الخميس، 16 يوليو 2020

بنية الثورات العلمية؛ توماس كوهن (نصوص مقتبسة)




بنية الثورات العلمية
توماس كوهن. ترجمة شوقي جلال.



فهرس الموضوعات
مقدمة ٧
تصدير للمؤلف ١٩
الفصل الأول: مدخل: دور للتاريخ ٢٩
الفصل الثاني: السبيل إلى علم قياسي ٣٩
الفصل الثالث: طبيعة العلم القياسي ٥٣
الفصل الرابع: العلم القياسي و حل الألغاز ٦٧
الفصل الخامس: أسبقية النماذج الإرشادية ٧٧
الفصل السادس: الشذوذ و انبثاق الإكتشافات العلمية ٨٧
الفصل السابع: الأزمة و انبثاق النظريات العلمية ١٠٣
الفصل الثامن: الإستجابة للأزمة ١١٥
الفصل التاسع: الثورات العلمية طبيعتها و ضرورتها ١٣١
الفصل العاشر: الثورات باعتبارها تحول في النظرة إلى العالم ١٥١
الفصل الحادي عشر: الثورات و طابعها الخفي ١٧٧
الفصل الثاني عشر: انحلال الثورات ١٨٧
الفصل الثالث عشر: الثورة سبيل التقدم ٢٠٥
من مقدمة المترجم
إن توماس كون بقدر ما أثار من اهتمام ودويّ، أثار شكوكا وانتقادات.
وانصب اتهامه بالذاتية أو النسبية الذاتية بسبب مشكلة الانتقال من نموذج إرشادي إلى آخر-أي الثورة العلمية التي تعنى فـي رأيـه الانـتـقـال إلـى عـالـم مـغـايـر إدراكيا ومفاهيميا غير العالم الذي يعمل فيه البـاحـث.
لـقـد تـغـيـر الـعـالـم لمجرّد إبدال النموذج الإرشادي [البراديغم]. إن الباحث العلـمـي عـقـب إبـدال الـنـمـوذج الإرشادي، أي عقب الثورة العلمية، يرى العالم في صورة مختلفة? بل إن ما كان بديهيا لم يعد جزءا من خبرته حتى وإن اسـتـخـدم ذات المـصـطـلـحـات القديمة. ذلك أن الصيغ والقواعد والمصطلحات تأخذ معنى كيفيا جديدا في إطار الصورة الكلية الجديدة ذات الدلالة المغايرة. معنى هذا أن الإبدال أو التحول أو الثورة ليست لها أسباب منطقية أو تجريبية. ويـرى كـون فـي هذا دليلا على وجود عناصر لا عقلية في تاريخ العلم.
وناقش كتاب كثيرون المشكلات الفلسفية لفكرة تغير النماذج الإرشادية، ودلالة ذلك بالنسبة لجدوى الحوار بين المجتمعات العلمية التي تلتزم بنماذج إرشادية متباينة، وأيضا إمكانية فهمنا نحن المعاصرين للمجتمعات البدائية. وعنى هؤلاء المفكرون أساسا بفكرة «النسبية» المترتبة على رأي كون من أن النماذج الإرشادية يمكن النظر إليها باعتبارها تستجيب إلى عوالم مختلفة ومن ثم يتعذر التفاهم بينهم،  ويستحيل حسم الخلاف باللجوء إلى أي لغة خارج النموذج الإرشادي، بمعنى أن الحوار بين الثقافات هو حوار طرشان.
(شوقي جلال صفحة 13)
وأن أخطر ما وجهه المفكرون من نقد لنظرية كون يتعلق بتعريفه للمنهج العلمي ومعاييره الخاصة بالتمييز بين العلم وغير العلم على نحو أوقعه في تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم. ذلك أن كون يساوي بين مناهج بحث الأقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت، وعلى الرغم مما يراه انقطاعا بين النظريات في التاريخ. ومنهج كون هذا يفضي، كما يرى منتقدوه، إلـى نسبية المعرفة. فكل معرفة صحيحة قياسا إلى نسقها وبالنسبة إلى نموذجها الإرشادي، دون معايير للحكم على الصواب والخطأ غير الرجوع إلى السياق أو النموذج الإرشادي. ويفضي هذا المنهج أيضا إلى التهوين من شأن التحليل العقلي كمعيار حاسم في البحث العلمي. وبهذا نفتقد الدليل العقلي الذي يميز به بين العلم وغير العلم، مثلما نفتقد معايير قياس التقدم العلمي. وما دام الرأي عند كون أن نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وآينشتاين جميعها نظريات علمية على قدم المساواة، فليس غريبا أن يظل الباب مفتوحا، ولو نظريا حسب منهج كون، لاحتمالات عودة نظرية قديمة لتحل محل أخـرى جديدة طالما أننا لا نملك المعيار. (15)

تصدير للمؤلف

كنت.. طالبا بـالـدراسـات العليا، أدرس الفيزياء النظرية وقـد أوشـكـت عـلـى الانتهاء من رسالتي لنيل درجة الدكتوراه. وأسعدني الحـظ بـأن شـاركـت فـي مــقــرر دراســي تجــريــبــي بالجامعة عن علم الفيزياء لغير المتخصصين،  فهيأ لي هذا فرصة الاطلاع لأول مرة على تاريخ العلم. وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدت أن اطلاعي على نظريات وممارسات علمية فات أوانها قد هدم جذريا بعض مفاهيمي الأساسية عن طبيعة العلـم وأسباب نجاحه الملحوظ. (توماس كوهن؛ 19)
وواصلت بوجه خاص دراسة كتابات ألكسندر كواريـهKoyre Alexandre .. واطّلعت لأول مرة علـى كـتـابـات أمـيـل مـايـرسـون وهلين متسجر وانيليز ماير. وكشفت لي هذه المجموعة على نحوٍ أوضح بكثير مما كشف لي باحثون آخرون معاصرون، عن الصورة التي كان يفكر بها المؤء علمياً خلال حقبة كانت قواعد الفكر العلمي فيها مغايرة تماماً للقواعد السائدة اليوم. (20)
صادفتني حاشية لأحد الكتب فإذا بها تقودني إلى التجارب التي أجراها جان بياجيه وألقى بها ضوءاً كاشفاً على كل من مختلف عوامل نموّ الطفل وعلى عملية الانتقال من مرحلة إلى مرحلةٍ أخرى من مراحل النمو. وهيّأ لي أحد زملائي فرصة قراءة دراساتٍ عن سيكولوجيا الإدراك وبخاصة دراسات علماء مدرسة الجشطالت السيكولوجية. وأطلعني زميل آخر على تأملات ب. ل. ورف  Whorf بشأن أثر اللغة على رؤية الإنسان للعالم. (20)
قـضـيـت عـامـا كـامـلا وسط مجتمع يضم أساسا علماء متخصصين في العلوم الاجتماعية واجهوني بمشكلاتٍ لم أعهدها من قبل تتعلق بأوجه الاختلاف بين هذا الطراز من الجماعات وبين جماعات علماء الطبيعة الذين نشأت بينهم. وأذهلني بوجه خاص كم ومدى الاختلافات الصريحة فيما بين العلماء الاجتماعيين  بشأن طبيعة المشكلات والمناهج العلمية المشروعة. وأثار كلٌّ من التاريخ والتعرف المباشر شكوكي في أن من يمارسون العلوم الطبيعية لديهم إجاباتٌ على هذه المسائل أشدّ رسوخاً أو أكثر دواماً وتحديداً مما لدى زملائهم في مجال العلوم الاجتماعية. ومع هذا يمكن القول بصورةٍ أو بأخرى إن ممارسة علوم الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء لا تثير جدالاً بشأن القضايا الأساسية كذلك الذي يبدو اليوم واسع الانتشار بين علماء النفس أو علماء الاجتماع على سبيل المثال. وندما حاولت استكشاف مصدر هذا الاختلاف، قادتني المحاولة إلى إدراك الدور الذي يقوم به في مجال البحث العلمي ما اصطلحت على تسميته منذ ذلك الحين "النماذج الإرشادية" pradigme [النماذج المرجعية]، وأقصد بذلك الإنجازاتِ العلميةَ المعترف بها عالمياً والتي تمثل في عصرٍ بذاته نماذج للمشكلات والحلول بالنسبة لجماعةٍ من الباحثين العلميين. وما إن تسنّى لي حلّ هذا الجزء من اللغز الذي حيّرني حتى انبثق على الفور مشروع هذه الدراسة [أي كتاب "بنية الثورات العلمية"]. (كوهن؛ 22)

[المنهج والوصول إلى أساطير]

في الوقت [الذي] يواجه المؤرخون أنفسُهم صعاباً ومشكلاتٍ متزايدةً في سبيل التمييز بين المركبات  الـعـامـة للمكوّن «العلمي» في المشاهدات ومعتقدات الماضي وبين ما وصفه أسلافهم من قبل وبصورة قاطعة بأنه «خطأ» «خرافة». وكلما ازدادوا حرصا وتدقيقا في دراستهم مثلا لديناميكا أرسطو أو كيمياء الفلـوجـسـتـون كـلـمـا ازدادوا شعوراً بأن تلك الآراء التي كانت سائدةً يوماً ما عن الطبـيـعـة لـم تـكـن فـي جملتها أقل علمية،  ولا أكثر طواعية للطبيعة الإنسانية من الآراء السائـدة اليوم. وإذا كان لا بدَّ وأن نصِفَ تلك المعتقداتِ التي قدُم بها العهـدُ بـأنـهـا أساطير، إذاً فإن المناهجَ التي أفْضَت إلى هذه الأساطير والأسباب الـتـي دعَت إلى الإيمان بصدقها هي نفسُ المناهجِ والأسبابِ التي تقودنا الآن إلى المعرفة العلمية. وإذا كان لزاماً، على العكس من ذلك، أن ندرجَها ضمن مقولة العلم إذاً فإن العلم قد اشتمل على مجموعات من العقائد المتناقضة تماماً مع العقائد التي نؤمن بها اليوم. وإزاء هذين البديلين لا يجد المؤرخ مناصاً من اختيار البديل الثاني.
إن النظريات البائدة ليست من حيثُ المبدأُ نظرياتٍ غيرَ علميةٍ لأننا نبذناها. بيد أنّ هذا الخيار يجعل من العسير علينا أن نرى التطور العلمي في صورةٍ علميةٍ متناميةٍ تراكمياً. وإن البحث التاريخي الذي يكشف عن مدى الصعوبات التي تواجه اتحديد وفرز الابتكارات والاكتشافات الفردية هو نفسه الذي يثير فينا شكوكاً عميقةً فيما يختص بالعملية التراكمية التي قيل إنها جمعت هذه الإسهامات الفردية في مركبٍ واحد لتؤلف معاً العلم. (31)
محصلة كل هذه الشكوك والمشكلات حدوث ثورة تتعلق بالمناهج التاريخية في دراسة العلم وإن كانت لا تزال هذه الثورة في مراحلها الأولى. إذ بدأ مؤرخو العلم تدريجياً، ودون أن يدركوا في الغالب ما هم بصدده، يسألون أسئلةً من نوعٍ جديد، كما شرعوا في تتبع تطور العلوم عبر مسارات مختلفة وهي غالباً مساراتٌ أقلُّ ما توصف به أنها تراكمية. وبدلاً من أن يسعَوْا بحثاً عن الإسهامات الدائمة لعلوم الأقدمين في سبيل تفوّقنا الراهن، (31) نراهم يحاولون بيان التكامل التاريخي لذلك العلم مع عصره الذي نشأ فيه. إذ نراهم على سبيل المثال لا يسألون عن علاقة آراء غاليليو بآراء العلم الحديث، بل عن العلاقة بين آرائه وآراء جماعته أي أساتذته ومعاصريه وخلفائه في العلم الذين جاؤوا بعده مباشرة. زد على ذلك أنهم يشددون على دراسة آراء تلك الجماعة وآراء جماعات أخرى مماثلة حسب وجهة نظر مخالفة عادةً لوجهة نظر العلم الحديث، تسبغ على تلك الآراء أعلى قدر من التجانس الداخلي وأقصى قدرٍ من التطابق مع الطبيعة. وإذا نظرنا إلى العلم من خلال الأعمال التي صدرت كمحصلة لهذا الجهد، ولعل أهم ما يمثّلها كتابات ألكسندر كويري، فإن العلم يبدو محاولة مختلفة تماماً عما ألف عرضه كتّاب التراث التاريخي السابقون في كتبهم. إذ توحي هذه الدراسات التاريخية، ولو ضمناً على الأقل، بأنّ ثمّة إمكانيةً لوضع صورة جديدة عن العلم.
وتهدف هذه الدراسة التي بين يدي القارئ إلى أن ترسم بدقة ملامح تلك الصورة من خلال الإفصاح عن بعض مضامين منهج التأريخ الجديد.
ما هي أوجه العلم التي ستبرز ويتمخّض عنها هذا الجهد؟ أولاً، وحسب ترتيب العرض على الأقل، قصور التوجيهات المنهجية عن أن تضع وحدَها نهايةً موضوعيةً وحيدةً لكثيرٍ من المسائل العلمية. إذ لو طلبنا من شخصٍ أن يدرس الظواهر الكهربائية أو الكيميائية وهو جاهلٌ بهذين المجالين ولكنه يعرف ما هو المنهج العلمي في البحث فإنه قد ينتهي بصورةٍ منطقية إلى أيّ نتيجةٍ من النتائج المتضاربة. ومن بين هذه النتائج الممكن منطقياً نجد أن النتائج الخاصة التي انتهى إليها إنما قد تحددت بفعل خبرته السابقة في مجالات أخرى، وفي ضوء الأحداث العارضة التي صادفته في بحثه وكذلك تكوينه الفردي المميّز.
 (32)

الفصل الثاني: السبيل إلى علم قياسي ٣٩


العلم القياسي:
عبارة "علم قياسي" في هذه الدراسة تعني البحث الذي رسّخ بنيانه على إنجازٍ أو أكثر من إنجازات الماضي العلمية. وهي إنجازاتٌ يعترف مجمتمع علمي محدّد، ولفترةٍ زمنية، بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية مستقبلاً.
[النماذج الإرشادية]
.. جمَعَتْ [العلوم الكلاسيكية] بين خاصّيتين جوهريتين. كانت إنجازاتها عظيمة الشأن غيرَ مسبوقةٍ مما يؤهلها لكسب أنصار دائمين لها وصرفهم عن أساليبَ أخرى منافسةٍ لها في النشاط العلمي. وكانت في الوقت ذاته مفتوحةً رحبةً لم تزعم أنها فصل الخطاب بل فتحت الباب لجميع أنواع المشكلات لكيّ يتولى حلّها فريقُ المشتغلين بالعلم بمفهومه الجديد.
وسوف أشير من الآن فصاعداً إلى الإنجازات التي تجمع هاتين الخاصيتين بوصفها "نماذج إرشادية".
ويرتبط هذا المصطلح ارتباطاً وثيقاً بعبارة "العلم القياسي". (40)
[العلم القياسي بحثٌ قدم إنجازاتٍ ماضية يعترف مجتمعٌ علميٌّ بأنها تشكل أساس ممارسات علمية مستقبلاً]
[النموذج الإرشادي، نموذج علمي يكتسب أنصاراً، انفتح على مشكلات جديدة للشغل على حلّها.]

الفصل الثالث: طبيعة العلم القياسي ٥٣


ـ ليس من أهداف العلم القياسي في أيِّ ناحيةٍ من نواحيه استحداث، أو تسليط الأضواء على أنواعٍ جديدةٍ من الظواهر، والحقيقة إن الظواهر التي لا تتلاءم مع الإطار غالباً ما تغفلها الأنظار تماماً. ولا يهدف العلماء عادةً إلى ابتكار نظرياتٍ جديدةٍ، وغالباً ما لا يتسامحون مع النظريات التي يبتكرها غيرُهم. ويجري بدلاً من ذلك توجيه البحث العلمي القياسي في اتجاه الإبانة عن الظواهر والنظريات التي زُوِّدنا بها من قبل النموذج الإرشادي. (55)
يمتلك العلم القياسي آليةً "ميكانيزم" ذاتيةً تنزع إلى تخفيف سطوة القيود عن أداء دوره بكفاءة وفعالية. هنا، وعند هذه النقطة، يبدأ سلوك العلماء في التباين، وتغير اطبيعة مشكلاات بحثهم. ولكن في غضون ذلك، وخلال الفترة التي يؤدي فيها النموذج الإرشادي دورَه بنجاح يكون أبناء المهنة قد فرغوا من حلّ مشكلات كان من المتعذّر عليهم تصورها، وما كان بالإمكان الاضطلاع بأمر حلّها دون الالتزام بالنموذج الإرشادي. يثبت دائماً أنّ جانباً على الأقل من ذلك الإنجاز أو تلك الحلول باقٍ ودائم. (55)
ربما لا يكون واضحاً أنّ النموذج الإرشادي شرطٌ مسبَق لاكتشاف قوانين من هذا النوع. ونحن غالباً ما نسمع أنه تمّ اكتشافها عن طريق فحص قياسات اضطلع الباحثون بها من أجلها فقط ودون أي التزام نظري، ولكن التاريخ لا يقدّم لنا أيّ سند يدعم مثل هذا النهج المفرط في طابعه البيكوني (نسبةً إلى فرنسيس بيكون الفيلسوف الإنجليزي ـ المترجم. [المقصود هنا المبالغة في إعطاء الأهمية للتجربة دون أي اعتبار لأفكار أو فرضيات مسبقة]). فإن تجارب بويل لم يكن بالإمكان تصورها (ولو حدث وأمكن تصورها لأخذت تفسيراً آخر مغايراً، أو لم تجد لها تفسيراً على الإطلاق) إلا بعد أن سلّم الباحثون بأن الهواء أشبه بسائلٍ مرن، يمكن أن تنطبق عليه جميع المفاهيم التفصيلية عن الهيدروستاتيكا. (59)

إن العمل بموجب نموذج إرشادي لا يمكن أن يجري بأيّ وسيلةٍ أخرى، والتخلي عن النموذج الإرشادي، أو العمل بدونه، يعني التوقف عن ممارسة العلم الذي يحدده النموذج. ولكن سوف يبين لنا بعد قليل أن مثل هذا التخلي يحدث أحياناً. وتكون حالات التخلي هذه هي المرتكز أو المحور الذي تدور حوله الثورات العلمية. (65)
.. الملاحَظ على مدى القرن الثامن عشر أن العلماء الذين حاولوا استنتاج حركة القمر المشاهَدة من قوانين نيوتن عن الحركة والجاذبية قد أخفقوا في مسعاهم دائماً وأبداً. ونتيجة لذلك اقترح بعضهم إبدال قانون التربيع العكسي بقانون آخر انحرف عن ذلك قليلاً. ولكن لكي يحدث ذلك كان لا بد من تعديل النموذج الإرشادي وتحديد لغزٍ جديد والتخلي عن حلّ اللغز القديم. وعندما حدث ذلك أبقى العلماء على القواعد إلى أن اكتشف أحدهم في عام 1750 كيف يمكن تطبيقها بنجاح.
ذلك أنّ التغير في قواعد اللعبة هو وحده الذي يوفّر البديل.

