الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

ما العقلانية، أيّ عقلانية (7) أو: بين الذكاء والعقلانية./ كورت فيسر



 


ما العقلانية، أي عقلانية؟ (7)

نظرة أعمق إلى العقلانية

 الخميس 3 شباط (فبراير) 2011




 

ألَّف كيث ستانوفيتش Keith Stanovitch كتاباً مثيراً بعنوان "ما تفتقده اختبارات الذكاء". يتحدث الكتاب عن حقيقة أن اختبارات الذكاء (IQ tests) تحوي على معايير ناقصة للوظيفة الإدراكية، ففي الواقع - كما بينت الدراسات – هنالك ارتباط محدود بين مهارات التفكير العاقل وأداء اختبار الذكاء. وبما أن مهارات التفكير العاقل مستقلة إلى حدّ كبير عن اختبارات الذكاء، فليس من الغريب معرفة أن الأشخاص الأذكياء قد يتصرفون بلاعقلانية، وأن يتبنوا حقائق زائفة وغير مدعومة ببراهين. والكتاب يثير عدة نقاط ملفتة للانتباه، إحداها ملاحظة الكاتب أننا لسنا بحاجة أن نتوسع إلى المجالات اللاإدراكية (مثل الذكاء العاطفي أو الذكاء الاجتماعي) لكي نميز ونكتشف الثغرة في اختبارات الذكاء. نقطة أخرى دقيقة ونوعية، والتي يرتكز عليها تحليل المسألة قيد البحث وهي:

الإطار الثلاثي للوظيفة الإدراكية:
يقدم المؤلف نموذجاً ممتازاً، وإلى حدّ ما شاملاً للوظيفة الإدراكية، ويشرح من خلالها الأنواع الثلاثة لعمليات التفكير الرئيسية وعلاقاتها المتبادلة فيما بينها وهي: العقل المستقل التلقائي والعقل الحسابي والعقل التأملي.
والعقل المستقل التلقائي يعني التنفيذ السريع للعمليات الذهنية التي لا تتطلب الإدراك أو الوعي، وهي غالباً ما تكون خاطفة ومفتقرة للوضوح.

 أما العقل الحسابي فيشير إلى معالجة المعلومات المدركة بشكل كافٍ، وهو مرتبط بما تتم الإشارة إليه عادة بالذكاء السلس المرن.

وهنالك العقل التأملي، وهو مرتبط بميول واتجاهات التفكير العقلاني، ويتعامل مع أسئلة من مثل: ما هي الغايات التي ينبغي اختيارها، ولماذا؟ وما الفعل الذي ينبغي القيام به بوجود هذه الغايات؟

وكما يبين ستانوفيتش فالتفكير الواعي بإمكانه أن يسيطر على التفكير غير الواعي، وهو أمر جيد بالنظر إلى سرعة وغموض العقل المستقل التلقائي. والعقل الحسابي هو الذي يقوم بتنفيذ عملية السيطرة هذه، لذا فهو في غاية الأهمية، لكن العقل التأمّلي هو العملية التي تباشر مهمة السيطرة هذه. والأشخاص ذوو نسبة الذكاء العالية قد يكونون قادرين على السيطرة على أو تجاهل الحقائق الزائفة والأحكام الخاطئة، ولكنها عقلانية العقل التأملي هي التي تباشر بعملية السيطرة هذه.

ذكي ولكنه غير عقلاني:
ورغم أن العديد من الأشخاص العاديين وعلماء النفس يعتقدون أن اختبارات الذكاء هذه تقيس مدى العقلانية، إلا أن هذا الأمر خاطئ فعلياً. في الحقيقة فإن الذكاء عند قياسه من خلال الاختبارات يرتبط بشكل محدود مع مهارات التفكير العقلاني؛ وبحسب ستانوفيتش فإن هذا يفسر عدم غرابة تصرُّفِ أناس أذكياء بشكل غير عقلاني، وتبنيهم لحقائق زائفة وغير مبرهنة. ولنعط أمثلة من الواقع الفعلي على هذا الأمر: أشخاص أذكياء يقعون فريسة لعملية احتيال في مجال الاستثمارات مثل بيرني مادوف
Bernie Madoff؛ شخص ذو مستوى علمي عالٍ يرفض الدلائل على عملية النشوء والتطور؛ رئيس الولايات المتحدة الذي يستشير منَجِّماً ..... إلخ. وسأحاول فيما يلي أن أُجمِل شرح وتفسير ستانوفيتش للعقلانية من جهة والافتقار لها من جهة أخرى.

