أولا في اليونانية (laikos) ثم في اللاتينية (laicus) ثم في سائر لغات الغرب. بكلام آخر: إن هذا المعنى نشأ مع نشوء الكهنوت النصراني بعد تنصر قسطنطين واعتبار النصرانية دين الإمبراطورية البيزنطية لأن الحاجة إلى التمييز بين الكهنة وعامة الشعب أصبحت ضرورية لأسباب مخصوصة بالديانة النصرانية ومؤسساتها الدينية. ويقابل المصطلح الفرنسي هذا في الإنكليزية المصطلح laicism وليس secularism لأن المعنى مختلف كما تقدم. ومنه الفعل laicize في الإنكليزية أي إخراج كاهن ما من طبقة الكهنة إلى طبقة العامة يعني طرده من الكهنوت. وهذا الطرد مثل الحرمان الكنسي. فهذا الفعل لا يعني "علمَن" أي "جعله علمانيا" بالمفهوم الإيديولوجي للعلمانية التي نشأت بعد الثورة الفرنسية، ولا "جعله دنيويا" حسب المفهوم الإنكليزي "الزمانية/الدنيوية" (= secularism)، بل "عَومَن" أي أخرجه من طبقة الكهنة إلى طبقة العامة. من ثمة تسميتهم الشخص العامي في الإنكليزية laic أو layman وكذا laity ضد الكهنوتي (= cleric)، وفي الفرنسية laïque. وهذه المعاني في اللغات الغربية قديمة قدم المؤسسات النصرانية وليست مستحدثة. ويرد المعجم الإنكليزي التأثيلي مفهوم layman بمعنى الشخص العامي غير الكهنوتي في الإنكليزية إلى سنة 1432، أي إلى ما قبل نشوء الثورة الفرنسية (1789-1799) وما قبل George Holyoake صاحب المصطلح الإنكليزي secularism "الزمانية/الدنيوية" بقرون كما يتضح بجلاء. (7) ويرد المعجم ذاته المفهوم الإنكليزي layman بمعنى الشخص العامي غير الكهنوتي في الإنكليزية إلى الفرنسية القديمة التي تكون فيها هذا المفهوم سنة 1330 كما يشير المصدر ذاته. وهذا كله يعود إلى اللاتيني laicus المأخوذ بدوره عن اليونانية laikos (λαικός) نسبة إلى λαός "شعب". 

إذن يعود هذا المعنى، معنى "العومنة" أي "جعل الشيء عاميا" بعكس الكهنوتي، إلى بداية الحقبة النصرانية كما تقدم، ويعود اشتقاق الإنكليزية Laicism والفرنسية laïcisme إلى الكلمة اليونانية Λαός (laos) التي تعني "شعب"، "عامة"، أي عكس الكهنة. من ثمة صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية "الدنيوية"، بعكس الكهنوتية "الدينية". وقد اشتق من الكلمة اليونانية Λαός (laos) المصطلحُ اليوناني (λαϊκισμός) أو laikismos "علمانية"، وكذلك (λαικός) أو laikos "علماني" الذي هو ضد الكهنوتي (κληρικός) أو klyrikos. ونرجح نشوء هذا المصطلح في بيزنطة بعدما نادى قسطنطين بالنصرانية ديانة للدولة البيزنطية في القرن الرابع للميلاد، وهو القرن الذي عرف حضورا قويا للبطارقة والكنيسة في الحياة السياسية والاجتماعية للدولة البيزنطية. 

إنه هذا المعنى الثالث للعلمانية هو التي ترجم إلى العربية قبل ظهور العلمانية الفرنسية بعقود! و"أول معجم ثنائي اللغة قدم ترجمة صحيحة للكلمة هو قاموس "عربي فرنسي" أنجزه لويس بقطر المصري عام 1828 م وهو من الجيل الذي ينتمي إلى الحملة الفرنسية، وقد كان متعاونا مع الفرنسيين ورحل معهم إلى باريس وعـاش هناك وكانت ترجمته لكلمة sécularité = عالماني [اقرأ: عالمانية] و séculier = علـماني، عالمـاني. وميـزة هذه الترجمة أنهـا أول وأقـدم ترجمة صحيحـة للكلمة تـدحض آراء الذين يعتبرون العَلمانية من العِلم، لأنه نسبها إلى العالَم". (8) ومما يزيد هذا المعنى بيانا كون ضد séculier "العَلماني" بمعنى الشخص العامي اللاكهنوتي، هو كلمة régulier التي يراد بها "راهب الدير"، وكذلك العضو في منظمة دينية نصرانية كاليسوعية وغيرها. وأول معجم عربي عربي قدم تعريفا للكلمة هو معجم محيط المحيط لبطرس البستاني (صدر سنة 1870) حيث ورد ما نصه: "العلماني: العامي الذي ليس بإكليريكي". (9) وهذا تعريف مهم جدا لأنه يدحض أيضا آراء الذين يعتبرون العَلمانية من العِلم بكسر العين، لأنه من الواضح جليا أن البستاني لا يقصد بحده هذا الإيديولوجية العلمانية الفرنسية التي تبلورت في نهاية القرن التاسع عشر أي بعد إصدار معجم البستاني بأكثر من عقدين تقريبا ـ فضلا عن العِلم! ـ بل المفهوم الأقدم للمصطلح كما تقدم وصفه، أي (العومنة) أو جعل الشيء عاميا. 

ويتضح من هذين المعجمبين اللذين أوردا مصطلح العلمانية لأول مرة واللذين أنجزهما كاتبان نصرانيان هما لويس بقطر وبطرس البستاني أنهما يريدان بـ "عالمية" بفتح العين واللام (لويس بقطر) و(عَلمانية) بفتح العين (بطرس البستاني) ترجمة المفهوم الـقديمlaicism/laïcisme جعل الشيء عاميا) وليس مفهوم الـ (secularism) ولا مفهوم الـ (laïcité) اللاحقين. 

يتضح مما سبق:

1.
أن مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة")، مفهوم قديم قدم المؤسسات الدينية النصرانية. وقد وُضع مصطلح "العلمانية" في العربية للدلالة على هذا المفهوم بالضبط وليس على غيره. 
2.
أن مفهوم (العلمانية) بمعنى "الدنيوية" (secularism) نشأ في إنكلترا في القرن التاسع عشر (1846)، وأن الترجمة العربية الدقيقة له هي "الزمانية"، "الدهرية" وليس "العلمانية".
3.
أن مفهوم (العلمانية) بمعنى (laïcité) هو إيديولوجية نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية (حوالي 1880) وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة"!

