الأحد، 26 فبراير 2017

رابطة الثانوي الغائبة عن السمع.. محمد الحجيري.




رابطة الثانوي الغائبة عن السمع..


لقد أثمرت في ما يبدو تحركات الأساتذة والموظفين بإضرابهم العام واعتصامهم يومي الأربعاء والخميس في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من الشهر الجاري وأدّت إلى إدراج بند سلسلة الرتب والرواتب ضمن مشروع الموازنة للعام 2017، بعدما كان التوجه إلى فصلها عن الموازنة وترحيلها إلى أجل غير معلوم، بخاصة وأننا مقبلون على مرحلةِ استحقاقاتٍ متتالية: من قانون الانتخابات النيابية، إلى الانتخابات في حال حصولها في موعدها المنتظر، إلى ما سيلي ذلك من تكليف جديد لتشكيل الحكومة.. وما سيعنيه ذلك من أشهر وأشهر قد تمتد لسنوات في بلد مثل لبنان تقوده هذه الطبقة الحاكمة التي تختلف على كل التفاصيل والتي تعفي أنفسها من أي التزام بدستور أو بمهل.. ما يعني عملياً تطيير السلسلة إلى ما تشاء لها تسويفات الحكام ومماحكاتُهم.
الحصول على إدراج السلسلة في الموازنة، وإن كان من باب احتياط الموازنة، هو خطوة نحو الأمام. لكنها خطوةٌ غيرُ كافية، وعلى المعنيين وأصحاب المصلحة تحصينها والسير بها نحو نهاياتها التي ترضي أصحاب الحقوق المستفيدين منها.
في ما يخص القطاع الثانوي تحديداً، الأسئلة كثيرة ولا تحتمل الانتظار.
ما هي السلسلة المقترحة؟
وما هي نسبة الزيادة؟
وما هو مصير الموقع الوظيفي للأستاذ الثانوي؟
من المعروف أن السلسلة كما كانت مقترحة تلحق الغبن الأساس بأساتذة التعليم الثانوي. والسلسلة اليوم هي السلسلة بالأمس على الأرجح. وفي أفضل الحالات هي سلسلة غامضة الملامح.
في هذا السياق، ما الذي تنوي رابطة الثانوي القيام به؟ وهل هو من أسرار الآلهة؟
كانت توصيات الجمعيات العمومية في الثانويات وفي مجلس المندوبين واضحة بمطالبتها بالتصعيد وصولاً إلى مدياتِه القصوى بالإضراب والتظاهر وصولاً إلى الإضراب المفتوح ومقاطعة تصحيح الامتحانات الرسمية ومقاطعة الإشراف على  الانتخابات النيابية.
حسناً. قد يقول مسؤولو الرابطة بأنهم يلتزمون بهذه التوجهات. لكن السؤال المهم: متى؟؟


يبدو أن الرئيس بري قد تلقف المناسبة ليحيل ملف السلسلة إلى المجلس النيابي. فقد أوردت جريدة الأخبار الصادرة نهار السبت 25 شباط أنه قد "قرّر ..دعوة الهيئة العامة للمجلس النيابي إلى جلسة تستكمل النقاش في مشروعي سلسلة الرتب والرواتب والضرائب المستحدثة لتمويلها، بعدما أقرّت غالبية بنودهما في جلسة 15 أيار 2014، من دون إقفال محضر الجلسة.."


ألم يكن من المناسب أن تواكب الهيئة الإدارية لرابطة أساتذة الثانوي فترة دراسة الموازنة في مجلس الوزراء الأسبوع المقبل، واستباق ما سترسو عليه الصيغة النهائية للسلسلة في مجلس النواب، بتحركات استباقية ضاغطة من أجل تعديل السلسلة قبل إقرارها، بما يحفظ الموقع الوظيفي للأستاذ الثانوي، كون أعضاء الهيئة الإدارية هم الممثلين الرسميين الذين تم انتخابهم للدفاع عن مصالح الأساتذة، ولأن هذا الموقع هو المستهدف أساساً من هذه السلسلة؟
أليس من الأجدى التحرك الاستباقي الآن، وبشكل مستقل، دفاعاً عن الموقع الوظيفي، بدلاً من انتظار إقرار سلسلة يرجَّح أن تتجاهل حقوق الأساتذة الثانويين وتكون على حسابهم تحديداً؟


ولماذا هذا الغموض حول الطريقة التي ستتعامل بها الهيئة الإدارية قبل إقرار السلسلة أم بعدها؟


الملفت اليوم أيضاً هو دفاع البعض عن الحفاظ على هيئة التنسيق النقابية، وبأن الثانوي هو أساس هذه الهيئة.. رغم أن المزاج العام لأساتذة الثانوي هو مع الفصل كون السلسلة المقترحة تطيح بالموقع الوظيفي للأساتذة الثانويين.


 ثم إننا نتذكر أن هيئة التنسيق شهدت قبل ثلاثة أعوام هجوماً كاسحاً من كل قوى السلطة يومها.. (ربما لأنها كانت تشكل في حينه رافعة لحالة مستقلة سياسياً ومطلبياً وبديلاً عن الاتحاد العمالي العام الذي فرغته قوى السلطة من مضمونه وتم تقاسم النفوذ فيه وإلحاقه واستتباعه لتلك القوى)..
...



(محمد الحجيري)
26 شباط 2017


الجمعة، 24 فبراير 2017

موسى وهبه وإمكان القول الفلسفي بالعربية..؛ د. جمال نعيم.




موسى وهبه وإمكان القول الفلسفي بالعربية..
(1941 - 2017)

د. جمال نعيم.


يشكّل موسى وهبه[1] حالةً فريدةً من التفلسف العربيّ المعاصر، حالةً تكاد تكون وحيدة في طريقتها في التفلسف بالعربيّة، حيث بإمكاننا أن نضعه في معارضة تامّة لكلّ ما تمّ ويتمّ باسم الفلسفة العربيّة، التي أرادت لنفسها أن تكون معاصرة وأن تبتدع نوعًا من الفلسفة الخاصّة بنا نحن العرب. لذا نرى أهمّيّة الالتفات إلى بادرته الفلسفيّة التي انشغلت، بالدرجة الأولى، بشروط إمكان الفلسفة بالعربيّة اليوم، علَّنا نستطيع أن نفهم أسباب تعثّر قيام فلسفة عربيّة، أو بالأحرى فلسفة بالعربيّة، منذ بداية القرن العشرين، رغم كلّ الجهود الحثيثة واللامنكفئة التي بذلها أعلامٌ كبار في إنتاج فلسفة عربيّة معاصرة نستطيع أن نضاهي بها الأمم، متناسين أنّ ما يخصّ العرب كجماعة بشريّة من دون بقيّة الجماعات، لن يشكّل فلسفةً بحصر المعنى.
وعندما نتحاور مع وهبه أو نستمع اليه أو نقرأ له، نجد أنفسنا أمام فيلسوف كبير يعرف سرّ الفلسفة، ونعرف عندئذ أهمّيّتها ومتى تتدخّل أو لا تتدخّل في شؤون غيرها. فالفلسفة ليست ثقافةً ولا رأيًا من الآراء ولا حتى رأيًا أصليًّا[2] تُشتقّ منه بقيّة الآراء، ولا موقفًا سياسيًّا نتّخذه أو ندعو إليه من أجل تغيير المجتمعات نحو الأفضل، مع أنّ لها علاقة بهذه النشاطات كلّها[3]. تقوم الفلسفة ببناء سِستام[4] وفقًا للأسئلة التي ينْهَمُّ بها العقل انطلاقًا من طبيعته بالذات. والعقل، إذ يقوم بذلك، يقوم به محاولاً الإجابة بما تيسّر له من أدوات ونور طبيعيّ[5] موجود بالضرورة عند كلّ ذي عقل سليم، ليطفئ نار الأسئلة التي لا تتوقّف، ويشعر بالراحة موقّتًا[6] إلى أن يأتي فيلسوف كبير آخر ويُحدث ثقوبًا في السِستام الذي بنيناه، أي في المظلّة التي كانت تجعل التفكير ممكنًا، وكانت تقينا شرّ الخواء. وهكذا من فيلسوف إلى آخر، نحاول ترقيع المظلّة أو تجديدها أو استبدالها بمظلّة أخرى، حتى لا نقع من جديد في لُجَّة الخواء الذي من ميزاته أنّه يُخوي، أي يمنع ربط أيّ فكرتين في ما بينهما، فلا تعود لدينا أفكار لأنها تندثر وتتلاشى حالما تشرع في الظهور[7].

1. تفلسف بالعربيّة
يختلف موسى وهبه عمَّن عرفنا من أساتذة[8] ومتفلسفين بالعربيّة. ميزته أنّه يُصرّ على التفلسف بالعربيّة. وهذا موقف غريب من شخص ضليع باللغات الأجنبيّة ومتبحِّر بالفلسفة الغربيّة منذ نشأتها عند الإغريق. ذلك أنّه يعتقد أنّ الفلسفة بنتُ مدن لا بنت ضواحٍ. وأيّ كاتب، من هنا، يكتب بلغة غير لغته يكون كمن يسكن الضواحي. فتبقى كتاباته على الهامش ولا تفعل فعلها في النشاط الفلسفيّ المعاصر[9]. أمّا اذا كتب وأبدع بلغته الأمّ، فإنّ لقوله وقعًا مختلفًا ويكون تأثيره، عندئذ، أكبر من حيث قدرتُه على إغناء القول الفلسفيّ العالميّ، عبر الإضاءة على بعض الجوانب الغامضة في التراث الفلسفيّ، ولو بقليل من الإلهام الذي أتاحته اللغة العربيّة. وقد كان دولوز يقول إنّنا نعمل كثيرًا من أجل قليل من الإلهام. وهذا ما لم يلتفت إليه كثيرًا غالبيّة "فلاسفتنا" المعاصرين؛ إمّا لأنّهم فضّلوا الكمّيّة على النوعيّة، وإمّا لأنّهم فضّلوا الكتابة بلغة غير لغتهم، فلم تترك "فلسفتهم" التأثير المطلوب، وهي ماتت بموتهم. أمّا الفيلسوف المبدع، فيمتدّ تأثيره إلى ما شاء الله، لأنّ ما أتى به لا يموت بمرور الزمان، إذ إنّ هناك شيئًا خالدًا في كلّ فلسفة كبيرة. لذا ما زلنا نرجع إلى أفلاطون وأرسطو ومَنْ قبلهما من فلاسفة الإغريق الأوائل. فالفلسفة ليست خبريّات ما تلبث أن تفقد أهمّيّتها بعد حين، بل هي طريقة معيّنة في طرح المشكلات التي يطرحها العقل البشريّ وفي إعادة طرحها. إنَّها طريقة مختلفة في التفكير. وعندما تتغيّر طريقتنا في التفكير يتغيّر معها كلّ شيء، إذ لا نعود نرى الأشياء كما كنّا نراها من قبل. وعبثًا نحاول أن نقفز فوق هذه الحقيقة، ونجعل من الفلسفة شيئا شبيهًا بالعلم، أو أن نعتبرها أمًّا للعلوم. فالفيلسوف ليس علَّامة، بل مبتكرُ طريقة جديدة في التساؤل. لذا يبقى منارة حتى بعد موته. وقد كان دولوز يقول إنّ حال الفيلسوف بعد موته يشبه حال النجم عند اندثاره حيث يصبح أكثرَ إشعاعًا وأشدَّ نورًا. ولا غرابة في ذلك، فالنصّ الفلسفيّ الكبير هو نصٌّ غنيٌّ ومكثّف، ويبقى عرضةً لقراءات تتجدّد باستمرار. لذا بإمكاننا أن نعود إلى أيّ من الفلاسفة السابقين وندمج مشكلاتهم الفلسفيّة في مشكلاتنا المعاصرة، مع ما يقتضي ذلك من تعديل وتحوير في هذه المشكلات حتى تنسجم مع الأفق الجديد الذي تدخل فيه، أي حتى تتّفق مع السِستام الجديد الذي نقوم ببنائه. هذا ما كان وهبه يمارسه في نشاطه الفلسفيّ، وما يريد أن ينبِّهنا إليه عبر تفلسفه بالعربيّة. لذا كان كلّ أفهوم جديد يبتدعه[10]، ليعبِّر عن الفيلسوف الذي يكون بصدد ترجمته، يأخذ كلّ هذا الضجيج[11]. لكن، لحسن الحظ، ما تلبث أن تهدأ هذه الثرثرات عديمة النفع، التي لا تعرف أنّ الفلسفة غير شعبيّة، وإنْ كانت في جوهرها تتوجّه إلى البشريّة جمعاء، إلى الإنسان بما هو إنسان، إلى كلّ ذي عقل يتمتّع بحسٍّ سليم.

