الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

فلسفة الأخلاق عند كانط؛ وضاح نصر.




فلسفة الأخلاق عند كانط
وضاح نصر
عن مجلة الفكر العربي عام 1987

قراءة نقدية في فلسفة كانط الأخلاقية.

نشرتها مجلة "حكمة" على الرابط التالي:



وقد جاء في الصفحات الأخير من المقالة مقارنةٌ بين أهم المذاهب الفلسفية في الأخلاق: أخلاق الواجب عند كانط، مقارنةً بالأنانية (منفعة الذات) ومذهب المنفعة (تحقيق أكبر نسبة من المنفعة لأكبر عدد من الناس)

إن الإنسان الفاضلَ  يكون فاضلاً بمعزل عن أيّ رغبةٍ في السعادة أو توقّع للاستفادة من قيامه بواجبه. وقد رفض كانط أن يجعل السعادة أساس الأخلاق سواءٌ أكان السعيُ وراءها يهدف إلى إسعاد الذات أم كان يهدف إلى إسعاد الآخرين. فالفضيلة ليست السعادة؛ الفضيلة هي أن نستحق أن نكون سعداء. وعندما يصبح نيلُ السعادة دافعَ الإنسان الفاضل للقيام بواجبه، لا يبقى هذا الإنسان فاضلاً ويفقد بالتالي حقّه في السعادة. وهذا يعني أننا نستحق أن نكون سعداء طالما أن نيل السعادة ليس قصدنا، وهمُّ الإنسان، إذا أراد أن يكون إنساناً فاضلاً، هو أن يقوم بواجبه لمجرد أنه واجبٌ ودون أن يولي أيَّ اعتبارٍ لأيِّ شأنٍ آخر بما في ذلك السعادة.
 لكن هذا لا يعني أن كانط رفض السعادة للإنسان أو أنه لم يعطِها أهميّةً كافية. إلا أن كانط يرى أنه إذا لم تتكلّل السعادةُ بالفضيلة يكون في الوجودِ نقصٌ وخلل.
ولكي نتجنب هذا النقص المُعيب علينا أن نفترض وجودَ نفسٍ خالدة وعالمٍ آخر وإلهٍ عادلٍ كلّيِّ القدرة، وإلا استحال وجود الأخلاق. وهكذا نرى أن العقل المحض الذي قوّض اللاهوت التقليدي على الصعيد النظري وجد نفسَه مضطراً، على الصعيد العملي، إلى إقامة لاهوتٍ أخلاقي في مكانه.
ويصرُّ كانط أن فلسفته في الأخلاق هي في الواقع توضيحٌ لمفهوم الأخلاق كما يعرفه الناس جميعاً وتفسيرٌ لمبادئ نقرُّ بها جميعاً في قرارات قلوبنا. وقد اعتبر البعض أن مذهب كانط في الأخلاق يعبّر عما قد يسمّى "وجهة النظر الأخلاقية" وإن المذاهب الأخرى غير الكانطية ليست في الواقع مذاهب أخلاقية بل هي "شيءٌ" آخر. وهذا إلى حدّ ما صحيح. ولكن الزعم أن كانط تخلّص من منافسيه الفلسفيين عن طريق تعريف الأخلاق على هذا النحو (أي أنه فاز عليهم باستعمال "التعريف القاضي"!)، هو زعمٌ فيه إجحافٌ بحق كانط أكثر مما فيه إجحافٌ بحق منافسيه. وقد يكون من المفيد لترسيخ فهمِنا لمذهب كانط في الأخلاق أن نأخذ بضعة أمثلة لقضايا أخلاقية ـ فلسفية ونقارن موقف كانط منها بموقف بعض منافسيه، من دون أن نذهب إلى حد القول أن هذه المذاهب الأخرى ليست في الواقع مذاهب أخلاقية. وقد اخترنا لهذه المقارنة مذهبين لكلٍ منهما تاريخٌ طويل يمتدّ من زمن الإغريق حتى يومنا هذا، وهما المنفعيّة والمذهب القام على مبدأ أثَرَة الذات أو مذهب الأنانية.
هناك أنواع عديدة من المذاهب الأنانية، لكننا سنركّز على الأنانية المستنيرة كما تُسمّى أحياناً. والفضيلة الأساسية التي يقوم عليها هذا المذهب هي ما قد يُسمّى بالفطنة. وهذه الفضيلة هي مزيجٌ من الحنكة والحكمة والتبصّر وحسن الاعتبار. والإنسان الفطِن، شأنه شأن كل أناني، يعطي لمصلحته أولويّةً مطلقة، ولكنه يدرك فائدة التعاون مع الآخرين والتعايش معهم، ولا يبالغ في تقدير قدرته على مجابهتهم والتغلب عليهم، كما أنه لا يستخفّ بقدرة الآخرين على إلحاق الأذى به، فيحكّم عقلَه في تقرير مصالحه ولا ينساق انسياقاً أعمى وراء رغباتِه الآنيّة عندما يكون في هذا الانسياق ضررٌ في المدى البعديد. وليس من المستغرب أن يكون الإنسان الفطن هذا مثال المواطن الصالح يقوم بواجباته تجاه كلِّ من حولَه خير قيام. ولكن الدافع وراء كل أفعاله هو الرغبة في خدمة مصالحه الخاصة وتحقيق رغباتِه الأنانية ولا شيء آخر. وإن هو خدم مصالح الاخرين أو ساعد على تحقيق رغباتِهم فلقناعة بأن في هذه الأفعال خيراً له يجنيه أو شرّاً يتجنّبه، فواجبات الإنسان الفطِن تكون دائماً نحو نفسه وإن بدت أنها واجباتٌ نحو الآخرين.
والمذهب المنفعي، كالمذهب الأناني، يعرّف الواجب على نحوٍ غائيّ. فواجبنا أن نختار الفعل الذي من شأنه أن يحقّق أكبر قدْرٍ من القيمة. والقيمة، بالنسبة إلى معظم المنفعيين، هي السعادة. والفارق الأساسي بين المذهب الممنفعي والمذهب الأناني أن دعاة المذهب الأول يعتبرون أن كل فردٍ متساوٍ بالقيمة والاعتبار مع كلّ فردٍ آخر. وأصبح شعار المنفعيين تحقيق المنفعة القصوى للعدد الأكبر من الناس. وليس المجال هنا مجال عرضٍ مفصّل للمنفعية وللإشكالات العديدة التي تلازم تفسير المبدأ المنفعي وتسويغه. ومن حسنات إعطاء مبدأ المنفعية أولويّة على كل مبدإٍ آخر أن هذا المبدأ يزوّدنا بنهجٍ واضحٍ لحل النزاعات الناتجة عن تعارضٍ في القيَم أو الالتزامات، فواجبُنا دائماً أن نختار ما يحقق المنفعة القصوى. لكن من سيّئات إعطاء مبدإ المنفعية هذا الموقع المميّز أنه قد يُلزِم المنفعي بالتخلي عن مبادئَ أو قيمٍ مهمّة كالعدالة أو الحريّة عندما تتعارض هذه المبادئ أو القيَم مع مبدأ المنفعية، وفي هذا إحراجٌ واضحٌ للمنفعيّ. وسنحاول إيضاح بعض هذه الأمور وإبراز التباين بين وجهة النظر الكانطية، من ناحية، وبين وجهتيّ نظر الأنانية والمنفعيّة من ناحيةٍ أخرى، عن طريق طرح بعض الأسئلة الأخلاقية ـ الفلسفية والنظر في الأجوبة التي يعطيها دعاة الأنانية ثم دعاة المنفعية مع تحديد موقع كانط من كلٍ منهما.
السؤال الأول: "ما الذي يلزمني أن أفي بوعودي؟"
الأناني يفي بوعوده طالما أن مصلحتَه تقض بأن يفعل ذلك. وإذا كان من النوع الفطِن فسوف يأخذ بعين الاعتبار عواقبَ خنثه بوعده ليس في المدى القصير فقط بل كذلك في المدى الطويل. وقد يفي هذا الإنسان بوعوده في معظم الأحيان، ولكنه لن يتردّد في الاستفادة من ظروفٍ تسمح له بأن يتسغلّ ثقة الآخرين به أو تُقلّل من قدرتهم على إلحاق الأذى به إن هو أساء معاملتهم، فهو مستعدٌّ أن يجازف بالقليل كي يربح الكثير. وقد لا تسنح له مثل هذا الظروف أبداً، فيفي [بالتالي] بكل وعوده. ولكن هذا الوفاء ليس وفاءً مبدئياً ولا يُسبِغ على صاحبه صفة الأخلاقية. فالفطنة ليست فضيلةً بالمعنى الكانطي، لأن دافع الإنسان الفطن عندما يقوم "بواجبه" (كأن يفي بوعدٍ كان قد أعطاه) ليس الشعور بالواجب، بل الرغبة في الاستفادة أو في تجنُّب الضرر.
أما المنفعي فيقول إن الوفاء بالوعد واجبٌ لأن الحنث به يزعزع أساس الثقة المتبادلة بين الناس ويلحِق الضرر بالمجتمع ككل. والمنفعي لا يسمح لنفسه أن يحنث بوعده حتى ولو كان في ذلك فائدةٌ واضحة له في المجالين القريب والبعيد، وهذا يمتاز به عن الأناني. ولكن واجب الوفاء بالوعد لا يعود واجباً بالنسبة إلى المنفعي إذا كان من شأن الحنث بالوعد أن يحقق منفعةً عامة تفوق المنفعة التي كانت ستتحقق لو أننا وفينا بوعدنا. والمنفعي يأخذ بعين الاعتبار الضرر الذي سيلحق المجتمع من جرّاء إضعاف ثقة الناس بالوعود وبجدواها. من هنا إن الأمثلة "المحرجة" للمنفعي تفترض أن الشخص الذي حنث بوعده من أجل المنفعة القصوى هو الوحيد الذي يعرف أن الوعد قد أُعطي من قبلُ (كأن نفترض أن جميع الفرقاء الآخرين قد ماتوا..). لكن القضية تبقى قضية حسابات، فنجمع القيمة الإيجابية ونطرح منها القيمة السلبية، وعلى أساس الفائض الصافي نقرّر واجبَنا. وقد اعتبر كانط أن هذا الأسلوب في تحديد واجباتِنا الأخلاقية هو إساءة لفهم معنى الأخلاق وجوهرها. فالأخلاق الكانطية مبنية على أساس مفهوم حقوق الفرد. وإذا كان لـ "ب" حقٌ على "ج" فإن هذا الحق لا تلغيه عمليةٌ حسابيةٌ تقرر مجموع المنفعة الصافي. وإذا نحن استبحنا حقوق إنسانٍ ما كي يستفيد سواه، فإننا نعامل هذا افنسان كوسيلة فقط لا كغايةٍ بذاته، وفي هذه المعاملة مخالفةٌ واضحة للأمر المطلق. وقد أصبح هذا التباين بين كانط والمنفعيين في النظرة إلى طبيعة الأخلاق أساساً للتمييز بين نوعين من النظريات الأخلاقية. فهناك النظريات المبنية على مفهوم الحقوق من جهة والنظريات المبنية على مفهوم المنفعة من جهةٍ ثانية.