الفصل الرابع: العلم القياسي و حل الألغاز ٦٧


الفصل الخامس: أسبقية النماذج الإرشادية ٧٧


.. القواعد الصريحة حين توجد، تكون عادةً مشتركةً مع جماعة علمية واسعة جداً، ولكن النماذج الإرشادية ليست كذلك. والجدير بالملاحظة أنّ الباحثين في مجالات مستقلّة ومتباينة، لنقل مثلاً الفلك وعلم النبات التصنيفي إنما يتعلمون من خلال تلقيهم لإنجازات شديدة التباين يجري عرضها في كتبٍ شديدة الاختلاف. بل إن الباحثين الذين يضمُّهم واحدٌ أو عدة مجالات وثيقة الصلة ببعضها، ويبدأون بدراسة عامة لنفس الاكتشافات ونفس الكتب يكتسبون نماذج إرشادية مختلفة خلال عملية التخصص المهني.
ولنتأمّل مثالاً وحيداً، المجتمع الواسع للغاية، والتباين كثيراً، الذي يضمّ جميع علماء الفيزياء. إن كل واحدس من أبناء هذا الفريق يتعلّم الآن، لنقل مثلاً قوانين ميكانيكا الكم، ويستخدم أكثرهم هذه القوانين في هذا الموضع أو ذاك من بحوثهم أو تعليمهم. ولكنهم لا يتعلّمون جميعاً ذات التطبيقات لهذه القوانين، ولهذا فإنهم لا يتأثرون جميعاً بطريقة واحدةٍ بالتغيرات التي تطرأ على مجال ممارسة ميكانيكا الكمّ. ويحدث أثناء عملية التخصص ألا يصادف بعض علماء الفيزياء سوى المبادئ الأساسية لميكانيكا الكمّ. هذا بينما يدرس آخرون بإفاضة وتفصيل تطبيقات النموذج الإرشادي لهذه المبادئ على الكيمياء بينما يدرسها آخرون في التطبيقات على فيزياء الجوامد.. وهكذا، وبالكتب الدراسية التي قرأها، والصحف العلمية التي طالعها ويطالعها. يلزم عن هذا أنه على الرغم من أن تحولاً معيّناً في قانون الكم سيمثل حدثاً ثورياً في نظر جميع هذه الفرق، إلا أنّ التحوّل الذي ينعكس فقط على هذا النموذج الإرشادي أو ذاك لتطبيقات ميكانيكا الكمّ قد لا يكون بالضرورة ثورياً بالنسبة لأعضاء تخصص فرعي مهني بذاته. أما بالنسبة لبقية المهنة وبالنسبة لأولئك الذين يعملون في مجال آخر من مجالات علم الفيزياء، فليس من الضروري وصف هذا التحوّل بالثورية على الإطلاق. وصفوة القول إنه على الرغم من أن ميكانيكا الكمّ (أو ديناميكا نيوتن أو النظرية الكهرومغناطيسية) تعدّ نموذجاً إرشادياً لجماعات علمية كثيرة، إلا أنها ليست ذات النموذج الإرشادي لهم جميعاً. وهكذا يمكنها أن تحدد في آن واحد تقاليد عديدة للعلم القياسي التي تتوافق زماناً دون أن تتطابق مجالاً. إذ إن حدوث ثورة في إطار تقليدي من هذه التقاليد لا تمتد بالضرورة إلى التقاليد الأخرى بالمثل. (85)

الفصل السادس: الشذوذ و انبثاق الإكتشافات العلمية ٨٧


لنسلّم جدلاً الآن أن الاكتشاف يشتمل على عملية للاستيعاب المفاهيمي، وأنها عملية بطبيعتها ممتدة في الزمان، وإنْ لم تكن لمدة طويلة بالضرورة. هل يمكن لنا أن نقول أيضاً أنها تشتمل على تحوّل في النموذج الإرشادي؟ لا يمكن أن نقدم إجابةً عامةً على هذا السؤال الآن، ولكي يتعيّن، في هذه الحالة على الأقل، أن نجيب بنعم. إن ما أعلنه لافوازييه في أوراقه منذ عام 1777 فصاعداً لم يكن اكتشاف الأوكسجين بقدر ما هو نظرية الاحتراق بفعل الأوكسجين. ولقد كانت هذه النظرية حجر الزاوية لإعادة صياغة الكيمياء صياغةً جديدة واسعة النطاق بحيث إنها توصف عادةً بالثورة الكيميائية. (92)
[الشذوذ]
كان إدراك الشذوذ ـ أي إدراك ظاهرة لم يكن الباحث مهيّأَ لها بمقتضى النموذج الإرشادي المعمول به ـ له دورٌ هامٌ في تمهيد الطريق لإدراك الجديد.. إن الظن بأنّ شيئاً م وقع عن طريق الخطأ هو فقط المقدمة على طريق الاكتشاف. إذ لم يظهر الأوكسجين ولا الأشعة السينية إلا بعد مزيد من التجارب والاستيعاب.
ولكن عند أيّ نقطة س في بحوث رونتجن ينبغي، على سبيل المثال، أن نقول هنا تم اكتشاف الأشعة السينية فعلاً؟
لن يكون ذلك على أية حال في اللحظة الأولى التي كان كل ما شاهده وقتها هو توهج الساتر. ولا بد أن باحثاً آخر على الأقل سبق له أن رأى هذا التوهج ولكنه لسوء حظه، الذي تبيّنه فيما بعد، لم يكتشف شيئاً على الإطلاق. كذلك، ونبفس القدر من الوضوح، لم يكن بالإمكان إرجاء لحظة الاكتشاف إلى الأسبوع الأخير من البحث حيث النقطة التي كان رونتجن يستكشف عندها خصائص الإشعاع الجديد الذي اكتشفه قبل ذلك. إن كل ما يمكن أن نقوله هو أن الأشعة السينية ظهرت في بلد فورزبرج فيما بين 8 نوفمبر تشرين الثاني و28 ديسمبر كانون الأول من عام 1895. (94)
[يرى كون بأن وجود النظريات السابقة مهمٌ من أجل التطويرات اللاحقة، حتى ولو كانت إثباتاً لخطأ النظرية السابقة، بل بسبب ذلك بالتحديد، لأن مراقبة الظاهرة بناءً على ما نتوقعه منها استناداً إلى النموذج الإرشادي، هو الذي ينبهنا إلى خرقه لما كان متوقعاً، وبالتالي تدفع العلماء إلى البحث عن نموذج جديد يصلح للتوقع الصحيح]

يقول كون "فبدون الجهاز الخاص [النموذج الإرشادي] الذي أنشئ أساساً للوصول إلى نتائج مقدّرة سلفاً، يمكن ألا تحدث النتائج التي تفضي في النهاية إلى التجديد المبدع. بل وعندما يكون الجهاز موجوداً لا ينبثق الجديد عادةً إلا للشخص الذي يعرف بدقة ما الذي يجب عليه أن يتوقعه، ومن ثم يكون قادراً على إدراك أن خطأً ما قد حدث. إن الشذوذ لا يظهر إلا مقابل خلفية يهيّئها النموذج الإرشادي. فكلما كان النموذج الإرشادي أكثر دقة وأبعد مدىً كلما زودنا بمؤشر أشد حساسية يكشف عن الشذوذ امن ثم يتيح فرصةً لتغيير النموذج الإرشادي. والملاحَظ في عملية الاكتشاف العادية أن المقاومة ذاتَها ضد التغيّر لها فائدة... إذ إنّ ضمان النموذج الإرشادي لن يستسلم بسهولةٍ يعني أن المقاومة تضمن عدم تشوش فكر العلماء وصرف انتباههم بسرعة ودون موجب، وأنّ مظاهر الشذوذ التي تفضي إلى تغيّر النموذج الإرشادي سوف تنفذ إلى المعارف القائمة حتى النخاع. وإذا كان الواقع يشهد بأن إبداعاً علمياً هاماً غالباً ما يظهر في آنٍ واحدس في العديد من المعامل، إنما يعدّ مؤشراً يدلّ على الطبيعة التقليدية الصلبة للعلم القياسي، كما يدل على أنّ هذا المشروع التقليدي إنما يمهّد بصورةٍ كاملةٍ ومحكَمةِ السبيل إلى تغييره هو ذاته. (102)

الفصل السابع: الأزمة و انبثاق النظريات العلمية ١٠٣


ـ [تجاوز الصعوبات من خلال تعقيد النظرية لن يحل المشكلة]:
استطاع علماء الفلك عن بكرة أبيهم محوض التضارب الذي صادفهم وذلك بإدخال تعديل على مذهب بطليموس عن طريق الدوائر المركّبة، ولكن بمرور الزمن فإن كل من يتأمل الحصيلة النهائية الصافية لجهود البحث القياسي للكثيرين من علماء الفلك يلحظ بسهولة أنّ علم الفلك ازداد تعقداً باطّراد بمعدل أسرع من الزيادة في دقته، وأن تصويب التضارب في موضعٍ ما سرعان ما يكشف عن نفسه كمشكلةٍ واضحةٍ في موضع آخرة. (106)

استجابة العلوم إلى الأزمات


لنفترض أنّ الأزمات شرطٌ أوّليٌ ضروريٌّ لانبثاق نظرياتٍ جديدة، ولنسأل أنفسنا بعد ذلك كيف يستجيب العلماء لهذه الأزمات عند حدوثها. إنّ جانباً من الإجابة، هامّاً وواضحاً في آنٍ واحد، يمكن اكتشافُه إذا ما لاحظنا أوّلاً ما لا يفعلُه العلماءُ عندما تواجهُهم حالاتُ شذوذٍ حتى وإن كانت شديدةً وطويلةَ الأمد. فعلى الرغم من أنّهم قد يبدأون في التخلي عن ثقتهم التامّة، ومن ثَمّ التفكير في نظرياتٍ بديلة، إلا أنّهم لا يتخلَّوْن عن النموذج الإرشادي الذي أفضى بهم إلى الأزمة. (115)
.. ما إنْ تبلغُ النظريةُ العلمية مرتبةَ النموذج الإرشادي [البراديغم]، حتى تثبت [أي تتجمد]، ولا يعلن البتة أنها أضحت غيرَ ذاتِ قميةٍ إلا بعد أن تتيسّر نظريةٌ أخرى منافسة تكون بديلاً عنها وتحلّ محلّها. (116)

[مأساة رفض النموذج المأزوم]:
.. عندما يقال على سبيل التعميم إنّ العلماء لا ينتهون إلى رفض النماذج الإرشادية إذا ما واجهتهم حالات شذوذ أو شواهد مناقضة. إنهم يعجزون عن ذلك إذا أرادوا أن يظلوا علماء. (117)
إن بعضَهم قد اضطُروا كرهاً، دون شك، إلى أن يهجروا العلم بسبب عجزهم عن تحمّل الأزمة. ولكن التاريخ يستبعد أن يحتفظ بأسمائهم. إنّ العلماء المبدعين مثلهم مثل الفنانين يجب أن يكونوا قادرين بين الحين والحين على العيش في عالمٍ متنافر ـ وقد وصفتُ تلك الضرورة في موضع آخر بقولي إنها "التوتر الجوهري" الذي ينطوي عليه البحث العلمي.
بيد أنني أعتقد أن رفض العلم على هذا النحو والتوجه إلى عملٍ آخر هو النوع الوحيد لرفض النموذج الإرشادي الذي يمكن أن تفضي إليه الشواهد المناقضة من تلقاء نفسها. وما إن يتم الاهتداء لأول مرة إلى نموذج إرشادي يرى الباحثون من خلاله الطبيعة حتى يتوقف إجراء أيّ بحثٍ بعد ذلك في غيبة نموذجٍ إرشاديٍ ما. ويصبح رفض النموذج الإرشادي دون إحلال غيره محلَّه في ذات الوقت بمثابة رفضٍ للعلم نفسه. ولا ينعكس أثر هذا السلوك على النموذج الإرشادي بل على الإنسان. إذ ينظر أقرانه إليه نظرتهم إلى النجّار الذي يلقي اللوم على عُدَّته. (117)
ويمكن أن نؤكّد هذه الفكرة ذاتها بطريقٍ عكسي: فلا يوجد بحثٌ علمي بدون شواهد مناقضة. إذ ما الذي يفرّق بين العلم القياسي وبين العلم في حالة أزمة؟ ليس السبب يقيناً أن الأول لا يواجه شواهد مناقضة. بل على العكس تماماً، إن ما سمّيناه قبل ذلك الألغاز التي تؤلف العلم القياسي إنما توجد فقط لأن أيّ نموذج إرشادي معتمد لدى الباحثين كأساس البحث العلمي لا يمكن أبداً أن يحلّ بشكلٍ كاملٍ وتامّ جميع مشكلات هذا العلم، وإذا كانت هناك حالاتٌ نادرةٌ جداً لنماذجَ إرشاديةٍ بدا أنها حققت ذلك (البصريات الهندسية على سبيل المثال) فإنها سرعان ما توقفت عن طرح أيِّ مشكلة للبحث بل وتحولت إلى أدوات لمهارات تقنية [؟]. ومن ثم فإن كلّ مشكلة، ينظر إليها العلم القياسي باعتبارها لغزاً يمكن النظر إلها من زاويةٍ أخرى باعتبارها شاهداً مناقضاً، وبالتالي مصدر الأزمة باستثناء تلك التي تحوّلت كلية إلى أدواتس مساعدة. فإن كل ما اعتبره أكثر خلفاء بطليموس ألغازاً عند التوفيق بين المشاهدة [أي التجربة] والنظرية، رآه كوبرنيكوس شواهدَ مناقضة. كذلك فإن ما اعتبره بريستلي لغزاً تمّ حلّه على نحوٍ جيد في إطار نظرية الفلوجستون إنما رآه لافوازييه شواهدَ مناقضة. ونفس الشيء مع آينشتين، فإن مارآه كلٌ من لورينتز وفتزجرالد وغيرهما في إطار صياغة نظرية نيوتن ونظرية ماكسويل، رآه آينشتين شواهد مناقضة علاوةً على ذلك فإن وجود الأزمة ذاته لا يحوّل اللغز تلقائياً إلى حالةٍ معاكسة. إذ ليس ثمة خطٌ فاصلٌ حاد على هذا النحو. بل إن تكاثر الصور المتباينة للنموذج الإرشادي يجعل الأزمة بدلاً من ذلك تخفف من سطوة قواعد الأسلوب العادي في حل الألغاز فتتعدد السبل على نحوٍ يسمح في النهاية بانبثاق نموذج إرشادي جديد. وأحسب أن هناك بديلين فقط: إما أنّ أيّ نظرية علمية لا تواجه أبداً حالةً معاكسة، أو أنّ جميع النظريات العلمية تواجه، وفي كلّ الأوقات، حالاتٍ معاكسة. (118)
.. إن من يقرأ كتاباً لتدريس العلوم يستطيع بسهولةٍ أن يأخذ التطبيقات على أنها برهانٌ على صدق النظرية، ويرى فيها الأسبابَ التي من أجلها ينبغي عليه أن يؤمن بها. بيد أنّ الطلاب الذين يدرسون مادة العلوم يسلّمون بالنظريات ثقةً منهم في سلطة معلمهم وفي الكتاب المدرسي، وليس بسبب البرهان. (119)
يحدث عادةً أنّ أشدّ الحالات استعصاءً على الحلّ تستجيب في نهاية الأمر للتطبيق العادي. وفي غالب الأحيان يؤثر العلماء التريّث والانتظار، خاصةً إذا ما كانت هناك مشكلات كثيرة في قطاعات أخرى من مجال البحث. وسبق أن لاحظنا على سبيل المثال، أنه علىمدى الستين عاماً التالية لحسابات نيوتن المبتكرة لم تتجاوز حركة القمر نحو الحضيض التي تنبّأ بها سوى نصف الحركة التي بيّنتها الأرصاد. وبينما لم يكفَّ خيرة علماء الفيزياء الرياضية في أوروبا عن التصدي بقوة لهذا التضارب المشهور دون أن يحالفهم النجاح، كانت تصدر بين الحين والآخر مقترحات تدعو إلى تعديل قانون التربيع العكسي الذي قال به نيوتن. (120)

يقول أينشتان موصّفاً أزمة العلوم:
لقد "بدا الأمر وكأنّ الأرض قد سُحبت بعيداً تحت قدميّ الإنسان، فلم يعد يرى في أيّ مكان أساساً صالحاً للبناء فوقه." وكتب فولف جانج باولي.. إلى صديق له: "عادت الفيزياء الآن إلى حالة التشويش الرهيب. وعلى أية حال فقد بات الأمر شديد القسوة على نفسي، وكم تمنيت لو أنني كنت ممثلاً كوميدياً في السينما أو أيِّ شيءٍ آخر من هذا القبيل، ولم أسمع أبداً عن الفيزياء". وهذه شهادة مثيرة ومؤثرة حقاً إذا ما قورنت بكلمات باولي التي قالها بعد أقلَّ من خمسة أشهر: "إن نوع الميكانيكا التي يقدمها هايزنبرغ قد منحتني ثانية الأمل والبهجة في الحياة. إنها يقيناً لا تقدم الحل الشافي للّغز، ولكنني أعتقد أنها قادرةٌ على أن تواصل السير قدماً من جديد.  (123)
إن الانتقال من نموذج إرشادي في حالة أزمةٍ إلى نموذجٍ إرشاديٍّ جديد يمكن أن ينبثق عنه تقليدٌ جديد للعلم القياسي، مسألةٌ أبعد ما تكون عن وصفها بأنها عملية تراكمية، تتحقق عن طريق تنقيح وإحكام النموذج الإرشادي القديم أو توسيع نطاقه.
بل إنها على الأصح تجديد أو إعادة بناء المجال فوق قواعد أساسية جديدة، وهي إعادةٌ من شأنها أن نغيّر بعض القواعد النظرية الأكثر أساسيّة لمجال البحث، وكذلك تجديد الكثير من مناهج وتطبيقات النموذج الإرشادي لهذا المجال.
وسيكون هناك أثناء فترة الانتقال قَدْرٌ كبيرٌ من التداخل، تداخلٌ إن لم يكن كاملاً فإنه هام، بين المشكلات التي يمكن حلّها بواسطة النموذج الإرشادي القديم والجديد معاً.  ولكن سيكون هناك أيضاً [؟] فارق حاسمٌ في طرائق الحلّ.  (124)
يحدث غالباً، وليس دائماً، أن يقترن هذا النوع من البحث غير المألوف بنوعٍ آخرَ من البحوث ويبدو لي أنّ هذا يحدث بخاصةٍ في فترات الأزمات المعترف بها والتي يتحوّل فيها العلماء شطر التحليل الفلسفي يلتمسون فيه وسيلةً لكشف مغاليق الألغاء التي تواجههم في مجال بحثهم. ومن الطبيعي أن العلماء بوجهٍ عام لم يكونوا دائماً بحاجةٍ إلى أن يصبحوا فلاسفة، ولم تراودهم الرغبة دائماً في ذلك. (127)
ليس من قبيل المصادفة أنّ ظهور كلٍّ من فيزياء نيوتن في القرن السابع عشر، والنسبية وميكانيكا الكمّ في القرن العشرين سبقه واقترن به في الحالتين تحليل فلسفي اساسي لتراث البحث المعاصر لكلٍّ منهما. (127)
[الإبداع: المعارف كعائق أبستيمولوجي. هنا شبه مع باشلار]
إن النموذج الإرشادي الجديد، أو إلماحةً كافيةً لصياغته فيما بعد، تطفر فجأةً دفعةً واحدة، وسط عتمة الليل أحياناً، داخل ذهن رجل غارق إلى أذنيه في الأزمة. أما ما هي طبيعة تلك المرحلة الأخيرة ـ أي كيف يبتكر المرءُ (أو يجدُ نفسه قد ابتكر) وسيلةً جديدةً لإضفاء نظامٍ على معطيات تجمعت كلها الآن فأمرٌ  لا بدّ أن يبقى مبهماً، وقد يظل كذلك دائماً أرجو أن نلحظ هنا الآن شيئاً واحداً بشأنه. إن الناس الذين حققوا تلك الابتكارات الأساسية الخاصة بنموذجٍ إرشادي جديد، كانوا دائماً على وجه التقريب، إما شباباً حديثي السن، أو جدداً تماماً على المجال الذي غيّروا نموذجه الإرشادي. (129)
ولعلّ هذه النقطة لم تكن بحاجةٍ إلى عرضها سافرةً، إذ من الواضح أنّ هؤلاء الرجال بحكم ممارساتهم وأبحاثهم السابقة، لم يخضعوا بعد تماماً لقبضة القواعد التقليدية للعلم القياسي، ولهذا أصبحوا هم المهيَّئين بخاصّة لإدراك أنّ تلك القواعد لم تعد كافيةً لتحديد لعبةٍ صالحةٍ للّعب، وبالتالي الأقدر على تصور مجموعةَ قواعدَ أخرى يمكن أن تحلّ محل السابقة.
إن العلماء إذا واجهَتهم حالةُ شذوذ او أزمة يتخذون موقفاً مغايراً تجاه النماذج الإرشادية القائمة، وتتغير طبيعة أبحاثهم وفقاً لذلك. وتكثر الصياغات البديلة للنموذج الإرشادي، والرغبة في محاولة عمل أيّ شيء، والإعراب صراحةً عن حالة الاستياء، واللجوء إلى الفلسفة والجدل بشأن الأسباب النظرية، كل هذه أعراضُ حالة الانتقال من البحث القياسي إل البحث الاستثنائي أو غير المألوف.
ويتوقف مفهوم العلم القياسي على وجودها جميعاً أكثر مما يتوقف على وجود الثورة. (130)

