الاثنين، 27 يناير 2020

مبحث في الفهم الإنساني لـ جون لوك؛ محمد فتحي الشنيطي.





Table of Contents


مبحث في الفهم الإنساني لـ جون لوك
محمد فتحي الشنيطي.

ملاحظة: تم اقتباس فقرات من المقدمة التمهيدية، أما ما ورد عن مبحث في الفهم الإنساني فمأخوذ بكامله كما ورد في المقالة الأصلية.


بين العقلية والتجريبية:

جرى الباحثون في تاريخ الفكر الفلسفي على تمييز تيارين أساسيّين هما التيار العقلي والتيار التجريبي. يذهب الأول إلى أنّ ثمّة أفكاراً أوّليةً قائمة في العقل قبل كل تجربة، بينما يرى الثاني أنّ الأفكار لا يمكن إلا أن تكون بعديّة، أي تأتي إلى العقل بعد التجربة لا قبلها. وليس معنى هذا أن التيار العقلي ينكر التجربة ويسقطها أو أن التيار التجريبي يستهين بالعقل، وإنما التجريبيون يبدأون من التجربة ليصلوا إلى العقل، والعقليون يبدأون من العقل ليصلوا إلى التجربة. فعند العقليين العقل هو المهيمن على التجربة، وعند التجريبيين لا يعدو العقلُ أن يكون أداةً تُستخدَم في الانتفاع بحصيلة التجربة.

ديكارت:

أما ديكارت أبو الفلسفة الحديثة وإمام العقليين، فلم يشأ من البداية أن يتورّط في النظر إلى الطبيعة نظرةً مادّيةً علمية، بل آثر أن يتجه إلى الفكر متوسّماً فيه معيناً لا ينضب للمفاهيم الأصيلة لكل علم رياضياً كان أم مادياً. وفي إطار هذه النظرة اقتصر ديكارت على التفسير العقلي البحت، حتى في تفسيره للعالم لم يشأ أن ينظر إلى المضمون الحسّي، بل اقتصر على الخصيصة العقلية له وفي الامتداد. وقد يؤخذ على هذا الاتجاه الديكارتي أنه لا يزوّدنا بالدعامة الأولى للبحث العلمي وأعني بها التقاط المبادئ العامة من خلال التغلغل في الظواهرالجزئية القائمة بالفعل في الطبيعة، وهذا هو الذي دعا إليه فرنسيس بيكون، وواصل الدعوة إليه تحليلاً وتفصيلاً إسحق نيوتن. بيد أن لديكارت الفضل في أنه زوّد البحث العلمي في ميدان الطبيعيات بأداةٍ وثيقةٍ تمكّن لهذا البحث من الدقة والضبط ومن الاقتصاد في الجهد، أعني بها أداة الرياضة؛ وإن تكن هذه الأداة ضئيلة القيمة إذا لم ترتبط بالبحث العلمي النابع من صميم الواقع المادي. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى نلاحظ أن ديكارت وهو يتصدّى لمشكلة المعرفة، دمجها بميتافيزيقاه في تفسير الوجود.

لوك:

وحين قصد لوك أكسفورد سنة 1652، كانت النزعة البيوريتانية متغلغلة إلى جانب النزعة المدرسية في مناهج الدراسة، فواجه ذات المحنة التي واجهها ديكارت في معهد لا فليش: تزمت رجال الدين، وهيمنة الطريقة المدرسية على برامج التعليم، وكما ثار ديكارت ثار لوك، بل إن رغبة لوك في النظر الفلسفي وفي التأمل والبحث قد أثارتها كتابات ديكارت نفسه. فإن مؤلفات ديكارت كما يصرح بذلك لوك هي التي حفّزته للبحث وشجّعته على مواجهة ما في الاتجاه المدرسي من عقم. وقد تهيّأت لـ جون لوك الإحاطة بدراسات المفكر الفرنسي غاسّندي الذي كان يهاجم أسس فلسفة ديكارت، كما أحاط أيضاً بآراء الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. وقد صادفت الفترة التي قضاها في الجامعة ريحاً من التسامح جعلت القائمين عليها يفسحون صدورهم لحرية التفكير..
وقد ظهر مؤلفه الضخم "مبحث في الفهم الإنساني" في مستهلّ سنة 1690. ويعدّ هذا الكتاب بحقٍ عملاً من الأعمال الفلسفية الخالدة. يذكر لنا صاحبه في مقدمته أنه عكف على تأليفه إثر مناقشةٍ جرت بينه وبين بعض الأصدقاء حول إشكالاتٍ تتصل بالدين والأخلاق. وقد ارتأى أن من الخير لنا أن نشرع في تحديد طبيعة تصوراتنا وفي تحليل أصول مفاهيمنا، قبل أن يناقش بعضنا البعض الآخر في مشكلات شائكة ضاربةٍ في صميم حياتنا، ولو فعلنا لاستطعنا أن نجعل مناقشاتنا مثمرةً مفضية إلى نتائج مقنعة. ويلاحظ أن لوك قضى فترةً طويلة في إعداد هذا الكتاب أثناء مقامه في فرنسا وإبّان منفاه في هولندا. ولئن كان هذا السفر القيّم قد صدر سنة 1690، فإن لوك قد أنجزه بالفعل سنة 1687، وهو يضم أربعة أبواب: الباب الأول يتصدّى لنقد نظرية الأفكار والمبادئ الفطرية. وفي الباب الثاني عرض للأصول التي تنبع منها أفكارنا، أي تحليل للتجربة الحسّية، ورد الأفكار المركّبة إلى أبسط عناصرها. وفي الباب الثالث بحث في صلة الفكر باللغة وتأثير الألفاظ في التفكير، وتحليل للفلسفة المدرسية على ضوء هذه العلاقة بين اللغة والفكر، فهي في نهاية الأمر فلسفة ألفاظٍ وليست فلسفة معانٍ ومضامين. وفي الباب الرابع والأخير يعنى لوك بتحديد الإطار العام للمعرفة، وبذلك نجد أنّ نظرية المعرفة تتبلور في هذا الباب الأخير، ومن هنا يذهب كثير من الباحثين إلى أنّ هذا الباب والباب الثاني أي تحليل التجربة الحسّية كتبا قبل البابين الأول والثالث.
.. صدر له في نفس العام الذي صدر فيه "مبحث في الفهم الإنساني" أي سنة 1690 كتابه: "بحثان في الحكومة" في جزأين يضم نظريته السياسية. وتنطوي هذه النظرية في صميمها على خصال مفكر يؤمن بكرامة الإنسان وبحرية الفكر والصحافة ويدعو إلى التسامح في مجال العقائد الدينية، والعمل على أن يكون للدولة التوجيه والإشراف في المجالات الاقتصادية من أجل النهوض بالمجتمع. ويعتبر هذا الكتاب تقنيناً لأصول الثورة التي تمّت سملياً سنة 1688، وكانت تستهدف إخضاع الملك للرقابة البرلمانية وإشراف البرلمان على الميزانية والجيش، هذا إلى تعزيز استقلال القضاء، والأخذ بفكرة مسؤولية الوزراء.
بيد أننا ينبغي أن ننبّه إلى أنّ هذه الثورة قد تبلورت في تصوّر أرستقراطي للمجتمع. فقد كان معظم الناس في تلك الفترة حرصين على أن يدفعوا عن أنفسهم بحماس بالغ تهمة اعتناق الديموقرطية وكأنها رجس من عمل الشيطان. ويعد جون لوك فيلسوف هذه الثورة، وتمتاز آرؤه بالاعتدال والتبصّر.