2. "المنعطف الكنطيّ"
ليس هناك في حياة وهبه الشخصيّة من شيء غير اعتياديّ، من شيء قد أثّر بشكل حاسم في حياته، وشكّل منعطفًا فيها. فحياته تكاد تختصرها حياتُه الفلسفيّة من بحث وتعليم وترجمة وتأليف. لقد عاش حياةَ فيلسوف بامتياز، حياةً هادئة لا يعكّرها ضجيج الأحداث الخارجيّة التي كانت تجد مكانها دائمًا في القول الفلسفيّ الذي يفكّر الكونَ والإنسانَ والحياة. حتى انتماؤه إلى الحزب الشيوعيّ (1968 -1978) لم يشكّل منعطفًا في حياته، بل ربّما كان تَرْكُه لهذا الحزب، بعد أن كان وجيهًا فيه لسنوات، تعبيرًا عن منعطف كبير في حياته. وذلك بعد قراءته الحاسمة لكنط، وقراءته للفيلسوف الماركسيّ الفرنسيّ لويس ألتوسير الذي بيّن أنّ الماركسيّة هي آنتي- أنسيّة نظريّة[12]. ويمكن القول إنّ قراءته لكنط، هذا الفيلسوف الذي فكَّر الثورةَ الفرنسيّة وشرعة حقوق الإنسان، وأسّس الحداثة، قد حسمت كلّ شيء، وشكّلت هذا المنعطف الكبير الذي ما يزال يفعل فعله في غالبيّة "تمارينه" الفلسفيّة.
هذا، ويندرج تفلسف وهبــه فــي الحقل الجديد الذي اكتشفه كنط وحَرَثه. وهو ليس حقل الكون أو مجال التساؤل القديم، ولا حقل المعرفة أو مجال التساؤل الحديث، بل حقل شروط الإمكان حيث كانت مشكلة النقد العامّة: كيف يمكن للأحكام التأليفيّة قبليًّا أن تكون؟ فكنط، بنقده للعقل المحض، بحث في شروط إمكان الميتافيزيقا قبل الخوض في موضوعات المعرفة وسساتيم الفلسفة. وكذلك بحث وهبه في شروط إمكان القول الفلسفيّ بالعربيّة اليوم قبل الخوض في ما هو متداول من أقوال فلسفيّة عربيّة.
لكن موسى وهبه لا يبحث عن الشروط العامّة التي يجب أن تتوافر في أيّ مجتمع حتى تكون الفلسفة ممكنة، بل يبحث في إمكان وجود شروط خاصّة بالمجتمعات العربيّة المعاصرة، شروط لا بدّ من توافرها إذا أردنا للفلسفة بالعربيّة، يومًا، أن تقوم. فعرب العصر[13] لا تنقصهم الجهود المخلصة ولا الرغبة الصادقة من أجل إنتاج فلسفة بالعربيّة، بل ما ينقصهم هو توافر هذه الشروط. لذا تذهب جهودهم سدًى حيث لم يُعترف بأيّ فيلسوف عربيّ عالميًّا ، كما لم يستطع أيّ متفلسف عربي أن يَمُدَّ دائرة نفوذه خارج مجال تداوله بالعربيّة.

3. البَعْطُ الفلسفيّ بالعربيّ
ما يقوله وهبه بسيطٌ للغاية وقليلةٌ جُمَلُهُ، لكنّه في غاية الأهمية: ليست الفلسفة ما تظنّون، فأنتم أخطأتم معناها. لذا لم تنجحوا في إبداعها. لقد كنتم متعجِّلين ومتحمّسين أكثر ممّا ينبغي، واعتقدتم أنّه بإمكانكم أن تكونوا من الكبار في الفلسفة إذا سلكتم طريق العَمَلان وأهملتم طريق العِلْمَان[14]. لكن لا مناص من سلوك الطريق الطويلة الوعرة، ببطء شديد، وإلّا سنبقى في الحلقة المفرغة ذاتها، أي نبقى نعبِّر عن حاجة كبيرة إلى الفلسفة، لكنّنا نملأ هذه الحاجة بما يشبه الفلسفة، أي بأقوالٍ في أهمّيّة الفلسفة ودورها وفائدتها لا في الفلسفة. وهذا ما يحلو لوهبه أن يسمّيَه البَعْط الفلسفي بالعربيّ[15]، أي أنّ عرب العصر يبعطون الفلسفة، أي يذبحونها كما تُذبح الشاة، لكن لكي يبعطوا هم في اتّجاه آخر.
في تعليقه على مقالات العدد (63) من مجلّة الفكر العربيّ، الذي حمل عنوان "الفلسفة والعلوم"، يشرح وهبه ما يعنيه بالبعط الفلسفيّ بالعربيّ، قائلاً : "وأراني الآن أكثر اهتمامًا بالانسياق في سياق هذا القول الموسوم بالفلسفيّ لأرى ما إذا كان تمهيدًا للقول في الفلسفة أم مجرّد بعطٍ فلسفيّ يمهّد لحاجة أخرى. ما الحاجة الأخرى!". ويضيف : "وأقول إنّها تبعط. وأتسامح مع أرسطو الذي عرّف كلّ شيء تقريبًا، ولم يعرّف البعْط، لأنّه كان لا يتقن العربيّة، لا شكّ في ذلك. والبعط، لغةً، الذبح، يُقال بعط الشاة وشحطها إذا ذبحها. والبعط والإبعاط، الغلوّ في الجهل والأمر القبيح. وتقول العامّة للدابة التي ذُبِحت وما زالت تتحرّك في غير اتّجاه: الدابّة تَبْعَط. وأُطلق البعط الفلسفيّ على الأقاويل التي تبعط (تذبح) الفلسفة لتبعط (تحرك) هي في اتّجاه آخر. فهي تقلّ عن القول الخطابيّ وتهدف لا إلى النظر بل إلى العمل".
وكان قد طرح تساؤلات في بداية مقالته: "هل بالعرب حاجةٌ إلى الفلسفة؟ وإذا كانت بهم حاجة، فلماذا الفلسفة؟ وإذا لم تكن بهم حاجة، فما معنى هذا "البعط" الفلسفيّ بالعربيّة الذي طار غباره وعلا؟". واعتبر أنّ همّ العرب الأساسيّ هو سؤال ما العمل؟ إذ إنّ حركة التفكير الحديثة والراهنة بالعربيّة "منذ قرنين ونيِّف كانت، ولم تزل، يحفزها سؤالٌ مركزيٌّ واحد: ما العمل؟ ما العمل للخروج من المأزق الراهن؟ وبتعابير مختلفة وصيغ أكثر تقنية: ما هي أنجع السبل والوسائل الكفيلة باسترداد الهويّة، أو اكتساب الحداثة، أو مجاراة العصر من دون فقدان الهويّة، أو تحقيق النصر على الأعداء (من هم الأعداء؟) إلخ، إلخ". وهكذا يكون القول الفلسفيّ العربيّ مجرّد تمهيد للقول لأنّه ينهمّ بالكلام على فائدة الفلسفة ودورها ولزومها، لا على الفلسفة نفسها. فهو لا يرمي نفسه في بحر مشكلاتها الهائج ويبدأ بتعلّم السباحة على الطبيعة. يقول وهبه: "وإذ يقدّم الكلام على الفلسفة أوراق اعتماده لنصاب غير نصاب العقل وحده، يصير كلامًا لا على الفلسفة بل على فائدتها ودورها ولزومها؛ ويصير القول مجرّد تمهيد للقول، وتمامًا، كما هو بألبسة وألفاظ مستعارة"[16].

4. كيف يمكن للفلسفة أن تكون بالعربيّة اليوم ؟
لعلّ هذه المشكلة هي المشكلة الرئيسة في مشروع موسى وهبه الفلسفيّ الذي ابتدأ منذ أربعة عقود تقريبًا. فقد بحث وهبه عن الشروط الواجب توافرها لتكون الفلسفة بالعربيّة ممكنةً اليوم، أي ما الشروط التي تسمح، عربيًّا، بابتداع فلسفة عربيّة جديدة؟ عربيّة من حيث اللغة والتعبير، لا من حيث التوجّه والمضمون، لأنّ الفيلسوف، في عمله، يتوجّه إلى البشريّة جمعاء لا إلى جماعة بشريّة معيّنة. واكتشف أنّ غالبيّة مفكّري العرب المعاصرين قد تجاوزوا مشكلة الإمكان هذه، وراحوا يخوضون في مشكلاتهم الفكريّة معتقدين أنّهم ينتجون فلسفةً في حين أنّ ما ينتجونه هو، في أحسن الأحوال، أيديولوجيا. فالكلّ على عجلة من أمره، ويريد أن ينهض بأمّته ومجتمعه عبر الفلسفة، متناسيًا أنّ الفلسفة لا غاية لها خارجها، أو على الأقلّ، فإن كانت لها غايةٌ، فلن تكون من شأن الفيلسوف، بل من شأن المثقّف والسياسيّ ومن يتعاطى في شؤون مجتمعه وأمّته. لذا يقف وهبه على مسافة من المشاريع الفلسفيّة التي قام بها مفكّرون عرب معاصرون كبار، من أمثال عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ومحمّد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وشارل مالك وكمال الحاج، إلخ. فهذه المشاريع، رغم أهمّيّتها، لم تستطع أن تنتج فلسفةً تتّسم بالعالميّة وتمدّ تأثيرها خارج بيئة "الفيلسوف". وهكذا لا نجد بدويّين ومحموديّين وجابريّين في الأمم الأخرى، مثلما نجد سارتريّين وفوكويّين وهيغليّين وكنطيّين.
وهكذا نرى أنّ وهبه انشغل بوضع الأسس التي تجعل الفلسفة بالعربيّة ممكنة، حتى لا نبقى نبعط الفلسفة، ونحن نعتقد أنّنا نمارسها وننتجها. والفلسفة عندنا لم تنبت نباتًا حسنًا ليس بسبب غياب الشروط المجتمعيّة العامّة (كغلبة الدينيّ على ما عداه مثلاً) حيث يكون الفيلسوف، إن وُجِدَ، مجرَّد مذنَّب لا يلبث أن يحترق من دون أن يترك أثرًا ولا عاقبة، بل أصلًا بسبب غياب الشروط التقنيّة، إن جاز التعبير، التي تتعلّق بتجهيز اللغة أو تهيئتها لتكون قادرة على استيعاب جسد الفلسفة الحيّ[17]، أي تراثها الذي لا غنى عنه لكلّ متفلسف، والذي من دونه لا إمكان لقيام فلسفة بالعربيّة؛ لأنّ الفيلسوف لا يشتغل في فراغ وهو يبني نتاجه على أنقاض[18] نتاجات غيره، إذ لا يمكن لأيّ فلسفة أن تضع حدًّا أو نهاية للفلسفة، وإن ادَّعت كلّ فلسفة ذلك. وإذا كان هذا التراث الفلسفيّ العالميّ غير موجود بالعربيّة، فإنّ الأقوال العربيّة المعاصرة تبقى مجرّد هوامش على متونٍ غائبة[19]، وعندئذٍ لا غنى للقارئ عن العودة إلى هذه النصوص الأجنبيّة الغائبة.