السؤال الثاني: "ما الذي يعطي الحرّية قيمتَها، ولماذا نعتبر العبوديّة ظلماً وشراً؟".
الأناني يعتبر العبوديّةَ شراً خوفاً من أن يصل النيرُ إلى رقبته. وقد ينادي بالحرّية ويدافع عنها لقناعته أنه إذا عاش في مجتمع حرٍّ سيكون في ذلك فائدةٌ له. ولكنه لن يمانع باستعباد الآخرين طالما أنه من طبقة الأسياد، ولا خوفَ [من] أن تثور الطبقةُ المستعبَدة وتقضي على الأسياد وهو من جملتهم. وقد يقبل بنظامٍ سياسيٍّ متعسّف يضع السلطةَ في يد حاكمٍ مطلق الصلاحية إذا اعتبر أن الحرّية تؤدي إلى الفوضى والتناحر والشقاء، وفلسفة هوبز مثالٌ شهير على هذا النحو في التفكير. فهو على العموم لا يعتبر الحرّية غايةً بذاتها، وهو يحدّد قيمتها بمقدار ما فيها من نفعٍ أو ضررٍ لمصالحه الخاصة.
وموقف المنفعي من الحرّية مماثلٌ لموقف الأناني مع الفارق المعتاد، وهو أن المنفعي يحدّ قيمة الحرّية بمقدار ما يكون فيها نفعٌ أو ضررٌ لغالبية الناس. والطابع المهم والمشترك بين المنفعي والأناني هو أن ما يقرّر قيمة الحرية هو اعتباراتٌ تجريبيّة. ومن الطبيعي أن يحاول الفلاسفة المنفعيون الرد على الاعتراض القائل إن فلسفتهم قد تسوّغ نظامَ الرقّ إذا كان استعباد قلّةٍ من الناس يؤدي إلى زيادةٍ صافيةٍ في مجموع المنفعة العامة. وتغنّى المنفعيون بالحرية وزعموا أنه غير صحيحٍ، واقعياً وتجريبياً، أن العبودية هي مؤسسة يمكن، أياً تكن الظروف، أن تحقق سعادةً يفوق مقدار ما تسبّبه من شقاء. فالحرّية، بنظرهم، هي شرطٌ أساسيٌ من شروط السعادة. وجور الظالم لا يشقي المظلوم وحدَه بل هو يشقي الظالم أيضاً ويقضّ مضجعه. ومن الواضح أن محاولة المنفعي هذه لإثبات التزامه بالحرّية وحرصه عليها تعتمد على مجموعة مزاعمَ تجريبيةٍ عن طبيعة الإنسان وظروفِ عيشِه. ولكن حتى لو صح هذا الزعم فإن اعتراض كانط يبقى قائماً. ذلك لأنه اعتراضٌ مبدئيٌّ يرفض ربط التزامِنا بالحرّية، الذي يجب أن يكون التزاماً مطلقاً، بأية اعتباراتٍ تجريبية. فلا يجوز أساساً، ومن حيث المبدأ، أن نُدخل في حساباتنا سعادة المستبد أو الظالم، ولا حتى سعادة المستعبَد القانع بعبوديته والمرتاح لها. وبغض النظر عن نتيجة الحسابات الممنفعية، سواءٌ كان الفائض الصافي لصالح السعادة أم لصالح الشقاء، فمن غير المسموح به أخلاقياً ومبدئياً إدخال السعادة الناتجة عن الظلم في حساباتنا. ومن الواضح أن إعطاءَ المبدأ المنفعي الأوليّة المطلقة يلزم المنفعي تجاوز مبدأ العدالة، أو أيّ مبدإٍ آخر، إذا هو تعارض مع مبدإ المنفية.
بعد أن قارنّا مذهب كانط في الأخلاق ببعض المذاهب الأخلاقية الفلسفية الأخرى، قد يكون من المفيد أن ننهي هذا العرض لبعض خصائص الأخلاق الكانطية الرئيسية ببعض الملاحظات حول علاقة الأخلاق الكانطية بالدين.
لقد رأينا كيف أن الأخلاق الكانطية مبنيّة على احترام المبدأ. ورأينا كيف أن هذا المبدأ يقرّره العقل لا الميول والرغبات. وقد جعل كانط العقل وما يقرُّه من مبادئ (وليس إرادة شخصٍ أو كائنٍ مهما علا شأنه) الأساس الذي يحدد ملزماتِنا الأخلاقية وواجباتِنا. والسيادة الأخلاقية، تتحقق متى تحرّر الإنسان من كل القوانين المنبثقة عن غير العقل. من هنا إن إطاعة الآمر المطلق لا تتعارض مع سيادتِنا أو استقلاليتِنا، في حين أن إطاعة إرادةٍ أخرى تنفي هاتين السيادة والاستقلالية. ولكن إذا كان سبب إطاعتشنا لإرادةٍ ما، هو أن هذه الإرادة عبر تعبيراً تاماً وصحيحاً عن الآمر المطلق، فإن هذه الإرادة لا تتعارض عندذاك مع سيادتنا واستقلاليتنا. وإذا اعتبر المؤمن أن إرادة الله تعبر عن القانون الأخلاقي الأعلى فهذا يعني أن لا تعارض بين الأخلاق والدين. لأن العقل، لا الإرادة، يبقى مصدر الإلزام.