تلخيص تحليلي لكتاب مبحث في الفهم الإنساني:

يستنكر لوك رأياً شاع بين عددٍ من المفكرين ـ ومن الواضح أنه يشير إلى ديكارت والديكارتيين وإلى أفلاطونيّي "كمبردج" ـ مفادُه أن ثمّة مبادئَ فطريةً من قبيل أن الشيء لا يناقض ذاته وأن الكل أكبر من الجزء. والحجة التي يحتجون بها على فطرية معرفتنا بهذه المبادئ هي أننا جميعاً نوافق عليها. ولئن كانت الموافقة الكلية ليست في ذاتها دليلاً على فطريتها، فالثابت مع ذلك أنّ هذه الموافقة الكلّية غير مسلّمٍ بها. ذلك أن عدداً كبيراً من أفراد الجنس البشري لم يسبق لهم البتّة أن تصوّروا مثل هذه المبادئ، كالأطفال والبدائيّين.
ويمضي بنا هذا إلى نقطةٍ أخرى، فقد يحتج بأننا قادرون على الأقل على معرفة هذه المبادئ بالقوّة. فإذا كان هذا يعني أننا نملك من البداية قدرةً على معرفتها، فإن لوك لا يعترض على ذلك، إذ يقرّ بالقدرات الطبيعية أو الملَكات. أما إذا كان معنى هذا أنّ ثمّةَ قضايا مضمرة في الذهن، من قبيل "الشيء هو ذاته"، ولكنها لم يصرَّح بها بعد، كان ردّ لوك أنه ليس ثمّةَ قضيّةٌ يمكن أن يقال إنها في الذهن الذي لم يعرفها وليس على وعيٍ بها. فإذا كان المقصود بعد ذلك أننا سنعرف هذه المبادئ حين نستدِلّ، يجيب لوك بأننا سنعرف أيضاً أنّ 7+5=12 حين نستدلّ، ولكن لا أحد يفترض هذه معرفةً فطرية. ويضيف لوك فضلاً عن هذا أننا لا نعرف هذه المبادئ بالاستدلال مع أننا نستخدمها فيه. "فإن من يجشّم نفسه مشقّة النظر بشيءٍ من الانتباه في عمليات الفهم، سيجد أنّ هذا القبول الحاضر للذهن لبعض الحقائق لا يعتمد على سجلٍّ أصليّ في العقل أو استخدامه (أي في الاستدلال)، بل على ملكة للذهن متميّزة تماماً منهما" وهي ملكة الحدس كما سيتضح لنا ذلك في ما بعد.
ليس في مستطاعنا إذاً أن نتخذ من الموافقة الكلّية ـ على فرض قيامها ـ حجةً على فطرية معرفة المبادئ. كما أنه ليس من الممكن أيضاً أن نطلب لهذه المعرفة أية أولية في الزمن، فمن الواضح أن معرفة المبادئ من حيث هي مجردة تأتي في ما بعد. فالإحساس وتمييز الأحمر من الأبيض، كل ذلك سابق على معرفتنا بمبدأ عدم التناقض، فمن الغريب أن يوصف هذا المبدأ بأنه مطبوع في العقل أصلاً.
بيد أن الحجة ليست خاصة بالسبق الزماني، بل بالضرورة المنطقية. فالمبادئ ضرورية ضرورةٌ منطقية وواضحة بذاتها. وما نكاد نفهم ما تعنيه الكلمات في القضية "الشيء هو ذاته" حتى يتعيّن تصديقها. فهل مثل هذه الضرورة وهذا الوضوح الذاتي يفسّران فقط بالأخذ بأن المبادئ مطبوعةٌ فطرياً في الذهن؟ يرى لوك أن من المسلّم به أن المبادئ واضحةٌ بذاتها، ولكن الأمر كذلك في حقائق أخرى كثيرة لا تعتبر حقائق فطرية، مثل ذلك، الحقائق الرياضية، فسواءٌ أكانت هذه الحقائق ضروريةً أم واضحةً بذاتها فليس هذا دليلاً على فطريتها. إن المبدأ "الشيء هو ذاته" مبدأٌ ضروريٌ مسلّم به لا لأنه مبدأٌ فطريّ، بل لأن اعتبار طبيعة الأِشياء المشمولة في هذه الكلمات لا يجعلنا نفكر فيها على نحوٍ آخر. إننا نتقبلها بالحدس كما نتقبّل كون 2، 2 تساوي 4.
يخلص لوك من هذا بأن ليس ثمّة ما يظهر أن المبادئ المستخدَمة في التأمل كمبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض تُعرَف معرفةً فطرية، فماذا يكون الأمر بالنسبة للمبادئ العلمية التي يدعى كونُها فطرية!
يبدأ لوك بالتساؤل عما إذا كان هنالك مبادئ من هذا القبيل نتفق عليها جميعاً، فيجد من الضروري التسليم بوجود بعض ميولٍ مشتركة في الجنس البشري. فمن المشترك عند الناس جميعاً "الرغبة في السعادة وكراهية الشقاء"، بيد أن هذه نزعات وليست انطباعات للحقيقة في الفهم. أما فيما يختص بالمبادئ الأخلاقية، فهناك اتفاق أكبر على المبادئ التأملية منه عليها، وبالتالي فإذا كنا قد تبينّا أن هذه الأخيرة ليست فطرية فالأولى ليست بالأحرى كذلك. ومن غاية الوضوع أن منبع مبادئنا الأخلاقية هو عقلنا، أو التربية التي نتلقاها من الآخرين أو آراء الأصدقاء الحيطين بنا، وعرف البلاد التي نعيش فيها. ويتقد لوك أن ثمّة قوانينَ للأخلاقية ثابتة وسرمدية، ولكنها لا تعرف بأية معرفةٍ غامضة فطرية، وهي ليست مغروسةً ابتداءً في الأذهان. ومن الأكيد أنه إذا كان الناس جميعاً قد عرفوا المبادئ الأخلاقية معرفةً فطريةً، لما شاهدنا كثيراً من الأمم تخرق بعض هذه المبادئ أو معظمها ولا تخجل من ذلك.