5. الفلسفة والثقافة والمنفعة العمليّة
وعلينا، في رأي وهبه، قبل الخوض في هذا الإمكان العربيّ للفلسفة، أن نبحث في معنى الفلسفة اليوم. لكن حذارِ من أن نفهم نشاط وهبه وكأنّه يأتي إلى الفلسفة من خارجها. فهو يرمي نفسه مباشرة في بحرها من أجل تعلّم السباحة في بحر مشكلاتها ومسائلها. من هنا، فإنّ هذا النشاط هو نشاط فلسفيّ بامتياز بعكس ما قد يبدو عليه في الظاهر حيث يحلو لوهبه دائمًا أن يقول إنّه مجرّد تمهيد أو تمرين في الإنشاء.
والنصّ الفلسفي بادرة. في النصّ الفلسفيّ نبضٌ رئيسيٌّ يجعله نصًّا فلسفيًّا بامتياز. لذا نراه يقول في تقديم قراءته لكنط: "وتطلّب (النقد الكنطيّ)، منّي، تذليلاً لصعوبات العَرْض، واجتهادًا يعارض القراءات الشائعة في محاولة للقبض على النبض الذي يحرّك النصّ"[20]. وفي هذا الإطار، لا يمكن فصل المبنى عن المعنى. فالفلسفة ليست ضُمَّة أفكار[21] وحسب، وهي تشبه القصيدة واللوحة الفنّيّة. من هنا، لا يمكن إهمال الصياغة اللغويّة التي تعبِّر الفكرة من خلالها، أي لا يمكن إهمال أسلوب الفيلسوف. فالفلاسفة يقومون بتمارين لغويّة[22] من اشتقاقات وتوليدات وغير ذلك، تكاد تكون مجنونة ليظهروا براعتهم الفلسفيّة. وكلّ فلسفة كبيرة تتطلّب لغةً مناسبة تعبِّر عنها، تَتَطَّلب لغة غريبة[23] داخل اللغة، لكن ممَّا تسمح به اللغة ذاتها. لذا ينشغل وهبه بشروط إمكان الفلسفة بالعربيّة اليوم. وهو يضرب أمثلة على ذلك من كنط وهيغل ونيتشه وهوسّرل وهيدغر وسارتر الذين اشتغل عليهم، وحاول أن يترجم أمّهات أعمالهم الفلسفيّة. وهو، إذ يأسف على شيء، فإنّه يأسف على عدم ترجمته لكتاب هيغل الرئيسيّ فيمياء الروح الذي اشتغل عليه طويلاً ولم يتابع ترجمته. وكنّا، منذ أيّام الجامعة، نودّ أن يتابع هذه الترجمة حتى لا نبتلي بترجمة بلا روح.
ولعلّ فلاسفة العرب المعاصرين انجرفوا في التيّار السائد الذي خلقته الماركسيّة في العالم أجمع، تبعًا لمقولة ماركس الشهيرة: "إنّ الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسّروا العالم بأشكال مختلفة، ولكن المهمّة تتقوّم في تغييره". وهذه المقولة استندت إلى فكرة تقول إنّ ما جاء به هيغل هو نهاية الفلسفة، هو نهاية الحكمة، أي إنّ تفسير العالم قد أُنجز مع هيغل. والمطلوب، الآن، هو تحقيق ما أنجزه هيغل، نظريًّا، عبر الفعل السياسيّ. لذا اعتُبِر هيغل خاتم الفلاسفة[24]. لكن ما غفل عنه ماركس وفلاسفتنا المعاصرون هو أنّ التغيير كان هدف جميع الفلاسفة من خلال تغيير طريقة التفكير، من خلال التفكير بشكل مختلف، أي إنّ الفلاسفة لا يُنشدون تغييرًا مباشرًا بل تغييرًا غير مباشر. وما لم تتغيّر طريقة التفكير، فإنّ لا شيء جوهريًّا يتغيّر في المجتمع، فيبقى ما نشكو منه وما نحاول تغييره على حاله من دون أن نتقدّم كثيرًا.
إذًا، ينبع موقف وهبه ويستند إلى فهم مختلف للفلسفة، يرى أنّ الفلسفة ليست الثقافة، ليست ثقافة مهجوسة بالنضال والتغيير، أي إنّ الفلسفة لا تصلح للعمليّ مباشرة، أي لا منفعة عمليّة من الفلسفة؛ لأنّه لا غاية من الفلسفة سوى الفلسفة. وإذ يَنْهمّ الفيلسوف بأسئلة العقل التي يطرحها بحكم طبيعته، فإنّ هذا الانهمام يخصّ البشريّة جمعاء، ولا يخصّ جماعة معيَّنة من البشر. وهذا ما لا ينْهَمُّ به متفلسفو العرب المعاصرون، إذ ينهمُّون بهموم نضاليّة، تهدف إلى النهوض بأمّتهم من حال التخلّف والتأخّر الذي حلّ بها، بعدما حقَّقت الأمم الأخرى نهضتها وحداثتها، ولم تستطع أمّة العرب ذلك. وهم ينطلقون من مسلَّمة تقول إنّ النهضة المرجوّة والفلسفة متلازمتان، معتبرين أنّ التغيير المنشود يتعلّق مباشرة بإبداع فلسفة خاصّة بنا، فلسفة تعبِّر عن آمالنا وطموحاتنا وعن توقنا إلى التغيير والتقدّم، وتكون بمثابة إجابة عن السؤال الذي لطالما شغل مفكّري العرب المعاصرين: كيف نكون معاصرين ونبقى عربًا؟ أي كيف نجمع ما بين الأصالة والمعاصرة؟
وما هو مقلق وواعد في آن واحد، في كتابات وهبه، هو فهمه هذا للفلسفة التي يميّزها بشكل مطلق عن الثقافة. وهذا الفهم الذي يستند إلى كبار الفلاسفة، من أمثال أفلاطون وكنط ودولوز وفوكو، يقيم تمييزًا حادًّا ما بين الفلسفة والعلم، وما بين الفلسفة والثقافة. فالفلسفة، في نظره، ليست خبرًا عن العالم، ليست علمًا بأيّ موضوع خاصّ من المواضيع التي تعالجها العلوم ، كما أنّها ليست أمّ العلوم ، أي ليست قيِّمة على بقيّة العلوم. إنّها مجرّد طريقة معيّنة في التفكير، أي في طرح مشكلات ومسائل ينهمّ بها العقل البشريّ بحكم طبيعته بالذات، عند تفكّره في الكون والحياة والإنسان.
واستنادًا إلى ما سبق، يتمُّ تمييز الفلسفة من الثقافة باعتبار أنّ الفلسفة لا تبتغي أيّ منفعة عمليّة مباشرة، والفيلسوف لا يحمل همومًا نضاليّة. فالهدف من نشاط الفيلسوف هو إغناء القول الفلسفيّ العالميّ من خلال طريقته الجديدة في التفكير التي تعيد طرح المسائل بطريقة مختلفة، وتجعلنا نرى الأشياء بطريقة مختلفة. والفلسفة، كما قال فوكو، هي التفكير بشكل مختلف[25]، أي ما يجعلنا نفكّر بشكل مختلف، أي ما يجعلنا نطرح المشكلات والمسائل بشكل مختلف. لذا يمايز وهبه نفسه من كلّ متفلسفي عصره من العرب الذين غلّبوا إرادة العَمَلان على إرادة العِلْمَان. لقد اهتمّوا بما هو عمليّ ونافع مباشرة من أجل النهوض بأمّتهم العربيّة، بعد أن وقعت هذه الأمّة في الانحطاط والتخلّف. إذًا، لم يكن هَمُّ "فلاسفة" العرب المعاصرين إغناء القول الفلسفيّ العالميّ، بل استعمال الفلسفة من أجل تغيير مجتمعاتهم نحو الأفضل. وهذا لا يعني، بأيّ حال من الأحوال، أنّه لا يمكن الاستفادة من الفلسفة، وأنّ الفلسفة لا تصلح لشيء. فالنهر لا يبتغي سوى مواصلة السيلان والجريان[26]، والفيلسوف لا يبتغي سوى محاولة الإجابة عن انهمامات العقل البشريّ، وإنْ كان هناك من سيفيد من جريان النهر ومن تفلسف الفيلسوف. إنّ الفيلسوف في عمله يشبه عالم الرياضيّات في عمله. فهذا الأخير لا يفكّر كثيرًا في المنافع العمليّة لأبحاثه. وهو يعمل من أجل إغناء الرياضيّات وحسب، وإنْ كان يعرف أنّ هناك من سيفيد، يومًا ما، من هذه الأبحاث.
أقول إنّ مفهوم وهبه للفلسفة يقلقني لأنّه يبيِّن لي عظم المهمّة الملقاة على عاتق الفيلسوف وصعوبتها بالنسبة إلينا نحن العرب المعاصرين المتعجّلين الذين ننخرط مباشرة في هموم الثورة والنضال والتغيير، فلا يحصل التغيير لأنّنا لا نبحث عن الحقيقة لذاتها [لكن الحقيقة هنا ليست مقتصرة على بحث الفيلسوف]. وعندما يحصل التغيير، فإنّه يحصل نحو الأسوأ، وليس نحو الأحسن كما كنّا نأمل. فالمتفلسفون العرب المعاصرون قد أخطأوا معنى الفلسفة، في رأي وهبه، والغاية منها. لذا كانوا، في أحسن الأحوال، مثقّفين لا فلاسفة. وفي المقابل، فإنّ هذا الفهم للفلسفة هو ما قد يكون مبشِّرًا وواعدًا بالنسبة إلى الأجيال المقبلة من الفلاسفة العرب؛ لأنّه يضع بين أيديهم السرّ الذي يجعلهم فلاسفة. من هنا، يصف وهبه عمله بالتمهيد للفلسفة القادمة، ويعتبر نفسه وغيرَه مجرّد ممهّدين لفيلسوف المستقبل، الذي لا نعرف متى وأين يأتي. ومن الحكمة أن نكتفي بالتمهيد له لا أن نحدّد أو نتوقّع قدومه.

6. موسى وهبه ومشكلة الميتافيزيقا
تتفرّع عن مشكلة إمكان القول الفلسفيّ بالعربيّة اليوم، مشكلةٌ أخرى لا تقلّ أهمّيّة، هي مشكلة إمكان الميتافيزيقا. وهذا قولٌ في الفلسفة غريب، الآن وهنا، إذ ليس سهلًا أن نكتب عن الميتافيزيقا في القرن الحادي والعشرين بعد كلّ هذا الازدراء الذي لحق بها منذ قيام كنط بنقده للعقل المحض في نهاية القرن الثامن عشر. فلطالما ادّعى الفلاسفة نهاية الميتافيزيقا وموت الفلسفة. ونحن نريد أن نتجاهل، عن عمد، كلّ الدعوات التي طالبت منذ عقود بموت الفلسفة وتجاوز الميتافيزيقا لنرى إلى نشاط موسى الفلسفيّ بوصفه نشاطّا يتمحور أيضًا حول مشكلة الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى. لكن أيّ ميتافيزيقا؟ وهل بالإمكان أن نعود إلى ما قبل كنط؟ أي هل بالإمكان أن نتجاهل النقد الكنطيّ تمامًا؟
من المعروف أنّ النقد الكنطيّ أعلن امتناع قيام أيّ ميتافيزيقا كلاسيكيّة، أي امتناع قيام ميتافيزيقا جواهر (لاسيّما الله والنفس والعالم)، واعتبر أنّ هذه الميتافيزيقا لم تعد تشكّل مشكلة فلسفيّة، بسبب من عجز العقل النظريّ عن البتّ في مسائلها. لذا، لم نعد نجد في الفلسفة، منذ النقد الكنطيّ، مسائلَ تتناول مثلاً وجود الله أو خلود النفس أو أزليّة العالم. لكن كنط، في رأي وهبه، أقام ميتافيزيقا أو أوحى بميتافيزيقا جديدة  تقوم بوصفها مجموعة الفروض التي يتضمّنها القول الفلسفيّ والتي تسنُد هذا القول، أي بوصفها مجموعة الجذور التي تؤسّس. فالفلسفة، ولا بدّ، تقوم على مجموعة من الفروض التي يفرضها العقل البشريّ في محاولاته المتكرّرة للإجابة عن الأسئلة التي ينهمّ بها.
في الفصل الثالث من كتابه الفرق والتكرار[27]، برهن دولوز أنّ الفلسفة الكلاسيكيّة، بكافة أجنحتها المختلفة، تقوم في صورة الفكر لديها، على ثماني مسلّمات، هي مسلّمة طبيعة الفكر المستقيمة وإرادة المفكّر الطيّبة، ومسلّمة الحسّ المشترك والحسّ السليم، ومسلّمة التعرّف، ومسلّمة التصوّر، ومسلّمة الخطأ، ومسلّمة القضيّة، ومسلّمة الحلول بدلًا من المسائل، ومسلّمة العلمان. هذه الفروض أو المسلّمات التي تؤسّس صورة الفكر الدغمائيّة والتي تقوم عليها الفلسفة الكلاسيكيّة هي بمثابة ميتافيزيقا بالمعنى الذي يقصده موسى وهبه الذي لا توجد عنده، كما هو حال جيل دولوز، مشكلة اسمها موت الميتافيزيقا[28] أو نهاية الميتافيزيقا أو موت الفلسفة. فالفلسفة تبقى دائمًا الفلسفة الأولى، أي الميتافيزيقا. لذا، لا ينظر وهبه إلى كنط الّا بوصفه ميتافيزيقيًّا. إنّه فيلسوفٌ ميتافيزيقيّ وحسب، لكنّ ميتافيزيقا كنط ليست ميتافيزيقا جواهر. إنّها ميتافيزيقا من نوع آخر يتبنّاه وهبه ويعمل عليه. وليس عبثًا أنَّه وضع على غلاف كتاب نقد العقل المحض، في الطبعة الأولى لترجمته، المقطع التالي: "نعود أبدًا إلى الميتافيزيقا كما نعود إلى الحبيبة التي اختصمنا معها، لأنّ على العقل، أن يعمل بلا كلل إمّا لاكتساب رؤى متعمّقة، وإمّا لقلب الرؤى الجيّدة التي سبق أن أقيمت"[29]. لكن هل ما زال بالإمكان قيام ميتافيزيقا من أيّ نوع كان؟ وما هي قيمة هذه الميتافيزيقا في ظلّ التقدّم المذهل للعلوم؟ ولِمَ نحن بحاجة إلى الميتافيزيقا؟
يقول وهبه: "ولا يروقني اليوم كذلك هذا الرذْلُ المعمَّمُ للميتافيزيقا وكأن ليس يمكن قيام ميتافيزيقا إلّا كميتافيزيقا جواهر. والحقيقة أن ليس ثمّة من جواهر عند كنط (يبيِّن آلان رينو أن كنط ينزع عن الذات صفة التجوهر). أقول ليس ثمّة من جواهر عند كنط. والميتافيزيقا عنده ليست علمًا بالمعنى المتعارف عليه. وبلغة كنط: ليست علمًا نظريًّا، فهي لا تخبر شيئًا عن موضوعها. ولا تضيف معلومات، وإن كانت في جانب منها تشير إلى وجهة تنظيم هذه المعلومات. وهي لا تقول في الأحوال جميعًا: إنّ هذا هكذا، بل "كما لو أنَّ ". وهي في جانبها الأساسيّ اقتراحُ حلول ممكنة لمعضلات مطروحة على العقل في مختلف ملكاته. بتعبير أوضح، لم يكن كنط النقديّ فيلسوفَ أخلاق من جهة، وفيلسوفَ معرفة من جهة أخرى، وفيلسوفَ غائية من جهة ثالثة، بل كان صاحب ميتافيزيقا وحسب. قوام هذه جملةٌ من المزاعم المقترحة لإخراج العقل البشريّ من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل نفسه، لمعالجة انهمامه إن جاز القول. وأتدبَّر، بالمناسبة، فهمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا للكائن بما هو كائن، ولا سؤالاً عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيّات، ولا تلك الشجرة الوارفة الظلّ، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صّح لنا استثمار الاستعارة الديكارتيّة مرّة أخرى. أقول: الميتافيزيقا هي سسْتام المزاعم اللازمة للعقل البشريّ في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعته"[30]. إذاً، لا غنى، في نظر وهبه، عن الميتافيزيقا لإضفاء المعنى على السعي البشريّ. ولا يمكن للفيلسوف أن يترك ساحته لغيره، فتنتعش عندئذٍ الأصوليّات والشعوذات، ويُصبح مصير المدينة على المحكّ.

