الاثنين، 22 يونيو 2020

بين الفلسفة والمنطق، (تعليقاً على ديكارت)؛ محمد الحجيري.




بين الفلسفة والمنطق
تعليقاً على ديكارت.
(محمد الحجيري)



لطالما تساءلت إن كان الفلاسفة يخضِعون قضاياهم إلى قواعد المنطق ويقيسونها عليها قبل النطق بها؟
وهل هم يختلفون في ذلك عن الآخرين؟
هل كنا بحاجة إلى علم المنطق الذي وضعه أرسطو لنستطيع التمييز بين الاستنتاج الصحيح من الخاطئ؟
قرأت عبارةً لديكارت يقول فيها:
".. إن الرغبة تكون دوماً جيدة وصالحة حين تتبع معرفةً حقيقية، وبالتالي فإنه لا يمكنها إلا أن تكون سيّئة حين تكون مؤسسة على خطإٍ ما."
. Or, comme j’ai tantôt dit qu’il [= le désir] est toujours bon lorsqu’il suit une vraie connaissance, ainsi il ne peut manquer d’être mauvais lorsqu’il est fondé sur quelque erreur
تساءلت هل هذا الاستنتاج يلتزم فعلاً القواعد التي وضعها أرسطو؟
لن أناقش القضية الأولى: إن الرغبة تكون دوماً جيدة وصالحة حين تتبع معرفةً حقيقية. لأن مناقشة هذه القضية تستلزم العودة إلى توضيح سابق لديكارت ودفاعٍ عنها.
لكن لو سلّمنا بصحتها، فهل تنتج عنها القضية الثانية؟
القضية الأولى تعني: المعرفة الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ جيدة.
القضية الثانية تعني: المعرفة الخاطئة تؤدي حتماً إلى رغبةٍ سيّئة. أو: المعرفة غير الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ غير جيدة أو إلى رغبةٍ سيّئة.
هل صحة القضية الأولى تؤدي منطقياً إلى صحة القضية الثانية؟
أين نجد الإجابة عن هذا السؤال في منطق أرسطو؟
لا أعرف بالضبط.
ربما وجب البحث عن ذلك في مربع أرسطو المنطقي.
لكن هذا الشكل لا ينتمي إلى أيٍ من الأشكال المعروضة في المربع المذكور.
ليكون هذا الاستنتاج صحيحاً من الناحية الصورية، يجب أن نضيف على القضية الأولى: المعرفة الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ جيدة، قضيةً مضمرَةً أخرى هي: لا تنتج الرغبة الجيدة إلا عن معرفة حقيقية.
وهي قضية تساوي ما استنتجه ديكارت. لكن هذه القضية بحاجة إلى برهان مستقل ولا تنتج عن المقدمة أو القضية الأولى.
وللتوضيح يمكن عرض بعض الأمثلة لتوضيح أن الشكل الأول لا يؤدي منطقياً إلى الشكل الثاني.
لو قلنا بأن كل لبناني عربي، فهذا لا يعني بأن كل غير لبناني غير عربي.
هذا الشكل لا يسمح بالاستنتاج. بمعنى أن الاستنتاج منه قد يكون صحيحاً وقد لا يكون.
مثال على إمكان صحة النتيجة: لو قلنا بأن كل فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية، لصح القول بأن غير الفرنسي لا يحمل الجنسية الفرنسية.
أو لو قلنا: كل إنسان يملك ملَكة اللغة، لصح القول بأن غير الإنسان لا يملك ملَكة اللغة.
لكن هذا لا يعني بأن هذا الشكل هو قاعدة منطقية تسمح بالاستنتاج.
قد نقول بأنه : بالحرارة تتبخر الماء، لكن لا يصح القول بأنه بغير الحرارة لا تتبخر الماء.. ويمكن سوق الكثير من الأمثلة.
السؤال باختصار: هل يراعي الفلاسفة دائماً قواعد المنطق في استنتاجاتهم؟
وهل من يقرأ ويحاجج الفلاسفة ينتبه إلى استخدام قواعد المنطق في المحاججة؟
أم إن كتاب المنطق لأرسطو كتِب ليوضع على الرف بعد أن نتعلمه دون محاولة الاستفادة منه في الاستنتاج وفي المحاججة؟



(محمد الحجيري؛ 2019)

الخميس، 18 يونيو 2020

الفينومينولوجيا بما هي ممارسة؛ نتالي دوبراز؛ ترجمة الحسين بوتبغة.




