الأحد، 31 ديسمبر 2017

العرب لم يغزوا الأندلس؛ ليلى حسن.




العرب لم يغزوا الأندلس
ليلى حسن


وجوه شديدة البياض عيون زرقاء [من] صحاري الحجاز

سنة 2010 قمت بزيارة قصر الحمراء في غرناطة . الذي بناه بنو نصر( النصريون، بنو الأحمر) . النصريون ينسبون انفسهم الى صحاري الجزيرة و يقولون ان جذورهم تعود لقبيلة الخزرج القحطانية ومن سلالة سعد بن عبادة الخزرجي اهم ما اثار انتباهي هو تواجد عبارة "ولا غالب إلا الله " في كل غرف وباحات القصر. و شيئ محير للغاية هو جداريات القصر التي تصور الملوك النصيريين الذين تعاقبوا على حكم مملكة غرناطة.الجداريات تصور لنا ملوكاً ذوي بشرة شديدة البياض وشعر احمر اشقر وعيون زرقاء. طبعا هذه الجداريات تؤكد ان هؤلاء القوم لا علاقة لهم بصحراء الحجاز. المرجح انهم ونداليين جرمان اعتنقوا الاسلام و اخترعوا لانفسهم نسبا عربيا كحال عبد الرحمان الداخل الذي اخترع له نسب اموي بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك واعتبره من ذرية النبي. بينما نحن نعلم أنه نموذج جرماني أشقر اللون فاقعه، وحافظت ذريته على هذه الخصائص، خلال قرنين من الزمن: بشرة فاتحة اللون وعيون زرقاء وشعر شديد..




جيش غرناطة
صور مأخوذة من مجلد Cantigas de Santa Maria المحفوظ في El Escorial) شمال مدريد . اهمية الصور تكمن ان المجلد دون سنة 1284 م اي في فترة معاصرة للملكة غرناطة. من خلال الصور يتبين لنا ان المحاربين في جيش غرناطة حالهم كحال ملوكهم . انهم ذوو بشرة شديدة البياض و شعرهم اشقر احمر بنسبة كبيرة......في احدى الصور نرى النجمة السداسية على دروع المقاتلين في جيش غرناطة.