ما هي العقلانية:
يميز علماء الإدراك بين شكلين أساسيين :

1) العقلانية الذرائعية (الوسيلية)، وبموجبها ينزع الإنسان إلى تحقيق ما يريده هو،

 و2) العقلانية المعرفية، حيث يبذل الإنسان جهداً لكي تتطابق معتقداته مع البناء الحقيقي للعالم من حوله.

أما التفكير والسلوك غير العقلانيين فمتلازمان مع ثلاثة أمور:
الأول وهو الاعتماد المفرط على العقل المستقل التلقائي، والذي يستخدم لاشعورياً وبشكل تلقائي جميع أنواع التوجيهات المساعدة للوصول إلى الاستنتاجات وحل المشكلات. إن العقل المستقل التلقائي هذا سريعٌ وذو قيمة عالية، ولكنه بالمقابل غير دقيق، فهو عرضة لجميع أنواع التحيزات. إن التفكير المتأنِّي بدلاً من ترك العقل المستقل التلقائي يصدر الأحكام يتطلَّب وقتاً وجهداً أكبر، ولهذا فهو لا يسبب أي رد فعل مقاوم.
والأمر الثاني المرتبط باللاعقلانية هو ما يسمى الفجوة في مكونات العقل؛ ومصطلح ‘مكونات العقل’ هنا يشير إلى القواعد والمعارف والإجراءات والاستراتيجيات التي يملكها الشخص لإصدار الأحكام والقرارات، وحل المشكلات؛ والافتقار لهكذا قواعد ومعارف ...إلخ بإمكانه إعاقة العقلانية.


أما الأمر الثالث الملازم لللاعقلانية هو ما يسمى مكونات العقل الفاسدة، وهي معتقدات وقواعد واستراتيجيات ....إلخ لا تستند إلى دلائل، وهي ليست جيدة للشخص الذي يلتزم بها أو يتبناها (الحامل)، وقد تنتشر بسهولة ويُسر بين الناس، وهنالك عدة أسباب لسهولة انتشارها هذه: 1) إنها غالباً ما تُقدَّم من خلال كلامٍ مُغَلَّفٍ بوصفٍ مغرٍ يعد بنوع من الفائدة للشخص الحامل، 2) إنها أحياناً تعتمد على مكونات عقلية أخرى شائعة قد تكون صالحة أكثر، من خلال استنساخ ميزات ظاهرية سطحية من تلك المكونات، 3) تحتوي على أوامر توجيهية ذاتية الرد (‘أرسل هذه الرسالة إلى 10 أشخاص آخرين’)، 4) قد تحوي على خصائص مانعة للتقييم (على سبيل المثال، بالادعاء أن البرهان غير ذي صلة أو غير ممكن، أو من خلال تحويل حقيقة غير مدعومة ببرهان إلى فضيلة، أو بتشجيع مؤيديها وأنصارها على مهاجمة من لا يعتقدون بها .. إلخ).

 وقد تعتقد أن الذكاء قد يؤَمِّن حماية كافية ضد مكونات العقل الفاسدة هذه، إلا أن هذا الاعتقاد خاطئ في الواقع، فمن خلال تقديمها عن طريق كلمات أو قصص أكثر تعقيداً قد ينجذب الأشخاص فائقو الذكاء إليها أكثر. إضافة إلى ذلك، فقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الأذكياء قد يكونون أكثر قدرة على خلق ‘جزر من المعتقدات الزائفة’ أو ‘شبكات من الأكاذيب’ من خلال استخدام قدراتهم الحسابية الهائلة لعقلنة وتسويغ معتقداتهم، وتفادي أو منع حجج المتشككين.