الفصل التاسع: الثورات العلمية طبيعتها و ضرورتها ١٣١


المقصود بالثورات العلمية هنا سلسلةُ الأحداث التطورية غير التراكمية، التي يبدّل فيها نموذج إرشادي قديم، كلياً أو جزئياً، بنموذجٍ إرشادي جديد متعارض معه. (131)
الثورات السياسية تبدأ مع تصاعد الإحساس الذي يكون في الغالب قاصراً على قطاعٍ من المجتمع السياسي، بأن المؤسسات القديمة لم تعد تفي على نحوٍ ملائم بحلّ المشكلات التي تفرضها بيئة كانت تلك المؤسسات طرفاً في خلقها. وبنفس الطريقة إلى حدٍّ كبير تستهل الثورات العلمية بتزايد الإحساس، ونقول ثانيةً إنه غالباً ما يكون قاصراًعلى فئةٍ محدودةٍ من المجتمع العلمي، بأن أحد النماذج الإرشادية القائمة قد كفّ عن أداء دوره بصورة كافية في مجال اكتشاف جانب من الطبيعة سبق أن وجّه البحوث الخاصة به هذا النموذج الإرشادي ذاته. (132)
إن الثورات العلمية قد لا تبدو ثوريةً بالضرورة إلا في نظر أولئك الذين تأثرت نماذجُهم الإرشادية بها. إذ قد تبدو الثورات في نظر المراقبين من الخارج مثل ثورات البلقان في مطلع القرن العشرين، مراحل عادية للعملية التطورية مثال على ذلك أن علماء الفلك لم يجدوا غضاضةً في التسليم بالأشعة السينية باعتبارها مجرد إضافةٍ لمعارفهم، ذلك لأن نماذجهم الإرشادية لم تتأثر بالاعتراف بوجود الإشعاع الجديدز ولكن بالنسبة لرجال من أمثال كلفن وكركسي وروتنجن ممن ارتبطت بحوثهم بنظرية الإشعاع أو بأنابيب الأشعة المهبطية فإن ظهور الأشعة السينية كان خرقالأ لنموذج إرشادي قائم، وابتداعاً لنموذج إرشادي آخر في ذات الوقت. وهذا هو السبب في أنّ هذه الأشعة لم يكن بالإمكان اكتشافها إلا من خلال وقوع خطأ ما أو مواجهة مشكلة ما أول المر في مسيرة البحوث العادية. (132)
ويبدو لي أنّ هذا الجانب من التناظر بين التطوّر السياسي والتطوّر العلمي من حيث نشوء كلٍ منهما بات واضحاً تماماً ولا يحتاج إلى مزيد. غير أنّ هذه المقارنة لها جانبٌ آخرُ أكثرُ عمقاً تتوقف عليه أهمية الجانب الأول. فالثورات السياسية تهدف إلى تغيير المؤسسات السياسية بأساليبَ تحظرها هذه المؤسسات ذاتها. لذا فإن نجاح الثورة يستلزم التخلي جزئياً عن مجموعةٍ من تلك المؤسسات السياسية لصالح أخرى، وفي هذه الأثناء لا يكون المجتمع محكوماً تماماً وبالكامل بأيّ مجموعةٍ من المؤسسات على الإطلاق.
ونلحظ في البداية أن الأزمة وحدَها هي الت يتوهِن دورَ المؤسسات السياسية كما سبق أن رأينا كيف أنها توهن دور النماذج الإرشادية. ومع تزايد عدد أصحاب المصلحة في التغيير يتزايد شعور الأفراد بالغربة يوماً بعد يوم عن الحياة السياسية، ويزداد سلوكهم في هذه الحياة انحرافاً عن المركز. ثم بعد أن تستفحل الأزمة وتتفاقم ينحو الكثيرون من هؤلاء الأفراد إلى الالتزام ببعض المقترحات المحددة، أي الالتزام بمشروع محدد لتجديد المجتمع في إطار جديد من المؤسسات. وهنا ينقسم المجتمع إلى معسكرات أو إلى أطرافٍ متنازعة، أحدها يلتمس الدفاع عن مجموع المؤسسات القديمة البالية. بينما يلتمس الآخرون إقامة مؤسسات جديدة. وما إن يحدث هذا الاستقطاب حتى يفشل الأسلوب السياسي في أن يكون هو الملاذ. إذ نظراً لأنهم مختلفون بشأن القواعد أو النموذج الأصلي للمؤسسات الذي ينبغي أن يتم في إطاره التحوّل السياسي وتقييم هذا التحوّل، ونظراً لأنهم لا يقرّون بوجود إطارٍ أسمى وأرفع قيمةً من المؤسسات يمكن الاحتكام إليه بشأن الاختلاف الثوري، هنا يصبح لزاماً على أطراف النزاع الثوري أن يلجأوا إلى أساليب وتقنيات تحريض وإقناع الجماهير وهذه تتضمّن في الغالب استخدام القوة. وعلى الرغم من أنّ للثورات دوراً حيوياً في تطوّر المؤسسات السياسية إلا أنّ هذا الدور رهنٌ بكونها جزئياً أحداثاُ من خارج نطاق السياسة أو من خارج نطاق المؤسسات. (133)
[حجاج الدور]
عندما تتمركز النماذج الإرشادية، وهو ما يحدث بالضرورة، في جدال حول اختيار النموذج الإرشادي، يصبح دورُها في المحاجّة دورانياً. إذ إن كل فريق يستخدم نموذجه الإرشادي به دفاعاً عنه.
وطبيعي أنّ هذا الاستدلال الدوراني الناتج عن ذلك ليس من شأنه أن يجعل الحجج خاطئةً أو حتى عقيمةً غيرَ فعّالة. فإنّ من يسلّم مقدّماً بنموذجٍ إرشادي وهو يجادل دفاعاً عنه يمكنه على الرغم من ذلك أن يقدّمَ عرضاً واضحاً لما ستكون عليه الممارسة العلمية بالنسبة لأولئك الذين يتبنّون بالنظرة الجديدة عن الطبيعة. ويمكن أن يكون هذا العرض مقنعاً للغاية، وغالباً ما يجبر المرء على ذلك. ولكن أياً كانت قوة الحجة الدورانية فإنها بحكم طبيعتها لا يمكن إلا أن تكون حجةً مقنعة. أما بالنسبة لأولئك الذين يرفضون دخول الدائرة فإنها لن تجبرَهم على الاقتناع لا على المستوى المنطقي ولا حتى على مستوى الاحتمالات. وحين يتعلّق الأمر بالجدال بشأن النماذج الإرشادية فإن المقدّمات المنطقية والقيم المشتركة بين طرفيّ الحوار لا تكفي للوصول إلى نتيجة في هذا الشأن. فكما هو الحال في الثورات السياسية، كذلك بالنسبة للاختيار بين النماذج الإرشادية ـ حيث لا يوجد معيارٌ أسمى من موافقة المجتمع المختص، فهو السلطة الأعلى التي تحسم الاختيار. (134)
.. وإذا شئنا أن نكتشف لماذا هذه المسألة المتعلّقة باختيار النموذج الإرشادي لا يمكن حسمها حسماً واضحاً ومطلقاً عن طريق المنطق والتجربة وحدهما، يتعيّن علينا أن ندرس بإيجاز طبيعة الفوارق التي تمايز بين أنصار نموذج إرشادي تقليدي وبين خلفائهم الثوريين. وهذه الدراسة هي الهدف الرئيسي من هذا الفصل والفصل الذي يليه.
.. إن الشيء الذي يمكن أن يثير شكاً .. هو بيان ما إذا كانت هذه الأمثلة توفر لنا معلومات جوهرية عن طبيعة العلم. (134)
.. إن تلقّي نموذج إرشادي جديد غالباً ما يستلزم إعادة تحديد العلم المطابق له. ذلك أنّ بعض المشكلات القديمة قد تحال إلى علمٍ آخر، أو يعلَن أنها "غير علميةٍ" البتّة. (144)
إن الصدمة التي أحدثتها أبحاث نيوتن لتقاليد الممارسة العلمية العادية في القرن السابع عشر تقدم لنا مثالاً مذهلاً لهذه النتائج الدقيقة المترتبة على الانتقال من نموذج إرشادي إلى آخر. فقبل أن يولد نيوتن كان "العلم الجديد" لهذا القرن قد نجح أخيراً في نبذ التفسيرات الأوسطية والمدرسية "السكولائية" التي تعبّر عن نفسها في ضوء مصطلحات عن "ماهية" الأجسام المادية. فعبارة مثل قولنا إن الحجر يسقط لأن "طبيعته" دفعته صوب مركز الكون، بدت تحصيل حاصل وتلاعباً بالكلمات. وهو ما لم يحدث في السابق. وأصبح كل تيار الظواهر الحسية مثل اللون والمذاق بل والوزم يجري تفسيرها من الآن فصاعداً في ضوء حجم وشكل ووضع وحركة الجسيمات الأولية للمادة الأساسية. وكان وصف الذرات الأولية بأوصافٍ أخرى غير هذه عوداً إلى السحر والتنجيم، ومن ثَمّ خروج عن حدود العلم. وكم كان موليير دقيقاً في فهم الروح الجديدة عندما سخر من الطبيب الذي شخص أثر الأفيون بقوله إنه منوّم لأن له تأثيراً منوّماً. (144)
.. نجد قوانين نيوتن الثلاثة عن الحركة هي نتاج محاولة لإعادة تفسير مشاهدات مشهورة في ضوء حركات وتفاعلاتِ الجسيمات الأولية المحايدة أكثر منها نتائج لتجاربَ جديدة. (145)
خلال القرن التاسع عشر شارك كلارك ماكسويل ىخرين من أنصار النظرية الموجيّة عن الضوء اعتقادَهم بأن موجات الضوء لا بدّ وأنهاتنتشر عبر وسطٍ أثيري مادّي. وكان تصوّر وسطٍ ميكانيكي يحمل هذه الموجات هو المشكلة القياسية التي تجابه الكثيرين من أعرم عصره، غير أنّ نظريته هو، وهي النظرية الكهروطيسيسة عن الضوء، لم تقدّم على الإطلاق أيّ تفسير عن وسطٍ قادرٍ على حمل موجات الضوء. ووضح أنها جعلت هذا التفسير أصعب مما بدا سابقاً، ولهذا السبب كان مصير نظرية ماكسويل في البداية الرفض على نطاق واسع. ولكن ماكسويل، شأن نيوتن، أثبت أنّ من الصعب الاستغناء عنها. ونظراً لأنها احتلّت مكانةَ نموذجٍ إرشادي فقد تغيّر موقف المجتمع العلمي منها. (148)
إنّ هذه التحوّلات المميّزة التي طرأت على تصوّرات المجتمع العلمي لمشكلاته ومعاييره المشروعة كان يمكن أن تكون أقلَّ شأناً بالنسبة لوجهة النظر التي نعرضها في دراستنا هذه لو أمكن افتراض أنها كانت تحدث دائماً في اتجاه صاعد على المستوى المنهجي للبحث. ففي هذه الحالة سوف تبدو نتائجها تراكميةً أيضاً. ولا غرابةَ في أنّ بعض المؤرّخين جادلوا مؤكّدين أن تاريخ العلم يسجّل زيادةً مطّردة في نضج وصقل مفهوم الإنسان عن طبيعة العلم. ومع هذا فإن الدفاع عن فكرة التطور التراكمي لمشكلات العلم ومعاييره أشد صعوبةً من الدفاع عن مسألة تراكم النظريات.
إن الجهود التي نذرها العلماء لتفسير الجاذبية، وإن كانوا قد أصابوا حين تخلّى غالبتُهم عنها في القرن الثامن عشر، لم تكن تستهدف الدفاع عن مشكلةٍ غيرِ مشروعةٍ بطبيعتها. فالاعتراضات على "القوى الفطرية" لم تكن غير علمية بطبيعتها، ولا ميتافيزيقية بأيّ معنى ازدرائي. وليست هناك معايير خارجية تسمح بإصدار حكمٍ من هذا النوع، وما حدث لم يكن حطّاً بالمعايير ولا ارتقاءً بها، بل فقط تحولاً اقتضاه الالتزام بنموذجٍ إرشادي جديد. علاوةً على هذا فإن هذا التحوّل قد انقلب إلى اللضدّ منذ ذلك الحين ويمكن أن يعود.. ولقد نجح أينشتاين في القرن العشرين في تفسير ظواهر التجاذب التثاقلي وقاد هذا التفسيرُ العلمَ إلى مجموعةس من القواعد والمبادئ والمشكلات هي في هذا السياق تحديداً أشبه بقواعدِ ومشكلاتِ العلماء السابقين على نيوتن منها بمن جاؤوا بعده. (149)
ولـم يـعـد الفضاء في الفيزياء المعاصرة الأساس الخامل والمتجانس على نحوِ ما كان في نظرية كل من نيوتن وماكسويل. وإن بعض خصائصه الجديدة لـيـسـت مغايرة لتلك الخصائص التي كان يوصف بها الأثير. (150)