2ـ التجربة منبع الأفكار:

بعد أن ندّد لوك بنظرية الأفكار الفطرية، تصدّى للبحث في عناصر المعرفة القائمة في الذهن. وقد شبّه الذهن بصفحةٍ بيضاء ليس فيها خصائصُ ولا أفكار. وهنا يحق لنا أن نتساءل من أين جاءت كل هذه الذخيرة من الأفكار التي شكّلتها مخيّلة الإنسان التي لا تنفد لها طاقة؟
يجيب لوك على هذا التساؤل بأنها تأتي من التجربة. فبالملاحظة التي نديرها على الموضوعات الخارجية المحسوسة وحول النشاط الداخلي للذهن نتزوّد بالإدراك والتفكير وهما الركنان اللذان يرتكز عليهما النشاط العقلي.
وبناءً على ما تقدّم فهنالك مصدران أساسيّان لجميع الأفكار التي تشكّل وحدَها دون غيرها خامات النشاط العقلي بأسره:
أولاً: الإحساس الخارجي: فالحواس تنقل إلى الذهن إدراكاتٍ عديدةً متميّزة تميّز الطرائق المتنوّعة التي أثّرت بها الموضوعات الخارجية عليها. ومن ثَمّ تصل إلينا أفكار الأصفر والأبيض والحارّ والبارد والصلب والليّن والمرّ والحلو، وهي ما ندعوه صفاتٍ حسّية تشكل في الذهن الإدراكات. هذه الإدراكات هي مصدر معظم الأفكار التي لدينا، وهي تعتمد تماماً على الحواسّ، هذه الإدراكات هي الإحساس الخارجي.
ثانياً: الإحساس الباطني: ويتمثّل في ذلك النشاط الذي يمارسه الذهن بعملياته التي تدور حول الأفكار التي انتقلت إليه من الحواس، ومن إدراك وتفكير وشكٍ واعتقاد، وينجم عن ذلك بعض انفعالات مثل الرضا والضيق. ونستقبل من هذا النشاط أفكاراً متميّزة تميّز الأفكار التي نستقبلهامن الموضوعات الخارجية التي تؤثر على حواسنا. مثل هذه الأفكار لا علاقة لها بالإحساس الخارجي فهي تنشأ من ثَمّ عن الإحساس الباطني.
هذان هما المصدران الوحيدان اللذان تأتي منهما الأفكار البسيطة وليس في الذهن أدنى فكرةٍ لم تأتِ إليه عن أحد هذين المصدرين. وإذ تنجم معرفتُنا عن مصدرين متميّزين، الإحساس والإدراك، نرى لوك يتخذ موقفاً مختلفاً تماماً عن موقف المدرسة الحسّية. فبينما يذهب غاسّندي وهوبز وهما مفكران سابقان عليه، وكوندياك وهلفشيوس وهما متأخران عنه إلى أنّ انطباعات الإحساس هي المصدر النهائي لكل ما لدينا من معرفة، يتميّز لوك بالمصدر الثاني للأفكار وهو الإحساس الباطني أو الإدراك المتمثّل في نشاط الذهن. وبذلك تكون نظريته في مصدر المعرفة نظرية تجريبية وليست حسّية على نحو ما نجد عند أسلافه وأخلافه من الحسّيين.
ويعتبر البابُ الثاني من "المبحث" محاولةً لإحصاء الأفكار البسيطة وهي أفكار الإحساس وأفكار الإدراك وردّ أفكارنا الأخرى مهما تكن مركّبةً إلى هذه الأفكار البسيطة. فأفكار الإحساس بعضها يأتي إلى الذهنمن حاسّةٍ واحدةٍ مثل الألوان والأصوات والأذواق والروائح والحرارة والبرودة، أما الأفكار التي نحصل عليها من أكثرَ من حاسّةٍ فهي الحيّز أو الامتداد والشكل والسكون والحركة. وثمّة أفكارٌ تنجم عن نشاط الذهن كاللذة أو البهجة والألم أو الضيق والقوة والوجود والوحدة.
هذه الأفكار البسيطة هي خاماتُ معرفتنا. وحينيتزوّد بها العقل تكون له القدرة على تكرارها والمقارنة بينها وتوحيدها بطرائق لا تكاد تنتهي، ويمكنه بذلك أن يشكّل منها أفكاراً مركّبةً جديدة. ولكن ليس في وسع العقل على أيّ نحوٍ من الأنحاء أن يبتكر أو يشكّل فكرةً واحدةً بسيطةً جديدة في الذهن لا تأتي من المصدرَين اللذين أشرنا إليهما. إن قدرةَ الإنسان في هذا العالم الذي يكتنفه لا تتخطى تشكيل الخامات المادية التي في تمتناول يده تشكيلاً جديداً دون أن يكون في وسعه خلقُ ذرّةٍ من مادةٍ جديدة أو أن يعدم ذرّةً من مادةٍ قائمة. وكذلك شأن عقلِه يشكل من الخامات ما يروم ولا يسعه أن يخلق خامةً أو يعدم خامةً موجودة.
وفي استقبال الأفكار البسيطة لا يبدي العقل نشاطاً إيجابياً، وإنما دورُه سلبيّ بحت، فهو لا يستطيع أن يرفض تقبل هذه الأفكار أو أن يعدمها. فهو أشبه بالمرآة لا يمكنها أن ترفض استقبال الصور المنعكسة على صفحتها أو تعدّل فيها أو تمحوها. فالعقل قبل دخول الأفكار البسيطة، أشبه بحجرة مظلمة، والإحساس الخارجي والإحساس الباطني بمثابة النوافذ التي يلج منها الضوء. ولكن ما يكاد الضوء أن ينفُذ إلى هذا المكان المظلم، حتى يكون للعقل قدرةٌ لا حدّ لها لتعديل هذا الضوء وتحويله. ففي وسع العقل أن يبدع أفكاراً مركّبةً من أفكارٍ بسيطة في تنوّعٍ لا ينتهي بالجمع والمقارنة والفصل. وهذه الأفكار المركّبة لا يقابلها محسوسٌ خارجي كما هو الشأن في الأفكار البسيطة.
وتشمل الأفكار المركّبة أنماطاً ثلاثة:
1ـ الضروب، وهي تدلّ على صفاتٍ لا تتقوّم بذاتها، بل توجد في غيرها كالجمال في الزهرة أو الحديقة.
2ـ الجواهر، وهي أفكارٌ دالّةٌ على أشياء توجد بذاتها وتوصف بالضروب، كالزهرة والحديقة والإنسان.
3ـ العلاقات، وهي أفكارٌ تعبّر عن روابط كفكرة الأبوّة والأكبر والأصغر.
والأفكار المركّبة وهي ثمرة النشاط الإيجابي للعقل جعلت الفلاسفة العقليين يظنون أنها فطرية نابعة منه ولا دخل للتجربة فيها، ولذلك يحرص لوك على تحليل بعض الأفكار المركّبة كأمثلةٍ وشواهدَ يثبت بها أنها لا تعدو في نهاية الأمر أن تكون أفكاراً بسيطة آتيةً بدورها من التجربة. ففكرة اللامتناهي لا تعدو أن تكون ضرباً بسيطاً للكمّ، ذلك لأن العِظَم ليس إلا ضرباً بسيطاً للمكان، والسرمدية أيضاً ضرباً بسيطاً للزمان. فهي من قبيل الأفكار السلبية تنشأ حين يمضي العقل قُدماً في التفكير دون بذل أيِّجهدٍ لوقف توغّله الذي لا يقف عند حدّ. فهذه الفكرة وليدةُ نشاط العقل بتأليفه بين أفكارٍ بسيطة مستمَدّة من التجربة. فالعقل يبدأ من المتناهي، ذلك أننا لمّا كان جودُنا وجوداً متناهياً محدوداً بالمكان والزمان فإننا نتصوّر مكاناً لا نهاية له وزماناً لا يحدّه حدّ وذلك بطريق المقارنة والتخيّل.

[معضلة الجوهر والفكر المفارق]

أما فكرة الجوهر، فهي التي يسقط في يد لوك إزاءها. فإذا فحصنا فكرتنا عن الجواد أو الإنسان أو قطعة الذهب، ففي وسعنا أن نحل هذه الفكرة إلى عددٍ من الأفكار البسيطة مثل الامتداد والشكل والصلابة والوزن واللون مجتمعةً. ولكن من ملاحظة ما شاع بين الفلاسفة في عصر لوك وقبله من أنّ ثمّةَ جوهراً معيّناً تلتقي عنده هذه الصفات أو تقيم فيه وتنجم عنه، يتساءل لوك لئن كان في وسعنا أن نشكل فكرةً واضحةً أو نعطي تفسيراً معقولاً للجوهر؟
ويجيب صراحةً بالسلب، ففكرة هذا الجوهر "فكرةٌ مشوّشة مضطربة تنتمي إليها الصفات وتقيم فيها". إن اسم جوهر يدلّ على سند، مع أننا لا نملك يقيناً أية فكرة واضحة ومتميّزة عن ذلك الشيء الذي نفترض كونه سنداً.
إنّ من يتساءل عن كنه الجوهر لن يكون أسعد حالاً من الهندي الذي حين زعم أن العالم يحمله فيلٌ ضخم، سئلَ وما الذي يسند الفيل؟ فأجاب بأنه سلحفاة ضخمة، فحين سئل من جديد وما الذي يسند السلحفاة؟ أجاب أنه شيءٌ لا يعرفه. إن اللجوء إلى "شيءٍ ما" معناه أننا نتحدث كالأطفال حين يسألون عن معنى هذا الشيء الذي لا يعرفونه يجيبون بأنه شيءٌ ما ولكنهم لا يعرفونه. ومن ثَمّ يرى لوك أن التمييز بين الجوهر والضروب أو الأعراض تمييز لا نحسم فيه. ويبدو أن ثمّة نبرةَ شكٍ عند لوك نستشفها من خلال تحليله.
ويوصي لوك أولئك الذين يسرفون في الحديث عن الجوهر أن "ينظروا ما إذا كانوا في استخدامهم لها يطبقونها على الله اللامتناهي تطبيقها على الروح المتناهي والجسم بمعنى واحد، وما إذا كانت تمثّل ذات الفكرة عندما تسمى تلك الموجودات المختلفة غاية الاختلاف جواهر". وهو يرى أن كلمة جوهر حين تدل على المادة وعلى الذهن (متناهياً وغيرَ متناهٍ) تعبّر في كلّ [مرّةٍ] عن معنى مختلفٍ تمام الاختلاف. ولعلّ مما يجعل الأمرَ واضحاً في المناقشات الفلسفية، على الأقل بين أولئك الذين يسلّمون بثنائية المادة والذهن، أن يستعاض عن كلمة جوهر حين تطبق على الموضوعات غير الجسمية بكلمة ذهن، وحين تطبّق على الموضوعات الجسمية بكلمة مادة.
وتأسيساً على ذلك يتناول لوك الروح اللامادي والجسم، فهو يرى أن ليس ثمّة صعوبةٌ في فكرة روح لاماديّ كما أنه ليس ثمّة مشقة في فكرة الجسم. وليس ثمّة بالتالي تناقض ما في كون الفكر يمكن أن يوجد منفصلاً ومستقلاً عن الصلابة. كما أنه ليس ثمة تناقض في كون الصلابة يمكن أن توجد منفصلةً ومستقلةً عن الفكر، فهما معاً فكرتان بسيطتان مستقلةٌ كلٌ منهما عن الأخرى. ومادامت لدينا فكرتان بسيطتان عن الفكر والصلابة، فلسنا ندري لمَ لا نسلّم بوجود شيءٍ مفكر بدون صلابة، كما نسلّم بوجود شيء صلبٍ بدون تفكير أعني المادة، مادام ليس من العسير أن نتصوّر كيف أنّ الفكر يمكن أن يوجد بدون المادة والمادة يمكن أن توجد بدون الفكر.
ويختم لوك الباب الثاني بفصلٍ قصير ولكنه مثيرٌ للاهتمام عن تداعي الأفكار. وقد يكون لوك أول من استخدم هذا الاصطلاح وهو يعني به أن لبعض الأفكار ارتباطاً طبيعياً، وبعض الأفكار الأخرى تلتقي في أذهان الناس بحيث لا تكاد فكرةٌ تعنّ للذهن حتى تتوارد سائر الأفكار المرتبطة بها. ومن الأمثلة التي يسوقها على ذلك: إن بعض الأطفال يقترن عندهم إحساسُهم بالألم ببعض الكتب بحيث يصبح الكتاب مكروهاً لهم وتغدو القراءة أيضاً عذاباً لا يطاق.

3ـ تحديد الإطار العام للمعرفة[1]:

لم يكن جون لوك أوّلَ فيلسوفٍ إنجليزي بذل عنايةً كبرة للموضوعات السيكولوجية، ولكن في كتابه "مبحث في الفهم البشري" دراساتٌ مثمرة وملاحظاتٌ قيّمة جعلته أنفذ تأثيراً في هذا المجال، بحيث أنّ الباحثين الذين يؤرّخون لعلم النفس ينوّهون بـ لوك دائماً حين يتحدثون عن الأصول السيكولوجية للمعرفة. بيد أنّ غاية لوك هي البحث في طبيعة المعرفة الإنسانية وحدودها، ولا شكّ أنّ هذا البحث يقتضي تحليل عناصر المعرفة أي أصولها السيكولوجية، وهذا هو ما نهض به لوك في الباب الثاني، فهنالك الجانب الذاتي أي الذات العارفة وهنالك الجانب الموضوعي أي الأشياء الخارجية، وهنالك الارتباط بين الذات والموضوع بالإحساس والإدراك والتصوّرات. ثم تحديد الإطار العام للمعرفة بطريقة التحليل المنطقي التي لاحت بوادرُها في الفصول الأخيرة من الباب الثاني وبدت واضحةً غاية الوضوح في الباب الرابع.
في الباب الرابع تقييم للعلاقات وهي النمط الثالث من أنماط الأفكار المركّبة وتحديد لطبيعة الحدس والتفرقة بينه وبين البرهان، وكل هذه جوانب أشار إليها لوك في عرضه لعناصر المعرفة وأرجأ النظر إليها نظرةً تحليلية حينما يفرع إلى النظرة المنطقية الشاملة.
يرى لوك أن الذهن لا يسعُه اكتساب المعرفة إلا إذا عمد إلى الربط بين الأفكار بعضها والبعض الآخر، وينجم عن ذلك العلاقات:
1ـ الهوّية.
2ـ الإضافة.
3ـ الارتباط الضروري.
4ـ الوجود الحقيقي.
فالهوّية مفادها أنّ الفكرة تكون على ما هي عليه والفكرة الواحدة ليست هي الفكرة الأخرى وهي مبدأ عام شامل في المنطق لا يستطاع تصوّر معرفةٍ بدونه.
وفي الإضافة ترتبط الأفكار بعلاقات مجردة عديدة كقولنا إن المثلّثين تتساوى مساحتهما لو تساوت فيهما القاعدة والارتفاع.
 أما المبدأ الثالث وهو الارتباط الضروري فيتمثل في الأبحاث المنصبّة على ظواهر الطبيعة والتي تستهدف اكتشاف القوانين أعني الارتباط العلّي بين الأشياء.
 أما المبدأ الرابع وهو الوجود الحقيقي، فيتّضح في كل قضية نؤكد فيها وجود جوهر أو ننفي وجودَه مستقلاً عن إدراكِنا مثل ذلك القضية القائلة "أنا موجود".
ويقتضي الارتباط الضروري معرفةً حدسيةً ندرك بها العلاقة إدراكاً فورياً مثلما تدرك العينُ الضوءَ.
والمعرفة الحدسية لا تتوسّل بالاستدلال كوسيط، وهي معرفةٌ تفرض ذاتها علينا فلا نستشعر تجاهها تردداً ولا يخامرنا فيها شك. وعلى هذه المعرفة الحدسية ينهض اليقين والوضوح. ههنانرى لوك وقد أصرّ من قبل في الباب الثاني على أنّ المعرفة تنهض على اكتساب أفكارنا من التجربة بالإحساس الخارجي والباطني دون الارتكان إلى أفكار فطرية سابقة على التجربة، يذهب إلى أنّ الحدس أو الوضوح الذاتي لا يقلّ شأناً عن التجربة. بيد أننا نلاحظ أنه رغم تأكيده لأهمية الحدس في المعرفة يقرّ بأن مجاله محدود لقصور الذهن البشري. فالذهن في كثيرٍ من الأحيان لا يدرك العلاقة القائمة بين فكرتين إدراكاً فوريّاً، بل يلوذ بأفكارٍ تتخذ صورة الاستدلال من التجربة، ومن هنا يلاحِظ لوك أن البديهيات الهندسية تدرَك بالحدس المباشر، على حين أن حقائق الهندسة تخضع لبراهين تجعل الذهن لا يتقبّل النتيجة بيقينٍ مباشر مطلق، بل يتأدى إليها بالتدريج.
وكما أنّ للمعرفة شكلاً حدسياً فلها كذلك شكلٌ برهانيّ يلجأ إليه الذهن لعجزه عن إدراك جميع الأشياء بطريقةٍ حدسية. وهنالك شكلٌ ثالث أقلّ يقيناً حين ينظر إلى الأفكار على أنها مظاهر للوجود الحقيقي لشيء ما يقع خارج الإحساس. ولهذا الإدراك وضوح ينتفي معه الشك فيه. مثل ذلك إدراك الشمس عند النظر إليها نهاراً، يختلف عن إدراكها عندما تخطر فكرتها للذهن ليلاً. فالفكرة في الإدراك الأول تمثّل شيئاً واقعياً وفيها يقين أقل من يقين المعرفة الحدسية أو البرهان العقلي، ولكنه يقين في درجةٍ أعلى من المعرفة الاحتمالية.
هنا يقرّ لوك بوجود الأشياء الفعلي دون أن يلتمس تفسيراً لهذا الوجود، بل يردّه إلى الإرادة الإلهية، وإن كان يعترف بأن هذا ليس دليلاً مقنعاً. وهنا يحق لنا أن نتساءل كيف يتأتى لنا أن نحكم باتفاق الأفكار مع الواقع ما لم نتوصّل إلى الوجود الواقعي على نحوٍ مستقلّ عن الأفكار ذاتِها؟ لا يكاد لوك يتصدى لهذه المشكلة وإن كان يقرّ بصعوبتها، وإنما يؤكد ضرورة أن تأتي أفكارُنا البسيطة متسقة مع الواقع. إلا أننا ينبغي أن نفرّق بين الوجود الحقيقي للأشياء الماثلة لحواسّنا والأفكار الممثلة لها. وعندما تأتينا الأفكار من الذاكرة في غيبة موضوعاتها الحسية تكون المعرفة احتمالية. فعندما أرى الشمس فعلاً أعلم أنها موجودة على الحقيقة أما عندما تختطر بذهني فكرة الشمس ليلاً وأتوقّع على هذا عودتَها إلى الظهور في الصباح لا يكون هذا إلا حكمٌ احتمالي، وإن كان يصل عملياً إلى مرتبة اليقين.
وإدراك الأشياء الخارجية ينطوي ضمناً على إدراكاتنا لذاتنا. فلا يتأتى لنا أن ندرك الأشياء الخارجية دون أن يكون لدينا إدراك بحقيقة الذات. كيف أسمع وكيف أبصر شيئاً ما خارجاً عني دون أن أعرف على نحوٍ أوثق أنّ ثمّة كائناً يبصر ويسمع هو نا، فكل إدراكٍ لما هو غيري هو في الآن نفسِه إدراكٌ لأنايَ.
ومما تقدم يمكننا أن نلخّص الأركان الأساسية للمعرفة عند لوك على النحو التالي:
أولاً: الموضوعات الخارجية موجودةٌ وجوداً مستقلاً عن معرفتنا بها. ويمكن لهذه الموضوعات أن تستمر في الوجود حتى لو لم يكن هنالك أفرادٌ يدركونها. والأفكار من جهةٍ أخرى تعتمد على نشاط الذهن أي النشاط العقلي بالرغم من أنها لا يمكن أن تتقوّم وتتشكّل إلا إذا كانت عناصرُها مستمَدَّةَ أصلاً من الإحساس.
ثانياً: الموضوعات الخارجية أي الأشياء لها صفات لا تستمَدّ من العقل، وعلى ذلك فالأفكار التي تمثّل الصفات في العقل ليست مستمَدّة منه، وإنما هي مستمدَّةٌ أصلاً من الصفات الأولى في الأشياء أعني الكيفيات البسيطة، فمثل هذه الكيفيات تعتبر إذاً حقيقية.
ثالثاً: الأشياء الخارجية وصفاتها لا يؤثر فيها أننا نعرفها، ولكن الأفكار تخضع لتأثير العقل كمرحلةٍ ثانية بعد استقبال العقل في المرحلة الأولى للأفكار البسيطة.
رابعاً: لا توجد الأشياء الخارجية على نحو ما تبدو عليه الأفكار المركّبة (الجوهر، العلّية، الهوّية.. إلخ)، بل على نحو ما تكون الأفكار البسيطة (اللون، الشكل، الطعم.. إلخ)، ذلك لأن الأفكار المركّبة ليس لها مقابل حسّي خارجي مباشر. وعلى ذلك فما دام العقل يبني هذه الأفكار المركّبة بناءً مختلفاً عن البناء الواقعي للأشياء، فكل معرفة وثيقةٍ شأن المعرفة المستمدة من الأفكار البسيطة (الإدراكية، الحدسية). وعلى ذلك فالمعرفة المبنية على الأفكار المركّبة عرضةٌ للخطأ.
والملاحَظ أن موقف لوك هنا على نقيض موقف ديكارت. فنقطة البداية عند لوك هي إنكار كل أساس فطريٍّ للمعرفة ـ بيد أن تمييز لوك بين أفكار بسيطة وأفكار مركّبة يفضي حتماً إلى التسليم بأن هنالك أفكاراً ذاتية، وما دام الفيلسوف التجريبي قد سلّم بمثل هذه الأفكار فقد فتح في مذهبه ثغرةً تمكن أنصار المذهب العقلي من البرهنة على أنّ جميع الصفات ذاتيةٌ وليس ثمّة صفات قائمة بالفعل في الأشياء.
لقد وضعَنا لوك في مأزق، فهنالك أفكارٌ من ناحية وهنالك أشياءُ خارجيةٌ من ناحيةٍ أخرى. ولم يستطع لوك أن يعزّز لنا ذلك اليقين الذي نسعى إليه في خطواتنا العلمية وهو يقين لا يمكن أن نستند فيه إلى شهادة الحس، بل لا محيص عن أن ينبع من النشاط العقلي، وهو ما سلّم به لوك ضمناً في تمييزه بين الأفكار البسيطة والأفكار المركّبة وقوله إن للعقل في تأليف الأخيرة نشاطاً إيجابياً. ولكنه سرعان ما يتراجع فيذكر لنا أن الأفكار البسيطة التي يؤدي العقل فيها دوراً سلبياً أشدّ يقيناً ومتانةً من الأفكار المركّبة.

4ـ اللغة والفكر:

أهم ما يبسطه لوك في العلاقة بين اللغة والفكر، تلك النقائص التي لا مفرّ منها في استخدام اللغة والأخطاء التي نقع فيها نتيجة الإهمال، والوسائل التي يرى أنها كفيلةٌ بتلافيها.
فاللغة يمكن أن تستخدَم للتسجيل الخاص لأفكار الفرد، وفي هذه الحالة يكون الفرد حراً تماماً في اختيار رموز لغته، ولا يستلزم ثمّتئذٍ إلا أن يكون هناك اتساق بين الرموز واتفاق عليها لنقلها إلى الآخرين، بحيث تعني الكلمة ذات الفكرة عند المتحدث من جانب وعند المستمع من جانبٍ آخر. هذا مثل أعلى تحول دون تحققه أسبابٌ أهمها اثنان:
1ـ حيثما كانت الفكرة التي ترمز إليها الكلمة مركّبة كان من اليسير على المستمع أن يغفل جانباً من مضمونها قصد إليه المتحدث أو أن يضمّنها شيئاً أغفله المتحدث، ومن ثمّ فهما لا يستخدمان الكلمة بنفس الطريقة ولن يكون في مقدورهما أن ينقلا خواطرهما الواحدُ منهما إلى الآخر نقلاً خالصاً.
2ـ قد لا يكون للفكرة أيُّ ارتباط في الطبيعة وبالتالي لا يكون لها نمطٌ ثابتٌ يستطيع المستمع أن يفحصها على ضوئه، مثل ذلك فكرة الجمال أو النعمة.
وبينما لا نحتاج إلى الدقة في الاستخدام الجاري للغة في الحديث العادي تتضح هذه الدقة [أنها] ضرورية في نقل الحقائق العلمية. فهنا لا بد من فحص الكلمات الدالة على أفكار الجواهر والضروب المختلطة بما في ذلك العلاقات فحصاً بالغ العناية. وليس الأمر بهذه الخطورة في حالة أسماء الأفكار والضروب البسيطة. ذلك لأن كلمة "أزرق" تفهم فوراً في معناها التام، يفهمها كل من رأى الأزرق أو كل من يعرف أنّ الكلمة تشير إلى ذلك اللون. وكذلك الضروب البسيطة، فمعنى 7 أو مثلّث واضح على أكمل وجه.
إنّ هناك نقائصَ لا مفرّ منها في الكلمات وبخاصةٍ الدال منها على أفكار الضروب المختلطة والجواهر. وثمّة نقائص أخرى في استخدام اللغة يمكن أن نتجنّبها وهي تعزى إلى الخطأ والإهمال يجملها لوك في سبع:
1ـ نحن قد نستخدم كلماتٍ لا تكون لدينا أفكار مطابقةٌ لها فنردد أصواتاً كالتي يرددها الببغاء.
2ـ قد نستخدم الكلمات في غير ثبات، فنعبّر بكلمةٍ واحدةٍ عن مجموعةٍ من الأفكار البسيطة.
3ـ قد نؤثر الغموض لنخلع على كلماتِنا إهاباً من الروعة والفخامة نخفي به ما في خواطرنا من خلطٍ ولَبس، ويشدّد لوك عنا النكير على المناطقة والمحامين.
4ـ قد نأخذ الكملات على أنها الأشياء، أعني أننا قد نقع في غلطةِ افتراض أنه حيثما كانت هنالك كلمةٌ فلا بدّ أن يكون هنالك شيءٌ مطابقٌ لها.
5ـ نجعل كلماتٍ تقوم مقام أشياءَ لا نستطيع الدلالة عليها.
6ـ نستخدم كلماتٍ معناها واضح لنا غير عابئين بأن نجعل هذا المعنى واضحاً للآخرين.
7ـ نكثر من كلمات الاستعارة والكناية والتشبيه.
ولئن اغتفر هذا في الحديث والشعر فهو لا يغتفر في معرفة حقائق الواقع.
ويقترح لوك بعض الوسائل لمالافاة هذه العيوب:
1ـ ينبغي الاحتياط بحيث إذا استخدمنا كلمةً فلا بدّ أن نكون على بيّنة من الفكرة التي تدلّ عليها.
2ـ ينبغي معرفة هذه الفكرة بدقّةٍ وتميّز. فإذا كانت الكلمة تدلّ على فكرةٍ بسيطةٍ لزم أن تكون هذه الأخيرة واضحة، وإذا كانت تدل على فكرةٍ مركّبة وجب أن تكون هذه متحدّدة بحيث نعرف الأفكار البسيطة التي نجمت عنها وأن تكون هذه الأفكار البسيطة واضحة.
3ـ ينبغي احترا المواضعات المتّبعة في استخدام اللغة، وأن تستخدم الكلمات، كلما أمكن ذلك، في اتساق مع الاستخدام المألوف لها.
4ـ إذا انحرفنا عن الاستخدام المألوف ينبغي أن نبيّن طريقةً [تبيّن كيف] نفعل ذلك. وكذلك حيثما كان هناك ثمّة شكٌ حول الاستخدام الملائم للكلمة ينبغي أن نجعل استخدامها واضحاً. ففي حالة أسماء الأفكار البسيطة نسوق الأمثلة وفي حالة الضروب المختلطة نلوذ بالتعريف، وفي حالة الجواهر نجمع بين ضرب الأمثلة والتعريف.
5ـ يجب بقدر الإمكان استخدام الكلمة ذاتها في نفس المعنى باطّراد. ولكن لسوء الحظ نضطر في كثيرٍ من الأحيان إلى استخدام ذات الكلمة في معانٍ مختلفة عن بعضها اختلافاً طفيفاً.
ويأمل لوك أنه بالأخذ بهذه القواعد تأتي الكلمات صنواً دقيقاً للأفكار ويمتنع الخلط والتمويه.

ثالثاً: نصوص مختارة[2]:


الجهل يتخطّى معرفتَنا تخطّياً لا حدَّ له:

لمّا كانت معرفتنا غايةً في الضيق، كما بيّنت، فقد يمدنا بقبسٍ من النور أن نلقي نظرةً على الجانب المظلم وأن نحيط بجهلنا، وهو من حيث كونُه أوسع بما لا نهاية من معرفتنا، قد يعيننا كثيراً على تهدئة المنازعات وعلى تنمية المعرفة النافعة لو قصرنا خواطرنا، حين نكتشف إلى أيّ مدى تكون لدينا أفكارٌ واضحة ومتميّزة، في حدود تأمل تلك الأشياء التي تكون في متناول مفاهيمنا، ولا نلقي بأنفسنا في هوّة الظلام (حيث لا تكون لنا عيون نرى بها، ولا ملَكاتٌ تدرك أيَّ شيء) على زعم ألا شيء يتخطى دائرة إحاطتنا. إننا لكي نقنع بخرق هذا التصور الأخير، لا نحتاج إلى أن نمضي بعيداً. فكل من يعرف شيئاً يعرف في المقام الأول أنه ليس في حاجة إلى البحث طويلاً عن أمثلةٍ على الجهل. فأحقر وأوضح الأشياء التي نصادفها في طريقنا لها جوانب مظلمة لا تستطيع النظرة العجلى أن تنفذ إليها. وأوضح الأفهام وأوسعها عند المفكرين، تقف حائرةً مغلوبةً على أمرها إزاء كل جزئية من جزئيات المادة. إننا لن نعجب من أن يكون الأمر على هذا النحو حين ندخل في اعتبارنا أسباب جهلنا التي أفترض، مما سبق بيانه، كونها ثلاثة أسباب: أولاً ـ الحاجة إلى أفكار. ثانياً ـ الحاجة إلى علاقة تكتسب بين الأفكار التي لدينا. ثالثاً ـ الحاجة إلى تحديد الأفكار وفحصها"
(جـ 2 ص 212ـ 213)

الفهم بدون تجربة، أشبه بالحجرة المظلمة:

".. تلكم هي الطريقة الوحيدة (يعني التماس المعرفة من التجربة) التي أستطيع أن أكتشفَها والتي تأتي بواسطتها أفكارالأشياء إلى الفهم. فإذا كان لدى البعض أفكارٌ فطريةٌ أو مبادئ منزلة، ينعم بها العقل، وإذا كانوا مستوثقين من ذلك، فمن المستحيل على الآخرين أن ينكروا عليهم تلك الميزة التي يبزون بها أقرانَهم. أما أنا فحسبي أن أتحدث عما أجده في نفسي.
إنني لا أزعم أنني أعلم، وإنما أنا أبحث، ومن ثَمّ فليس في مستطاعي إلا أن أقرّ هنا ثانيةً بأن الإحساس الخارجي والإحساس الباطني لا يعدوان أن يكونا طريقين للمعرفة يستخدمهما الفهم، وهذا هو ما يسعني أن أجده. هذان الطريقان وحدهما، بقدر ما أستطيع أن أكتشف، هما النافذتان اللتان ينفذ منهما الضوء إلى الحجرة المظلمة".
(جـ 1 ص 211ـ 212)

عن حدود المعرفة:

إن المعرفة، كما ألمعنا، تكمن في إدراك الاتفاق أو الاختلاف في أية فكرة من أفكارنا، ويترتب على ذلك:
أولاً: لا يمكن أن تكون لدينا معرفةٌ أبعدُ مدى مما لدينا من أفكار.
ثانياً: لا يمكن أن تكون لدينا معرفةٌ أبعد مما يمكن أن يكون لدينا من إدراك لذلك الاتفاق أو الاختلاف. هذا الإدراك يكون (1) إما إدراكاً بالحدس، أو المقارنة المباشرة بين فكرتين، (2) أو بالعقل بفحص الاتفاق أو الاختلاف بين الفكرتين بتدخّل أفكارٍ أخرى، (3) أو بالإحساس بإدراك وجود الأشياء الجزئية".

عن المعرفة الحدسية:

تتألف معرفتنا كلها، كما ذكرت، في النظرة التي تكون للذهن على أفكاره، وهذه النظرة هي أقصى ضوءٍ وأعم يقينٍ يكون في مقدورنا بملَكاتنا وفي طريقنا إلى المعرفة؛ فليس من ضياع الوقت أن نتأمل بعض الشيء في درجات وضوحها. إن الوضوح المختلف لمعرفتنا يبدو لي كامناً في الطريقة المختلفة للإدراك التي يمارسها الذهن في الاتفاق والاختلاف على فكرةٍ من أفكاره. ذلك لأننا لو تأملنا في طرائقنا في التفكير، سنجد أن الذهن يدرك أحياناً اتفاق فكرتين أو اختلافهما إدراكاً مباشراً منهما دون تدخل أية فكرة أخرى. وهذا، في ظني، ما يمكننا أن ندعوه معرفةً حدسية. ذلك لأن الذهن هنا لا يتجشم أدنى مشقة في البرهنة أو الفحص، بل يدرك الحقيقة كما تدرك العين الضوءَ بأن تتجه إليه. وعلى هذا النحو يدرك الذهن أن الأبيض ليس أسود، وأن الدائرة ليست مثلثاً، وأن الثلاثة أكثر من الاثنين وتساوي 1+2. مثل هذه الأنواع من الحقائق يدركها الذهن عند النظر لأول مرةٍ في الأفكار معاً، بالحدس الخالص، دون تدخل أية فكرة أخرى، وهذا اللون من المعرفة هو أوضح وأيقن لونٍ في مقدوره. هذا الجانب من المعرفة لا يقاوَم، وهو كالشمس الساطعة، يفرض علينا أن ندركه مباشرةً حالما يتجه الذهن نحوه، ولا يدع مكاناً للتردد والشك أو الفحص، بل يغمر الذهن فوراً سناه الوضاء. على هذا الحدس يعتمد كل يقين وكل وضوح في معرفتنا.
(جـ 2 ص 176ـ 177)