الفينومينولوجيا بما هي ممارسة*
نتـالي دوبــراز.
ترجمة: الحسين بوتبغة.


تدين الفينومينولوجيا بما هي تخصص فلسفي جديد دشنه إ.هوسرل في بداية القرن 20، بأصالتها إلى تجذرها المزدوج في الرياضيات و في الفيزياء، مما يترتب عليه نوع من الريبة العلمية تجاه التأمل الفلسفي [أي ما جعلها ترتاب في التأمل الفلسفي] . و في هذا المضمار يقول إ.هوسرل في أحد الدروس التي ألقاها خلال العشرينيات من القرن الماضي تحت عنوان "علم النفس الفينومينولوجي" :  "لسنا هنا من أجل الشروع في تأملات فلسفية حول "الماهية الداخلية للروح " أو من أجل أن نتصور أسسا لأبنية ميتافيزيقية، وإنما نحن هنا من أجل تأسيس سيكولوجيا مفهومة كعلم تجريبي". وفي سياق البحث عن مقاربة علمية للذاتية، وهي ما يشكل الموضوع الرئيسي للفينومينولوجيا، عمد مؤسس هذه الأخيرة إلى اختراع منهج غير مسبوق أطلق عليه اسم "الإرجاع" Réduction، كما أعطى الأولوية لمنهج غير مألوف في مجال البحث الفلسفي هو "الوصف".
هاتان السمتان توضحان بجلاء منهج الفينومينولوجيا وتتضمنان دعوة  للفيلسوف إلى إدخال هذا المنهج حيز التطبيق. غير أن هوسرل لم يكلف نفسه عناء التحديد الدقيق للإجراءات العملية الكفيلة بتطبيق شقي هذا المنهج، واكتفى في الغالب بالصياغة النظرية والعامة لمطلب العودة إلى التجربة الفريدة للذات. من هنا فإن إحدى المهام المطروحة على عاتق الفينومينولوجي اليوم تتمثل في إبراز البعد التطبيقي المضمر في طريقة عمل الفكر هنا، كاشفا بذلك عن الفينومينولوجيا بوصفها تداولية كاملة pragmatique  .
1-الإرجاع كممارسة تطبيقية: بالانطلاق من التوجيهات التي تركها هوسرل هو نفسه ، يمكننا التمييز بين ثلاثة أصناف من الأفعال الذهنية أو الداخلية التي يقوم بها الفينومينولوجي بالضرورة ، و هي تناسب ثلاثة أوجه متمفصلة لما يسمى بالإرجاع الفينومينولوجي، وهي:

-الارتداد التأملي  conversion réflexive الذي  يتمثل في غض الطرف عن أشياء العالم وعن المضامين (الحسية، العاطفية، الأخلاقية أو الفكرية) التي يحتوي عليها، للعودة إلى الفعل الداخلي الذي أقوم به، يعني إلى الطريقة التي أنهجها كي أدرك ما أدركه من أشياء.
-التنويع الماهوي  variation eidétique و بواسطته أكف عن اعتبار أي شيء أو وضعية حدثا خاصا، وأتعامل معه كبنية كونية وضرورية لقيام تجربة خاصة.
التعليق الجذري للحكم épochè  أي بالمعنى الحرفي تعليق حكم وجود هذا العالم مما يتيح لي إمكانية اتخاذ مسافة منه، عوض البقاء أسيرا لموضوع أو مستغرقا بحدث ما.
لقد حدد هوسرل الحركة العامة لكل واحد من هذه الأفعال الداخلية، دون أن يوضح أية إجراءات محددة. والحال أننا تجدنا – كما هو الأمر بالنسبة لأي تمرين، رياضيا كان أو فنيا أو ثقافيا أو ذهنيا- في أمس الحاجة إلى من يعلمنا التوجيهات الضرورية لإنجازه. وهذا ما يجعل السؤال "كيف نعمل؟" محتفظا إلى الآن بكل راهنيته. وبمحاولتنا من جديد الكشف عن الإطار التطبيقي الذي يندرج فيه كل واحد من هذه الأفعال الداخلية، فإننا نسعى إلى بيان كيف يكون بالإمكان تطبيق "الإرجاع" بشكلٍ واعٍ كممارسة يومية، وكيف أنه بهذا الشرط وحده يمكن للفينومينولوجيا أن تسمو فعليا إلى مستوى مطلبها التأسيسي.
  1.1 – الارتداد التأملي: هذا الفعل الذي بواسطته أقوم بفحص طريقتي في إدراك شيء ما، عسير وهو في واقع الأمر هش جدا. نحن نميل بشكل طبيعي إلى الاهتمام بمضمون الأشياء أو الوضعيات أو الأحداث. فحين أراقب مثلا طفلا على دراجته، أجدني للوهلة الأولى مهتما بالكيفية التي يمسك بها مقود دراجته، بقدرته على تنسيق حركة الدواسات والنظر إلى الإمام والمحافظة على التوازن الخ.... غير أنني أجدني في حاجة إلى مجهود خاص من أجل مراقبة وتركيز انتباهي على إدراكي لنشاطه، أي على تجربتي المعاشة مع مهارته: هل كنت أتناء مراقبته مركزا، مرتخيا أم منقبضا، واثقا أم قلقاً؟ هل كان إدراكي منفتحا على أنشطة باقي الأطفال الآخرين من حولي؟ الخ. في معظم الحالات، فأنا لا أشعر بتجربتي الإدراكية المعاشة (الحسية، العاطفية وتلك الخاصة بالانتباه) إلا بطريقة بعدية، أي في الآن الذي يلي الملاحظة الإدراكية المباشرة لمختلف مضامين الوضعية. ويمكن القول في كلمة واحدة بأن ارتداد النظر تجاه الفعل الداخلي نادراً ما يكون متزامنا مع الإدراك المباشر للشيء، أو أنه يتطلب تعلما ومرانا يقتضيان بعض الوقت.
   1.2 – تعليق الحكم: بالنظر إلى الطابع العرضي والهش للفعل الخاص بهذا الارتداد التأملي، فإن فعل التعليق يسعى إلى تأكيد وضع الأنا الذي يقوم بالإرجاع، وذلك بتعزيز قدرته على" إيقاف" المجرى المتصل للأفكار والأنشطة. أوقف، يعني أتوقف، أتمالك لإيقاف العملية الطبيعية التي يمتصني فيها الشيء أو الحدث لأتأمله على بعد مسافة مني، بتجرد، ودون إنكاره...
  بطبيعة الحال، فإني بهذه الطريقة أنزع عنه صلاحيته، مما يسمح لي بمراقبته دون أن أشحنه بشحنة انفعالية غير متحكم فيها. إنه حالة يقظة جذرية تجاه الأفكار الجاهزة وذلك بهدف التخلص من التأثير الذي تمارسه علينا الأشياء والآخرون.