الفصل العاشر: الثورات باعتبارها تحول في النظرة إلى العالم ١٥١


[العالم المغاير]
إذا تأمّل مؤرّخُ العلم سجلّ بحوثِ الماضي من زاويةِ مبادئِ ومناهجِ التاريخ [العلوم] المعاصرة فقد لا يملك إلا أن يهتفَ قائلاً: "آه، عندما تتغيّر النماذجُ الإرشاديّة يتغيّر معها العالم ذاتُه. وانقياداً للنماذج الإرشادية الجديدة يتبنى العلماء أدواتٍ جديدةً، ويتطلّعون بأبصارهم صوب اتجاهاتٍ جديدة. بل وأهم من ذلك أن العلماء إبّان الثورات يرَوْنَ أشياءَ جديدةً ومغايرةً عندما ينظرون من خلال أجهزتهم التقليدية إلى الأماكن التي اعتادوا النظر إليها وتفحّصها قبل ذلك. ويبدو الأمر وكأن الجماعة العلمية المتخصّسة قد انتقلت فجأةً إلى كوكبٍ آخرَ حيث تبدو الموضوعات التقليدية في ضوءٍ مغاير وقد ارتبطت في الوقت ذاته بموضوعاتٍ أخرى غيرِ مألوفة. وطبعاً إن شيئاً من هذا لم يحدث: فلم يقع تغيّر أو تبديل في المواقع الجغرافيّة، وكل شيءٍ من شؤون الحياة العادية يجري كعادته خارج المعمل على نحوِ ما كان تماماً. ومع هذا فإن التحوّلات التي طرأت على النماذج الإرشادية تجعل العلماء بالفعل يرَوْن العالم الخاص بموضوعِ بحثِهم في صورة مغايرة. وطالما أنّ تعاملَهم مع هذا العالم لا يكون إلا من خلال ما يرَوْنه ويفعلُونه، فقط تحْدُونا رغبةٌ بأنه عقب حدوث ثورةٍ علميةٍ يجد العلماء أنفسَهم يستجيبون لعالم مغاير. (152)
إن هذه التحوّلات في عالم الباحث العلمي أشبه بتحوّلات النماذج الأوّلية في البراهين المعروفة عند علماء الجشطالت الخاصة بتحوّل الصور الكلّية البصرية لإثبات أنها غنيّة بإيحاءاتها ـ فإن ما كان يبدو لرجل العلم قبل الثورة في صورة بطّ أصبح يبدو له في صورة أرانب بعد ذلك.
.. طبعاً إن تجارب الصورة الكلّية الجشطالت في صيغتها المألوفة جداً تصوّر فقط طبيعة التحوّلات الإدراكية الحسّية. وهي لا تفيدنا بشيء عن دور النماذج الإرشادية، أو عن الخبرة التي سبق تمثّلها خلال عملية الإدراك الحسي، بيد أنّ لدينا فيما يختص بهذه النقطة قدراً كبيراً وخِصباً من الدراسات النفسية، أكثرها مستمَدٌّ من العمل الرائد الذي قدّمه معهد هانوفر. فالمفحوص الذي يضع على عينيه أثناء التجربة منظاراً مجهّزاً بعدستين عاكستين أو قالبتين للصوَر، يرى العالم في البداية وكأنه مقلوبٌ رأساً على عقِب، أعلاه أسفلًه. ويعمل جهازُه الإدراكي الحسّي في أول الأمر وفقاً للأسلوب الذي تدرّب على العمل به بدون هذا المنظار العاكس، والنتيجة اللازمة عن ذلك حالةُ تشوّشٍ شديدةٍ للغاية مع الشعور بأزمةٍ شخصية حادة. ولكن بعد أن يبدأ المفحوص في تعلّم كيفيّة التأقلم مع عالمه الجديد حتى ينقلب كلُّ مجاله البصري رأساً على عقب، ويحدث ذلك عادةً بعد فترةٍ تكون خلالها الرؤية البصرية مشوّشة. ثم بعد ذلك يرى الأشياء مثلما كانت قبل وضع المنظار على عينيه. معنى هذا أنه تمت الاستجابة لعملية استيعاب مجال بصري كان يبدو قبل ذلك في صورةٍ شاذة ومقلوبة، وأن المجال ذاته قد تحوّل. وهكذا يمكن القول حرفياً، وعلى سبيل المجاز أيضاً، أنّ المرء قد تآلف أو تكيّف مع العدسات العاكسة وحدث له تحوّل ثوري في الرؤية البصرية. (153)
.. إنّ ما يبصرُه المرءُ يتوقّف على ما ينظرُ إليه، وكذلك على ما علّمته خبرتُه التصورية البصرية السابقة أن يراه في هذا الشيء. وبدون هذا التدريب لن يكون هناك إلا ما وصفه وليام جيمس بعبارته التي يقول فيها "ألوانٌ وطنينٌ في فوضى مطلقة".  [هذا يشبه ما قال باه هوسرل حول القصدية، وما تقوله المدرسة التعقلية حول دور الذاكرة في الإدراك الحسي.] (154)
يقدّم لنا علم الفلك كثيراً من الأمثلة عن التحوّلات التي طرأت على الإدراك العلمي بفعل النموذج الإرشادي، ربما كان بعضها أقلَّ غموضاً. فهل لنا أن نتصوّر على سبيل المثال أنه من قبيل المصادفة أنّ علماء الفلك الغربيين أدركوا لأول مرةٍ تحولاً في السماوات التي كان يُنظَر إليها قبل ذلك على أنها شيءٌ ثابتٌ لا يعتريه أيّ تغيّر، وذلك على مدى نصف قرنٍ بعد طرح النموذج الإرشادي الجديد الذي اقترحه أول الأمر كوبرنيكوس؟ إن علماء الصين الذي لا تحُول عقائدُهم الكونيّة دون القول بحدوث تغيّر في الأفلاك، قد سجّلوا قبل ذلك التاريخ بزمنٍ طويل ظهور الكثير من النجوم في السماوات. وكذلك سجّل علماء الفلك الصينيون بانتظام، ودون الاستعانة بمرقاب، ظهور البقع الشمسية قبل أن يراها غاليليو ومعاصروه بقرونٍ عديدة. (157)
.. المعروف أنّ علماء الفلك في أواخر القرن السادس عشر اكتشفوا مراراً، وبفضل الاستعانة بأدواتٍ تقليديةٍ بعضُها بسيط للغاية مثل قطعة خيط، أنّ المذنّبات انحرفت في مسارها عبر فضاء كان المعتقد في السابق أنه خاصٌّ بنجومٍ وكواكبض ثابتة. وإنّ هذه السهولة الشديدة والسرعة الكبيرة التي رأى بها علماء الفلك أشياءَ جديدةً عند النظر إلى موضوعاتٍ قديمةٍ بأدواتٍ قديمة قد تحدو بنا إلى القول بأن علماء الفلك عاشوا بعد كوبرنيكوس في عالمٍ مختلف. (157)
المعروف أنّ أغلب الناس منذ زمنٍ موغلٍ في القِدَم شهدوا جسماً أو آخرَ ثقيلَ الوزنِ يترجّج يمنةَ ويسرةً وهو معلّقٌ بخيطٍ أو بسلسلةٍ حتى يستقرَّ في النهاية. فكان بالنسبة لأصحاب النظرة الأرسطية، الذين اعتقدوا أنّ أيَّ جسمٍ ثقيل الوزن إنما يتحرّك بحكم طبيعته الذاتية من وضعٍ أعلى إلى حالةٍ من الاستقرار الطبيعي عند وضعٍ أدنى، وأنّ الجسمَ المترجّح إنما يهبط بصعوبة. ونظراً لأنّ السلسلة تقيّد حركتَه فإنه لن يستقرّ إلا عند أدنى نقطةٍ له بعد فترةٍ من الزمن يتحرّك خلالها حركاتٍ متموّجة. أما جاليليو فقد ذهب على العكس من ذلك حين تطلع إلى الجسم المترجّح، إذ رأى فيه بندولاً، أي جسماً نجح في تكرار ذات الحركة مراتٍ ومراتٍ إلى ما لا نهاية. وبعد أن تأمّل غاليليو هذا البندول مراراً لحظ فيه الخصائص أخرى للبندول وبنى على أساسها القسط الأكبر من العناصر الأصلية والهمة لنظريته الجديدة في الديناميكا. واستنتج غاليليو على سبيل المثال من خصائص البندول حججه الكاملة والصحيحة عن استقلال الثقل ومعدّل سرعة السقوط وكذا عن العلاقة بين الارتفاع الرأسي والسرعة الحدّية للحركات الهابطة فوق المسطحات المائلة. ولقد رأى جميعَ هذه الظواهر الطبيعية من زاويةً مختلفةٍ عن الزاوية التي كان ينظر إليها من خلالها قبل ذلك. (160)
.. إني على يقين من أنّ قرّاءً كثيرين سوف تحدوهم الرغبة في القول بأن ما يتغيّر نتيجةَ النموذج الإرشادي هو فقط تأويل رجل العلم للمشاهدات التي هي شيء ثابتٌ مرّةً وإلى الأبد بحكم طبيعة البيئة والجهاز الإدراكي الحسّي. وحسب هذا الرأي فقد رأى كلٌّ من بريستلي ولافوازييه الأوكسجين، ولكنّ كلاً منهما فسّر مشاهداتِه على نحوٍ مغايرٍ للآخر. وكذلك فعل أرسطو وغاليليو، إذ رأى كلٌ منهما البندول ولكنهما اختلفا في تفسير ما رآه كلٌ منهما. (161)
.. إن العالِم الذي يؤمن بنموذجٍ إرشادي جديد ليس مفسِّراً بل أشبه بالرجل الذي يضع على عينيه عدساتٍ عاكسة. إذ على الرغم من أنه يواجه مجموعة الموضوعات ذاتها كما واجهها من قبل، ويعرف أنه يفعل ذلك، إلا أنّه يجدها وقد تحوّلت تحوّلاً كاملاً في كثيرٍ من تفاصيلها. (163)
[إن] المشروع التفسيري.. لا يمكنه إلا أن يحكم صوغ النموذج الإرشادي لا أن يصححه. فالنماذج الإرشادية لا يصححها العلم القياسي على الإطلاق. وإنما يقودنا العلم القياسي فقط آخر الأمر، وكما رأينا من قبل، إلى التسليم بمظاهر الشذوذ، والاعتراف بالأزمات. ولا ينتهي هذا كلُّه إلى التروّي والتفسير بل إلى حدث فجائي نسبياً وغير محدّد المعالم تماماً، مثله كمثل التحوّل الجشطالتي، أي إلى انقلاب في رؤية الأشكال، وغالباً ما يتحدث العلماء آنذاك عن "سقوط الغشاوة عن العينين" أو عن "ومضة البرق" التي "تغمر بنورها" لغزاً بدا غامضاً في ما مضى بحيث تكشف عن عناصره التي تتجلّى في صورةٍ جديدة تساعد لأول مرة على حلّه. ويومض هذا الضوء في مناسبات أخرى أثناء النوم. (164)
إن تجربة البط والأرانب تكشف عن أن رجلين لديهما ذات الانطباعات الشبكية يمكنهما أن يريا الأشياء مختلفةً، كما تثبت العدسات العاكسة أنّ بإمكان رجلين لديهما انطباعات شبكية مختلفة أن يريا الشيء ذاته. (168)
.. من العسير جعل الطبيعة مطابقة لنموذج إرشادي. وهذا هو السبب في أنّ ألغاز العلم القياسي تثير تحدّياً شديداً، وهو السبب أيضاً في أنّ القياسات التي تجري بدون نموذج إرشادي نادراص جداص ما تفضي إلى أيذِ نتائج على الإطلاق. (176)

تعريف بكتاب بنية الثورات العلمية، د. حنا صابات. 2016:


إصدارات الكتاب. طبعة أولى عام 1962، ثانية، 1970، ثالثة 1996 (عام وفاة كوين)، رابعة 2012.
الترجمات العربية. أول ترجمة عن دار الحداثة في بيروت عام 1986. ترجمة الدكتور علي نعمة.
ترجمة سيئة.
الترجمة الثانية سلسلة عالم المعرفة 168 عام 1992. تبقى هي الأفضل والأكثر سلاسة رغم بعض الملاحظات.
الترجمة الثالثة عن المنظمة العربية للترجمة للدكتور حيدر حاج اسماعيل عام 2007. فيها مقدمة جيدة للمترجم يتحدث فيها عن المدارس الأساسية لفلاسفة العلم في القرن العشرين، ليضع الكتاب في سياقه.
[لم يذكر ترجمة سالم يفوت عام 2005]
ترجمات مختلفة لنفس المصطلح:
 ـ التوجه نحو العلم السويّ.
ـ السبيل إلى علم قياسي.
ـ الطريق إلى العلم العاديّ.
ــ ــ الباراديام:
ـ الجذور المشتركة
ـ النماذج الإرشادية.
ـ الباراديغمات.

الثورات وطابعها الخفي 177

إن العلماء والعامّة على السواء يستقون تصوّرهم للنشاط العلمي الإبداعي من مصدرٍ سلطوي اعتاد دائماً وبصورةٍ منتظمة إخفاء وجود الثورات العلمية وحجبَ أهمّيتها ودلالتِها ـ وذلك جزئياً لأسبابٍ وظيفية لها شأنها ـ ولا سبيل أمام المرء لكي يأمل في الإفادة بالكامل من الأمثلة التاريخية إلا بعد التعرّف على طبيعة تلك السلطة وتحليلها. (177)
حيث إنّ الكتب المدرسيّة هي أدواتٌ تربويّةٌ تهدف إلى ترسيخ العلم القياسي [الاعتيادي] واستمراره فإنه يلزم إعادةُ كتابتها كلِّها أو بعضها كلما تغيّرت لغةُ العلم القياسي أو بنية مشكلاته أو معاييره. صفوة القول إنه يتعيّن إعادة كتابتِها عقب كل ثورة علمية. وما إن تتم كتابتُها ثانية حتى تخفي بالحتم دور الثورات التي أفضيت إليها، بل وتخفي أيضاً وجود هذه الثورات ذاته. وما لم يعاين المرء شخصياً ثورةً خلال حياته هو فإن الحسّ التاريخي، سواءٌ لدى الباحث العلمي أو لدى القارئ غير المتخصص للدراسة العلمية، لا يمتدّ إلا إلى ناتج أحدثالثورات العلمية في هذا المجال.
وهكذا تبدأ الكتب المدرسية بوأد إحساس الباحث العلمي بتاريخ مبحثه ثم تشرع في تقديم بديلٍ عما أسقطته. ومن السمات المميزة للكتب المدرسية أنها تشتمل فقط على عجالة سريعة وضئيلة عن التاريخ سواءٌ في صورة فصلٍ تعرضه بمثابة مدخلٍ أو، في صورة ما يحدث غالباً، وهي إشارات متناثرة ومختصرة إلى الأعلام المبرزين في عصرٍ سابق. وتعتبر هذه الإشارات هي المدخل لكل من الطلاب والباحثين المحترفين للإحساس بأنهم مشاركون في تراثس تارخي طويل الأمد. إلا أنّ التراث المستمَدّ من الكتب المدرسية والذي يستشعر الباحثون العلميون من خلاله أنهم شركاء فيه هو شيء لم يوجد أبداً في واقع الأمر. فالكتب المدرسية، ولأسباب واضحةٍ وعملية أساساً (وكذلك حالة كثيرٍ من كتب تاريخ العلوم القديمة)، لا تشير إلا إلى ذلك الجزء من جهود علماء الماضي الذي يمكن النظر إليه باعتباره إسهاماً لعرض وبيان وحلّ مشكلات النموذج الإرشادي الذي تقوم عليه هذه الكتب الدراسية. وتعرض الكتب علماء العصور السابقة في صورة يغلب عليها الطابع الانتقائي حيناً والتشويه حيناً آخر، حيث يبدون وكأنهم عكفوا على دراسة وبحث نفس المجموعة من المشكلات الثابتة وانطلاقاً من الالتزام بمجموعةٍ واحدةٍ ثابتة من القوانين التي توصَف بـ "العلمية" في نظر آخر ثورة في مجال النظرية ومناهج البحث العلمية. ومن ثَمّ فلا غرابة حين نقرّر أن الكتب الدراسية والتراث التاريخي الذي تعرضه هذه الكتب يتعيّين إعادة كتابتهما عقب كل ثورة علمية. ولا غرابة أيضاً أن يبدو العلم مرةً ثانيةً وبعد إعادة كتابة الكتب الدراسية والتراث التاريخي للعلم في صورة يغلب عليها الطابع التراكمي. (180)
إن الوضع المعاصر للعلماء، باستثناء فترات الأزمة والثورة، يبدو وضعاً آمناً. (180)
.. لماذا التمجيد لشيءٍ بذل العلمُ أقصى جهوده وأشدّها جلَداً وعناداً من أجل نبذه وإسقاطه؟ إن الانتقاص من الواقع التاريخي متأصل بعمق، وربما عملياً أيضاً، في أيديولوجيا المهنة العلمية، وهي ذات الصنعة التي تسبغ أرفع القيم جميعها على تفاصيل واقعية من أنواع أخرى. (180)

[نيوتن ينسب أفكاراً لغاليليه هي في الحقيقة لنيوتن نفسه]

لقد كتب نيوتن أن غاليليو اكتشف أنّ القوة الثابتة للجاذبية تولّد حركةً متناسبةً مع مربع الزمن. والواقع أنّ نظرية غاليليو الحركية تأخذ هذه الصورة إذا ما أدمجت في نسيج المفاهيم الدينامية لنيوتن. ولكن غاليليو لم يذكر شيئاً من هذا القبيل. ونادراً ما ألمحت دراستُه عن الأجسام الساقطة إلى القوى ناهيك عن ذكر قوة جاذبية منتظمة هي علة سقوط الأجسام. (181)

انحلال الثورات: 187

إن أول من يتعلم أن يرى العلم والكون على نحو مختلف.. يكونون حديثي السن، أو حديثي عهد بالمجال المثقل بالأزمة، ولذا فإن الممارسة لم تصل بهم بعدُ إلى الأعماق التي وصلت إليها مع غالبية معاصريهم من حيث النظرة إلى العالم، والقواعد التي حددها النموذج الإرشادي القديم. (187)
إن الباحث العلمي بقَدْرِ ما يكون معنيّاً بالعلم القياسي [أفضّل ترجمة: العلم الاعتيادي] يكون حلاّلاً لألغاز وليس باحثاً يختبر صدق النماذج الإرشادية. وعلى الرغم من أنه وهو في خضمّ بحثه عن حلٍّ للَغزٍ معيّن يجرّب عدداً من الأساليب البديلة للمعالجة، وينحّي جانباً كلَّ ما يخفق في الوصول به إلى النتيجة المنشودة، إلا أنه في كل هذا لا يختبر النموذج الإرشادي. إنه بدلاً من ذلك أشبه بلاعب الشطرنج حين تواجهه مشكلة وأمامه رقعة الشطرنج حقيقة مادية يتأملها في ذهنه ولكنه يجرب عديداً من الحركات البديلة بحثاً عن حلٍّ لمشكلته. هذه المحاولات التجريبية سواءٌ قام بها لاعب الشطرنج أو باحثٌ علميّ، ليست سوى تجاربَ ومحاولاتٍ خاصةٍ بذاتها فقط، دون أن تمتدّ لتشمل قواعدَ اللعبة. وتظل ممكنة فقط طالما أنّ النموذج الإرشادي ذاتَه مأخوذٌ مأخذَ التسليم. لهذا فإنّ اختبار النموذج الإرشادي لا يحدث إلا عقب فشلٍ متصل وثابت زمناً طويلاً في حلٍ لغزٍ هامٍ يثير أزمة. وحتى هنا أيضاً لا يحدث الاختبار إلا بعد أن يؤدي الشعور بالأزمة إلى تصوّر نموذجٍ إرشاديٍّ بديل للقديم. والجدير بالملاحظة أن الوضع الاختباري في العلوم لا يتمثّل، كما هو الحال في مجال حلّ الألغاز، في مجرّد المقارنة بين نموذج إرشادي وحيد وبين الطبيعة، وإنما يحدث الاختبار كجزءٍ من المنافسة بين نموذجين إرشاديّين ندَّيْن بغية الفوز بولاء المجتمع العلمي.  (188)
إن التحقّق شبيه بعملية الانتخاب الطبيعي: إذ ينتقي الأقدر على البقاء من بين البدائل القائمة فعلاً في موقفٍ تاريخي بذاته. أما عن الاختيار وهل هو أفضل ما كان يمكن عمله لو كانت لا تزال هناك بدائل أخرى متاحة، أو لو أنّ المعطيات كانت من نوعٍ آخر، فإن هذا السؤال لا يجدي طرحُه. إذ لا نملك أدواتٍ يمكن استخدامُها التماساً لإجاباتٍ عليه. (190)
ولكن هناك نهجٌ مختلفٌ تماماً في تناول جَماع شبكة المشكلات، ونعني به نهج كارل بوبر الذي ينكر وجود أي تدابير للتحقّق على الإطلاق. إذ يؤكّد بدلاً من ذلك على أهمّية إثبات الزيف، أي التحقق من زيف الاختبار وذلك لأن نتيجته سالبة وتقضي بضرورة رفض نظريةٍ ثابتة. وواضح أنّ الدور المنسوب لإثبات الزيف يشبه كثيراً الدور الذي تعزوه دراستُنا هذه إلى التجارب الشاذة، أي إلى وقائع التجارب التي تمهّد السبيل، من خلال إثارة الأزمة، لظهور نظريةٍ جديدة. ومع هذا فقد لا يتسنّى المطابقة بين التجارب الشاذة وبين التجارب اللازمة لإثبات الزيف. والحقيقة إنني إشك في وجود هذه الأخيرة. فكما سبق لي أن أكدت مراراً فإنه لا توجد النظرية التي تحلّ جميع الألغاز التي تواجهها في وقتٍ بذاته، كما وأنّ الحلول التي يتم الوصول إليها نادراً ما تكون حلولاً كاملة. بل على العكس، فإن هذا النقص والقصور اللذين يشوبان المطابقة بين المعطيات والنظريات القائمة هما اللذان يحدّدان، في أيّ فترةٍ من الزمن، كثيراً من الألغاز المميّزة للعلم القياسي. ولو أنّ كل فشلٍ نواجهه في سبيل إثبات هذا التطابق يوجب رفض النظرية إذاً لانتهى الأمر بنبذ جميع النظريات في كل الأزمان. ولكن من ناحيةٍ أخرى لو أنّ الفشل الذريع في المطابقة هو وحدَه الذي يبرّر نبذ النظرية، إذاً لاحتاج أنصار بوبر إلى معيار لتحديد "اللااحتمالية" أو "درجة إثبات الزيف". وإذا ما عمدوا إلى استحداث هذا المعيار فسوف يجابهون يقيناً نفس شبكة الصعاب التي اعترضت دعاة مختلف نظريات التحقق في المذهب الاحتمالي. (190)
إنّ الكثير من المشكلات السابقة يمكن تجنّبها إذا ما سلّمنا بأنّ كلاً من هذين التصوّرين الذائعين والمتعارضين بشأن المنطق الأساسي للبحث العلمي، حاول دمج عمليّتين متمايزتين إلى حدٍّ كبير في عمليةٍ واحدة. إنّ الخبرة الشاذة التي يحدّثنا عنها بوبر ذات شأنٍ كبير للعلوم نظراً لأنها تشجّع على وجودِ نماذجَ منافسةٍ للنموذج الإرشادي القائم. ولكن إثبات الزيف، وإن كان يحدث فعلاً، إلا أنه لا يحدث مع أو بسبب ظهور حالة شذوذٍ أو حالةٍ تكشف عن الزيف، بل إنه على العكس من ذلك عملية تالية ومنفصلة ويمكن بالمثل أن نصممها عملية تحقق حيث إنها تمثّل انتصاراً لنموذجٍ إرشادي جديد على النموذج الإرشادي القديم. (191)
[عوائق أبيستيمولوجية]
كثيراً ما شهد العلماء مشكلات التحوّل عن المعتقد القديم. فها هو دارون يذيّل كتابَه "اصل الأنواع" بفقرةٍ تتّسم ببصيرة نافذة يقول فيها: "على الرغم من أنني مقتنعٌ تماماً بصدق الآراء الواردة في هذا الكتاب... إلا أنني لا أتوقّع أبداً أن أُقنشع علماء الطبيعة ذوي الخبرة الطويلة ممن زخرت عقولُهم بمخزونس صخمٍ من الوقائع ظلوا جميعاً ينظرون إليها، وعلىمدى سنواتٍ طويلة، من زاوية تتعارض مع نظرتي تعارضاً مباشراً... بيد أنني أرنو في ثقةٍ إلى المستقبل، إلى جيل الشباب والجيل الصاعد من علماء الطبيعة، فهؤلاء سيكون باستطاعتهم النظر بحياد كامل إلى جانبيّ المسالة". وها هو أيضاً ماكسي بلانك يستعرض سيرته الذاتية في مجال العلم في كتابه "حياتي العلمية"، ونراه يشير في أسىً إلى أنّ "الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر عن طريق إقناع خصومها وجعلهم يرَوْن الضوء، بل إنها تنتصر بالأحرى لأن خصومها قضوا ووافتهم المنيّة آخر الأمر، وشبّ جيلٌ جديد على ألفةٍ معها". (195)
إن تغيّر النموذج الإرشادي لا يمكن تبريره بالبرهان.. وعلى الرغم من أنّ إتمام التحوّل يستغرق أحياناً جيلاً كاملاً، إلا أن المجتمعات العلمية تتحوّل دائماً وأبداً إلى النماذج الإرشادية الجديدة. (196)
.. يتزايد عدد الباحثين المؤمنين بجدوى النظرة الجديدة، ومن ثَمّ يتبنَّوْن النهج الجديد في ممارسة العلم القياسي حتى لا يتبقّى أخيراً سوى حفنةٍ قليلة من الرافضين العجائز. وحتى هؤلاء لا نستطيع القول إنهم مخطئون. إذ على الرغم من أنّ المؤرّخ يمكن أن يجد دائماً ـ وخير مثال على ذلك بريستلي ـ من يستمرّون في المقاومة لأطولَ فترةٍ ممكنة دون مبرّر ظاهر ومعقول، إلا أنه لن يجد نقطةً محدّدة تصبح المقاومة عندها غيرَ منطقية أو غير علمية. غاية الأمر قد يستهويه القولُ بأنّ من يستمر في المقاومة بعد تحوّل كل أبناء تخصّصه إنما قد توقف بحكم الأمر الواقع عن أن يكون عالماً.  (203)