من خلال هذه الصورة يتبين ان الرسامين كانوا ياخدون في الحسبان لون البشرة و الشعر

العرب لم يغزوا الأندلس
اخبار الأندلس: بعد مئة سنة من دخولها
.. إن أولاغي
Ignacio Olagüe يعتقد أن أخبار فتح الأندلس بدئ بكتابتها بعد قرن من تاريخ حدوثها. وقد كتبت اعتماداً على بعض الروايات المصرية التي سمعها طلاب جاؤوا من الأندلس إلى القاهرة.. [أندلسيون يكتبون تاريخ الأندلس بناءً على ما سمعوه في مصر؟] فسمعوا ما سمعوا عن الفتح المزعوم. وإذن، وبعد مئة سنة من دخول العرب إلى الأندلس، راح المسلمون يبالغون في وقائع الفتح إلى حد الأساطير. ولكن المسيحيين، في المقابل وجدوا أن خرافة الفتح تناسبهم لتفسير هذا التحول في إسبانيا.. نحو الإسلام. ولكن أي إسبانيا هذه التي تحولت؟ إنها إسبانيا "الآريوسية" الموحدة.
لقد كان بين الطلاب الأندلسيين العائدين من القاهرة "ابن حبيب"" الذي وضع كتاباً في التاريخ ضمَّنه المعلومات التي سمعها في شأن الغزو. وكان هذا الكتاب مفتاح كل ما بني بعد ذلك في مسألة اجتياح العرب إسبانيا. ولكي نأخذ فكرة عن أهمية هذا الكتاب، يذكّرنا إغناسيو أولاغي، بما قاله المؤرخ الألماني "راينهارت دوزي" في كتابه "بحث في إسبانيا. تاريخها وأدبها في القرون الوسطى": "ألم يتكون لديك أيها القارئ انطباع بأنَّ ما تقرأ لدى ابن حبيب هو أقرب إلى نصوص ألف ليلة وليلة"..
يقول أولاغي: لو تم غزو إيبريا عربياً سنة 711م لكان كثير من المؤرخين الذين عاصروا تلك الفترة شهدوا على هذا الحدث الكبير. ولو فرضنا أن الحرب الأهلية أتلفت جميع الشهادات، لكان ينبغي أن تشير أخبار القرن التالي -يعني الثامن الميلادي- إلى هذا الحدث الكبير، ولو في نص واحد على الأقل. "وعندما يتعلق الأمر بغزو ما، فلا يمكن أن يكون دور الغزاة غامضاً، فالغزاة والمغزوون هنا متمايزون بشكل واضح. الغزاة من شعب غريب يحملون عادات ومفاهيم ثقافية تنتمي إلى حضارة أخرى يجهلها أبناء البلد المغزو. لكن.. لم يظهر شيء من هذا القبيل في مانعرفه من تلك الحقبة. أما الأخبار التي نقلها ابن حبيب وزملاؤه في القرن التالي عن رواة القاهرة، فلم تنتشر وتترسخ في الرأي العام إلا ثمرة جهود استمرت قروناً طويلة. وحتى.. بعد مئة سنة من نشر كتاب ابن حبيب، لم يقبل الرواة البربر الذين نقَلوا معظم روايات الكتاب، النظرية، وقالوا إن غزو إسبانيا تم فعلاً.. ولكن من قبل المراكشيين(!) وكان يجب الانتظار حتى القرن الثاني عشر -الميلادي- لتتخذ الخرافة -خرافة الغزو- بنية متآلفة وغير متناقضة. أما.. في الجانب الآخر فقد آثار ظهور الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا عقدة لدى المسيحيين الغربيين. ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية قبلت هذه الخرافة في النهاية على مضض." ويمحص المؤرخ الإسباني مسألة عبور طارق بن زياد المضيق، بناء على رواية ابن حبيب بالطبع مشيراً في البداية إلى الصعوبات الجغرافية بقوله:
"للوصول إلى إيبيريا كان على العرب أن يجتازوا المضيق البحري الذي يفصل إفريقيا عن أوروبا. الجمل "سفينة الصحراء" الذي يسبب "دوار البحر" لمن يمتطيه دون خبرة. إنه سفينة صحراوية وليست بحرية. كذلك البربر، لم تكن لديهم سفن بحرية. حتى لو تزود العرب بالزوارق، فقد كان عليهم أن يجدوا الربابنة المهرة، خاصة أن مضيق جبل طارق الذي يصل ما بين البحر المتوسط الخالي من المدّ والجزر وبين الأطلسي، يشكل ممراً لتيارات قوية تسير في الاتجاهين، وتهزه على نحو دائم رياح عنيفة. إنه ممر خطير للغاية، ويعرف أنه مقبرة البواخر.". [ألم يكن لدى الأمويين أسطول بحري؟]
حكاية الزوارق الأربعة .. والغزو
ثم ينتقل أولاغي إلى التدقيق في جانب آخر من الموضوع حسب ما ورد في "أخبار مجموعة" المنسوب إلى ابن حبيب(*) قائلاً:
"أعار المدعو أولبان- يوليان- العرب أربعة زوارق، لا يزيد الحد الأقصى لحمولة الزرق الواحد عن خمسين رجلاً إضافة إلى البحارة، ويحتاج طارق في هذه الحالة، لنقل جيشه إلى خمس وثلاثين رحلة، أي: سبعين يوماً.. تقريباً. ذاك أن هذا النوع من الزوارق يحتاج، على الأقل إلى يوم واحد ليقطع المسافة، وإذا حسبنا الأسابيع ذات الطقس الرديء، التي تتوقف فيها الرحلات، بلغت هذه المدة ثلاثة أشهر، ولا يمكن أن يتم إبحار كهذا، إلا إذا استطاع النازلون على شواطئ إسبانيا النجاة من مجزرة"
يستطرد المؤرخ الإسباني في الاتجاه نفسه فيقول:
"ينبغي القيام بمئة رحلة على الأقل، لنقل رجال طارق السبعة آلاف في ظروف عادية وشعب بحريٌّ وحده، من مثل أبناء مدينة قادش Cadés، على نحوٍ أساسي يستطيع أن ينجز مثل هذه العملية. خاصة أن شعب هذه المدينة وهي ساحلية تقع جنوب إسبانيا- كان يقوم برحلات إلى انكلترا منذ الألف الثالث قبل الميلاد بحثاً عن القصدير. [؟] فضلاً عن أن بحارة قادش تمكنوا من الإبحار بمحاذاة شاطئ إفريقيا الغربي. وربما توصلوا إلى الدوران حول إفريقيا."
يضيف أولاغي "أن هؤلاء البحارة هم الذين ساعدوا "الفاندال Les Vandales" الجرمان على الانتقال في الاتجاه المعاكس. وبعد مرحلة من الانحطاط البحري كان بحارة قادش مازالوا قادرين، في أوائل القرن الثامن، على امتلاك زوارق تستطيع نقل الجيوش. والسؤال هو: لماذا أدّى هؤلاء الأندلسيون هذه الخدمة إلى الذين جاؤوا لإخضاعهم. فلو سلّمنا أن "طارق" خدع الإيبيريين ونجح في إخفاء نواياه، فلماذا ساعد هؤلاء البحارة موسى بن نصير في نقل الدعم لطارق بعد بضعة أشهر؟!".
وفي المقابل يقول الدكتور شاكر مصطفى إن المؤرخين يتحدثون عن إحراق السفن التي جاء طارق عليها ليقطع أملهم في العودة، أو ليجعل العرب الذين لا يثقون به، يؤمنون أنه جعل نفسه والبربر الذين معه أمام مصير واحد.
رواية تشبه الخيال المسرحي
إنه رأى أن الشكوك تحوم حول هذه الرواية كلها التي تشبه الخيال المسرحي، فقصة إحراق المراكب إنما رواها أول من رواها الإدريسي في "نزهة المشتاق" وابن الكردبوس، وهما من القرن الهجري السادس، ثم رواها "الحميري" صاحب: أرض المعطار" بعدهم.. فلماذا لم يذكرها المؤرخون السابقون على مدى خمسة قرون سابقة؟ والعملية نفسها، تروى عن عدد من القواد الذين سبقوا طارقاً، ومنهم كما يذكر الدكتور مصطفى: "أرياط الحبشي" الذي عبر البحر إلى اليمن، والقائد الفارسي الذي رافق سيف بن ذي يزن إلى اليمن و"أسد بن الفرات" فاتح صقلية إلخ. "ولماذا يحرق طارق السفن ولا يأمرها بالعودة إلى ساحل المغرب؟" "وكيف يحرق أسطولاً لا يملكه؟!"
.. أما قصة خطبة طارق بن زياد فهي قصة أخرى. وهي التي تنسب إليه وفيها يقول: "أيها الناس، أين المفر؟! البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة، أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم العدو بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا قوت إلا ما تستخلصونه من عدوكم...".
.. يقول د. شاكر مصطفى: إنها بليغة جميلة شائعة، ولكن الشكوك تحف بها بدورها. فمن أين لابن زياد هذه البلاغة؟ وكيف يخاطب جنداً كانوا في جمهرتهم من البربر الذين لا يفقهون العربية؟!
ماردة وموسى والخضاب... المرعب
............. ولكن هذه الحيلة لم تنفع المسلمين واستشهد بعضهم كما يقول المقري. وعندئذ فكر موسى بن نصير على نحو آخر.. لقد أراد أن يتفاوض مع أهل ماردة، وأن يوقع الرعب في قلوبهم على نحو فريد.. هو التلاعب بلون شعره، بواسطة صبغة أو تخضيبه "واحتال في توهيمهم في نفسه، فدخلوا عليه أول يوم فإذا هو أبيض الرأس واللحية لمّا نصل خضابه -أي: زال أثر الصبغة وظهر الشيب- فلم يتفق لهم معه أمر. وعاودوه قبل الفطر بيوم فإذا هو قد قنأ لحيته -أي صبغها- فجاءت كضرام عرفج -أي: حمراء كشجر عرفج سريع الالتهاب- فعجبوا من ذلك. وعاودوه يوم الفطر، فإذا هو قد سوّد لحيته فازداد تعجبهم منه، وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله، فقالوا لقومهم: إنا نقاتل أنبياء يتخلقون كيف شاؤوا، ويتصورون في كل صورة أحبوا: كان ملكهم شيخاً فقد صار شاباً، والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله، فمالنا به طاقة. فأذعنوا عند ذلك، وأكملوا صلحهم مع موسى."
لابأس أن نتوقف عند تعليق المؤرخ الإسباني "أولاغي" على هذه الروايات حول تساقط المدن والبلدان الإسبانية، في أيدي "الغزاة العرب". فهو ينقل عن ابن حبيب، أو تلميذه، في كتاب "أخبار مجموعة" أنه "بعد انتصار طارق في معركة وادي لكه Guadalete اجتاز ممر الجزيرة Algeciras ثم توجه نحو مدينة أسيغا ECIGA .
يقول أولاغي: في الواقع يشكل هذا الممر فخاً حقيقياً يساوي الدخول فيه تسليم الرأس إلى العدو. أما مدينة اسيغا فتقع على مسافة 160كم من مخرج هذا الممر، والطريق إليها مزروعة بمدن مثل رندة Randa وأوسيما Osuma وغيرهما: مدن قوية منذ القدم، قبل الفتح الروماني."
.. ويسخر أولاغي من الرواية عن احتلال قرطبة، بواسطة سبعمئة فارس حصلوا على الخيول بعد نزولهم في إيبيريا، قائلاً:
"هكذا، إذن نجحت هذه الكوكبة من الفرسان في عمل باهر يعتبر فريداً في سجلات الحروب، فقد استطاعوا احتلال أهم مدن إيبيريا، تلك المدينة، كان يحميها سور هائل بني في أواخر عهد الأمبراطورية الرومانية، ولا يزال قسم منه منتصباً حتى الآن."
وهناك من ظنهم أكلة لحوم البشر‍
.. وإذا كان "المقري" قد ذكر أن أهل مارده Merida، ظنوا قوم موسى بن نصير، حين صبغ لحيته "أنبياء يتخلّقون كيف شاؤوا" فإن أولاغي يروي أن بعضهم حسبهم من "أكلة لحوم البشر" ثم يقول متحدثاً عن مارده:
"كانت هذه المدينة من أهم مدن إيبيريا، كان يسكنها أكثر من نصف مليون نسمة [؟] (ولابد أن العرب فقدوا عقولهم أمام عظمتها) وقد ظلت حتى القرن الثامن مركزاً حضارياً هاماً، خصوصاً بعماراتها الأنيقة. ولم تكن قرية مأهولة بسكان جهلة. ولم يكن من الممكن خداعهم بحيلة: تغيير لون اللحية..!"
وثمة فكرة أخطر وأهم كثيراً مما تقدم جميعاً، يقدمها أولاغي نقلاً عن "أخبار مجموعة" فهو يقول:
عندما نزل موسى بن نصير في مدينة الجزيرة Algeciras أخبروه عن الطريق التي اجتازها طارق فأعلن عدم رغبته باللحاق به. فقال له المسيحيون الذين يلعبون دور الدليل: "نقودك في طريق أفضل من طريقه، حيث تجد مدناً أكثر أهمية من المدن التي استولى عليها، وحيث -
سيداً دون منازع" ويتابع أولاغي:
"لم يعرف العرب أين يذهبون، فالمسيحيون هم الذين يقترحون لهم الأفكار. أما "الغزاة" فكانوا تحت رحمة السكان المحليين!!"
.. فلو كان هؤلاء المسيحيون الإسبان يشعرون بالعداء إزاء هؤلاء الغزاة الأجانب، فكيف يتطوعون ليدلوهم على طريق أفضل، ويخبروهم عن مدن أهم للاستيلاء عليها؟
.. ويستطرد أولاغي:
"وماذا عن المدن الحصينة مثل طليطلة Tolido أو رندة Randa؟ صمدت هذه الأخيرة، مدة نصف قرن في وجه أمراء قرطبة الأشد قوة من طارق وموسى مجتمعين. أن يأخذ العرب مدناً بالخدعة الحربية، أو بفضل الخيانات المحلية أمر يمكن فهمه، ولكن.. أن يجتاحوا بسهولة بالغة، مئات المدن، كان بعضها من أهم مدن العالم آنذاك.. فأمر آخر.".
.. وفي تنويع آخر على اللحن ذاته: أن العرب لم يغزوا الأندلس، ينطلق أولاغي منطلقاً يصب في الطاحونة ذاتها. فهو يقول: إن القوط في كتابات البربر يحملون أسماء عربية، لذلك يصعب حتى على المختصين التعرف على أصول هذه الأسماء اللاتينية والجرمانية" ويتابع: "ولأن الأخبار اللاتينية لم تتحدث عن الأحداث التي جرت في إيبيريا بعد سنة 711، أي بعد أن خسرت الارثوذكسية إيبيريا، يصبح من المستحيل التعرف على أسماء الإيبيريين الذين لعبوا دوراً متميزاً عن غيرهم. فما هي حقيقة الرجل الذي عرف تحت اسم عبد الرحمن الغافقي"
هل كان الفرسان.. من جبال البيرنة؟
. ومن المعروف أن هذا الغافقي العظيم كان قد اندفع من الأندلس عبر جبال البيرنة سنة 732م نحو فرنسا.. حيث كانت معركة بواتيه Poitiers بينه وبين شارل مارتل، في السنة نفسها في شهر تشرين الأول، وقد هزم عبد الرحمن في هذه المعركة وقتل.
إن أولاغي يمضي بعيداً في هذا الاتجاه، فيتساءل:
"ألا يمكننا الافتراض أن أولئك الفرسان الذين اندفعوا في غزواتهم حتى مدينة بواتيه والذين تدّعي الروايات أنهم عرب، لم يكونوا إلا من سكان جبال البيرنة، ولم يعرفوا إلا تحت أسماء عربية؟"
.. ويصل هذا المؤرخ الإسباني في هذا الاتجاه إلى حدود المبالغة فيقول:
"حوالي سنة 755م توصل محارب شجاع إلى احتلال قرطبة والسيطرة على الأندلس، نقلت الروايات البربرية اسمه، وسكتت عنه الروايات اللاتينية. لقّبه العرب بالمهاجر ثم بالداخل. من أجل تدعيم هيبته ونفوذه، ثم من أجل مداهنة ذريته التي درج الناس على مدحها ومصانعتها، رأى المؤرخون أن ينسبوا له أصلاً أموياً في دمشق. وذهب البعض إلى أبعد من ذلك واعتبره من ذرية النبي (ص).. وكثيراً ما أعطي هذا الوسام المشرف إلى زعماء تلك المرحلة".. ثم ينتهي أولاغي إلى هذا الاستنتاج المدهش:
"يقول المؤرخون التقليديون إن عبد الرحمن كان من ذرية خلفاء دمشق -الأمويين- بينما نحن نعلم أنه نموذج جرماني أشقر اللون فاقعه، وحافظت ذريته على هذه الخصائص، خلال قرنين من الزمن: بشرة فاتحة اللون وعيون زرقاء وشعر شديد الشقرة. إن استمرار هذه الخصائص الفيزيولوجية في ذرية الأمير "العربي" لفتت أنظار المؤرخين الأندلسيين المسلمين، وقد فسّر بعضهم هذا الأمر مستنداً إلى ما يقوله كُتّاب الأخبار البربر حول أن أُمّه كانت بربرية (من قبائل الطوارق الذين يحملون هذه الفيزيولوجية الجرمانية).
المورثات السائدة والمتنحّية
.. ويسخّر أولاغي قوانين الوراثة، من أجل دعم وجهة نظره وتفسير حالة عبد الرحمن الداخل، ولاسيما القانون المعروف باسم "الموّرثات السائدة والمتنّحية"، فيقول:
"من المعروف حسب هذا القانون أن العيون الزرقاء هي التي تتنحى لصالح العيون السوداء. أي أن الفرد ذا العينين الزرقاوين لا يمكن أن يحمل جينة Gene (مورثة) العيون السوداء. ومع أن العرق السامي يتميز بالعيون السوداء، فيمكن أن يحمل السامي جينة العيون الزرقاء وتهيمن الأولى على الثانية. أما العكس فمستحيل. ولتبرير زرقة عيون عبد الرحمن "السامي" علينا أن نفترض أن والده المزعوم ساميّاً يحمل جينة العيون الزرقاء. هكذا اتحدت جينة الوالد الزرقاء مع الجينات التي تحملها الوالدة البربرية، ولابد أن يأتي الأمير بعيون زرقاء. هذه النتيجة رغم ندرتها ليست بعيدة عن الخيال. إلا أن ما هو مستبعد فعلاً، أن يأتي ابن السامي والبربرية، فاتح البشرة وأشقر الشعر. يتطلب الأمر فعلاً معجزة بيولوجية خارقة." وهكذا ينتهي أولاغي إلى أن عبد الرحمن الداخل: "لم يكن أموياً ولا سامياً ولا بربرياً. وهذا ما يؤكده السياق التاريخي، تماماً.. كما يؤكد أن الغزو العربي لم يحدث مطلقاً."
.. ويمضي المؤرخ الإسباني مؤكداً خطواته في هذا المجال فيقول:
"حتى لو افترضنا أن آخر شخص من سلالة الأمويين قد اختار إيبيريا البعيدة لهجرته وتخلى طوعاً عن جميع الخيارات الجغرافية التي كانت في متناول يده، فقد كان عليه أن يبذل جهوداً ليفرض نفسه وسلطانه، تقترب هي الأخرى من حدود الأسطورة: كان عليه في هذه الحالة أن يقاتل الإيبيريين الماقبل- مسلمين الذين ليس لديهم أي سبب لتفتنهم أصوله المزعومة، كان عليه أن يقاتلهم مدة ثلاثين سنة."
أعلام أندلسيون ... من أصل ايبيري
... وهو يرفض فكرة تفوق عبد الرحمن العسكري قائلاً:
"إن المؤرخين التقليديين فسّروا سيطرته على إيبيريا بقدراته العسكرية التي دأبوا على كيل المدائح لها. إلا أن حقيقة عبقريته العسكرية لا تكفي لتفسير نجاحه، فخلال القرون الوسطى حاول الكثيرون من العسكريين الذين يعترف لهم المؤرخون بالإجماع بموهبة عسكرية مشابهة، فرضَ سلطانهم على إيبيريا، ولم ينجحوا بالمقدار نفسه الذي توصل إليه عبد الرحمن.".
ويذهب أولاغي أبعد من هذا فيذكر أنه "كان على كل رجل عظيم أن يعود في أصوله إلى العرب. والإيبيري الذي لم يكن بإمكانه ادعاء الرجوع بأصوله إلى الرسول (ص) كي لا ينافس أمراء قرطبة، اكتفى باتخاذ إبراهيم وهاجر جدَّين له". وهو يجزم أن اثنين من أعلام الأندلس هما من أصل إيبيري. فيكتب:
"أما الإيبيريون التوحيديون الأحاديون، فكانوا قد بدؤوا منذ القرنين التاسع والعاشر يتخذون أسماء عربية، والأمثلة كثيرة، خصوصاً في صفوف كبار كتاب العربية، الذين نعرف بصورة أكيدة أصلهم الإيبيري: ابن حيان وابن حزم اللذين لا خلاف حول أصلهما الإيبيري.".