العقل والمعرفة البرهانية:

لكلمة "عقل" في اللغة الإنكليزية دلالاتٌ مختلفة. فهي تدل أحياناً على المبادئ الصحيحة والواضحة، وأحياناً على العلّة، وبوجه خاص العلّة الغائيّة. ولكنني سأعتبرها هنا ذات دلالةٍ مختلفة عن ذلك كلِّه، أعني أنها تعبّر عن ملَكةٍ في الإنسان يتميّز بها عن السائمة، ويكون من الجليّ أنه يتخطّاها بفضله.
وإذا كانت المعرفة العامة، كما بيّنا، تتألف في إدراك الاتفاق والاختلاف بين أفكارنا الخاصة، ومعرفة وجود جميع الأشياء الخارجة عنا (باستثناء الله وحده، حيث إن وجوده يعرفه كل إنسان معرفة يقينية ويبرهن على ذلك من وجوده الخاص) نحصلها بحواسنا فقط، فأي مكان يكون لممارسة أية ملَكةٍ أخرى، غير الحسي الخارجي  والإدراك الباطني؟ وما وجه الحاجة إذاً إلى العقل؟ إن حاجتنا إليه لعظيمة جداً لتوسيع معرفتنا.
(جـ 2 ص 385ـ 386)
(.. ويمكننا في العقل أن ندخل في اعتبارنا الدرجات الأربع التالية: الأولى: وهي أعلاها، اكتشاف الحقائق والوصول إليها. والثانية: تنظيمها وترتيبها ترتباً منهجياً ووضعها في سياقٍ واضح صالح، ليتيسر إدراك ارتباطها وقوتها. الثالثة: إدراك ارتباطها. والرابعة: الوصول إلى نتيجةٍ صحيحة. هذه الدرجات الأربع يمكن أن نلاحظها في أيّ برهان رياضي: فنحن ندرك ارتباط كل جزءٍ بالجزء الآخر حين نقيم البرهان، هذا جانب، وجانبٌ ثانٍ أن ندرك اعتماد النتيجة على جميع الأجزاء، وجانبٌ ثالث أن نجعل البرهان واضحاً جلياً في ذاته، وجانبٌ مختلف عن هذه الجوانب كلِّها، أن نجد لأول مرة هذه الأفكار والبراهين الوسيطة التي تشكل منها البرهان. (جـ 2 ص 387)

عن الأفكار المركّبة:

لقد اعتبرنا إلى الآن تلك الأفكار التي لا يعدو الذهن في تقبلها أن يكون سلبياً، ألا وهي الأفكار البسيطة التي نستقبلها من الإحساس والإدراك، كما ألمعنا، ويترتّب على ذلك أن الذهن لا يستطيع أن يشكل فكرةً أو أن تكون لديه فكرةٌ لا تتألّف منها. ولكن مع كون الذهن سلبياً في استقبال جميع أفكاره البسيطة، نراه ينهض بمجموعةٍ من الأفعال الخاصة به، حيث يشكّل أفكاراً جديدة تكون أفكارُه البسيطة خاماتٍ وأسساً لها. وأفعال الذهن التي يمارس بها نشاطه على الأفكار البسيطة هي ثلاثة أفعالٍ رئيسية: (1) جمع أفكارٍ بسيطة عديدة في فكرةٍ واحدة مجمّعة وهكذا تشكل جميع الأفكار المركّبة. (2) الجمع بين فكرتين سواءٌ أكانتا بسيطتين أم مركّبتين جنباً إلى جنب بحيث ينظر نظرةً شاملةً دون توحيدهما في فكرةٍ واحدة، وبهذه الطريقة يصل إلى جميع أفكار العلاقات. (3) فصل الأفكار عن جميع الأفكار الأخرى التي تصحبها في الوجود الواقعي، ويطلق على هذا التجريد، ويشكل بذلك جميع أفكاره العامة. (جـ 1 ص 213ـ 214)

فكرة العلاقة أوضح من الأشياء التي تربط بينها:

لئن كانت العلاقة غيرَ متضمّنة في الوجود الواقعي للأشياء، ولكنها خارجةٌ عنها ومستقرأةٌ منها، إلا أن الأفكار التي تعبر عنها الكلمات الدالة على علاقات، هي في كثيرٍ من الأحيان أوضح وأشد تميّزاً من تلك الجواهر التي تنتمي إليها بالفعل. فالتصوّر الذي لدينا عن الأب أو الأخ أوضح بقدرٍ كبيرٍ وأشدّ تميّزاً من التصوّر الذي لدينا عن الإنسان. أو، إذا شئت، من الأيسر أن تكون لدينا فكرةٌ عن الأبوّة من أن تكون لدينا فكرةٌ عن الإنسانية، ويمكنني بيسر أعظم أن أتصوّر ما يكونه صديق من أن أتصور ما يكونه الله، ذلك لأن المعرفة بفعل واحد أو فكرةٍ واحدةٍ بسيطة، هي في معظم الأحيان كافيةٌ لتزويدي بفكرة علاقة. ولكن معرفة جوهرٍ موجودٍ تستلزم تجميعاً دقيقاً لأفكارٍ شتى. إن أيّ شخصٍ يقارن بين شيئين، من الصعب افتراض أنه لا يعرف جلية الأمر حين يقارن بينهما، وعلى ذلك فهو حين يقارن بين شيئين تكون لديه فكرةٌ واضحةٌ جداً عن تلك العلاقة. ومن ثمّ، فأفكار العلاقات قادرةٌ على الأقل أن تكون أكمل وأميز في أذهاننا من أفكار الجواهر. فلما كان من العسير عامةً أن أعرف الأفكار البسيطة التي تشكل علاقةً ما أفكر فيها أو لديّ اسمٌ لها، مثلما أقارن بين شخصين من حيث انتماؤهما إلى أبٍ واحد، فمن غاية اليسر أن نشكل أفكار الأخوة دون أن يكون لدينا بعدُ فكرةٌ كاملةٌ عن الإنسان.
(جـ 1 ص 430ـ 431)








[1] يقتضينا الحرص على تسلسل الأفكار الأساسية للكتاب في هذا التلخيص التحليلي أن ننتقل من الباب الثاني حيث يستعرض لوك عناصر المعرفة إلى الباب الرابع حيث يحدِّد الإطار العام لها مرجئين الباب الثالث وهو عن صلة اللغة بالفكر إلى نهاية المطاف.
[2] ارجع إلى "مبحث في الفهم الإنساني" في جزأين (الأول يشمل البابين الأول والثاني، والجزء الثاني يضم البابين الثالث والرابع) نشره مع مقدمة مستفيضة "ألكسندر كامبيل فريزر" سنة 1894 أكسفورد.