7. الفلسفة عبر الترجمة
في بحثه عن إمكان الفلسفة بالعربيّ اليوم، أي عن شروط هذا الإمكان، يعتبر وهبه أنّ هذه الشروط، ويا للأسف، غير متوفّرة في مجتمعاتنا المعاصرة، مع أنّ بعرب العصر حاجةً كبيرة إلى الفلسفة، حاجة تلوب بهم ويلوبون بها، بدليل كثرة أقوالهم الفلسفيّة في أهمّيّة الفلسفة وفي الحاجة إليها عربيًّا. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ أوّل شرط من شروط قيام الفلسفة بالعربيّ هو نقل جسد الفلسفة الحيّ إلى اللغة العربيّة؛ لأنّ الفيلسوف لا ينبت فجأة ومن لا شيء، فهو يصارع أفكارًا ويعدّل فيها، ويعيد طرح مشكلات فلسفيّة كان قد طرحها غيره من الفلاسفة، ويبتدع الأفاهيم المناسبة لها. هذا الشرط الأوّل والأساس ليس متوافرًا عند عرب العصر. لذا لم تنجح محاولاتهم إلى الآن في إبداع فلسفة يُعترف بها. فتأتي كتاباتهم مجرّد هوامش على متونٍ غائبة، ويضطربون أيّما اضطراب في ترجمتهم للمصطلح الفلسفيّ الواحد، حتى عندما يقومون بترجمة جماعيّة لكتاب فلسفيّ كبير ،كما هو حال كتاب الكلمات والأشياء لميشال فوكو، إذ لا يكلّفون أنفسهم عناء توحيد مصطلحاتهم. وأيّ مطّلع على فوكو والترجمة يستنتج بسهولة أنّ هذه الترجمة لا تصدر عن مترجمين لديهم وجهة نظر في فلسفة فوكو والتراث الفلسفيّ، تكون بمثابة خيطٍ موجِّه لهم في الترجمة. فمن فصل إلى فصل، ينصُبُ كل مترجم خيمته في العراء، ويترجم كما يحلو له من دون أي تنسيق مع زملائه في الترجمة، ومن دون أن يبني على من سبقه في ترجمة النصوص الفلسفيّة الكبيرة.
وإنّ ترجمة أيّ كتاب أساسيّ لفيلسوف كبير تتطلّب من المترجم ليس فقط تمكّنًا من اللغتين المنقول عنها والمنقول إليها، بل اطّلاعًا وتبحّرًا في الفلسفة وتاريخها، لأنّ أيّ فيلسوف كبير يختزل في قوله التراث الفلسفيّ العالميّ كلَّه، فيأتي قوله ليشقَّ طريقه وسط الأقوال الفلسفيّة كما هو حال السفينة في البحر. وتتطلّب أيضًا من المترجم أن يطّلع على الأثر الخاصّ بالفيلسوف، بشكلٍ كافٍ، عند ترجمة أيّ كتاب أساسيّ له. وهذا ما لم نجده، أثناء اشتغالنا على فوكو ودولوز، في الماجستير والدكتوراه، عند غالبيّة المترجمين الذين ترجموا لهذين الفيلسوفين، حيث تبيّن أنّهم غير مطّلعين بالقدر الكافي على أثرهما، ممّا أنتج ترجمات سيّئة لكتبهما الرئيسة. وأكبر مثال على ذلك ترجمة سالم يفوت لكتاب دولوز فوكو[31] حيث يتطلّب هذا الكتاب اطّلاعًا واسعًا على كلّ من أثرى دولوز وفوكو معًا. وهذا ما لم يظهر عند يفوت.
لكن، مع موسى وهبه، تصبح الترجمة فعلا فلسفيًّا، تصبح تفلسفًا، وحتى إنتاجًا لفلسفة جديدة. فالترجمة معه هي إعادة إنتاج للفلسفة ذاتها، كما كان تاريخ الفلسفة مع دولوز إعادة إنتاج للفلسفة ذاتها. فوهبه لا يُظهر، في الترجمة، براعته اللغويّة بقدر ما يظهر براعته الفلسفيّة وتبحّره في الفلسفة. إذًا، ليس موسى وهبه مجرّد ناقل من لغة إلى لغة، مجرّد مترجم، بل هو فيلسوف يمارس التفلسف عبر الترجمة. فهو يناقش ويقارع أفكار الفلاسفة القدامى والمحدثين باختياره لهذا الأفهوم أو ذاك، ليبني وجهة نظر فلسفيّة مبتكرة. إنّه ليس على شاكلة مترجمي الكلمات والأشياء الذين يقتلون روحه، يقتلون النبض الأساسيّ الذي يجعل منه نصًّا فلسفيًّا بامتياز، فهؤلاء المترجمون يخترعون فوكو آخر، لكن لا علاقة له بفوكو الأصليّ ولا بالفلسفة. وهكذا يمارس وهبه الفلسفة عبر التمهيد لها عربيًّا، عبر مقارعة الترجمة العربيّة للنصوص الفلسفيّة العالميّة الرئيسة. فتأتي ترجمته قراءةً جديدة في الفيلسوف المترجَم، [وهل هي الترجمة المطلوبة؟] ينافس بها قراءات أخرى مغايرة لفلاسفة عالميّين كبار، كما جاءت ترجمته لـ نقد العقل المحض قراءةً أخرى فيه وفي كلّ الأثر الكنطيّ، قراءةً تقف على قدم المساواة مع قراءة هيدغر وغيره من كبار دارسي كنط. لذا اضطرّ إلى توليد هذه المصطلحات الجديدة في اللغة العربيّة لكي يستطيع أن يعبّر أفضل تعبير عن كنط، حتى أفضل ممّا تصوّر كنط نفسه. وهو يقدّم قراءة متّسقة ومنسجمة لكلّ جوانب الأثر الكنطيّ الغامضة. من هنا، اهتمامه الشديد بمصطلح المجاوِز بعدما كان قد عرَّبه مخفَّفًا بترسنداليّ في ترجمته الأولى في أواخر الثمانينات.
ووهبه، في نشاطه الفلسفيّ، لا يفتح قواميس اللغة ليختار ألفاظًا قد تصلح أيضًا في مطارح أخرى. فهو أصلًا لا يعترف بإمكان إيجاد قواميس عامّة تصلح لكلّ الفلاسفة؛ لأنّ لكلّ فيلسوف كبير قاموسه الخاصّ ومصطلحاته ومفرداته الخاصّة وحتى فضاءه الفكريّ. وقد كان كنط يبدأ كلامه أعني بكذا ... كذا، حتى لا يختلط الأمر على القارئ، فيفلت المعنى الذي يريده. ونحن، لو عدنا إلى مفهوم دولوز عن السستام الفلسفيّ الذي يراه كسستام متباين ومتغاير باستمرار، تبعًا للمشكلات التي يعالجها وتبعًا للأفق المتحرّك الذي يشتغل فيه، لوجدنا أنّ فكرة إعداد قواميس عامّة لا معنى لها؛ لأنّ الأفاهيم الفلسفيّة تتغيّر باستمرار من فيلسوف إلى آخر، وحتى عند الفيلسوف نفسه من كتاب إلى كتاب. وهي توضع من أجل حلّ مشكلات موضعيّة كما لو كنّا في رواية بوليسية[32]. هذا ما تعلّمناه من وهبه، وما كان يقوله دولوز الذي كان مفتونًا بكلمة للايبنتس يقول فيها: "كلّما اعتقدت أنّي وصلت إلى الشاطئ، وجدت نفسي مرميًّا في عرض البحر". فالسستام الفلسفيّ ينطوي على تحوّلات. لذا تتغيّر أفاهيمه وتتبدّل باستمرار.
في بحثه الفريد الذي يتناول مصطلحات نقد العقل المحض، يتحدّث وهبه عن منهجيّته في تعيين هذه المصطلحات بالعربيّة والصعوبات التي يواجهها، قائلاً: "على الباحث في المصطلح الفلسفيّ، بالعربيّة، أن يبذل جهدين: جهد أوّل في تعيين المصطلح نفسه، وجهد ثانٍ في تعيين العديل العربيّ في زحمة الاجتهادات المعاصرة. ويخشى الباحث دومًا أن لا يحظى جهداه معًا إلّا بأجرٍ واحد، طالما أنّ إسهام أهل العربيّة المعاصرين، في إغناء القول الفلسفيّ ما زال مقتصرًا على النقل المجزوء والاجتهاد الظرفيّ المتقطّع. وهكذا أراني مضطرًا إلى القول مرّتين في شيءٍ واحدٍ: مرّة أعيّن فيها المصطلح الفلسفيّ، ومرّة أفسح فيها للمصطلح العربيّ المقترح. في الحالتين، لا بدّ من الانتباه إلى أنّ المصطلح لا يمكن عزله عن سياق القول الأصليّ، كما لا يمكن طرحه إلّا في سياق القول الذي اليه نقل. فالمصطلح يتعيّن بموجب مستلزمات القول نفسه وحاجته إلى التطوّر، وليس من الصحيح أنّه يعيّن القول، وإنْ كان بإمكانه إعاقة مساره. وإذا كان ثمّة مصطلحات عامّة تتناقل بين الأقوال الفلسفيّة المختلفة، فإنّ أيّ قول جديد لا يثبت أقدامه إلّا بأن يبتدع لنفسه مصطلحات جديدة، ويعدل في مدلول المصطلحات العامّة كشرط لإثبات الجِدة الفلسفيّة. وبذلك يصير كلّ عمل فلسفيّ معجميّ تأريخًا للمدلولات أكثر منه تعيينًا وتثبيتًا للمصطلحات نفسها. ويبدو مطلب الدقّة المعجميّة مطلبًا إسكولائيًّا، وعائقًا أمام الفهم لا سبيلاً إليه"[33].
وهو يعتبر أنّ الالتباس الذي وقع فيه دارسو كنط ناجم عن عدم ضبط المصطلح الرئيس في فلسفته، أعني به مصطلح المجاوز. وعندئذ ينغلق الأثر الكنطيّ برمّته حتى في اللغات الأجنبيّة، فكيف إذا أردنا نقله إلى لغة الضاد التي لم يكن بإمكانها عند ترجمته لـ نقد العقل المحض سوى التعبير، في أحسن الأحوال، عن فلسفة سبينوزا وما دون. وفي هذا السياق، اضطر إلى تعدية فعل فكّر مباشرة في العربيّة لتأدية المعنى الذي يعبِّر عن نشاطيّة الذات العارف في فلسفة كنط، فقال فكَّر الشيء بدلاً من فكَّر في الشيء.
هذا النوع من التفلسف عبر الترجمة يؤيّد الشعار الذي تبنّاه موسى وهبه: إذا أردتم أن تتفلسفوا فترجموا[34]. فالترجمة ليست مجرّد نقل للنص الفلسفيّ من لغة إلى لغة، بل قراءة مغايرة فيه، ممّا يجوز في تاريخ الفلسفة، بل وممّا هو مستحبّ ومطلوب، إذا أردنا أن نغني الفلسفة، إذا أردنا أن نغني القول الفلسفيّ العالميّ، إذا أردنا أن نسلّط الضوء على جوانب ربّما ما تزال غامضة في النصّ الفلسفيّ من خلال الإضاءة عليها عربيًّا، أي من خلال اللغة العربيّة، أي من خلال الضوء الكاشف الذي تسمح به اللغة العربيّة، أقول إذا أردنا أن نسلّط الضوء على جوانب ما تزال غامضة في التراث الفلسفيّ العالميّ على أساس أنّ كلّ نصّ فلسفي ّكبير هو نصّ مكثّف ويختزل في ثناياه التراث الفلسفيّ برمته. كنطٌ جديد يولد من ثنايا ترجمة وهبه لـ نقد العقل المحض، فهو يتعمّد أن ينحِّي جانبًا كلّ القراءات التي تقتل النبض الفلسفيّ عند كنط، ويرى في الأثر الكنطيّ إلى ما جعله قولًا فلسفيًّا بامتياز، ما زال يشغل منذ أكثر من قرنين التفكّر الفلسفيّ. وبإمكاننا القول إنّ كنطاً، عربيًّا هذه المرة، يولد بين يدي وهبه الفلسفيّتين، بعد إدخاله في مصافي اللغة العربيّة التي تتحوّل إلى لغة فلسفيّة بامتياز. فهو يبتدع داخل اللغة العربيّة ذاتها لغةً غريبة وجديدة تسمح بالتعبير فلسفيًّا عن كنط. وهو لا يتعامل مع الترجمة بخفَّة ولا يترجم على عجل. فكلّ ترجمة عنده، سواء كانت لكنط أم لهوسّرل أم لنيتشه أم لهيوم أم لغيرهم، تنطلق من وجهة نظر فلسفيّة معيّنة. وهو يحاول أوّلاً العثور على مشكلة الفيلسوف الرئيسة، ويوجّه ترجمته في سياقها كما فعل مع المشكلة الكنطيّة[35].
بناءً على ما سبق، يبقى وهبه، يبقى كلّ فيلسوف كبير غريبًا في لغته وغريبًا في قومه. من هنا، ابتدع وهبه لغة غريبةً داخل لغته الأمّ. فالفلسفة الجديدة بحاجة إلى أن ننحت داخل اللغة لغة جديدة أو غريبة لتعبِّر عنها. وهنا لا ينفصل المعنى الجديد عن المبنى المناسب. فكلّ فيلسوفٍ كبير هو أسلوبيٌّ كبير أيضًا. وذو الأسلوب الكبير هو من يبتدع أسلوبًا مبتكرًا في لغته، أو باختصار من نقول عنه إنّه لا أسلوب له. ولقد بُذِلت، في العقود الثلاثة الأخيرة، جهودٌ مشكورة في الترجمة. لكن، لسوء الحظ، لم تكن على المستوى المطلوب. فقد تمّ التعامل مع ترجمة أمّهات النصوص الفلسفيّة بخفّة لا مثيل لها، فوُلِدت ترجمات بحاجة إلى ترجمة، ربّما بسبب البدل المخزي الذي يُعطى للمترجم، وربّما بسبب إسناد الترجمة إلى من ليس له باعٌ لا في الترجمة ولا في الفلسفة، وربّما بسبب قلّة الصبر على الترجمة الفلسفيّة التي تحتاج أكثر من غيرها إلى صبر جميل وطويل يوم يعُزّ هذا الصبر في المجتمع المعاصر. لذا بإمكاننا القول إنّ موسى وهبه مدرسةٌ في الترجمة الفلسفيّة، تستحقّ أن نقف عندها. ولا بدّ من العودة إليها إذا أردنا، يومًا، للفلسفة أن تكون حيّةً في بلاد العرب. فمن منّا يستطيع أن يتجاوز وهبه ولا يقف مطوّلًا عند مصطلحات من أمثال أفهوم ومجاوز ووعيان وحدسان وفيَّاه وليَّاه، إلخ. التفلسف عبر الترجمة، حتى لو اقتضى ذلك تعديلاً وتحويرًا في النصّ المترجم، ممّا تقتضيه طبيعة الفوارق بين لغة وأخرى. وهكذا يتمّ إغناء القول الفلسفيّ العالميّ من خلال الترجمة إلى العربيّة، هذه اللغة التي يعتبرها وهبه ما تزال قادرة على إغناء الفلسفة بينما استنفدت اللغات الأخرى إمكاناتها أو تكاد.

8. ترجمة كنط
كيف يكون المترجم فيلسوفًا ؟ كيف يمكن للترجمة أن تكون تفلسفًا ؟ كيف يمكن للترجمة أن تكون سبيلاً إلى الفلسفة ؟ يقول وهبه في تقديمه لترجمة نقد العقل المحض في طبعتها الأولى، ما يلي: "وسأراني سعيدًا، إذن، إن جاء نقلي لِــنقد العقل المحض قراءةً أخرى فيه، وتمرينًا، بالتالي، على القول الفلسفيّ بالعربيّة". ويضيف: "فالنقد لم يُقرأ، بعدُ، بالعربية (...). وهو قُرِىء بلغاتٍ كثيرة، إلّا أنّه قُرِىء، غالبًا، في "سياقه التاريخيّ". ولخَّصه التعليم إلى جملةٍ من القضايا والمواقف الفلسفيّة. أو حسِبه التفلسف اللاحق مذهبًا في الكون، بل في الإنسان، أو نظريّة في المعرفة وعلمًا في العلم. وصار أساسًا لأقوال أخرى ومذاهب شغلت التفكّر المعاصر وما زالت". لكن ما هو موقف وهبه من كلّ ذلك، بوصفه مترجمًا، يريد أن يتفلسف عبر الترجمة ؟ هو يقول: "وأُريد أن أصرف النظر عن كلّ ذلك، لأرى إلى النقد في ذاته. في ما جعله ممكنًا كقول فلسفيّ بامتياز، أعني كقولٍ بادئ وغنيّ بذاته"[36].
وقبل أن يصدر دولوز كتابه الأشهر ما الفلسفة؟ الذي حدّد شروط القول الفلسفيّ من حيث المبدأ ومن حيث الواقع، كان موسى وهبه قد حدّد الشروط المبدئيّة التي تجعل من قول ما قولاً فلسفيًّا بامتياز. فهو يقول: "وأرى أنّ هذه البدئيّة قد صارت ممكنة مع افتتاح حقل جديد للقول، هو حقل شروط الإمكان؛ وتعيين موضوع جديد للبحث هو، لا "طبيعة الأشياء التي لا تستنفد"، بل العقل من حيث القدرة على المعرفة القبليّة وحسب؛ واعتماد منهج خاصّ يقوم على فرض أن تكون موضوعات المعرفة هي التي تنتظم وفقًا لمعرفتنا، لا أن يكون العقل هو الذي ينتظم وفقًا للموضوع. وقد أتاحت هذه "التدابير" سياقًا للقول مكّنه من أن يكتمل ويصير سستامًا"[37]. ويكرّر وهبه ما سبق، في تقديمه للطبعة الثانية المنقحة، فيقول: "لكنّي أريد أن أصرف النظر عن كلّ ذلك، لأقرأ نقد العقل المحض، في طبعته الثانية حصرًا، لأرى في ما جعله ممكنًا كقولٍ فلسفيّ بامتياز، أحدث ذاك الانعطاف الرئيس (في تاريخ الفلسفة)"[38]. وهو بذلك يعارض قراءات كبار دارسي كنط من الفلاسفة، فيقول: "أخالف بذلك قراءة هيدغر، الذي يعتمد الطبعة الأولى، حين أحسب، مع آخرين، أنّ الطبعة الثانية تمعن في إيضاح مسألة النقد وليست تراجعًا عمّا افتتحه"[39].

8. 1. أفهوم المجاوز عند كنط
إنّ إيجاد موسى وهبه عديلًا عربيًّا لمصطلح الترنسندنتال (le transcendantal) الكنطيّ وتمييزه من الترنسندان (le transcendant) الشائع في الفلسفة القديمة وفلسفة القرون الوسطى، لهو إنجاز كبيرٌ جدًّا. ولسوف يحفظ تاريخ الفلسفة هذا الإنجاز طويلاً وربّما إلى الأبد؛ لأنّ أفهوم الترنسندنتال هو من أكثر الأفاهيم الشائكة في الفلسفة حتى في اللغات الأجنبيّة. من المعروف أنّ مصطلحي الترنسندنتال والترنسندان كانا موجودين قبل كنط، وإنْ كانا يُستعملان بالمعنى ذاته تقريبًا، مع أنّ مصطلح الترنسندنتال كان نادر الاستعمال في فلسفة القرون الوسطى. ويمكن الجزم أنّ هذا الأفهوم هو المفتاح الرئيسيّ لفلسفة كنط كلّها. وما لم يتمكّن قارئ كنط من استيعاب هذا الأفهوم، فإنّ النص الكنطيّ سينغلق تمامًا ومعه كلّ الفلسفة ما بعد-الكنطيّة، لا سيّما أنّه عرف تطوّرًا كبيرًا عند الفلاسفة الذين جاؤوا بعد كنط، كهوسّرل مثلاً، الذي طوّر ما سمّاه الفيمياء المجاوزة[40].
ويكفي وهبه فخرًا، أنّه وجد العديل العربيّ المناسب لهذا المصطلح الشائك الذي كان يشكّل أكبر عائق وأكبر معضلة لفهم كنط. وكان وهبه، في الطبعة الأولى لترجمة نقد العقل المحض، قد عرّب المصطلح مخفّفًا من دون أن يتمكّن من إيجاد عديل عربيّ له، فقال الترسنداليّ بدلاً من الترنسندنتاليّ. لكنّ هذا لا يرضي الأرواح المتفلسفة حيث ظلّ وهبه مصرًّا على إيجاد عديل عربيّ له إلى أن تمكّن من ذلك بعد سنوات، فقال المجاوِز بدلاً من الترسنداليّ. وقد أضاءت هذه الكلمة التي أخذها من النحو العربيّ ووجدها في القرآن الكريم[41] في مطارح عديدة، فلسفة كنط برمّتها وفلسفات من جاء بعده. ونستطيع الجزم أنّ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بحاجة إلى هذه الإضاءة العربيّة. وهذا ما يثبت أنّ بإمكان الترجمة إلى العربيّة إغناء القول الفلسفيّ العالميّ. وأنّ الإبقاء على كلمة المتعالي، كما كانت تُستعمل في القرون الوسطى، يُغفل الثورة الكوبرنيقيّة والجِدة الفلسفيّة التي أتى بها كنط والتي ستطبع الفلسفة كلّها من بعده. فبتنا نتحدّث عن المنعطف الكنطيّ في تاريخ الفلسفة. وإنّ كنط، ككلّ فيلسوف كبير، يبني نتاجه على أنقاض نتاج غيره. وهذا ما فعله عندما اخترع هذا الأفهوم وانتشله من غياهب النسيان وميّزه من الأفهوم القريب له. لقد كانت كلمة الترنسندنتال بمثابة كلمة بربريّة في اللغات الأجنبيّة. واستطاع كنط أن يجعلها شائعة الاستعمال في الفلسفة الحديثة، وإنْ بقي المعنى الذي أعطاه كنط لهذا المصطلح، يُربك غالبيّة دارسي كنط. وكان كنط، من خلال بلورته لهذا الأفهوم، يُناقش فلاسفة العصر الحديث، وبالأخص ديكارت وهيوم ويتمايز منهما. لذا، اضطرّ إلى الاستعانة بهذه الكلمة البربريّة وأعطاها معنى مختلفًا ليختلف بطريقة تفكيره عن الفلاسفة الذين سبقوه. فهو لم يقل بالأفكار الفطريّة على طريقة ديكارت، ولم يقل إنّ الذهن مجرّد صفحة بيضاء على طريقة هيوم، بل قال بالذهن المجاوِز والذات المجاوزة والفلسفة المجاوزة.
يقول وهبه: "ومن دون تمثّل هذا النعت الفريد (أقصد "المجاوز")، ينغلق النصّ الكنطيّ على الفهم، فيُعامل تاريخيًّا، أي تُسحب روحه، كما حصل ويحصل غالبًا، بدليل أنّ هذا اللفظ لم يستعمل بالمعنى الكنطيّ الدقيق، بل اختلط غالبًا بمعنى مغاير للفظ القريب: متجاوِز (أي ما يدعى عادةً مفارق). وأكتفي الآن بالقول إنّ المجاوز يشير، أوّلاً، إلى المعرفة من حيث صلتها القبلية بالموضوع (يُجاوز بنا إلى الموضوع)؛ ويشير معًا إلى تلقائيّة ملكة المعرفة (أي فاعليّتها)؛ وإنّ المتجاوز يشير إلى ما يتجاوَز حدود المعطى"[42]. هذا ما أورده وهبه عن معنيي المجاوز والمتجاوز (المفارق) وأهمية أفهوم المجاوز في فلسفة كنط. أمّا كيف وجد هذا العديل العربيّ، أعني المجاوِز، فلا بدّ من أن نقرأ هذا المقطع الهامّ من تقديمه لترجمة كتاب هوسّرل المباحث المنطقيّة: "ومع التأمّل في معنى القصديّ المستفاد من برنتانو، سرعان ما يتبيّن أنّه، بالأحرى، المجاوز (transzendental) الذي كان أدخله كنط، وأنّ الفيمياء نفسها ليست مجرّد فيمياء وصفيّة (بالاستفادة من برنتانو نفسه)، بل هي بالأحرى فيمياء مجاوِزة، ومثاليّة مجاوزة أخيرًا، بالإذن من كنط وبالتميُّز منه. فالمجاوز عند كنط يُطلَق على علاقة المعرفة بموضوع المعرفة قبليًّا، أي قبل وبمعزل عن حضوره في التجربة. فالذهن العارف مجاوز، أو قل إنّه يجاوز بنا إلى موضوع المعرفة، أي يطلبه ويشكّله تبعًا لبنية الذهن الذاتيّة. ويمكن إيضاح ذلك بمثال من النحو العربي. حين أقول ضرب زيد، ينتظر السامع تتمّة العبارة لأنّ فعل ضرب يتجاوز الفاعل ويُجاوز بنا إلى طلب مفعول به، فهو فعل مجاوز أو فعلٌ متعدٍّ كما تقول النحاة. وهذا التعدّي قائم في معنى الفعل نفسه أي قبليًّا، قبل أن نعرف على من أو على ماذا سيقع الفعل"[43].
إذًا، الذهن البشريّ عند كنط وحتى عند هوسّرل، هو ذهن مجاوز وليس ذهنًا متعاليًا أو مفارقًا، أي هناك شيء ما يمتلكه هذا الذهن يجعل منه قوّامًا على ما هو موضوعيّ، أي يجعل منه منشئًا للمعرفة، أي يجعل منه بما له من بنية ذاتيّة مقوِّمًا لما هو موضوعيّ. ومن المؤكّد أنّه، مهما قلَّبنا في معنى المتعالي، فلن نجد المعنى الذي قصده كنط وهوسّرل على الإطلاق. وسبق لوهبه أن أشار إلى أنّ ميتافيزيقا كنط ليست ميتافيزيقا جواهر، أي إنَّنا هنا لا نعود إلى مشكلة وجود النفس وخلودها، كما هو الحال عند ديكارت الذي اعتبر النفس بمثابة جوهر، ماهيّته الفكر، وهو غير قابل للقسمة أو الانشطار. فهذه المشكلة الديكارتيّة، في نظر كنط، تتجاوز قدرات العقل البشريّ. من هنا، فإنّ الذات عنده هي مجرّد نشاط وليست جوهرًا، ومع ذلك هي قادرة على تأسيس المعرفة بما لها من بنية ذاتيّة، بما لها من بنية قبليّة، أي بما لها من بنية مجاوزة. وهي ليس بها حاجة إلى افتراض وجود إله كامل لا يخدع من أجل إثبات موضوعيّة المعرفة. يقوم كنط بنقده للعقل المحض، أي للعقل بما هو كذلك، ليرى إلى إمكاناته وحدوده وقدراته قبل تصدّيه لمسألة المعرفة، وبالأخصّ ليعرف إنْ كانت الميتافيزيقا الكلاسيكيّة (أي ميتافيزيقا الجواهر الثلاثة: الله والنفس والعالم) ممكنة،  وكيف تكون ممكنة. هذا النقد لقدرات العقل يتمّ بمعزل عن موضوعات المعرفة، أي قبل قيام العقل بنشاطه المعرفيّ. ويهدف كنط من وراء هذا النقد إلى معرفة إنْ كان يوجد في الذهن شيءٌ ما يساهم في نشوء المعرفة، وما هي حدود هذا الشيء، أي معرفة بنية الذهن الذاتيّة. إذاً هناك شيء ما في الذهن يجعل المعرفة ممكنة، هناك بنية ذهنيّة قبليّة تساهم في تشكيل المعرفة، في إنشاء المعرفة. وبذلك لا يكون الذهن صفحة بيضاء، كما كان يقول هيوم، لأنّ نشاطيّة الذهن تتمثّل بأفعال تفكير تُعيّن المعطى كمواضيع معرفة، فلا يعود يبدو لنا كما هو فيّاه. وهكذا تكون الذات ذاتًا مجاوزة.

8. 2. وهبه ومصطلح الأفهوم
كان دولوز يودّ أن ينشئ تاريخًا خاصًّا للفلسفة يقوم على إحصاء[44] ما أبدعه كلّ فيلسوف من أفاهيم، أي النظر إلى الفلاسفة من ناحية كمِّية الأفاهيم التي قاموا بإبداعها. وقد اعتبر أن قلّة من الفلاسفة من أمثال لايبنتس قد أبدعوا أفاهيم كثيرة، والباقي اقتصر إبداعه على عدد محدود جدًّا من الأفاهيم حيث اعتبر، مثلاً، أنّ ديكارت، هذا الفيلسوف العملاق الذي مازلنا ننهل منه إلى الآن، قد اقتصر نشاطه الفلسفيّ على إبداع خمسة أو ستّة أفاهيم فقط . لكن ما شاء الله! فان مفكّرينا العرب المعاصرين يحرّرون عشرات الكتب في حياتهم، تحتوي على عشرات آلاف الصفحات، لكن من دون أن تتضمّن طريقة جديدة في التفكير تتجسَّد في أفاهيم جديدة يبدعونها، في حين أنّ فيلسوفًا كبيرًا كجيل دولوز تفلسف لمدة تقارب الخمسين سنة، قد حرّر ما يقارب سبعة آلاف صفحة، لكنّه أبدع كثيرًا من الأفاهيم الجديدة أو جدَّد في الأفاهيم المتداولة، من أمثال الفرق الحرّ، والتكرار المركّب، والأمبيريّة المجاوزة، ومسطح المحايثة، والفكر البدويّ، والمكان الأملس، والمكان المحزَّز، والارتصاف والشدّة والاشتداد، والجسد بلا أعضاء والصورة-حركة والصورة-زمان، إلخ. كما توصّل إلى صورة جذموريّة للفكر يضعها في مقابل الصورة الشجريّة للفكر، التي عاشت عليها الفلسفة طويلًا. لذا، نقول ليست المسألة بالكمّية بل بالنوعيّة. وهناك فلاسفة كبار في القرن العشرين اقتصر نشاطهم الفلسفيّ على تحرير كتاب أو كتابين في الفلسفة كفيتغنشتاين مثلاً. وما نودّ قوله هنا هو أنّ وهبه يندرج قي سياق هؤلاء العمالقة الذين أغنوا الفلسفة من خلال أعمالهم القليلة لكن العظيمة.
هذا، ولم تهدأ حتى الآن العاصفة التي أثارها وهبه بتوليده لمصطلح الأفهوم عند ترجمته لكنط. أقول لم تهدأ هذه العاصفة بين متفلسفي العربيّة الذين شكّلوا عصبة تحاربه .ولقد اضطرّ وهبه إلى توليد لفظ أفهوم على وزن أفعول، بدلاً من الاكتفاء بلفظ مفهوم المتداول والشائع في الفلسفة العربية، بسبب من أنّ الذهن عند كنط هو ذهنٌ مجاوز ونشيط وفاعل. لذا لا يمكن للفظ مفهوم أن يعبِّر عن هذه النشاطيّة التي تميِّز فلسفة الذات العارف عند كنط؛ لأنّه يدلّ على حصيلة التفكير وليس على فعل التفكير. لنقرأ ما يقوله وهبه عن لفظ الأفهوم في تقديمه للطبعة الثانية من ترجمته لــ نقد العقل المحض: "ولَّدت أفهوم ( على وزن أفعول) بإزاء (der Begriff)، رافضًا ترجمة هذا المعنى بــِ مَفهوم، الذي أعدت إليه اعتباره السابق بإزاء (der Inhalt) المقابل للْــ ماصَدَق بإزاء (der Umfang). والدّاعي إلى ذلك أنّ "مفهوم" الدارج في بلاد الشام صيغة مفعول، ولا يتوافق قطّ مع مقصد كنط إلى اللفظة الألمانيّة (der Begriff) بوصفه فعل تفكير، تقوم به ملكة التفكير الفاعلة، لا مفعولًا به؛ وأنَّ "تصوّر" الدارج في التقليد المصريّ لا يفي بالغرض (...). وإغفال فاعليّة الفاهمة يعبّر عن غفلة تامّة عن معنى الثورة الكوبرنيقيّة التي قام بها كنط، وعن وجوب تعدية فعل فكر، وإنْ تجوُّزًا وخلافًا للأصول؛ وعن معارضة غير مدعّمة لقولي: فكّر الشيءَ (والشيء مفكَّر) وتفكَّره، حيث عديتُ مباشرة بدلاً من التعدية بحرف الجر، بإزاء ("denken", überlegen)[45]. وفي مكان آخر يقول: "ولعلّ الأكثر لفتًا وغموضًا في آن هو ما يحاوله دولوز في تجديد القول في الأفهوم (...). فإذا كانت الفلسفة إبداعًا للأفاهيم يتوجّب تمييز الأفهوم عن سواه من الأنشطة القريبة. (...) فهو يحسب أنّ التفكير ليس حكرًا على الفيلسوف، بل إنّ العالم يفكّر والمنطقيّ يفكّر والفنّان يفكّر، ولكن لكلٍّ طريقته أو بالأحرى أفعوله. التفكير يتمّ إذن بأفاعيل. والأفاعيل ليست كلمة مولَّدةً الآن بالعربيّة، فالنحاة يطلقونها على الحال والتمييز والاستثناء، ولم ترد إلّا نادرًا بالمفرد الذي قد يصح أفعولاً وأفعولةً (...). فإذا تأمّلنا الفرق بين صيغة المذكر والمؤنث، يتبيّن أنّ صيغة المذكّر تشير غالبًا إلى الفعل (والمصدر النوعيّ)، وأنّ صيغة المؤنّث تشير دائمًا إلى حصيلة الفعل (ومصدر المرّة). هذا التمييز بين الصيغتين هو الذي حدا بي إلى اختيار وزن أفعول في توليد لفظ أفهوم بإزاء (concept, Begriff) في قراءتي لنقد العقل المحض (...) الأمر الذي أثار حركةً اعتراضيّة واسعة بين جمهور المتفلسفة وجماعة النثر الثقافيّ الفلسفيّ، حركة تحوّلت للأسف إلى عصبة مركّزة في تجمّع عربيّ يُعنى بالترجمة، سلاحها الوحيد الاعتقاد بالدارج والركون إلى راحة العقل المطمئن إلى مسلّماته. كنت إذًا ولَّدت أفهوم لتسمية فعل التفكير الذي تقوم به الفاهمة في محاولة معرفتها لموضوعات المعرفة التجريبيّة"[46].
إذاً كلّ أفهوم فلسفيّ هو فعل تفكير، هو أفعول تفكير يحمل أو يتضمّن وجهة نظر فلسفيّة معيّنة. إنّه ما يجعل الأشياء أو الموضوعات مفكَّرة. إنّه فعل إضاءة يضيء المناطق المعتِمة أو المناطق غير المفكَّرة ليجعلها مفكَّرة أي ليُفكِّرها. إنّه أفعول تفكير وليس حصيلة التفكير، إنّه أفعول أفهمة وليس حصيلة الفهم. فالكوجيتو الديكارتيّ مثلاً هو أفعول تفكير وليس حصيلة التفكير. فالمفكَّر فيه واللامفكَّر فيه يتلازمان، يتعايشان كما هو حال النور والظلام. واللامفكَّر فيه يسكن في قلب المفكَّر فيه، في داخله، في جُوانيّته. وكلّ فيلسوف كبير يحمل قنديله، أي يحمل فعل الإضاءة الذي ابتدعه، أي باختصار يحمل طريقته الجديدة في التفلسف التي تعبِّر عن نفسها بإبداع أفاهيم جديدة، أي بأفعال تفكير جديدة، ليُنير ولو مساحة ضئيلة جدًّا من الظلام الذي، مع ذلك، يبقى متربّصًا بالنور ويحاول أن ينقضّ عليه مجدّدا، وذلك عندما يتحوّل الأفهوم الفلسفيّ إلى رأي نهائيّ، أي عندما يكفّ عن كونه فعل أفهمة، أي عندما يتحوّل إلى رأي ثابت متناسيًا أنّ الأفهوم يتغيّر بتغيّر المسألة الفلسفيّة التي تتغيّر بدورها تِبعًا للأفق الذي تتحرّك فيه. لذا فضّل وهبه توليد لفظ أفهوم على البقاء عند لفظ مفهوم لأنّ هذا الأخير لا يعبِّر أفضل تعبير عن النشاط الفلسفيّ.
ويمكن لنا أن نتابع ما نقوله في أفاهيم كنط الأخرى، الأقلّ أهمّيّة. لكن ما يهمُّنا الآن، أن نبيِّن أنّ الأمر لا يقتصر على الأفاهيم فقط، بل يصيب فلسفة كنط نفسها، سستام كنط بأكمله، فيقدّم وجهة نظر مختلفة تعيد النظر في مجمل السستام الكنطيّ، وجهة نظر قد لا تكون واضحة حتى عند كنط نفسه. وهذا ممّا هو معروف ومستحبّ في تاريخ الفلسفة. فقد كان دولوز يفاجئ الجميع عندما كان يقوم بدراساته في تاريخ الفلسفة. فسبينوزا دولوز لا يشبه سبينوزا الذي نقرأ عنه، وهيوم دولوز لا يشبه هيوم الذي نجده في الكتب المخصّصة للأمبيريّة. وهكذا دواليك بالنسبة إلى لايبنتس وكنط وديكارت ونيتشه وغيرهم من الفلاسفة الذين اشتغل عليهم دولوز، حتى فوكو نفسه كان يتفاجأ بمقالات دولوز عنه. فكان يجد، في كلّ مرّة، فوكو آخر في كلّ مقالة يتناول فيها دولوز آخر كتاب له، إلى أن جمع دولوز، هذه المقالات والدراسات وأضاف عليها، بعد موت فوكو، في كتاب واحد، أسماه فوكو، ليرى إلى مجموع فكر فوكو، إلى مجمل فكره، إلى المنطق الذي جعل هذه الفلسفة الكبيرة ممكنة، إلى المنطق الذي أجبره على الانتقال من محور العِلْمان إلى محور السلطة، ومن ثمّ إلى محور أنماط التذويت، فنشأ فوكو آخر بين يدي دولوز الفلسفيّتين الساحرتين. هذا ما نجده، بشكل آخر، عند وهبه عندما يستعمل الترجمة لإنتاج فلسفة تكاد تكون جديدة ومختلفة، ممّا تسمح بها النصوص الفلسفيّة الكبيرة التي عادة ما تكون نصوصًا موجزة ومكثّفة وغنيّة وتحتمل قراءات مختلفة.
لنقرأ ما يقوله وهبه عن النقديّة عند كنط: "والنقديّة، بالمعنى الذي أقول، وجهة نظر جديدة في التفلسف يجب استخلاصها ورسم معالمها من الكتب (النقدية الثلاثة) (...). ذلك أنّها ليست بمثل هذا الوضوح منذ البداية، بل كانت تنمو وتكتمل بمقدار ما كان البحث يتقدّم. أقول، النقديّة وجهة نظر جديدة، لأنّها تؤسّس قولاً فلسفيًّا مختلفًا، وطريقة مبتكرة في التفلسف. فالنقد لا يطمح إلى تزويدنا بقناعات جديدة، بل إلى مساءلتنا عن الطريقة التي بها كوّنا قناعاتنا. وهو لا يحمل إلينا حقيقة مغايرة، بل يسعى إلى جعلنا نفكّر بطريقة مغايرة. وهو بهذا يفتح حقلاً جديدًا للتفلسف ليس هو حقل الكون (مصدر كان) ولا حقل المعرفة، بل حقل ما يمكن أن يُسمّى "شروط الإمكان". وقد أقام كانط في هذا الحقل "علمًا سستاميًّا له فرضيّته ومشكلته وطرائقه الخاصّة". أي أقام النقديّة التي لا يمكن أن تعرّف بجملة مسلّماتها، وهي مسلّمات يشارك بها كانط فلاسفة عصره، ولا بجملة مقالاتها الإيجابيّة التي تلخّص مذهبه في نظر المؤرّخين. بتعبير آخر، يجب التمييز في نصوص كانط بين النشاط النقديّ، وهو المقصد، وجملة قناعات كانط الفلسفيّة التي قد تشكّل"مذهبًا" لا يتمتّع بكبير أصالة، إذ يمكن ردّ عناصره إلى عقلانيّة لايبنتس، وأمبيريّة هيوم، ومجمل التراث الفلسفيّ الكلاسيكيّ"[47]. هذه قراءة موسى وهبه لكنط. وهي، بلا شكّ، قراءة مبتكرة ومختلفة، تستحقّ أن نقف عندها طويلاً. وقد حصّلها عبر الترجمة العربيّة، أي عبر عمله على نقل كنط إلى العربيّة، لا عبر التأليف، لكن في ظلّ غياب نصوص كنط بالعربيّة.

9. ترجمة هوسّرل
تابع موسى وهبه مشروعه الفلسفيّ في ترجماته الأخرى لنيتشه وهيوم وهوسّرل وهيدغر[48]. فبيَّن، من خلال تمارينه الفلسفيّة، كيف يمكن للقول الفلسفيّ بالعربيّة أن يكون. وفي ما يلي، سنتابع، بإيجاز شديد، إبداعاته اللغويّة-الفلسفيّة في ترجمته لكتاب هوسّرل مباحث منطقيّة. بالإضافة إلى ما مرّ معنا بالنسبة إلى مصطلحَي المجاوِز والأفهوم اللذين أبدعهما في ترجمته لكنط، وعاد، من ثمّ، ليوظّفهما في ترجمة هوسّرل، فإنّ وهبه تميَّز بما يلي :
أوّلًا، رفض وهبه أن يقول الظاهراتيّة والظواهريّة وعلم الظواهر، كما رفض أن يعرِّب اللفظ الأجنبيّ بالفينومينولوجيا، فعرَّبه بـِ فيمِياء على وزن فِعْلِياء، كما قالت العرب فيزياء وكيمياء. فالفيمياء هي علم الفينمانات لا علم الظواهر أو الظاهرات[49]. وبذلك يميِّز وهبه بين الفينمان (Phänomen)، بحسب الأصل اليونانيّ، أي ما يظهر في تيّار الوعي، والظاهرة  (Erscheinung) في الترجمة الألمانيّة، أي ما يظهر في الحسّ الخارجيّ. إذًا، يميِّز وهبه بين الفينمان الظاهر في الوعي من مجرّد الظاهرة في الخارج، بين المعيش القصديّ من مجرّد الظاهرة التي لها علاقة بالحسّ الخارجيّ. وبذلك يعارض كلّ ما تمّ تداوله من ترجمات لهوسّرل بالعربيّة.
ثانيًا، ابتكر وهبه مصطلحات جديدة في ترجمة صيَغ بدت مستعصية بالعربيّ. فقد استثمر اللفظ العربيّ "إيّان" و"إيّا" بصيغة المضاف، فكتب: "وأقول إيّاها بإزاء (selbst) بدلًا من القول ذاتها ونفسها وما إلى ذلك. والحقّ، إنّي استثمرت اللفظ العربيّ "إيّان" أو "إيّا" بصيغة المضاف في مثل قولك: إيّاه، لأحلَّ إشكالًا كبيرًا في نقل صيَغ بدت مستعصية. فقلت فيّاه اختصارًا لـ فيه إيّاه بإزاء (an sich)، وليّاه اختصارا لـ له إيّاه بإزاء (für sich). وولّدت من ذلك نسبة مصدريّة، فقلت فيّانيّة أي كون الشيء فيّاه بإزاء (Ansich-sein)، وليانيّة أي كون الشيء ليّاه بإزاء (Fürsich-sein)، وليّاييّة (Fürmich-se)، أي كونه لي إيّاي. وتوسّعت بهذه النسبة المصدريّة في كلّ مرّة صادفت فيها ملحقًا ألمانيًّا من صورة: زيْن أو هيْت أو كيْت (sein, heit, keit)، فقلت وعييّة ولونيّة وبائيّة، أي الكون وعيًا ولونًا وباءً، إلخ"[50].
ثالثًا، القصديّة. الوعي عند هوسّرل، بالاستفادة من أستاذه برنتانو، هو دائمًا وعيٌ بشيء ما، بمطلبٍ ما. ذلك أنّ الوعي هو على الدوام أفعول وعي، وليس مجرّد حالة وعي أو حصيلته. وهذا ما يسمّى قصديّة الوعي أو توتّره باتّجاه موضوعه. لكن سرعان ما يميِّز وهبه بين الموضوع الذي يقع في مقابل الذات العارف والموضَّع المستقدم انطلاقًا من معيش الوعي المحايث، وليس من الخارج المعلَّق والمفارق للوعي. وهو يقول: "وأفهوم القصديّة يتيح بل يوجب الكلام على أنّ الوعي يرى-إلى موضوعه (ولا يراه وحسب)، وموضوع الرأي-إلى (Meinen) لا يعود مجرّد موضوع معرفة (Objekt) في مقابل الذات العارف، بل موضَّع مستقدم (Gegenstand)، انطلاقًا من معيش الوعي المحايث (immanent)، وليس من الخارج المعلّق المفارق للوعي (transzendent). فهو مرتّب ومقوّم (konstituiert) قصديًّا من دون أن يقوم "في" الوعي. ومن الموضوع تشتقّ الموضوعيّة (Objektivität) والممَوْضِع (objektivierend)، أي مُضفي الموضوعيّة، ومن الموضَّع تُشتقّ الموضَّعيّة (Gegenständlichkeit) والموضَّعيّ (gegenständlich)"[51].
رابعًا، يميِّز وهبه أيضًا بين مجرّد البداهة (Evidenz) والبداهة الوجوبيّة أو الرئيان (Einsicht)؛ ومجرّد الفكرة (Gedanke) أو الأَيديا بالإنكليزيّ، والأمثول ولاحقًا المثال (Idee) بالمعنى الأفلاطونيّ؛ ومجرّد الوجود (Eksistenz) في الخارج، والهذيّة أو الوجود إزاءنا (Dasein)، والعِنْديّة أي الوجود الضمنيّ عند الوعي (Ineksistenz)، وبين هذه كلّها والكوْن (Sein).
خامسًا، قال عِرفان بإزاء (Erkennen) لتمييزه من المعرفة (Erkenntnis)، ... . وقال عِلمان بإزاء (Wissen) لتمييزه من العلم (Wissenschaft) الذي صار يُطلَق على العلوم بالمعنى الحديث، في حين أنّ العِلمان أطلقه وهبه على مجرّد أخذ العلم بالأمر بما يقابل الجهل به. وقال حِدْسان بإزاء (Anschauen) لتمييزه من حاصله الحدس (Anschauung). وقال وِعْيان للدلالة على وعي الوعي أو ما يُسمَّى الوعي الذاتيّ بإزاء (Selbstbewusstsein). إلى ما هنالك من ألفاظ جديدة ولّدها موسى وهبه ممّا لم نذكره.

هذا هو موسى وهبه، كما حاولنا أن نقدِّمه من خلال المشكلة الرئيسة التي انهمَّ بها، أي مشكلة إمكان القول الفلسفيّ بالعربيّة اليوم. وقد تبيَّن لنا أنّ ترجماته إلى العربيّة، أو بالأحرى تمارينه الفلسفيّة، قد مكَّنت، إلى حدٍّ كبير، القول الفلسفيّ بالعربيّ أن يكون، ومهَّدت لفلاسفة المستقبل، في حين أنّ الترجمات التي حصلت في العقود الأخيرة قد تعاملت مع الترجمة الفلسفيّة إلى العربيّة بخفّة لا مثيل لها، ممّا أدى إلى هذا البؤس الفلسفيّ العربيّ.






[1]    من مواليد شيخ طابا (عكّار) في شمال لبنان، حصل على دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة السوربون (باريس) في العام 1974 بدرجة مشرِّف جدًّا. أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة والفلسفة العامّة والميتافيزيقا في الجامعة اللبنانيّة (1974-2005). انتسب إلى الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ في صيف 1968، ولكنّه عبّر عن رفضه لممارسة هذا الحزب الذي انخرط كفريق في الحرب أو الحروب اللبنانيّة إلى أن غادره رسميًّا في نهاية 1978. وسرعان ما غادر الماركسيّة نفسها بفضل تعمّقه في قراءة كنط، وأيضًا في قراءة الفيلسوف الماركسيّ لوي ألتوسّير. مؤسّس نهار الكتب ورئيس تحريرها (1996-1997). من مؤسِّسي اللقاء الفلسفيّ ومجلّة فلسفة (2000-2005)، وعضو لجنة الفلسفة الاستشاريّة في المنظّمة العربيّة للترجمة (2001-2007). ترجم إلى العربيّة هيوم وكنط ونيتشه وهوسّرل وهيدغر. وكتب عشرات المقالات الفلسفيّة. وهو الآن في صدد جمعها وإصدارها في أربعة مجلّدات.
[2]    يميّز دولوز الأفهوم من كلّ من الرأي والرأي الأصليّ. راجع خاتمة ما الفلسفة ؟
G. Deleuze et F. Guattari, Qu’est-ce que la philosophie?, Paris, Éd. de Minuit, 1991, p. 189-206.
[3]    موسى وهبه، "فلسفة لا ثقافة"، مجلّة فلسفة، عدد 1، بيروت، خريف 2003، ص 142-144.
[4]    يميّز موسى وهبه بين كلّ من سستام (système) ونسق (ordre) ونظام (régime). راجع موسى وهبه، "مصطلحات نقد العقل المحض"، مجلّة الفكر العربيّ، عدد 48، تشرين الأوّل 1987، معهد الإنماء العربيّ، بيروت، ص 89.
[5]    أنظر رينه ديكارت، مقالة الطريقة، ت. جميل صليبا، اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، بيروت، 1970، ط .2، ص 86.
[6]    يقول كنط: "للعقل البشريّ، في نوع من معارفه، هذا القدر الخاص، أن يكون مرهقًا بأسئلة لا يمكنه ردّها، لأنّها تُطرح عليه بطبيعة العقل نفسه، ولا يمكنه أيضًا أن يجيب عنها، لأنّها تتخطّى كلّيًّا قدرة العقل البشريّ" (عمّانوئيل كنط، نقد العقل المحض، ت. موسى وهبه، دار التنوير، بيروت، 2015، ط 1، ص 29).
[7]    يقول دولوز: "نحن نطلب فقط قليلًا من النسق لنحمي أنفسنا من الخواء. لا شيء أكثر إيلامًا، وأكثر غمًّا من فكر ينفلت من ذاته، من أفكار تهرب، تتوارى حالما تشرع في الظهور، يأكلها النسيان سلفًا أو يُرمى بها في أفكار أخرى لا نتحكّم بها أيضًا" (دولوز، ما الفلسفة؟، مرجع سابق، ص 189).
[8]    أشرف موسى وهبه على رسالتي للماجستير التي كانت بعنوان ميشال فوكو: الطريقة الجديدة في التساؤل، وعلى أطروحتي للدكتوراه التي كانت بعنوان جيل دولوز وتجديد الفلسفة، والتي مثَّلت تمرينًا شاقًّا على القول الفلسفيّ بالعربيّة، حيث كان هناك إصرار على إنجازها باللغة العربيّة. وقد نجحنا في ذلك إلى حدّ كبير، حيث أصبح دولوز، بفضلها، بالعربيّة ممكنًا؛ لأنّها تناولت أثره بكامله. وهذا يعود، في جانب كبير منه، إلى "تمرينات" موسى وهبه الفلسفيّة. ولقد قلت عنه مرَّة: "لم نكن نسمع صوت أستاذٍ وحسب، بل شيئًا من صوت كنط، وحتى صوت الفلسفة نفسها".
[9]    في مقال بعنوان "عن كمال الحاج"، ألقاه في الحركة الثقافيّة-انطلياس في 10 آذار 2002 ، يقول وهبه : "أحسب أنّ الفلسفة لا تعيش في الضواحي. إنّ الفلسفة مدينيّة (عاصميّة). إنّ الفلسفة علنيّة تتكلّم لغة الجمهور. بمعنى أنّنا نحن الأحياء هنا والآن، في بيروت عاصمة لبنان، مهما قلنا أو كتبنا فلسفة باللغة الأجنبيّة، نكون ألحقنا بيروت ضاحيةً بإحدى عواصم العالم وحسب، ورفعنا التفلسف من المجال التداوليّ الحي وحسب، من الساحة العامّة، من الأغورا (agora)، إلى الشوارع الخلفيّة والأروقة. سنظلّ نرطن بالفلسفة على الأرجح، لكنّ ممارستنا لها ستبقى أشبه بلغة المهاجر الباقية على حالها حين ترك مجاله التداوليّ".
[10]  يقول دولوز: "تقوم الفلسفة دائمًا باختراع أفاهيم". ويضيف: "للفلسفة دور يبقى راهنًا تمامًا، وهو إبداع الأفاهيم. ولا أحد يستطيع أن يقوم بذلك مكانها". ويضيف أيضًا: "فالفلسفة ليست تواصليّة، ولا تأمّليّة أو تفكّريّة. إنّها مبدعة أو حتى ثوريّة، في طبيعتها، وهي لا تفتأ تبدع أفاهيم جديدة. شرطها الوحيد أن تمتلك ضرورة، لكن أيضًا غرابة، وهي تمتلكهما بقدر ما تجيب عن مشكلات حقيقيّة. فالأفهوم هو ما يمنع الفكر من أن يكون مجرّد رأي، مشورة، مناقشة وثرثرة".
G. Deleuze, Pourparlers, Paris, Éd. de Minuit, 1990, p. 186.

[11]  أبو يعرب المرزوقي: "الأفهوم" مصطلح غير مقنع"، مجلة فلسفة. وهو يفتح ملفّ التشقيق اللسانيّ ودلالاته (الحياة، 13 نيسان 2004). 

[12]  "بإمكاني القول إنّني غادرت الماركسيّة عائداً إلى ذاتي، إلى لغتي الخاصّة بعد أن تبيّن لي أنّ ما لا يمكن أن أحتمله في الماركسيّة هو ما يميّزها كلغة نضاليّة أي جوهرها. وهو أوّلاً أن يكون العمل قوّامًا على النظر، وهذا معناه إخضاع الرأس للزندين والمخّ للنخاع الشوكيّ. وهو ثانيًا أن يكون التطبيق معيار الصواب، فلا يصحّ إلّا الصحيح، وأنّ ما يصحّ هو بالتالي الصحيح. وهو ثالثًا أن يكون الكلّ قوّامًا على الجزء والجماعة قوّامة على الأفراد، فلا تبقى قيمةٌ إلّا لفرد واحد يقوم على الجماعة هو الزعيم أو الإمام. هكذا يزُدرَى البعد الميتافيزيقيّ للإنسان، فيتحوّل إلى أداة بلا روح" ("أجوبة عن أسئلة"، في محمّد العبدالله، حبيبتي الدولة، بيروت، 1986).
[13]  يقول وهبه في توطئة كتاب البعط الفلسفيّ بالعربيّ، وهو كتاب قيد النشر، ما يلي: "أقصد بعرب العصر، لا الساسة العرب، ولا جموع العرب كعرق بشريّ واسع الانتشار في المعمورة الحاضرة، بل "مثقّفي" العرب أو أولئك المتذهّنين الذين يكتبون بالعربيّة أفكارهم وآراءهم ومجمل نتاجهم الذهنيّ. وأنسبهم إلى العصر من حيث ينسبون أنفسهم أو ينتسبون جرّاء ما به يتشكّلون بوصفهم أناسًا ناطقين".
[14]  راجع موسى وهبه، "ابن رشد وإمكان القول الفلسفيّ"، مجلّة الفكر العربيّ المعاصر، عدد 108-109، مركز الإنماء القوميّ، 1999.
[15]  وَرَد في توطئة كتاب البعط الفلسفيّ بالعربيّ، وهو كتاب قيّد النشر ، ما يلي: "والحراك لا يتعيَّن بذاته ولا بمنطلقه بل بما إليه يسعى. ولذا صحّ القول "البعط الفلسفيّ بالعربيّ" حيث "الفلسفيّ" نعتٌ لاحق و"العربيّ" اسمٌ للسان يُفترض أنّه مبين".
[16]  موسى وهبه، "الحاجة إلى الفلسفة" (حول العدد 63 من مجلّة الفكر العربيّ)، مجلّة الفكر العربيّ، معهد الإنماء العربيّ، عدد 64، بيروت، 1991، ص 245-254.
[17]  يقول وهبه، في محاضرة ألقاها في تونس في عام 2006، بعنوان "هيدغر بالعربيّة"، ما يلي: "مستقبل القول الفلسفيّ بالعربيّة، إمكان قول الفلسفة بالعربيّة منوط إذن باستيضاح الحاجة العربيّة إلى الفلسفة. هل هي حاجة لاستخدام الفلسفة أم لخدمة التفلسف (لراحة العقل كانت القدماء تقول)، وبتأمين المناخ اللغويّ المناسب الذي ليس سوى إحضار التراث الفلسفيّ، وما أسمّيه جسد الفلسفة الحيّ، إلى العربيّة".
[18]  يقول وهبه: "لأنّ التفلسف لا يمكن بدؤه الّا استئنافًا، لا يمكن اختراع الفلسفة في كلّ مرَّة من جديد. إلّا أنَّ التفلسف ليس تقليدًا لما هو قائم فلسفيًّا. بل إنَّه بالضبط خروج على هذا القائم، إنّما خروج فيه" (موسى وهبه، "فلسفة لا ثقافة"، مجلّة فلسفة، مرجع سابق، ص 143).
[19]  "أو هي تعليقات شخصيّة وهوامش على متون غائبة لا تتعدّى "المظانّ" النظريّة لثقافة عامّة (تريد أن تكون معاصرة فترطن بالحداثة وما بعد الحداثة ونهاية الفلسفة ونهاية التاريخ، إلى ما هنالك من إضافات" (موسى وهبه، "إمكان القول الفلسفيّ بالعربيّة"، العربيّة في لبنان، منشورات جامعة البلمند، 1998، ص، 353-373).
[20]  موسى وهبه، "تقويم الترجمة"، في عمّانوئيل كنط، نقد العقل المحض، مرجع سابق، ص 9.
[21]  يقول وهبه في "هيدغر بالعربيّة" : "وإذا لم تكن الفلسفة مجرَّد مجمع أفكار، إذا كانت في الأساس نحوًا وبادرة متّسقة في حركتها، فيجدر بالأحرى عدم الانشغال بالمعنى عن المبنى اللغويّ" (موسى وهبه، "فلسفة لا ثقافة"، مجلّة ثقافة، عدد 1، خريف 2003، بيروت، ص 143).
[22]  يقول دولوز: "غير أن بعضها يتطلّب أيضًا كلمة غير عادية، وأحيانًا بربريّة أو صادمة، عليها أن تشير إليها، بينما يكتفي بعضها الآخر بكلمة شائعة جِدّ عادية تنضح بنغمات متوافقة جدّ بعيدة بحيث لا تُدرِكها أُذنٌ غير فلسفية. يتوسّل البعض كلمات مهجورة، والبعض الآخر ألفاظًا مبتكرة، خاضعة لتمارين اشتقاقيّة شبه مجنونة : الاشتقاق بوصفه ألعاب قوى محض فلسفيّة". أنظر :
G. Deleuze et F. Guattari, Qu’est-ce que la philosophie?, op. cit., p. 13.
[23]  ينقل دولوز بإعجاب عن مارسيل بروست قوله: "تُكتب الكتب الجميلة بنوع من اللغة الغريبة". أنظر :
G. Deleuze, Critique et Clinique, Paris, Éd. de Minuit, 1993, p. 7.
[24]  يقول فوكو: "إنّ عصرنا كلَّه سواء من خلال المنطق أم من خلال الإبستمولوجيا، وسواء، من خلال ماركس أم من خلال نيتشه، يحاول أن يفلت من هيغل، وما حاولت أن أقول لكم حالًا يُعدّ تنكّرًا للوغوس الهيغليّ". ويضيف: "لكن أن نفلت حقيقة من هيغل، فهذا يفترض أن نقدِّر بدقّة ما يُكلّفه الانفصال عنه؛ وأن نعرف إلى أين اقترب، ربما خِلسة، منَّا هيغل؛ وأن نعرف، في ما يسمح لنا التفكير ضدّ هيغل، ما هو أيضًا هيغليّ، وأن نقيس إلى أيّ مدى ما يزال ربما رجُوعنا عنه خدعة يوجِّهها إلينا وينتظر، في نهايتها ثابتاً وفي مكان آخر". أنظر :
M. Foucault, Ordre du discours, Paris, Gallimard, 1970, p. 74-75.
[25]  يقول فوكو: "ولكن ما الفلسفة، أعني النشاط الفلسفيّ، إذًا اليوم إنْ لم تكن عمل الفكر النقديّ على ذاته؟ وإن لم تقم، لا على شرْعنة ما سبقت معرفته، بل على محاولة معرفة كيف وإلى أي حد يمكن التفكير بشكل مختلف؟" أنظر :
M. Foucault, L’usage des plaisirs, Paris, Gallimard, 1984, p. 15.
[26]  "أنا أفصل الفلسفة عن الثقافة من حيث هي بادرة ومن حيث تفلسف. ولكن الفلسفة هي ركيزة الثقافة، والثقافة ترتكز على الفلسفة وتغرف من بحرها، مثلما الطبيعة تأخذ من النهر الذي يجري. ما همّ النهر من ذلك؟! إنّه يتدفّق وحسب. بهذا المعنى لا ينبت العشب إلّا على ضفاف النهر. والمحنة أنّ الثقافة العربيّة بعليّة لم تنهل من النهر الفلسفيّ وليس عندها نهر. ولأنها بعليّة، فهي في حالة تعيسة متردّية، إذ تعيش على حوافي الساقية التي تشرب منها وهي السياسة" (من حوار مع موسى وهبه أجراه الصحافيّ محمّد الحجيريّ إثر صدور مجلّة فلسفة، 2003).

[27]  راجع الفصل الثالث من كتاب جيل دولوز :
G. Deleuze, Différence et répétition, Paris, PUF, 1969, p. 169-217.
[28] يقول دولوز: "على أيّ حال، لم يكن لدينا قطّ مسألة تتعلّق بموت الميتافيزيقا أو تجاوز الفلسفة. هذه ثرثرات عديمة النفع ومتعبة". أنظر :
G. Deleuze et F. Guattari, Qu’est-ce que la philosophie?, op. cit., p. 14.
[29]  عمّانوئيل كنط، نقد العقل المحض، ت. موسى وهبه، مركز الإنماء القوميّ، بيروت، 1988، ط 1.
[30]  موسى وهبه، موسى، "ماذا عسانا نصنع بكنط بالعربيّة اليوم؟!"، في :
A. Labib et J. Ferrari (éd.), Kant, les Lumières et nous, Tunis, Maison Arabe du Livre, 2008, p. 44.
[31]  أنظر نقدنا لترجمة هذا الكتاب في جمال نعيم، جيل دولوز وتجديد الفلسفة، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، 2010، ص 31-33. ويكفي أن نشير إلى الخلط في ترجمة (savoir) و(connaissance) حيث يصرّ فوكو على التمييز بينهما، في حين أنّ يفوت ترجمهما بالكلمة ذاتها. وعندما وَرَدا في الجملة نفسها ترجم (savoir) بمعرفة و(connaissance) بعبارة "معرفة اختباريّة تجري بين ذات وموضوع" (راجع جيل دولوز، المعرفة والسُّلطة: مدخل لقراءة فوكو، ت.سالم يفوت، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، ط1 ،1987، ص25. ويقول فوكو: "أستخدم مصطلح "عِلْمان" (savoir) بتمييزه من مصطلح "معرفة" (connaissance). أقصد بالعلمان سيرورة، تتلقّى الذات عبرها تعديلًا بالنسبة إلى الشيء نفسه الذي تعرفه، أو بالأحرى عند العمل الذي تُجريه من أجل أن تعرف. ذلك أنّه هو الذي يسمح في الوقت ذاته، بتعديل الذات وبناء الموضوع. أمّا المعرفة، فهي العمل الذي يسمح بتكثير المواضيع القابلة للمعرفة، وتطوير وضوحها، وفهم معقوليّتها، لكن بالحفاظ على ثبات الذات التي تبحث". أنظر :
M. Foucault, Dits et écrits, t. IV (1980-1988), Paris, Gallimard, 1994, p. 57.
ويقول في مكان آخر: "يمكن القول إنّ العلمان كحقل تاريخيّ تظهر فيه العلوم، مستقلّ عن كلّ نشاط مكوِّن، ومتحرّر من كلّ رجوع إلى أصل أو إلى غائيّة تاريخيّة مجاوِزة، ومنفصل عن كلّ ارتكاز إلى ذاتيّة مؤسّسة". أنظر :
M. Foucault, Dits et écrits, t. I (1954-1969), Paris, Gallimard, 1994, p. 731.


[32]  يقول دولوز: "نعني بالرواية البوليسيّة أنّ على الأفاهيم أن تتدخّل مع منطقة حضور، لحلّ وضع موضعيّ. فهي تغيّر نفسها مع المسائل. ولها مناطق نفوذ، حيث تُمارس". ويضيف: "أصنع  أفاهيمي، وأعيد صنعها، وأفكُّها انطلاقًا من أفق متحرّك، من مركز منزاح دائمًا، من محيط متنقّل دائمًا، يكرّرها ويفرّقها". أنظر :
G. Deleuze, Différence et répétition, op. cit., p. 7.
[33]  موسى وهبه، "مصطلحات نقد العقل المحض"، مجلّة الفكر العربيّ، عدد 48، معهد الإنماء العربيّ، بيروت، تشرين الأوّل 1987، ص 72.
[34]  سبق لفتحي المسكيني أن رفع هذا الشعار، وهو القائل: "لنقل هذه الحقيقة المفزعة وبلا معاندة: إنّ المترجم هو الفيلسوف العربيّ الوحيد الحاليّ، وذلك أنّه الوحيد الذي يمكّن لغتنا من أن تكتب، مرّة أخرى، وبروحها الخاصة، تلكم النصوص المؤسِّسة التي بها انتصبت لغات الغرب الحديثة مشرَّعة كونيّة للممكن النظريّ وحتى الميتافيزيقيّ لكلّ اللغات" (فتحي المسكيني، "ما معنى أن نترجم اليوم؟ أو في الفيلسوف العربيّ المستحيل الوجود"، مجلّة فلسفة، مرجع سابق، ص 88.
[35]  راجع موسى وهبه، "المشكلة الكنطيّة"، مجلّة الفكر العربيّ، عدد 48، معهد الإنماء العربيّ، بيروت، تشرين الأوّل، 1987، ص 9-32.
[36]  موسى، وهبه، "تقديم الترجمة العربيّة"، مرجع سابق، ص 5-6.
[37]  مرجع سابق، ص 6.
[38]  موسى وهبه، "تقديم الترجمة"، مرجع سابق، ص 6.
[39]  مرجع سابق، ص 6.
[40]  يقول موسى وهبه: "تلك هي إذًا المباحث (Untersuchungen) المنطقيّة، وليس مجرّد الأبحاث (Forschungen) بل ما يتضمّن هذه الأبحاث وما يذهب تحتها و"يستنطِقها" على غرار ما يفعل المحقّق. وهي مباحث في المنطق المحض بوصفه عِلْمِياء (Wissenschaftslehre) (أو علم العلم بالقياس على ما فعلت العرب حين قالت فيزياء وكيمياء على وزن فِعْلِياء). ومباحث بمنهج جديد هو الفيمِياء (Phänomenolgie) (أو علم الفيْنمات جمع فيْنمان، وعلى القياس نفسه بعد إدغام النون في الميم إدْغاما مباحًا بالعربيّة، وبعد تمييز الفَيْنُمان الظاهر في الوعي من مجرَّد الظاهرة في الخارج، وبذلك استبعدْت لفظَي الظاهراتيّة والظواهريّة تجنّبًا للخطأ ولفظ الفينومينولوجيا تجنبًّا للثقل)" (موسى وهبه، "مقدّمة المترجم"، في إدموند هوسّرل، مباحث منطقيّة، ت. موسى وهبه، مجلَّد أوّل، بيروت، 2011، ص 6). 
[41]  قال تعالى في الآية (90) من سورة يونس:"وجَاوَزنا ببني إسرائيل البحر".
[42]  موسى وهبه، "تقديم الترجمة"، في عمّانوئيل كنط، نقد العقل المحض، ت. موسى وهبه، طبعة منقّحة، دار التنوير، بيروت، 2015، ص .9.
[43]  موسى وهبه، "مقدّمة المترجم"، في إدموند هوسّرل، مباحث منطقيّة، المجلّد الأول، ت. موسى وهبه، كلمة بالاشتراك مع المركز الثقافيّ العربيّ، الطبعة الأولى، بيروت، 2010، ص 8.
[44]  يقول دولوز: "نحلم أحيانًا بتاريخ للفلسفة قد يكتفي بتعداد الأفاهيم الجديدة التي يأتي بها فيلسوف كبير، أي مساهمته الإبداعيّة الأكثر أساسيّة". أنظر :
G. Deleuze, Deux  régimes de fous. Textes et entretiens 1975-1995 (édition préparée par D. Lapoujade), Paris, Éd. de Minuit, 2003, p. 347.
[45]  موسى وهبه، "تقديم الترجمة"، مرجع سابق، ص 14-15.
[46]  موسى وهبه، "جيل دولوز وصناعة الأفهوم"، مجلّة الفكر العربيّ المعاصر، عدد 152– 153، مركز الإنماء القوميّ، بيروت-باريس، خريف 2010، ص 150. وقد جاء هذا الكلام في إطار ندوة نظّمها مطاع صفدي بمناسبة صدور كتاب جيل دولوز وتجديد الفلسفة.
[47]  موسى وهبه، "النقديّة (الفلسفة النقديّة)"، الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، المجلَّد الثاني، معهد الإنماء العربيّ، بيروت، الطبعة الأولى، ص 1368.
[48]  كان بودّي أن أتكلّم قليلًا على إضاءات وهبة بخصوص ترجمة هيدغر إلى العربيّة، لاسيَّما أنّه أصرّ على ترجمة الأفهوم الأساسيّ لهيدغر (Sein) بـ كوْن وليس بـ وجود ولا بكينونة. كما ترجم (Dasein) بـ الهذيَّة. لكنِّي فضَّلت عدم التطرّق إلى هذا الجانب نظرًا إلى أنَّ غالبيّة كتاباته التي نشرها أتت قبل ترجمة فتحي المسكيني لكتاب هيدغر الرئيسيّ الكون والزمان. وهو لم يعلّق على هذه الترجمة التي جاءت بعنوان الكينونة والزمان. ولدى وهبة ترجمة هامّة لأجزاء من هذا الكتاب نُشرت في مجلّة فلسفة، عدد أوّل. كما لديه نصَّان أساسيّان آخران هما "هيدغر بالعربيّة"، وهو عبارة عن محاضرة ألقاها في تونس 2006، ونصّ "هيدغر: ما الإنسان؟"، وهو عبارة عن محاضرة ألقاها في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة (الجامعة اللبنانيّة). وقد نشرت مجلّة اتّجاه هذا النصّ الأخير في عددها (32)، شتاء 2016.
[49]  رغم جرأته المبكِّرة في تأليف كتاب عن هوسّرل، ورغم أنّه لاحظ الفرق بين (Erscheinung) و Phänomen))، فإنّ أنطوان خوري لم يميِّز هذين المصطلحين بلفظين مختلفين بالعربيّ، وبقي يستعمل لفظَي الظاهراتيّة والفينومينولوجيا. راجع أنطوان خوري، مدخل إلى الفلسفة الظاهراتيّة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1984، ص 74، 85، 88، 207.
[50]  موسى وهبه، "مقدّمة المترجم"، في إدموْند هوسّرل، مباحث منطقيّة، مرجع سابق، ص 7.
[51]  المرجع السابق، ص7-8. وكان وهبه قد تخلَّى عن هذا التوليد، فأصبح يكتب "موضوع"، أي وضع كلمة موضوع بين مزدوجين، للمعنى الأوّل، ويكتب موضوع للمعنى الثاني، أي أنّه تخلَّى عن موضَّع وموضَّعيّ.