وعليه فإننا نستنتج أن التدليل على هذه المفاهيم الثلاثة بالعربية بمصطلح "العلمانية" وحده حالة شاذة تؤدي بالمثقفين العرب غير العارفين باللغات الأصلية وغير المطلعين على التاريخ الغربي اطلاعا كافيا، إلى الوقوع في أخطاء جسيمة تجعلهم ينتهون إلى نتائج خاطئة أيضا. ويتزامن هذا الجهل بالمصطلحات والمفاهيم الأصلية مع الأحكام المسبقة لدى الكثيرين من العلمانيين العرب أحاديي التفكير والنظر الذين لا يرون من هذا المصطلح إلا الإيديولوجية العلمانية الفرنسية المتطرفة التي نشأت بعد الثورة الفرنسية، والتي لا تزال تحول ـ على سبيل المثال ـ دون نشوء أحزاب مسيحية تحكم البلاد مثلما هي الحال عليه في بلجيكا وألمانيا وهولندة وغيرها من دول الغرب "العلماني"، ودون تمويل دور عبادة الديانات المعترف بها ومؤسساتها الأخرى. (10) فهذه بلجيكا، على سبيل المثال لا الحصر، يحكمها الحزب المسيحي الديمواقراطي منذ أكثر من نصف قرن! وهذا محال في فرنسا التي تأخذ من محاربة الدين عقيدة لها يدين به أكثر العلمانيين العرب إن لم يكن جلهم .. ولكن هذا موضوع الحديث في التمييز بين العلمانيتين العلمانية المتطرفة (العلمانية الشاملة عند عبدالوهاب المسيري) والعلمانية الانسنية (العلمانية الجزئية عند عبدالوهاب المسيري)، وليس موضوع المصطلح فحسب. 

علاقة مصطلحنا بالسريانية:

إن السريان نصارى كان لهم (ولا يزال) كهنوت ولاهوت معقد، وفرقهم الدينية من أكثر فرق النصرانية جدلا .. وأهم بطريقين لهما في هذا السياق هما نسطور (القرن الخامس) الذي كان من بطارقة البيزنطيين، ويعقوب البرادعي (القرن السادس). وقد اتهم نسطور بالهرطقة وطرد من الكنيسة نتيجة لاحتدام الجدل آنذاك في طبيعة عيسى بن مريم وطبيعة أمه، عليهما السلام. وكان نسطور قد ذهب إلى أن المسيح مكون من طبيعتين واحدة ناسوتية وأخرى لاهوتية، لم تتحدا لتصبحا طبيعة واحدة على الرغم من بقائها في جسد واحد بل بقيتا منفصلتين عن بعضهما بعضا مثلما يبقى الماء والزيت الموجودين في وعاء واحد مفصلين عن بعضهما البعض .. وينتج عن هذا الاعتقاد أن مريم غير مقدسة لأنها أم عيسى الناسوتي. أما يعقوب فكان يرى أن لعيسى طبيعتين ناسوتية ولاهوتية اتحدتا فيه اتحادا نهائيا وأصبحتا طبيعة واحدة وذلك مثل اتحاد الماء والخمر اللذين لا ينفصلان عن بعضهما بعضا إلا بعملية كيميائية .. وينتج عن هذا الاعتقاد أن مريم مقدسة لأنها أم عيسى الناسوتي واللاهوتي أي "أم الله" كما توصف في الديانة النصرانية وفي أكبر فرقها أي الكاثوليكية وغيرها. 

كان السريان نقلة المعارف اليونانية في العصور الوسطى، وهم أقدم سابقة من العرب في الترجمة من اليونانية بقرون. وبما أنهم نصارى لهم رهبان وكهنة ووثيقي الصلة باليونان، فقد انتقل مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة") إليهم من اليونانية مثلما انتقل إلى غيرهم من الأمم النصرانية ومنهم الفرنسيين (سنة 1330) والإنكليز (سنة 1432) كما ذكر المعجم الإنكليزي التأثيلي (النظر الحاشية رقم 7).

ومن السريان انتقل هذا المعنى إلى العرب عن طريق الكتاب العرب النصارى الذين يتقنون السريانية مثل بطرس البستاني وغيره. والدليل القاطع على ذلك استعارة العرب كلمة (علم) بمعنى (العالم) من السريانية كما تقدم أعلاه هو أن هذه الكلمة لم ترد في مصادر عربية مكتوبة قبل سنة 1800 ولا تستعمل في العربية – حتى يومنا هذا - خارج سياق كونها جذرا اشتق منه مصطلح (العلمانية) كما تقدم .. ثم اشتقوا كلمة (علمانية) منها على السماع لا على القياس لأن القياس اللغوي يقتضي نحت (عَلمية) ـ بفتح العين – وليس (علمانية) بإضافة الألف والنون.

نستنتج مما تقدم أن مصطلح (علمانية) اشتق للدلالة على:

1.
مفهوم (العلمانية) القديم أي جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة"). 

ثم حُمّل مصطلح (العلمانية) في العربية:

2.
مفهوم "الدنيوية"/"الزمانية"/"الدهرية" (secularism) الذي نشأ في إنكلترا في القرن التاسع.
3.
ومفهوم "الإيديولوجة العلمانية" (laïcité)، وهي الإيديولوجية التي نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية بقرن تقريبا (في نهاية القرن التاسع عشر) وتأخذ من عداء الأديان عقيدة لها .. وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة" كما تقدم.

والسبب الرئيسي للخلط الحاصل في أذهان بعض الناس هو عدم التمييز بين المعاني الرئيسية الثلاثة التي اجتمعت في المصطلح العربي (علمانية) الذي اشتق من كلمة دخيلة من السريانية اقترضت لنحت المصطلح العربي (علمانية). ولا أشك في أن البحث في المجلات التي كانت تصدر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مثل المقتطف والمقطم وغيرهما سيلقي أضواء كثيرة على هذا المصطلح وقت إدخاله في العربية .. وهذا موضوع دكتوراه بامتياز وحبذا لو شمر باحث شاب على ساعديه للقيام به! في أثناء ذلك نقترح تمييز المفاهيم الثلاثة المجتمعة في كلمتنا (علمانية) بثلاثة مصطلحات مختلفة كما يلي:

1.
قصر استعمال مصطلح (العلمانية) للدلالة على المفهوم الـقديمlaicism/laïcisme الذي يعني "جعل الشيء عاميا" فقط (ويرادفه: مصطلح "عَومنة" الذي اخترعناه لشرح المفهوم الأصلي)؛
2.
استعمال مصطلح "الدنيوية" للدلالة على مفهوم الـ secularism الذي نادى به جورج هوليوك سنة 1846 (كما تطور لاحقا). (ويرادفه: مصطلحا "الزمانية" و"الدهرية")؛
3.
استعمال اللفظ المنقحر "لائيكية" للدلالة على "الإيديولوجة العلمانية" الفرنسية laïcité كما تطورت منذ 1880 (ويرادفه: "اللادينية").

