الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017

الفلسفة كتفكير عبر أفاهيم؛ الدكتور جمال نعيم.




الفلسفة هي التفكير عبر أفاهيم
د. جمال نعيم

الفلسفة هي فنّ إبداع الأفاهيم، هي الفنّ الذي يفبرك ويبتكر الأفاهيم، هي الفرع الفرعي الذي يمتاز باختراع الأفاهيم المناسبة والتي تتطلّبها مشكلات فكريّة يطرحها العقل البشريّ. لا نقول إنّ الفلسفة تتفوّق على العلوم والفنون بامتياز التفكير؛ لأنّ العلوم والفنون هي الأخرى تفكّر، لكن عبر أدواتها الخاصة.
والفلسفة ليست اختصاصًا تأمّليًّا يقوم على تأمّل الحقائق الأزليّة، وليست تفكّرًا في اختصاصات قائمة مثل العلوم والفنون، وليست، أخيرًا، تواصلًا يقوم على إيجاد تسويات واتفاقات بين البشر من خلال تبادل الآراء. لكن، على الفلسفة أن تبدع الأفاهيم المناسبة لهذه النّشاطات الثلاثة.
إذًا، الفلسفة هي التفكير عبر أفاهيم. والأفاهيم هي كيانات إبداعيّة فلسفيّة حصرًا. إنّها اختصاص الفلسفة حصرًا. لذا، لا يمكن لأيّ فرع معرفيّ آخر أن يحلَّ محلَّ الفلسفة في إبداع الأفاهيم. تتناول الفلسفة موضوعاتها التي قد تكون، بالأساس، علميّة أو فنّيّة، لكن عبر أدواتها الخاصة وهي الأفاهيم التي تتمتّع بقيمة فلسفيّة من دون أن تتمتّع بأيّ قيمة علميّة أو فنّيّة.
وإذا كانت الفلسفة هذا الإبداع المستمر للأفاهيم، الذي بدأ مع الإغريق واستمرّ حتى العصور الرّاهنة، فلها عندئذٍ تاريخٌ طويل. وهكذا يكون الإلتفات الى تاريخ الفلسفة ضروريًّا للوقوف على إبداع الأفاهيم الذي تمّ خلال هذا التّاريخ الطويل للفلسفة.
والأفهوم الفلسفيّ له معنًى، وإن لم يكن قضيّة علميّة أو منطقيّة، وإن لم يكن خبرًا عن العالم، وإن لم يكن بالإمكان تطبيق معيار الصدق والكذب عليه. فلكل أفهوم معنًى خاص به، ولكل أفهوم حقيقة خاصة به، وإن لم يكن بالإمكان التحقّق من ذلك عبر التجربة.
لكل أفهوم معنًى نسبةً الى مجموعة من العناصر:
أ-الحقل الفلسفي الذي اكتشفه الفيلسوف وافتتحه في الفلسفة. الكوجيتو وحقل الذّاتيّة. أفاهيم كنط والحقل المجاوز.
ب-المشكلة الفلسفيّة التي يطرحها الفيلسوف، والتي تتجسّد عادةً بسؤال: المشكلة الديكارتيّة (كيف يمكن لما هو ذاتيّ أن يقوّم ما هو موضوعيّ؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن لي أن أصل الى اليقين انطلاقًا من النّور الطبيعيّ الموجود في كل واحدٍ فينا؟). المشكلة الكنطيّة (كيف يمكن للأحكام التأليفيّة قبليًّا أن تكون؟ مثلًا: كيف يمكن لي أن أقول إنّ المعادن تتمدّد بالحرارة).
ج-الشخصيّة الأفهوميّة: وهي الشخصيّة القلقة التي تطرح المشكلة الفلسفيّة وتبدع الأفاهيم المناسبة لها. شخصيّة الأبله في فلسفة ديكارت. وشخصيّة القاضي في فلسفة كنط.
د-صورة معيّنة عن الفكر: أي الصورة التي يأخذها الفكر عن نفسه، عن توجّهاته واتجهاته، أي صورة الفكر التي تتضمّن مجموعةً معيّنة من المسلّمات وتجيب عن السؤال التالي: ماذا يعني أن نفكّر اليوم؟ كأن نقول مثلًا إنّ الفكر فطريّ على طريقة ديكارت، أو اكتسابيّ على طريقة أرسطو، أو توالديّ تناسليّ على طريقة دولوز.
ه-ارتباطه مع بقيّة الأفاهيم التي يتمّ إبداعها في الحقل ذاته وضمن صورة الفكر ذاتها وإجابةً عن المشكلة ذاتها.
بناءً على ما سبق، يصبح للأفهوم الفلسفيّ معنى. وينتمي بالتّالي الى فضاء فكريّ معيّن، الى مشهد فكريّ مختلف، الى أفق فلسفيّ جديد. ويساهم في تغيير معنى التفكير. فإذا سلخنا الكوجيتو عن مجموعة العناصر التي ذكرناها، يصبح مجموعةً من الكلمات التي لا تتضمّن أي معنًى، أو بالأحرى يتمتّع بمعنًى عاديّ ولا قيمة له. فماذا يعني: أنا أفكر إذًا أنا أكون؟ شيئًا سخيفًا اذا لم يُنظر إليه في ارتباطه مع تلك العناصر.
من هنا نقول إنّ الحقيقة الفلسفيّة ليست مطابقة القول للواقع، وإنّ الفلسفة لا تبحث عن حقائق الموجودات بما هي كذلك، وإنّ الفلسفة تهتمّ بالأسئلة والمشكلات أكثر ممّا تهتمّ بالإجابات. هذا لا يعني أنّها لا تتضمّن إجابات، لكنّ إجاباتِها ليست ممّا يُرضي الفاهمة العاديّة التي تطمح الى المعرفة المطلقة. وهكذا نجد أنّ الفلسفة اختلفت كثيرًا عمّا كانت عليه في العصور السّابقة عندما كانت تبحث عن أحوال الموجود بما هي عليه. فالفلسفة هي طريقة معيّنة في التفكير، هي التفكير بشكلٍ مختلف. ولكل فيلسوف طريقته الخاصة في التفكير، وبالتالي لفلسفته حقيقة خاصّة بها. فالفلسفة لا تزوّدنا بحقائق جديدة وقناعات جديدة، بل تسائلنا عن الطريقة التي كوّنا بها قناعاتنا، وتنتج الحقائق الخاصّة بها، التي تريح العقل البشريّ ولو مؤقّتًا.

(عن الفيسبوك)

نشأة البنيوية





البنيوية   Structuralism

نشأة البنيوية :

نشأت البنيوية في فرنسا، في منتصف الستينيات من القرن العشرين عندما ترجم (تودوروف) أعمال الشكليين الروس إلى الفرنسية. فأصبحت أحد مصادر البنيوية.
ومن المعلوم أن مدرسة (الشكليين الروس) ظهرت في روسيا بين عامي 1915 و1930، ودعت إلى الاهتمام بالعلاقات الداخلية للنص الأدبي، واعتبرت الأدب نظاماً ألسنياً ذا وسائط إشارية (سيميولوجية) للواقع، وليس انعكاساً للواقع. واستبعدت علاقة الأدب بالأفكار والفلسفة والمجتمع. وقد طورت البنيوية بعض الفروض التي جاء بها الشكليون الروس.
المصدر الثاني الذي استمدت منه البنيوية هو (النقد الجديد) الذي ظهر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامه "أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنية" (عزرا باوند)، وأنه لا حاجة فيه للمضمون، وإنما المهم هو القالب الشعري (هيوم)، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته (جون كرو رانسوم).
والألسنية هي المصدر الثالث الذي استمدت منه البنيوية، ولعلها أهم هذه المصادر، وعلى الخصوص ألسنية فرديناند دي سوسير (1857-1913) الذي يُعد أبا الألسنية البنيوية، لمحاضراته (دروس في الألسنية العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) فإن الاتجاهات البنيوية كلها قد خرجت من ألسنيته، فقد مهد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظاماً لغوياً خاصاً. وفرق بين اللغة والكلام: (فاللغة) عنده هي نتاج المجتمع للملكة الكلامية، أما (الكلام) فهو حدث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم.

و كما أسلفنا ؛ ففي نهاية العقد الثاني من القرن العشرين التقت آراء العالم السويسري (فردنياند سوسور) بالتيارات النقدية السائدة في اوربا ليبرز تيار الفكر البنيوي في الدرس النقدي المعاصر والحديث . والحقيقة ان “الجذور البنيوية تضرب بعيداً في القدم منذ ارسطو والجاحظ والعسكري والجرجاني وقدامة وابن طباطبا وهيغل وماركس ، حتى اشتهر قال بعضهم :”لنقل صريحاً: البينوية ليفي شتراوس” علماً عليها ليفي شتراوس وعرف بها فوكوهو ولاكان والتوسير وجان بياجيه وغيرهم.
ففي القرن التاسع عشر نادى الباحث الاجتماعي اليهودي دوركايم بالنظرية المسماة "العقل الجمعي"، ودعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها "أشياء مستقلة"، وتبعاً لذلك ظهر الباحث اللغوي السويسري "فرديناد دي سوسيور " بنظريته في "ظاهرة اللغة"، حيث جرد اللغة من دلالاتها الإشارية المألوفة وعدها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية، ومن هنا ظهرت فكرة "البنية".
مفهوم البنيوية و مدارسها :
ومن أبرز ما قرره سوسيور بقوة مبدأ "اعتباطية الرمز اللغوي" وهو ما يعني أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من العلاقات التعسفية أي: العلاقات التي لا ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً بمدلولات العالم الطبيعي" وأن "كل نظام لغوي يعتمد على مبدأ لا معقول من اعتباطية الرمز وتعسفه" أي: تماماً كما يعتبط العقل الجمعي عند "دوركايم " ويتعسف فيفرض على الناس ما هو خارج عن ذواتهم، ومن هنا انبعثت فكرة "السيمولوجيا" أي علم الدلالة، أو العلامة والإيحاء، وتطورت فيما بعد .

و يعد دي سوسور رائد البنيوية الاول في العصر الحديث وقد توصل الى أربعة كشوف هامة تتضمن : مبدأ ثنائية العلاقات اللفظية اي (التفرقة بين الدال والمدلول)، ومبدأ اولوية النسق او النظام على العناصر ، ومبدأ التفريق بين اللغة والكلام ، ومبدأ التفرقة بين التزامن والتعاقب(سانكروني – دايكروني)
وكان للشكلانيين الروس ولاسيما عالم الصوتيات جاكوبسون مساهمات هامة في إغناء الحركة البنيوية.
,
و يعد( جاكبسون ) من المدرسة الروسية الشكلية التي من أهم آرائها "تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية والدينية والانطلاق من "دراسة العمل الأدبي في ذاته"، فهي تؤكد "أن العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده الخاص المستقل" .
وتؤكد أن "العمل الفني لا يتطابق بشكل كامل مع الهيكل العقلي للمؤلف ولا المتلقي"، أو كما يقول: "موخارو فسكي : "فإن الأنا الشاعر لا ينطبق على أية شخصية فعلية ملموسة، ولا حتى شخصية المؤلف نفسه، إنه محور تركيب القصيدة الموضوع.
و تعني البنيوية عند جورج لوكاش : استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة .
و قد حدد لوسيان جولدمان (1913-1970) وهو فرنسي من أصل روماني البنوية التوليدية على أنها المنهج الذي يحلل النص الأدبي بوصفه بنية إبداعية تخبئ تحتها بنية اجتماعية،. وقد أصدر جولدمان عدداً من الكتب المتصلة بقناعاته البنيوية منها: الإله الخفي وعلم اجتماع الإبداع الأدبي ومن أجل علم اجتماع الرواية .
و نرى أن ثمة علاقة بين العلوم المختلفة و البنيوية , خاصة الاجتماع و النفس و اللسانيات ,
بالإمكان اختصار مفهوم البنيوية في مقولة ميشيل بريكس : أما المنهجية البنيوية الشكلانية فتهتم فقط بالنسيج اللغوي للنص وتدرسه بذاته ولذاته مهملة صاحبه أو مؤلفه. وهي تنطلق من القناعة التالية: النص هو وحده المهم ولا يفيد في شيء أن نتعرف على حياة مؤلفه لكي نفهمه. وهذا الموقف المتطرف في النقد الأدبي ساد في فرنسا لفترة ولكنه تراجع وانحسر الآن.
و يرى جميل حمداوي أن البنيوية طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين أساسيتين وهما: التفكيك والتركيب ، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز على شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته. ويعني هذا أن النص عبارة عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها وظيفيا داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التي تتطلب الرصد المحايث والتحليل السانكروني الواصف من خلال الهدم والبناء أو تفكيك النص الأدبي إلى تمفصلاته الشكلية وإعادة تركيبها من أجل معرفة ميكانيزمات النص ومولداته البنيوية العميقة قصد فهم طريقة بناء النص الأدبي. ومن هنا، يمكن القول : إن البنيوية منهجية ونشاط وقراءة وتصور فلسفي يقصي الخارج والتاريخ والإنسان وكل ماهو مرجعي وواقعي ، ويركز فقط على ماهو لغوي و يستقرىء الدوال الداخلية للنص دون الانفتاح على الظروف السياقية الخارجية التي قد تكون قد أفرزت هذا النص من قريب أو من بعيد. و يعني هذا أن المنهجية البنيوية تتعارض مع المناهج الخارجية كالمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي والمنهج البنيوي التكويني الذي ينفتح على المرجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي من خلال ثنائية الفهم والتفسير قصد تحديد البنية الدالة والرؤية للعالم
و تقوم البنيوية على فكرة إعادة انتاج الواقع من خلال إقامة الأنموذج الذي يحدده المحلل نفسه، وهذا الأنموذج سيكون قابلاً للمقارنة مع الشيء الخاضع للدراسة، وإذا مضينا أكثر لتفهم البنائية فعلينا أن نلجأ إلى واحدة من الآليات التي تستخدمها وهي المقابلات الضدية.
يقرر صلاح فضل أن التعريف الأول للبنائية: "يعتمد على مقابلتها بالجزئية الذرية التي تعزل العناصر وتعتبر تجمّعها مجرد تراكب وتراكم، فالبنائية تتمثل في البحث عن العلاقات التي تعطي للعناصر المتحدة قيمة وضعها في مجموع منتظم


أدبية الأدب : المبدأ الرئيس في البنيوية :
إن حركة الشعراء المستقبلين في روسيا، وكتابات الرومانسيين الألمان ستوجه اهتمام النظرية الأدبية نحو التركيز على جانب الانسجام الداخلي للنصوص الأدبية، وستفسح المجال للإعلان عن ميلاد علم للأدب، منذ أن طلق جاكبسون عام 1919 قولته التي أصبحت فيما بعد كبيان يختزل عمل الشكلانين والشعرين والبنيويين حيث قال " ليس موضوع علم الأدب هو الأدب وإنما الأدبية أي ما يجعل من عمل ما عملاً أدبياً . فما المقصود بالأدبية ؟ يجيب تودوروف في كتابه- الشعرية -عن تحديد هذا المفهوم المركزي بقوله " ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي، وكل عمل عندئذ لا يعتبر إلا تجليا لبنية محددة وعامة، ليس العمل إلا إنجازاتها الممكنة ولكل ذلك فان هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن،
وبعبارة أخرى يعنى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية .
يعد للمؤلف نفس الدور الذي كان يلعبه في النقد السيري، لأن ما يشكل موضوع الدراسة الأدبية ليس الأعمال الأدبية المفردة وإنما الأدبية، بحيث أن العمل الأدبي يرتبط بالنسق الأدبي بصورة عامة وليس بشخصية مؤلفة، فالشاعر في النظرية الشكلانية لم يعد ينظر إليه كصاحب رؤى أو عبقرية وإنما نظر إليه " كعامل ماهر يرتب، أو بالأحرى يعيد ترتيب المادة التي يصادق وجودها في متناوله، إن وظيفة المؤلف هي أن يكون على معرفة بالأدب، أما ما يعرفه عن الحياة أو ما لا يعرفه، فأمر غير ذي أهمية لوظيفته تلك ، إن هذا التصور يذكرنا بالمنجز النقدي العربي القديم خصوصا عند نقادنا الذين قالوا بأن الشعر صناعة وأن الشاعر يقوم بوظيفة السبك والصوغ ولا اعتبار بالمادة التي يصوغ فيها.
و حول نظرية ( موت المؤلف ) التي تعوّل عليها البنيوية كثيرا ذلك في أن المنهج البنيوي يرفض النظرة التي ترى أن المؤلف هو منبع المعنى في النص ، وصاحب النفوذ فيه ، يرفض ذلك ويؤكد أن الكاتب لا دور له يذكر ؛ فلم يقم بعمل يستحق الثناء والمدح ، وكل ما قام به هو استخدام اللغة التي هي حق مشاع ، وأنه عندما أنشأ النص أنشأه على طريقة من سبقه ، فلم يأت بجديد بل قلد من سبقه في هذا الفن فهو اتجاه يركز على اللغة وكيفية عملها ودلالاتها ، وبذلك يخرج المؤلف خاوي الوفاض ، لا هو مبدع ولا هو عبقري ، وإنما هو مستخدم للغة لم يبتدعها ، وإنما ورثها مثلما ورثها غيره .

فمع انتشار الاتجاهات النقدية الجديدة مثل " البنيوية وما بعدها " لم يعد ينظر إلى المؤلف بوصفه منشئ النص ومصدره ، كما لم يعد هو الصوت المتفرد الذي يعطي النص مميزاته ، فالذي تتحدث وتنطق هي اللغة وليس المؤلف أو صوته .

من مناهج النقد البنيوي :
اهتمت الناقدة سيزا أحمد قاسم بالمنهج البنيوي كوسيلة لتحليل النص الروائي ،و تصرح في كتابها "بناء الرواية "منذ البداية بأنها تتبنى هذا المنهج في دراستها المقارنة" لثلاثية نجيب محفوظ " فتقول :"وفي ضوء التزامنا بالدراسة النقدية التطبيقية ،كان لابد لنا أن نستند إلى المنهج البنائي حيث أن السمات التي نريد أن نرصدها بين الأعمال موضوع الدراسة هي سمات تتعلق بالشكل والبناء وهذا المنهج سماه"رينيه ويلك"في كتابه نظرية الأدب المنهج الداخلي"

وتحدد المنهج الداخلي بالمنهج الذي يتعامل مع النص الأدبي مباشرة كبنية واحدة معزولة عن مؤلفها وبيئتها التي كتبت باعتبارها كيانا له عناصره الخاصة ،لابد للنقد التعامل معه على هذا الأساس.12وإذا اختارت المنهج البنيوي فلأنها لا تولي اهتماما لما سمته الناقدة يمنى العيد بالخارج وألحت على ضرورة دراسته،الخارج الذي يجعل من النص كائنا حيا متطورا بتعبير" سيزا قاسم" فرغم اعترافها بأهميته تبعده عن دراستها.

بناء على هذا الهدف الذي تسعى لتحقيقه ،وهو مقارنة رواية نجيب محفوظ بالرواية الفرنسية الواقعية من أجل كشف أوجه الشبه والاختلاف الخاصة بالتقنيات والأساليب و باقي أشكال السرد هذا الهدف تنشده باعتمادها على المقولات النقدية البنيوية كما جاءت عند" جرار جينيت "،واللغوية عند الروسي" بوريس أزبنسكي" إلى جانب الشكلانيين الروس.

وتختلف عن الناقدة" يمنى العيد " التي لم تكتف بتحليل العناصر البنائية للنص ورصد علاقاتها وراحت تربطها بالبنية الاجتماعية والثقافية ،محاولة كشفها داخل النص .بينما على العكس نجد "سيزا قاسم قد اختارت المنهج البنيوي توخيا منها الموضوعية وتجنبا الوقوع في الأحكام الجاهزة والانحراف بالتحليل إلى إطلاق الأحكام القيمية ،والتركيز على الوصف المقارن للرواية ،ليس من أجل قولبة نص نجيب محفوظ وجعله قالبا جاهزا استعاره الكاتب ثم أفرغ فيه حكاته، إنما الهدف كشف مدى تمثله الرواية الغربية وممارسة تقنياتها ،الأمر الذي يوضح علاقة الرواية العربية بالرواية الغربية عموما باعتبار نجيب محفوظ ممثلا للنص الروائي العربي خاصة الواقعي منه لهذه الأسباب تشرح رؤيتها المنهجية بقولها :"وقد استلزم ذلك البحث أدوات نقدية تساعدنا على تحليل العمل الروائي إلى عناصره الأولية وطبيعة العلاقات التي تقوم بين هذه العناصر،وبذلك يجمع بحثنا بين التحليل البنائي و النقد المقارن ".

ونفهم من كلامها أنها ستتعامل مع ثلاثية نجيب محفوظ كوحدة مستقلة تحلل من الداخل دون الالتفات إلى ما هو إبعيدا عن الأحكام القيمية .

و إذا كانت يمنى العيد تكشف عن المقولات البنائية التي ستنطلق منها في دراستها التي ذكرنا فإن الناقدة "سيز ا قاسم" تكتفي بالإشارة فقط إلى أنها ستعتمد "جيرار جينيت " و "أزبنسكي" ،دون توضيح كيفية ذلك أو تحديد المفاهيم التي تختارها كمنطلقات نقدية لعملها ،وقد لاحظ ذلك" حميد لحميداني " فراح يلومها متسائلا :"وقد كان على الناقدة أن تحدد بدقة ما هي الأطروحات البنائية التي تود تطبيقها ولا ينبغي الاكتفاء بالإشارة إليها ،بل تقديم الصورة الخاصة التي تمثلها بها ،ومما يجعل هذا الجانب ملحا هو أنها تقدم منهجا جديدا في العالم العربي خصوصا بالنسبة للقراء الذين ليس لهم القدرة دائما على الاتصال المباشر بالنقد الغربي بسبب عوائق اختلاف اللغة .

لكن الشيء الملاحظ هو كون الناقدة تعترف أنها لن تلجأ إلى مناهج أخرى لتستفيد منها ،بل اكتفت بالمنهج البنيوي على أساس أتخادها الوصف وسيلة تحليلها ،ثم رؤيتها المبنية على معاملة النص كبنية تدرس من الداخل ،غير أننا نلاحظ أن هناك تفاوت بين هذا الطموح وممارستها النقدية ،إذ نجدها أثناء تفسيرها للثلاثية بنصوص غربية تسترسل في التأويل الفلسفي والاجتماعي وحتى الأيديولوجي ،فتبتعد عما خططت له متأثرة بوجهة نظرها الفكرية

البنيوية في العالم العربي :
لم تظهر البنيوية في الساحة الثقافية العربية إلا في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات عبر المثاقفة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوربا. وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية ( صالح فضل، وفؤاد زكريا، وفؤاد أبو منصور، وريمون طحان ، ومحمد الحناش، وعبد السلام المسدي، وميشال زكريا، وتمام حسان، وحسين الواد، وكمال أبوديب....) ، لتصبح بعد ذلك منهجية تطبق في الدراسات النقدية والرسائل والأطاريح الجامعية.
ويمكن اعتبار الدول العربية الفرانكوفونية هي السباقة إلى تطبيق البنيوية وخاصة دول المغرب العربي ولبنان وسوريا ، لتتبعها مصر ودول الخليج العربي.
ومن أهم البنيويين العرب في مجال النقد بكل أنواعه: حسين الواد، وعبد السلام المسدي ، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، ومحمد الحناش، وموريس أبو ناضر، وجميل شاكر، وسمير المرزوقي، وصلاح فضل، وفؤاد زكريا، وعبد الله الغذامي.


ختاما :
فالبنيوية كاتجاه نقدي , لم يكن إلا بعد توطئة معرفية علمية طويلة , كما أسلفنا , و كان يطبق في عصور ممتدة , حتى مضى عهده الزاهر , و أتت بعده مذاهب و اتجاهات أخرى , كالتشريحية أو التفكيكية , خاصة لما رأينا من جمود البنيوية في طبيعتها الصارمة و طريقتها التعسفية التي أبت إلا الأخذ بالداخل في النص دونما النظر إلى الخارج , في تجاهل صريح للمعطيات التاريخية و السياقية و المؤلف و ظروفه المؤثرة .. كل هذا أدى إلى البحث عن سبيل آخر لنقد النصوص , لكن مع كل هذا , إلا أن للبنيوية خطرها الكبير و أهميتها التي لا يمكن تجاهلها إذ كانت وليدة للفكر اللساني الذي يعد نقلة كبيرة في اللغويات العالمية ..