بعض الأفكار حول تفضيل العقلانية:
هنا سأقدم بعض الأفكار والأسئلة حول ما احتوته وجهة النظر هذه، مبتدئاً بأنني وجدت الأفكار الأساسية التي تم طرحها في كتاب كيث ستانوفيتش مقنعة، وأعني : 1) أن الذكاء الذي يتم قياسه في الاختبارات والعقلانية شيئان مختلفان ومستقلان عن بعضهما تماماً، الأمر الذي يفسر سبب لاعقلانية سلوك وتفكير الأشخاص الأذكياء، 2) أن اختبارات الذكاء لا تقيس العقلانية، وأن المقارنة بين التركيز الشديد على هذه الاختبارات والاهتمام المحدود جداً بقياس وتعليم التفكير العقلاني هو ليس بالأمر المفيد، 3) بالإمكان أن يتم تعلم التفكير العقلاني بشكل أفضل، الأمر الذي سيقود إلى المنفعة الاجتماعية. وهنا بعض الأفكار والتساؤلات الإضافية حول مدى الرغبة في رفع مستوى العقلانية.

إن العقلانية التامة المطلقة هي شيء مستحيل، وهذا بالإمكان إدراكه من خلال منظور النشوء والتطور؛ وكما يبين ستانوفيتش في كتابه، فإن مفهوم النشوء والتطور لا يقود إلى العقلانية المطلقة لأن الانتقاء الطبيعي لا ينزع إلى تفضيل الحقيقة والمنفعة المطلقتين، وبدلاً من ذلك فإنه يولي اهتماماً بالصلاحية أو الملاءمة الجينية أو الوراثية في محيطٍ ضيق محدود. هذا يعني أن تطوير وتنمية العقلانية هي مسألة تحسين وملاءمة أكثر منها مسألة قيمة مطلقة، فصرف الكثير من الجهد والطاقة في سبيل بناء العقلانية لا يضمن أفضلية تطورية إذا صح القول، لأن كمية الجهد والطاقة هذه بالإمكان بذلها في سبيل أمور مفيدة أخرى.
 

إن العقلانية القصوى غير مرغوب فيها، وغير ممكنة أيضاً وهذا ما نستطيع أن نراه من خلال النموذج ثلاثي الأطر لستانوفيتش، والذي يتألف من العقل المستقل التلقائي والعقل الحسابي والعقل التأملي. إن العقل المستقل التلقائي يعمل من خلال منهج التجربة والخطأ والذي يُنفذ بطريقة سريعة تفتقر للوضوح، الأمر الذي قد يؤدي إلى الفشل والوقوع المتكرر في الأخطاء. وهنا فإن سيطرة الجزء المتأمل المتأني في الدماغ (والذي يتألف من الدماغ الحسابي بالإضافة إلى الدماغ التأملي) بإمكانه أن يساعد في تصحيح أخطاء وعدم دقة العقل التلقائي، وإصدار الأحكام والقرارات، ولكن لأن التفكير المتأني يتطلب انتباهاً وعناية أكبر فقد يكون من المستحيل أن تتوفر له الفرصة لإصدار جميع الأحكام والقرارات. لذا فالكثير مما نفعله ونفكر به قد تمت إحالته إلى العقل التلقائي، الأمر الذي لا يخطر على بال، ولا يتصوره أحد. إذاً فتقسيم ما للعمل بين العقل التلقائي والعقل التأملي سيكون أمراً جيداً وأكثر فعالية، لكن السؤال هو كيف ستتم هذه العملية بفعالية؟ كم مرة ومتى ينبغي أن يسيطر العقل التأملي على العقل التلقائي؟ كيف لنا أن نميز ونتأكد من الحالات التي تتطلب سيطرة كهذه؟ متى يتوجب علينا أن نطالب بالعقلانية من أنفسنا ومن الآخرين؟