الفصل الثالث عشر: الثورة سبيل التقدم 205:


كتاب بنية الثورات العلمية
توماس كوهن (كتبه كوهن سنة 1962)
ترجمة شوقي جلال

الفصل الثالث عشر: الثورة سبيل التقدم

تضمّنت الصفحات السباقة ما أرىه عرْضاً تخطيطياً عاماً للتطور العلمي، وقد أفَضْتُ فيه بالقَدْر الذي سمحت به هذه الدراسة. بيد أنه على الرغم من هذا، لم يصل بنا تماماً إلى نتيجةٍ نهائية. وهب أنّ هذا العرض قد أوضح وكشف طبيعة البنية الرئيسية للتطور المتصل للعلم، إلا أنه سيطرح في الوقت نفسِه مشكةً خاصة:
 لماذا هذا المشروع الذي عرضناه آنفاً يتقدّم باطّراد وثبات عبر مسارات لا يسير فيها على سبيل المثل الفنّ أو النظرية السياسية أو الفلسفة؟
لماذا نجد التقدم مطلباً يستأثر به النشاط الذي اصطلحنا على تمسيته "العلم" دون سواه؟
إن أكثر الإجابات شيوعاً على هذا السؤال أنكرَتْها سطور هذه الرسالة. ومن ثمّ يتعيّن علينا أن نختمها بالسؤال عمّا ذا كان بالإمكان الاهتداء إلى إجابات بديلة.
لعلّ القارئ يدرك مباشرةً أنّ جزءاً من هذا السؤال سيمانطيقي (أيّ إنه لغوي يتعلّق بدلالات الألفاظ ومعانيها والعلاقات بينها ـ المترجم). فمصطلح "العلم" يكاد يكون قاصراً إلى حدٍّ كبير جداً على مجالات تتقدّم وفق سبلٍ واضحة. ولا يتبدّى ذلك جلياً مثلما يتبدّى في الجدال المتكرر (205)
بشأن ما إذا كان هذا العلم أو ذاك من العلوم الاجتماعية المعاصرة يعتبر علماً حقاً أم لا. ونجد لهذا الجدل نظيره في الفترات السابقة على وضع نموذجٍ إرشادي لمجالات البحث التي باتت تصنّف اليوم دون تردد بأنها علم. فالقضية التي ثار بشأنها الخلاف دائماً وأبداً هي تحديد ذلك المصطلح الذي لا ينتهي الجدل بشأنه. هناك على سبيل المثل من يؤكدون أنّ علم النفس علمٌ لأنه مبحث يتوافر فيه كذا وكذا من الخصائص المميّزة. ويعارض آخرون هذا الرأي مؤكدين إما أنّ هذه الخصائص غير ضرورية أو غير كافية لكي تجعل من المبحث الدراسي علماً. وغالباً ما يستنفد الجدال طاقةً كبيرة، ويثير انفعالاتٍ حادّةً، ويظل الغريب عن الميدان ضائعاً في حيرة لا يعرف سبباً. ترى هل جلّ الأمر رهن بتحديد "العلم"؟ هل يمكن للتعريف أن يهدي إنساناً ليعرف ما إذا كان هو رجل علم أم لا؟ إذا كان الأمر كذلك لماذا لا يجهد علماء الطبيعة أو الفنانون أنفسُهم بشأن تعريف المصطلح؟
لا مفرّ من أن يساور المرءَ شكٌّ في أنّ أساس القضية أعمق مما يبدو في ظاهره. ولعلّ أسئلةً مثل الأسئلة التالية أجدر بالسؤال في الواقع: لماذا يخفق مجال بحثيّ في التحرك قدماً على نحو ما يمضي علم الفيزياء مثلاً؟ ما هي التغيرات في التكنيك أو المنهج أو الأيديولوجيا التي تمكّنه من أن يكون كذلك؟ بيد أن هذين السؤالين ليس من شأن الإجابة عليهما أن تصل بنا إلى اتفاق خاص بالتعريف. علاوةً على هذا فلو أنّ سوابق العلوم الطبيعية تفيد في الحكم على ذلك، إلا أنّ هذه الأسئلة لن تكفّ عن الإلحاح كمشكلة مؤرّقة عند الوصول إلى التعريف، بل عندما تصل جماعاتُ الباحثين الذين يتشككون الآن في مكانتهم إلى إجماعٍ في الرأي بشأن إنجازاتهم في الماضي والحاضر. ولعل من الأمور ذات الدلالة على سبيل المثل أنّ علماء الاقتصاد أقلّ جدالاً بشأن بيان ما إذا كان مجال بحثهم علماً أم لا، من غيرهم من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية الأخرى. ترى هل سبب ذلك أنّ علماء الاقتصاد يعرفون عن يقين ما هو العلم؟ أم إن السبب بالأحرى هو أنّ علم الاقتصاد هو المبحث الذي التقت آراؤهم بشأنه.
هذه النقطة لها معكوسُها الذي وإن لم يعد سيمانطيقياً خالصاً، إلا أنه قد يساعد على كشف الروابط الوثيقة التي لا تنفصم بين أفكارنا عن العلم وبين التقدم. فعلى مدى قرونٍ طويلة، سواءٌ في العصور القديمة أم على (206)
مشارف التاريخ الأوروبي الحديث، وكان ينظر إلى الرسم بالزيت باعتباره المبحث التراكمي. لقد كان المفترَض طوال هذه السنين أنّ هدف الفنان هو التعبير بالرسم ولاصورة. ونجد نقاداً ومؤرخين من أمثال بليني وفازاري سجلوا في إجلال وتوقير سلسلةَ الابتكارات ابتداءً من فنّ التقصير ومروراً بالرسم القائم على توزيع الضوء والظل، مما يسّر تدريجياً وعلى التوالي الوصول إلى تصوير الطبيعة على نحوٍ أكمل. بيد أنّ هذه هي أيضاً السنوات، وخاصةً أعوام النهضة، التي شهدت انقساماً بسيطاً بين العلوم والفنون. لقد كان ليوناردو واحداً فقط من بين كثيرين ممن تنقلوا بحرّية هنا وهناك بين المجالات التي لم تعد متمايزة تمايزاً مطلقاً إلا في فترةٍ متأخرة.
فضلاً عن ذلك، وحتى بعد أن توقف هذا التبادل، ظل مصطلح "الفن" ينطبق بنفس القَدْر على التكنولوجيا والحِرف الصناعية، وهي فنون كان يُنظَر إليها هي الأخرى باعتبارها فنوناً مطّردة التقدم على مراحل، شأنها شأن الرسم بالزيت أو النحت. ولكن بعد أن نبذ هذان الأخيران نبذاً تاماً القول بأن التعبير بالرسم هو هدفهما وعادا إلى التعليم من جديد من المدارس البدئية، هنا فقط اتخذ الانقسام الذي نأخذه نحن اليوم مأخذ التسليم بعده العميق الراهن. بل نحن اليوم إذا كنا نواجه صعوباتٍ شتى عند بيان الفارق العميق الذي يميّز العلم عن التكنولوجيا فإن ذلك يرجع جزئياً دون شك إلى أنّ التقدم سمةٌ واضحةٌ لهذين المجالين.
بيد أنّ الأمر لن يتجاوز حدود التوضيح فقط دون أن يمتد إلى حلّ مشكلتنا الراهنة إذا ما سلّمنا بأننا نعتزم أن نسبغ صفة العلم على كلّ مجال نلحظ التقدم فيه سمةً أساسية. ويبقى بعد ذلك مشكلة أن نفهم لماذا ينبغي اعتبار التقدم خاصيةً هامّةً إلى هذا الحدّ لأيّ مشروع يلتزم في توجهه بالتقنيات والأهداف المبيّنة في هذه الدراسة.
ينطوي هذا السؤال على عديد من الأسئلة في سؤالٍ واحد، ولذا سوف يتعيّن علينا بحثُ كلٍّ منها على حدة. بيد أنّ حلّها في جميع الأحوال، عدا الحالة الأخيرة، سوف يتوقف جزئياً على أن نعكس نظرتنا العادية إلى العلاقة بين النشاط العلمي وبين المجتمع المتخصص في ممارسته. وسوف يتعيّن علينا هنا أن نضع الأسباب موضع ما اصطلحنا على أنه نتائج. فإذا تسنّى لنا هذا فإن العبارتين "التقدم العلمي" و"الموضوعية العلمية" قد تبدوان لنا من جانبٍ وكأنهما (207)
تزيّد في الحديث أو حشو. وسبق أن قدّمنا مثالاً يوضح جانباً من هذا الحشو. ترى هل يحقق أيُّ مجالٍ تقدماً لأنه علم، أم إنه علمٌ لأنه يحقق تقدماً؟
لنسأل الآن لماذا يتعيّن على مشروع مثل العلم القياسي أن يحرز تقدماً؟ ولنبدأ بذكر قليلٍ من أبرز سماته المميّزة. المألوف عادةً أنّ أبناء كلّ مجتمع علمي ناضج يعملون انطلاقاً من نموذجٍ إرشاديٍّ وحيد، أو انطلاقاً من مجموعةٍ من النماذج الإرشادية المرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً.
ونادراً جداً ما يحدث أن تجري جماعتان مختلفتان للبحث العلمي ذات البحوث في نفس المجال. والملاحظ في مثل تلك الحالات الاستثنائية أن تجمع هاتان الجماعتان بين عديد من النماذج الإرشادية الأساسية تكون مشترَكةً فيما بينهما. بيد أنّ النتيجة الناجمة لأيّ عملٍ إبداعي إذا ما نظر إليها من داخل أي مجتمع مهني وحيد، سواءٌ أكان مجتمع علماء أم غير علماء، فسوف ينظر إليها على أنها تَقدّم. وإلا كيف يمكن أن تكون أيَّ شيءٍ آخر؟ لقد بيّنا توّاً على سبيل المثال أنه في الوقت الذي اتخذ الفنّانون من التعبير بالرسم هدفاً لهم، عمد النقاد والمؤرخون على السواء إلى عرض مراحل التطور التاريخي للجماعة التي تبدو جماعةً موحّدة في الظاهر. وتكشف مجالاتٌ إبداعيةٌ أخرى عن تقدمٍ من نفس النوع. ففقيه الدين الذي يفسّر العقيدة، أو الفيلسوف الذي يصقل الأوامر المطلقة عند كانط، يسهم في التقدم ولو [كان] تقدم الفريق الذي يشاركه مقدمات فكره الأساسية. ولا توجد مدرسةٌ إبداعيةٌ تسلّم بوجود ضربٍ أو صنفٍ من النشاط يمثّل من ناحيةٍ نجاحاً إبداعياً بينما لا يمثل من ناحيةٍ أخرى إضافةً للإنجاز الكلّي للفريق. وإذا ما ساورنا الشك، كما هو حال كثيرين، في أنّ المجالات غير العلمية تحرز تقدماً، فليس سبب ذلك أنّ المدارس القائمة بذاتها عاطلة من التقدم، وإنما السبب بالأحرى هو أنّ هناك دائماً مدارسَ متنافسة كلٌّ منها تتشكك في الأسس الجوهرية التي تقوم عليها المدارس الأخرى. مثال ذلك أن المفكر الذي يدفع بأن الفلسفة لم تحرز تقدماً ما إنما يؤكد أنه لا يزال هناك مفكرون أرسطيون وليس أن الأرسطية أخفقت في إحراز تقدم.
غير أنّ هذه الشكوك بشأن التقدم تثار في مجال العلوم أيضاً. فطوال الفترة السابقة على النموذج الإرشادي، حيث يوجد كثير من المدارس  (208)
المتنافسة، يتعذّر للغاية الاهتداء إلى دليلٍ على التقدم إلا داخل إطار المدارس.
وهذه هي الفترة التي عرضناها في الفصل الثاني باعتبارها الفترة التي يمارس الأفراد أثناءها العلم ولكن نتائج مشروعهم لا تمثّل إضافةً إلى العلم على نحو ما نعرفه الآن. كذلك فإنه خلال فترات الثورة العلمية حيث تكون المعتقدات الأساسية لمجالٍ ما موضوعَ خلافٍ مرةً أخرى، تثار الشكوك مراراً بشأن إمكانية إحراز تقدمٍ متصل لو تم إقرار هذا أو ذاك من بين النماذج الإرشادية المتعارضة. مثال ذلك أنّ من رفضوا مذهب نيوتن زعموا أنّ اعتماد هذا المذهب على قوى فطرية متأصلة سوف يردّ العلم ثانيةً إلى عصور الظلام. وكذا أولئك الذين عارضوا كيمياء  لافوازييه ذهبوا إلى أنّ رفض "المبادئ" الكيميائية لحساب عناصرَ جاهزةٍ في المعمل هو رفضٌ للتفسير الكيميائي الذي تمّ إنجازه، وأنّ هذا الرفض جاء على يد أولئك الذين يحتمون وراء اسمٍ مجرّد. وثمّة شعور مماثل، وإن عبّر عنه أصحابُه بصورةٍ أكثرَ اعتدالاً، يشكل فيما يبدو الأساس في معارضة آينشتين وبوم وغيرهما للتفسير الاحتمالي السائد لميكانيكا الكمّ "الكونطا".
صفوةُ القول أنّ التقدّم يبدو واضحاً ومؤكداً خلال فترات العلم القياسي فحسب. غير أنّ المجتمع العلمي لا يمكنه خلال تلك الفترات إلا أن ينظر إلى ثمار جهده على هذا النحو دون سواه.
إذاً نج دفيما يتعلق بالعلم القياسي أنّ جانباً من الإجابة على مشكلة التقدم يكمن ببساطة في نظر المشاهد. فالتقدم العلمي لا يختلف من حيث طبيعتُه عن التقدم في المجالات الأخرى، ولكن ما نلمسه في غالب الأحيان من غيابٍ للمدارس المتنافسة التي تثيرها التسؤلات بشأن أهداف ومعايير بعضها بعضاً هو ما يجعل تقدّم المجتمع العلمي القياسي أيسر للعين فتستبينه بسهولة أكبر. بيد أنّ هذا ليس سوى جانبٍ من الإجابة، فضلاً عن أنّه ليس أهمَّ جوانبها على الإطلاق. فقط سبق أن أوضحنا على سبيل المثال أنه ما إن يؤدي قبول وإقرار نموذجٍ إرشاديّ مشترك إلى تحرّر المجتمع العلمي من الحاجة الدائبة إلى إعادة فحص ودراسة مبادئه الأوّلية، حتى يصبح في إمكان أعضاء المجتمع أن يركّزوا جهودهم على أكثر ظواهره التي تشغلهم تخصصاً ودقّة. ومن المقطوع به أن يؤدي هذا إلى زيادة كلٍّ من فاعلية وكفاءة الفريق في مجموعةٍ خلال سعيه لحلّ المشكلات الجديدة. (209)