الموضوع : نشأة البنيوية


ـ مقالة ثانية عن البنيية عن ستار تايمز.
المنهج البنيوي: جذوره، ومفاهيمه


قبل الشروع في الحديث عن المنهج البنيوي كتيار فكري ظهر ليتجاوز النزعة التاريخية والفلسفات التي تعتمد الذات كخلفية مثل الوجودية أو الظاهراتية ، لا بد من تحديد مصطلح البنية لغة واصطلاحا
أ- الدلالة الاشتقاقية لكلمة بنية :
تشتق كلمة بنية من الفعل الثلاثي " بنى " الذي يدل على معنى التشييد والعمارة والكيفية التي يكون عليها البناء. وفي النحو العربي تتأسس ثنائية المعنى والمبنى على الطريقة التي تبنى بها وحدات اللغة العربية ، والتحولات التي تحدث فيها، ولذلك فالزيادة في المبنى زيادة في المعنى ، فكل تحول في البنية يؤدي إلى تحول في الدلالة
وفي اللغة الفرنسية تشتق كلمة structure من الفعل اللاتيني struere ويعني بنى وشيد أيضا والبنية موضوع منتظم ، له صورته الخاصة ووحدته الذاتية، لأن كلمة بنية في أصلها تحمل معنى المجموع والكل المؤلف من ظواهر متماسكة ، يتوقف كل منها على ما عداه ، ويتحدد من خلال علاقة بما عداه 
ب- الدلالة الاصطلاحية :
سبق لنا الذكر بأن مصطلح البنية قد تبلور لدى لسانيي حلقة براغ حيث تم " تأكيد مبدأ البنية " كموضوع للبحث قبل سنة 1930على يد مجموعة صغيرة من اللسانيين الذين تطوعوا للوقوف ضد التصور التاريخي الصرف للسان، وضد لسانيات كانت تفكك اللسان إلى عناصر معزولة ، وتنشغل بتتبع التغيرات الطارئة. لقد أطلقنا على سوسور ، وبحق رائد البنيوية المعاصرة وهو كذلك بالتأكيد إلى حد ما ، ويجمل بنا أن نشير إلى أن سوسور لم يستعمل أبدا ، وبأي معنى من المعاني كلمة " بنية " إذ المفهوم الجوهري في نظره هو مفهوم النسق.
لقد عرف تحديد مصطلح البنية مجموعة من الاختلافات ناجمة عن تمظهرها وتجليها في أشكال متنوعة لا تسمح بتقديم قاسم مشترك ، لذا فإن بياجيه ارتأى في كتابه " البنيوية " أن إعطاء تعريف موحد للبنية رهين بالتمييز " بين الفكرة المثالية الإيجابية التي تغطي مفهوم البنية في الصراعات أو في آفاق مختلف أنواع البنيات ، والنوايا النقدية التي رافقت نشوء وتطور كل واحدة منها مقابل التيارات القائمة في مختلف التعاليم " إذ ينفي الاعتراف " بوجود مثال مشترك من الوضوح يصل إليه أو يحاول إيجاده جميع البنيويين . فيما تختلف نواياهم النقدية إلى ما لا نهاية فيرى البعض أن البنيوية كما في الرياضيات 
تتعارض مع تجزئة الفصول غير المتجانسة محاولين إيجاد الوحدة بواسطة التشاكلات. أما اللغويين فيرون أن البنيوية تجاوزت الأبحاث التطورية التي تتناول ظواهر منعزلة لذلك أخذوا بطريقة المجموعات للنظام اللغوي المتزامن . أما في علم النفس فقد زادت البنيوية من معاركها ضد ميول النزعة الذرية atomistique التي كانت تسعى لجعل المجموعات مقتصرة على روابط بين عناصر مسبقة
إن جان بياجيه يسعى من وراء هذه الإشارات إلى التمييز بين تجليات التطبيق البنيوي في ميادين معرفية مختلفة وبين المثل الأعلى الذي تنشده البنيوية ، فهو يميز في تعريفه للبنية بين ما تنتقده البنيوية وما تهدف إليه. ولذا فهو لا يعرف البنيوية بالسلب أي بما تنتقده البنيوية لأنه يختلف من فرع إلى فرع في العلوم الحقة والإنسانية. إنه يركز بالأساس في تعريفه البنية على الهدف الأمثل الذي يوحد مختلف فروع المعرفة في تحديد البنية باعتبارها سعيا وراء تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى العناصر الخارجية
وبذلك يقدم جان بياجيه تعريفا شاملا للبنية باعتبارها نسقا من التحولات : " يحتوي على قوانينه الخاصة ، علما بأن من شأن هذا النسق أن يظل قائما ويزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به هذه التحويلات نفسها ، دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو أن تستعين بعناصر خارجية ، وبإيجاز فالبنية تتألف من ثلاث خصائص هـــــــــي : الكـــــــلية totalité و التحولات transformations وبالضبط الذاتي auto-reglage . " 
يتضمن هذا التعريف جملة من السمات المميزة ، فالبنية أولا نسق من التحولات الداخلية ، ثانيا لا يحتاج هذا النسق لأي عنصر خارجي فهو يتطور ويتوسع من الداخل ، مما يضمن للبنية استقلالا ويسمح للباحث بتعقل هذه البنية
إن خاصية الكلية تبرز أن البنية لا تتألف من عناصر خارجية تراكمية مستقلة عن الكل بل هي تتكون من عناصر خارجية خاضعة للقوانين المتميزة للنسق وليس المهم في النسق العنصر أو الكل بل العلاقات القائمة بين العناصر
بينما خاصية التحولات فإنها توضح القانون الداخلي للتغيرات داخل البنية التي لا يمكن أن تظل في حالة ثبات لأنها دائمة التحول
أما خاصية التنظيم الذاتي فإنها تمكن البنية من تنظيم نفسها بنفسها كي تحافظ على وحدتها واستمراريتها. وذلك بخضوعها لقوانين الكل
أماالانتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوش فإنه يحدد البنية بأنها نسق يتألف من عناصر يكون من شان أي تحول يعرض للواحد منها أن يحدث تحولا في باقي العناصر الأخرى " ومن خلال هذا التعريف يتجلى أن وراء الظواهر المختلفة يكمن شيء مشترك يجمع بينها ، وهو تلك العلاقات الثابتة التجريبية ، لذلك ينبغي تبسيط هذه الظواهر من خلال إدراك العلاقات لأن هذا الأخير أبسط من الأشياء نفسها في تعقدها وتشتتها. ومعنى هذا " أن المهمة الأساسية التي تقع على عاتق الباحث في العلوم الإنسانية إنما هو التصدي لأكثر الظواهر البشرية تعقدا وتعسفا واضطرابا من أجل محاولة الكـــشف عن " نظام " يكمن فيما وراء تلك الفوضى وبالتالي من أجل الوصول إلى " البنية " التي تتحكم في صميم " العلاقات" الباطنية للأشياء ، ولكن المهم في نظر ليفي ستراوش هو أننا لا ندرك البنية إدراكا تجريبيا على مستوى العلاقات الظاهرية السطحية المباشرة القائمة بين الأشياء ، بل نحن ننشئها إنشاء بفضل " النماذج التي نعمد عن طريقها إلى تبسيط الواقع وإحداث التغيرات التي تسمع لنا بإدراك البيئة ". 
إن أهم ما نستشفه من هذا التصور هو النقد الشديد للنزعة التجريبية التي تقوم على أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع ، واستبدال ذلك بالتفسير العقلي للظواهر التجريبية. فالبنيويون يؤمنون بأسبقية العقل عن الواقع الخارجي ، فكلود ليفي ستراوش في أبحاثه البنيوية لا يهدف إلى الوصول إلى " عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنتروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة ، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يهتدى إليه بوضوح على مستوى الملاحظة ، وإنما على مستوى البناء العقلي، فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية وهذا البناء الخفي لا يوجد على السطح الخارجي ، وإنما يكتشف عقليا