وجهة نظرة أخرى حول السؤال عن مدى تبني العقلانية من خلال محاسنها ومساوئها، فيبدو من المنطقي أن زيادة عقلانية أحدهم هي عادةً ذات فائدة لكل من الفرد والمجتمع. ففي النتيجة العقلانية المفيدة تعني أن الشخص يصبح بحالة أفضل، وذا فعل وتفكير موجهين إلى هدف محدد. والزيادة في العقلانية المعرفية تعني أن نظرة الشخص العامة عن العالم تصبح أكثر واقعية؛ لكن قد تكون هنالك نقاطٌ سلبية أيضاً.
أنا لا أتحدث هنا عن الصورة النمطية لشخصية مستر سبوك
Mr. Spock – فرضية أنه هناك نوع من المقايضة بين العقلانية والكفاءة الاجتماعية أو العاطفية. أستطيع أن أجزم بأن العقلانية والكفاءة الاجتماعية أو العاطفية مستقلتان عن بعضهما إلى حد كبير (بنفس درجة استقلالية العقلانية عن الذكاء). أنا أتحدث عن أن احتمالية زيادة عقلانية شخص ما قد تكون منفرةً وكريهة بالنسبة لعقلانية الآخرين، ما قد يؤدي إلى زيادة بعض الحواجز الاجتماعية مثل النبذ الاجتماعي. ويبين لنا التاريخ أمثلة كثيرة عن أشخاص يعتبرون الآن سابقين لعصرهم فيما يتعلق بالعقلانية لكن في حينها تمّت معاقبتهم من قبل معاصريهم. إن الأشخاص الذين يتَحَدّون معتقدات مُتبناة على نطاق واسع (بصرف النظر إن كانت صحيحة أم لا) قد يعتبرون تهديداً لمراكز القوة واستقرار المؤسسات، أو قد يُنظر إليهم كخونةٍ أو مجانين أو متعجرفين. هنالك العديد من الأمثلة عن أناس تعرضوا للسخرية، النبذ، السجن، الحرمان والحظر، أو أدينوا وقتلوا بسبب أفكارهم والتي تبين فيما بعد أنها صحيحة. وقد تبدو المفارقة في قول أحدهم: "إن الأمر يتطلب العقلانية كي نقدرها".

كيف لنا أن نحارب مكونات العقل الفاسدة:
إن مصطلح مكونات العقل الفاسدة يشير إلى نظام للاعتقاد غير صحيح وغير واقعي، مع إمكانية أن يسبب الضرر لمتبنيه وللآخرين، ولكن بإمكانه أن ينتشر بسرعة بين الناس بسبب بعض الخصائص والميزات الموجودة فيه. السؤال الذي يطرح نفسه هو : فيما إذا تمت مواجهة مباشرة مع مكونات عقل فاسدة شائعة بين العامة، هل ستقود مواجهة كهذه إلى إنهائها وزوالها أم ستزيد من خطر جعلها أكثر شيوعاً وانتشاراً؟ إن مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى شيوع وشهرة أكبر بالنسبة لمكونات العقل الفاسدة وبالتالي زيادة جاذبيتها لعدد أكبر من الناس، الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد من الهجمات على معارضيها (لأن مكونات العقل الفاسدة غالباً ما تحوي أوامر بمهاجمة المعارضين وغير المؤمنين بها). أم أن هنالك طريقة أخرى قد تكون فعّالة أكثر؟ كأن يتم تعليم وتوجيه الناس أن يتعرفوا على مكونات العقل الفاسدة بسهولة وبساطة أكبر وبشكل أعمق، وأن يحموا أنفسهم منها بشكل أفضل؟


كوِرت فيسَر Coert Visser: درس علم النفس في جامعة غرونينغن، هولندا.
يعمل بشكل حر في مجال منهج أو طريقة ما يسمى (التركيز على الحل
Soultion-focused)

http://articlescoertvisser.blogspot.com/2009/10/closer-look-at-rationality.html

 

ليست هناك تعليقات: