الثلاثاء، 2 فبراير 2021

جورج قنواتي: تراث الإسلام (الفلسفة وعلم الكلام والتصوف)

 



إلى جانب القرآن، والحديث الذي يبيّن ما لم يرد في القـرآن، الـتـقـى الفكر الإسلامي في أول الأمر بالفكر الديني المسيحي في دمشق، وبالفلسفة اليونانية في بغداد. وكانت دمشق مدينة

قديمة للثقافة، كما كان التأثير اليوناني فيها قويا. وقد استقرت المسيحية فيها من العصور الأولى ونمت فيها بسرعة. ونجد مع بعض الاستثناءات، أن الأسماء الكبـيـرة فـي تـاريـخ المسيحية الدمشقية ترجع إلى العصر الإسلامي، أمثال القديس سرفرونيوس والقديس أندريا الأقريطشي، والقديس يحيى ـ يوحنا ـ الدمشقي، ولم تقتصر أوجه الاتصالات بين المسلمين والمسيحيين على التجارة والإدارة وحسب، بل وجدت أوجهاً أخرى من التبادل الديني والفكري. وكانت هناك اقتباسات أدبية (مصطلحات في مسائل الدين والزهد) وتشابه في تصور تكوين الأشياء (مثل تصورات الجنة والنار وأساليب محاسبة النفس)، وتبادلات فكرية مثمرة. وكان المتصوّفون المسلمون يتحدثون مع رهبان النصارى في مسائل الدين. ولدينا ابتداء من القرن الثاني الهجري ـ الثامن الميلادي فصاعداً شواهد جليّة، وخاصة في ما يتعلق بيحيى الدمشقي وتلميذه ثيودور أبو قرّة تشير إلى قيام نشاط جدلي بين المفكرين النصارى والمسلمين. وكان هناك مسألتان دار حولهما النقاش أكثر من غيرهما، وهما مسألة القدر ومسألة خلق القرآن. ويبدو أيضاً أن تدخل المدافعين عن المسيحية هو الذي جعل مسألة صفات الذات الإلهية موضوعاً للبحث.

 

 

ولكن أهم حادث في تكوين الفكر الفلسفي الإسلامي كان دون شك لقاء بالفلسفة اليونانية في بغداد أيام حكم الخليفة المأمون في الـقـرن الـثـالـث الهجري/ التاسع الميلادي. ولابد من القول ابتدا إن الفلسـفـة الـيـونـانـيـة التي تلقاها العرب لم تكن هي فلسفة أفلاطون وأرسطو فحسب9 بل كانت أيضا تلك الفلسفة التي صيغت خلال عدة قـرون عـلـى أيـدي مـن واصـلـوا

فلسفتهما وشرحوها. وكان هناك إلى جانب الفلسفة الأفلاطونية وفلسفة أرسطو9 الفلسفة الرواقية والفيثاغورية وقبل كل شيء الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة التي أنشأها أفلوطين وبرقلس. وقد بدت الفلسفة في صورة الحكمة الفريدة التي أسهمت كل العقول الكبيرة في تكوينها. وكان الفلاسفة المسلمون، بل حتى المفكرون المتصوّفون المتأخرون، مقتنعين بذلك اقتناعاً عميقاً، لدرجة أنهم جعلوه أساس نظرتهم إلى الكون. كما كان المسيحيون وخاصة السريان في أنطاكية قد مهدوا الطريق لذلك بإذفاء الصبغة النصرانية على فقرات معيّنة للكتاب القدامى أو على الأقل جعلوها أكثر قرباص للدين. وكان تكييف هذه الكتابات (لكي تتفق مع الدين) قد تم بحكمة وحذر إلى درجة أن المر لم يتخطَّ مرحلة اللاهوت الطبيعي، الذي يتماشى بالضبط مع ما كان يمكن للمفكرين المسلمين أن يقبلوه.

..