من خلال تعريف بياجيه وليفي ستراوش يتضح بجلاء أن الاتجاه البنيوي اعتمد خلفية عملية وفلسفية هي التي أكسبته نسقية منهجية وشمولية ميدانية. فما هي هذه الخلفيات الأيبستيمولوجية لظهور المنهج البنيوي خاصة في فرنسا
خلفيات ومسوغات المنهج البنيوي :
إن المنهج بصفة عامة هو حصيلة لمجموعة من التحولات والتغيرات تقع في الأنساق المعرفية ، وتكون نتاجا لسيرورة جدلية وحوارية مع المفاهيم السابقة المعرفية ، ولا بد والأمر كذلك أن يستند المنهج إلى منظومة فكرية وبعد فلسفي وعلمي. وللإجابة عن السؤال الذي طرحناه أعلاه لا بد من استحضار المناخ الثقافي والعلمي التطورات الحاصلة في بداية القرن العشرين الذي تبلور فيه المنهج ورست معالمه وخطته
في البداية يجدر بنا أن نفصل في الحديث عن المنهج بين مستويين
الأول يتعلق بالبعد المعرفي والثاني بالجانب الأيديولوجي ، فلا ينبغي أن نخلط بين هذين المستويين حتى نتمكن من تقويم المنهج من خلال كفايته الوصفية والتفسيرية
1-
النزوع اللامادي وتبعثر المعرفة :
إن السياق التاريخي والمعرفي الذي تبلورت فيه المفاهيم اللغوية عند سوسير باعتباره الممهد الرئيسي لظهور البنيوية - عرف أزمة عامة في العلوم بشكل عام ، ففي الفيزياء بدأ الشك يثار حول مفهوم الذرة بوصفها مادة. وقد انتقل هذا النزوع اللامادي إلى مفهوم النسق عند سوسير الذي أصبح فيه الشكل هو المضمون وأضحت العلاقة بين الدال والمدلول تدرس في بنيتها الداخلية ، واستبعد المرجع الخارجي المادي. لأن الحقل الإبستيمولوجي تغير من مقولة الكينونة والوجود إلى مقولة العلاقة
إن إلغاء الواقع المادي يستجيب لتصور يعتبر أن معيار الصدق في المعرفة هو البنية الداخلية ، وقد كان النموذج الرياضي هو المثال الذي احتذته البنيوية حيث أن الرياضيات لا تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها
إن طبيعة الفكر العلمي والفلسفي تحيل إلى البحث عن نموذج شامل يعمم على مختلف أنواع المعرفة من أجل توحيدها ، وقد بدا هذا الطموح جليا في المراحل التي قطعها التفكير الإنساني ، بحيث أن كل مرحلة يهيمن فيها نموذج خاص ، " فالمثالية اختارت نموذج " المطلق " والنزعة الرومانسية اختارت نموذج " العضوي " ، في حين أن القرن 18 اختار كلمة " الميكانيك " و في النصف الثاني من القرن 19 وبداية القرن العشرين بدأ النموذج اللغوي يتسرب لجميع فروع المعرفة. " 2
إن نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين مرحلة كانت في حاجة ماسة لظهور حركة فكرية تلم شعت المعرفة المبعثرة في ثقافات منعزلة لأن السمة التي ميزت هذه المرحلة هو التبعثر المعرفي الموغل في التخصص " ففلاسفة اللغة يؤكدون أنه ليس بالإمكان خلق تطابق بين لغتنا والعالم الذي وراءها
نظرية التــلقي : أسسها ، سياقها ، مفاهيمها 
إن الحديث عن نظرية التلقي كقصدية و كوعي منهجي ، يقتضي تناول محدودية الممارسات النقدية والإجراءات المنهجية السابقة، فتاريخ المنهج خاصة في أوربا عرف مسارا تطوريا، بحيث أن المنهج اللاحق يتجاوز السابق محدثا شبه قطيعة مع أسسه النظرية وأدواته الإجرائية
فقد رأينا في الفصول السابقة أن منهج تاريخ الأدب منذ مدام دوستايل في كتابها " النظر للأدب في علاقاته بالمؤسسات الاجتماعية " المنشور عام 1800، ومرورا بسانت بوف وهيبوليت تين ، ووصولا إلى غوستاف لانسون ، كان يعتمد خلفية له الفلسفة الوضعية التي تهتم بدراسة الأسباب والعلل التي تنتج الظواهر ، ومن تم راح المنهج التاريخي للأدب يدرس ويحلل علاقات الأدب بالمكونات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية ، ويعلي من شأن المؤلف ، فسانت يوف يعتبره الوسيط بين العمل الأدبي والمجتمع ، ولهذا السبب يذهب رولان بارت إلى أن المؤلف شخصية حديثة إذ " يمكننا القول أنها ابتدعت من طرف منهج تاريخ الأدب من طرف سانت بـــوف ولانسون ، لأنه وإن وجد دائما شخص يكتب لم يكن دائما مهما أن نعرفه: فهو ميروس لا يعرف هل وجد فعلا ، وأناشيد البطولة في العصر الوسيط كانت مجهولة المؤلف ، فلم يصبح المؤلف صورة مركزية إلا ابتداء من القرن 19 بحيث يرى فيه النقد التاريخي مكان التقاء الأدب بالمجتمع ، وفي الوقت نفسه فالعصر كله قد رقى الفرد المبدع إلى مصاف الإله
لقد وجهت انتقادات لأسس المنهج التاريخي ، ولمحدوديته التأويلية ، وقد كانت أبرز هذه الانتقادات هي تلك التي وجهها رولان بارت في مقالاته الثلاثة 1 المنشورة بين 1960-1963
فقد أبطل ادعاء تاريخ قول الحقيقة حول أعمال راسين بفرضه عليها معنى واحدا ، أي مقصدية المؤلف ، فهو يرى أن العمل الأدبي ماض وحاضر في الآن نفسه ، إذ يستمر ويبقى وإن اختلف الحدث التاريخي الذي أنجزه ، وإن هذه الاستمرارية لهي حجة تثبت أن العمل لم يستنفد كل عطائه في لحظة ظهوره. فليس هناك " راسين في جد ذاته أو " راسين حقيقي " ، عرف بطريقة نهائية من طرف تاريخ الأدب ، وإنما هناك فقط فراءات لراسين لها نفس القيمة شريطة أن تكون منسجمة وشاملة
وفي مستوى آخر يوجه نقده لغوستاف لانـسون ، مطورا تثريب المؤرخ لوسيان لوفيفر الذي اتهم تاريخ الأدب اللانسوني بأنه لم يكن بتاتا " تاريخا بحق " لأنه كان يؤمن " بجوهر زمني للأدب " ، وهو مع ذلك تاريخ نسبي ويتغير حسب العصور
وأخيرا ، يبين بارت ، عجز لانسون ، عن فهم العمل الأدبي ضمن سلسلة من الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية ، لأن نموذج التفسير لديه قديم فهو موصوم بوصمة الوضعية ، الموصومة بإيديولوجية وبمفهوم للإبداع عفى عنهما الزمن اليوم
وحينما تحول النموذج من سلطة المؤلف إلى سلطة النص عرفت الدراسات الأدبية نقلة نوعية ، ساهم فيها التطور الذي عرفته اللسانيات والدراسات الانتربولوجية البنيوية. وقد كان للفلسفة الكانطية والحبشطلتية وللرياضيات دور كبير في تغيير الرؤية للأدب ، وفي إعادة تحديد المفاهيم ؛ كمفهوم الأدب والأجناس الأدبية والنص والتركيز على مفهوم العلاقة بدل المرجع ، والاهتمام بالكشف عن أسرار العمل الأدبي من داخله متلافية كل بحث عن التكون المرتبط بالعالم الخارجي أو التاريخ
وبالموازاة مع هذا التأثير الفلسفي والعلمي في تحويل وجهة النظر اتجاه الأدب واستقلاليته عن العالم الخارجي ، كانت هناك بعض الحركات الإبداعية كالمستقبليين على سبيل المثال. تذلل الطريق أمام المنظرين وتوفر لهم مجالا خصبا للتطبيق، إضافة أن بعض الأدباء النقاد 1 قد سبقوا إلى التأكيد على استقلالية النص واعتباره تمرينا لغويا صرفيا
إن تركيز البنيوية على النص بدل المؤلف سيقود إلى فرضيات أولية حول القراءة في علاقتها بالكتابة، وهذا ما حدا برولان بارت إلى أن يذهب إلى أن موت المؤلف إيذان بميلاد القارئ.