    1.3 – التنويع الماهوي: إن الوجهين السابقين للإرجاع أي الارتداد التأملي من الصنف السيكولوجي و تعليق الحكم المتعالي ذا الصبغة الأنطولوجية، يختلفان من حيث إيقاعهما الزمني: فبينما نجد الأول لحظيا مما يفسر حدته وكذا هشاشته، نجد الثاني تكراريا مما يفسر بطؤه ولكن كذلك حمولته الجذرية فيما له علاقة برسوخ وضعية الإرجاع. أما الوظيفة الثالثة للإرجاع، فإنها تطابق بعدا آخر من أبعاد وعي الذات، وهي كذلك يمكن أن تكون موضوعا لتعلم ومران.  إن لدينا ميلا طبيعيا إلى أن لا نرى في الشيء إلا ما هو عليه، دون أي اهتمام بالإمكانيات التي يحتوي عليها والتي لم تتحقق بعد. والواقع إن هذا النوع من الإمكانيات هو بشكل أولي غير ظاهر للعيان، ولهذا فهي تفترض مستوى هاما من القدرة على التخيل لإدراكها. فإذا أبصرت مثلا ولأول مرة شخصا يعزف على العود، فإنني سأحسب تلك الآلة قيثارة، وذلك قبل أن أدرك بالتدريج أوجه الخلاف التي تميز العود عن القيثارة سواء على مستوى الشكل أو الأوتار أو غير ذلك. باختصار، فإني حين أنوع السمات المميزة للشيء، سيكون بإمكاني التمييز بين ما ينتمي إلى بنيته الأساسية و بين ما هو عرضي فيه.  وممارسة عملية التنويع هي فعل عقلي يتمثل في التعرف التدريجي على ماهية الشيء: ففي هذه العملية يتم التمييز بين الأساسي وغير الأساسي وذلك للوصول في نهاية الأمر إلى إبراز بنيتها الفريدة، المميزة  والكونية. هكذا، وعوض التعلق بالمظهر العرضي  
factuel  للشيء، فإنني أطور قدرتي التخييلية لإدراك جميع الإمكانيات التي يتضمنها وذلك من أجل الكشف عن مختلف مظاهره والعمل في نهاية التحليل على إبراز ماهيته.
     2- الوصف كممارسة: بعدما تم تهذيب وتربية القدرة على الإرجاع، سيتمثل عمل الفينومينولوجي في الشروع في وصف الشيء أو الواقعة أو الوضعية المعاشة والملحوظة. والواقع كما يلاحظ ذلك هوسرل في الفقرة 46 من "أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية": "إن كل وصف أولي لا يمكن إلا أن يكون بالضرورة  غير متقن..." ، مما يعني أن من الضروري مباشرة العمل مرات متعددة، كما يفعل الصانع التقليدي أو الفنان. إن الوصف فن، وهو بالتالي يفترض التهذيب و الصقل المتواصلين، وهو يقوم على أسس كالتالي:
          2.1- إبراز الإمكانيات والآفاق الكامنة في الشيء عن طريق إغتناء الوصف، وهو الأمر الذي يعني أن نأخذ على عاتقنا كضرورة وكمعيار لصلاحية هذا الوصف أن يكون بالضرورة "مليئا" يعني كاملا، وهو ما صاغه هوسرل كمطلب عام حيث تحدث عن "لغز افتراض تنوع غير واقعي للظهور" (نفس المرجع السابق).
         2.2- أهمية الاختيار الأولي حيث يفترض في منطلق عملية الوصف اختيار مثال يصلح كخيط رابط ملائم لمراحل العملية تلك. غير أن أهمية مثل هذا الاختيار لا يمكن أن تكون مؤكدة إلا بعد عدد من المحاولات الفاشلة. و في هذا المجال فإن اختيار هوسرل للشيء المدرك والموجود في حالة سكون ـ وهو ما أملته عليه اعتبارات ذات طبيعة رياضيةـ هو اختيار مفيد، لأنه يكشف عن امكانات أخرى، ربما أكثر صوابا من منظور تجربتنا، وتتناسب مع معيشنا اليومي.
         2.3تفكيك المسبقات، مما يفسر في نهاية الأمر الموقف النقدي الذي يتطلبه عمل وصفي واع بذاته. إننا لا نصف أبدا للأعمى.  ولكننا نصف وفي أذهاننا حاضرة فرضية فهم ظاهرة ما. ثم إن الوصف لا يكون أبدا خالصا، إذا عنينا بذلك أنه يكون متخلصا من أي بعد تفسيري وتأويلي.



الاثنين، 15 يونيو 2020

"توماس كون" وخفايا الثورات العلمية؛ محسن المحمّدي.




توماس كوهن وخفايا الثورات العلمية
محسن المحمدي
ديسمبر 2014


 يعد كتاب عالم الفيزياء توماس كون "بنية الثورات العلمية" أحد أهم النصوص في مجال فلسفة العلم، والتي وجدت صدى هائلا، حيث ترجم إلى أكثر من عشرين لغة، وظل منذ أول طبعة له سنة 1962 من أكثر الأعمال المستشهد بها، ولنا في لغة الضاد ثلاث ترجمات: ترجمة الدكتور علي نعمة عن دار الحداثة للطباعة والنشر ببيروت، سنة 1986. [وترجمة شوقي جلال سنة 1992 عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية]، وترجمة سالم يفوت بعنوان "بنية الانقلابات العلمية" عن دار الثقافة الدار البيضاء سنة 2005 وترجمة الدكتور. حيدر حاج إسماعيل عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2007. يتشكل الكتاب من 13 فصلا، همها الوحيد إبراز كيف تتشكل النظريات العلمية، وكيف تتنافس وتسقط بعضها بعضا؟ بعبارة أخرى كيف تصبح منظومة علمية في حقبة زمنية محددة لاغية وغير قادرة على الإجابة عن مآزق تجابهها وتحرج أركانها؟ ما الذي يدفع العلماء إلى التفكير في التخلي عن نظرة سائدة للعالم وتعويضها بأخرى جديدة؟ بكلمة واحدة ما مبررات الثورة العلمية؟ #2# للجوب عن هذه الأسئلة نحت توماس كون مفهوما أصبح ذائع الصيت وهو مفهوم "الباراديغم" أو "الباراديم" أو "المنوال" بحسب آخر استدراكات المرحوم سالم يفوت في مقال له في مجلة مدارات فلسفية المغربية العدد 19 سنة 2010. وهو مفهوم يدل على النموذج الموجه أي الإطار النظري والأساس الذي يسمح بطرح المشكلات وطرق حلها عند متحد علمي ما. بعبارة أخرى فالباراديم يعني مجموع القواعد والمسلمات والمفاهيم والأدوات التي يتحرك من داخلها العلماء، فالعلماء ينظرون للواقع بعين هذا الباراديم. فهو بمنزلة الخلفية التي تسمح برؤية دون أخرى. فالعلم وهو يشتغل وفق مبادئ البارادايم يكون بحسب تعبير توماس كون: "علما سويا" أو "علما معياريا" يتدرب عليه العالم ويقدم له على شاكلة تربية مهنية، تصبح بمنزلة الأطر الصريحة وغير الصريحة المشكلة لرؤية العالم، فالعالم يسجن الطبيعة في علب تصوراتية يفرضها هذا العلم المعيار، وهو الذي يفسر لنا لماذا يرفض المتحد العلمي في غالب الأحيان المستجدات، لأنها تخرب الالتزامات الأساسية للعلم السوي، إن الباراديم هو قوالب وصيغ متفق حولها يجب إتباعها مثل ما يفعل في الصيغ الصرفية لفعل معين.
 انطلاقا من مفهوم البارادايم والعلم المعيار، أي العلم الذي نقيس به الأمور، يمكن فهم جوهر الثورات العلمية، وتلك النقلة النوعية التي تحدث في تاريخ العلم من نموذج قياسي قديم نحو نموذج آخر جديد، أي تلك الفترات التي يحدث فيها الفوران: كالثورة الفلكية الكوبيرنيكية في علم الفلك وثورة اينشتين في الفيزياء والثورة الداروينية في البيولوجيا. فالثورة العلمية تؤدي إلى تغيير جوهري في النظرة للعالم من خلال الإطاحة بمجموعة من الأفكار المستقرة بواسطة مجموعة جديدة، فكيف يتم ذلك؟