وأنا لا أشك في أن خلط هذه المفاهيم كلها في كلمة (علمانية) ثم نقطها بكسر العين للإيحاء بأنها من العلم ثم تسويقها على أنها منهج علمي، إنما هو خلط مشبوه وتدليس بهدف ترسيخ مصطلح لا تستسيغه البيئة العربية الإسلامية وبأساليب ملتوية .. وإن كل من يمارسه وينطق هذه الكلمة بالكسر هو إما جاهل بحقيقة هذا المصطلح أو عالم به لكنه يمارس التدليس على قومه ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحواشي:

(1)
الدكتور عبدالوهاب المسيري (1423/2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق. المجلد الأول الصفحة 61.
(2)
وهذه الظاهرة، ظاهرة وجود مرادفات مصطلحية عربية متعددة إزاء مفهوم غربي واحد، من معضلات الثقافة العربية المعاصرة العويصة، وهي السبب في تشتت جهد الدارسين وكذلك في الكثير من الخلافات بين المثقفين. من ثمة الدعوة المتكررة إلى ضرورة ضبط المصطلح قبل الحديث في مدلولاته.
(3)
الدكتور عبدالوهاب المسيري (1423/2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق. المجلد الأول الصفحة 61.
(4)
يتضح من كلام الدكتور فؤاد زكريا أنه يعتمد في اقتراحه اعتماد مصطلح "الزمانية" بدلا من العلمانية على المصطلح الإنكليزي اللاتيني الأصل secularism وليس على المصطلح الفرنسي اليوناني الأصل laïcité، ذلك لأن "الزمان" ليس من معاني هذا الأخير. وهذا المعنى يقترب كثيرا من معنى (الدهرية) نسبة إلى الدهر.
(5)
المصدر: د. فاروق مواسي على الرابط التالي: http://www.atinternational.org/forum...ead.php?t=6922 
(6)Klein E. (1987). A Comprehensive Etymological Dictionary of The Hebrew Language ... New York/London 1987
صفحة 473 – مادة עלם/ עלםא.
(7)
انظر: http://www.etymonline.com/index.php?term=lay. 
(8)
د. أحمد إدريس الطعان، العَلمانية والعِلمانية. المصدر: http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2637. وانظر سيرة لويس بقطر في الأعلام للزركلي. 
(9)
بطرس البستاني (1977). محيط المحيط. مادة علم. وقد وردت كلمة (عَلم) بمعنى العالم أيضا في معجم كازيميرسكي الصادر في باريس سنة 1860 لكن كلمة (العلمانية) لم ترد فيه وهذا يعني أنه لم تكن حينه موطنة في العربية على الرغم في ورودها في معجم لويس بقطر المصري عام 1828. انظر: كازيميرسكي دي بيبرشتاين/Kazimirski A. De Biberstein (1860). قاموس اللغتين العربية والفرانساوية. باريس. مادة (علم).
(10)
ينتهك الأنموذج العلماني الفرنسي، في حقيقة الأمر، حقوق الانسان انتهاكا صارخا لأن فرنسا ترفض تمويل دور عبادات الأديان المعترف بها بينما تجبي الضرائب من أتباعها دون أن تأخذ احتياجاتهم الدينية والروحية بعين الاعتبار. وينطبق هذا القول على الإسلام في فرنسا أكثر منه على النصرانية واليهودية .. وفرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي تفعل ذلك وبتطرف غير طبيعي بحجة ظلم الكنيسية إبان النظام القديم. 

حواش وإضافات

جاء في معجم رينهارت دوزي "تكملة المعاجم العربية" (R. Dozy, Supplément au dictionnaires arabes. Leiden, 1881.)، المجلد الثاني صفحة 165 (مادة علم) ما يلي:

(
عالمي) ـ نسبة إلى العالم بمد العين بألف المد وبدون نون – وترجمه بـ laïque, séculier، و(عالماني) ـ نسبة إلى العالم بمد العين بألف المد ولكن بنون – وترجمه بـ laïque, séculier ثم (علماني) ـ نسبة إلى العَلم بفتح العين – وترجمه بـ laïque, séculier أيضا. 

صدر معجم دوزي سنة 1881، وهي السنة التي يؤرخ فيها لتاريخ ظهور المصطلح الفرنسي laïcité (لائيكية). وهذا التاريخ مهم جدا أهمية هذا المعجم، ذلك لأن الهولندي رينهارت دوزي جمع في معجمه العربي الفرنسي أكثر الألفاظ العربية التي لم ترد في المعاجم العربية ليس لأن المعاجم العربية أهملت تلك الألفاظ سهوا بل لأن تلك الألفاظ لم تكن تدخل في منظومة الكلام الفصيح كما كان أهل المعاجم يفهمونه ويعملون به. ومن هذا الكلام الذي لم يدخل في منظومة الكلام الفصيح كما كان أهل المعاجم يفهمومه: نصوص الأدب الشعبي شبه العامي (مثل سيرة عنتر وسيرة بني هلال الخ.) والنصوص العربية التي كتبها النصارى واليهود وأتباع الديانات والفرق الأخرى في موضوعات مخصوصة بدياناتهم وتاريخهم الخ. وكان هؤلاء الكتاب لا يلتزمون بقواعد اللغة العربية كما كان المسلمون يلتزمون بها لأسباب معروفة، بل كانوا يكتبون العربية كما ينطقونها تقريبا. ونصوصهم ـ في هذا السياق ـ كنز لغوي غني لدراسة تطور اللهجات العربية في العصور الوسيطة. ولا يشذ عن هذا القول إلا كتاب قليلون مثل الغوي اليهودي مروان بن جناح القرطبي والأديب موسى بن عزرا وغيرهما. ونظرا للخصوصية والمميزات اللغوية الكثيرة لتلك النصوص ولغاتها، فقد أطلق عليها في الأوساط البحثية المخصوصة بها تسميات مثل Judaeo-Arabic (العربية اليهودية) وكذلك Christian Arabic (العربية النصرانية). من علامات هاتين العربيتين أنهما كانتا تكتبان بالكتابة االعربية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية، وأنه لا إعراب فيهما ولا تمييز بين (هم/هن) .. 

وفي الحقيقة إن معجم دوزي أعلاه ـ وهو أشهر من نار على علم في سياق هذه الدراسات – يجمع أكثر الألفاظ الواردة في النصوص المكتوبة في (العربية اليهودية) وفي (العربية النصرانية). إن كثيرا من تلك المفردات المخصوصة بديانتي النصارى واليهود وسننهم وفقههم ليس من العربية بل من لغاتهم الأصلية وخصوصا العبرية والآرامية/السريانية (مثل علم ـ بفتح العين)، توطن في العربية التي كانوا هم يستعملونها والتي لم يعالجها أصحاب المعاجم العربية إما لأنها لم تكن فصيحة برأيهم لأن معايير الفصاحة عند المعجميين العرب التقليديين جد معقدة، أو لأنهم لم يطلعلوا عليها لأن أكثر تلك النصوص كان مدونا بكتابة غير عربية كما تقدم. 

وهكذا أدخل دوزي في معجمه الذي صدر سنة 1881 الكلمات (عالمي) ـ نسبة إلى العالم بمد العين بألف المد وبدون نون – وترجمه بـ laïque, séculier، وأيضا (عالماني) ـ نسبة إلى العالم بمد العين بألف المد ولكن بنون – وترجمه بـ laïque, séculier ثم (علماني) ـ نسبة إلى العَلم بفتح العين – وترجمه بـ laïque, séculier أيضا كما كانت هذه الكلمات متداولة في (العربية النصرانية) للدلالة على المفهوم الأول الذي يحمله مصطلح (العلمانية) أي (العومنة: جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي). 

والمجلد الثاني من معجم دوزي متاح في الشبكة وهذا رابطه:

http://books.google.com/books?id=aOo...age&q=&f=false
رد مع اقتباس


حواش وإضافات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد الأقطش مشاهدة المشاركة


منذ بزوغ حركة الترجمة الحديثة التي افتتحها رفاعة الطهطاوي، وانهمر سيلٌ من المصطلحات والألفاظ المستوردة التي توغلت في حياتنا الثقافية منذ ذلك العصر ونزولاً. التأصيل هنا هو تأصيل تاريخي يحكمه تصرّفات المترجمين وجهودهم في هذا الوقت، باعتبارهم ناقلين لأول مرة على غير مثال. ومَن يطالع كتاب رفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) يجد محاولاته الشخصية في ترجمة وتعريب ما عرض له من كلمات جديدة، ولم تستقر صورة هذه الكلمات
-
المترجمة منها والمعرّبة - إلا بعده بقرون.

ويظهر مِمَّا كتبه في الجزء الثاني من هذا الكتاب في الفصل الثاني عشر تحت عنوان (في دين أهل باريس) أنه ترجم الفرنسية laïque و laïcité إلى "العامة" في مقابل القساوسة. يقول (2/256): ((ومِن الخصال الذميمة: أن القسيسين يعتقدون أنه يجب على العامة أن يعترفوا لهم بسائر ذنوبهم ليغفروها لهم، فيمكث القسيس في الكنيسة على كرسي يُسمّى كرسي الاعتراف)). اهـ وهذا هو المعنى الأصليّ للكلمة الفرنسية.

الطهطاوي ذو ثقافة إسلامية، لذلك استخدم كلمة "العامة" - ومفردها "عامّي" - لتدلّ على عموم المنتسبين إلى الديانة الكاثوليكية مِمَّا ليسوا في السلك الكهنوتي. ومثل هذه الدلالة ليس لها وجود في الدين الإسلامي كما هو معلوم لعدم وجود كهنوت أصلاً.

في المقابل، كان بطرس البستاني مسيحياً وهذا المصطلح يخصّ ديانته في المقام الأول، ولذلك استخدم الكلمة الرائجة في الأوساط المسيحية الشرقيةوهي "عَلماني" التي تحمل هذه الدلالة عينها، وهي المنسوبة إلى العالم . ولقد صنف بطرس البستاني معجمه بعد رفاعة الطهطاوي بأربعين سنة.

فوفقاً للنظام الديني المسيحي، فإنّ كلّ مَن ليس بإكليركيّ أو يعمل في السلك الكهنوتي فهو مِن العامة. وكان يُطلق على عموم الناس في هذه الحالة "العالـَم"، وهو نفس الاستخدام الدارج الذي لم يزل قائماً في بعض لهجاتنا إلى اليوم دون سياقه الديني (نقول في مصر مثلاً: "العالَم دُول" يعني "هؤلاء الناس").

وأصل اللفظ مِن اللغة الآرامية كما تفضّل الدكتور عبد الرحمن السليمان، وكانت قد أصبحت لغة اليهود عقب رجوعهم من السبي البابلي، وظهر السيد المسيح وكانت هي اللغة المستخدمة في عصره. ولذلك نقرأ في إنجيل يوحنا أن أحبار اليهود لما علموا بالمعجزات التي صنعها المسيح واجتماع الناس حوله، قالوا (يو 12: 19): "هُوَ ذا العالـَم قد ذهبَ وراءه!" والنص في الإنجيل السرياني هكذا:
ܕܗܐ ܥܠܡܐ ܟܠܗ ܐܙܠ ܠܗ ܒܬܪܗ وتعريبهدها عَلـْما كُله أزل له بثره. يقصدون عامة الناس مِن غير الأحبار.

ومعلومٌ أن المصطلحات الدينية المسيحية التي دخلت العربية جاءت عبر السريانية، على سبيل المثالالجاثليق، الأقنوم، الباعوث، المعمودية، البـِيعة أي الكنيسة، القسيس، إلخ. ثم إن السريان وضعوا لهم تراكيب خاصة في اللسان العربي، كقولهملاهوت، ناسوت، ثالوث، رهبانية، إلخ.

أما صيغة النِسبة (اني) في أواخر الألفاظ فعربية، ومِن أمثلتها:
نفس ==> نفساني
عقل ==> عقلاني
روح ==> روحاني
شهوة ==> شهواني
فصاغ النصارى العرب الكلمة الدالة على عموم الناس مِما ليسوا بإكليركيين (عالم) بهذه النسبة، فقالوا:
عَالـَم ==> عَالـَماني
ونطقوها بنطقهم السرياني الدارج بتسكين اللام، فقالوا:
عَالـْماني ==> عَلـْماني
ولا تزال هذه الظاهرة في النطق الدارج موجودة إلى يومنا هذا، على سبيل المثال:
خاتِمة ==> خاتـْمة (دون مَدّ بين الخاء والتاء)
عَالِمة ==> عَالـْمة 
ماجِدة ==> ماجْدة
مالِكي ==> مالـْكي
شافِعي ==> شافـْعي
ساحِلي ==> ساحْلي

مع خالص تحياتي
،،
رد مع اقتباس


حواش وإضافات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد الأقطش مشاهدة المشاركة
* الطبعة التي عندي من محيط البستاني هي طبعة مكتبة لبنان ببيروت سنة 1987 وليس في مقدمتها ما يشير إلى أية إضافات قام بها البستاني في معجمه بعد طبعته الأولى، بل لم يرد أن البستاني أعاد طبع معجمه في حال حياته.
*
وهاك كلمة "عَلْماني" كما وردت في الطبعة المذكورة:[/RIGHT]
[بطرس البستاني: محيط المحيط، مكتبة لبنان - بيروت، ط 1987، (علم)، ص 628].


* الطبعة التي بين يديّ لكتاب الطهطاوي هي طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، سنة 1993. أما الطبعة الأولى للكتاب فهي طبعة بولاق بالقاهرة، سنة 1834. 
*
فيما يخص كلمة laïcité فهي حقاً اصطلاح سياسي، لكنها مأخوذة لغوياً مِن laïque / laïc التي تعني: "علماني غير كنسي" وهي كلمة معروفة وموجودة في المعاجم الفرنسية القديمة. واستخدام الطهطاوي لكلمة "العامة" في مقابل القساوسة صريحٌ في أنه يترجم الكلمة الفرنسية laïque أو بالأحرىlaïques بالجمع. أما هذه الكلمة على وجه الخصوص laïcité فإن الاصطلاح لا يأتي مِن فراغ، فالسياق اللغوي والتاريخي هو الدعامة التي يقوم عليها.



لم أجد ما يناقض كلامك يا سيدي، لذلك سأذكر ما وقفتُ عليه بحسب اطلاعي المحدود في هذه المسألة:
*
ورد في قاموس Abel Boyer‏ الفرنسي الإنجليزي المطبوع سنة 1833 ما يلي:



Abel Boyer, Boyer's French Dictionary, Hilliard, Gary and Co., Boston, 1833, pp. 317-318

فالصيغة الاشتقاقية laïcité لم تكن موجودة، ولكن مفهومها الأصلي موجود ومُستخدم بالصيغ الاشتقاقية الأخرى. كما لو قلتَ مثلاً: "الإباحية" بهذه الصيغة لم ترد في المعاجم العربية، فليس معناه حداثة المفهوم إذ الكلمة مشتقة من الإباحة. ففهْمُ المصطلح يعتمد على فهم اشتقاقه اللغوي، حتى يتسنَّى للباحث رصد تطورات الدلالة الاصطلاحية فيما بعد.

*
وقد ورد في المعجم التاريخي للغة الفرنسية Dictionnaire historique de la langue française أن كلمة laïc تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وأصلها من الكلمة اليونانية λαϊκός (لاييكوس) التي تعني "عامة الناس" والتي استخدمتها الكنيسة الكاثوليكية في مقابل κληρικός (كليريكوس) التي تعني: "القسوس".
Alain Rey (dir.), Dictionnaire historique de la langue française, éd. Le Robert, 1998, p. 1961
فهذا هو حجر الزاوية في فهم الأساس التاريخي للمصطلح، لأن فصل سُلطة الكنيسة عن سُلطة العامة نبع من ثقافةٍ فيها هذا التقسيم الثنائي. ولذلك ليس لهذا المفهوم وجود في الثقافة الإسلامية لعدم وجود كنيسة أو إكليروس، فليس غريباً إذن ألاّ نجد هذه الكلمة في العربية إلاّ عند المسيحيين فقط!

مع خالص مودتي وتقديري
،،

حواش وإضافات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد الأقطش مشاهدة المشاركة

التأصيل اللغوي التاريخي لمصطلح (العلمانية) في اللغة العربية لا يحتمل كل هذا اللغط. فهذا الاصطلاح:

1-
مسيحي في الأساس
2-
مشتق مِن "العالَم".
3-
ظهر لأول مرة هكذا: "عالماني"

هذه الحقيقة اللغوية التاريخية نبّه عليها أيضاً المستشرق المعروف برنارد لويس وذلك في كتابه (أين الخطأ) في الفصل الخامس "العلمانية والمجتمع المدني": إذ بعد استعراض جذور هذا المفهوم في الثقافة المسيحية ووجه الاختلاف بينها وبين الثقافة الإسلامية، يقول ما يلي:

((..
ولكن انتشار التأثير الغربي اعتباراً من القرن التاسع عشر جعل المسيحيين الناطقين بالعربية - والذين كانوا كثيراً ما يتلقون تعليمهم في المدارس الغربية، والذين كانوا أكثر انفتاحاً على الأفكار الغربية - يضطلعون بدور رئيسي في نقل هذه الأفكار. فكان أن قدَّم المعجمُ العربيُ المسيحيُ جانباً مهماً من المفردات الجديدة التي أسهمت في تشكيل العربية المعاصرة.

وكان من المصطلحات المسيحية التي شاع استعمالها مصطلح "عالماني" التي تحوّلت فيما بعد إلى "عَلَماني"، وتعني حرفياً: ما له علاقة بالعالم، أي دنيوي. وأصبحت الكلمة مرادفة لمصطلح: الزمني، وغير الديني، وغير الكنسي جميعاً. وابتدعت في وقت لاحق كلمة دخيلة مترجمة هي "روحاني" المشتقة من "روح" للدلالة على المعنى المضاد.

ومن عهد جدّ قريب، نسي الناس أصل كلمة "عالماني" واشتقاقها المسيحيَّيْن، وحرّفوها في النطق إلى "عِلماني" المشتقة من "العِلم". وأسيء فهمها إذ أصبحت تشير إلى مذهب مَن يزعمون وجود تعارض بين العلم البشري والتنزيل الإلهي)). اهـ

[
برنارد لويس: أين الخطأ: التأثر الغربي واستجابة المسلمين، ت:
د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 2009،
ص159].

مع خالص التحية

حواش وإضافات


إن أول ظهور لكلمة laïcité في المعجم الفرنسي كان سنة 1882 في معجم صدر في أجزاء واكتمل سنة 1887. وضعه الفرنسي الحائز على جائزة نوبل Ferdinand Buisson وهو:

Dictionnaire de pédagogie et d'instruction primaire (deux éditions, en 1887 et en 1911). – Réédition : Alcan, Paris, 1929.

وعلى الصفحة التالية بعض المعلومات عن الكاتب:

http://fr.wikipedia.org/wiki/Ferdinand_Buisson


حواش وإضافات

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد الأقطش مشاهدة المشاركة

أساتذتي الأعزاء ،،

هذا الاصطلاح:

1-
مسيحي في الأساس
2-
مشتق مِن "العالَم".
3-
ظهر لأول مرة هكذا: "عالماني"

هذه الحقيقة اللغوية التاريخية نبّه عليها أيضاً المستشرق المعروف برنارد لويس وذلك في كتابه (أين الخطأ) في الفصل الخامس "العلمانية والمجتمع المدني": إذ بعد استعراض جذور هذا المفهوم في الثقافة المسيحية ووجه الاختلاف بينها وبين الثقافة الإسلامية، يقول ما يلي:

((..
ولكن انتشار التأثير الغربي اعتباراً من القرن التاسع عشر جعل المسيحيين الناطقين بالعربية - والذين كانوا كثيراً ما يتلقون تعليمهم في المدارس الغربية، والذين كانوا أكثر انفتاحاً على الأفكار الغربية - يضطلعون بدور رئيسي في نقل هذه الأفكار. فكان أن قدَّم المعجمُ العربيُ المسيحيُ جانباً مهماً من المفردات الجديدة التي أسهمت في تشكيل العربية المعاصرة.

وكان من المصطلحات المسيحية التي شاع استعمالها مصطلح "عالماني" التي تحوّلت فيما بعد إلى "عَلَماني"، وتعني حرفياً: ما له علاقة بالعالم، أي دنيوي. وأصبحت الكلمة مرادفة لمصطلح: الزمني، وغير الديني، وغير الكنسي جميعاً. وابتدعت في وقت لاحق كلمة دخيلة مترجمة هي "روحاني" المشتقة من "روح" للدلالة على المعنى المضاد.