وقد بدأ الفكر الإسلامي من الوحي الديـنـي الـذي تحـدثـنـا عـنـه آنـفـاً، وتأثر بعوامل شتى أشرنا إليهـا، ثـم أخـذ هـذا الـفـكـر يـشـق طـريـقـه بـقـواه الخاصة. وفعل الفكر الإسلامي ذلك في حركة دفاعية ضد الآراء المعادية التي كانت تهدد العقيدة الإسلامية قليلا أو كثيرا. وأراد نفر من المفكرين المسلمين الذين أحاطوا بالفلسفة اليونانية أن يضعوا قوى العقل في نصرة عقيدتهم، وبذلك انتزعوا تلك الأسلحة من أيدي خصومهم ووجهوها إليهم.

وهذا المنزع الفكري المناضل يميّز أولئك الذين يُعرَفون في تاريخ الفكر الإسلامي باسم "المعتزلة". ومهما كان أصل هذه التسمية، فإن المعتزلة كانوا يتألفون من عدد من المفكرين، كانوا يقيمون في البصرة أو في بغداد، وحاولوا بشجاعة أن يقدموا مبادئ العقيدة الإسلامية في صورة يقبلها العقل، وغامروا بتعريض أنفسهم لاستهجان أهل السنّة والجماعة وإثارة سخطهم. وتناول المعتزلة خمسة أصول أساسية هي:

أولا: القول بالتوحيد في صورة بالغة القوة وفقا لمبدأ التنزيه. وذهـبـوا في هذا القول إلى أقصى حد حتى كان ذلك على حـسـاب نـفـي الـصـفـات الحقيقية للذات الإلهية.

ثانيا: العدل، وقالوا إن الخير خير في ذاته، والشر شر في ذاته، قبل أن تأتي الشريعة بتحديد ذلك (أو بعبارة أخرى قبل ورود الـوحـي، كـمـا يـقـول المتكلمون) وأنه يجب في حق الله أن يفعل الخير والصلاح لعباده. ولما كان الله لا يريد الشر، فهو كذلك لا يأمر به، والإنسان هو الذي يخلق الشر.

ثالثاً: الأصل الخاص بمصير المؤمن والعاصي والكافر.

رابعاً: المنزلة بين المنزلتين، أي منزلة الإيمان ومنزلة الكفر، وتلك هي منزلة المؤمن العاصي الذي يرتكب الكبيرة، فيكون مصيره في الآخرة أن يخلد في النار (ولكن عذابه أقل من عذاب الكافر). أما في الحياة الدنيا فيظل رغم ارتكابه الكبيرة عضواً في الجماعة الإسلامية.

والأصل الخامس والأخير الذي يقول به المعتزلة، هو الذي يضع قاعدةً للسلوكالعملي للمؤمن في المجتمع الإسلامي، فإذا واجهه شرٌّ كان عليه أن ينكره بقلبه أو لسانه أو يده. فإن لم يكن ذلك كافياً فلا بدّ من إعادة الحق إلى نصابه بالسيف.

ومن الواضح أنه قد يكون من الخطأ اعتبار هؤلاء المفكرين الأولين في الإسلام "مفكرين أحراراً"، إذ لم يكونوا كذلك، لأنهم عندما أصبحت السلطة تحت أيديهم، ظهر منهم تشدّدٌ لا هوادة فيه، وأصرّوا على فرض معتقداتهم بالقوّة. لكن سلطانَهم كان مؤقتاً، فلم يلبثوا أن اضطُهِدوا بدورهم وحُرِقَت كتبُهم. ومع ذلك فإن أثرهم ظل عظيماً عند أولئك الذين كانوا يرغبون في دين بحسب معايير العقل، وهم على وجه الخصوص الذين مهدوا السبيل للفلاسفة، وكانوا مثلهم يحلمون بالتوفيق بين حكمة الإغريق والوحي المنزل. (43)

..

الفلسفــة

 

لخصت في الصفحات السابقة الخلفية التي يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي، وسنكتفي فـي الـصـفـحـات الـتـالـيـة بـعـرض مميزات الـفـلـسـفـة الإسلامية في مجموعها، وفي أثناء ذلك سنبرز الدور الذي قام به هذا أو ذاك من ممثّليها.

وأول ما يلاحَظ هو أن تلك الفلسفة تمثّل وحدة لا سبيل إلى إنـكـارهـا على الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنـفـت فيها.

كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند فلاسفة المسلمين في الشرق هي بعينها الموجودة عندهم في الغرب.

ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة بالحياة الـيـومـيـة، ولـم يـكـن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيهـا. وأقـصـى مـا فـي الأمـر أنـهـم كـانـوا يلجأون إلى التأول المجازي في موضوعات معيّنة( مثل الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضاً نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة الهيلينستية: منطق أرسطو، والإيمان بالعقل باعتباره العيار الأعلى، والنظر إلى الله تعالى على أنه وجود محض، محرك

أول غير متحرك، وفي الغالب القول بضرورة خلق العالم في الأزل. ويتميز أولئك الفلاسفة بنفس التكوين المدرسي (الاسكولائي) المستمَدّ من النشأة الدينية العامة لهم، وهم توصلوا إلى نفس النتائج في النقط الأساسية، وهم يشتركون في ظروف الحياة من ازدهار ونموّ، وهي الظروف التي كان يتسم بها المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى.

ويلاحَظ ثانياً أن هذه الفلسفة جزءٌ من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصورة دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوعٍ من الإلهام عند الفلاسفة القدماء، وأن الوحي الإسلامي ما هو إلا استمرار لذلك الإلهام.

وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يظلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية أن الفارابي كتب رسالة خاصة يدلل فيها على أن أفلاطون وأرسطو يذهبان، من حيث الجوهر، مذهباً واحداً ولكن بحكمين مختلفين، وهو يبيّن أيضاً أنهما يتفقان في تصورهما للحياة: فأفلاطون قد جسّد هذا التصور بصورة عينيّة، في حين أن أرسطو يوضحه في كتاباته المدوّنة. وهذا يصدق أيضاً على طريقة التعليم عند كلٍ منهما: فأفلاطون يستخدم أسلوب القصة، بينما يستعمل أرسطو لغةً مبهمة. لكن كلاً منهما يحب أن يجعل تلاميذه "يكتشفون" الحقيقة بالبحث عنها وراء الظواهر السطحية. ومذهبهما واحد كما يقول الفارابي، وهو يبيّن أن كلاً منهما يذهب المذهب نفسه في نظرية المثل ومسائل المعرفة والطبائع والوراثة وغيرها. وبسبب هذه الصلات التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية تقترب الفلسفة الإسلامية كل الاقتراب من الفلسفة الغربية، وذلك حتى عصر النهضة على الأقل.

ويلاحَظ في المقام الثالث أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون "حكمة". فقد كان الفارابي (ت 339هـ/ 950م)، وابن سينا (ت 428هـ / 1037م) وابن رشد (ت 595هـ / 1198م) مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات. والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها، ويذكر الفلسفة في النهايرة على أنها رأس العلوم، لأنها تتضمّن اليقين في المعرفة التي يُحصَل عليها بالبرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء" (والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:

1ـ المنطق، 2ـ الطبيعيات، 3ـ الرياضيات، 4ـ الإلهيات. ويدخل ابن سينا في نطاق الإلهيات جميع ما جاء به الوحي في القرآن الكريم. ويبيّن أن الله، وهو واجب الوجود والذي لا واجب وجود سواه، خير، قادر على كل شيء، وخالق كل شيء وقدير حكيم. وهو يحل مشكل الشر بأن يميّز بين العلل بالذات، والعلل بالعرَض، بل هو يعالج المشكلة الدقيقة الخاصة ببعث الجسد، ويتناول ذلك بالطريقة الفلسفية، ويرجع إلى العلوم الدينية الخاصة بالموضوع من أجل وضع أسس العقيدة في هذه المسألة. وإلى جانب ذلك ـ وهو ما يدل على طابع الشمول في الحكمة الإلهية لدى الفلسفة ـ يحاول ابن سينا أن يتبيّن من جديد عن طريق الاستدلالالفلسفي صحة أوامر القرآن الخاصة بأمور الجماعة، وهي الخلافة، وبناء الأسرة، وبيان حكمة تعدد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.

ويذهب ابن رشد إلى أبعدَ من ذلك. إذ قال بوجود ثلاثة أنواع من العقول بحسب أنواع الأدلة الثلاثة التي بيّنها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيّنة ضرورية، وربد هذه الأدلة هو الذي يكون الفلسفة. لكن هذا لا يتسنى إلا لقلّة من العقول (الخواص) الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرّس نفسها لها. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية. أما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيّأة لاتباع الاستدلال المنظم. والعقول الأخيرة نجدها عند جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة وحسب.