وبالرغم من أن كانط لم يعتبر الإيمان بالله واجباً أخلاقياً، فإنه كان مقتنعاً أن الإنسان ذا الإرادة الخيّرة والذي يلتزم بواجباته الأخلاقية بدافع من هذه الإرادة هو إنسانٌ متديّن (بالمعنى الكانطي) وإن هو لم يمارس طقوساً دينيّة معيّنة. فالتديُّن، في المقام الأول، هو تعميقٌ للأخلاقية. ولو نحن أفرغنا الدين من محتواه الأخلاقي لما بقي لدينا شيء. وكما أن الدافع لفعلٍ ما هو واجبٌ يجب أن يكون الشعور بالواجب وحسب، كذلك فإن الإنسان التقيّ والخيّر والورع يقوم بواجباته لا رغبةً في ثوابٍ ولا خوفاً من عقاب، بل لأنه نقيّ القلب طاهر الروح محبٌّ للرب. ويبقى الفرق بينهما في المفردات والرموز وليس في الفحوى.



رابط مقالة بعنوان العقليون والتجريبيون في فلسفة الأخلاق، للدكتور توفيق الطويل.




الأحد، 24 سبتمبر 2017

فلسفة نيتشه؛ زكي نجيب محمود.





فلسفة نيتشه
زكي نجيب محمود

لسنا نحسب أن داروين، حينما أذاع رأيه في تنازع البقاء وبقاء الأصلح، كان يدور في خلده أن ذلك الرأي سيكون له من العمق والسيطرة الفكرية ما له اليوم، وأنه لن يقتصر على الأحياء من نبات وحيوان، بل سيتعداها إلى كل لون من ألوان النشاط الإنساني؛ فأساليب الحكم، والدين، والأدب، والفن، والفلسفة، كل هذا وما هو أدق من هذا وأجل، يحاول الكتاب الآن أن يخضعوه إخضاعاً لقانون تنازع البقاء. فعسانا لا نسرف في القول إذا زعمنا أن داروين هو رب الفكر الحديث، يتأثر خطاه آلاف المفكرين والكتاب، وأصبح بقاء الأصلح غرض الرمي في الكثير الغالب من أبحاث العلم والفلسفة والفن جميعاً.

وفلسفة نيتشه هي واحدة من تلك الفلسفات العديدة التي يرجع نسبها إلى قانون داروين، فقد استولد نيتشه ذلك القانون واتخذ منه مقدمة، ثم استخرج فلسفته كنتيجة لازمة لتلك المقدمة، ولم يجد التردد إلى نفسه سبيلا في إذاعتها في الناس على خطورتها، واقعة ما وقعت من نفوسهم.
ما دام قانون تنازع البقاء وبقاء الأصلح يسيطر على كل مظاهر الحياة، فلابد للواهن أن يخور ويتلاشى، ولابد للقوة في كل شيء أن تظفر آخر الأمر، وإذا فالمثل الأعلى للفضيلة هي القوة دون سواها، والضعف هو علة العلل وآفة التقدم. فأيا كانت الأخلاق التي تثبت قدمها في معترك البقاء، فهي الفضيلة وهي الخير، وأيا كانت الأخلاق التي تخور قواها فتسقط صريعة في الميدان لتخلي الطريق لسواها فهي الرذيلة وهي الشر.