الجمعة، 24 نوفمبر 2017

ألتوسير: أزمة الماركسية (مقابلة). مع رابط لمقابلة مع ألتوسير بعنوان: "الماركسية والفلسفة".



أزمة الماركسية.. حوار مع لوي آلتوسير



ترجمة: هشام عقيل صالح

أجرى الصحفي والمحاضر ريناتو باراسكاندولو هذا الحوار التلفزيوني مع لوي آلتوسير في روما (على سطح إحدى البنايات المطلة على قبة كاتدرائية القديس بطرس التابعة للفاتيكانفي أبريل 1980؛ أذيع هذا الحوار في هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيطالي في فقرة (الموسوعة الإعلامية للعلوم الفلسفية). ترجم رون سالاي مقتطفات هذا الحوار من الإيطالية إلى الإنكليزية ونُشرت في موقع دار (فيرسواليسارية في 11 يوليو 2017.
من المعروف أن آلتوسير كان نادراً ما يظهر على التلفاز؛ وبل تشدق بهذه الميزة في مذكراته (المستقبل يدوم إلى الأبدبأنها طريقته الخاصة ليبقى نقياً” من الأجهزة الأيديولوجية والإعلاميةأجري هذا اللقاء قبل أسابيع من إقدام آلتوسير على خنق زوجته هيلين؛ ووفقاً للمترجم سالاي قال آلتوسير الكلمات التالية قبل أن يبدأ اللقاء: “أنا سعيد جداً لأكون هنا في روما؛ عليك أن تعرف أن مدينة روما، بل إيطاليا كلها، بالنسبة إلينا، نحن الفرنسيون، هي مكان يسمح للمرء أن يلتقي بشخصيات شبه عجائبية
*كيف أصبح آلتوسير آلتوسير نفسه؟
– لا أعتقد أن هذه المسألة ذات أهمية حقاً..
*أيمكنك أن تخبرنا عن رحلتك؟
– رحلتي هي بسيطة جداً؛ ولدتُ في الجزائر.. كانت والدتي ابنة فلاح بسيط وفقير من موفو، فرنسا الوسطى، الذي قرر أن يسافر إلى الجزائر ليشتغل كحارس غابةأما والدي، فكان ابن رجل من الألزاس؛ قررا أن يأتيا إلى فرنسا في 1871، لكن الحكومة الفرنسية هجرتهما إلى الجزائر؛ وهكذا التقى أبي بأميعشت في الجزائر حتى 1930؛ ثم قدمت إلى مارسيليا وعشت هناك لستة سنوات، وبعد ذلك في ليون لثلاثة سنواتانضممت إلى الجيش لسنة واحدة، ثم سُجنت وارسلت إلى ألمانيا لخمس سنواتعدت إلى فرنسا حين انتهيت من دراساتي للفلسفة في 1948؛ ومكثت في مدرسة الأساتذة العليا كبروفيسور.
ماذا عن رحلتك الفكرية والثقافية؟
– التقيت برجلين؛ الأول هو جان غيتون؛ الفيلسوف الكاثوليكي، وصديق البابا القديس جون الثالث والعشرين كما أنه صديق مقرب للبابا بولس السادس؛ ساعدني – غيتون– على كتابة أطروحتيأما الآخر، فكان جوزيف أورز بروفيسور التاريخ؛ كان رجلاً مدهشاًحدثنا، في هذه السنوات ما بين 1936-1939، عن كل ما حصلالحرب، والهزائم، ومعجزة هزيمة بريتانتحدث عن وصول بريتان إلى السلطة؛ تحدث عن كل ما حصل.. أمرٌ مدهشبذلك فكرت ما بين تلك السطور، بما أنني كنت في مثل الوقت كاثوليكياً؛ وعلى ذلك أسستُ دائرة كاثوليكية في الثانوية العامة.. كنت كاثوليكياً بحق، وكانت لدي وجهتيّ نظر؛ فمن جانب، كانت هناك الكنيسة التي دعت إلى دراسة المشكلات الإجتماعية والتفكر بهاومن الجانب الآخر، كان هناك بروفيسور التاريخ هذا.. كاثوليكي لكنه في مثل الوقت غلاطييعقوبي؛ كان يحدثنا عن كل شيء يعمل فيه.. عالمٌ مذهل بسبب خصوصيتههكذا ترعرعت ثقافياً وفكرياً.
*متى أصبحت شيوعياً؟
– أصبحتُ شيوعياً لأنني كنت كاثوليكياً؛ لم أغير ديانتي، بل بقيت كاثوليكياً حقيقياً؛ لا أذهب إلى الكنيسة لكن هذا لا يهم كثيراً؛ فلا يمكنك أن تطلب من الناس أن يرتادوا الكنيسةبقيتُ كاثوليكياً، أو بمعنى آخربقيتُ أممياً كونياًرأيت أن لدى الحزب الشيوعي وسائل أكثر ملائمة لتحقيق الأخوية الكونية؛ ومن ثم، كان هناك تأثير زوجتي التي شاركت في المقاومة المريرة والتي علمتني الكثير.. الكثيركل الأشياء التي تعلمتها قدمت إليّ عبر المرأة؛ لهذا أعتقد أن للحركة النسائية دوراً هاماً، دوراً أساسياً.. النساء لا يعلمن قدراتهن وإمكاناتهن.. قدراتهن على ممارسة السياسة.
أي دور تلعبه الثقافة الكاثوليكية اليوم؟
– لها دور جبار جداًبرأيي، تعتمد الثورة الاجتماعية أو التغيير الاجتماعي الحقيقي اليوم على تحالف ما بين الكاثوليكيين (أنا لا أقول الكنيسة.. رغم أنه بإمكانها أن تكون جزءً من هذا التغيير) – كاثوليكيو العالم، وكل أديان العالم– والشيوعيين.
فيما يخص العلم والإنسانويةانتقدتَ فكر ماركس الشاب بحجة أنه لم يستطع أن يتفلسف من دون أن يؤسس أسس العلمأنت الآن على خطى (رأس مال)ماركس، مؤسساً فلسفة ماركسيةأهناك فلسفة ماركسية؟
– لا وجود للفلسفة الماركسية، ولا يمكنها أن توجدأنا قلت هذا منذ وقت طويل؛ بعد شهرين من كتابتي لمقدمة مقتضبة جداً للنسخة الإيطالية من كتاب (قراءة رأس المال). بعد نشر الكتاب فهمت أن تقريباً كل شيء كان على خطأفي النهاية، كان على المرء أن يتحدث عن موقع ماركسي في الفلسفة.. لا عن فلسفة ماركسيةالآن أنا متأكد – وأنا أتحدث بتجربة خمسة عشر سنة– من المستحيل أن توجد فلسفة ماركسية.. من المستحيل.
أهذا يعني عدم إمكانية وجود المادية الديالكتيكية أيضاً؟
– إنها تعني مثل الشيء.. بل أكثر سوءاً.
حول الشيوعية
*أتحيلنا كلمة “تقرير المصير” إلى كلمة “الشيوعية؟
– ليس بالنسبة إلي..
ما هو الفرق؟
– الفرق هو أن ليس لكلمة تقرير المصير” أي أساس أو محتوى؛ بينما الشيوعية موجودة.ليس هناك أي وجود لتقرير المصير، بينما الشيوعية موجودة؛ على سبيل المثال أنها توجد هنا بيننا على هذا السطح في روما.
*بأي معنى؟
– الشيوعية هي نمط إنتاجي يخلو من علاقات اقتصادية مبنية على الاستغلال ومن علاقات سياسية مبنية على السيطرة؛ وكما أنها تخلو من علاقات أيديولوجية قهرية أو تخويفية، ومن الاستعباد الأيديولوجي أيضاًلا توجد هذه العلاقات بيننا في هذا المكان الذي نحن فيه تحديداً.
تعني هنا.. في هذه اللحظة بالتحديد؟
– نعم، في هذه اللحظة تحديداًجزر الشيوعية موجودة في العالم كله؛ على سبيل المثال:الكنيسة، ونقابات معينة، وحتى في خلايا معينة تابعة للحزب الشيوعي؛ لدينا في الحزب الشيوعي خلية شيوعية؛ هذا يعني أن الشيوعية تم تحقيقهاأنظر كيف تُلعب كرة القدم وماذا يحدث فيها؛ إنها لا تتعلق بعلاقات مبنية على السوق، ولا بالسيطرة السياسية، ولا بالتخويف الأيديولوجي؛ هناك أشخاص من فرقٍ مختلفة تتعارض مع بعضها البعض، لكنها تحترم القواعد، أيّ، تحترم بعضها البعضالشيوعية هي الاحترام للبشرية.
*ما هو الفرق ما بين الاحترام والحب؟
– هناك فرق كبير جداً.. خذ الكنيسة على سبيل المثال؛ حين قال المسيح أن عليك أن تحب جارك، يتحول الحب هنا إلى أمر؛ أنت تؤمر على، عبر ضم الآخر، أن تحب جارك كما تحب نفسك؛ لكن لا أحد يحتاج إلى أية أوامربينما احترام الآخر هو مسألة عائدة إليك وحسب؛ أما إذا قلت أن عليك أن تحب الآخرين، يصبح الآخر متضمناً في حبك.. لا يمكنه الهروبوماذا يمكنه أن يصنع إن كان لا يهتم بحبك؟ ماذا تفعل إذا كنت مصراً: “علي أن أحبك..علي أن أحبك لأن المسيح طلب من ذلك؟ عليك أن تهربلكن إذا كنت تكن للآخر احتراما، فأنه سيتركك أن تفعل ما تشاء؛ إذا أرادك أن تحبه فليكن، لكنه إذا لم يرد ذلك فليكن كذلكإذا كنت تحبه، عليك أن تقول للآخر أنك تحبه، لكنك إذا لم تحبه فأفعل ما شئت.
*قال لينين أن وجه الشبه ما بين الماركسيين والأناركيين يصل إلى تسعةأعشار بينما يصل وجه الاختلاف إلى عشر وحسب؛ الشيوعيون يريدون انحلال الدولة بينما يريد الأناركيون تقويضها بشكل مباشرأتتفق؟
نعم أتفق مع ذلكأنا أناركي، أناركي إجتماعي؛ أنا لست شيوعياً لأن الأناركية الإجتماعية تتجاوز الشيوعية.
*لماذا إنهارت هذه الوحدة الثقافية ما بين الأناركية والشيوعية؟
– إنه تاريخ دارماتيكي جداًأنت تعرف أن في علاقة ماركس وباكونين تكمن صفات شخصية ماركس المهيمنة؛ يا لها من قصة مأساويةلقد عامل ماركس الأناركيين بطريقة مستحيلة..بطريقة غير منصفةهذا أدى إلى احتقار الجماهير الذين لا يمكنك أن تكسبهم هكذا في بضعة أيامهذه الأمور تبقى لمدة طويلة جداً، مثلما حين يعاملك أحدهم بطريقة سيئة جداً..ستحتاج إلى المسيح كي يقنعك أن تتحدث إليه مرة أخرى؛ لن يكون بإمكانك أن تسامح، ولن يكون بإمكانك أن تسامح الآخرين أيضاًكيف يمكن للمرء أن يسيء لأشخاص هكذا من دون أي احترام لهم، كما فعل ماركس لباكونين؟ كان باكونين مجنوناً بعض الشيء، لكن هذا لا يعني شيئاً على الإطلاق.. هناك الكثير من المجانين في كل مكان؛ أنا مجنون أيضاً.
حول الثورة
دعنا نتحدث عن الثورة في الغرب؛ ما هي الظروف التاريخية اللازمة لظهور عملية ثورية في الغرب اليوم؟