ومن عهد جدّ قريب، نسي الناس أصل كلمة "عالماني" واشتقاقها المسيحيَّيْن، وحرّفوها في النطق إلى "عِلماني" المشتقة من "العِلم". وأسيء فهمها إذ أصبحت تشير إلى مذهب مَن يزعمون وجود تعارض بين العلم البشري والتنزيل الإلهي)). اهـ

[
برنارد لويس: أين الخطأ: التأثر الغربي واستجابة المسلمين، ت:

د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 2009، ص159].

مع خالص التحية.


حواش وإضافات

لم ترد كلمة (علم) بفتح العين بمعنى (العالم) في المصادر العربية القديمة لأنها كما تقدم مستعارة من السريانية. وأول معجم عربي أوردها مدخلا مستقلا هو محيط المحيط للبستاني (1870) كما ذكرنا في أول مشاركة. وذكرت أيضا أن أول معجم ثنائي اللغة ذكر هذه الكلمة بهذا المعنى هو معجم أنطوان كازيميرسكي دي بيبرشتاين العربي الفرنسي (1860):

Kazimirski Antoine de Bieberstein, conte (1860) — Dictionnaire arabe–français, Paris, Maisonneuve et Larose, 2 vol.
انظر مادة (علم).

ونضيف بأننا وجدنا الكلمة في معاجم أقدم نسبيا، إذ وردت كلمة (علم) بفتح العين بمعنى العالم أيضا في (المعجم العربي اللاتيني) الشهير لفرايتاغ (1830-1837):

FREYTAG, GEORGE W. Lexicon Arabico-Latinum praesertim ex Djeuharii Firuzabadiique et aliorum Arabum operibus adhibitis Golii quoque et aliorum libris confectum. Halis Saxonum: C.A. Schwetschke et filium, 1830-1837.

انظر مادة (عَلم) بفتح العين وترجمها إلى اللاتينية بالـ: creatae, mundus أي العالم، البرية.

أما (علماني/علمانية) فهذه لم ترد بالمعنيين: (الدنوية = secularisme) و(اللائيكية = laïcité) في معاجم في القرن التاسع عشر .. والمعنى الوحيد الذي ورد في معاجم من القرن التاسع عشر هو معنى (عومنة laïcisme/laïcism) للدلالة على الأشخاص اللادينيين/اللاكهنوتيين أي العامة كما سبق وشرحنا. وأول من أورد كلمة (علماني) هو بقطر المصري في معجمه الفرنسي العربي سنة 1828-1829 كما تقدم، وبالتحديد عند ترجمته مادة laïque كما تقدم .. وعلى معجمه هذا اعتمد كل من فرايتاغ ودوزي كما يبدو من ثبت مصادرهما أيضا. ومعجم بقطر المصري مطبوع في باريس بالعنوان التالي:

Ellious Bocthor (1828-1829), Dictionnaire français-arabe. Revu et augmenté par Caussin de Perceval. Paris (3° édition, 1864).

وانظر سيرة القبطي بقطر في ويكيبيديا أيضا: http://fr.wikipedia.org/wiki/Ellious_Bocthor

وعلى نهجه سار كل المعجميين اللاحقين ومنهم رينهارت دوزي صاحب (تكملة المعاجم العربية) كما تقدم. وكذلك:

Gasselin Edouard (1886) Dictionnaire Français-Arabe (Arabe vulgaire - Arabe grammatical). Paris, Ernest Leroux Editeur. 2 tom.

انظر مادة Laïque الذي ترجمها هذا الفرنسي المولودة في الجزائر كاالتالي:

Laïque, adj.
عامَِّي fém. ة (rac. عامّ “commun, général).

وكذلك:

Barthélemy A. (1935), Dictionnaire arabe–français. Paris. 2 tom.

وهو معجم للهجات بلاد الشام. وقد جاء فيه: (علماني laïque, séculier).

وعندي أن البستاني أول من عالج كلمة (علماني) في معجم عربي عربي. ومصدره الذي اعتمد عليه في إيراده كلمة (علماني) هو بلا شك قاموس بقطر المصري الذي يعتبر ــ حتى العثور على مصدر أقدم منه ــ أول من عرَّب مادة laïque إلى (علماني) نسبة إلى العلم بفتح العين بمعنى العالم.

ومن المثير للانتباه أن عبدالله البستاني صاحب معجم (البستان – صدر سنة 1927) ـ وهو مثل معجم (محيط المحيط) لبطرس البستاني حجما ومادة، ذكر العلم بفتح العين بمعنى العالم ولم يذكر (علماني). وهذا مثير للتأمل لأنه يعني أن اللفظة في سنة 1927 لم تكن موطنة في العربية .. (انظر: عبدالله البستاني (1927). البستان. مجلدان المطبعة الأمريكانية. بيروت. مادة: علم).

يتضح من هذه المصادر ومن تلك المذكورة في المشاركة الأولى في هذه الصفحة، أن مصطلح (علمانية) اشتق للدلالة على:

1.
مفهوم (العلمانية) القديم أي جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة"). وأن أول من اشتقه هو بقطر المصري في معجمه الصادر سنة 1828-1829؛

ثم حُمّل مصطلح (العلمانية) في العربية:

2.
مفهوم "الدنيوية"/"الزمانية"/"الدهرية" (secularism) الذي نشأ في إنكلترا في القرن التاسع.
3.
ومفهوم "الإيديولوجة العلمانية" (laïcité)، وهي الإيديولوجية التي نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية بقرن تقريبا (في نهاية القرن التاسع عشر) وتأخذ من عداء الأديان عقيدة لها .. وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة" كما تقدم.

هذا ما يمكن استنباطه من كل المصادر اللغوية القديمة .. ونحن لا نعرف معجما يعول عليه كتب في القرن الناسع عشر إلا وفتحناه ونقبنا فيه .. وهذه هي النتيجة! وعلى من يدعي عكس ما ورد في ملخصنا هذا، وفي هذه المشاركة، أن يتفضل ويأتينا بالدليل على عدم صحة كلامنا من بطون الكتب، لا أن يتحفنا برأي من بنات أفكاره!

وهلا وغلا!


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Aratype مشاهدة المشاركة
في الاستعمالات الحالية وضعت التعريف :
الدهرية هي الظاهرات المرتبطة بالزمان وبالدنيا وليس لها علاقة بالغيبيات.
تعريف دقيق أخي الدكتور أسامة: الدهرية مقابل secularism!

ذلك أن:

1.
مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة")، مفهوم قديم قدم المؤسسات الدينية النصرانية. وقد وُضع مصطلح "العلمانية" في العربية للدلالة على هذا المفهوم بالضبط وليس على غيره. 
2.
مفهوم (العلمانية) بمعنى "الدنيوية" (secularism) نشأ في إنكلترا في القرن التاسع عشر (1846)، وأن الترجمة العربية الدقيقة له هي "الزمانية"، "الدهرية" وليس "العلمانية".
3.
مفهوم (العلمانية) بمعنى (laïcité) هو إيديولوجية نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية (حوالي 1880) وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة"!