هكذا يبدأ نيتشه منطقه ثم يتابع هذا المنطق إلى نهايته، حتى يصل آخر الأمر إلى نتيجة خطيرة كل الخطر: إلى نبذ المسيحية بل إلى نبذ الأديان جميعا ما دامت تنتشر مبادئ العطف والإيثار والاستسلام؛ ثم ينادي بدوره بوجوب القسوة والقوة والعنف لأنها قوية، ولأنها أقدر على البقاء.
الإنسانية في حياتها وفي تقدمها تحتاج إلى القسوة دون الرحمة، وإلى الكبرياء دون التواضع، وإلى الذكاء والسيطرة دون الإيثار. أما هذه المساواة والديمقراطية التي اتجهت إليها الشعوب في التاريخ الحديث، فإنما تقف عقبة كؤوداً في سبيل الانتخاب الطبيعي للبقاء، فليس في الكثرة العددية والجموع البشرية كمال الإنسانية المنشود. ولكن في الصفوة القوية العبقرية وحدها. إذا فليس من المنطق في شيء أن تكون المساواة أساس الأجتماع، تلك المساواة التي تحد من قوة القوي، وتضيف إلى الضعيف قوة مصطنعة أبتها عليه الطبيعة. فلننبذ الديمقراطية نبذ النواة، ولنخل الطريق أمام القوة لكي تستطيع أن تتبوأ مكانها وتتحكم في أعناق الجماهير، وليكن المثل الأعلى في الحكم هو بسمارك وأشباهه الذين يسوسون الشعوب بالنار والحديد.

الأخلاق

أراد نيتشه أن يقوض بناء الأخلاق السائدة من أساسه، ليقيم على أنقاضه بناء خلقياً جديداً. أراد أن يبيد هذا النوع الإنساني ليخلق ضرباً آخر من الإنسان قوياً عنيفاً ذكياً كما يريد: هو السوبرمان (الإنسان الأعلى).

فقد شهد التاريخ نوعين مختلفين من الأخلاق: أخلاق نبيلة سامية، كانت شعار الشعوب القديمة، وبخاصة الرومان. إذ كانت الفضيلة تعني الرجولة والجرأة والشجاعة، وأخرى وضيعة دنيئة ظهرت في الشرق، اصطنعها اليهود اصطناعاً أيام ضعفهم. حيث الفضيلة عبارة عن مجموعة من صفات ترجع في أصولها إلى الخوَّر والاستكانة والذل. فالخضوع قد خلق التواضع خلقا، والعجز كون الإيثار تكويناً، وهكذا نسج القوم حولهم نسيجا من الأخلاق الهزيلة الخائرة يدرعون بها حيث لا مقدرة لهم ولا سلطان، ونزعت النفوس إلى السلم والتماس لنجاة، بعد أن كانت تلتمس مواضع القوة والخطر؛ فحل الخداع والمكر محل القوة، والإشفاق والعطف مكان الصلابة والعنف، وجاء التقليد دون الابتكار والإنشاء، وقام الضمير حكماً يلتجأ إليه مقام التفاخر بالشرف. . فالشرف وثني، روماني، أرستقراطي؛ أما الضمير فأثر من آثار اليهودية فالمسيحية فالديمقراطية.

ويقول نيتشه إن الأنبياء استطاعوا بما أوتوا من قوة الشخصية. وسحر البيان أن يزينوا للناس ذلك النوع الهزيل من الأخلاق، حتى رسخت في نفوسهم وأصبحت عقيدة ليس إلى نبذها من سبيل، فإتقلبت الأوضاع، وأصبح الفقر والضعف هما جوهر الفضيلة، والقوة والثراء عنوان الرذيلة.
وقد بلغ هذا التقدير الخلقي أقصى حدود التقديس أيام المسيح الذي جعل الناس جميعا سواسية، ومن هنا أشتق العصر الحديث مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، التي يعتقد نيتشه أنها الطريق المؤدية إلى الدمار والخراب.

ولكن الطبيعة تأبى الا أن تهدي الإنسانية سواء السبيل، فزودتها بإرادة غريزية لا تخطئ ولا تطيش لها سهام، فأنت إذا أمعنت النظر في الطبائع البشرية، أيقنت أن هذه الأخلاق السائدة من عطف ورحمة وإيثار وتضحية وما إلى ذلك، ليست الا ستاراً رقيقاً يخفي وراءه دافعاً غريزياً يمتلك من الإنسان قياده، نعم ذا أنت أمعنت في تحليل النفس الإنسانية، وجدت (إرادة لقوة) مستقرة في صميم الأعماق، تسير بالإنسان حيث تشاء. أعني أن الإنسان يلتمس القوة والسيطرة في كل ما ينزع إليه من أعمال وما يجيش في نفسه من مشاعر، وهذا الحب الذي يتخذه كثيرون دليلا على الإيثار بحجة أن التضحية فيه واضحة لا تحتاج إلى دليل هو في أعماقه رغبة في التملك، فما يبذله المحب في سبيل حبيبه يدفعه ثمنا للسيطرة على مخلوق آخر!! بل يزعم نيتشه أكثر من هذا فيقول إن من يتفانى في البحث عن الحقائق، لا يصرف مجهوده في سبيل الله من دونه. بل هو في الواقع يحاول أن يمتلك الحقائق قبل الآخرين.

وإرادة القوة هذه تملي على الإنسان ألوان الفلسفة وشتى ضروب الفكر، فمخطئ واهم من يحسب أنها تمثل الحقائق الواقعة، وإنما هي صورة منعكسة لرغباتنا، فالفيلسوف لا يضع المقدمات الصحيحة ثم يستنبط منه حكمته، ولكن الفكرة تنشأ وتتكون في ذهنه أولاً ثم يجيء بعد ذلك المنطق الذي يبررها.

فهذه الرغبات الغريزية المستترة وراء تلك الحجب الكثيفة من الأخلاق الظاهرة، هذه (إرادة القوة) هي التي توجه ميولنا وتكون آراءنا.

فالمنطق إذا ثوب رياء نخدع به أنفسنا، أو بعبارة خرى، تتخذ إرادة القوة من المنطق مبررا لأعمالها أمام العقل الإدراكي، ولكن الرجل القوى لا يحاول أن يستر إرادته وراء هذا الستار المنطقي الشفاف، الرجل القوي لا يعرف الا منطقا بسيطاً ينحصر في كلمتين، هما: (أنا أريد) ومتى أراد فلا حاجة إلى التماس المبررات. ولكن جاءت المسيحية فعكست الأوضاع الطبيعية. وأصبح الرجل القوي يستحي من قوته، ولابد له من البحث عن منطق لرغباته. وبذلك أخذت الأخلاق الأرستقراطية القوية الصالحة تذوي وتندثر، ونهضت قطعان الشعوب تقيم على أنقاضها صرحاً جديداً للأخلاق التي تلائم ضعفهم، وليس من سبيل إلى الشك في أنه إذا أرغمت أنوف الأقوياء، وأخذت السوقة تتبوأ مكان الزعامة من الإنسانية، فهي سائرة بخطى حثيثة إلى الدمار والفساد. ولسنا بحاجة إلى أن نقول إذا كانت الشفقة والرحمة والسلام خيراً، فليست الصراحة والعنف والحروب بأقل منها نفعا للمجتمع الإنساني: وبديهي أن هذه الأخلاق قد دافعت عن بقائها طوال العصور، ولم تبق الا لأنها نافعة وصالحة. ولولا أن (الشر) خير لاختفى من الوجود. فمن الحمق أن ننشد خيراً مطلقاً. بل لابد للأخلاق أن تتطور في الخير والشر على السواء، أي لابد للخير والشر أن يقفا جنبا إلى جنب، وأن يأخذ كل سبيله إلى الارتقاء.

السوبرمان

ما دامت الأخلاق تنزع إلى القوة في تطورها، فغرض الإنسانية لا يجوز أن يلتمس في السمو بالطبقات جميعا، وإنما يلتمس في تكوين نخبة صالحة؛ في تكوين السوبرمان، ومن العبث أن ينصرف المجهود البشري نحو إسعاد السوقة. بل يجب أن يتجه بكل قوته نحو إبادة هذا النوع من البشر، وإيجاد نوع أعلى مرتبة في الأخلاق؛ وانه لخير للإنسانية ألف مرة أن تتلاشى وتندثر من الوجود إذا لم تكن سائرة نحو تحسين النوع والارتفاع به. فليس المجتمع غرضا في ذاته، إنما هو أداة لزيادة قوة الفرد ونمو شخصيته، وهذا الفرد القوي السامي هو السوبرمان. الذي يؤمل نيتشه أن يخرج من أحضان الإنسان الحالي، وهو لا يعتمد في ذلك على الانتخاب الطبيعي، بل يريد أن يتعمد تكوينه بوسائل التربية، لأنه لاحظ أن تطور الحياة الطبيعي لا يعمل على إيجاد الفرد القوي الممتاز، وأن الطبيعة أقسى ما تكون على خيرة أبنائها، فلا سبيل إلى السوبرمان إلا بالانتخاب الصناعي والأخذ بوسائل (اليوجنية) والتربية الكاملة، وهو يقترح لتحقيق ذلك أن نعني بزواج الرجال الأقوياء من نساء ذوات قوة ممتازة، حتى لا يكون الزواج لمجرد التكرار، بل أداة للتسامي، فإذا ما أنتج ذلك الزواج نسلا، أعددنا له مدرسة خاصة تروضه على القسوة والعنف والجرأة والشجاعة، لا يتردد في تنفيذ أغراضه مهما اعترض سبيله من عقبات، غير عابئ بشر أو بخير، فليس الخير إلا ما يزيدنا شعورا بالقوة، وليس الشر الا ما تخور معه العزائم.

الأرستقراطية

الأرستقراطية وحدها هي الطريق إلى السوبرمان، فيجب أن نبحث الديمقراطية من أصولها، وأن نحطم في سبيل ذلك المبادئ المسيحية بأسرها لأنها والديمقراطية صنوان.

الديمقراطية معناها الدمار، معناها أن يتصرف كل جزء من الكل العضوي كيفما شاء، معناها التحلل والفوضى، معناها استخفاف بالعبقرية والنبوغ. معناها استحالة ظهور العظماء، إذ كيف يخضع العظيم لمهزلة الانتخابات، وهذه الشعوب تنبذ النفوس الكبيرة الحرة الجريئة نبذ الكلاب للذئب الجسور؟ نعم تنبذ النفوس الثائرة على القيود والعبادات، والتي لولاها لظلت الإنسانية حيث بدأت في ركود مميت. فكيف السبيل إلى استنبات السوبرمان في مثل هذه التربة الجدباء؟ كلا! لا سبيل إلى ذلك في مثل هذا المجتمع الذي يرفع على أكتافه رجل الأغلبية دون الرجل العبقري العظيم. في مثل هذا المجتمع الذي يحاول عبثا أن يسوي بين أفراد جعلتهم الطبيعة درجات بعضها فوق بعض.
وإذا كان نيتشه ينادي باقتلاع الديمقراطية وتحطيمها. فهو بالتالي يسخر من الاشتراكية لأنها وليدة الديمقراطية وربيبتها، فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً، أفلا تكون المساواة الاقتصادية عدلا كذلك؟

لا! العدل أن لا مساواة بين الرجال، والطبيعة نفسها تأبى هذه المساواة وتسعى جهدها في تباين الأفراد والطبقات والأنواع.

الحوت الكبير يلتهم السمك الصغير، هذه سنة القوة وخلاصة الحياة؛ فلتكن كذلك سنة الإنسانية ومثلها الأعلى في الأخلاق بغير مواربة ولا رياء.

نقد

يدعو فردريك نيتشه الإنسان الحالي إلى الفناء والتضحية بنفسه في سبيل السوبرمان، ومن التناقض الظاهر أن يصدر عنه نداء بالتضحية في الوقت الذي يؤكد فيه أن الأخلاق القوية الصحيحة هي التي تدور حول الأنانية والاعتزاز بالنفس! كيف تريدني على إنكار نفسي وتمهيد الطريق لسواي، أستغفر الله بل تدعوني إلىإخلائها وتركها لمن هو خير مني، وفي هذا من الاستكانة والضعف ما يعود نيتشه فينكره أشد إنكار؛ ولم لا أثبت أنا في الميدان؟ ولم لا أكون أنا السوبرمان المنشود بعد إصلاح ما اعوج من طبيعتي؟ كذلك يريد نيتشه أن يقوض الأخلاق السائدة التي تعتمد على الرحمة والإيثار والعطف، ويقول أن ذلك خلقه الضعيف خلقا ليتقي به القوي وقسوته؛ وكم كنا نود أن نسأله كيف تغلب الضعيف حتى سادت آراؤه وأصبحت أخلاقا معترفا بها؟ وأين كانت الأرستقراطية القوية عندما شهرت صفوف الشعب في وجهها هذا السلاح الرهيب؟

الحق الذي لا شك فيه أن النزعات والأخلاق جميعا قد فرضها القوي على الضعيف فرضا، فان كان بها من الوهن شيء، فلا يقع تبعته إلا على عاتق القوي الذي يروج لحكمه نيتشه.

(*)المصدر: الرسالة العدد 4، 01-03-1933.


الجمعة، 22 سبتمبر 2017

إصلاح الفلسفة ووضعية العلوم؛ أحمد أبالمعالي ولد سالم فال.



إصلاح الفلسفة ووضعية العلوم

يقوم الرأي السائد في الأوساط العلمية والفلسفية على افتراض مؤداه أن المأزق الذي وقعت فيه العلوم مأزق منهجي لا علاقة له بالفلسفة، غير أن بحث هذا الافتراض من منظور فينومينولوجي سيبرز بداهته والسذاجة التي تلفه بشكل تدريجي. سأعالج، في ضوء ذلك، هذا المأزق انطلاقًا من التحول العميق الذي لحق بماهية العلوم منذ بداية النهضة، ومن ثم سأبين فكرة إصلاح الفلسفة ومكانتها ضمن مشروع مؤسس الفينومينولوجيا.

يقدم هوسرل في "محاضرات براغ" 1935 و"محاضرة فيينا" 1935، ونص "الأزمة"* 1936 تحليلاً نقديًا لأزمة العلوم بالاتجاه إلى إصلاح الفلسفة الترنسندنتالية. ويستند هوسرل في ذلك إلى منظوره الفينومينولوجي الذي بلوره في مؤلفاته السابقة، وذلك لأن الشكل الذي أخذه المنهج الفينومينولوجي، بعد اكتشاف البعد التاريخي للوعي على وجه الخصوص، سيفتح الطريق لتشخيص الأزمة التي خيمت على العلوم وبالنتيجة ألقت بظلالها على الثقافة الأوروبية بكيفية عامة. وسيتخذ هوسرل من أزمة العلوم تيمة للبحث الفينومينولوجي ومدخلاً إلى إعادة الاعتبار للفلسفة الترنسندنتالية.

يشير هوسرل، في ضوء تحليله للأزمة، إلى أن هذه الأخيرة لا تمس صلاحية العلوم وعلميتها؛ فقد حققت العلوم نجاحات مطردة انعكست جليًا على ميادين المعرفة كافة، وإنما تمس، في العمق، دلالة هذه العلوم بالنسبة للحياة؛ أي أن "الأزمة لا تكمن في الكيفية التي حددت بها العلوم مهامها وأنشأت انطلاقًا من ذلك منهجيتها"[1]، بل تكمن في إعراضها عن الأسئلة التي لها دلالة حاسمة وعلاقة عميقة بالوجود البشري؛ يتعلق الأمر، والحالة هذه، بإقصاء العلوم لأسئلة المعنى، من مثل: الغاية والذات والتاريخ والإله والأخلاق...إلخ[2]. إن أساس أزمة العلوم هو أزمة الفهم الذاتي للإنسان[3] الذي يريد الإحاطة نسقيًا بالمشاكل الأخيرة والعليا للعالم والوجود البشري. لذلك يعود هوسرل، في معالجة هذه الوضعية، إلى التحول الجذري الذي لحق فكرة الفلسفة الشاملة بداية العصر الحديث. ابتدأ هذا التحول على مستوى العلوم الجزئية أو القطاعية مستندًا إلى استقلالية العقل العلمي وانتهى آخر المطاف بفقدان الفلسفة الترنسندنتالية مصداقيتها، وهو ما يعني فقدان الثقة بالعقل وبقدرته على توجيه الحياة المعرفية والعلمية.[4]

يتابع هوسرل هذا التحول في ضوء تشبثه بالمعنى الأصلي للفلسفة القادم من التقليد الإغريقي، ويعتقد، انطلاقًا من ذلك، أن الفلسفة من الناحية التاريخية هي أول شكل ثقافي أسس ذاته على معايير العقل ورسم لنفسه مهامّ لامتناهية، وسعى إلى بناء نماذج معيارية ذات صلاحية عامة،[5] فقد كانت الفلسفة تفهم نفسها على أنها هي الدراسة الشاملة للوحدة الكلية للكائن بصفته كلاً؛ أي العلم الشامل بكلية العالم.[6] ونظرًا لاختلاف قطاعات العالم وأشكال الكائن انبثقت عن الفلسفة علومٌ خاصة اضطلعت بمهمة دراسة هذه الأشكال وتلك القطاعات دون أن تقطع الصلة بالفلسفة التي تجد فيها وحدتها النسقية؛ أي ماهيتها ومعناها.

II

لا ينكر هوسرل أن المدلول الأصلي للفلسفة سيسود في بداية النهضة، إذ كان التوجه العام هو إنشاء نظر متحرر جذريًا من سيطرة الأحكام المسبقة ومن قيود الأسطورة والتقليد، فكان ينظر إلى مشاكل الوجود الجزئية في ارتباطها بمشاكل الفلسفة، غير أن ردود الأفعال ضد الفهم السكولائي الذي أضحت فيه الفلسفة مجرد مادة دراسية سجينة المعاهد والجامعات، واتساع دائرة الفهم الميكانيكي للعالم المستند إلى الترييض سيقود، في الوقت نفسه، إلى إبداع منهج جديد وفرضه على مجالات المعرفة كلها.[7] ويتجلى ذلك، بكيفية مشخصة، في علم الطبيعة الحديث، وقد استطاع هذا الأخير تبعًا لسيادة النزعة الطبيعية والتأويل الموضوعي عليه أن يبحث في الطبيعة فوق الذاتية الموضوعية في عناصرها وقوانينها اللامشروطة،[8] بمعنى أن هدف علم الطبيعة الحديث، بسبب تشبثه بالأنموذج الرياضي، بلوغ القانونية العامة التي تحكم المعطيات، وعليه يبحث في عالم ميكانيكي مغلق؛ فعلم الطبيعة الحديث لا يدرس إلا ما هو طبيعي؛[9] أي أنه يقصي كل ما له طابع ذاتي من دائرة اهتمامه. والحال أن هذا العالم المغلق المبحوث من قِبل علم الطبيعة الحديث هو أفق لمهامّ لامتناهية يتم الاقتراب منها تدريجيًا انطلاقًا من إنجاز عدد متناهٍ منها؛ فكل مهمة يتم إنجازها تشكل مقدمة للبحث عن حقائق أقصى، أي إنها تحيلنا على مهامّ أخرى.

ولا يمكن بلوغ اللامتناهي إلا ببلوغ السلسلة الكلية للمهام المتناهية، وهذا ما يجعل الحقيقة في العلم بمثابة النجم البعيد الذي نقترب منه دون أن نصل إليه، بمعنى أن اللامتناهي هو ما يجعل المهام اللامتناهية ممكنة، وليس اللامتناهي هو المقابل المنطقي للمهام المتناهية، إنما هو الأساس الذي يتوقف وجود المتناهي عليه، فهو منبعه الذي يخرج منه. ويتمثل الهاجس وراء ذلك في أن الحقيقة في نظر العلم هي حقيقة لامشروطة يتم الوصول إليها تدريجيًا. وهذا هو المعنى العميق لقول هوسرل "كل اقتراب من أفقٍ لامتناهٍ يُظهر أن الحقيقة نقطة بعيدة بعدًا لا متناهياً."[10]

ويلفت هوسرل الانتباه، إزاء ذلك، إلى أن علوم الروح توجد على طريق خاطئ، ذلك أنه رغم ما عرفته من تطور خصب، فإنها مع ذلك عرفت الفشل الذريع[11]. ويرجع هوسرل السبب في ذلك إلى خطأ مبدئي مؤداه أن علوم الروح تعاملت بالكيفية نفسها التي تعاملت بها علوم الطبيعة مع موضوعاتها، رغم أن الحياة الروحية تختلف جذريًا عن الواقع الطبيعي. فإذا كان علم الطبيعة لا يدرس إلا ما هو طبيعي وبالتالي يجد ذاته أمام عالم مغلق، فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لعلوم الروح، إذ إن علماء الروح لا ينظرون إلى الروح بصفتها روحًا محضة، وحتى عندما ينظرون إلى ما هو روحي محض، فإنهم لا يكونون إزاء عالم مغلق.[12] لذلك لجأ علماء الروح بإغواء من النزعة الطبيعية والتأويل الموضوعي إلى ما هو جسمي، إلى القاعدة التحتية الجسمية، بتعبير هوسرل، معتمدين على الفيزياء ذات النزعة الرياضية.

إن المشكل المنهجي لعلوم الروح أساسه تقيدها الصارم بمطلب الموضوعية، واختزالها لتيمتها المحورية في قطب أو بعد واحد، فلم تستطع تلافي أزمة علوم الطبيعة الناتجة عن نسيانها عالم التجربة اليومية، أي العوالم السابقة عليها التي هي في الواقع أرضيتها الأصلية؛ بمعنى أن ما حدث في علوم الطبيعة من فصل الموضوعات عن روابطها الأصلية وكيفيات عطائها الذاتية كان قد تكرر مع علوم الروح. صحيح أن عزل الموضوعات في أفق تجليها الأصلي الذي مكّن العلوم من تعزيز كفاءتها وتسييدها على الموضوعات يعود إلى عدم اكتفائها بالتجربة المباشرة؛ أي بكيفية التجلي الذاتي النسبي، بحكم السعي إلى القانونية العامة التي تحكم المعطيات. إلا أن ذلك أدى بها إلى إسقاط الأسئلة الأساسية للوجود البشري، بمعنى أن نزوع العلوم إلى بلوغ قوانين عامة لامشروطة سيؤدي بها إلى الانصراف عن الفلسفة، وبالتالي التضحية بإنشاء معرفة صارمة متحررًا جذريًا من قيود الأسطورة لحساب معارف جزئية أو قطاعية يأخذ هذا شكله البارز في التخصص المتزايد للعلوم الذي سيؤدي إلى ابتعاد ميادينها بعضها عن بعض واختلاف أساليب معالجتها جذريًا في أساس ماهيتها.[13]

III

يحاول هوسرل انطلاقًا، من ذلك التفكير بإصلاح الفلسفة وإعادة الاعتبار لها، وذلك لأنه لا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلا بتعميق جذري تستعيد فيه الفلسفة مهمتها ومعناها الأصليين بصفتها الحاضنة للعلوم الجزئية، وتعيد فيه هذه الأخيرة بناء الثقة بينها وبين عالم العيش. فالعلم عندما يطرح أسئلته يطرحها على أساس من عالم العيش، إذ الحقيقة العلمية مراقبة وكأنها تسجيل لما هو العالم.

نجد فكرة إصلاح الفلسفة، صراحةً أو ضمنًا، في المؤلفات السابقة لهوسرل على اعتبار أن إصلاح الفلسفة هو الخيط الموجه لتلك المؤلفات، وقد استطاع هوسرل تقديم تصوره للفلسفة التي يفهمها كفينومينولوجيا في نصوص مختلفة، من مثل: "الأبحاث"، ومقاله "الفلسفة كعلم صارم"، و"فكرة الفينومينولوجيا"، ومؤلف "الأفكار"، وقد انصب اهتمام هوسرل في الجزء الأول من "الأفكار" المعنون بـ"مدخل عام إلى الفينومينولوجيا الخالصة" وفي نص "التركيب الانفعالي" على بيان الموقف الطبيعي الذي نتبناه، حسب هوسرل، ضمنيًا وبكيفية تلقائية. فالأشياء تتجلى لنا في مقاطع منظورة من جانب معين. ومهما كان إدراكنا للشيء كاملاً، فإننا لا نحيط أبدًا بكلية خصائصه التي تنتمي له وتشكله معنىً،[14] فالموضوعات مرتبطة بوضعيات ذاتية نسبية، ومع ذلك فإننا لا نمتنع عن أن نصدر حولها حكمًا يشمل حتى الجوانب التي لا ندركها فعليًا، فوعينا الأصلي يشتمل إلى جانب ما هو مدرك فعليًا على جوانب أخرى ليست حاضرة بشكل أصلي. إن الجوانب غير المرئية في الموضوع هي بالنسبة لوعينا حاضرة بكيفية ما، فهي تشارك رغم أنها لا تتجلى بشكل فعلي.[15] فما ننسبه لموضوع الإدراك يتخطى كيفيات عطائه، ذلك أن وعينا الأصلي بجانب من الموضوع يحمل دائمًا إحالة على جوانب أخرى متعددة للموضوع، بل سلاسل مختلفة من الإدراكات.[16] ويتبدى في كل إدراك للموضوع جوانب أخرى يبرزها الأخير. إننا نصدر في الموقف الطبيعي، وبشكل ضمني، حكمًا حول وجود الموضوعات. هذا الحكم المتعلق بوجود الموضوعات المكانية يتخطاها، في الوقت نفسه، ليشمل العالم. ويمكن أن نحقق في إدراك الموضوعات ويمكن أن نحذفها لكن هناك شيء لا يمكننا حذفه هو العالم[17]. العالم هو الإنجاز العام لأطروحة الموقف الطبيعي.

يتبين أن الموقف الطبيعي، ليس في الواقع، موقفاً نقدياً؛ فنحن لا نميل فيه إلى الأشياء المعطاة لنا بالتجربة الحسية المباشرة ونعتقد بوجودها تلقائيًا؛ فالوعي القصدي يبقى في الموقف الطبيعي، غارقًا في الموضوعات التي يتركز عليها اهتمامه، والتي يعتقد تلقائيًا بوجودها، في حين تبقى كيفيات عطائها، أقصد الأشكال التي تتقدم فيها تلك الموضوعات، خارج حلقة انتباهه.

ويؤكد المنظور الفينومينولوجي على ضرورة تحويل الموقف الطبيعي إلى موقف فلسفي، وهذا التحويل ممكن بالفعل بواسطة الأيبوخى الفينومينولوجي.[18] لا يقصد هوسرل بالأيبوخى الفينومينولوجي إلغاء الموقف الطبيعي المعتقد، تلقائيًا، في وجود الموضوعات، وإنما يقصد به التوقف عن إصدار أحكام حولها، أي وضعها بين قوسين. ولا يكون الأيبوخى الفينومينولوجي شموليًا، في تقدير هوسرل، إلا إذا طال الاعتقاد بوجود العالم، بمعنى تم التوقف عن إنجاز الأطروحة العامة للموقف الطبيعي.[19] ويعتقد هوسرل أن شمولية الأيبوخى الفينومينولوجي لا تتعارض مع أن هناك مجالاً يبقى مستثنى منه، وذلك لأننا رغم إنجازنا للأيبوخى الفينومينولوجي، فإننا نصدر ادعاءات وأحكامًا خارج دائرته، ولا ينتمي المجال المستثنى للعالم، وهذا المجال هو الوعي المحض.[20] ويهتدي هوسرل إليه انطلاقًا من اختلاف نمط وجود الوعي عن كيفية وجود موضوعات العالم، فإذا كانت هذه الأخيرة تعطى في مقاطع منظورية، فلا تعطى لنا دفعة واحدة، وبالتالي تتعالى على وعينا. وعلى العكس من ذلك فعندما ينعكس الوعي على فعل من أفعاله القصدية، فإنه يعطى دفعة واحدة. إن اختلاف الوعي عن الموضوع هو ما يجعله استثناء من الأيبوخى، وليس هذا ضدًا على شموليته. ويفسر هوسرل، بعد إنجاز الأيبوخى، الكيفية التي يتوصل بها الوعي إلى الاعتقاد بموضوعات متعالية عليه. فالوعي لا يبقى في بيته الداخلي، بل إنه يتعداها لينسب للموضوعات وجوًدا في العالم، مقتنعًا بتعاليها عليه. إن المهمة الأساسية للفلسفة الفينومينولوجية هي بيان هذا البناء عن طريق الإرجاع الماهوي.

VI

ويتبين انطلاقًا من التحليلات السابقة، أنه من أجل أن تصبح الفلسفة علمًا بالمعنى الصارم ينبغي لها أن تستعيد وحدتها النسقية بصياغة نظرية شاملة لمختلف مجالات الحياة، وأن تقوم في الوقت نفسه بتوجيه هذه الأخيرة في ضوء معايير العقل وقيمه، لذا عمد هوسرل إلى صياغة برنامج فينومينولوجيا ترنسندنتالية تدرك حدود "العقل الحديث في ماهيته كعقل تحليلي سيكولوجي ترنسندنتالي."[21] من هنا نفهم بعمق الإشارة القوية التي أوردها هوسرل في تأملات ميتافيزيقية، تفصح عن اقتناع عميق بأن إصلاح الفلسفة يقتضي القيام بإصلاح موازٍ للعلوم التي تحتاج لكي تكون أصيلة أن تراجع أسسها الواهنة.[22]



*- نشرت هذه النصوص في ترجمتها العربية عن الأصل الألماني المنجزة من قبل أستاذنا د. إسماعيل المصدق ضمن مؤلف واحد سنحيل عليه لاحقًا.

[1]- إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة: إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 471

[2]- المصدر نفسه، ص ص 48- 49

[3]- إدموند هوسرل، النص رقم 10 السيكولوجيا وأزمة العلم الأوربي ’’محاضرات براغ‘‘ تشرين الثاني نوفمبر 1935، فيأزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة: إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 478

[4]- إسماعيل المصدق، هوسرل وأزمة الثقافة الأوربية، في: http://watansallam.blogspot.com/2013/01/blo -post_5000.html نقلاً عن مدارات فلسفية، مجلة الجمعية المغربية.

[5]- إدموند هوسرل، أزمة البشرية الأوربية والفلسفة، في: أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة: إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص 523

[6]- المصدر نفسه، ص 526

[7]- إدموند هوسرل، النص رقم 10 السيكولوجيا وأزمة العلم الأوربي، مصدر سابق، ص 474

[8]- المصدر نفسه، ص 519

[9]- إدموند هوسرل، أزمة البشرية الأوربية والفلسفة، مصدر سابق، ص 520

[10]- المصدر نفسه، ص 530

[11]- المصدر نفسه، ص 518

[12]- المصدر نفسه، ص 520

[13]- M. Heidegger, que-ce-que la métaphysique.

[14]- E. Husserl, De la synthèse passive, logique transcendantale et constitutions originaires, Traduit par B. Bégout et J. Kessles, Ed. Jérôme Million, 1998, P. 95

[15]- Ibid, p. 96

[16]- Ibid, p. 97

[17]- E. Husserl, Idées directrices pour une phénoménologie et une philosophie phénoménologique pures, tom premier introduction générale a la phénoménologie pure, Traduit par P. Ricœur, Ed. Gallimard, 1950, p. 95

[18]- Ibid, p. 102

[19] - إسماعيل المصدق، المحطات الأساسية للفينومينولوجيا، مدرات فلسفية، مجلة الجمعية المغربية العدد الرابع، 2000، ص 37

[20]- E. Husserl, Idées directrices pour une phénoménologie. Op. Cite, p. 106

[21]- جيرار غرانيل، هوسرل، ترجمة: الطيب بوعزة، في: مدرات فلسفية، مجلة الجمعية المغربية العدد الرابع، 2000، ص 62

[22]- E. Husserl, Méditations cartésiennes, Traduit par M. de Launay. in: Philosophie Magazine, N 60, 2012, p. 02

 

 

مرسلة بواسطة mohamad-philosophie في 2:19 م https://resources.blogblog.com/img/icon18_edit_allbkg.gif