الخميس، 30 يونيو 2016

هيوم: في الميتافيزيقا والأخلاق؛ ترجمة محمد رونق.



دايفيد هيوم:  في الأنواع المختلفة للفلسفة. من كتاب "في الفهم البشري"

ترجمة محمد رونق

[يتطرق هيوم في هذا الفصل للحديث في الميتافيزيقا والأخلاق]

قمت بنقل هذا الفصل المنشور في مجلة "مدارات فلسفية" عام 2005.


هذا النص ترجمة للفصل الأول من كتاب الفيلسوف دايفيد هيوم (1711ـ 1776): بحث في الفهم البشري، وقد سبق للمجلة [مدارت فلسفية] (العدد 11) أن نشرت الفصل الثاني عشر منه تحت عنوان "في الفلسفة الأكاديمية والشكّية"، وستعمل على نشر باقي الفصول تباعاً.

ساهم في ترجمة هذا الكتاب الأساتذة محمد رونق والحسين سحبان وأحمد أمزيل ومحمد قنيني وعبدالله ورد وأحمد قابيل.

يمكن تناول الفلسفة الأخلاقية أو علم الطبيعة البشرية بطريقتين مختلفتين: وكل طريقة منهما لها جدارتها الخاصة. وقد تساهم في تسلية الإنسانية وتثقيفها وإصلاحِها. فإحداهما تعتبر الإنسان بالأساس كما لو كان مخلوقاً من أجل الفعل ومتأثراً في تقديراته بالذوق وبالمشاعر، ومهتماً بموضوعٍ ومستبعداً آخر، بحسب القيمة التي تبدو للموضوعات، وبحسب الوجه الذي تظهر به.

وبما أن الفضيلة هي أكثر الموضوعات اعتباراً في ما نقرّ، فإن الفلاسفة من هذا النوع يصوّرونها بأحبِّ الألوان، ويستعيرون رصيد الشعر والفصاحة، ويتناولون موضوعهم في يسرٍ ووضوح، وبأسلوبٍ أقدرَ على إغراء الخيال وإيقاظ العواطف. وهم ينتقون من الحياة الجارية أكثر الملاحظات والأمثلة إثارةً للانتباه، ويضعون الطباع المتعارضة في تباين متناسب ويوجهوننا في طرق الفضيلة بمنظورات المجد والسعادة، ويقودون خطانا في هذه الطرق بالتعاليم الأكثر رشداً، وبالنماذج الأكثر شهرةً، وهم يجعلوننا نشعر باختلاف الرذيلة عن الفضيلة، ويوقظون مشاعرنا وينظمونها. وهكذا، فهم يعتقدون أنهم قد حققوا غاية جهودهم كلّها تحقيقاً تاماً عندما يستطيعون أن يليّنوا قلوبَنا لمحبةِ الاستقامة والشرف الحقيقي.

أما النوع الثاني من الفلاسفة فإنهم ينظرون إلى الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً ويحاولون تشكيل عقلِه بدلاً من تحسين خُلُقِه، وينظرون إلى الطبيعة البشريّة كموضوعٍ للتأمل، يمتحنونها، ويتفحّصونها عن كثب ليكتشفوا المبادئَ التي تنظم فهمَنا. هم يوقظون مشاعرَنا ويجعلوننا نستحسن أو نستهجن موضوعاً خاصاً فعلاً كان أو سلوكاً، ويعتبرون أن ما يؤخذ على الآداب جميعِها أن الفلسفة بصرف النظر عن كلِّ جدال، لم تحدد بعد أساس الأخلاق والاستدلال والنقد. فهي لا تفتأ تتحدّث عن الحق والباطل، عن الرذيلة والفضيلة، عن الجمال والقبح، وهي عاجزةٌ عن تحديد منبع هذه التمييزات، ومع ذلك فحين يحاول الفلاسفة أن يتصدَّوْا لهذه المهمّة العسيرة، فلا صعوبة تثني عزمهم، إنهم ينتقلون من حالاتٍ جزئية إلى المبادئ العامة، ويستمرون في بحثهم بقصد الوصول إلى مبادئ أكثر تعميماً، ولا يهدأ لهم بال إلا عندما ينتهون إلى مبادئَ أصليةٍ توقف بالضرورة حب الاستطلاع البشري في كل علم. وبالرغم من أن تأملاتِهم تبدو لعموم قرّائهم مجردة بل غير معقولة، فإنهم يطمحون إلى الحصول على تأييد المثقفين والحكماء، ويعتقدون أنهم يجازون جزاءً كافياً عن كدِّ حياتهم كلِّها إذا استطاعوا أن يكشفوا عن بعض حقائقَ خفيةٍ يمكن أن تساهم في تثقيف ذريتهم.

ومن المؤكد أن عموم الناس سيفضّلون دوماً الفلسفة السهلة والواضحة على الفلسفة الدقيقة الغامضة، وأن أشخاصاً عديدين سيوصون بها ليس باعتبارها مستحَبّة فحسب، بل إيضاً باعتبارها أجدى من الأخرى، فهي تتغلغل في الحياة الجارية، وتكيّف القلب والعواطف بتعرّضها للمبادئ التي توجّه الناس، فهي تُصلِح سلوكهم، وتقودُهم أقرب ما يمكن إلى نموذج الكمال الذي تصفه. أما الفلسفة المجرّدة القائمة على اتجاه فكريٍّ لا يكون بوسعه التدخّل في الحياة العملية وفي الفعل، فإن من شأنها على العكس من ذلك، أن تختفي بمجرد ما يغادر الفيلسوف الظل إلى وضح النهار. كما أنه لن يكون في إمكان مبادئها أن تحتفظ في يسرٍ بتأثيرٍ على سلوكنا وأخلاقِنا. فمشاعرُنا القلبية، وفورانُ أهوائِنا، وحدّةُ انفعالاتِنا تبدّد كلَّ استنتاجاته وتحيل الفيلسوف المتعمّق إلى مجرّد رجلٍ من العوامّ.

ويجب أن نعترف كذلك بأن الفلسفة السهلة قد حظيت بأدومِ شهرةٍ بقدرما حظيت بأعدلِها، وبأن أهل البرهان المجرد قد تمتعوا فقط إلى الآن في ما يبدو بشهرةٍ آنيةٍ راجعةٍ إلى نزوة عصرهم الخاص أو إلى جهله، ولكنهم كانوا عاجزين عن ترسيخ هذه السمعة لدى خلَفٍ أكثر إنصافاً. ومن السهل أن يقع الفيلسوف المتعمّق في خطإٍ ما في استدلالاته الدقيقة، والخطأ يلد بالضرورة الملزِمة خطأً آخر إذا ما دُفِعَ بالخطإ إلى نتائجه ولم يصدَّه عن ذلك اشتمالُ نتيجةٍ ما على مظهرٍ غيرِ مألوف أو كونها متناقضة مع الرأي الشعبي.

 ولكن فيلسوفاً لا يهدف إلا إلى أن يقدم الشعورالمشترك للإنسانية تحت أضواءٍ أكثرَ جمالاً وأكثر جاذبيةً، لن يذهب إذا وقع في خطإٍ أبعد من ذلك، بل يجدد نداءه للفهم المشترك وإلى المشاعر الطبيعية للعقل، وبذلك يعود إلى الطريق السليم آمناً من الأوهام الخطيرة. فشهرة شيشرون ما تزال يانعةً إلى الآن، ولكن سمعة أرسطو تلاشت تماماً، ولابرويير قطع البحار وما يزال يحتفظ بصيته، ولكن مجد مالبرانش بقي محدوداً بحدود وطنه وعصره، وقد يُقرأُ أديسون في المستقبل باستمتاع، بينما يكون لوك قد طواه النسيان التام.

والفيلسوف الخالص لا يحظى في العادة من الناس إلا بقبول قليل، فهم يفترضون أنه لا يساهم بشيءٍ في تقدّم المجتمع أو في إقناعِه، وأنه يحيا معزولاً عن كل اتصالٍ بالناس، مغلّفاً نفسه بمبادئ ومفاهيمَ هي بدورها مستغلقة على أفهامهم.

 ومن ناحيةٍ أخرى، فالجهل الخالص أجدر بالاحتقار، وعندنا أنه ليس من علامةٍ أكثر تأكيداً على وجود عقل غفلٍ في عصرٍ وفي أمّةٍ تزدهر فيها العلوم، من أن يكون الإنسان محروماً حرماناً كلّياً من أيِّ نوعٍ من الذوق نحو هذه الاهتمامات النبيلة. والطبع الأكثر كمالاً يوجد ـ فيما نفترض ـ في وسط هذين الطرفين: فهو يحتفظ بموقفٍ متعادلٍ وبذوقٍ متناسبٍ إزاء الكتب والمجتمع والأعمال. هو يبقى في الحديث على هذا التمييز وهذه الرقة التي تتأتّى من الثقافة الأدبية، ويصون في الأعمال هذه الاستقامة وهذه الدقة اللتين تنتجان تلقائياً من فلسفةٍ ملائمة. ومن أجل تهذيب طبع بهذا الكمال ونشره بين الناس، لا شيء أجدى من تآليفَ ذاتِ أسلوبٍ سهلٍ وطريقةٍ يسيرة لا تبعدان كثيراً عن الحياة، ولا تتطلّب في فهمها تطبيقاتٍ عميقةً ولا غوصاً بعيداً، وتعيد الطالب إلى عالم الناس وقد امتلأ بالمشاعر النبيلة وبالتعاليم الحكيمة التي يمكن تطبيقها على جميع متطلبات الحياة البشريّة. وبفضل تآليفَ كهذه تصبح الفضيلةُ محبوبةً والعلمُ بهيجاً والصحبةُ مهذبةً والخلوةُ مستظرفة.

إن الإنسان كائنٌ عاقل، وباعتباره كذلك فإنه يتلقى قوته وغذاءه الخاص من العلم. ولكن حدود الفهم البشري من الضيق بحيث لا نستطيع أن نأمل في امتداد مكتسباته وأمنها إلا قليلاً من الرضا. والإنسان كائنٌ اجتماعي بقدر ما هو عاقل، ولكنه لا يستطيع أن يتمتّع دائماً بصحبةٍ بهيجة مستظرَفة، ولا أن يستبقي الطعم اللائق لمثل هذه الصحبة. والإنسان كائنٌ فاعل أيضاً، وهذا الاستعداد يخضعه بالضرورة للأعمال والانشغالات تماماً كما تفعل به غيرُها من مطالب الحياة الإنسانية، ولكن العقل يطالب ببعض الراحة ولا يستطيع باستمرار أن يدعم ميله إلى الفعل والانشغال، وعليه فقد اختارت الطبيعة في ما يبدو بالنسبة للحياة نوعاً من المزيج الوسط أكثر ملاءمةً للجنس البشري، وحذرت الناس سراً بألا يسمحوا لأي ميلٍ من ميولهم بأن يجذبهم بعيداً بحيث يجعلهم عاجزين عن أيّ انشغال أو عن أية تسلية أخرى. تقول الطبيعة: أطلق العنان لشغفك بالعلم، ولكن اعمل على أن يكون علمُك إنسانياً بحيث يستطيع أن يرتبط ارتباطاً مباشراً بالفعل وبالمجتمع، وسأوقع عقوباتٍ صارمةً عليهما بواسطة التأملية السوداوية التي أدخلاها وباللايقيين اللامتناهي الذي يدفعانك إلى الانغماس فيه وبالاستقبال الفاتر لمكتشفاتِك المزعومة عندما تذيعها بين الناس [؟ الترجمة هنا غير واضحة. من هما المقصودان بالكلام؟ ربما كان المقصود هو الشغف بالعلم بعيداً عن الاهتمام بالفعل وبالمجتمع.] كن فيلسوفاً، ولكن، ووسط فلسفتِك كلِّها، كن باستمرار إنساناً.

وإذا كان الناس ـ على العموم ـ يقنعون بتفضيل الفلسفة السهلة على الفلسفة المجرّدة المتعمّقة دون أن يلوموها أو يحتقروها، فقد يكون من اللائق أن ننقاد مع هذا الرأي العام فنوافق على أن في وسع كل واحد أن يرضى عن نفسه في انسجام مع أذواقه الخاصة ومشاعره الشخصية. ولكن بما أننا في أغلب الأحيان سنذهب أبعد إلى حد الرفض المطلق لكل تفكير متعمّق، وإلى الرفض لكل ما نسمّيه عادةً بالميتافيزيقا، فإن علينا أن نتجه الآن إلى فحص المرافعة الممكنة للدفاع عنها على نحوٍ معقول.

ـ ويمكن أن نبدأ بملاحظة ميزة مهمة تنتج عن الفلسفة الدقيقة والمجرّدة، وهي فائدتها للفلسفة السهلة والإنسانية، فبدون الفلسفة الأولى لا تستطيع الثانية أبداً أن تحقق درجةً كافية من الدقة في أحكامها وفي تعاليمها أو في استدلالاتها. فكل الأدب المرهف ليس سوى لوحاتٍ للحياة البشرية في مختلف مواقفها وأوضاعها. وهو يوحي لنا بمشاعر متباينة بالمدح أو الذم، بالإعجاب أو بالاستهزاء وفقاً لصفات الموضوع الذي يضعه أمامنا. وسيكون الفنان بالضرورة أهلاً للنجاح في هذا المشروع، إذا هو امتلك، بالإضافة إلى رهافة الذوق وسرعةِ الإدراك، معرفةً دقيقةً بالبناء الداخلي لعمليات الفهم، وبأساليب الأهواء، وبتنوّع المشاعر التي تميّز الرذيلة عن الفضيلة. ومهما بدا من صعوبةٍ بالغةٍ في هذا البحث، فإن هذا الاستقصاء الباطني يصبح  في حدودٍ ما ضرورياً لمن يريدون أن يصفوا المظاهر الصريحة والخارجية للحياة وصفاً ناجحاً. والتشريح يضع أمام أعيننا الأشياء البالغة القبح والأكثر إثارةً للنفور، ولكنه مفيد لرسام حتى وإن كان يرسم فينوس أو هيلين. فالرسام حين يستعمل أغنى ألوان فنّه كلّها، ويضفي على شخوصه جواً أكثر لطفاً وأكثر جاذبيةً، يجب أن يوجّه أيضاً انتباهه إلى البنية الداخلية للجسم البشري، وإلى أوضاع العضلات، وإلى تركيب العظام، وإلى شكل كل جزء أو عضوٍ ووظيفتهما. فالدقة في جميع الحالات مفيدة للجمال، وإحكام الاستدلال مفيد لرقة المشاعر، ومن العبث أن نمجّد أحدَهما بتبخيس الآخر.

وزياةً على ذلك، نستطيع أن نلاحظ في كل الفنون والحِرف، بل حتى في ما كان منها مرتبطاً ارتباطاً أوثق بالحياة أو بالفعل، أن روح الدقة بأية درجةٍ تمّت تدفعهم جميعاً أكثر فأكثر نحو كمالها، وتجعلهم أكثر نفعاً لمصالح المجتمع. وبالرغم من أن الفيلسوف يمكن أن يعيش بعيداً عن عالم الأعمال، فإن العبقرية الفلسفية، إذا هذبها بعناية أشخاصٌ كثيرون تنتشر بالضرورة وبالتدريج خلال المجتمع كلِّه، فتضفي على كل الفنون والمهن دقّة مشابهة. إن السياسي يغنم مزيداً من التبصّر، ومزيداً من الدقّة في توزيع السلطة وتوازنها، والقانوني كثيراً من المنهجية ومزيداً من المبادئ الدقيقة في استدلالاته، والقائد العسكري كثيراً من الصرامة في نظامه ومزيداً من الحذر في مخططاته ومناوراته. واستقرار الحكومات الحديثة ـ المتفوّق على استقرار حكومات الأقدمين ـ ودقة الفلسفة الحديثة تحسّنَا، ومن المحتمل أن يزدادا تحسّناً بسيرهما معاً في اتجاه التقدم.

وإذا لم نستطع أن نحصل من هذه الدراسات على مزايا أخرى غير إشباع استطلاع بريء، فلا ينبغي أن نستهين مع ذلك بهذه النتيجة، فهي توصلنا إلى تلك المسرّات القليلة المؤكّدة الهادئة المسموح بها للجنس البشري. فأعذب طرق الحياة وأكثرها وداعةً يمر من شوراع العلم والمعرفة. وكل من استطاع أن يزيل بعض الحواجز من هذه الطريق أو أن يفتح منظوراتٍ جديدةً وجب أن نحكم عليه باعتباره من المحسنين إلى البشرية. وبالرغم من أن هذه الأبحاث تبدو شاقةً ومتعبةً فهناك بعض العقول تماماً كبعض الأجسام نظراً لأنها وُهِبت صحةً قويّة وافرةً فهي تتطلب تمارين شاقة، تجني متعةً مما قد يبدو لعموم الناس شيئاً ساحقاً ومرهقاً. ومن المؤكد أن الظلام موجع للعقل مثلما هو مؤلم للعيون، ولكن أن تجلب النور من الظلام مهما كلّف ذلك من جهد، لا بد أن يكون بالضرورة عملاً في غاية الإمتاع والفرح.

ـ ولكن غموض الفلسفة البعيدة الغور لا يُعتَرض عليها بأنها شاقة ومرهقة فقط، بل أيضاً لأنها مصدرٌ حتمي للّايقين وللخطإ. وهذا في الحقيقة هو الاعتراض الأكثرُ إنصافاً والأكثرُ قابليةً للتصديق ضد جزءٍ مهم من الميتافيزيقا، أعني أنها ليست علماً بالمعنى الدقيق، ولكنها تنشأ من المجهودات العقيمة للكبرياء البشري الذي يريد ان يخترقَ موضوعاتٍ لا ينفذُ إليها الفهمُ إطلاقاً، أو [هي تنشأ] من خداع الخرافات الشعبية التي، وهي عاجزةٌ عن الدفاع عن نفسها جيّداً، تنشئ هذه الأدغال المستغلِقة لتغطي ضعفها وتحميه.

 فهؤلاء اللصوص المطرودون من الأراضي المكشوفة يهربون إلى الغاب ويتربصون للقيام بهجوم على الشوارع التي لا يحرسها العقل، ويغرقونها بالمخاوف الدينية وبالأحكام المبتسَرة. وأقوى المحاربين مهزوم إذا غادر مكان حراسته لحظةً واحدة. وكثيرٌ من الحراس يفتحون الأبواب للأعداء عن غباءٍ وجبن، ويستقبلونهم عن طواعيةٍ وخضوع كما لو كانوا سادتَهم الشرعيين.

ولكن هل هذا سببٌ كافٍ لكي يتخلّى الفلاسفة عن أبحاثهم، ويتركوا الخرافة تمتلك مواقعها الخلفية باستمرار؟

أليس من المناسب أن نخلص إلى النتيجة العكسية فندرك أن من الواجب شنّ الحرب على الأعداء في أكثر مخابئهم سرّية؟

 من الوهم أن ننتظر من الناس تحت الإخفاقات المتكررة أن يتخلَّوْا في النهاية عن علومٍ أثيريّة متهافتة كهذه، وأن يكتشفوا المجال الخاص للعقل البشري. والواقع أنه، بالإضافة إلى أن أشخاصاً كثيرين يجدون مصلحة حساسة جداً في أن يكرروا اعتباراتٍ كهذه. فضلاً عن هذا أقول إن اليأس الأعمى لا يمكن في الحقيقة أن يجد أبداً مكانه داخل العلوم. ذلك لأنه مهما كان من سوء حظ محاولاتنا الأولى فلا يزال هناك مجالٌ للأمل: فالمثابرة والحظ المواتي والفطنة المتنامية لدى الأجيال المتعاقبة تستطيع كلُّها أن توصلنا إلى اكتشافاتٍ كانت العصور السابقة تجهلها، وكل عقلٍ مغامر ينطلق باستمرار نحو قيمة صعبة المنال. والإخفاقات السابقة بدلاً من أن تحبطَه فإنها تحفّزه ما دام يعتقد أن مجد إتمام مغامرةٍ بالغة الصعوبة قد خصّ به وحدَه. والمنهج الوحيد لتخليص المعرفة من هذه المسائل الغامضة هو البحث الجاد في طبيعة الفهم البشري وأن نبيّن بواسطة تحليلٍ دقيقٍ لقواته وقدراته أنه غير مؤهلٍ بأي حالٍ لأن يخوض في مثل هذه المواضيع البعيدة والغامضة. ويجب أن نتحمّل هذه المشقّة من أجل أن نحيا في راحةٍ ما تبقى من الزمان كلِّه. وعلينا أن نولي الميتافيزيقا الحقّة كامل عنايتنا من أجل تقويض الميتافيزيقا الزائفة المغشوشة، فالبلادة التي تنتج عند البعض وقاية من هذه الفلسفة المضللة، تعوّض عند البعض الآخر بالاستطلاع واليأس الذي يسود في بعض الأحيان، قد يفسح المكان في ما بعد للتوقعات والآمال البالغة الحيوية. إن البرهان الصحيح الدقيق هو العلاج الوحيد الشامل الصالح لجميع الأشخاص ولجميع الأمزجة. وهو وحدَه القادر على تقويض الفلسفة الغامضة والرطانة الميتافيزيقية التي حين تختلط بالخرافة الشعبية تجعلها على نحوٍ ما منيعةً على محبي البرهان المتهاونين وتكسبها مظهر العلم والحكمة.

وبالإضافة إلى هذه الميزة، ميزة رفض أكثر أجزاء المعرفة بعداً عن الثقة وأكثرها سماجة بعد البحث المتأنّي، هناك مزايا إيجابية تنتج عن بحثٍ دقيقٍ في قوى الطبيعة البشريّة، وفي ملَكاتها. فمن الملاحظ أن عمليات الفكر مع أنها حاضرةٌ فينا حضوراً حميمياً تبدو مغلفة بالالتباس كلما أصبحت موضوعاً للتأمل، ولا تستطيع النظرة أن تكشف بسهولةٍ الخطوط والحدود التي تفصلها وتميّزها، فالموضوعات [أي عمليات الفكر] أشد تفككاً من أن تبقى زمناً طويلاً في نفس المظهر وفي نفس الوضع، فينبغي أن ندركَها في اللحظة نفسِها على نحوٍ نافذٍ وعميقٍ يصدر عن الطبيعة والذي يكتمل بفعل العادة والتأمل، وهكذا سيصبح من الأجزاء الهامّة في العلم أن نعرفَ العمليات المختلفة للفكر، وأن نفصل بعضها عن البعض الآخر، وأن نصنّفها تحت عناوينِها الخاصة، وأن نصحح كل هذه الفوضى الظاهرة التي تكتنف تلك العمليات عندما نجعل منها موضوعاتٍ للتأمل والبحث.

 إن مهمة التنظيم والتمييز هاته، والتي وإن كانت ليست لها أيةُ قيمةٍ حينما تنجز بالنسبة للأجسام الخارجية، موضوع حواسِّنا، فإنها، عندما تطبق على عمليات الفكر، تكتسب قيمةً تتناسبُ مع الصعوبةِ والجهد المبذول في إنجازها. وإذا لم نصل إلى أبعدَ من هذه الخريطة العقلية، ولم نتجاوز هذا التحديد للأجزاء والقدرات المتميزة للفكر، فإننا نكون على الأقل راضين ببلوغنا هذا المدى. وكلما بدا هذا العلم بديهياً (وهو ليس بديهياً بأي حال) كلما كان اولئك الذين يتطلعون إلى المعرفة والفلسفة، وهم جاهلون بهذا العلم، أجدر في رأينا بالاحتقار. ولا يمكن أن نستمر في اتهام هذا العلم بأنه وهميّ وغير يقيني، اللهم إلا إذا حافظنا على مذهبٍ للشك إلى الحدّ الذي ينسف تماماً كل تأملٍ بل كل عمل. فلا مجال للشك هنا، فالفكرُ قد وُهِبَ قوى وملَكاتٍ مختلفة، وهذه القوى متميّزة بعضُها عن بعض. وما هو متميّز في الواقع عند الإدراك المباشر، يستطيع التأمل أن يميّزه، وإذاً فالحقيقة والخطأ يوجدان معاً في جميع القضايا المتعلقة بهذا الموضوع، وخارج نطاق الفهم البشري لا توجد حقيقة أو خطأ. وهناك تمييزاتٌ عديدة بديهية من هذا القبيل كتلك الموجودة بين الإرادة والفهم أو بين الخيال والعواطف التي تقع تحت نفوذ إدراك كل مخلوقٍ بشريّ. وأكثر التمييزات دقةً وفلسفيةً ليست أقلَّ واقعيةً ويقينيّة حتى ولو كانت مستعصية على الفهم. وبعض أمثلة النجاح في هذه الأبحاث، وبوجهٍ خاص الأمثلة القريبة العهد، تستطيع أن تقدّم لنا فكرةً صحيحةً عن يقينية هذا النوع من العرفة وعن صلابته. فهل نقدر قيمة مجهود فيلسوفٍ لأنه يقدّم لنا النظام الحقيقي للكواكب ويضبط أوضاع هذه الأجرام البعيدة ونظامها، ونعمل في نفس الوقت على إهمال جهود أولئك الذين يرسمون بكثيرٍ من النجاح أجزاء العقل التي تحظى ببالغ اهتمامنا؟ (2)

ولكن ألا يمكن أن نأمل في أن تتمكن الفلسفة إذا نحن هذّبناها بعناية، أو إذا نالت من اهتمام الجمهور تشجيعاً وأن تمتدّ بأبحاثها أبعد وأن تكتشف بقدرٍ ما الدوافع الخفيّة والمبادئ المحرّكة لعمليات العقل البشري؟ لقد اكتفى علماء الفلك أمداً طويلاً باستنتاج الحركات الحقيقية للأجرام السماوية ونظامها وحجومها انطلاقاً من ظواهر، إلى أن ظهر أخيراً فيلسوفٌ، ويبدو أن ذلك تمّ باستدلالٍ موفَّق، زاد على ذلك بتحديد القوانين والقوى السائدة والموجّهة لحركات الكواكب. (3)

وقد تحققت إنجازاتٌ في أجزاءٍ أخرى من الطبيعة. وليس هنالك من سببٍ يدعو إلى اليأس عن إمكان تحقيق نجاحاتٍ مماثلة في أبحاثنا الخاصة بقوى العقل وبتدبيره إذا نحن واصلناها بنفس الكفاءة، وبنفس الحِرص، فمن المحتمل أن تتوقف عمليةٌ عقليةٌ أو مبدأٌ عقليّ على عمليةٍ أو مبدإٍ عقليٍّ آخر، وهذه بدورها قد تنتج من عمليّة أو مبدإ أعمّ وأشمل. أما إلى أيّ مدىً يمكن أن تصل هذه الأبحاث، فسيكون من الصعب علينا تحديدُه بدقّة سواءٌ قبل محاولة متقنة أو حتى بعدها. ومن المؤكد أن محاولات من هذا القبيل تتم كل يوم، ويقوم بها حتى أولئك الذين يتفلسفون بالطريقة المسرفة في التهاون، وليس هناك شيءٌ أكثر ضرورةً من الالتزام المصحوب بانتباه وعنايةٍ كاملين بهذا المشروع الذي إذا استقرّ في مجال الفهم البشري، أمكنه أن ينجَز على نحوٍ ملائم على أقل تقدير. وإلا أمكننا أن نتخلّى عنه بكلّ ثقةٍ وبكل اطمئنان. وهذه النتيجة الأخيرة غير مرغوب فيها بالتأكيد وليس من الملائم أن نتبناها بأسرعَ ما يكون. فإذا فعلنا فما أكثر ما ندني من جمال هذا النوع من الفلسفة ومن قيمته. وقد اعتاد الأخلاقيون إلى الآن، عندما يقدرون الاتساع الهائل والتنوّع الكبير في الأفعال التي تثير تأييدنا أو نفورنا، اعتادوا أن يبحثوا عن المبدإ المشترك الذي يمكن أن يقوم أساساً لهذا التنوّع في المشاعر، وعلى الرغم من أنهم يذهبون بعيداً في أبحاثهم تحت تأثير غرامِهم بالمبادئ العامة، فينبغي مع ذلك أن نعترف بأنهم معذورون حين يأملون في اكتشاف مبادئ عامة تضبط جميع الرذائل وجميع الفضائل على نحوٍ دقيق. وقد حاول النقّاد والمناطِقة بل حتى السياسيون مشروعاتٍ مماثلة، ولم تكن محولاتُهم تلك خاليةً من النجاح تماماً. ومع ذلك فربما مع مزيدٍ من الوقت ومزيدٍ من الدقّة ومع اجتهادٍ أكثر حماساً يمكن لهذه كلها أن تنحو بهذه العلوم نحواً أقربَ إلى كمالها، وأن نرفض دفعةً واحدةً كل مزاعمَ من هذا القبيل هو في تقديرنا سلوكٌ متسرّعٌ وأكثر نزقاً ودوغماطيقية من الثقة الزائدة والتأكيد المبالغ للفلسفات التي حاولت في ما مضى أن تفرض على البشريّة أوامرَها ومبادئها المبتسرة.

ولكن ماذا يهم لو أن هذه الاستدلالات عن الطبيعة البشرية كانت مجردة عسيرة الفهم؟

إن ذلك لا يقدم لنا أيّ افتراضٍ عن خطئها، بل على العكس من ذلك يبدو أن من المستحيل أن يكون ما غاب عن كثيرٍ من الفلاسفة الحكماء والمتعمّقين إلى الآن واضحاً وبالغ السهولة. ومهما كلفتنا هذه الأبحاث من عناءٍ فبوسعنا أن نعتقد بأننا سنجازى خيرَ الجزاء جزاء المتعة لا جزاء المنفعة، إذا استطعنا بهذه الوسيلة أن نساهم بأية إضافةٍ لمخزون المعرفة حول موضوعاتٍ تحظى بهذه الأهمّية التي يعجز عنها التعبير.

ولكن بعد كلّ شيء بما أن التجريد مضرٌّ بهذه الأبحاث فضلاً عن أنها لا تستلزمُه، ونظراً لأن هذه الصعوبة يمكن التغلّب عليها بالاهتمام والمهارة، وباستبعاد كل تفصيل لا ضرورةً له، فقد حاولنا في البحث اللاحق أن نلقي بعض الضوء على موضوعاتٍ انعدامُ اليقين صرف عنها الحكماء، والغموضُ صدّ الجهلاء وسنكون سعداءَ إذا استطعنا أن نوحِّد حدود مختلف أنواع الفلسفات بأن نضيف عمق البحث إلى الوضوح، والحقيقةَ إلى الجِدّة، وسنكون أكثر سعادةً إذا نحن، بالتفكير بهذه الطريقة السهلة استطعنا أن نقوّض دعائم فلسفة غامضة استخدمت إلى الآن في ما يبدو ملجأً للخرافة وغطاءً للامعقول وللضلال.

الهوامش:

1ـ ليس في نيّتنا مطلقاً أن ننال من أهمية لوك: فقد كان في الواقع فيلسوفاً عظيماً حقاً ومنطقياً منصفاً ومتواضعاً، وإيما نريد أن نبيّن فقط المصير المشترك لهذا النوع من الفلسفة المجرّدة. (إشارة وردت في الطبعتين الأوليين لسنتيّ 1748 و 1751).

2ـ الملَكة التي تمكننا من التمييز بين الحق والباطل، والملَكة التي تتيح لنا إدراكَ الرذيلة والفضيلة هاتان الملَكتان ظلّتا زمناً طويلاً ملتبستين إحداهما بالأخرى. وكان يفترض أن الأخلاق كلها تقوم على علاقات أبديّة ثابتة. وهي بالنسبة لكل عقلٍ ذكيّ لا تتبدّل مثل كل اقتراح يتعلّق بكيفها أو كمّها. ولكن أخيراً علمنا الفيلسوف هاتشيسون بأكثر البراهين إقناعاً أن الأخلاق لا علاقة لها بطبيعة الأشياء وأنها مرتبطة ارتباطاً كلياً بالمشاعر وبالذوق الفكري لكل كائنٍ خاص، تماماً كالتمييزات بين الحلو والمر، وبين المحرق والبارد، التي تنشأ من الشعور الخاص بكل حاسة أو عضو فمن المناسب إذاً أن نصنّف الإدراكات الأخلاقية لا مع العمليات المنطقية بل مع الأذواق أو المشاعر. وقد اعتاد الفلاسفة أن يقسموا العواطف إلى قسمين: العواطف الأنانية والعواطف الخيّرة، وافترضوا أنها في تناقضٍ دائم، ولم يتصوروا مطلقاً أن الثانية يمكن أن تحقق موضوعها الخاص ما لم يكن على حساب الأولى. فضمن العواطف الأنانية يدرجون البخل والطموح وروح الانتقام، ويدرجون ضمن العواطف الخيّرة الحب الطبيعي والصداقة والروح الجماعية.

ويستطيع الفلاسفة أن يرَوْا الآن (انظر مواعظ بتلر) خطأ هذا التقسيم فقد تم البرهان ودون أي جدل على أنه حتى العواطف المعتبرة على العموم عواطف أنانية تحمل الذهن بعيداً عن ذاته مباشرة إلى الموضوع، وإنه بالرغم من أن إشباع هذه العواطف يزوّدنا بمتعة، ومع ذلك فإن توقّع هذه المتعة ليس هو سبب العاطفة، بل على العكس من ذلك فالعاطفة تسبق المتعة، وبدون الأولى ما كان للثانية أبداً أن توجد. وكذلك الشأن في ما يتعلّق بالعواطف المسماة بالخيّرة. وعليه فإن الإنسان عندما يسعى لمجده الشخصي لا يحقق مصلحةً أكثر مما لو تكون سعادة صديقه هي موضوع رغباته، ولا يحقق مصلحةً يضحي بهنائه وراحته من أجل الصالح العام أقل مما يحقق عندما يعمل من أجل إرضاء طمعه أو طموحه. هنا إذاً ضبط في غاية الأهمّية للحدود بين العواطف التي كانت ملتبَسة بسبب الإهمال أو بسبب عدم دقة الفلاسفة السابقين. وهذان المثالان يمكن أن يفيدا في تبيان طبيعة هذا النوع من الفلسفة وأهمّيته. [إشارة وردت في الطبعتين الأوليين]

3ـ إشارةً إلى نيوتن (1641ـ 1727) في كتابه "الفلسفة الطبيعية والمبادئ الرياضية. (المترجِم).

الأربعاء، 29 يونيو 2016

دفاتر الماضي: جذورٌ في الهواء؛ محمد الحجيري.



الذكريات المتناثرة..

في الثالثة عشرة من عمره، كان شكله غريباً، ضئيل الحجم ضعيف البنية، يرتدي ثياباً مستعملة بما فيها السترة الصوفية ذات المربعات البيضاء والسوداء، باستثناء الملابس الداخلية التي كانت ترفاً لا تسمح به حال أهله المعدَمة في تلك البيئة الريفيّة النائية، كان حليق الرأس بشكل غريب..
لقد أرسله والدُه إلى أحد حلاقي القرية لقصّ شعره الكستنائي المنسدل، ولمّا لم تعجبه هيئتُه في المرآة عمد إلى شفرة الحلاقة والمشط للتخلّص من التدرّجات التي تركها الحلاق الذي لم يكن يُحسِن إلا طقطقة المقص بعد كل عملية قضم لخصلةٍ من الشعر، غير عابئٍ بتذمّر زبونه المغلوب على أمره.
لكن فعل الشفرة في رأس صاحبنا لم تكن بأفضلَ من فعل مقص الحلاّق.. فقد تركت أثرها على شكل خرائط متنافرة، فهي فعلت فعلها في أماكن فلم تترك من الشعر شيئاً حتى بانت فروة الرأس، بينما تركت خصلاتٍ أخرى على حالها الأولى..

هو الآن وحيدٌ في مدرسته الجديدة المجّانية الداخلية على مشارف العاصمة بيروت، والحصة الآن هي لمادّة الرياضيات.
يعرُض المدرّس المسألة الهندسية على اللوح ثم يترك المجال للتلامذة للتفكير في حلِّها..
وبعد بعض الوقت لم ترتفع إلا يدُ صاحبنا للإجابة.
هو يقف الآن وحيداً أمام اللوح بشكله الغريب تحت نظر زملائه الذين يرمقون شكله باستغراب بدءاً من قصّة شعره العجيبة إلى حذائه مروراً ببقّية ملابسه المستهلكة..
ولمّا كانت فرنسيته تشبه العربيّة، أو قل هي لا تشبه شيئاً إلا لهجته الضيعويّة المستغرَبة، لكنها في كل الأحوال تستطيع أن توصل فكرته في مادةٍ علمية كالرياضيات.
وبعد أن شرح حلّه المقترَح بشكل متسلسل، صمت المعلم قليلاً، ثم سأله قائلاً: "أنت من وين؟"
ردّ التلميذ قائلاً: "من بعلبيك".
وكان ذلك ادعاءً مدينياً، فهو في الحقيقة من قرية نائية في سفوح جبال لبنان الشرقية.. لكنه قلّما أحب الدخول في التفاصيل ولم يكن ذلك بنيّة الادعاء بالانتماء إلى المدينة.
لم يكد صاحبُنا ينطق بكلمته تلك حتى انفجر الطلاب الذين كانوا يشخصون بأبصارهم إليه بالضحك دفعةً واحدة..
منذ تلك الساعة اتخذ الأستاذ مكانه بالقرب من صاحبنا على طاولة واحدة كتقديرٍ له على تميّزه بمادة الرياضيات..
استمر صاحبنا في مدرسته تلك لسنواتٍ ثلاث أنهتها بداية الحرب الأهليّة في لبنان، ليبدأ بالبحث عن مسارٍ آخر، وعد صاحبنا بالحديث عن بعضها لتحريره من ثنايا الذاكرة المبعثرة


(م. ح)
14/11/2015

المانوية البابلية؛ سليم مطر



المانوية البابلية.. أساس التصوف العراقي.
 سليم مطر ـ جنيف
http://www.mesopot.com/old/adad9/9.htm

  لا يمكن وضع المانوية ضمن أديان العراق القديم ، بل هي ديانة نشأت في القرن الثالث الميلادي، اي في المرحلة الثانية من تاريخ العراق ، ونعني بها المرحلة الآرامية المسيحية . لكننا فضلنا الحديث عنها ضمن نفس الفصل ، لأنها ديانة عراقية أصيلة انبثقت من احظان المندائية العراقية ، وظلت نشطة حتى العصر الاسلامي ، حيث تركت آثارها الواض...حة في التصوف العراقي .
تعتبر(المانوية) واحدة من أبرز الأمثلة على التغريب والتشويه اللذين تمت بهما كتابة تاريخ المنطقة العربية , خصوصاً بالنسبة إلى الحقبة » الآرامية السريانية « التي وحدت ثقافياً ولغوياً العراق والشام (بلاد الهلال الخصيب) خلال الألف عام التي سبقت الفتح العربي الإسلامي . ومن المثير للعجب إتفاق جميع المؤرخين العرب والأجانب على اعتبار » المانوية « ديناً آرياً فارسياً , رغم جميع الشواهد التي تدحض تماماً مثل هذا الرأي , وتبين بصورة قاطعة أن هذا الدين عراقي الموطن , مؤسسه رجل بابلي , واللغة التي نطق وكتب بها هي السريانية , لغة أهل العراق والشام خلال عدة قرون قبل الفتح العربي , والتراث الديني الذي نهل منه هو التراث السامي : البابلي العرفاني المسيحي .
يبدو أن السبب الأول لهذا التشويه التاريخي مرتبط بالفكرة الخاطئة التي تعتبر أجنبياً , كل تراث الحقبة التي سبقت الفتح العربي الإسلامي . فهو تراث فارسي فيما يخص العراق , وإغريقي روماني فيما يخص الشام ومصر وشمال أفريقيا. لأنه خلال هذه الحقبة كانت المنطقة خاضعة للسيطرة الفارسية بالنسبة إلى العراق , والإغريقية الرومانية بالنسبة إلى باقي المنطقة . إن التشويه الذي تعرض له تاريخ (المانوية) مثال ساطع على التجاهل والتشويه الشاملين اللذين تعرضت لهما جميع تفاصيل التراث السابق للفتح العربي : التراث العرفاني (الغنوصي) واليهودي والمسيحي والصابئي والمانوي والهرمزي , كذلك جميع الابداعات الثقافية واللغوية والحضارية في مجالات الفنون والعلوم والفلسفة واللغات والآداب السريانية والقبطية. إذ تم احتساب تراث هذه الحقبة على تراث الدول التي كانت مسيطرة على المنطقة .
بعد سقوط بابل في (539) قبل الميلاد على يد الفرس الأخمينيين بسط الإيرانيون نفوذهم على بلاد الرافدين حتى القرن السابع , أي ما يقرب من 11 قرناً . تخلل هذه الحقبة ثورات وتمردات فاشلة قام بها العراقيون , بالإضافة إلى حروب طاحنة بين الإيرانيين من جهة والاغريق والرومان من جهة ثانية للسيطرة على العراق . وقد تمكن الاغريق والرومان من انتزاع العراق من الفرس عدة مرات وفرض سيطرتهم عليه مدة عقود وقرون متقطعة , لينتزعه الفرس منهم من جديد . وهذه الحقبة تشبه إلى حد بعيد الحقبة التي أعقبت سقوط الدولة العباسية ونشوب الصراع بين الأتراك والفرس للسيطرة على العراق .
ظروف نشوء المانوية
خلال هذه القرون الطويلة تمكن أهل الرافدين من الحفاظ على هويتهم السكانية والثقافية والدينية المتميزة عن إيران . وظل الانتماء السامي هو السائد وظلت اللغة الآرامية أولاً ثم فرعها السرياني منتشرين بين العراقيين , بل ان العراقيين فرضوا لغتهم السريانية لتكون لغة الثقافة الأولى في الامبراطورية الإيرانية نفسها بحيث فضلت اللغة الفارسية (البهلوية) استعمال الأبجدية السريانية , والتخلي عن نظام الكتابة المسمارية الذي سبق ان اقتبسوه أيضاً من أهل الرافدين . ثم إن العراقيين ظلوا بعيدين عن الإيمان بالدين الزرادشتي الذي كان الدين القومي والرسمي للايرانيين . حافظ العراقيون على ديانتهم السامية - البابلية الموروثة والقائمة على عبادة الآلهة الممثلة للكواكب وقوى الطبيعة والمنقسمة عموماً إلى ثنائية قوى الخير والنور وقوى الشر والظلام . علماً أن هذه الثنائية البابلية هي التي اثرت في الإيرانيين وديانتهم الزرادشتية , وليس العكس كما توهم عادة المؤرخون . كان هناك ايضاً تواجد مهم لطوائف يهودية نشطة في انحاء الرافدين , منذ جلبهم من فلسطين على يد الكلدانيين . ومع انبثاق المسيحية في بلاد الشام في القرن الأول الميلادي , بدأ بالتدريج تتسرب الى العراق من القسم الشمالي (الرها ونصيبين) ثم نينوى وكرخاسلوخ (الاسم السرياني لكركوك الحالية) حتى ولاية بابل ومنها الى ولاية ميسان في الجنوب (وكانت تشمل كذلك البصرة والأهواز) . وكانت هذه المسيحية مصحوبة بتيارات عرفانية غنوصية وهرمزية صوفية , قادمة من الشام ومصر, مع بعض التأثيرات الإغريقية. وبدأت تتشكل طوائف مسيحية عدة في شمال ووسط بلاد الرافدين , بالإضافة الى الصابئة في الجنوب الذين مزجوا المسيحية بالعرفانية مع أصول الدين البابلي .

ديانة عراقية
في مثل تلك الظروف السائدة في العراق في القرن الثالث الميلادي نشأ الدين المانوي, حيث اشتق من اسم رجل بابلي أعلن النبوة يدعى (ماني) . جميع المصادر التاريخية فارسية وعربية وغربية تتفق على القصة التالية لسيرة هذا النبي : » ولد ماني عام 216 ميلادي في احدى قرى ولاية بابل وكان دينه بابلي (وثني) , وفي سن الرابعة رحل أبوه إلى احدى قرى ولاية ميسان في جنوب العراق . هناك نشأ (ماني) على الدين الصابئي . وفي سن الشباب أخذ (ماني) يتنقل في أنحاء الرافدين واستقر في بابل . أعلن (ماني) نبوته وتكوينه للدين (المانوي) الذي انتشر خلال أقل من قرن من الصين حتى أسبانيا وبلاد الغال ... « ( لمزيد من التفاصيل راجع الموسوعة الكونية الفرنسية - جزء 11- ص646) .
لكن مشكلة تحديد هوية هذا الدين وصانعه (ماني) , تبدأ عند الحديث عن الشعب والحضارة اللذين ينتمي إليهما. بكل بساطة تم اعتباره إيرانياً فارسياً لأنه ظهر في بلاد الرافدين بينما كانت تابعة للأمبراطورية الايرانية . مثلما تم اعتبار المسيح وتراث المسيحية جزءاً من تاريخ روما , لأن المسيحية نشأت في الشام في ظل السيطرة الرومانية !
جميع تفاصيل تاريخ المانوية تثبت بلا جدال عراقية هذا الدين وعلاقته المباشرة بما سبق وبما لحق من تاريخ العراق الفكري والديني حتى نهاية العصر العباسي . ويمكن تقديم المبررات التالية للبرهان على هذه الحقيقة :
1- ثمة تبرير عرقي فارسي طالما تمسك به المؤرخون الإيرانيون والعرب والأجانب قائم على الشك بأن النبي (ماني) ربما يعود بأصوله من ناحية أمه أو أبيه الى الفرس وبالذات إلى العائلة الملكية الأخمينية . لكن جميع الشواهد التاريخية تثبت أن هذا النبي ينتمي عرقياً بصورة أكيدة الى سكان العراق . قد يمكن الافتراض أن أمه فارسية , لكن بعض المصادر تذكر ان اسمها » مريم « . أما أبوه فلا يمكن أن يكون فارسياً , وذلك لعدة أسباب : أن اسمه (فاتك) , وهذا الاسم لا يمكن أن يكون فارسياً لأنه اسم سامي عراقي , (من فعل فَتَكَ) ومستخدم حتى الآن في العراق . ثم إن اسم (ماني) هو ايضاً ليس اسماً فارسياً , إنما هو اسم سامي كذلك , لفظه العربي (أماني) وهو من (التمني) واللقب الذي كان يُعرف به هو (ماني حيا) أي (ماني الحي) , ومنه أتى المصطلح اللاتيني لهذا الدين (Manicheisme) أي (ماني - حيا-سيم) .
2- إن الزرادشتية كانت الدين القومي لجميع الايرانيين, بينما عائلة (ماني) مثل باقي العراقيين كانت على الديانة البابلية أولاً عندما كانت تقطن بابل , ثم بعد الاستقرار في ميسان اعتنقت هذه العائلة الديانة الصابئية , وهي طائفة منتشرة حتى الآن في جنوب العراق - بما فيه الأهواز- , ثم إن جميع الباحثين يعترفون بأن علاقة المانوية بالزرادشتية ضئيلة جداً , ولم تدخل بعض التسميات الإيرانية إلى المانوية إلا بعد انتشارها في إيران وترجمة كتب (ماني) السريانية الى اللغة البهلوية. علماً أن المانوية قد اقتبست الكثير من المسميات من جميع الشعوب التي وصلتها , فمثلاً في آسيا والصين أطلق (ماني) على نفسه لقب (بوذا الحي) . وغدا واضحاً أن المانوية كانت متأثرة أساساً بالدين المسيحي , وبالذات بالأفكار الثنوية للقديس السرياني (بن ديصان) الذي دعا إلى نوع من المسيحية الثنوية , بالاضافة الى المعتقدات البابلية والسامية السائدة . لقد استخدم (ماني) أساساً اسماء ملائكة اقتبسها من البيئة السريانية , مثل جبرائيل ورفائيل وميخائيل وإسرائيل , بالاضافة إلى يعقوب نبي العهد القديم . واعتبر (ماني) نفسه خاتم الانبياء والروح القدس التي تحدث عنها المسيح .
إن (الثنوية) التي اعتقدت بها المانوية لم تكن ايرانية , كما تصور خطأ الكثيرين من المؤرخين , بل هي أساس المعتقدات البابلية والسامية . يكفي معاينة أديان السومريين والساميين لإدراك أن هناك دائماً آلهة للخير والنور بأسماء متنوعة مثل (تموز وبعل وشمش وإيل ومردوخ وآشور) تقابل آلهة الشر مثل (نرجال وأريشكيجال وايراومروت) . وثنائية الخير والشر هذه وجدت تعبيرها في الأديان السامية السماوية من خلال مفهوم الله رمز الخلق والخير والنور, والشيطان رمز الشر والخطيئة والظلام . (راجع السواح - مغامرة العقل - ص197) .
3- المؤرخون قاطبة يتفقون على أن (ماني) ولد وعاش في بابل وميسان , وكانت لغته الأم ولغة كتبه وإنجيله المعروف هي اللغة السريانية , وقد ترجمت جميع كتبه فيما بعد باللغات الفارسية والتركية (الايغورية) واليونانية واللاتينية والقبطية. وبدأ بنشر دينه أساساً بين سكان الرافدين . يمكن الاستشهاد بماني نفسه وهو يحدد بدقة وبعبارة صريحة غير قابلة لسوء الفهم , إنتماءه إلى أرض بابل وتمايز دينه عن باقي الأديان : » إن الحكمة والمناقب لم يزل يأتي بها رسل الله بين زمن وآخر, فكان مجيئها في زمن على يد الرسول (بوذا) إلى بلاد الهند , وفي زمن على يد (زرادشت) الى أرض فارس , وفي زمن على يد (عيسى) إلى أرض المغرب (الشام) . ثم نزل هذا الوحي وجاءت النبوة في هذا الزمن الأخير على يديّ أنا (ماني) رسول إله الحق الى أرض بابل ... « (راجع - إيران في عهد الساسانيين - ص 172) . ثم إن الأكثر من كل هذا , إصرار (ماني) على جعل بابل مقر الكنيسة الأم ومركز المرجعية الدينية والحوزة العلمية لجميع الطوائف المانوية في العالم , وبقي هذا التقديس الخاص لبابل لدى المانويين حتى نهايتهم بعد ألف عام .



احتقار الحياة
يمكن اعتبار المانوية أساس التصوف , فهي دين (غنوصي - عرفاني) متطرف في الزهد والتنسك وتقديس الموت واحتقار ماديات الحياة . قد تكون المانوية التي نشأت في العراق تعبيراً عن ردة فعل سلبية ومتشائمة إزاء الظروف القاسية التي عاشها العراقيون بسبب السيطرة الفارسية وفشل ثوراتهم ودمار الرافدين بعد تحول البلد الى ساحة للحروب الدائمة بين الامبراطوريتين الفارسية والرومانية . ثم الشعور بالخيبة والحسرة على ضياع أمجاد بابل القديمة وفقدان الامل بأية قدرة على الخلاص إلا بالزهد وتجنب ملذات الحياة .
الفكرة الاساسية للمانوية يمكن ايرادها باختصار كالتالي : إن الله هو الخير والنور, والشيطان هوالخطيئة والظلام . جميع الأشياء المادية من أرض ونبات وحيوان وأجساد هي جزء من قوى الخطيئة والظلام , وجميع الأشياء الروحية من حلم وعقل وخيال هي جزء من قوى الخير والنور . إذن على الإنسان التواق إلى الخير والخلود في حدائق النور (الجنة) أن يحتقر الجسد وجميع ماديات الوجود , بالامتناع عن : الجنس والخمر واللحم , وتجنب جميع الخطايا . وقد يصل الأمر إلى حد احتقار الحياة ونبذ الجسد وتفضيل الموت , من أجل تخليص الروح والنور من سجن الجسد والظلام . واعتبر (ماني) أن روح الانسان المنيرة تتعذب على الجسد , صليب الظلام , مثلما تعذب (عيشو زاهي) (عيسى الزاهي) على صليبه .
إن الخطيئة ترتكب بثلاث وسائل : القلب (النية) والفم (الكلمة) واليد (الفعل) . لهذا فإن وصايا (ماني) كانت : » لا ترتكب الخطيئة , لا تنجب , لا تملك , لا تزرع ولا تحصد , لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً « . طبعاً مثل هذه الوصايا لا يستوجب تطبيقها من قبل جميع أتباع المانوية , إنما فقط من قبل النخبة الدينية المنقسمة إلى أربع مراتب : 12 حواريون , و72 شماسون , 360 عقلاء , ثم الصديقون غير محدودي العدد . أما باقي المجتمع فيطلق عليهم (السماعون) الذين يلتزمون فقط بالصلاة أربع مرات يومياً , والسجود 12 مرة كل صلاة , والصوم شهر كامل كل عام في نيسان , ودفع العشر والزكاة وتقديم الغذاء للصديقين .
تعتمد المانوية على كتب (ماني) المليئة بالشروحات والحكايات والأساطير المعقدة والمفصلة جداً . الأسطورة المانوية عن تكوين الخليقة تشبه إلى حد بعيد الأسطورة السومرية - البابلية المعروفة » حينوما عاليش « (حينما عالياً , أو حينما في الأعالي) , لكن أسماء الآلهة السامية القديمة تستبدل بها أسماء سريانية ومسيحية محدثة . مذهب التثليث في المسيحية (الأب والأبن والروح القدس) يستبدل (ماني) به » العظيم الأول « و » أم الحياة « , علماً أن هذا التثليث موجود في جميع الأديان البابلية والسامية , ولكن بأسماء مختلفة (مثلاً في قصة الخليقة البابلية هناك أبسو- الأب , وممو – الأبن , وتعامة - الأم) (راجع السواح - مغامرة العقل) . والطريف أن فكرة (تناسخ الأرواح) التي اقتبسها (ماني) من البوذية , حورها تماماً بما يتلاءم مع عقيدته الخاصة . ليس أي انسان يموت تنتقل روحه تلقائياً إلى إنسان آخر, إنما يعتمد ذلك على كونه خاطئاً أم لا . لأن تكرار الحياة يعتبر نوعاً من العقاب . فالإنسان النقي المؤمن تذهب روحه مباشرة إلى حدائق النور جنان الله , أما الإنسان الخاطيء فيعاقبه الله بإنتقال روحه إلى إنسان آخر ليعيش حياة أخرى وأخرى حتى يصبح نقياً ومؤمناً , فيتوقف التناسخ وتذهب روحه إلى جنة الخلود .
تاريخ ماني والمانوية
ولد (ماني) في 14 نيسان (أبريل) عام 216 ميلادية , قرب (المدائن) التي كانت مركز ولاية بابل والعاصمة الثانية للأمبراطورية الإيرانية . ولهذا يطلق على هذا النبي لقب (ماني البابلي) , ويقول عنه المؤرخون العرب والمسلمون : » نبي الله الذي أتى من بابل « (راجع فهرست ابن النديم) .
عندما كان (ماني) في سن الرابعة , رحل به والده (فاتك) إلى قرية في ولاية ميسان جنوب العراق . ويبدو أن قرار الرحيل قد اتخذه الأب بعد أن تلقى ثلاث مرات نداءات إلهية بينما كان يتعبد في إحدى المعابد البابلية , تدعوه الى الرحيل إلى ميسان وكذلك تجنب الخمرة واللحم والجنس . في ميسان اعتنق ( فاتك ) دين الصابئة الذين يتكلمون لهجة آرامية قريبة إلى السريانية . وكان هذا الدين سائداً في جنوب العراق قبل هيمنة المسيحية , ويسميه العرب كذلك (دين المغتسلة) بسبب تقديسهم لعملية التطهر بالماء . وهو دين مزج بين روحانيات العرفانية والمسيحية (الشامية) مع رموز عبادة الكواكب البابلية , ويرتبط باسم النبي يحيى أو (يوحنا المعمدان) (لمزيد من المعلومات راجع الثقافة الجديدة- 248- ص25) .
بقي (ماني) صابئياً حتى سن الواحدة والعشرين , بعدها بدأ تأثره مباشرة بالمسيحية وخصوصاً بالتجربة الحياتية للسيد المسيح وعذابات صلبه . وتذكر التقاليد المانوية أنه في سن الرابعة والعشرين , في 23 نيسان 240م . تلقى (ماني) رسالة النبوة من الله بواسطة الملاك (توأم - توما) , على أنه هو (الروح القدس) الذي بشر به النبي عيسى . حينها بدأ (ماني) يعلن أنه (نبي النور) و (المنير العظيم المبعوث من الله) , نتيجة هذا تم طرده من الطائفة الصابئية .
رحل (ماني) مع أبيه وإثنين من أصحابه إلى بابل , منها قام بأول رحلة عبر بلاد فارس ثم الى الهند وبعدها إلى بالوشستان , حيث عاين ودرس الأديان السائدة من زرادشتية وبوذية وهندوسية . بعد عامين (242م) عاد (ماني) إلى ميسان بحرا عبر الخليج . وتذكر المصادر التاريخية أن ثمة قبائل عربية قادمة من عمان كانت متنفذة حينذاك في ميسان تحت سيطرة الحكم الفارسي (راجع ايران في عهد الساسانيين - ص75) . هناك شاءت الظروف , أن يخوض (ماني) تجربة مشهودة مكنته من فرض تأثيره على حاكم ولاية ميسان الفارسي (مهرشام) وكسبه الى جانب المانوية . وكان (مهر شام) هذا ايضاً شقيقاً للأمبراطور الأيراني (شاهبور) , حيث توسط لدى أخيه ليسمح لـ (ماني) بنشر دينه دون مضايقة . ومن المعروف عن (ماني) أنه بالاضافة الى شخصيته النبوية , فإنه كان طبيباً ونقاشاً ورساماً وكاتباً ومترجماً . وهو النبي الوحيد الذي قام بنفسه بكتابة إنجيليه وباقي كتبه المعروفة التي تزيد على سبعة , بينها كتاب مزين برسوم توضيحية ملونة , يعتقد أنها شكلت الأساس الأول لانبثاق فن النمنمة العراقي العربي ثم الفارسي والتركستاني (راجع الموسوعة الكونية - المصدر نفسه) .
بدأ (ماني) بتكوين كنيسته في بابل وأطلق عليها (كنيسة النور) , وانتشرت الكنائس أولاً في بلاد الرافدين : ميسان والأهواز وبابل ونينوى وكركوك . لكن (ماني) لم يكتف بحدود الرافدين بل اعتبر نفسه (عيسى المخلص للانسانية جمعاء) , وأنه (خاتم الأنبياء) , ويقول في هذا الخصوص : » ندائي يتجه نحو الغرب وكذلك نحو الشرق , وهو يسمع بجميع اللغات وفي جميع المدن . كنيستي تفوق الكنائس السابقة , لأن تلك الكنائس قد اختيرت لبلدان ومدن محددة , بينما كنيستي أتت لجميع البلدان , وإنجيلي يبتغي جميع الأوطان .. « (الموسوعة - المصدر نفسه) . لهذا بدأ (ماني) يبعث تلامذته (الحواريين) الاثني عشر إلى جميع بقاع الأمبراطوريتين الفارسية والرومانية لنشر الدعوة الجديدة . فبعث أولاً الى الشام ومصر, ثلاثة من حوارييه , توما وهرمس وعدي . وخلال أقل من قرن انتشرت المانوية في مختلف بقاع الأرض , من شواطىء المحيط الهادي والهند والصين والتبت وسيبريا وتركستان وإيران ثم جميع الضفاف الشرقية للمتوسط حتى إيبريا وإيطاليا وبلاد الغال . لقد وجدت آثار معابد وكتابات ورسوم هذا الدين في جميع هذه البقاع, وأهم الوثائق وجدت في جنوب مصر (الفيوم) مكتوبة باللغة القبطية . يبدو أن المانوية كانت لها الانتشار خصوصاً بين الطوائف المسيحية بسبب علاقتها المباشرة معها . ومن أهم الذين تحدثوا عنها هو القديس (أوغسطين القرطاجي) الذي اعتنقها لعدة سنوات قبل أن يصبح فيلسوف المسيحية الأول .



في تاريخ غير محدود بصورة تامة , بين (274-277) ميلادية , تم صلب (ماني) على أحد أبواب مدينة بيت العابات (جندشابور) في الأهواز , تم ذلك بقرار من الامبراطور الفارسي (برهام الأول) لأسباب سياسية طبعاً وبعد تحول (بابل) إلى مركز لدين عالمي واحتمال استعادتها من جديد لأمجادها السابقة , وما يشكله هذا من خطر على النفوذ الايراني . كذلك خوف رجال الدين الزرادشتيين الذين نقموا على (ماني) بسبب تأثيره المتزايد . لقد عذب (ماني) وصلب وقطعت أطرافه ثم احرقت جثته ونثر رماده . لكن المانويين ظلوا يعتقدون بصعوده إلى السماء مثل السيد المسيح , ويعتبرون هذا اليوم مقدساً يصومون خلاله ثلاثين يوماً في شهر نيسان .
الضربات التالية تلقتها المانوية على يد الرومان . في عام 445م أعلن البابا (ليون العظيم) قراره بتحريم نشاط المانوية . وفي عام 527م قرر الامبراطور (جوستان) الحكم بالاعدام على جميع أتباع المانوية . لكن الكثير من المؤرخين الأوروبيين يعتقدون أن المانوية ظلت حية في أوروبا بأشكال خفية متعددة , خصوصاً بين الطوائف المسيحية السرية المؤمنة بالتصوف والروحانيات والطقوس السحرية والتي تعتمد في إيمانها على الأفكار الثنوية (Ledualisme) .
في القرن الخامس حدث أول انشقاق في الكنيسة المانوية , حيث تم انفصال الطوائف المانوية في اسيا الوسطى (تركستان ومنغوليا) , ورفضوا تبعيتهم لكنيسة (بابل) وكونوا كنيستهم القومية . ثم اعقب ذلك انشقاق الكنيسة المانوية في بلاد فارس , وذلك بتكوين فرع قومي مستقل عن بابل , حمل اسم (المزدكية), نسبة الى مؤسسها (مزدك) الفارسي . يبدو أن هذه الطائفة ابتعدت عن المانوية بالاقتراب أكثر ناحية (الزرادشتية) , مع ميول » ثورية واشتراكية « . ربما لهذا السبب خلط معظم المؤرخين المسلمين والعرب بين المانوية (العراقية) والمزدكية (الايرانية) , علماً أن طائفة (المزدكية) , أثناء نفوذها في الدولة الايرانية , قامت باضطهادات ومذابح معروفة ضد المسيحية والمانوية في بلاد الرافدين , مما أدى إلى هجرة الكثير من المسيحيين والمانويين العراقيين إلى بلاد تركستان (الصغد) وتكوين جاليات مانوية مسيحية نسطورية نشطت بنشر الثقافة السريانية البابلية .
إن الهروب المستمر للمانوية من العراق والمشرق , وخصوصاً أثناء اضطهادات الفترة العباسية أدى إلى تزايدهم في أواسط اسيا التركية المنغولية . في عام 745 كون الأتراك دولتهم (الأوغرية) على حدود الصين في منغوليا الشمالية. كان أحد ملوكهم يسمى (بوقي خان ) اعتنق المانوية وجعلها الدين الرسمي للدولة. من خلالها وصلت المانوية إلى الصين فشيدت المعابد المانوية إلى جانب المعابد البوذية , حتى وصلت إلى روسيا وسيبريا . لكن نهاية الدولة التركية الأوغرية عام 817 على يد القرغيز أدى الى نهاية المانوية في آسيا. ويُعتقد أنها استمرت في تركستان الصينية حتى القرن الثالث عشر, ومع اجتياح المغول بقيادة جنكيز خان تم القضاء التام على المانوية . لكن الأثر الكبير الذي تركه هذا الدين في شعوب آسيا يتمثل في تبنيهم للأبجدية المانوية (السريانية) في كتاباتهم الأوغرية التركية , بالإضافة إلى تأثيرات ثقافية ودينية لا تحصى .

الاسلام والمانوية
كانت القبائل السامية (العربية) النازحة قبل الاسلام , تندمج طبيعياً مع أهل الرافدين وتتبنى الأديان السائدة, مثل اليهودية والصابئية والمسيحية والمانوية. يذكر أن عمر بن عدي ملك الحيرة العربي كان من أنصار المانوية وحماتها المعروفين. يتحدث المؤرخ الإسلامي (ابن قتيبة) عن وجود المانوية في مكة قبل الاسلام : » وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة « . علماً أن تسمية (زنديق) قد شاعت في الفترة الإسلامية بمعنى (المانوي) . لقد اقتبس العرب هذه التسمية من الفرس , الذين كانوا منذ قرون يطلقونها على المانوية بمعنى (المنحرفين عن الدين) , وهناك من يعتقد أنها ربما كانت مشتقة من (صديق) السريانية وتعني رجل الدين المانوي (للمزيد من التفاصيل عن المانوية والإسلام , راجع - التاريخ الاسلامي - فاروق عمر- ص193,213 ) .
يبدو أن الفتح العربي لم يضعف المانوية , بل على العكس منحها بعض الزخم , بسبب كثرة اتباع المانوية في العراق بعد هجرة الأعداد الكبيرة منهم من الشاميين والمصريين إلى العراق بعد حكم الاعدام الذي كان قد أصدره الرومان بحقهم . ثم إن الإسلام في أول الأمر لم يكن موقفه واضحاً من المانوية , وقد اعتبرها في البدء من أديان أهل الكتاب . في العصر الأموي تمتع أتباع المانوية ببعض الحرية , خصوصاً في زمن الخليفة (الوليد الثاني -743-744) . وتذكر المصادر العربية أنه بين 754-775م كان (إمام الكنيسة المانوية) في أفريقيا هو أبا هلال الديهوري . ومما ساعد على نشاط المانوية في العصر الأموي استخدام الكثير من اتباعها كتّاباً في الدواوين في العراق بدل المجوس الفرس , وذلك بعد قرار تعريب الدواوين في ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي , بعد أن كانت باللغة الفارسية . ويبدو أن الاستعانة بأتباع المانوية في الدواوين وسع المجال أمامهم وركز أهميتهم . (نموذج ساطع لسوء فهم المؤرخين العرب , عندما يستغرب مؤرخ » قومي ! « مثل عبد العزيز الدوري هذا التحول نحو المانوية في الدواوين الأموية , لأنه لا يدرك أن الزرادشتيين فرس ولا يتقنون غير الفارسية , أما اتباع المانوية فأنهم عراقيون فكانوا يتقنون العربية القريبة من السريانية , لغتهم الأصلية . ولهذا تم استخدامهم في عملية تعريب الدواوين) (راجع – الدوري - الجذور التاريخية للشعوبية - ص22) .
رغم تزايد الاضطهاد ضد المانوية في الفترة العباسية بإسم مكافحة الزندقة والمثنوية والإلحاد والدهرية والمجون , إلا أن أتباعها كانوا نشيطين خصوصاً في المجال الفكري , وشكلوا الحلقات الثقافية التي يطلق عليها » إخوان الصدق « ( لاحظ التشابه مع » اخوان الصفا « ) . ويصف الجاحظ نوعية كتبهم بأنها : » أجود ما تكون ورقاً يكتب عليه بالحبر الأسود البراق ويستجاد له الخط « . ويذكر المؤرخون المسلمون أسماء لا تحصى من المثقفين الذين اتهموا بالزندقة (المانوية) في هذه الفترة . (قد يمكن تشبيه تهمة المانوية والزندقة بتهمة الشيوعية والماركسية التي سادت العصر الحديث) . وقد شملت هذه التهمة كتاباً وشعراء مثل : صالح ابن عبد القدوس , بشار بن برد , أبو النواس , أبو العتاهية , حماد الرواية , عبد الله بن المقفع .. وغيرهم . وقد حكم بالموت على الكثير من هؤلاء المثقفين بسبب هذه التهمة . وهذا النشاط المانوي دفع الكثير من المثقفين المسلمين إلى تأليف الكتب للرد عليها وتفنيدها , مثل : واصل بن عطاء , الجاحظ , أبو محمد بن الحكم , الجبائي , النوبختي , المسعودي , الرازي , الرقي ... وغيرهم (راجع فاروق عمر - المصدر نفسه) .
يعتبر الخليفة العباسي (المهدي) (775-785) , أول من أعلن الحرب ضد المانوية وجميع التيارات الفكرية المعارضة باسم مكافحة الزندقة , حتى سمي (قصاب الزنادقة) . وقد أنشأ من أجل ذلك (ديوان الزنادقة) بقيادة (عريف الزنادقة) . وكان اتباع المانوية يجبرون على المثول أمام القاضي , ثم يبصق المتهم على صورة (ماني) ويذبح طائراً , ذلك لأن المانوية تحرم ذبح الحيوان . وفي حالة رفضه التوبة فإنه يحكم بالموت . وقد اوصى المهدي ولده الهادي طالباً منه الاستمرار في محاربة المانوية , قائلاً : » إني رأيت جدك العباس في المنام قلدني سيفين وأمرني بقتل أصحاب الاثنين « . وفي أواخر العهد العباسي توسعت تهمة (الزندقة) حتى وصلت على يد الإمام الغزالي الى كل محاولة اجتهادية تخالف المذاهب السلفية وتنحرف عنها في التفسير (راجع فاروق عمر - المصدر نفسه) . واستمر الاضطهاد وتعاظم مع الخليفة (المقتدر) (908-932) , وحسب (فهرست ابن النديم) , أنه في أواخر القرن العاشر الميلادي , قد هبط عدد رموز المانوية في بغداد من 300 شخص إلى 5 أشخاص فقط . بسبب اضطهاد العباسيين اضطر الكثير من اتباع المانوية إلى الهروب من العراق إلى خراسان وكردستان وتركستان (ربما يكون اليزيديون في شمال العرق من بقايا المانوية الذين هربوا من اضطهاد العباسيين) .



خاتم الانبياء
من الخصال الكبيرة التي تميز بها الاسلام والمسلمون الأوائل هي القدرة على استيعاب معارف ومعتقدات الشعوب التي بدأ ينتشر بينها الاسلام . فمن المعروف أن الحضارة العربية الإسلامية بنت عظمتها من انفتاحها أولاً على تراث الشعوب التي أسلمت واستعربت , خصوصاً حضارات بلاد الرافدين والشام ومصر وشمال أفريقيا . ففي العراق مثلاً , بالإضافة إلى تراث المسيحية النسطورية والصابئية واليهودية , لعبت المانوية دوراً كبيراً في نقل الكثير من المعتقدات البابلية والعرفانية الصوفية إلى الحضارة العربية الإسلامية . يكفي ملاحظة التشابه الكبير بين الفلسفات الإشراقية والصوفية العربية الاسلامية وبين المانوية , ليس صدفة أن التصوف نشأ في حواضر العراق , البصرة والكوفة وبغداد , لأن الكثير من اتباع المانوية الذين تحولوا إلى الاسلام نقلوا معهم معتقداتهم الإشراقية والصوفية البابلية ومزجوها بالإسلام . طبعاً هذا لا ينفي التأثيرات المباشرة للمسيحية والعرفانية الشامية المصرية , بالإضافة إلى المجوسية الإيرانية والأفكار اليونانية . ومن التشابهات الواضحة بين المانوية والإسلام , أن (ماني) ادعى أنه النبي المخلص الذي بشر به المسيح وأنه (خاتم الأنبياء) . بالإضافة إلى تشابهات أخرى مثل تحريم الخمر, والصيام 30 يوماً , والوضوء بالماء أو التراب , والركوع أثناء الصلاة , وتفاصيل وصف الجنة والنار ويوم القيامة والحساب وعبور الصراط المستقيم . كذلك وجوب مساهمة أتباع المانوية (السماعين) بدفع جزء من أموالهم (عشر) و(زكاة) لرجال المانويين (الصديقين) .
ويمكن الافتراض أن المانوية قد لعبت دوراً مهماً في تكوين الكثير من الطوائف الصوفية والباطنية , مثل الاسماعيلية والعلوية والدرزية . أما بالنسبة إلى تشابه المانوية مع المذهب الشيعي , فإنها تبدو قوية بحكم انبثاق التشيع في اراض الرافدين حيث كانت المانوية نشيطة . إن الكثير من اتباع المانوية (وكذلك النسطوريين) دخلوا المذهب الشيعي بحكم اشتراكهم مع باقي العراقيين في معارضة الحكمين الأموي ثم العباسي . يمكن ملاحظة هذا التشابه في مسألة الأئمة الإثني عشر (حورايو ماني كانوا كذلك 12, مثل السيد المسيح) . بالإضافة إلى الميول العرفانية والإشراقية في المذهب الشيعي القريبة جداً من إشراقيات المانوية . ثم إن مفهوم » الاستشهاد « وتضحية (ماني) بحياته من أجل إخلاص ملته , له تشابه كبير مع تبجيل الشيعة لذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) وتضحيته بحياته من أجل تقويم الإسلام . ويبدو أن طقوس الاحتفال بذكرى كربلاء وأيام عاشوراء تتشابه مع طقوس احتفال المانوية بذكرى استشهاد ماني وصلبه , وهذه بدورها لا تبتعد كثيراً عن طقوس الاحتفال بصلب المسيح , وقبلها لدى سكان العراق والشام بذكرى موت تموز (بعل) وعودته إلى حياة الخلود . ثم ان التشابه الأهم من ذلك بين الشيعة والمانوية , إختيار (الحلة) ثم (النجف) التي هي جزء من أرض بابل التاريخية , لتكون مركز الشيعة في العالم والمنطقة المقدسة ومقر الحوزة العلمية كما اختار المانويون وقبلهم أهل الرافدين (بابل) لتكون المركز المقدس لديانة أسلافهم .

المصادر المعروفة عن المانوية :

1- الرسائل الجدلية للقديس أغسطين (354 –430 ) التى دحض فيها هذه العقائد المانوية باعتبارها من الهرطقات .

2- الرسائل الجدلية للقديس تيتوس البسترى ضد المانويين .

3- الصيغ اليونانية اللاتينية التى كان يستغفر بها المانويون المنتقلون للمسيحية .

4- المواعظ السريانية التى كتبها (سيفي الانطاقى) وعددها 133 موعظة .

5- كتاب الأسقف السرياني (تيودور بركونائى) .

6- ابن النديم فى الفهرست .

7- البيرونى فى آثاره الباقية .

8- نصوص مانوية باللغة الفهلوية والصغدية والصينية اكتشفتها البعثات الألمانية والإنجليزية والفرنسية فى التركستان الصينية فى القرن العشرين .

9- نصوص مانوية باللغة القبطية كتبت على أوراق البردي اكتشفت فى أوائل هذا القرن فى مصر .

10 ـ إيران فى عهد الساسانيين ( ص 169 –170 . تأليف آرثر كريستنسن .ترجمة د. يحيى الخشاب . الألف كتاب الثاني . الهيئة المصرية للكتاب ) .

 
 
 

كارل بوبر، الإبستمولوجيا والفلسفة السياسية./ ترجمة محمد الحجيري.

 

كارل بوبر، الأبستمولوجيا والفلسفة السياسية.
إعداد وترجمة محمد الحجيري

 

كارل پوپر (28 يوليو 1902 في فيينا - 17 سبتمبر 1994 في لندن) فيلسوف نمساوي-إنكليزي متخصص في فلسفة العلوم. عمل مدرساً في كلية لندن للاقتصاد. يعتبر كارل پوپر أحد أهم واغزر المؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين، كما كتب بشكل موسّع عن الفلسفة الاجتماعية والسياسية.
والداه يهوديان بالأصل لكنهما تحولا للديانة المسيحية، إلا أن بوبر يصف نفسه باللاأدري.
درس الرياضيات، التاريخ، علم النفس، الفيزياء، الموسيقى، الفلسفة وعلوم التربية.
عام 1928 حصل على درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس الإدراكي. 1930 بدأ كتابة أول أعماله الذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان "منطق البحث" 1934 وفي طبعة كاملة عام 1979 بعنوان "المشكلتان الرئيستان في النظرية المعرفية".
1937 هاجر إلى نيوزيلندا حيث قام بالتدريس في عدة جامعات هناك، وألف كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه" 1945، والذي اكتسب من خلاله شهرة عالمية ككاتب سياسي. أهم سمة تميز أعماله الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقلانية العلمية.
(عن ويكيبيديا)

"ما هو العلم؟" 
مقالة مهمة وواضحة كتبها (جاك لوكونت) للتعريف بنظرية كارل بوبر في الأبستمولوجيا (علم المعرفة) وبالتحديد في مسألة المعرفة العلمية، وفي الفلسفة السياسية.
نشرتها مجلة "علوم إنسانية" في عددها الصادر في شهر أيار 2015.
يرى كارل بوبر بأن أية نظرية لتكون علميةً، يجب أن تكون قابلةً للتفنيد (لإثبات الخطأ)، وأيّة نظرية غير قابلة للتفنيد هي ليست علمية.
وقد رأى بوبر أن هذا الشرط متوفّر في النظرية النسبيّة لإينشتاين، فهي تقدّم توقعاتٍ، إذا أثبتت النتائج لاحقاً أنها غير صحيحة، سيؤدي ذلك حتماً إلى الانقلاب على تلك النظرية.
فيما لا تمتلك نظريات أخرى مثل هذه الخاصّية، ومنها: الماركسية والتحليل النفسي عند فرويد أو ألفرد آدلر..

نَصّ المقالة:
نحن لا نستطيعُ أكثرَ من تنحيةِ الخطأ، بينما لا نستطيعُ مطلقاً أن نثبتَ الحقيقة.
إنها عقلانيةُ كارل بوبر النقدية التي يتم تطبيقُ مبدئِها على المسار العلمي، كما على التفكير السياسي.
لقد كانت كثيرةً العلومُ الحديثة التي عرفتها فيينا ما بعد الحرب العالمية الأولى. وقد اهتم كارل بوبر الشاب بشكلٍ خاص بنظرية النسبية عند أينشتاين، وكذلك بالماركسية وبالتحليل النفسي الفرويدي وبسيكولوجيا ألفرد آدلر.
أمام هذا الازدهار للعلوم، تساءل بوبر باكراً إن كانت هناك سمةٌ معيّنة تسمحُ بالتأكيد بأن نظريةً ما هي نظريةٌ علميّة.
إنه يلاحظ بأن نظرياتِ كارل ماركس وسيغموند فرويد وألفرد آدلر تمتلك ظاهراً قدرةً تفسيريّة قويّة.
"إنها تبدو مهيّأةً لأن تأخذَ في الاعتبار بشكلٍ شبهِ شاملٍ الظواهرَ التي تنتجُ في مجالاتها الخاصة.. إننا نلمح في كل مكان تأكيداتٍ بأن الكون يزخر بما يؤكد النظرية" (تخمينات وتفنيدات، 1963)
لكنه بدأ يشكُ في أن هذه القوةَ التفسيريّة الظاهريةَ لربما كانت هي بالتحديد نقطةَ ضعف هذه النظريات.
إنها تبدو وكأنها لا يمكن أن تكون خاطئةً على الإطلاق، لأنها حتى في الحالات الإشكالية، هي قادرة على تغرية (إلصاق) الوقائع بالنظرية.
في الأثناء، فإن نظرية النسبية التي كانت ما تزال حديثةَ العهد، كانت تبدو مختلفةً بشكل كبير. إنها تسمح بتقديم توقعات، إذا أثبتت النتائج لاحقاً أنها غير صحيحة، فسيؤدي ذلك حتماً إلى الانقلاب على تلك النظرية.
وهكذا، فإن نظرية النسبية، على العكس من بقية النظريات التي قام بوبر بدراستها، وحدها المعرَّضة لخطر السقم والتفنيد من قِبَل الملاحَظة.

امتحان التفنيد:
يقترح بوبر إذاً إخضاع كل نظرية جديدة لاختبارات تهدف بوضوح إلى تفنيدها.
إن نظريةً علميةً هي نظريةٌ قابلة للتفنيد، بمعنى أنها تقدم فرصةً لاختبارات تسمح بإمكانية تفنيدها (إثبات خطئها)
ليست علميّةً النظريةُ غيرُ القابلةِ للتفنيد. لكن لكي تكون نظريّةٌ صالحةً، لا يكفي أن تكون قابلةً للتفنيد، بل يجب ألا يكون قد تمّ تفنيدها حتى اللحظة.
النظريات التي تجتاز بنجاح امتحان التفنيد هي وحدها التي تبقى. وهكذا، فإن "التقدم العلمي لا يعتمد على مراكمة الملاحظات
observations ، ولكن على رمي النظريات الأقل قبولاً، وأن نستبدل بها نظرياتٍ أفضل" (La Quête inachevée, 1974)
هكذا يتم، حسب بوبر، التطوّر العلمي: النظريات الفلكيّة لـ يوهانس كبلر وغاليليه تُخْلي المكان لنظرية إسحق نيوتن، التي بدورها يتم تجاوزها من قبَل نظرية ألبر أينشتاين.
النظرية التي اجتازت بنجاح اختبار التفنيد، هي مع ذلك ليست مثبَتة، ولكنها فقط "مدعَّمة". لأنها من الممكن أن تُفَنَّد غداً. لذلك فنحن لا نستطيع على الإطلاق التأكيد بشكلٍ مطلق بصحة نظريةٍ ما. كل ما نستطيعه هو القول بأننا لم نثبت حتى الآن أنها خاطئة. إننا لا نستطيع الحديث عن حقيقة علمية، نستطيع فقط الحديث عن اقتراب تدريجي من هذه الحقيقة. حتى لو كنا أمام نظرية صحيحة، فإننا لا نستطيع مطلقاً أن نكون على يقين بأن هذا هو واقع الحال.
باختصار، فإن تبنّي المسار النقدي هو الأداة الرئيسية لتقدم المعرفة. وهنا يقدم بوبر نفسه كعقلاني نقدي. هو عقلاني، لأنه يعتقد بسلطة العقل الذي يسمح للإنسان بالاقتراب من الحقيقة. وهو نقديٌّ، لأنه يعتبر بأن المسار النقدي المطَبَّق على النشاط العلمي أو الاجتماعي، هو العامل الرئيسي للتقدّم.

المجتمعات المغلقة والمجتمعات المفتوحة:
سيذهب بوبر أبعد من ذلك ليعمّم معيار التفنيد أو "التفنيديّة"
réfutabilité على تحليل النظريات الاجتماعية من خلال إقامة التمييز ما بين المجتمعات المقفلة والمجتمعات المفتوحة.
المجتمع المغلق هو، بنظر بوبر مجتمع متخيَّل بواسطة أشخاص يحلمون بطريقة تجعلهم يهبطون بالجنة إلى الأرض. وهذا هو بالضبط ما يأخذه على الماركسية.
إن سياسةً اجتماعيةً عقلانيةً حقاً، يجب أن تهدف إلى تخفيف الآلام، وليس إلى اجتراح السعادة. "فلنترك هذا البحث عن السعادة ـ يقول بوبر ـ إلى المجال أو الميدان الخاص" بدلاً من أن نفرض على الآخرين وجهة نظرنا الخاصة إلى الوجود. وبدلاً من التماس جنةٍ على الأرض، يجب أن نبذل قصارى جهدنا "للعمل بطريقةٍ تجعل حياة كل جيلٍ أقل عناءً وأقلّ ظلامةً [من الجيل السابق]." (بؤس التاريخانية، 1957)
بالنسبة لـ بوبر، فإن المجتمع المفتوح ليس نظاماً سياسياً أو نمطاً للحكم بقدر ما هو شكل للوجود الإنساني المشترك، حيث حريّة الأفراد، واللاعنف وحماية الضعفاء تكون قِيماً جوهريّة.
إن المجتمع المفتوح يعود في أصوله إلى اليونان القديمة. لقد أنشأ الفلاسفة القبسقراطيون (ما قبل سقراط) الحوارَ النقديَ الحرّ كوسيلة للتقدم نحو الحقيقة.
أما في التاريخ الأقرب إلينا، فإن الحروب الدينيّة هي التي ساهمت، حسب بوبر، في تشكيل هذا النمط من التفكير المضاد للاستبداد.

 "هفواتنا هي التي هذّبتنا بفعاليّة": لقد علّمتنا، ليس فقط أن نتسامح مع المعتقدات المختلفة عن معتقداتنا، بل علّمَتْنا أن نحترمها أيضاً، وأن نحترم من ينتمي بإخلاصٍ إليها. "لقد تعلّمنا أننا خلال إصغائنا المتبادل وخلال نقدنا المتبادل، فإن لدينا بعض الحظّ في أن نقترب أكثر من الحقيقة"، يؤكد بوبر.
لكن هذا الاعتقاد البوبري [نسبةً إلى كارل بوبر] قد عرف أكثر كيف يجدّد الأبستمولوجيا والفلسفة السياسية في آن.

"ما هو العلم"، جاك لوكونت، مجلة "علوم إنسانية" عدد أيار 2015
ترجمة محمد الحجيري، 7 أيلول 2015

ملاحظة:
لقد تعرضت نظرية بوبر لبعض الانتقادات، ربما كان أهمها الانتقادات التي وجهتها البنيوية، وهي النظرية التي تقول بالقفزات وبـ "القطيعة المعرفية"، وذلك من خلال توماس كون، مؤلّف كتاب "بنية الثورات العلمية" وهو الكتاب الذي تُرجِم إلى العربية، وتم نشره ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت، حيث يدافع كون عن الفكرة القائلة بان العلم لا يتقدم حسب مسارٍ تطوّري مستمرّ من خلال التجربة والخطأ، ولكن من خلال نماذج مهيمنة.
"العلم العادي" «
science normale » يحافظ على صلاحيته حتى يواجه أزمةً ما، ويأتي علم جديد ليحلّ محله.
 

العلمانية، المراجع: تفكيك المصطلح، الدكتور عبد الرحمن السليمان



مراجع بالعربية

 

بطرس البستاني (1987). محيط المحيط. مكتبة لبنان، بيروت.

برنارد لويس (2009). أين الخطأ: التأثر الغربي واستجابة المسلمين. ترجمة د. محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة.

رفاعة الطهطاوي (1993). تخليص الإبريز في تلخيص باريز. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة.

عبدالله البستاني (1927). البستان. مجلدان المطبعة الأمريكانية. بيروت.

عبدالوهاب المسيري (1423/2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق. مجلدان.

المعجم الوسيط . إصدار مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1965. مجلدان.

 

مراجع باللغات الأجنبية

 

Barthélemy A. (1935). Dictionnaire arabe–français. Paris. 2 tom.

BAUBÉROT, Jean (1996). "Genèse du concept de laïcité en occident", in: M. Bozdémir (dir.), Islam et laïcité. Approches globales et régionales, Paris 1996, pp. 13-26.

Berger P.L. (1990). The Sacred Canopy, New York.

Brockelmann C. (1925). Syrische Grammatik met Paradigmen, Literatur, Chrestomathie und Glossar. Berlin. Reuther & Reichard.

Brockelmann C. (1928). Lexicon Syriacum. Hale. Sumptibus M. Niemeyer.

Buisson Ferdinand (1982-1987).  Dictionnaire de pédagogie et d'instruction primaire (deux éditions, en 1887 et en 1911). – Réédition: Alcan, Paris, 1929.

Buisson Ferdinand, La foi laïque : extraits de discours et d'écrits, 1878-1944, Latresne (Gironde): le Bord de l'eau, collection « Bibliothèque républicaine », 2007, 297 p.

Chadwick O. (1975). The Secularization of the European Mind in the 19th Century. Cambridge 1975.

De Ley H. (2007). Secularisme & Religie. Cursusmateriaal van prof. dr. em. Herman De Ley. http://www.flwi.ugent.be/cie/RUG/deley33.htm

Dozy R. (1881). Supplement aux Dictionnaires Arabes. II tom. Leyde.

Ellious Bocthor (1828-1829). Dictionnaire français-arabe. Revu et augmenté par Caussin de Caussin de Perceval. Paris (3° édition, 1864).

FREYTAG, G. W (1830-1837). Lexicon Arabico-Latinum praesertim ex Djeuharii Firuzabadiique et aliorum Arabum operibus adhibitis Golii quoque et aliorum libris confectum. Halis Saxonum: C.A. Schwetschke et filium.

Gasselin E. (1886). Dictionnaire Français-Arabe (Arabe vulgaire - Arabe grammatical). Paris, Ernest Leroux Editeur. 2 tom.

Goshen-Gottstein M.H. (1970). A Syriac-English Glossary etc. Otto Harrassowitz. Wiesbaden.

Kazimirski A. (1860). Dictionnaire arabe–français. Paris, Maisonneuve et Larose, 2 vol.

Klein E. (1987). A Comprehensive Etymological Dictionary of the Hebrew Language for the Readers of English. New York.

Koehler L. & Baumgartner W. (1953). Lexicon in Veteris Testamenti Libros. Leiden.

Lane E. W. (1863-93). Arabic-English Lexicon ... VIII vols. London.

Leezenberg Michel (2008). Islamitische Filosofie. Een Geschiedenis. Bulaaq, Amsterdam.

Le Grand Robert de la Langue Française. Montréal; 1985.

Lewis B. (1988). The political language of Islam. Chicago.

Ragep F.J. (1993). Nasir al Din al-Tusi's Memoir on Astronomy (al-tadhkira fi ilm al-hayya). II vols. New York/Berlin: Springer

 




[1] عبدالوهاب المسيري (1423/2002). المجلد الأول، الصفحة 61.

[2] وهذه الظاهرة، ظاهرة وجود مرادفات مصطلحية عربية متعددة إزاء مفهوم غربي واحد، من معضلات الثقافة العربية المعاصرة العويصة، وهي السبب في تشتت جهد الدارسين وكذلك في الكثير من الخلافات بين المثقفين. من ثمة الدعوة المتكررة إلى ضرورة ضبط المصطلح قبل الحديث في مدلولاته. انظر: Alsulaiman A., 2009).) صفحة 83 وما يليها.

[3] عبدالوهاب المسيري (1423/2002). المجلد الأول، الصفحة 61.

[4] المعجم الوسيط. (مادة علم، صفحة 624).

[5] هيرمان ديلاي: "العلمانية والدين" De Ley Herman, 2007))، الصفحة 1-2.


[7] أو "الأبدية" كما توهم مترجم العهد القديم إلى العربية الذي ترجم العبارة גַּם אֶת-הָעלָם, נָתַן בְּלִבָּם بـ "وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ" ليجعل مجمل الآية غير واضح. انظر Klein E. (1987) مادة עולם (صفحة 473).

[8] هيرمان ديلاي: "العلمانية والدين" De Ley Herman, 2007))، الصفحة 2.

[9] ورد اسم /يهوه/ اسمَ علم للإله المعبود بحق في اليهودية. ولأن لفظ /يهوه/ محرم على اليهود فإن أحدا لا يعرف كيف كان يلفظ، لذلك ينطق اليهود بدلا عنه في أثناء تلاوة التوراة أحد لفظين اثنين هما: השם = /هاشِّم/ أي "الاسم" أو אדני = /أدوناي/ أي "السيد، الرب". أما في أدبيات الكتاب المقدس فيشار إليه بـ Tetragrámmaton من اليونانية Τετραγράμματο  أي "الأحرف الأربعة". وأما نطق الاسم بـ جهوفا (Jehovah)، فهو نطق يفترض أن /يهوه/ هو مضارع الفعل הוה = /هوى/ "كان" في العبرية، وهو الافتراض المبني بدوره على الآيتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من سفر الخروج في التوراة حيث جاء فيهما: וַיּאמֶר אֱלהִים אֶל-משֶׁה אֶהְיֶה אֲשֶׁר אֶהְיֶה: /النقحرة: وَيُومِر إِلُوهِيم إِلْ مُوشِه إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ (ehyeh ašer ehyeh)/ "فقال الإله لموسى: [تقول لهم إن اسمي:] إِهْيِهْ أَشِرْ إِهْيِهْ".

[10] انظر معجم روببر الكبير للغة الفرنسية. (Le Grand Robert)، المجلد 5، الصفحة 915. ويذكر جان بوبريوت في "ولادة مصطلح اللائيكية في الغرب" أن أول ظهور للمصطلح كان في معجم صدر في أجزاء واكتمل سنة 1887، وضعه الفرنسي الحائز على جائزة نوبل فرديناند بويسون (Ferdinand Buisson, 1982-1987). انظر (BAUBÉROT, Jean, 1966)، صفحة 13. وهذا يناقض ما جاء في معجم روبيرت الكبير وهو أهم مرجع للغة الفرنسية.

[11] وهذا ما يفسر حدة الموقف الفرنسي من حجاب المسلمات في المدارس الفرنسية، بينما لا يشكل ذلك مشلكة على الإطلاق في المدارس البريطانية على سبيل المقارنة.

[12] لم ترد كلمة (علم) بفتح العين بمعنى (العالم) في المصادر العربية القديمة لأنها كما تقدم مستعارة من السريانية. وأول معجم عربي أوردها هو محيط المحيط للبستاني (1870) كما تقدم. وقد وردت كلمة (علم) بفتح العين بمعنى (العالم) أيضا في (المعجم العربي اللاتيني) لفرايتاغ  FREYTAG, G., 1830-1837).(W حيث جاء في مادة (علم): عَلم: creatae, mundus. وأوردها هكذا من بعده كازيميرسكي في معجمه العربي الفرنسي (Kazimirski A., 1860). انظر مادة (علم)

[13] يلاحظ أن أداة التعريف في الآرامية الفصيحة وكذا في السريانية القديم هي ألف المد وتكون آخر الكلمة.  والسريانية مثلها في ذلك مثل الحميرية التي تجعل أداة التعريف ـ وهي النون - في آخر الكلمة أيضا (مثلا: ذهبن = الذهب)

[14] انظر (Klein E.: 1987) مادة עולם (صفحة 473).

[15] وهذا بيان آخر للمتخصصين في اللغات السامية وفقهها: لو كانت السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) من الموروث السامي المشترك لكان مقابلها العبري من ذوات السيغول (حركة عبرية ممالة نحو الكسر)، ذلك أن كل كلمة سريانية على وزن /فَعلا/ يجانسها تأثيليا في العبرية /فِعِل/ بإمالة الفاء والعين نحو الكسر، ويجانسها في العربية /فعل/ على وزن كلب (قارن العربية /كلب/ والسريانية /كلبا/ والعبرية كِلِب). وهذا دليل صرفي وتأثيلي على عدم كينونة الكلمة السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) من الموروث السامي المشترك وأنها أي (عَلم) في العربية دخيلة من السريانية.

[16] لن نشغل أنفسنا ههنا بالبحث في السؤال عما إذا كانت لغة الأناجيل – وبالتالي النصرانية – الأولى هي اليونانية أم السريانية، لأنه سؤال غير مهم في هذا السياق فضلا عن أن الإجابة عليه ستزيد من تعقيد الحديث في هذه المصطلحات فوق ما هو معقد.

[17] هذه الحقيقة اللغوية التاريخية نبّه عليها أيضاً المستشرق المعروف برنارد لويس في كتابه "أين الخطأ" (في الفصل الخامس "العلمانية والمجتمع المدني"، إذ قال، بعد استعراض جذور هذا المفهوم في الثقافة المسيحية ووجه الاختلاف بينها وبين الثقافة الإسلامية، ما يلي: "ولكن انتشار التأثير الغربي اعتباراً من القرن التاسع عشر جعل المسيحيين الناطقين بالعربية - والذين كانوا كثيراً ما يتلقون تعليمهم في المدارس الغربية، والذين كانوا أكثر انفتاحاً على الأفكار الغربية - يضطلعون بدور رئيسي في نقل هذه الأفكار. فكان أن قدَّم المعجمُ العربيُ المسيحيُ جانباً مهماً من المفردات الجديدة التي أسهمت في تشكيل العربية المعاصرة. وكان من المصطلحات المسيحية التي شاع استعمالها مصطلح "عالماني" التي تحوّلت فيما بعد إلى "عَلَماني"، وتعني حرفياً: ما له علاقة بالعالم، أي دنيوي. وأصبحت الكلمة مرادفة لمصطلح: الزمني، وغير الديني، وغير الكنسي جميعاً. وابتدعت في وقت لاحق كلمة دخيلة مترجمة هي "روحاني" المشتقة من "روح" للدلالة على المعنى المضاد. ومن عهد جدّ قريب، نسي الناس أصل كلمة "عالماني" واشتقاقها المسيحيَّيْن، وحرّفوها في النطق إلى "عِلماني" المشتقة من "العِلم". وأسيء فهمها إذ أصبحت تشير إلى مذهب مَن يزعمون وجود تعارض بين العلم البشري والتنزيل الإلهي". (برنارد لويس 2009 ص 159). مع الشكر الجزيل للباحث المصري الزميل أحمد الأقطش الذي أضاف هذه الحاشية المهمة إلى هذه المقالة.


[19] انظر بشأن مادة (ܥܠܡܐ: عَلْما)  كلا من: Goshen-Gottstein M.H. (1970) صفحة 58؛ وBrockelmann C. (1928) مادة ܥܠܡܐ وكذلك Brockelmann C. (1925) المختارات الأدبية (Chrestomathie) وكذا مادة ܥܠܡܐ في المسرد.

[20] جاء أيضا في الصفحة 3 من كتاب "لغة الإسلام السياسية" للمستشرق برنارد لويس (Lewis B., 1988) بخصوص دخول مصطلح "علمانية" في الاستعمال ما نصه: "في القرن التاسع والقرن العشرين، وتحت تأثير الأفكار والمؤسسات الغربية، نشأت مصلحات جديدة في الإسلام للدلالة على مفهوم تيار الدنيوية، في اللغة التركية أولا، ثم في العربية ثانيا. ففي التركية استعمل المصطلح "لاديني" [ladini] أولا، ثم غيّر فيما بعد إلى "لايك" [layk] المستعار من اللغة الفرنسية. أما في العربية فقد أخذ القوم الكلمة عن الاستعمال اللغوي للنصارى العرب. فلقد اشتق النصارى العرب، في استعمالهم اللغوي المخصوص بهم [والتوكيد لي] كلمة "عَلماني"" [‘alamani] من "عَلم"، ثم أعيد تشكيل الكلمة لتصبح "عِلماني" [‘ilmani] من "عِلم".

[21] عنوان المعجم بالفرنسية: Ellious Bocthor (1828-1829), Dictionnaire français-arabe. Revu et augmenté par Caussin de Caussin de Perceval. Paris (3° édition, 1864).

[22] انظر الحاشية رقم 17.

[23] انظر بطرس البستاني (1987)، ص 62. مادة (علم). وقد يكون البستاني اعتمد أيضا على كتاب رفاعة الطهطاوي (رفاعة الطهطاوي:1993)

[24] ومن المثير للانتباه أن عبدالله البستاني صاحب معجم (البستان – صدر سنة 1927) ـ وهو مثل معجم محيط المحيط لبطرس البستاني حجما ومادة، ذكر العلم بفتح العين بمعنى العالم ولم يذكر (علماني). وهذا مثير للتأمل لأنه يعني أن اللفظة في سنة 1927 لم تكن موطنة في العربية .. عبدالله البستاني (1927). مادة (علم).

[25] صدر معجم دوزي سنة 1881، وهي السنة التي يؤرخ فيها لتاريخ ظهور المصطلح الفرنسي laïcité (لائيكية). وهذا التاريخ مهم جدا أهمية هذا المعجم، ذلك لأن الهولندي رينهارت دوزي جمع في معجمه العربي الفرنسي أكثر الألفاظ العربية التي لم ترد في المعاجم العربية ليس لأن المعاجم العربية أهملت تلك الألفاظ  سهوا بل لأن تلك الألفاظ لم تكن تدخل في منظومة الكلام الفصيح كما كان أهل المعاجم يفهمونه ويعملون به. ومن هذا الكلام الذي لم يدخل في منظومة الكلام الفصيح كما كان أهل المعاجم يفهمومه: نصوص الأدب الشعبي شبه العامي (مثل سيرة عنتر وسيرة بني هلال الخ.) والنصوص العربية التي كتبها النصارى واليهود وأتباع الديانات والفرق الأخرى في موضوعات مخصوصة بدياناتهم وتاريخهم الخ. وكان هؤلاء الكتاب لا يلتزمون بقواعد اللغة العربية كما كان المسلمون يلتزمون بها لأسباب معروفة، بل كانوا يكتبون العربية كما ينطقونها تقريبا. ونصوصهم ـ في هذا السياق ـ كنز لغوي غني لدراسة تطور اللهجات العربية في العصور الوسيطة. ولا يشذ عن هذا القول إلا كتاب قليلون مثل الاغوي اليهودي مروان بن جناح القرطبي والأديب موسى بن عزرا وغيرهما. ونظرا للخصوصية والمميزات اللغوية الكثيرة لتلك النصوص ولغاتها، فقد أطلق عليها في الأوساط البحثية المخصوصة بها تسميات مثل Judaeo-Arabic (العربية اليهودية) وكذلك Christian Arabic (العربية النصرانية). من علامات هاتين العربيتين أنهما كانتا تكتبان بالكتابة االعربية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية، وأنه لا إعراب فيهما ولا تمييز بين (هم/هن) .. وفي الحقيقة إن معجم دوزي أعلاه ـ وهو أشهر من نار على علم في سياق هذه الدراسات – يجمع أكثر الألفاظ الواردة في النصوص المكتوبة في (العربية اليهودية) وفي (العربية النصرانية). إن كثيرا من تلك المفردات المخصوصة بديانتي النصارى واليهود وسننهم وفقههم ليس من العربية بل من لغاتهم الأصلية وخصوصا  العبرية والآرامية/السريانية (مثل علم ـ بفتح العين)، توطن في العربية التي كانوا هم يستعملونها والتي لم يعالجها أصحاب المعاجم العربية إما لأنها لم تكن فصيحة برأيهم لأن معايير الفصاحة عند المعجميين العرب التقليديين جد معقدة، أو لأنهم لم يطلعلوا عليها لأن أكثر تلك النصوص كان مدونا بكتابة غير عربية كما تقدم.

[26] انظر Dozy R., 1881))، المجلد الثاني صفحة 165. مادة (علم).

[27] انظر غزلان إدوارد (Gasselin Edouard, 1886) مادة Laïque.

[28] أضاف الباحث المصري الأستاذ أحمد الأقطش إلى هذا البحث هذه المعلومة المهمة: (ويظهر مِمَّا كتبه رفاعة الطهطاوي (رفاعة الطهطاوي 1993 ج. 2 ص. 256) في الفصل الثاني عشر تحت عنوان "دين أهل باريس" أنه ترجم الفرنسيةlaïque  إلى "العامة" في مقابل القساوسة. يقول: "ومن الخصال الذميمة: أن القسيسين يعتقدون أنه يجب على العامة أن يعترفوا لهم بسائر ذنوبهم ليغفروها لهم، فيمكث القسيس في الكنيسة على كرسي يُسمّى كرسي الاعتراف". وهذا هو المعنى الأصليّ للكلمة الفرنسية. والطهطاوي ذو ثقافة إسلامية، لذلك استخدم كلمة  "العامة" - ومفردها "عامّي" - لتدلّ على عموم المنتسبين إلى الديانة الكاثوليكية مِمَّن ليسوا في السلك الكهنوتي. ومثل هذه الدلالة ليس لها وجود في الدين الإسلامي كما هو معلوم لعدم وجود كهنوت أصلا). وقد يكون غزلان إدوارد اطلع على كتاب الطهطاوي واستساغ مصطلحه أكثر من "علماني".

[29] هيرمان ديلاي: "العلمانية والدين" De Ley Herman, 2007))، الصفحة 12.

[30] هيرمان ديلاي: "العلمانية والدين" De Ley Herman, 2007))، الصفحة 3.

[31] عبدالوهاب المسيري (1423/2002). المجلد الأول، الصفحة 61.

[32] انظر Ragep F.J. (1993).

[33] انظرLeezenberg M. (2008)  صفحة 305.

[34] انظر برنارد لويس (Lewis B., 1988)، صفحة 3.