وهناك أيضاً جوانب أخرى للحياة المهنية في مجال العلوم من شأنها تحقيق المزيد من الدعم والتعزيز لهذه الفعالية الخاصة للغاية. بعض هذه الجوانب هي نتائج مترتبة على الانعزالية أو الاستقلالية التي لا نظير لها التي تعزل المجتمعات العلمية الناضجة عن متطلبات العامة والحياة اليومية. ولم تكن هذه العزلة أبداً كاملةً تماماً ـ ونحن هنا نتحدث عن أمورٍ تتعلّق بالدرجة.
 إلا أنه لا توجد مجتمعات مهنيّة أخرى غير جماعات البحث العلمي، يكون فيها العمل الإبداعي الفردي موجَّهاً بالكامل ودون استثناء إلى أعضاء آخرين من نفس التخصص يتولَّوْن هم تقييمه. فإن أكثر الشعراء إيغالاً في الغرابة أو أكثر فقهاء الدين إمعاناً في التجريد يعنيه أكثر مما يعني العلماء استحسان العامة لعمله الإبداعي، حتى وإن كان دون العلماء اهتماماً بأمر الاستحسان بمعناه العام.
وهذا فارقٌ له شأن كبر، وتترتّب عليه نتائجُ هامة. إذ نظراً لأن العالِم يعمل فقط لجمهور يتألف من أقرانه وزملائه في المهنة، وهو جمهور يشاركه قيمه ومعتقداتِه، لذا يستطيع أن يأخذ مجموعةً بذاتها من المعايير مأخذ التسليم. إنه لا يشغل باله بما قد يراه أو يفكر فيه فريق آخر أو مدرسةٌ أخرى، ومن ثمّ يمكنه أن يفرغ من مشكلة إلى غيرها على نحوٍ أسرعَ مما يفعل آخرون من أجل فريقٍ أكثر اختلافاً معهم في الرأي والمعتقد. بل والأهم من ذلك إن عزلة جماعة البحث العلمي عن المجتمع العام الواسع يتيح للباحث العلمي الفرد أن يركز اهتمامه على المشكلات التي لديه من الأسباب المعقولة ما يبرر له الاعتقاد بقدرته على حلّها. إن الباحث العلمي ليس شأنه شأن المهندس أو كثيرين من الأطباء وأكثر فقهاء الدين، من حيث أنه ليس مضطراً إلى اختيار المشكلات لأنها بحاجةٍ إلى حلٍّ عاجلٍ وملحّ دون اعتبارٍ للأدوات المتاحة له لحلِّها. [من حيث أنه ليس مضطراً إلى اختيار المشكلات التي هي بحاجة إلى حلٍّ عاجلٍ وملحّ دون اعتبارٍ للأدوات المتاحة له لحلِّها.]
ومن الأمور الهامة ذات الدلالة هنا أيضاً التباين بين علماء الطبيعة وبين الكثيرين من العلماء الاجتماعيين. فهؤلاء غالباً ما ينزعون إلى الدفاع عن اختيارهم لمشكلة يتخذونها موضوعاً لبحثهم ـ وهو ما لا يكاد يفعله علماء الطبيعة بتاتاً ـ مثال ذلك نتائج التمييز العرقي أو أسباب الدورة التجارية لرأس المال ويعمد العلماء الاجتماعيون إلى الدفاع أساساً عن اختيارهم هذا بعبارات تكشف عن الأهمية الاجتماعية للوصول إلى حلٍ للمشكلة. إذاً أيّ فريق من بين هؤلاء نتوقع له أن يحل مشكلاته بسرعةٍ أكبر؟ (210)
وإن آثار العزلة عن المجتمع الكبير تتضخم كثيراً بفعل سمةٍ أخرى من سمات المجتمع العلمي المهني، ألا وهي طبيعة التنشئة التعليمية في البداية. ففي الموسيقى وفنون الغرافيك والأدب يكتسب المتخصص في هذه الفنون تعليمه عن طريق مشاهدة أعمال الفنانين الآخرين خاصة الفنانين الأوائل. هذا بينما يكون للكتب الدراسية دورٌ ثانويٌ فقط، فيما عدا المختصرات من النصوص المختارة أو الكتيبات التي تتناول الإبداعات الأصلية. ولكننا نجد للكتب الدراسية أهمية كبرى في مجالات التاريخ والفلسفة والعلوم في المعاهد الدراسية قراءات مناظرة للنصوص الأصلية، ويمثل بعضُها "كلاسيكيات" التخصص، ويمثل بعضها الآخر التقارير البحثية المعاصرة التي يكتبها ويتبادلها المتخصصون في مجال البحث بين بعضهم بعضاً.
ونتيجةً لذلك يجري دائماً وأبداً العمل على توعية الدارس لأيٍّ من هذه المجالات بالتنوع الشديد للمشكلات التي يحاول مع مرور الزمن أعضاء فريقه حلّها. وأهم من ذلك كلّه أنه يجد بين يديه بصورة مطّردة عدداً من الحلول المتجانسة وغير المتجانسة لهذه المشكلات، وهي حلول يتعيّن عليه في النهاية أن يصدر عنها تقييماً لنفسه.
لنحاولْ أن نقارن بين هذا الوضع وبين الوضع في العلوم الطبيعية المعاصرة على أقل تقدير. نلحظ في هذه المجالات أن الطالب يركن أساساً إلى الكتب الدراسية، ويظل كذلك إلى أن يبدأ بحثَه المستقل في عامه الثالث أو الرابع من دراسته للتخرج. ونلحظ أيضاً أنّ أكثر المقررات الدراسية في العلوم لا تطالب حتى الخرّيجين بالاطّلاع على أعمالٍ لم تُكتَب خصيصاً للطلاب. والقليل النادر من البرامج التي تعين قراءات تكميلية من خلال الاطلاع على البحوث والرسائل المتخصصة نجدها تقصر هذه القراءة على أكثر المقررات الدراسسية تقدماً وعلى المواد التي تعرض بدرجةٍ أو بأخرى ما أغفلته الكتب الدراسية المتداوَلة. وتظل الكتب الدراسية حتى المراحل النهائية في تعليم الباحث العلمي هي البديل بانتظام عن الدراسات العلمية الإبداعية التي هي العلّة والأساس في تأليف تلك الكتب. ونظراً لثقة العلماء في النماذج الإرشادية التي يلتزمون بها والتي تيسر هذا التكنيك التعليمي، لذا فإن القليلين منهم هم الذين تحدوهم رغبةٌ في تغييرها.
 إذاً لماذا بعد كل (211)
 هذا يسعى طالب الفيزياء، كمثال، إلى قراءة أعمال نيوتن أو فاراداي أو آينشتين أو شرودهجر ما دام كل ما يريد معرفته عن هذه الأعمال ميسور بين يديه وقد أعادت عرضَه كتبٌ دراسيةٌ حديثة في صورةٍ أكثرَ اختصاراً وأكثر تحديداً وأكثر تنسيقاً؟ (212)
وبدون الرغبة في الدفاع عن الأبعاد المفرطة التي وصل إليها هذا الطراز من التعليم أحياناً، فإن المرء لا يسعه إلا الإشارة إلى أنه بوجهٍ عام كان فعّالاً إلى حدٍّ كبر. وهو بطبيعة الحال تعليمٌ ضيّقٌ ومحدود وجامد، بل وربما يكون أكثر ضيقاً وجموداً من أي مجال آخر، ربما باستثناء الدراسات المتزمّتة الخاصة بتعليم أصول الدين. بيد إنّ الباحث العلمي يكون مهيّأً على أكمل وجه تقريباً للعمل العلمي القياسي أي لحلّ الألغاز في إطار التقليد الذي تحدّده له الكتب الدراسية. زد على ذلك أنه مهيّأٌ على نحوٍ جيد لأداء مهمّةٍ أخرى مماثلة ـ إثارة أزماتٍ هامة ذات دلالة من خلال العلم القياسي. وحين تثار هذه الأزمات لا يكون العالم بطبيعة الحال مهيّأً لها بنفس الدرجة. وحتى إذا كان من المحتمل أن تؤثر الأزمات المزمنة بصورة تجعل الممارسة التعليمية أقلَّ جموداً، إلا أنّ التدريب العلمي ليس معَدّاً إعداداً جيداً لإنتاج الإنسان القادر على أن يكتشف بسهولة نهجاً جديداً في تناول المشكلات. ولكن طالما ظهر شخصٌ ما يبشّر بنموذجٍ إرشاديٍّ جديد بديل ـ ويكون عادةً باحثاً شاباً أو جديداً على مجال البحث ـ فإن أضرار الجمود تعود على الفرد وحدَه، وحين يتهيّأ جيلٌ يتولّى إنجاز التغيير، يصبح الجمود الفردي متناقضاً مع مجتمع قادرٍ على التحوّل من نموذجٍ إرشادي إلى نموذجٍ إرشاديٍّ آخر حيث إنّ الموقف يتطلب ذلك. ويبدو هذا التناقض واضحاً بوجه خاص عندما يصبح هذا الجمود ذاتُه مؤشراً حساساً للمجتمع يدلّه على أنّ خطأً ما قد وقع.
لذا فإن كل مجتمع علمي إنما يعتبر في حالته العادية، أداةً شديدة الفعالية لحلّ المشكلات أو الألغاز التي تحدّدها نماذجه الإرشادية، علاوةً على هذا، فإن نتيجة حلّ تلك المشكلات لا بدّ أن تكون بالقطع تقدماً. وليس في هذا القول ما يدعو للريبة أو الشك. غير أنه يلقي ضوءاً فقط على الجانب الثاني الرئيسي من مشكلة التقدم في العلوم، وهو التقدم من خلال العلم غير العادي، وهو ما انتقل الآن للنظر فيه. لماذا يكون التقدم في  (212)
صورته العامة ظاهرةً ملازمةً دائماً وأبداً للثورة العلمية؟ أعود لأقول إننا سنعرف الكثير إذا ما انصبّ سؤالنا على النتائج الأخرى المحتملة لحدوث ثورة علمية. تنتهي الثورات بالانتصار الكامل لأحد المعسكرين المتعارضين.
ترى هل يمكن لهذا الفريق أن يقول إنّ نتيجة النتصاره شيء آخر دون التقدم؟ إن هذا الفرض أشبه بالقول بأنهم كانوا على خطأ وكان خصومهم على حق. ولا ريب في أنّ حصاد الثورة لا بدّ أن يبدو في نظرهم على الأقل تقدماً، وقد أضحوا في وضعٍ أمثل يجعلهم على يقين من أنّ أعضاء جماعتهم العلمية في المستقبل سوف ينظرون إلى التاريخ الماضي بنفس نظرة اليوم. ولقد عرض الفصل الحادي عشر تفصيلاً التقنيات التربوية لتحقيق هذا الهدف، وكل ما فعلناه هنا أننا استعدنا جانباً وثيق الصلة بالحياة العلمية المتخصصة. فالمجتمع العلمي حين ينبذ نموذجاً إرشادياً كان سائداً في الماضي إنما يتخلّى في الوقت ذاته عن أكثر الكتب والمقالات التي تجسّد هذا النموذج الإرشادي إذ لم تعد مادةً مناسبةً للدراسة المهنية المدققة.
 والملاحَظ أنّ تعليم العلوم لا يستخدِم وسيلةً معادلةً لمتحف الفنون أو مكتبة الكلاسيكيات، مما يؤدي أحياناً إلى حدوث ما يشبه التشوّه الشديد في رؤية رجل العلم لماضي مبحثه العلمي. وينتهي به هذا، على نحوس يتجاوز كثيراً الباحثين في المجالات الإبداعية الأخرى، إلى الاعتقاد بن مبحثه العلمي مبحثٌ سار في خطٍ مستقيم أفضى به إلى حالته الراهنة بكل ما تتصف به من تميّز. والخلاصة أنه يعتبر هذا الماضي في النهاية تقدماً. ولا بديل آخر أمامه طالما بقي داخل مجال تخصصه.
تلك الملاحظات سوف توحي حتماً بأن عضو المجتمع العلمي الناضج مثله كمثل الشخصية النمطية في رواية جورج أورويل "العالم عام 1980"، هذه الشخصية التي كانت ضحية التاريخ الذي أعادت كتابته السلطات القائمة على شؤون البلاد. علاوةً على هذا فإن الإيحاء المشار إليه ليس بالشيء الشاذ [على] الإطلاق. فثمّة خسائرُ، مثلما هناك مكاسب، للثورات العلمية، وينزع العلماء عادةً إلى التغافل وإخفاء الخسائر بخاصة. ومن ناحيةٍ أخرى ليس بإمكان أيّ تفسير للتقدم من خلال الثورات أن ينتهي عند هذه النقطة. إذ لو حدث ذلك لكان معناه القولَ ضمناً بأن القوة تصنع الحق في مجال العلوم، وهي قاعدةٌ لن تكون خطأً تماماً ما لم تحجب قسراً طبيعة  (213)
العملية [العلمية] والسلطة اللذين يتم بمقتضاهما الاختيار بين النماذج الإرشادية. إذ لو كانت السلطة وحدَها، خاصةً لو كانت سلطةً غير مهنية، هي الحكم الذي يفصل بين أنواع الجدل الدائر بشأن النموذج الإرشادي، فإن حصاد ذلك الجدل قد يظل ثورة، ولكن دون أن يكون ثورةً علمية.
إن وجود العلم ذاته رهنٌ بأن تكون سلطة الاختيار بين النماذج الإرشادية مخوّلة لأعضاءٍ من نوع المجتع ذاته. أما إلى أيّ حدٍّ يجب أن يكون هذا المجتمع متخصصاً إذا ما كان للعلم أن يبقى وينمو باطّراد، فهذا ما قد يكشف عنه مدى ضعف قبضة الإنسانية على المشروع العلمي.
إن كل حضارة من الحضارات التي تملك وثائقَ تسجيلية عنها امتلكت تكنولوجيا وفناً وديناً ونظاماً سياسياً وقوانين وما إلى ذلك. ولقد كانت هذه الجوانب في كثير من الحالات متطوّرة مثل حضارتنا. ولكنّ الحضارات التي انحدرت إلينا عن اليونان الهيلينية عرفت ما هو أكثر من العلم الأوّلي الخالص.
 إنّ الكمّ الأساسي من المعرفة العلمية هو نتاجُ أوروبا على مدى القرون الأربعة الأخيرة. ولم يحدّثنا التاريخ عن أيّ مكانٍ آخر أو زمانٍ غير هذا توفّر فيهما الدعم والتأييد للمجتمعات العلمية الشديدة التخصص التي هي معين الانتاجية العلمية.
فما هي الخصائص الجوهرية لهذه المجتمعات؟ واضح أنّ الأمر بحاجةٍ إلى مزيد من الدراسة المستفيضة. ولكن الشيء الميسور الآن فقط في هذا المجال هو مبادئ عامة تقريبية للغاية. ولكن يتعيّن أن تتضح لنا مقدما بعض الشروط الأساسية لعضوية الجماعة العلمية. فرجل العلم لا بدّ ان يكون على سبيل المثال معنياً بحل مشكلاتٍ عن سلوك الطبيعة. علاوةً على هذا، فإنه على الرغم من أنّ اهتمامه بالطبيعة قد يكون شاملاً في نطاقه إلا أنّ المشكلات التي يعالجها لا بدّ أن تكون مشكلاتٍ تتعلّق بالتفاصيل، والأهم من ذلك أنّ الحلول التي ترضيه يمكن ألا تكون مجرد حلولٍ مرضِية له شخصياً، بل لا بدّ أن تكون مقبولةً من كثيرين. والفريق الذي يشارك في هذا الرأي ليس فريقاً جرى اختيارُه على نحوٍ عشوائي من المجتمع في عمومه، بل يجب أن يكون هو الجماعة التي جرى تحديدها تحديداً جيداً من بين العلماء المتخصصين الأكفاء القائمين بنفس النشاط العلمي. وإن من أقوى القواعد التي تقوم عليها الحياة العلمية، وإن ظلّت غير مسطورة، هي حظر الاحتكام إلى رؤوس الدولة أو الكافة فيما يختص بالموضوعات (214)
العلمية.
فالتسليم بوجود فريقٍ مهني قدير على نحوٍ منفرد، والاعتراف بدوره باعتباره الحكم الوحيد فيما يختص بالإنجازات المهنية أمرٌ له دلالات ونتائج أبعد من ذلك. فأعضاء الفريق، من حيث هم أفراد، وبفضل الدُربة والخبرة المشتركة بينهم، لا بدّ من النظر إليهم باعتبارهم هم وحدَهم أصحاب قواعد اللعبة، الفاهمون لها، أو أنهم شركاء في معيارٍ متكافئ من أجل إصدار أحكامٍ صريحة وواضحة. وإن  الشك في أنهم متفقون على معاييرَ مشتركةٍ بينهم لعمليات التقييم إنما يعني السماح بوجود معايير متضاربة للإنجاز العلمي. ووضع كهذا من شأنه أن يثير بالقطع سؤالاً عن وحدة الحقيقة في العلم.
هذه القائمة الصغيرة للخصائص المشتركة بين المجتمعات العلمية إنما استخلصناها جملةً من ممارسة العلم القياسي كما ينبغي لها أن تكون. وهذا هو النشاط الذي يتدرّب عليه رجل العلم ويتشكّل بمقتضاه. ولكن لنلاحظ أنه على الرغم من أن إيجاز هذه القائمة إلا أنها كافيةٌ لفصل هذا النوع من الجماعات العلميةوتمييزه عن جميع الفرق المهنية الأخرى. ولنلاحظ علاوةً على هذا أن القائمة وإن كانت نابعةً من العلم القياسي، إلا أنها تفسر كثيراً من القسمات الخاصة بردود أفعال جماعة البحث أثناء الثورات وبخاصة عندما يحمى وطيس الجدال بشأن النموذج الإرشادي. وسبق أن رأينا أنّ أيّ فريقٍ من هذا الطراز لا بدّ أن يعتبر تغير النموذج الإرشادي تقدماً. ونستطيع الآن التسليم بأنّ هذا النهج في إدراك الأمور كافٍ من نواحٍ كثيرةٍ هامة لإثبات صدقه. إذ تعتبر جماعة البحث العلمي الأداة الفعالة الأمثل للوصول إلى أقصى كم، وأدق قدر من المشكلات التي يتم حلّها بفضل تغيّر النموذج الإرشادي.
ونظراً لأن المشكلة المحلولة هي وحدة قياس الإنجاز العلمي وتقدير ما بلغه العلم من نجاح، وحيث إن جماعة البحث العلمي تعرف جيداً أيَّ المشكلات تمّ حلُّها، لذا لن يتبقى غيرُ عددٍ قليل من العلماء ممن يسهل حثهم وإقناعُهم لتبني وجهة نظر تثير من جديد الشك في عدد من المشكلات التي سبق حلّها [أي تثير الشك في الحلول السابقة]. ويتعيّن أن تفرض الطبيعة أولاً شعور الثقة أو الأمن المهني، وذلك بأن تجعل الإنجازات السابقة تبدو في صورة إشكالية. ثم بعد ذلك يبرز بديلٌ جديد للنموذج الإرشادي. ولكن الملاحظ أنه حتى بعد أن يحدث (215)
كل هذا، سوف يحجم العلماء عن استيعابه ويتحفظون إزاءه ما لم يقتنعوا بتوفر شرطين لهما أقصى قدرٍ من الأهمية. أولاً لا بدّ وأن يبدو واضحاً أنّ بإمكان البديل الجديد حلَّ مشكلةٍ هامةٍ لها الأولوية ومعترفٍ بها بعامة، ولا سبيل إلى حلّها بوسيلةٍ أخرى.
ثانياً، يجب أن يبشّر النموذج الإرشادي الجديد بالحفاظ على قدرس كبيرٍ نسبياً من القدرة الموضوعية على حلّ المشكلات التي تراكمت على أيدي النماذج الإرشادية السابقة في مجال البحث العلمي المعني. إن الجِدّة ليست أمنيةً مطلوبةً لذاتها في مجال العلوم شأنُها في مجالات إبداعيةٍ أخرى كثيرة. ونتيجةً لذلك فإن النماذج الإرشادية الجديدة،
.. إن النماذج الإرشادية الجديدة، حتى وإن كانت نادراً ما تملك، أو لا تملك على الإطلاق، جميع قرات النماذج الإرشادية القديمة، إلا أنها تحتفظ عادةً بكمٍّ ضخمٍ من أقصر [؟] الجوانب موضوعية في إنجازات الماضي وتسمح دائماً علاوةً على هذا بالمزيد من الحلول الموضوعية المحددة للمشكلات.
وهذا لا يعني ضمناً القول بأن القدرة على حلِّ المشكلات هي الأساس المتفرد أو القاعدة المطلقة لاختيار النموذج الإرشادي، فقد سبق أن أشرنا إلى أسبابٍ كثيرة تنفي وجود معيارٍ كهذا.
ولكنه يعني أن أيَّ فريقٍ من العلماء المتخصصين سوف يبذل أقصى جهده في سبيل ضمان اطّراد زيادة المعطيات التي يجمعها ويقدر على معالجتها بدقة وتفصيل. وطبيعي أن يتحمّل المجتمع العلمي خلال هذه العملية قدراً من الخسائر. إذ يتعيّن غالباً إسقاط بعض المشكلات القديمة. علاوة على هذا فإن الثورة كثيراً ما تؤدي إلى تضييق نطاق المهام المهنية التي تشغل بال أبناء المجتمع العلمي، وتزيد من مدى تخصصه، وتضعف من اتصاله بالجماعات الأخرى سواءٌ لعلماءَ متخصصين أم للعامة من الناس. ولكن على الرغم من أن العلم يزداد عمقاً على وجه اليقين، إلا أنه قد لا يزداد من حيث المساحةُ طولاً وعرضاً. وإذا حدث ذلك فإن هذه المساحة الظاهرية تتجلى أساساً في تكاثر التخصصات العلمية، وليس في نطاق أي تخصص واحدٍ بذاته. ولكن على الرغم من هذه الخسائر وغيرها التي تمنى بها المجتمعات الخاصة، إلا أنّ طبيعة هذه المجتمعات توفر ضماناً واقعياً يتمثّل في اطّراد نموّ وزيادة كلٍّ من قائمة المشكلات التي حلّها العلم ودقة حلول المشكلات المتخصصة. وتهيّئ طبيعة المجتع العلمي مثلَ هذا الضمان على الأقلّ ما دامت هناك (216)
وسيلةٌ ما، مهما كانت، لتوفيره. ترى أيُّ معيارٍ آخرَ أفضلُ من دقة الفريق العلمي؟
تشير الفقرتان الأخيرتان إلى الاتجاهات التي تدلّنا فيما أعتقد على حلٍّ أكثرَ ملاءمةً ودقةً لمشكلة التقدم في العلوم. إذ ربما تدلّنا على أنّ التقدم العلمي ليس بالضبط ما كنّا نتصوّره. ولكنها تكشف لنا في الوقت نفسه عن أنّ نوعاً من التقدم سيسِم حتماً بخصائصه المشروع العلمي ما بقي هذا المشروع من حيث هو كذلك قائماً ولا حاجة لوجود تقدم من نوع ٍ أخر في مجال العلوم.
وحتى نكون أكثر دقّةً فإننا قد نُضطرّ إلى التخلي عن الفكرة القائلة، صراحةً أو ضمناً، إن تغيّرات النموذج الإرشادي تقود العلماء، هم ومن يتلقّون العلم عنهم، في سبيل تقترب أكثر فأكثر من الحقيقة.