– إنها مسألة معقدة جداً وتتجاوز نطاق بحثنا؛ إنها معقدة جداًعلى سبيل المثال، لنأخذ الوضع الإيطالي المسدود، كما هو الحال في فرنسا؛ رغم أنني أعتقد أنه مسدود في إيطاليا أكثر مما هو في فرنسا.. لكن يبقى هذا الرأي مجرد فرضيةوفر لينين الظروف العامةحقيقة أن الذين يحكمون غير قادرين على الحكم هي صحيحة دائماً، وأن هؤلاء الذين في الأسفل لا يمكنهم الاستمرار في أن يبقوا محكومين هكذا.. هذا هو ظرف واحد؛ لكنه لم يوجد بعدصحيح أن الذين يحكمون غير قادرين على الحكم، لكن المحكومين – العمال، والفلاحون، والمثقفون، إلخ– لا يزالون قادرين على دعم وتأييد النظام القائم؛ أنهم لا يزالون يؤيدونهيكفي أن نقول حين يرفض المحكومون نظام ما.. ستنشب الثورة.
*أنت تقول، إذن، أن الثورة الاشتراكية ستحدث فقط بفضل أزمات أنماط إعادة الإنتاج الرأسمالية؟
– أنماط إعادة الإنتاج الرأسمالية هي دائماً في أزمة؛ هذا هو تعريف ماركس للرأسمالية، أيّ الرأسمالية هي دائماً في أزمة، أو بكلمات أخرىالأزمات هي أمر طبيعي بالنسبة للرأسمالية.
أنت أيضاً قلت أن الأجهزة الأيديولوجية للدولة هي أبنية مهمة جداً لسيطرة طبقة معينة..
نعم؛ لكنني أؤكد على “.. للدولة” وهذه هي المشكلة، لأن الكل أعتاد على أن يقولالأجهزة الأيديولوجية” وحسبأنا لم أكن على علم بأن غرامشي استخدم مصطلح أجهزة الهيمنة؛ أنه مثل الشيء.. حيث تختفي فيه الدولة” في كل الأحوالأنا أصر على الإبقاء على الدولة” لأنها أهم شيءهذه الأجهزة الأيديولوجية هي عائدة للدولةبلا شك، هذا الأمر أيضاً يعتمد على التعريف الذي تعطيه أنت للدولة؛ عليك أن تعطي تعريفاً آخر للدولة، فضلاً عن التعريف الكلاسيكي الذي قدمه ماركسنعم فهم ماركس بأن الدولة هي أداة للطبقة المسيطرة، وهذا أمر صحيح، لكنه لم يفهم أي شيء فيما يخص عمل الدولة، أو دعنا نقول فيما يخص مساحة الدولة.
*على سبيل المثال، تحدث غرامشي عن الصحف أيضاً؛ مؤكداً بأن لا يهم كثيراً إذا كانت عامة أو خاصة.. الصحف في كل الأحوال هي أجهزة هيمنة.
– نعم أتفق تماماً.
الآن أجهزة إعادة الإنتاج هي ليست محصورة بوسائل الاتصال الجماهيري، مثل الأحزاب، والنقابات، والعائلاتفعلى سبيل المثال، المصانع أيضاً تولد أجهزة معينة لإعادة الإنتاج (على سبيل المثالالهرمية، والمهنية، إلخ).
– صحيح بلا شك؛ أنا لم أتحدث عن هذا الأمر.. لكنه صحيح.
أنت معروف، فوق كل شيء، آخر، بابتكار مفهوم جديد: “التحديد المضاعف”.أيمكنك تفسير هذا المفهوم؟
– لقد طورت هذا المفهوم عبر فرويد؛ واستخدمته في الحقل النظري الذي ليس له أية علاقة بفرويدفي الوقت الحاضر، لا يمكنك أن تؤسس أية علاقة ما بين فكر ماركس وفرويد، بإستثناء علاقة تتعلق بالفلسفة، أيّ التجانس الفلسفي– المادية إلخإستخدمتُ هذا المفهوم لأتحدث عن أشياء متعددة في واقع المجتمع والأحداث التاريخيةهذا المفهوم لا يفهم دائماً كـتحديد، بل أيضاً كـتحديد مضاعف” أو تحديد ناقص”. هذا التحديد ليس بسيطاً؛ بل يجب أن يفهم بشروط التعدد؛ في هذا المتعدد، هناك تعدد أكثر أو أقل من التحديد” الذي تفكره، أو الذي تعتقد أنك تفكره، أو الذي تعتقد أنك توصلت إليه عبر بحثك.
*أيمكنك أن تمدنا بمثال ما؟
– قضية ستالين على سبيل المثال؛ إنها قضية “مضاعفة في تحديدها”. التفسير الذي قدمه خروتشوف هو أن ستالين كان ببساطة مجنوناً.. أنه مجرد مجنون؛ هذا تفسير تحديدي”.لكن هذا التفسير ليس كافياً؛ ليس كافياً لفهم شخصية وعالم ستالين؛ ولفهم هذا الأمر أنه يستلزم وجود تحديدات” أخرى– “تحديد مضاعف” وتحديد ناقص” – لأنك حين تؤمن بأنك قد فهمت أركان التحديد، فأنت لا تعرف أين أنت في هذا الواقع، أيّ أمام هذا الواقع؛ فأنك قد تكون متجاوزاً للواقع أو تحته؛ عليك أن تصعد إلى الأعلى أو إلى الأسفل.
أيعني “تجاوزالواقع” أنك متقدم بالنسبة إلى الواقع؟
– أنه يعني أنك، بشكل عام، متأخر في هذا الواقع؛ من الممكن أن يحصل في حالات معينة بأن يكون، على سبيل المثال، الشعراء، والموسيقيين، والفلاسفة الطوباويين متقدمين على الواقععلى سبيل المثال، في هذه اللحظة بالتحديد، على هذا السطح، نحن متأخرين أمام هذا الواقع؛ بلا شك، لأننا لا ندرك الواقع، نحن نحاول إدراكه فقط.
أنحن متحددين بشكل ناقص إذن؟
– نعم.
قال إرنست بلوخ بأن قدر الإنسان هو أن يكون دائماً خارج الزمن؛ أن يعيش دائماً قبل تاريخه أو يعيش تاريخه عبر التفكير كما كان يفكر قبل عشرين سنة.. أو قبل قرن.
– هذا صحيح؛ الإنسان هو دائماً متأخرهذا صحيح لكن بلوخ لم يساعد على أي شيء؛ كان يتحدث عن الآخرين لا عن نفسه.
السياسة
*أسلوب عملك هو الدراسة، أليس كذلك؟
– أنا أميل إلى أن أقوم بذلك؛ أنا أعتبرها أحد أهم الأشياء فيما يخص كل شيءأعتقد أن كلمة التنظيم” أو النظام” هي الكلمة العليا التي تأتي فوق كل شيء آخر؛ ثم يأتي التغير في التفكير.. التغير في طريقة التفكير؛ وبعد ذلك يأتي التغير في طريقة العملهذا يعني، لتجعل الآخرين يفهمون أشياء معينة، أو تشجعهم على العمل، على تنظيم العمل في النقابات، والسياسة، وإلخ، فإن عليك أن تغير طريقة التنظيم والتحريك.
هذا يعني تغيير طريقة ممارسة السياسة؛ فما هي السياسة؟
– ما هي السياسة؟ [ضاحكاًالسياسة هي أن تعمل من أجل الحرية والمساواة.
*ماذا يعني أن تفهم كيف تمارس السياسة؟
– ممارسة السياسة تعني أن تكون واعياً بالعلاقات الحقيقة ما بين الناس الذين لديهم أفكاراً حول السياسة ومختلف المواضيع الأخرى.
أنت استخدمت في إحدى المرات تشبيهاً تقول فيه “كي تعرف كيف تمارس السياسة، عليك أن تتعلم العزف على البيانو؛ ماذا تعنيه هذا العبارة؟
– إنها كلمات ماو تسي تونغ ؛ فسرتُ هذه العبارة في مقالة ستنشر عما قريب، فليس هناك أي داع لأكرر هذا الكلام هنا.
أنت أيضاً حكيت قصة أخرى تدور حول شجرة السنديان والحمار..
– إنها قصة بسيطة جداً؛ قيل لي أن لينين حكى هذه القصة حينما كان في سويسرا؛ حاول أن يشرح للناس بأن عليهم تغيير طريقة تفكيرهمالقصة تبدأ هكذاكان يا مكان في منطقة ريفية شبهمهجورة في روسيا؛ كان هناك رجل اسمه إيفان استيقظ ذات يوم على وقع قرع قوي على باب بيته في الفجرتوجه إيفان، خائفاً، إلى الباب ليرى ما الأمر؛ وجد خارج بابه شاباً يدعى غريغوري يصرخ بهلع: “حدث أمر فظيعأنه أمر فظيع جداًتعال معي أرجوك!”؛ هكذا إنطلق غريغوري مع إيفان إلى الحقل الذي تتوسطه شجرة مذهلة.. شجرة السنديان.لم يزل الظلام حالكاً في هذا الوقت، وكان من الصعب على المرء أن يرى.. قال غريغوري: “أتدري ما الذي فعلوه بي؟ أعطوا شجرتي إلى الحمار!”؛ لكن يبقى الواقع بأن الحمار كان مربوطاً بالشجرةرد عليه إيفان قائلاً: “غريغوري، يا لك من شاب مخبولعليك أن تغير طريقة تفكيرك؛ لا تقل أنهم ربطوا شجرتك بالحمار، بل قل أنهم ربطوا الحمار بشجرتك!”.
انتهت أسئلتي.. ما لم تريد أن تضيف شيئاً.
– أيمكننا الذهاب إلى الشاطئ؟ يا له من يوم جميل!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يمكن قراءة الترجمة الإنكليزية لهذا الحوار على الرابط التالي:
المترجم
2- وفقاً لرون سالاي، قال آلتوسير في الحوار بأن جده ووالده قدما إلى فرنسا في 1971؛ بينما هو عاش في الجزائر حتى 1980. وهذا خطأ، قد يكون لغوياً، حيث آلتوسير قدم من الجزائر إلى فرنسا في 1930 (ويتشابه لفظ 1930 و1980 بالإيطالية.. فمن المرجح أن آلتوسير أخطأ في اللفظ، أو تم سماعه بشكل خاطئ). أما حقيقة أن والده وجده قدما إلى فرنسا في 1971 وتم تهجيرهما إلى الجزائر فهذا غير صحيح تاريخياً؛ تقول الشواهد أنهما قدما إلى فرنسا في 1871وتم تهجريهما إلى الجزائرلقد أخترت ألا أبقي على ما لفظه آلتوسير في الحوار، بل على ما يبدو أكثر منطقية وتوافقية مع التاريخ؛ ليتفادى القارئ التشوش في الأمور التاريخية.
المترجم
3- يبدو أن المترجم سالاي، في النسخة المترجمة إلى الإنكليزية، لم يستطع الإستماع بوضوح إلى باقي السؤال؛ حيث إنه توقف عند إسلوب عملك هو الدراسة…”. بينما نحن أضفناأليس كذلك؟” لنجعل من الجملة سؤالاً يتناسب مع الرد.. رغم أن هذه الإضافة غير موجودة في واقع الأمر.
المترجم
4- يقول ماو تسي تونغ في (“Methods of Work of Party Committees” (March 13, 1949), Selected Works, Vol.IV, p.379):
(( لتتعلموا كيفية عزف البيانو”.. ففي عزف البيانو تتحرك الأصابع العشر كلها؛ ولن ينفع إذا تحركت بعضها بينما تبقى بعضها الآخر ساكنة؛ لكن إذا سقطت كل الأصابع في مثل الوقت على مفاتيح البيانو، لن تنتج هذه العملية أية نغمةلكي تنتج موسيقى جيدة على الأصابع أن تتحرك بشكل إيقاعي ومتناسقعلى اللجنة الحزبية أن تبقى قبضة صارمة على مهمتها المركزية وفي مثل الوقت، في محيط المهمة المركزية، عليها أن تستمر في العمل في مختلف المجالات. (…) البعض يعزف البيانو جيداً بينما البعض الآخر يعزف البيانو بشكل سيء؛ وهناك فرق شاسع ما بين الأنغام التي ينتجوهاعلى أعضاء اللجان الحزبية التعلم كيفيةعزف البيانو” جيداً. ))
المترجم


رابط مقابلة ثانية مع ألتوسير بعنوان: الماركسية والفلسفة
نشرت المقابلة على موقع "حكمة"


جاء في المقابلة:
عندما أقول إنه من الصعب الحديث عن الفلسفة الماركسية، لا يجب أن يفهم هذا بشكل سلبي، ليس هناك أي سبب يجعل كل زمن يملك فلسفته الخاصة، ولا أعتقد أن هذا الأمر هو الأساسي والأكثر ضرورة
إذا كنا نريد فلاسفة، لدينا أفلاطون، وديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، وكثيرون غيرهم، يمكننا الاستفادة من أفكارهم من أجل تفكير وتحليل وقتنا الحاضر من خلال “فهمها” وتطويرها.
(
ألتوسير)
[إن كتاب "رأس المال" هو عمل علمي ونقدي وسياسي، مارس فيه ماركس الفلسفة التي لم يكتبها أبداً.]
..
إن المهمة التي علينا العمل بها اليوم هي ليست فلسفة ماركسية، بل فلسفة من أجل الماركسية.
أنا أمحص في تاريخ الفلسفة، عن العناصر التي ستمكننا من فهم ماذا الذي فكره ماركس وفي أي شكل فكر فيه.
(
ألتوسير)
ملاحظة: تعود هذه المقابلة مع ألتوسير (1918ـ 1990) إلى عام 1986.

إن اكتشاف ماركس كان أساساً علمياً بطبيعته، كان مكوناً من كشف عمل النظام الرأسمالي.
من أجل هذه الغاية، اعتمد ماركس على فلسفة – فلسفة هيغل- التي يمكن القول بأنها ليست مناسبة لهدفه… أو لتجعله يفكر أبعد.
..

نجد أن ماركس لم يحرر نفسه كلياً من هيغل، رغم أنه انتقل إلى حقل آخر، الذي هو العلم، وبنى المادية التاريخية عليه.
(ألتوسير)