 يجيب توماس كون أنه إذا كان البارادايم هو نموذج للعلم ومعايير مشتركة للحكم عند جماعة علمية معينة تسعفهم في الحكم على الوقائع العلمية، وإذا كان هو العلم المعيار الذي له اصطلاحاته ومخططاته، التي على العلماء السير وفقها لحل المشاكل والألغاز والأحاجي التي تعترض طريقهم، فإنه وفي لحظات معينة تكثر هذه الأحاجي إلى درجة الإحراجات التي تتراكم على شاكلة حالات شاذة تصل إلى عتبة تجعل الباراديم في أزمة خانقة تفقده قوته وتتراجع الثقة فيه مما ينبئ بعلمية إبدال منوالي وثورة علمية جديدة، فيضطر العلماء إلى تغيير قواعد اللعب وإعادة تشكيل المبادئ والأدوات، أي باختصار خلق علم معياري جديد.
نستنتج من موقف توماس كون أن العلماء هم مجرد خدام للباراديم، فهم يساهمون في إكمال صورة العالم المفترضة من قبل العلم المعيار الذي يشايعونه. فالثورة العلمية في حقيقة أمرها مجرد ملاذ أخير عند العلماء. لأن العالم في الأصل لا يسائل النموذج القياسي المعتمد فهو يقوم بأبحاثه في نطاق الحدود التي يضعها، وإذا ما ظهرت له نتيجة تجريبية تتناقض مع البارادايم فإنه سيفترض عادة أن تقنية التجربة معيبة وليس العيب في النموذج المحتذى، فهو في الأصل غير قابل للنقاش لأنه السقف المعتمد والإطار الذي تسوى به الأبحاث، فالبارادايم يسعى نحو القرار والمحافظة واحتواء الإحراجات الموجهة له، ففي البارادايم نوع التحيز والوثوقية، إلى درجة الإيمان. وهو ما يخلق التنافس بين النماذج القياسية، والتي لن يتنازل العلماء عن القديم منها بسهولة إلا بعد تراكمات هائلة من الشذوذ المربك الذي يؤهل لإسقاطه، ومن ثم فقط يتم القبول بجهاز مفاهيمي جديد لرؤية العالم. لهذا فلحظة الثورات العلمية يكون فيها حوار الطرشان بين النسقين المتبارزين. إن التطور والانتقال من بارادايم إلى آخر في شكل ثورة انقلابية، يشبه إلى حد ما التطور السياسي رغم الفروق الشاسعة بينهما. فالثورات السياسية تبدأ بالشعور المتنامي لدى فئة ضيقة من الطبقة السياسية بأن المؤسسات القائمة لم تعد تستجيب بصورة مرضية وملائمة للمشاكل التي يطرحها المحيط، وهو نفس الأمر تقريبا يحدث في الثورات العلمية حيث يظهر شعور متزايد لدى مجموعة محصورة من العلماء، بأن البارادايم القائم لم يعد يشتغل بصورة مرضية وملائمة تساعد على كشف جانب من أسرار الطبيعة. إذن في المجالين معا السياسي والعلمي يظل الشعور بوجود الخلل أو العيب في نظام العمل وسير الأمور هو الشرط الذي ينبئ بقرب الثورة وإسقاط القديم لصالح الجديد. إذ لا يتم الانتقال من القديم إلى الجديد فجأة، وإنما لا بد من مخاض عسير وإلى فترة زمنية قد تطول وقد تقصر إنها فترة الأزمة. وإذا ما أخذنا علم الفلك كمثال توضيحي نشرح من خلاله فكرة كيف تحدث الثورة العلمية؟ نقول بأن الفلك القديم كان عبارة عن بارادايم كامل الأركان أرسى قواعده أرسطو بمبادئ استمرت زهاء 20 قرنا. وإذا كنا نريد تحديد مسلمات البارادايم الأرسطي بوضوح فهي: أولا العالم كرة محدودة، ثانيا الأرض مركزها، ثالثا الدوران في السماء دائري، رابعا العالم قسمان، عالم علوي أي ما فوق القمر حيث الدوران والكمال وعالم سفلي أي ما تحت القمر حيث الكون والفساد. فالذين جاؤوا من بعد أرسطو كانوا شارحين ومعدلين ومصوبين ومنقحين لكن يسبحون كلهم في فلكه، ويشتغلون بمسلماته، فعندما جاء بطليموس بكتابه المجسطي وهو خلاصة الفلك القديم صحح أعطابا فلكية قائمة ووجد لها حلولا مبتكرا ما يسمى عند الفلكيين بأفلاك التدوير لكنه لم يخرج أبدا عن النسق الأرسطي ونموذجه القياسي، إلى درجة أنه ونظرا لعيب في الحساب اضطر أن يضيف إلى نموذجه المقترح نقطة خيالية افتراضية تسمى معدل المسير وبشكل تعسفي تدور عليها الكواكب بالإضافة إلى الأرض. هكذا سيصل الأمر عند العرب المسلمين وسيتم الاشتغال في ظل نفس البارادايم الأرسطي/ البطليمي، ولكن ونظرا لدقة الرصد العربي للسماء ستظهر عيوب تجريبية تربك البارادايم المعمول به، مما دفع العلماء العرب إلى سدها في عملية إنقاذ للبارادايم من السقوط ودائما بنفس الثوابت الأرسطية، وما كتاب ابن الهيثم الصارخ بعنوانه "الشكوك على بطليموس" إلا مثالا على ذلك، فابن الهيثم لم يقبل فكرة بطليموس حول إنشاء نقطة خيالية لا توجد في الواقع لمجرد ضبط الحساب، فهو سيعتبرها عيبا رهيبا وقع فيه عقل فذ هو بطليموس، إذ لا يعقل أن يكون الدوران على الأرض وعلى هذه النقطة المفترضة أي معدل المسير ففي هذا الاقتراح خلف بارز. فكان ابن الهيثم كمن وضع مشروعا للعمل قصد ترميم البارادايم، وهو ما أنجزته حقا مدرسة مراغة الإسلامية بزعامة نصير الدين الطوسي التي أجهدت نفسها كي تخلص النموذج القياسي الفلكي القديم من عيوبه لكن دائما بنفس الثوابت الأرسطية. وبهذا سيصبح الفلك القديم في القرن الـ16 معقدا ومزعجا، لكن دائما هو مقبول ويتم التعايش معه، إلا أنه ستحدث إحراجات شاذة ستقض مضجع البارادايم القائم، حيث ستظهر فكرة إمكانية دوران الأرض مع كوبيرنيكوس ثم سيأتي من بعده غاليليو الذي طور المنظار الهولندي وضاعف قوته إلى أزيد من 30 مرة ووجهه نحو السماء في سنة مشهورة هي 1609، فاستطاع أن يكتشف نجوما جديدة، وهو ما جعل مملكة السماء تتسع، كما اكتشف أقمارا أربعة للمشتري تدور حوله، ما يعني أن الدوران يمكن أن يكون لغير الأرض وهو ما يجعل فكرة مركزية الأرض مهددة، كما نشر أول خرائط حول القمر الذي أصبح شبيها بالأرض به الوديان والجبال، فسطحه ليس ناعما أو مصقولا، لكنه سطح وعر وغير مستو، به النتوءات والهوات العميقة والتعرجات.. ما يجعل فكرة كمال العالم العلوي تنهار، ناهيك عن اكتشاف العالم كبلر أن الدوران لا يتم كما اعتقد القدماء على شكل دائرة كاملة، بل على شكل اهليلج.
هذه إذن مجموعة معطيات وهناك أخرى قد تراكمت فأحدثت شقوقا لا يمكن الخلاص منها إلا أن يتجاوز البارادايم القديم وإعلان بارادايم جديد، إنها الثورة العلمية كما يراها توماس كون.
محسن المحمدي؛ أستاذ الفلسفة - المغرب