 [ هنا يبدو كوين معارضاً لنظرة كارل بوبر حول تقدم المعرفة العلمية واقترابها من الحقيقة. السؤال الذي يحتاج إلى البحث عن رأي كوين حوله هو: ما الذي يجعل العلماء ينتقلون من نموذج إرشادي إلى نموذج جديد؟]
بات لزاماً الآن أن نشير إلى أنّ مصطلح "الحقيقة" لم نستعمله في دراستنا هذه وحتى الصفحات القليلة الماضية إلا ضمن اقتباسٍ أخذناه عن فرنسيس بيكون. كما وإننا لم نستعمله حتى في هذه الصفحات إلا باعتباره مصدراً لاقتناع رجل العلم بأن القواعد المتضاربة في ممارسة العلم لا يمكن أن توجد معاً إلا أثناء الثورات عندما تصبح المهمة الأساسية لجماعة البحث المتخصصة هي إلغاؤها جميعاً فيما عدا واحدة.
وإنّ العملية التطورية التي عرضَتْها هذه الدراسة كانت عملية تطور من البدايات الأولية ـ وهي عملية تتميز مراحلُها المتعاقبة بفهم للطبيعة ـ يتزايد باطّرادٍ دقّةً وتفصيلاً وشمولاً. ولكن لا شيء البتّة مما قيل أو سيقال يمكن أن يجعلها عملية تطوّر إلى أو نحو أيِّ شيء. ولا بدّ أنّ هذه الثغرة قد أثارت قلقاً كثيراً من القرّاء. ذلك لأننا ألفنا جميعاً عادةً ترسّخت فينا تجعلنا نرى العلم باعتباره المشروع الوحيد الذي يدنو أكثر فأكثر باطّراد صوب هدفٍ ما حدّدته الطبيعة مقدّما.
ولكن هل ثمّة ضرورةٌ لمثل هذا الهدف؟ ألا نستطيع أن نفسّر كلاً من وجود العلم ونجاحه في ضوء التطوّر ابتداءً من حالة المعرفة عند جماعة بحثٍ متخصصة في زمنٍ بذاته؟ وهل من المفيد حقاً تصور وجود مفهوم واحدس كاملٍ وموضوعي وصادق عن الطبيعة وأن المعيار الصحيح لقياس الإنجاز العلمي هو المدى الذي يقرّبنا أكثر فأكثر من ذلك الهدف النهائي؟
ترى هل إذا عرفنا كيف نبدل التطور ابتداءً مما نعرفه فعلاً بالتطور صوب (217)
ما ننشد معرفته، سوف تزول بعض المشكلات المثيرة والمحيّرة خلال هذه العملية. لا بدّ وأنّ مشكلة الاستقراء تكمن في ناحية ما داخل تلك المتاهة.
لا أزال عاجزاً عن أن أحدّد، على أيّ نحوٍ تفصيلي، نتائج هذه النظرة البديلة إلى التقدّم العلمي ـ بيد أنّ المشكلة تتضح عندما يتبيّن لنا أنّ ما نوصي به من إبدال للمفاهيم أمرٌ وثيق الصلة جداً بتحوّلٍ آخرَ في المفاهيم شهده الغرب منذ قرنٍ مضى. وهو أمرٌ مفيد جداً نظراً لأن العقبة الأساسية التي تعيق التحوّل واحدةٌ في كلتا الحالتين. فعندما نشر داروين لأوَّلِ مرّةٍ نظريّته عن التطور من خلال الانتخاب الطبيعي، وذلك عام 1859، لم يكن أشدّ ما أثار ضيق كثيرين من العلماء المتخصصين هو فكرة تغيّر الأنواع، ولا فكرة احتمال تحدّر الإنسان عن القردة العليا. إذ المعروف أنّ الشواهد الدالة على التطوّر، بما في ذلك تطوّر الإنسان، قد تراكمت على مدى عدة عقود. وكانت فكرة التطور واردة ومنتشرة على نطاقٍ واسع قبل ذلك. وعلى الرغم من أن التطور، من حيث هو، واجه مقاومةً، خاصةً من جانب بعض الأوساط الدينية، إلا أنها لم تكن بأيّ حالٍ من الأحوال أقسى الصعاب التي جابهت الداروينيين. لقد نشأت تلك المشكلة عن فكرة قريبة الشبه جداص من فكرة داروين نفسه. ذلك أن جميع النظريات التطورية الشائعة قبل داروين ـ مثل نظريات لامارك وشامبرز وسبنسر وفلاسفة الطبيعة الألمان ـ رأت في التطور عملية هادفة تتجه نحو هدفٍ محدّد. وكان الاعتقاد السائد أن "فكرة" الإنسان والحياة النباتية والحياة الحيوانية المعاصرة كانت موجودةً منذ بدء الخليقة ولو في فكر الله. ولقد حددت هذه الفكرة أو الخطة الاتجاه والقوة الموجّهة لكل العملية التطورية، ومن ثَمّ أضحت كل مرحلةٍ جديدة من النمو التطوّري هي تحقّقٌ أكثر كمالاً لخطةٍ موجودةٍ منذ البدء.
لقد بدا في نظر أكثر الناس أنّ إلغاء هذا النوع من التطوّر الغائي هو الشيء الأكثر خطراً والأقل استساغةً في آراء داروِن. إذ المعروف أنّ كتاب "أصل الأنواع" لم يعترف بأيّ هدفٍ سواءٌ أكان هدفاً حدّده الله أم حدّدته الطبيعة. وبدلاً من ذلك بدأ الانتخاب الطبيعي الذي يعمل في البيئة القائمة ومن خلال الكائنات الحيّة الواقعية هو المسؤول عن الظهور التدريجي، ولكنه ظهورٌ مطّرد وثابت، لمزيد من الكائنات الحيّة الأكثر إحكاماً وتبايناً وتخصصاً. بل إنّ أعضاءً تطوّرت وبلغت حدّ الإعجاز في تكيّفها، مثل عينيّ (218)
الإنسان ويديه ـ وهي أعضاءٌ كانت دقّةُ تصميمِها وأدائها سبباً في ظهور تفسيراتٍ ميتافيزيقية ـ إنها هي في رأي الكتاب [كتاب أصل الأنواع] نتاجٌ لعمليّةٍ سارت في ثبات واطّراد منذ البدايات الأولية، ولكن لم تكن مسيرتُها صوبَ هدفٍ مرسوم مقدّماً.
وطبعي إنّ الاعتقاد بأن الانتخاب الطبيعي الناجم عن مجرّد المنافسة بين الكائنات الحيّة وصراعها من أجل البقاء، هو الذي أنتج الإنسان والحيوانات الراقية والنباتات، مثل هذا الاعتقاد كان هو الجانب الأكثر قسوةً وإزعاجاً في نظرية داروِن. إذ ماذا عسى أن يعني "التطوّر" و"النموّ" و"التقدم" في حالة غياب هدف محدّد؟ ولقد بدت هذه المصطلحات كلّها فجأةً في نظر كثيرين وكأنها مصطلحات متناقضة مع نفسها.
 وإنّ القياس التمثيلي الذي يناظر بين تطوّر الكائنات الحيّة وبين تطوّر الأفكار العلمية يمكن المضيّ به قدماً ودفعُه بسهولةٍ إلى مدىً بعيد للغاية. ولكنه يقارب حدّ الكمال في ما يختص بالقضايا المثارة في هذا الفصل الختامي. وإن العملية التي عرضناها في الفصل الثاني عشر باعتبارها عملية انحلال للثورات هي الانتخاب عن طريق الصراع داخل المجتمع العلمي لأصلح سبيل لممارسة علوم المستقبل. والنتيجة الخالصة لتسلسل عمليات الانتخاب الثورية هذه، والتي تفصل بينها فتراتٌ يسود فيها البحث القياسي، هي جَماع ما نملكه من أدوات تثير الإعجاب بما حققته من مرءمةٍ ونسميها المعارف العلمية الحديثة. وتميّزت المراحل المتعاقبة في هذه العملية التطوريّة بزيادة التخصص والأحكام ودقّة ووضوح التفاصيل ولعل العملية كلها، أسوةً بما افترضناه الآن بشأن التطوّر البيولوجي، لم تجرِ وفاءً لهدفٍ محدّد، أو سعياً من أجل حقيقةٍ علميةٍ ثابتة، بها تكون كل محلةٍ من مراحل تطوّر المعرفة العلمية نموذجاً أفضل.
أحسبُ أنّ كل من تتبّع هذه الدراسة إلى الغاية التي انتهت إليها سوف يشعر على الرغم من ذلك بالحاجة إلى أن يسأل: ولماذا تجري العملية التطورية؟ على أيّ نحوٍ يجب أن تكون الطبيعة، بما في ذلك الإنسان، حتى يصبح العلم أمراص ممكناً على الإطلاق؟ لماذا نقول حريٌّ بالمجتمعات العلمية أن تكون قادرةً على الوصول إلى توافق الآراء ويتصل عبر التغير من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر؟ ولماذا ينبغي أن يفضي تغير النموذج الإرشادي دائماً (219)
وأبداً إلى أداةٍ أكثر كمالاً بأيّ معنىً من المعاني تتجاوز به كل الأدوات المعروفة قبلاً؟ لقد تمت الإجابة من وجهةنظر واحدةٍ على كل تلك الأسئلة فيما عدا السؤال الأول.
ولكنها حسب وجهة نظرٍ أخرى لا تزال تنتظر الجواب على نحو ما كانت في بداية دراستنا هذه. إن المجتمع العلمي ليس وحدَه فقط الذي يتعيّن عليه أن يكون خاصاً متميّزاً. وإنما العالم كلّه الذي يشكّل المجتمع العلمي جزءاً منه يجب أن توفر له هو الآخر سماتٌ خاصةٌ ومميّزة تماماً، ونحن لم نقترب بعدُ خطوةً واحدةً أكثر مما كنا في البداية في سبيل معرفة ماذا يجب أن يكون العالم حولنا حتى يتسنى للإنسان أن يعرفه؟ لز تبتكرها هذه الدراسة. بل على العكس، إنها مشكلةٌ قديمةٌ قدم العالَم ذاته، ولا تزال بغير إجابة. ولكن ليست هناك ضرورةٌ تحتّم الإجابة عليها هنا في هذا المكان. فإن أيّ تصوّر للطبيعة يتسق مع الفكرة القائلة إن العلم ينمو من خلال تأسيسه على البراهين إنما يتسق أيضاً مع النظرة التطوريّة للعلم التي عرضناها هنا. وحيث إن هذه النظرة متسقة أيضاً مع المشاهدة الدقيقة للحياة العلمية، فإن هناك من الجج القوية ما يدعم استخدامها في محاولاتٍ لحلّ هذا الكمّ الكبير المتراكم من المشكلات بغير حلّ.
(220)




حاشية ١٩٦١ و النماذج الإرشادية 221:


إن العديد من المشكلات الكبرى التي انطوى عليها النصّ الأصلي لكتابي تتركّظ حول مفهوم النموذج الإرشادي، ومنها تبدأ مناقشتي لها. ويلاحِظ القارئ في الفصل الفرعي التالي، ويحمل رقم 1، أنني أشير إلى الرغبة في فصل هذا المفهوم عن فكرة المجتمع العلمي، وأوضح كيف يمكن أن يحدث هذا. وأناقش بعض النتائج الهامّة لعملية الفصل التحليلي الناجمة عن ذلك. وأتناول بعد ذلك بالدراسة ما يحدث عند التماس النماذج الإرشادية عن طريق فحص سلوك أعضاء مجتمع علمي محدد البنية مقدماً. وسرعان ما تكشف هذه العملية عن أنّ مصطلح "نموذج إرشادي" استُخدم في الجزء الأعظم من الكتاب بمعنيين مختلفين. فهو من ناحيةٍ يعبّر عن جَماع المعتقدات والقيَم المتعارف عليها والتقنيات المشتركة بين أعضاء مجتمع بذاته. ويشير من ناحيةٍ أخرى إلى عنصر منفصل في هذا المركب الجامع وأعني به (221)
الحلول الواقعية للألغاز، التي إذا ما استخدمت كنماذج أو أمثلة يمكن أن تحلّ محلّ القواعد الصريحة كأساسٍ لحلّ الألغاز المتبقّية في نطاق العلم القياسي. والمعنى الأول للمصطلح، ولنسمِّه المعنى السوسيولوجي، هو موضوع الفصل الفرعي 2 فيما يلي.
وقد خصصت الفصل الفرعي 3 للنماذج الإرشادية باعتبارها أمثلة لإنجازات الماضي.
ويمكن القول من الناحية الفلسفية على أقلِّ تقدير، إن المعنى الثاني لمصطلح "نموذج إرشادي" هو المعنى الأعمق فيما يختص بالمعنيين المشار إليهما، وإن ما سقته من آراءٍ في ضوئه بين ثنايا الكتاب هي أساساً علّة ما ثار من جدال وسوء فهم، خاصةً ما يتعلق باتهامي بأنني أحوّل العلم إلى مشروع شخصي ولاعقلاني.
ناقشنا ثلاث قضايا أخرى.. في الفصلين الفرعيين الختاميين.
يردّ أولهما على الاتهام بأن النظرة إلى العلم المعروضة في هذا الكتاب هي نظرةٌ نسبية من أولها إلى آخرها. ويبدأ الثاني بالبحث فيما إذا كانت حجتي تعاني حقاً، كما قيل، من خلط بين الأسلوب الوصفي والأسلوب المعياري، وينتهي بعددٍ من الملاحظات الموجزة بشأن موضوعٍ يستحق دراسةً منفصلة: وهو المدى الذي يمكن عنده أن نطبّق بصورة صحيحةٍ ومشروعةٍ الفرضياتِ العلميةَ الأساسية في هذا الكتاب على مجالات بحثٍ أخرى غير العلم. (222)

1ـ النماذج الإرشادية وبنية المجتمع العلمي 223:

جرى استخدام مصطلح "النموذج الإرشادي" مبكراً مع الصفحات الأولى من هذا الكتاب، وكانت طريقة استخدامه تتصف بالدورانية: فالنموذج الإرشادي هو قاسمٌ مشترك بين أعضاء جماعة ٍعلمية، والعكس بالعكس، فالجماعة العلمية تتألف من رجال يشتركون معاً في نموذجٍ إرشادي واحد. وإذا لم تكن كل حالةٍ من حالات الدوران شيئاً سيّئاً (وسوف أدافع عن حجة لها هذا المبنى في ختام هذه الحاشية) إلا أنّ هذا الدوران كان سبباً في نشوء مصاعبَ حقيقية. إن المجتمعات العلمية يمكن، ويجب، فرزها دون اللجوء مسبقاً إلى النماذج الإرشادية. ويمكن اكتشاف هذه النماذج الإرشادية بعد ذلك من خلال الفحص المدقق لسلوك أعضاء مجتمع بذاته. ولو قدر لي أن أعيد كتابة هذا الكتاب فسوف أستهله بدراسةٍ عن بنية مجتمع العلم، وهو موضوعٌ أصبح مؤخراً مادةً هامةً ذاتَ شأنٍ كبير بين مشكلات البحث السوسيولوجي، كما شرع مؤرخو العلم بدورهم في الاهتمام به على نحوٍ جاد. وتفيد النتائج الأولية لهذه الدرساسات، التي لم يُنشر الجزء الأكبر منها بعد، أنّ هذا البحث يستلزم توفر تقنياتٍ متطورةً للغاية وإذا كان بعضها ميسوراً فإن البعض الآخر سيجري استحداثه على وجه القطع واليقين. وإن غالبية ممارسي العلم يجيبون في آن واحد على التساؤلات بشأن انتسابهم إلى جماعاتهم العلمية، آخذين مأخذ التسليم إن المسؤولية بشأن التخصصات الراهنة المختلفة جرى توزيعها بين جماعات تحددت تضويتها بصورة تقريبية على أقلّ تقدير. لذلك سأفترض هنا أننا سوف نهتدي إلى وسائلَ أكثرَ منهجيةٍ لتحديدهم. وبدلاً من أن أعرض النتائج الأولية لهذه البحوث أوثر أن أحدد بإيجاز المفهوم الحدسي لكلمة الجماعة، والذي يشكل الأساس لغالبية الفصول السابقة في هذا الكتاب. لقد شاع هذا المفهوم الآن على نطاقٍ واسع بين علماء الطبيعة وعلماء الاجتماع وبين عددٍ من مؤرخي العلم.
وحسب وجهة النظر هذه فإن أيّ مجتمع علمي يتألف من الممارسين لتخصّص علمي محدّد. ويكونون قد مرّوا بمرحلة متماثلة من حيث التعليم والتنشئة المهنية، وهي مرحلة لا نظير لها إلى حدّ ما في أكثر مجالات البحث الأخرى. ويستوعبون خلال هذه العملية ذات الأدب التقني، ويفيدون (223)
  منها نفس الدروس. ومن المعتاد أن تشكل حدود هذا الأدب المهني المعياري معالمَ مادةِ الموضوع العلمي، ونطاق بحثه، ويصبح لكل مجتمعٍ علمي في العادةِ مادةٌ دراسيةٌ خاصةٌ به.
وهناك مدارسُ في مجالات العلم ومجتمعاته، بمعنى أنها تتناول ذات الموضوع من وجهات نظر متعارضة. بيد أنها هنا ظاهرةٌ شديدة الندرة على عكس ما نلمسه في مجالات البحث الأخرى، وهي دائماً في حالة تنافس، وعادةً ما تحسم المنافسة بينها وتنتهي سريعاً. ونتيجةً لذلك يرى أعضاء أي مجتمع علمي أنفسهم، كما يراهم غيرُهم، في صورة رجالٍ مسؤولين وحدَهم وعلىنحوٍ فريد عن متابعة مجموعةٍ من الأهداف المشتركة بينهم بما في ذلك تدريب من يخلفونهم. (224)
.. من المعايير التي تعتبر معايير كافية لتحديد العضوية [في مجتمع علمي] ما يختص منها بالحصول على أعلى درجةٍ علمية في مجال البحث، وعضوية إحدى الجمعيات المهنية المتخصصة والاطلاع الواسع على بعض الدوريات العلمية. (224)
[استقرار النموذج ومرحلة حلّ الألغاز]
.. قبل أن يتم الانتقال [من نموذج إرشادي إلى نموذج إرشادي جديد] يتنازع عددٌ من المدارس في سبيل الهيمنة علىمجالٍ بذاته، وبعد ذلك، وعلى إثر تحقق إنجازٍ علميٍّ مرموق، ينخفض عدد المدارس انخفاضاً ملحوظاً، حتى ليصل عادةً إلى مدرسةٍ واحدة. ويبدأ في الظهور نموذجٌ للممارسة العلمية أكثرُ فعالية، ويبدو هذا النموذج بوجه عام شديد التخصص، ومتجهاً نحو حلّ الألغاز، حيث إن نشاط الجماعة العلمية لا يأخذ سبيله المعتاد إلا بعد أن يسلّم أعضاء هذه الجماعة بأسس مجال بحثهم العلمي، ويعتبرونها أمراً يقينيناً. (225ـ 226)
.. فالثورة عندي نوعٌ خاص من التغير ينطوي على نوعٍ معين من التجديد أو إعادة تنظيم التزامات جماعة البحث. ولكن ليس من الضروري أن تكون تغيّراً هائلاً، ولا من الضروري أن تبدو حدثاً ثورياً في أعين الغرباء عن جماعة البحث، التي ربما تتألف من عدد يقل عن خمسةوعشرين شخصاً. (228)
[ما الأزمة؟]
لقد ارتاب عدد من النقاد فيما إذا كانت الأزمة، بمعنى الوعي المشترك بأن هناك خطأً ما، يسبق الثورة دائماً وأبداً كما يفيد ضمناً النص الأصلي للكتاب. غير أنّ ما سقته من حجج لا يتضمّن أيَّ شيء هام يتوقف على كون الأزمات شرطاً مطلقاً سابقاً على حدوث الثورات. إذ يكفي أن تكون هي المقدمة العادية التي تهيّئ آليةً للتصحيح الذاتي تكفل ألا يطرد جمود العلم القياسي ويمضي إلى الأبد دون أيّ تحديات. ومن الممكن أيضاً أن تحدث الثورات بصورةٍ أخرى، وإن كان ذلك في اعتقادي أمراً نادراً. علاوةً على هذا أودّ أن أؤكد هنا ما تسبب فيه قصور دراسة بنية الجماعة العلمية من غموض: إن الأزمات لا تتولد لزاماً بسبب أعمال الجماعة التي تعاني منها، والتي تجتماز ثورةً نتيجةً لذلك. إذ إن أجهزة جديدةً مثل الميكروسكوب الإلكتروني أو قوانين جديدة مثل قوانين ماكسويل قد تستحدث في مجال بحث متخصص ويؤدي استيعابها إلى نشوء أزمةٍ في مجال بحث آخر. (228ـ 229)

2ـ النماذج الإرشادية باعتبارها مجموعةً مؤلّفة من التزامات جماعة البحث 229:


[النموذج الإرشادي، 22 استخداماً]
ننتقل الآن إلى النماذج الإرشادية ونسأل ماذا عساها تكون؟ هذه هي المسألة الأكثر غموضاً والأهم شأناً في كتابي الأصلي. وها هو ذا قارئ ينصرني الراي ويشاركني الاعتقاد بأن مصطلح "النموذج الإرشادي" يمثل العنصر الفلسفي المركزي في الكتاب، وقد أعدّ ثبتاً تحليلياً جزئياً، وانتهى إلى أنني استخدمت لك [ذلك] المصطلح في اثنين وعشرين استعمالاً مختلفاً على أقل تقدير. وأعتقد الآن أن أكثر هذه الاختلافات مرجعَها إلى تضارب في الأسلوب (مثال ذلك قوانين نيوتن، فهي حيناً نموذجٌ إرشادي، وحيناً آخر أجزاء من نموذج إرشادي، وحيناً ثالثاً منسوبةٌ إلى نموذجٍ إرشادي)، وأن بالإمكان التخلي عنها بسهولة نسبية، ولكن يتبقى بعد ذلك استعمالان للمصطلح مختلفان تمام الاختلاف، ويلزم التمييز بينهما.
ويمثل الاستعمال الأول الأكثر عمومية وشمولاً موضوع هذا الفصل الفرعي،
أما الاستعمال الثاني فسوف نبحثه في الفصل الفرعي التالي.
بعد أن فرزنا جماعةً بذاتها من الباحثين المتخصصين بناءً على تقنيات مماثلة لتلك التي عرضنا لها تواً، قد يكون من المفيد للمرء أن يسأل: ما هو القاسم المشترك بين أعضاء جماعة البحث هذه، بحيث يفسر الكمال النسبي للاتصالات بينهم على المستوى المهني، والإجماع النسبي في أحكامهم المهنية؟
يجيز الكتاب الأصلي الإجابة على هذا السؤال بقولنا: النموذج الإرشادي أو مجموعة النماذج الإرشادية. ولكن المصطلح لا يلائم هذا الاستعمال، على عكس الاستعمال الذي سنعرض له فيما بعد. وقد يقول العلماء أنفسهم أنهم يشتركون معاً في نظريةٍ أو مجموعةٍ من النظريات. وكم أكون مسروراً لو استخدمنا المصطلح بهذا المعنى في نهاية الأمر. بيد أن مصطلح "نظرية" كما يجري استخدامه الآن في مجال فلسفة العلم يدل على بنية أضيق من حيث الطبيعة والنطاق من البنية التي نعنيها هنا. وإلى أن يتم تحرير المصطلح من مدلولاته الراهنة سنلتزم بمصطلح آخر تحاشياً لأي خلط. (229)
وأقترح الآن استخدام مصطلح "قالب مبحثي Disciplinary Matrix" وهو "مبحثيّ" لأنه يشير إلى أن الباحثين الأخصائيين يربطهم معاً مبحث معرفي ودراسي محدد، و"قالب" لأنه يتألف من عناصر منتظمة ومختلفة الأنواع، كل منها يستلزم دراسةً تفصيلية متخصصة. ومن ثم فإن كل عناصر التزام جماعة البحث التي يدرجها كتابي الأصلي تحت اسم نماذج إرشادية أو أجزاء من نماذج إرشادية، أو أن ينسبها إلى نماذج إرشادية أو الغالبية العظمى منهم، إنما هي مكوّنات هذا "القالب المبحثي"، وهي بحكم كونها كذلك فإنها تشكل كلاً واحداً وتعمل معاً في وحدةٍ واحدة. ومع ذلك لا محلّ لدراستِها بعد الآن وكأنها قطعةٌ واحدة. ولن أحاول الآن تقديم قائمةٍ شاملةٍ بل سأكتفي بالإشارة إلى العناصر الرئيسية من مكوّنات القالب المبحثي اعتقاداً مني بأنها ستوضح طبيعة نهجي الراهن في معالجة الموضوع، وتمهد السبيل في الوقت ذاته للموضوع الرئيسي التالي. (230)

4ـ المعرفة الضمنية والحدس (240):

5ـ الأمثلة ـ اللاقياسية ـ الثورات (247):

6ـ الثورات والنزعة النسبية (254):

كوين يرد على اتهامه بالنزعة النسبية
.. لنتأمّل أيَّ نظريتين من هذه النظريات نختارها من موضعين غير قريبين جداً من منبتيهما، سنجد أنه من اليسير علينا وضع قائمةٍ بالمعايير التي تمكّن أيّض مشاهدٍ محايدٍ من أن يميّز النظرية الأقدم عن النظرية الأحدث حسب التتابع الزمني. وسوف يتبيّن لنا أنّ من أكثر الأمور فائدةً هنا: دقة التنبؤ، خاصة التنبّؤ الكمي، والتوازن بين الموضوعات المتخصصة وموضوعات الحياة اليومية العادية، وعدد المشكلات المختلفة التي تمّ حلّها. وسوف نجد من القيم: البساطة وسعة الفهم والتجانس م عالتخصصات الأخرى، وهي وإن كانت أقلَّ فائدةً لما نحن بصدده إلا أنها محددات هامة للحياة العلمية. ولا ريب عندي في أنّ هذه القوائم ليست هي كل ما ه ومطلوب وإنما يمكن استكمالها؟ وإذا أمكن ذلك فإن التقدم العلمي يصبح مثله مثل التقدم البيولوجي عملية آحادية الاتجاه لا يمكن عكسها. فالنظريات العلمية المتأخرة تكون أفضلَ من النظريات القديمة من حيثُ حلُّ الألغاز في غالبية البيئات المختلفة التي يجري تطبيقها فيها. ومثل هذا الرأي لا يرتكز على نزعةٍ نسبية، كما أنه يحدد بأي معنى أومن إيماناً راسخاً بالتقدم العلمي.
وإذا قارنّا هذا الاتجاه بمفهوم التقدم الشائع بين فلاسفة العلم وبين العامة، سنجد أنه يفتقر إلى عنصرٍ جوهري. فهناك عادة شعور بأن أيّ نظرية علمية تكون أفضل من سابقتها لا من حيث أنها أفضل لللاكتشاف وحل الألغاز، بل وأيضاً لأنها بشكل ما تعبير أفضل عن حقيقة الطبيعة في واقعها. وكثيراً ما يسمع المرءُ أن النظريات المتعاقبة تتقارب أكثر فأكثر من الحقيقة أو أنها تعطى أحكاماً تقريبية بتزايد صدقها ودقتها باطّراد لتطابق الحقيقة. وواضح أنّ تعميمات كهذه لا علاقة لها بمسألة حلّ الألغاز ولا التنبؤات المحددة المستمدة من إحدى النظريات، بل تنصبّ على مبحث وجودها "الأنطولوجيا" أي المطابقة بين الكيانات التي تملأ بها النظرية الطبيعة وبين ما هو "هناك واقعياً".
وربما يكون هناك سبيل أخرى لإنقاد مفهوم "الحقيقة" لتطبيقه على نظريات كاملة، غير أنّ هذه الطريقة غير ملائمة. ويبدو لي أنه لا توجد أيّ إمكانية مستقلة عن النظرية نصوغ على أساسها من جديد عبارات مثل "هذا ما هو موجود حقيقةً"، كما يبدو لي الآن أن مفهوم التطابق بين أنطولوجيا نظرية ما وبين مقابلها "الواقعي" في الطبيعة هو وهمٌ في أساسه. بيد أنني كمؤرخ أجدني متأثراً بما تتسم به هذه النظرة من عدم قابلية للتصديق.
ولا ريب عندي، على سبيل المثال، في أنّ ميكانيكا نيوتن أفضل من ميكانيكا أرسطو، وميكانيكا آينشتين أفضل من ميكانيكا نيوتن كأدوات لحلّ الألغاز. بيد أنني لا أستطيع أن أتبيّن في تعاقبها اتجاهاً منسقاً للتطور الأنطولوجي [الأقرب إلى الواقع]، بل على العكس يبدو لي أنّ النظرية العامة للنسبية عند آينشتين هي أقرب من نواح هامة، وليس في جميعها على الإطلاق، من نظرية أرسطو على عكس أي منهما في علاقتها بنظرية نيوتن. [الصياغة غير واضحة القصد]. إنني أفهم الأسباب الداعية إلى وصف هذا الموقف بأنه مبني على نزعةٍ نسبية، إلا أنني أعتقد أنه وصفٌ خاطئ. وعلى العكس فإذا كان هذا الموقف نابعاً عن نظرةٍ نسبية فإنني لا أرى أيّ شيء يفتقر إليه صاحب النزعة النسبية لكي يفسر طبيعة العلوم وتطورها.
(255ـ 256)


عن مقالة "الثورة العلمية وفوضوية العلم"
يمكن اختصار تصوّر "كوهن" عن عملية التطور في الأنموذج التالي:
ماقبل العلم؛ علم سويّ؛ أزمة؛ علم سوي جديد...
وإذا كان توماس كوهو من خلال أنموذجه هذا قد حمل بالفعل نظرةً مغايرة لما كان مألوفاً في مجال الأبيستيمولوجيا، فإنه احتاج من أجل ذلك إلى جهاز مفاهيمي لم يكن هو الاخر مألوفاً، وهي مفاهيم تمثّل مفتاح نظرية كوهن، أمثل: البراديغم ـ العلم السويّ ـ الشذوذ ـ القالب التعليمي ـ الأزمة ـ الجماعة العلمية ... (7)
إن العلم عبر ثوراتِه ونجاحاتِه يستهدف تحقيق التقدم، لكنه تقدّم لا يسير نحو هدفٍ معيّن؛ ذلك أن كوهن يتحدث عنه بمفهومه الداروِني، أيّ كتقدّم نحو لاهدف، تقدم يمليه الانتقاء الطبيعي عبر تطوير الأداء والقدرة على التكيّف، والعلم كما الجهاز البيولوجي يطوّر ذاته عبر سيرورات التكيّف والتلاؤم دونما أن يسير إلى غايةٍ معيّنة ينشدها. (9)
إن العلم كما يصوّره فيرباند كائنٌ معقّد ينمو بأشكالٍ مختلفة غير قابلةٍ لا للضبط ولا للتوقع، ولهذا السبب فكل شيءٍ فيه كان وسيظل حسناً، ذلك أن من حقّ أيٍّ كان العودة إلى نظريات علمية قديمة لإعطائها فرصةً جديدة عبر تطوير فرضياتها، ويأتي ذلك في إطار مفهوم العلم المفتوح أمام النظريات لتتلاقح وتتحاور. فالعلم الأرسطي مثلاً كان وسيظل يزخر بإمكانات للتأويل والتحليل والفهم وما زال يحتفظ بخصوبةٍ مفهوميةٍ قابلة لأن تشتغل متى توفرت شروط تجريبية وثقافية ومساعةدة، إن الثورة النيوتونية أو النسبية لم ولن تقضي على الأرسطية، لأنها ليست أفضل منها بأي شكل من الأشكال وكل ما هنالك أنها مغايرة لها. (11)
والظاهر أن الموقف السابق يحيل على رفض فيرباند لفكرة التقدم بدليل أنه ينظر إليه على أنه أسطورة تغري الأذهان المهووسة بالعقلانية والمعجبة بالعلم وبأفضليته على باقي الميادين والفاعليات الإنسانية الأخرى، وبالمقابل يدعو فيرباند إلى النظر إلى العلم بعيداً عن كل عقلانية متحجرة بشكل تجعله على قدم المساواة مع باقي الحقول المعرفية الأخرى، في حين يقف فيرباند على طرف النقيض مع توماس كوهن، فهو يحرص ـ أي فرباند ـ على احترام إنسانية العالم مهما كانت اختصاصاته، فهذا الأخيريبقى إنساناً يجب أن يتمتع بكامل حريته الفكرية بشكل يجعله قادراً على التعامل مع الظواهر والمستجدات بمرونة، وهنا تتجلى فوضوية العلم التي تشكل جوهر فلسفة فيرباند، الذي يؤكد على ضرورة إعطاء حرية للإنسان للتعامل مع أي علم وبأية منهجية أراد بعيداً عن كل محاولات مأسسة العالم، لذلك "علينا أن نحرر المجتع من علم تمّ تحجيره بصورة أيديولوجية لدرجةٍ أصبح معها يخنق أنفاس هذا المجتع ذلك تماماً كما حررَنا أجدادُنا سابقاً من قوة الخنق التي تحملها الديانة الصحيحة ـ الوحيدة". (11)
لقد حاول فيرباند من خلال فوضوية العلم تحرير الباحث من تلك القيود الوهمية التي نسجها كوهن، إذ إن الباحث يبقى سيدا لنفسه ولعلمه، ولننتظر منه إمكانية تغيير موقفه في أية لحظة دونما حاجة لانتظار شذوذ علمي ثم أزمة فثورة فعلم سوي جديد،
[للتذكير: يمكن اختصار تصوّر "كوهن" عن عملية التطور في الأنموذج التالي:
ماقبل العلم؛ علم سويّ؛ أزمة؛ علم سوي جديد...]
.. كانت هناك بعض الانتقادات التي وُجِّهت لكتاب "بنية الثورات العلمية" [لتوماس كوهن]، وهي انتقادات إن استطاعت فعلاً أن تبرز عيوب ونقائص كوهن، وهو الأمر الذي أقرّ بوجوده كوهن نفسه في ملحق كتابه، بيد أنه لا ينسينا أن توامس كوهن نجح في خلق تصوّر جديد عن الميكانيزمات التي تشتغل وفقها المعرفة العلمية، وهو تصوّر نجده يلتقي في مناسبات عدة مع تصورات مفكرين آخرين شكلت تقاطعاتٍ أيبستيمولوجية مشتركة بخصوص مفهوم البراديغم، فهو يلتقي مع مفهوم الإيبستيمي عند ميشيل فوكو، وإذا كان الخير يحيل على النظام المعرفي الذي يحكم مرحلةً تاريخية معيّنة ويشكل جوهر الإنتاجات المعرفية خلالها، فإن البراديغم بالنسبة إلى كوهن يختزل هذا الاستعمال في بعده العلمي على اعتباره الوعاء الذي تصب فيه كل أعمال الباحثين الذين ينتمون إليه. أما بخصوص اشتغال البراديغم وفق سيرورة المحافظة والتجديد، فثمة تقارب كبير بينها وبين موقف الإيبستيمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه، الذي يعتبر أن هذه الآليات تشتغل على مستوى بنية العقل البشري من خلال ميكانيزمين هما: الاستيعات والتلاؤم، فبالاستيعاب يستدمج العقل المعطيات الخارجية ويطابقها مع معارفه، وبالتلاؤم يقف العقل على التوافقات الممكن حصولها بين المعطيات السابقة والجديدة، ليعمل على تعديل رصيده كي ينسجم وهذه المعطيات، وهو نفس السياق الذي يحكم اشتغال البراديغم عند كوهن، لأنه إذا كان عقلاً علمياً فهو أيضاً بنية تستوعب حينما تستدمج الطبيعة وتخضعها لقوانينه ومسلماته، وهو يتلاءم حينما يدل من تلك المسلمات لتتناسب والمعطيات الجديدة مما يجعل البراديغم ينجح في الاستمرار في حالة تكيّفه مع الطبيعة. أما في حالة فشله، فسيكون مؤشراً على حدوث ما يسميه كوهن الثورة. (15)