فعبر السريان عن المفهوم اليوناني laikos (λαικός) نسبة إلى λαός "شعب" الذي نشأ مع تمايز الكهنوت المسيحي ابتداء من القرن الرابع الميلادي عن عامة الشعب، بـ ܥܠܡܝܐ: عَلمايا "عالماني/علماني" نسبة إلى ܥܠܡܐ: عَلما "عالم". ولم أوثق للكلمة السريانية لأني أوردتها حفظا وهأنذا أوثق لها بعدما تذكرتها. هذه ثلاثة مصادر وردت فيها ܥܠܡܝܐ: عَلمايا "عالماني/علماني" نسبة إلى ܥܠܡܐ: عَلما "عالم": 

Goshen-Gottstein M.H. (1970). A Syriac-English Glossary etc. Otto Harrassowitz. Wiesbaden. P. 58.

Brockelmann Carl (1925). Syrische Grammatik met Paradigmen, Literatur, Chrestomathie und Glossar. Berlin. Reuther & Reichard. §97.

Brockelmann Carl (1928). Lexicon syriacum. Hale. Sumptibus M.Niemeyer.
 .
مادة ܥܠܡܐ.

وهلا وغلا.




جاء أيضا في الصفحة 3 من كتاب "لغة الإسلام السياسية" للمستشرق برنارد لويس (Lewis B. (1988), The political language of Islam. Chicago) بخصوص دخول مصطلح "علمانية" في الاستعمال ما نصه:

"في القرن التاسع والقرن العشرين، وتحت تأثير الأفكار والمؤسسات الغربية، نشأت مصلحات جديدة في الإسلام للدلالة على مفهوم تيار الدنيوية، في اللغة التركية أولا، ثم في العربية ثانيا. ففي التركية استعمل المصطلح "لاديني" [> ladini] أولا، ثم غيّر فيما بعد إلى "لايك" [> layk] المستعار من اللغة الفرنسية.
أما في العربية فقد أخذ القوم الكلمة عن الاستعمال اللغوي للنصارى العرب. فلقد اشتق النصارى العرب، في استعمالهم اللغوي المخصوص بهم [التلوين والتوكيد لي] كلمة "عَلماني" [> ‘alamani] من "عَلم" [> ‘alm] "عالم"، ثم أعيد تشكيل الكلمة لتصبح [> ‘ilmani] من "عِلم" [> ‘ilm] ".

النقحرة بين الأقواس [] مأخوذة من كتاب برنارد لويس. أقول: وقد أخطأ برنارد لويس في نقحرة كلمة "عَلماني" بـ ‘alamani هكذا والصواب هو نقحرتها بـ ‘almani أي بدون الـ /a/ الثانية. ولمن شاء الاستزادة: انظر مقالة برتراند دي ليرك (Bertrand De Clercq ): "المواطن والمؤمنون، الدولة وجماعة المؤمنين" في الكتاب التالي: "الجنة على الأرض. المؤمن مواطنا في الدولة الديموقراطية المتعددة الثقافات" (Alexander K. (ed.) (1997). De Hemel op Aarde. De Gelovige als Burger in een Multiculturele Democratie. Leuven). صفحة 34 – 51. وانظر تعقيبي على هذه المقالة في الكتاب ذاته (صفحة 59 – 66)، وهو كتاب محكم يحتوي على مقالات وخطب أذيعت وألقيت في المؤتمر الذي يحمل اسم الكتاب أيضا الذي انعقد في جامعة أنتورب بلجيكا بتاريخ 19 آذار/مارس 1997. 

وهلا وغلا!

ومن المصطلحات الوثيقة الصلة بالعلمانية والمستعملة إلى جانب المصطلحين Laicism وSecularism للدلالة عليها، المصطلح: Profanism.

إن مصطلح profanism مشتق من اللاتينية profanus المتكون من fanum التي تشير إلى المكان الذي يكرَّسه الكهنة للمعبد المقدس، ومن pro "قبل؛ أمام". وتشير اللفظة في أصلها القديم إلى كل ما يكون خارج المكان المقدس (= المعبد) ومخصصص للاستعمال العام، بما في ذلك كل ما يُخْرَج من المكان المقدس ويُدْخَل في الاستعمال العام مثل لحوم القرابين التي تقرَّب في المعبد ثم تعطى صدقة للناس خارجه. وهذا اللفظ قديم قدم الديانات وهو موجود في اللاتينية منذ بداياتها وفي الإنكليزية منذ استقلالها لغة جرمانية .. ومنه اشتق الفعل profanare للتعدية ليؤدي معاني مثل: "عَلْمَنَ" أي جعله دنيويا، ومثل "حرَمَ" من القداسة، و"أخرج من الكهنوت" وجعله من العامة وبالجملة: إخراج الشخص من جملة المقدس وجعله عاميا، والشيء من الاستعمال الديني (مثلا الأرض/البناء) وتخصيصه للاستعمال الدنيوي. وكان أوائل النصارى يستعملون الصفة profanus للتدليل على الهراطقة والزنادقة وكل ما يعتبر من وجهة نظرهم نجسا. أما اليهود فيريدون به "التجديف" ذلك أن نطق اسم (يهوه) محرم على اليهود، لذلك يعتبرون التلفظ به ضربا من profanism مما يدل على أن المراد بهذا الاستعمال أيضا على التجديف لأن التلفظ باسم (يهوه) تجديف في الشريعة اليهودية. ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

***
ورد اسم /يهوه/ اسمَ علم للإله المعبود بحق في اليهودية. ولأن لفظ /يهوه/ محرم على اليهود فإن أحدا لا يعرف كيف كان يلفظ، لذلك ينطق اليهود بدلا عنه في أثناء تلاوة التوراة أحد لفظين اثنين هما: השם = /هاشِّم/ أي "الاسم" أو אדני = /أدوناي/ أي "السيد، الرب". أما في أدبيات الكتاب المقدس فيشار إليه بـ Tetragrámmaton من اليونانية Τετραγράμματο أي "الأحرف الأربعة". وأما نطق الاسم بـ جهوفا (Jehovah)، فهو نطق يفترض أن /يهوه/ هو مضارع الفعل הוה = /هوى/ "كان" في العبرية، وهو الافتراض المبني بدوره على الآيتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من سفر الخروج في التوراة حيث جاء فيهما: וַיּאמֶר אֱלהִים אֶל-משֶׁה אֶהְיֶה אֲשֶׁר אֶהְיֶה: /النقحرة: وَيُومِر إِلُوهِيم إِلْ مُوشِه إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ (ehyeh ašer ehyeh)/ "فقال الإله لموسى: [تقول لهم إن اسمي:] إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ". 
رد مع اقتباس


إضفات وحواش

إن تقسيم جمهور المؤمنين عند النصارى إلى خاصة وهم الكهنوت، وعامة وهم الجمهور العامي، هو تقسيم موجود في كل الديانات والملل التي فيها كهنوت وكهنة.

ولقد تعلمنا من قبل وتذكرنا بفضل المعمعان الدائر في معرفة معتقدات "الموحدين الدروز" أن الدروز يقسمون، شأنهم في ذلك شأن النصارى، جمهورهم إلى خاصة وعامة، وأنهم يسمون الخاصة "العقال" والعامة "الجهال". وهذه التسمية ذات مغزى، فنصارى اليونان يسمون الجهال "علمانيين" ـ بفتح العين ـ نسبة إلى العالم، ولم يكن لهذه الكلمة معنى سلبي في الأول، إلا أنها سرعان ما اكتسبت معنى سلبيا، فصارت كلمة "علماني" ـ بمعناها الأصلي لا الحالي ـ تدل من هو عكس الكهنوتي في المستوى، أي الجاهل .. فالتسمية أصبحت فيما بعد تشنيعا، إلا أن التقسيم "عقال" لا يجهلون و"جهال" لا يعقلون عند الدروز مباشر، وسلبي، ومنذ البداية.

وعليه فلدينا في تراثنا اللغوي العربي الأصلي ثلاث مقابلات ــ أو مكافئات مصطلحية وظيفية كما يقال في علم المصطلح ــ لكلمة "علماني" بالمفهوم اليوناني النصراني الأصلي يعني "عكس الكهنوتي"، وهي:

1."
العلماني": وهذه كلمة من التراث اللغوي النصراني العربي، وهي ترجمة مستعارة ومركبة وفق قالب الكلمة السريانية ܥܠܡܝܐ: عَلمايا "عالماني/علماني" نسبة إلى ܥܠܡܐ: عَلما "عالم".

2."
العامة": وهذه كلمة من التراث اللغوي العربي العام، استعملها بهذا المعنى المخصوص معجميو المغرب العربي وكذلك رفاعة الطهطاوي في كتابه "تلخيص الإبريز في وصف باريز".

3."
الجهال": من التراث اللغوي الدرزي، ذلك أن الدروز يقسمون جمهورهم إلى "عقال" وهم الكهنة و"جهال" وهم العامة.

وأدعو محبي العلم والمعرفة، ومتعاطي التثقيف والحكمة، وذوي الأذهان الحادة إلى النظر في المصطلحات المشابهة في الملل والطوائف المختلفة تمهيدا لحصرها ههنا.
حاشية في غاية الأهمية!

تعريب مصطلح "العلمانية" يعود للقرن العاشر الميلادي وأبعد!

فلقد جاء في الصفحة 92 من كتاب مصباح العقل* لساويرس ابن المقفع المتوفي سنة 987 ميلادية ــ وكان ساويرس ابن المقفع هذا، أو "أبى البشر ساورى ابن المقفع" كما كان يعرف في المصادر الإسلامية، حبرا قبطيا مارس، فيما مارس، وظيفة كاتب الدولة أيام حكم الأسرة الإخشيدية ــ ما نصه: 

((
التزويج مختلف عندنا، لأن للكنهة شروطا ذكرها الكتاب؛ وهي ألا يتزوجوا بأرملة ولا مطلقة ولا زانية. وليس للكاهن أن يتزوج، بعد امرأته الأولى، بغيرها؛ هذا بإجماع النصارى؛ إلا ما ابتدعه طيماثوس الجاثليق من إطلاقه للنسطورية التزويج، بعد امرأته الأولى، بما شاء، واحدة بعدة واحدة، ولو بلغ ذلك سبعة، وكذلك إبراهيم البطريق، صاحب نوبة)).

((
والكاهن هو الأسقف والقس والشماس. إلا أنهم مختلفون في أمر آخر؛ لأن الشماس يمكنه أن يتزوج بعد الشماسية، ولا يمكن للأسقف والقس أن يتزوجا بعد الأسقفية والقسيسية، إلا عند الطائفتين اللتين ذكرتهما، أعني طيماثوس الجاثليق وإبراهيم البطريق، فإنهما أجازا ذلك للقس والشماس، كما ذكرت آنفا)).

((
وقد رأى المتقدمون بعد ذلك رأيا في الأساقفة. أما المصريون فرأوا أن يكون الأسقف، بالإسكندرية خاصة، بتولا لم يتزوج في حال علمانيته. وأما النسطورية والسريان فرأوا ألا يكون الأسقف البتة ممن تزوج قبل أسقفيته. وأما النوبة فأمرهم على الرسم الأول)). 

وهذا حسب علمنا أقدم ورود لمصطلح (العلمانية) بالعربية. وهو من التراث العربي المسحي كما ذكرنا مرارا في مقالتنا المرسومة بعنوان (تفكيك مصطلح العلمانية)، مع التنبيه إلى أن المفهوم المراد منها ههنا هو مفهوم الـLaïcisme/Laicism أي "العومنة" عكس الكهنوتية؛ وهو مفهوم ظهر مع مأسسة الكهنوت في الديانة النصرانية كما أبنا في مقالتنا المفصلة في تاريخ المصطلح. فابن المقفع يستعمل (علمانية) ههنا مقابل (أسقفية) أي الكهنوتية، هكذا دونما شرح، مما يعني بداهة أنه يفترض أن القارئ يدرك معناها وأنه ليس أول كاتب استعملها، وأن ديوان النصوص المسيحية العربية الذي يرى النور شيئا فشيئا يجب أن يحتوي على نصوص أقدم من نص ابن المقفع جاء فيها هذا المصطلح السرياني الأصل كما أبنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع. 

أما مفهوم "الدنيوية" للدلالة على الـ secularism الذي نادى به جورج هوليوك سنة 1851 (ويرادفه في هذا المعنى: مصطلح "الدهرية")، والمصطلح المنقحر "لائيكية" للدلالة على "الإيديولوجة العلمانية" الفرنسية laïcité الذي أدخل في الاستعمال في فرنسا سنة 1871 (ويرادفه في هذا المعنى: "اللادينية")، اللذان يؤديهما في العربية أيضا مصطلح (العلمانية)، فهما مفهومان حديثان نسبيا (ظهرا سنة 1851 وباطراد سنة 1871) كما لاحظنا في المقالة.

وعليه فإن تعريب مصطلح "العلمانية" يعود للقرن العاشر الميلادي كما يبدو من كتاب ابن المقفع الذي يعبر أقدم مصدر ورد فيه هذا المصطلح، وليس للقرن الثامن عشر أو التاسع عشر كما كنا نعتقد قبل اليوم!!!


ــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

ساويرس ابن المقفّع. كتاب مصباح العقل . سلسة التراث العربيّ المسيحيّ 1. تقديم وتحقيق خليل سمير، القاهرة، 1978 . مقدّمة الناشر (ص 5-71) – متن الكتاب (ص 3-104