.. إذن هكذا، فإن إغناسيو أولاغي يرفض رفضاً قاطعاً فكرة غزو العرب شبه الجزيرة الإيبيرية، فالعرب والمسلمون لم يفتحوا إسبانيا عسكرياً, وقد حدث التحول إلى الإسلام في الأندلس عبر حركة الأفكار وتصارعها، ثم هيمنة الفكرة-القوة، على حد تعبير أولاغي، وهي التي شكلت عصب الحضارة العربية-الإسلامية في ثلاثة أرباع العالم.. في تلك الأيام.
الأريوسية ... تصارع الكاثوليكية
إن هذا المفكر الإسباني يفرد صفحات كثيرة للحديث عن الصراع الديني الذي شهدته إيبيريا قبل الحقبة العربية. فقد دخلت الأرثوذكسية إلى إسبانيا القوطية الكاثوليكية، ودخلت أيضاً الآريوسية. وكان ثمة حضور لليهود.. ولكن المسيحية عموماً في شبه الجزيرة الإيبيرية كانت في نهاية القرن السابع في حالة انحلال كامل خصوصاً بعد قرن سيطرت فيه الآريوسية. "وبإجماع نادر اعترف جميع المؤرخين بفشل المسيحية في المملكة القوطية. ولأنهم لم يروا التزامن بين أحداث إيبيريا وبين الهيجان الديني في الشرق، فسّروا هذا الفشل بأسباب محلية وعابرة، فعزوا ذلك إلى الضعف الذي شجع العدو الخارجي على غزو البلاد. لكن خرافة هذا الغزو حجبت عن أنظارهم الانقسام الإيديولوجي في المجتمع الإيبيري.".
ويعود أولاغي إلى التأكيد، مرة أخرى، على هذه المسألة بتعبير آخر، فهو يقول:
"حسب الروايات العربية، تمّ غزو إيبيريا من قبل سكان شبه الجزيرة العربية الذين استطاعوا بقوة السلاح أن يؤسسوا امبراطورية عظيمة. وحسَب أقدم النصوص اللاتينية التي وصلتنا، فإن الأمر لا يعدو كونه ثورة دينية، كانت في بادئ الأمر محلية، ثم انخرطت في حركة سياسية ثقافية حضارية واسعة النطاق، شملت نصف العالم آنذاك.".
10 ملايين لايختفون بضربة ساحر
إن المؤرخ الإسباني يرى أن أسياد إيبيريا الجدد احتاجوا إلى ثلاثة أرباع القرن، كي يرتبوا أمورهم في هذه البلاد أو "يتفقوا على مغانم الفتح" حسب تعبيره، فماذا فعل الإيبيريون في هذه الأثناء؟ هاهو ذا يقول:
"لم يحدثنا التاريخ عنهم بعد سنة 711م. مع هذا فإن عشرة ملايين نسمة -في أقل تقدير- لا يمكن أن يكونوا قد اختفوا هكذا بضربة ساحر: ففي تلك الحقبة السعيدة، لم تكن هناك وسائل إبادة جماعية. وكان يلزم الفاتحين كثير من الوقت والعمل لجزر هذا العدد بالسيف".
ثم يتساءل تساؤلاً يجيء في موضعه:
"فإذا كان اجتياح أرض مسيحية من قبل "الكفار" قد بدا بهذه الضخامة بماذا نستطيع إذاً أن نصف اعتناق شعبها الإسلام وتمثله الحضارة العربية- الإسلامية؟ إما أن يكونوا قد قتلوا جميعاً، وإما أنهم استرقوا عبيداً، أو إنهم لجؤوا إلى الجبال، أو، ببساطة، أن المؤرخين تجاهلوا وجودهم".
.. ثم يندفع أولاغي بثقة وقوة كي يضع النقاط على الحروف، معتبراً أن الإيبيريين قد وضعوا أيديهم على نبض العصر حينذاك، من خلال الإندفاعة الحضارية العربية التي كان الدين الجديد شعارها. إنها لم تكن اندفاعة بدوية ولا غزواً تترياً:
"لماذا، وكيف اعتنقت الجماعات الإنسانية التي كانت متمركزة في المقاطعات البيزنطية في آسيا ومصر وإفريقيا الشمالية وشبه جزيرة إيبيريا، إيماناً جديداً، ومفهوماً جديداً للوجود؟ قد يسهل تحويل خرافة الغزوات العربية -المستحيلة جغرافياً- وتاريخياً إلى حقيقة، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن حضارة عربية إسلامية قد امتدت في جميع هذه الأصقاع."
الاريوسية وقد تخلّت عن التثليث
.. على أن الآريوسية كانت ذات شأن آخر. وباعتبار أنها تخلت عن عقيدة التثليث، فإن أولاغي يطلق عليها صفة التوفيقية، ويقول:
"تميزت التوفيقية الأريوسية بالإيمان بإله واحد، يحمل بالنسبة لبعض المفكرين صفات الكائن الماورائي، أو يرتدي هالة الأبوية المافوق أرضية. يراقب الناس وأعمالهم، فيكافئ ويعاقب. ولم يكن هذا المعتقد مجرداً ولا حتى خارقاً، ولايتضمن قواعد تتجاوز المبادئ الطبيعية أو البيولوجية التي تشكل مجتمعاً سليماً. واضفت أهمية الموروث الثقافي الإيبيري على التوفيقية الآريوسية حساسية الانفتاح على جميع التيارات الثقافية الآتية أو التي ستأتي، من أراضٍ بعيدة، شرط أن تكون مشهورة بحضارة غنية وذات طاقة خلاقة."
نقاط لقاء ... مع العقيدة الجديدة
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أنه "حين وصل دعاة الإسلام لم تختلف الخطوط الكبرى في إيمانهم عن تلك التي كانت في معتقد السكان الأصليين. ولعل نقطة الخلاف الوحيدة كانت وجود النبي (ص) وبعض قواعد في السلوك. وعبر السجال الفكري بين فقهاء مدرستين تكادان أن تكوّنا مدرسة واحدة، انزلقت التوفيقية. الآريوسية إلى التوفيقية الإسلامية. وهكذا دون صراع أو تواطؤ تم التبشير بصورة بطيئة وهادئة.".
ولم تلبث المسألة العقيدية الدينية أن اندمجت في صميم الموضوع الثقافي، يقول أولاغي: "لا نعرف الكثير عن سياق التعريب الذي عاشه الشعب، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن المثقفين من أنصار التوحيد الأحادي -يعني الأريوسيين- تركوا في تلك المرحلة اللغة اللاتينية ليتعلموا العربية، بهدف التميّز عن "الثالوثيين" والإطلاع على عقيدة تتفق وعقيدتهم في شأن الطبيعة الإلهية، وعلى الحضارة التي بدأت تزدهر في ظل هذه العقيدة. وشيئاً فشيئاً بدأت السياسة والحضارة تؤثران على الدين في فروعه العامة.".
إذاً: فإن اللاتينية انهارت حضارة ولغة وعقيدة.
والمؤرخ الإسباني يلح كثيراً على هذا الجانب من الموضوع، فهو يرى أن الأحداث "اتخذت لدى المسيحيين طابعاً سياسياً، وأصبحوا في القرن التاسع في حالة ميؤوس منها. وعلى المستوى النظري واللاهوتي وصل المثقفون المسيحيون الذين يعيشون في الأندلس إلى طريق مسدود، ثم تماثلوا في مابعد شيئاً فشيئاً مع الحضارة العربية- الأندلسية المسيطرة التي لا تقهر.".
الحرية الدينية في الأندلس
.. مهما يكن من أمر، فإن المرء يستطيع أن يرى على الجانب الآخر، حالة الذين رفضوا الانسياق والوضع المستجد في إيبيريا، من خلال المثال الذي يقدمه أولاغي من قرطبة. "فخلال النصف الأول من القرن التاسع كانت أقلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عباداتها بحرية كاملة".
ويستشهد أولاغي بما كتبه القديس إيلوج، وكان مسيحياً متعصباً عايش تلك الفترة، فهو يقول:
"نعيش بينهم دون أن نتعرض إلى أي مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا" ويتابع أولاغي:
"وبالفعل فإن كنائسهم حافظت على أبراجها وأجراسها. وتوجد محتويات آخر هذه الكنائس، واثني عشر ديراً في محيط المدينة.".
"كذلك تمتع المسيحيون بامتياز المحافظة على حاكم مستقل، كان كونتاً أو قاضياً يدعى: الرقيب. وكان حرس الأمير من الطائفة المسيحية. ولعب هذا الحرس دوراً هاماً في السياسة الإسلامية. واحتل عدد من الأرثوذكس مناصب هامة في الدولة.".
الحضارة الأندلسية الفريدة
وبعد، فإن هذا المؤرخ الإسباني لا يكتفي بالإنحياز إلى الفكرة القائلة: إن العرب لم يغزوا إسبانيا، بل إنه أضاف إلى الموضوع رؤية حضارية ثاقبة. وفي الوقت الذي لا ينكر فيه فضل الحضارة العربية الإسلامية، على العالم في ذلك العصر، فإنه يتحدث عن حضارة عربية جديدة في الأندلس. حضارة اختمرت في التربة الإسبانية, فكانت علامة كبيرة هامة، في تحول أوروبا وتقدمها في عصورها الحديثة. إنه يشير إلى الإنجازات الحضارية التي حققها العرب في الأندلس بعد قرن ونصف تقريباً من قيام دولتهم هناك، معتبراً أنها كانت شيئاً مختلفاً عما كان يمكن أن يحدث "لو كان صحيحاً أن جيشاً عربياً فتح إيبيريا سنة 711 وأنجز عملية أسلَمة الناس في سنة 714" فقد كان ينبغي أن تظهر مع الحضارة العربية- الإسلامية في الأندلس مباشرة مبادئ هندسية وتقنية، ولفرضت هذه المبادئ نفسها، بتفوقها أو بمساعدة الفاتحين، فلماذا لم تظهر هذه المبادئ إلا بعد قرن ونصف قرن.. أو أكثر؟"
إن الأمر يتعلق إذاً بالشروط الموضوعية لما تمكن تسميته: النضج الحضاري. ولعل هذا أجمل ما انتهى إليه أولاغي، وهو يكتب سطوره الأخيرة:
"لو غزا العرب إسبانيا، لما خمّرت الخميرة الإسلامية العجين الأندلسي، لتخرج تلك الحضارة الأندلسية الفريدة في التاريخ، والتي يعود إليها انتشال الغرب من الظلمة في عصر النهضة. إن تاريخ المجتمعات الإنسانية هو ثمرة لعبة الأفكار، وليس تكتيكات الجنرالات المدججين بوسائل التدمير".

.
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjRawAGpTIKTjMM9pgkCE2hZoLbQSxrR4t91k5GjoEtLhh7Rf0pm-B83fzH02JdbLtZKuAReS02DxF4x9VAnNhsNLvfASDYLL67zwn6ky_VfawD2myRm7gnw8aiA1y9pn8qnYRtHhXGf6Le/s1600/11002655_1674410052786495_2497994054905575341_n.jpg

https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiXpqQomrxiC-A3WxOFpiBtbkDzlG7a2mS43QAL4sq7UNuBJXmV0cGNTbm2BQvIKjmsfo-i2Wrdeco3HBp39ctDUQ46LDHfBvb2hECWrBiytpiiRCNtLlXrwtqiJTAneEavCs-GRMKaggr6/s1600/10401497_1674410129453154_5310626118110047561_n.jpg

https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEjYNlqIk4RY4pEe9P91USOEdIpbfPn9H9Fk2T_UCL2YT8lKv4rpl389b6WuLs_eyiROjQZMSDsd6ZvV7ktCEp4meu06qbUsZDBx52kZpNm5cvmDicm4_KmOG50Uc4nbz1odSNobtKgvspu6/s1600/10557278_1674410456119788_7658038006077323411_n.jpg
Publié il y a 19th February 2015 par laila hassan ليلى حسن
  
7 
أرجو الانتباه لمسألة فقهي هامة قد يكون فاتك أمرها .. تخضيب الشيب بالحناء كان متبعا في الجيوش الإسلامية حتى لا يظهر الشيب وكبر السن على المقاتلين .. وربما كان هذا سببا في رسمهم ذوي شعر أحمر


أما لون البشرة الأبيض فلم يكن كل العرب سمر البشرة .. ولم تكن جيوشهم بعد الفتوحات كلها من ذوي البشرة السمراء بل اختلطت في جيوشهم الأجناس مع التوسعات فدخل فيهم الأبيض والأسمر

هذه مجرد ملاحظة صغيرة يجب مراعاتها


السبت، 30 ديسمبر 2017

الأصول التّاريخيّة للعلاقات الكنسيّة بين الشّرق والغرب؛ د. أندريه كحّالة.





الأصول التّاريخيّة للعلاقات الكنسيّة بين الشّرق والغرب
د. أندريه كحّالة
بيروت – لبنان


       إنّ النّظرة الأولى قد تبحث عن علاقاتٍ كنسيّةٍ بحتةٍ، في تباين الممارسات والطّقوس وفي اختلاف التّنظيمات الكنسيّة بين روما، عاصمة الكثلكة، والقسطنطينيّة، عاصمة الأورثوذكسيّة.
       إنّ العلاقة بين الكنيسة الشّرقيّة والغربيّة هي في حقيقتها علاقةٌ بين حضارةٍ شرقيّةٍ بيزنطيّة وحضارةٍ غربيّةٍ لاتينيّة، كعالَمَيْنِ لكلٍّ منهما قِيَمُهُ وتراثه وبيئته.
       إنّ الإطار التّاريخيّ هو الإطار العلميّ الّذي يجب أن توضَع فيه مسألة العلاقة بين الكنيسة الشّرقيّة والغربيّة، بما لها من نتائج سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ، إلى جانب المسائل الّلاهوتيّة.
        منذ القرون الأولى للميلاد، لعبت الظّروف السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة في تحديد الإطار العام لمفهوم الإيمان لدى شعوب العالم الرّوماني في الشّرق والغرب: إنّ المسألة الأولى الّتي شكّلت إنشقاقاً في صفوف الكنيسة الأولى، كانت قضيّة التّبشير خارج الشّعب اليهوديّ ووجوب مرور الشّعوب الوثنية بالفرائض اليهوديّة كشرط لدخولها في المسيحيّة (مثل الختان وفريضة السّبت وفرائض الطّهارة في الأكل)، فجاء مجمع الرّسل سنة 51م. ليحسم الوضع إلى جانب القدّيس بولس، الّذي عُرِفَ برسول الأمم، لجهة عدم فرض الطّقوس اليهودية على الشّعوب الوثنية...
       إنّ انتشار الدّين المسيحيّ على يد الرّسل، خلال القرن الأول، قد تمّ داخل وحدةٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ متكاملةٍ، في ظلّ الأمبراطوريّة الرّومانيّة وعاصمتها روما، وفي ظلّ ثقافةٍ واحدةٍ هي الثّقافة اليونانيّة الرومانيّة الّتي تُعرَف بالغريكو-لاتينيّة، وصولاً إلى القرن الرّابع،الّذي كان حاسماً في تاريخ المسيحيّة: فمن ناحيةٍ، تحقّق انتصارها على الوثنيّة، ومن ناحيةٍ ثانية، بدأت بذور النّزاع بين الكنيسة الشّرقيّة والغربيّة.
       مع وصول الأمبراطور قسطنطين الكبير وتوحيده للحكم، أقرّ سنة 313م. مرسوم ميلانو، الّذي أعلن فيه نهاية الاضطهاد وحريّة العبادة للمسيحيّة واعترف فيه للمسيحيّة كديانةٍ."مرخّصةٍ ومساويةٍ للأديان الوثنيّة القديمة". لكنّ النّزاعات العقائديّة التي نشبت بين آريوس وأثناسيوس من قساوسة الإسكندريّة حول علاقة المسيح الإبن بالله الآب، أوجب ضرورة الدّعوة إلى عقد المجمع المسكوني الأوّل الّذي عُقِدَ في نيقيا بآسيا الصّغرى سنة 636 للإسكندر (سنة 325م.)، السنة العشرون لحكم قسطنطين والذي ترأس المجمع.
       + سنة 325، المجمع المسكوني الأوّل في نيقيا:
       حضره حوالي 318 أسقفاً: وقد لعن المجمع آريوس وأتباعه وحرم آراءه القائلة بأنّ المسيح أدنى مرتبةً من الله الآب، وهو مخلوقٌ. رغم أنّ مجمع نيقيا فشل في استئصال البدعة الآريوسيّة، إلاّ أنّ النّزاع ذاته ساهم في تقسيم الأمبراطوريّة من الوجهة الدّينيّة، إذ أخذت الآريوسيّة بالانتشار في القسم الشّرقي بشكلٍ مذهلْ. وقام المجمع بتحديد القسم الأوّل من قانون الإيمان النيقاويّ الّذي نعرفه. كما حدّد الثّالوث، ومعموديّة الأطفال وموعد الفصح المسيحيّ للابتعاد عن الفصح اليهوديّ.
كما تمّ الاعتراف رسميّاً بوجود ثلاث كراسي بطريركية حسب التّرتيب الآتي: روما، الإسكندريّة وأنطاكية.
       سنة 330، قام قسطنطين بتدشين مدينة القسطنطينيّة (بيزنطيا) لتكون العاصمة الجديدة للأمبراطوريّة، أي روما الجديدة.
       سنة 361-363، يوليانوس الجاحد يحاول العودة إلى الوثنية، وإعادة بناء هيكل سليمان.
       + سنة 381 المجمع المسكوني الثّاني في القسطنطينيّة:
       عُقِدَ في القسطنطينيّة في السّنة الثّانية لحكم تيودوس (379-395)، وحضره حوالي 150 أسقفاً: وكانت مهمّته المباشرة محاربة آراء مقدونيوس الذي علّم أنّ الرّوح القدس أقلّ من الآب والابن في الجوهر، بحيث عُرِفَ هو وأتباعه بأعداء الرّوح. كان المجمع الثّاني في القسطنطينيّة إنتصاراً للنّيقاويّين على الآريوسيّين. بعد ارتداد الأمبراطور كونستانس سنة 359 وفالنس من بعده.
       على صعيد التّنظيم الكنسي، فقد قرّر المجمع المسكونيّ الثّاني في القسطنطينيّة، تقدّم أسقف القسطنطينيّة بعد أسقف روما مباشرةً لأنّها روما الجديدة. وللحال إعترض بابا روما داماسيوس الأول بعقده مجمعاً محلّياً في روما في العام التالي، محتجّاً على ترقية أسقف القسطنطينيّة ومؤكّداً التّرتيب الّذي جاء في مجمع نيقيا، ممّا فتح أولى صفحات النّزاع مع القسطنطينيّة فقد توضّحت عندئذٍ النّظريّة البطرسيّة وأصبح تعبير البابويّة مرادفاً تماماً لتعبير سيادة كرسيّ روما، أي كرسي القدّيس بطرس.
       كما أصدر تيودوسيوس قانوناً بتحريم الوثنيّة واعتماد المسيحيّة ديناً للدّولة.
       سنة 395، صدر مرسومٌ بمنع الذّبائح الوثنيّة. في هذه السّنة أيضاً، توفّي الأمبراطور تيودوس، بحيث انقسمت الأمبراطورية الرومانيّة بين ولديه إلى قسمين نهائياً. هذا الانقسام جاء تعبيراً عن الفروقات بين شطرَي الأمبراطوريّة في حضارتين مختلفتين وعقليّتين مختلفتين ونظرتين مختلفتين إلى الحياة والعالم: فمن ناحيةٍ، هناك الإغريق بحضارتهم اليونانيّة ذات الفكر الفلسفي الجدليّ ولغتهم اليونانيّة الغنيّة، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، هناك اللاتين بتنظيمهم القانوني وبلغتهم اللاتينية التي تميّزت بالصّعوبة وفقر المفردات، بحيث أدّى عدم وجود لغةٍ مشتركةٍ غلى تفسيراتٍ مختلفةٍ للمسائل المتعلّقة بالعقائد المسيحيّة (مثل كلمة الانبثاق التي لها أربعة مفردات في اليونانية، مقابل واحدة في الللاتينية).
        خلال القرون الثلاثة الأولى، لم يكن أسقف روما بحاجةٍ للتأكيد على النّظريّة البطرسيّة وامتيازاتها. وذلك لأنّ روما كانت عاصمة الأمبراطورية والمركز الوحيد للعالم المتحضِّر. لكنّ نقل هذه العاصمة إلى الشّرق، وتأسيس القسطنطينية لتكون روما الجديدة، خلق تهديداً لمركز روما عامّةً وبالتالي لأساقفتها. رغم هذا التّهديد، فإنّ هذه المرحلة الجديدة، كانت في الوقت ذاته البداية الحقيقيّة لبروز أسقف روما وبالتالي للبابوية كقوّةٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ في العصور الوسطى كلّها في أوروبا والغرب. فبعد أن أصبحت سلطة الأمبراطوريّة إسميّةً فقط في القسم الغربي، وَرِثَ أسقف روما (البابا) المركز كحاكمٍ مطلقٍ ومصدر التّشريع، خاصّةً وأنّ نائب الأمبراطور في القسم الغربي لم يسكن مدينة روما. [الأمبراطور كان في القسطنطينية]
فبقاء البابا وحيداً في روما، أعتقه من التّبعيّة للأمبراطور وأعطاه السّلطة المعنويّة والأدبيّة الّلازمة لإقامة الإستقلال الدّيني على أساسٍ متينٍ بعكس أسقف القسطنطينيّة، الّذي كان يخضع للسّلطة وللهيمنة الأمبراطوريّة في العاصمة (Cesaro-Papisme).
        من المدافعين عن الإيمان الصّحيح، نذكر القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم، الّذي مات في المنفى بعد أن كان بطريركاً للقسطنطينيّة (344-407)، والقدّيس أغوسطينوس أسقف الجزائر (354-430)، الّذي طبع الفكر المسيحي بأفكاره، ولا مجال للتّوسّع فيها هنا. القدّيس جيروم أو إيرونيموس (347-420)، الّذي ترجم الإنجيل إلى الّلاتينيّة وهي التّرجمة التي تعتمدها الكنيسة. (Vulgata)
أمّا الكنيسة النسطوريّة، فقد أعلنت نفسها على أيّام شهبور الثّاني السّاسانيّ (310-379)
        + سنة 431 المجمع المسكوني الثالث في أفسس:
       حضره 154 أسقفاً، بهدف محاربة بدعة نسطوريوس، بطريرك القسطنطينيّة الّذي علّم أنّ المسيح ليس من مريم البتول، فهي أمّ يسوع فقط، فحرمه المجمع ونفاه وأقرّ أنّ المسيح إبن الله الوحيد، تجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء. لكنّ هذا المجمع الثالث، لن يمنع النسطوريّة بحيث استقلّت الكنيسة الفارسية على البدعة النسطوريّة. كما امتدّت هذه البدعة خلال القرن السادس إلى آسيا الوسطى والهند.
       سنة 449: مجمع "الّلصوص" في أفسس حيث تمّت تبرئة أوطيخا.[؟]
       الأمبراطور مرقيانوس (450-457) يؤيّد قرارات مجمع خلقدونية (ويأمر ببناء دير مار مارون الكبير على العاصي) وخليفته لاوون (457-474)، كما ناصره قسمٌ من سكّان بلاد السّريان ومصر فلُقِّبوا "بالملكيّين" ودُعِيَ خصومهم "بالمونوفيزيت" أي بموحِّدي الطبيعة في المسيح.
       + سنة 451 المجمع المسكوني الرابع في خلقدونية:
       عُقِدَ في عهد الأمبراطور ماركيان الّذي حكم بين (450-457) بحضور حوالي 630 أسقفاً. كان هدف المجمع محاربة آراء أوطيخا، وهو أحد رهبان القسطنطينيّة الّذي قال أنّ الطّبيعة الإنسانية في المسيح قد امتزجت بالطّبيعة الإلهية حتّى تلاشت فيها. كما أنّ ديوسكوروس بطريرك الإسكندرية، قال ببدعةٍ انتشرت عند الأقباط، وهي تدعو إلى الطّبيعة الإلهية فقط بما عُرِفَ بالمونوفيزيّة. كان ردّ هذا المجمع بلعن آراء أوطيخا وتحريمه وتحريم المونوفيزيّة، والأخذ بنظريّة البابا ليّون الكبير الّذي أصبح التّعريف النّهائيّ للإيمان القويم شرقاً وغرباً:
"المسيح هو شخصٌ واحدٌ، كلمة الله، وفيه طبيعتان، الإلهية والإنسانية متّحدتين نهائيّاً بدون اختلاط ولا امتزاج".
       على الصّعيد المشرقيّ، فقد أدّى المجمع الرابع إلى انقساماتٍ خطيرةٍ عندما اتُّهِم أنّه يساند النسطوريّة، كما انقلبت مواقف الأباطرة المتعاقبة منه. هذا المجمع سيتسبّب بالقطيعة مع السّريان اليعاقبة، والأقباط المونوفيزية والأرمن.
       على صعيد التّنظيم الكنسيّ، فإنّ تأزّم العلاقات بين روما والقسطنطينيّة قد جاء بعد قرار أغلبيّة الآباء المجتمعين، منح أسقف القسطنطينيّة نفس الامتيازات التي يتمتّع بها أسقف روما، رغم معارضة مندوبي البابا. كما منح الآباء المجتمعون لقب بطريرك إلى أساقفة الكنائس الخمس وفقاً للتّرتيب التّالي: روما، القسطنطينيّة، الإسكندريّة، أنطاكية وبيت المقدس. وكانت كنيسة أنطاكية على خلافٍ دائمٍ مع كنيسة الإسكندريّة، فحاولت كلٌّ منهما كسب روما إلى جانبها، وهذا بدوره ساعد في خلق الزّعامة التدريجيّة لأسقفيّة روما على العالم المسيحي، ولاسيّما في الغرب الأوروبي.
       وفي الرّبع الأخير من القرن الخامس، جاءت أحداثٌ خطيرةٌ وعصفت بروما: فقد سقطت الأمبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة بيد الجرمان البرابرة سنة [1]476، حيث أصبح زينون الأمبراطور الوحيد على القسم الشرقي. لكنّ هذا الحدث على خطورته، قد أسهم في بروز البابوية للمرّة الثّانية بعد انتقال العاصمة في المرّة الأولى في أوائل القرن الرّابع[2]. فقد أدّى سقوط الأمبراطوريّة الغربيّة إلى تداعي المجتمع الرّوماني تحت ضغط الغزو البربري، لكنّ الكنيسة الرّومانيّة ظلّت القوّة المعنويّة الوحيدة المتماسكة، ممّا سمح لها بلعب دورٍ قياديٍّ في الغرب الأوروبي، خلال تلك العصور المظلمة، بحيث قامت بالتّفاوض مع الغزاة المنتصرين، كما حافظت على الإرث الثّقافي والكنسي...
       إنّ التّدمير الشّامل لمظاهر الحضارة في الغرب الأوروبي، دفع النّزاع بين روما والقسطنطينيّة إلى مرحلةٍ أكثر عمقاً وشمولاً في آنٍ واحدٍ. فقد انعكس المفهوم الحضاريّ على المفهوم الدّيني والإيماني لدى شعوب الغرب والشّرق: فالتّصوّر العقائدي، وبالتّالي الممارسات، كانت مختلفةً إلى حدٍّ بعيدٍ رغم التّوافق على الأساس الّلاهوتي.
       بالنّسبة إلى سلطة المجامع المسكونية مثلاً، فهي بالنّسبة إلى القسطنطينيّة سلطةٌ ملهِمةٌ موثِّرةٌ في مسائل العبادة والعقيدة والتّنظيم الكنسيّ، بينما بالنسبة إلى روما، فكرسي بطرس معصومةٌ وهي صاحبة السّلطة المطلقة...
       بالنّسبة إلى الشّؤون الدّينية، فقد لعب الفكر الفلسفي العلماني دوراً كبيراً في الشّرق. أمّا في الغرب، فإنّ الفكر العلماني كان مفقوداً ومفهوم العقيدة كان بسيطاً وصارماً في نفس الوقت (من هنا نجد أنّ الهرطقات والبِدَع ظهرت كلّها في الشّرق، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، كانت كرسي روما الملجأ الثابت أمام التّقلّبات العقائدية عند كرسي القسطنطينية بالنسبة إلى الموارنة مثلاً....)
       بالنّسبة إلى الّسلطة السّياسيّة، فقد كان تدخّل الأمبراطور بشكلٍ كبيرٍ في الشّؤون الّلاهوتيّة والدّينيّة في القسطنطينيّة. أمّا في روما، فقد رفضت الكنيسة تدخّل الدّولة ومارست روما [الكنيسة] دوراً قيادياً في أوروبا بطريقةٍ مستقلّةٍ. ولم يأتِ غزو الأمبراطور جوستنيان في القرن السادس لإيطاليا بالخضوع المرجو على المدى البعيد، لأنّ البابوية أصبحت قوّةً معنويّةً ذات تأثيرٍ أدبيٍّ في الغرب الأوروبي كلّه.
       لا بدّ من الإشارة هنا، أنّ الطّوائف البروتستانتيّة والأنغليكانيّة لا تعترف إلاّ بالمجامع المسكونيّة الأربعة الأولى.
       سنة 484: أوّل قطيعةٍ (أو انشقاق) بين الكنيستين الشرقيّة والغربيّة:
       البابا فيليكس الثالث يرشق البطريرك أكاسيوس بالحرم بسبب قبول الأخير بتسوية الأمبراطور زينون 482م. Henoticon الذي يخالف مجمع خلقدونية.
       سنة 519: الأمبراطور يوستنيانوس الأول ينهي القطيعة بقبوله مواقف البابا هورمزدا. [لكن حكم  يوستنيانوس الأول ابتدأ عام 527م حتى 565م]
       + سنة 553 المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينيّة:
            سنة 565، يمنح يوستنيانوس الكبير حق المواطنية للمعمَّدين فقط، ويمنع الوثنيين عن الوظائف الرّسميّة.
       المجامع المسكونيّة بحثت بالهرطقات التي طاولت الأسرار الأساسية في المسيحيّة:
       الثّالوث، التّجسُّد والفداء بما شكّل حلبةً للصّراع بين مدرستَي أنطاكية والإسكندرية الّلاهوتيّتين.
        أمّا نشأة الكنيسة المونوفيزية رسميّاَ، فهي تعود إلى عهد الملك يوستنيانوس الأول (527-565)، بتشجيعٍ من زوجته الأمبراطورة تيودورا التي استدعت يعقوب البرادعي أسقف أورفا (الرّها)، مع علمها بتطرّف تعاليمه، للدّعوة إلى البدعة المونوفيزية وتنظيم شؤون كنيستها...
       أنصار الطّبيعة الواحدة هم اليوم الأقباط الأرثوذكس والسّريان الأرثوذكس (أو اليعاقية) والأرمن الأرثوذكس (أو الغريغوريّون). وهم مع قولهم بالطّبيعة الواحدة مثل القديس كيرلّس الإسكندري، يشجبون آراء أوطيخا ويعترفون بأنّ المسيح إلهٌ كاملٌ وإنسانٌ كاملٌ...
فالخلاف محصورٌ إذاً في الألفاظ لا في المعاني الدّينية. والخلاف له أبعادٌ سياسيّةٌ وقوميةٌ أصلاً...
لأنّ الإنشقاق الدّاخليّ الذي حدث في الشّرق إبان القرن السادس، بين مناصري المجمع الخلقدوني ومناوئيه، كان سببه الإختلاف في التعابير الّلاهوتيّة عن طبيعة السيد المسيح...
       ولم تتأصّل هذه الاختلافات الّلاهوتيّة الدّقيقة في عقول العامّة إلاّ بفضل ما أثير حولها من نعراتٍ قوميةٍ وطنيةٍ تحمّس لها الأقباط والسّريان والأرمن وهدفها مقاومة دولة الرّوم المستعمِرة[3].
        إنّ اليعقوبية كانت قد انشقّت عن الكنيسة الشّرقية منذ سنة 512، وأقامت بطاركةً لها على مذهب الطّبيعة الواحدة، في دير الزّعفران ثم في ماردين... [لكن يعقوب البرادعي: 500ـ 578، قد تكون التسمية جاءت لاحقاً "اليعقوبية"]
       إذا كان سقوط القسم الغربي من الأمبراطوريّة الرّومانيّة في القرن الخامس قد أعطى دفعاً لمصلحة البابويّة، فإنّ الفتح الإسلامي لبلاد الشام ومصر في القرن السابع قد أعطى دفعاً لمركز القسطنطينيّة، بحيث سقطت البطريركيات الشرقية الثلاث الأخرى تحت الاحتلال حوالي سنة 638 ولم تعد تشكِّل منافسةً على زعامة الكنيسة الشّرقية، وبالتّالي أصبح النّزاع بين الشّرق والغرب في حقيقته، نزاعاً بين القسطنطينيّة وروما.
        631-638: الملك هرقل يحاول التوفيق بين أصحاب الطبيعة الواحدة وأتباع الخلقدونية بإعلان فكرة "المشيئة الواحدة"، لكنّ هذه الفكرة لم تنجح لدى أيٍّ من الفريقين المتنازعين، بل زادت في تعميق الأزمة
        + سنة 680 المجمع المسكوني السادس في القسطنطينيّة:
       عُقِدَ أيّام قسطنطين الرّابع، حيث تمّت تنحية مكاريوس بطريرك أنطاكية، لاعتقاده بالمشيئة الواحدة، وإقامة تيوفان على كرسيّ أنطاكية. تمّ إذاً حسم الجدل حول المونوتيليّة وتحريمها.
       بعد خمس سنواتٍ، توفّي تيوفان، ولم يعد بالإمكان ملء كرسي أنطاكية لأنها كانت تحت الإحتلال الإسلامي. هنا قام الموارنة بخطوتهم الإستقلالية تجاه القسطنطينيّة، وذلك بانتخاب بطريرك لأنطاكية للموارنة، وهو مار يوحنا مارون سنة 695م...
       أمّا البيزنطيّون، فلم يقيموا بطريركاً لأنطاكية إلاّ بعد سنة 740 في دمشق، تبعاً لأوامر قسطنطين السّادس...
       في القرن الثّامن، جاءت سياسة محاربة الأيقونات التي بدأ بها الأمبراطور ليو الثالث الأيزوري سنة 726، لتدفع العلاقات بين الشّّرق والغرب إلى منحىً خطيرٍ،بحيث تمّ تبادل الحرم بين روما والقسطنطينيّة (للمرّة الأولى وليس الأخيرة)
       سنة 755: الملك الفرنكي "Pépin le bref" (والد الملك شارلمان)، يدافع عن الفاتيكان وروما ويهب الأراضي الإيطالية المحرَّرة من اللومبرديين إلى البابا في ما سُمِّيَ بالممتلكات البابوية Patrimonium Petri التي دامت حتى سنة 1870.
        + سنة 787 المجمع المسكوني السّابع في نيقيا:
       عُقِدَ على أيّام الأمبراطورة إيرين، حيث أعيد الاعتبار للأيقونات. وهو آخر مجمعٍ تعترف به الكنيسة الأورثوذكسيّة.
       مرحلةٌ جديدةٌ من محاربة الأيقونات راوحت بين سنة 815 وحتى سنة 843، حيث انتهت بإعادة الاعتبار مع الأمبراطورة تيودورا. في القرن التّاسع، تحالفت البابوية مع الفرنجة بشخص شارلمان، وجاء تتويجه في روما سنة 800 طعنةً تجاه بيزنطيا ووحدة الأمبراطورية الرّومانيّة. فرفضت بيزنطيا الإعتراف بالأمبراطور شارلمان الفرنجي.
        ثمّ جاءت قضيّة فوتيوس بطريرك القسطنطينيّة ومسألة الكنيسة البلغارية والتّنافس عليها، بحيث اختلطت القضايا الكنسيّة الإداريّة بالقضايا السّياسيّة، بين سنة 857 و 877.
       وفي أوروبا، كانت البعثات الكاثوليكيّة تصرّ على إضافة كلمة "والابن" إلى العقيدة النيقوية، ممّا كان لها أخطر النّتائج، بحيث اعتُبِرَت العقبة الأساسية في وجه وحدة الكنيسة. 
       في أصل قضية "الفيليوك" (وهي كلمةٌ لاتينيةٌ معناها "والابن")، أنّه أثناء الصّراع بين الإسبان الكاثوليك والقوط الغربيين (ostrogoths) الآريوسيون، أخذ الإسبان يصرّون على المساواة بين الآب والابن تجاه الآريوسيّين الّذين قالوا بعدم المساواة. لهذا، أضاف الكاثوليك أنّ الرّوح القدس لا ينبثق من الآب فقط، وإنّما من الإبن أيضاً. وفي مجمع توليدو الكاثوليكي سنة 589 في إسبانيا[4]،أدخلت الزيادة إلى العقيدة النيقاوية مخالفةً إياها. كما انتقلت هذه الزيادة إلى فرنسا في عهد شارلمان، ومن ثمّ إلى ألمانيا، وأخذت تتسرّب إلى إيطاليا في القرن العاشر، إلاّ أنّ البابوية لم تتبنَّ رسمياً هذه الزيادة في العقيدة إلاّ في أوائل القرن الحادي عشر.
       + سنة 869 مجمعٌ في القسطنطينيّة:
       عُرِفَ بالمجمع المعادي لفوتيوس، حيث أعيد اغناطيوس وبدا إنتصار روما.
       + سنة 879 مجمعٌ في القسطنطينيّة:
       عُقِدَ ضد المجمع الذي عٌقِدَ ضد فوتيوس، لأنّه بعد موت اغناطيوس، أعيد فوتيوس واضطرت روما إلى الإعتراف بالمجمع وبفوتيوس.
       رغم أنّ العلاقات بين روما والقسطنطينيّة ظلّت قائمةً في حياة فوتيوس، إلاّ أنّها أخذت في الفتور التّدريجي بعد موته سنة 897، خاصةً أنّ الخلاف العنيف في القضايا الّلاهوتية قد أثار الدوائر الّلاهوتية في الشرق والغرب كما سنرى.
       سنة 969: إستعاد البيزنطيون أنطاكية وما جاورها ونصّبوا عليها عدّة بطاركة من الإكليروس القسطنطيني بحيث ازداد تأثير الطقس البيزنطي على الطقس الأنطاكي وقضى عليه قضاءً تامّاً لدى الملكيين، فانتحلوا الطقس البيزنطي[5].
       في القرن الثامن الميلادي، برزت البابوية كقوّةٍ سياسيّةٍ رئيسيّةٍ في الغرب الأوروبي: في انتشار المسيحية على أيدي الرّهبان البندكتيّين وفي دعم الأسرة الكارولنجية لها ضد اللومبارديون وأباطرة بيزنطيا الذين حاربوا الأيقونات.
       إنّ العلاقات بين القسطنطينيّة وروما في القرن العاشر قد جمّدت دون أن تحلّ المشاكل العقائدية نتيجة انشغال بيزنطيا بفتوحاتها في عهد الأسرة المقدونية وانحطاط البابوية بسبب تسلّط العلمانيين في روما منذ أواخر القرن التاسع، حيث شهد مركزها تراجعاً كبيراً على الصعيد الداخلي في النظام الإكليريكي والأخلاقي، وعلى الصعيد السياسي في تبعيتهم لأرستقراطية النبلاء في روما نفسها. ممّا أدّى إلى انتشار الفوضى مثل السيمونية وزواج رجال الدين والتقليد العلماني حتى أواسط القرن الحادي عشر، حيث ظهرت لحسن الحظ، حركاتٌ إصلاحيةٌ دينيةٌ في الغرب الأوروبي وأشهرها الحركة الكلونية في فرنسا.
       أوّل الباباوات المصلِحين كان ليو التاسع (1042-1055)، وأبرز ما حدث في عهده، هو هزيمته أمام النورمان في جنوب إيطاليا سنة 1053، حيث اقتنعت البابوية بوجوب تحالفها مع النورمان، وقد وقع البابا ليو التاسع في الأسر.
       مع حلول سنة 1054، تأزّمت العلاقات بين الأمبراطور وبطريرك القسطنطينية[6] من جهةٍ وبابا روما من جهةٍ ثانية. وبعد تبادل الرّسائل الإتّهامية، ذهب وفدٌ بابوي إلى القسطنطينية برئاسة الكردينال هومبرت، حيث احتدمت النقاشات حول الطقوس، (مثل استعمال الخبز الفطير غير المختمر وصيام السبت وتحريم زواج الكهنة، وحلق اللحى وأكل اللحوم). وكانت قمّة الأزمة، عندما دخل الموفد البابوي كنيسة آيا صوفيا ووضع قراراً بالحرم على المذبح ضد البطريرك وأعوانه. فما كان من المجمع القسطنطيني إلاّ أن أصدر حرماً مضادّاً على المندوبين البابويين.
       إنّ قطيعة 1054، جاءت في العمق نتيجة الاختلاف الأساسي الحضاري والثقافي والسياسي والإقتصادي الذي كانت تبنى فوقه العلاقات الطيبة أحياناً. وما هذه القطيعة إلاّ حلقةٌ مثيرةٌ من الصّراع الدّائم ومقدّمةٌ للانشقاق النهائي الذي أدّت إليه الحملة الصليبية الرابعة سنة 1204. أمّا في بيزنطيا، فقد انقسمت الدّوائر الدينية إلى فئةٍ متطرّفةٍ تعارض بشكلٍ مطلقٍ كلّ ما هو لاتيني وروماني، وفئةٍ معتدلةٍ تبحث عن المصالحة والتّسوية للاختلافات الجوهرية.
       أمّا تأثير هذه القطيعة على التبادل الشعبي أو الاقتصادي بين الشرق والغرب، فكان ضئيلاً، فلم تتأثّر حركة الحجّاج في الإتّجاهين ولا على بناء الكنائس اللاتينية في بيزنطيا. كما ظلّت الأهداف والمناورات السياسية وراء المباحثات بين روما والقسطنطينية من أجل توحيد الكنيستين.
سنة 1060: في إطار الإصلاح الذي قامت به الفاتيكان،عقد البابا نقولا الثاني مجمعاً كبيراً أقرّ به أنّ حقّ انتخاب البابا محصورٌ بالكرادلة فقط...
       أمّا البابا غريغوري السابع، فقد قام سنة 1073 بما عُرِفَ بالإصلاح الغريغوري، حيث حرم السيمونية وزواج رجال الدين واتّخاذ خليلات والتقليد العلماني. وأهمّ ما أصدره، هو المرسوم الذي عُرِفَ بالأوامر البابوية، وفيها جرّد جميع السلطات الدينية والعلمانية من أيّة حقوقٍ ولم يبقِ إلاّ إسم البابا وحده وإرادته.
       إبتداءً من سنة 1071، حيث انتصر الأتراك السّلاجقة على بيزنطيا التي تراجعت عن آسيا الصغرى، إبتدأت سلسلةٌ من مراحل الانحطاط العسكري والسياسي والاقتصادي، ستؤدي بعد أربعة قرون إلى سقوط بيزنطيا سنة 1453م.
        في إيطاليا، شنّ النورمنديون حملةً عبر البحر الأدرياتيكي على شواطئ المقاطعات البيزنطية 1081-1085، وكان لتأييد روما لهذا الغزو نتائج على العلاقات مع القسطنطينية، حيث ردّ الأمبراطور ألكسيوس كومنين بإقفال الكنائس اللاتينية في القسطنطينية.
[هذا السياق، وبالتحديد الخلاف المتفاقم منذ عام 1054م بين القسطنطينية وروما يفسّر ربما سبب تعرض المسيحيين الشرقيين للتنكيل خلال حروب الفرنجة التي ابتدأت بعد عقود]
       في عام 1088، جاء البابا أوربان الثاني الذي قام بفتح حوارٍ ودّيٍّ جديدٍ، وظلّت القضية الأساسية هي الفيليوك، بينما القضايا الثانوية في الطقوس كالمعمودية والخبز، أم في التنظيم الكنسي كزواج الكهنة والصيام واللحية والخواتم الذهبية والألبسة وأكل اللحم. كما اقترن إسم البابا أوربان الثاني بالحركة الصليبية في أوروبا التي بشّر بها وخطّط لها سنة 1095. هذه الحروب الصليبية كانت نقطة تحوّلٍ خطيرةٍ ليس في تاريخ العلاقات بين بيزنطيا والبابوية فحسب، بل في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب بشكلٍ عامٍ على الصعيد المسيحي وعلى الصعيد المسيحي الإسلامي.
 الدكتور أندريه كحاله
منشورات هيئة الثقافة السريانية
 *           *           *           *           *

 


[1] الملك البربري كان اسمه "اودواكر"، وآخر أمبراطور غربي كان اسمه رومولوس أوغوستول.
[2] من روما إلى رافينا.
[3] المطران ميشال يتيم: تاريخ الكنيسة الشرقية، منشورات المكتبة البولسية.
[4] حيث تمّ أيضاً إعلان الكاثوليكية دين الدولة الرسمي في إسبانيا أيام الملك الإسباني ريكاريد الأول.
[5] المطران ميشال يتيم، تاريخ الكنيسة الشرقية، منشورات المكتبة البولسية.
[6]  بطريرك القسطنطينية كان اسمه كيرولاريوس، والأمبراطور إسمه قسطنطين مونوماخوس