على أن أحد وجوه الإعجاز في القران، كما يقرر ابن رشد، هو أنّ فهمه ميسّر لهذه الأنواع الثلاثة من العقول، فكل منها يتبيّن الحق فيه بما يتفق مع قدرته العقلية. فليس هناك مشكلة بالنسبة للآيات القرآنية المحكمة التي لا لبس في معناها. فالجميع يفهمونها ويدركون معناها على نحو واضح. وهناك آيات متشابهة لأن فيها أمثالاً ومجازات. ولهذه الآيات معنى حرفي وآخر خفي أعمق. والفلاسفة وحدَهم، وهم صفوة العقول، هم الذين يستطيعون أن يدركوا التسلسل الدقيق للاستدلال، وأن يفهموا المعنى الأعمق. أما الجمهور فإنهم يفهمون النصوص بمعناها الحرفي. وينبغي الحذر من السماح لهم بالنظر إلى المعنى العميق الخفي الذي تخفيه تلك الآيات، لأنهم لن يفهموا فيتزعزع إيمانهم. أما الذي يحدث الفوضى ويبذر الاضطراب فهو تشغيب المتكلمين الذين لم يستطيعوا إدراك الدليل البرهاني، فلجأوا إلى الأدلة الجدلية التي لا تثبت شيئاً. وابن رشد لا يخفي استهزاءه بأولئك المفسدين, ولا يتردد في اللجوء إلى السلطان لكي يمنعهم من الاستمرار في أعمالهم الخاطئة.

على أن نوع هذه الحكمة التي تحاول الفلسفة الإسلامية أن تأخذ بها، كانت من حيث القصد على الأقل حكمةً دينية، وهذه هي خاصيتها الرابعة. فهي تشتمل على عناصرَ دينيةٍ مأخوذة من القرآن الكريم، ولكنها بدلاً من اقتباسها كعاصر دينية، تسعى في إخلاص إلى "التوفيق" بين الدين والعقل بقصد إعطاء الدين صفةً علمية. وهي تطبق بناء هيكل السفينة اليونانية على مبادئ الدين وبذلك تضفي على الفلسفة اليونانية صبغةً لم تكن لها عند الأقطاب من الإغريق. وهكذا استطاعت أن تصل إلى العقول المؤمنة، أو على الأقل تلك العقول التي ترغب في التوفيق بين عقيدتها وبين العقل والعلم. وهذا يفسر لنا النجاح الذي حققته إلهيات ابن سينا وكتابه "في النفس" في العصور الوسطى المسيحية.

وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأسسها المتعلقة بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها حول العقل كل من الكندي والفارابي وخاصة ابن سينا تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوى النفس المختلفة والمراحل التي يجب أن تمرَّ بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها. وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيّدة بأضواءٍ معيّنة آتية من القرآن.

وعلى هذا حاول الفلاسفة أن يتمثلوا مادة الوحي بإدخالها في إطار الفلسفة اليونانية. ولم تخلُ محاولتُهم من إثارة تشكك المؤمنين المتمسكين بطريقة السلف، بل إنها أثارت استنكارهم، حتى إن الغزالي صاحب العقل المنفتح الذي كان على اتصال وثيق بمذاهب الفلاسفة أحصى عشين مسألة استخرجها من مؤلفات الفلاسفة وخطّأهم فيها، فبدّعهم في سبع عشرة مسألة منها، وكفّرهم في الثلاث الباقية، وهي قولهم بقدم العالم، وبعدم معرفة الله الجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان. وأدى الموقف الهامشي للفلاسفة إلى جعل مركزهم غير مريح، واضطرهم في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى السرّية. ومن هنا فمن الخطأ مقارنة أقوالهم بفلسفة القديس توما الأكويني أو دانس سكوتوس؛ فهذان الأخيران، إذا توخينا الدقة في التعبير لم يكونا فيلسوفين بمعنى الكلمة، وإنما كانا لاهوتيَين قبل كل شيء. فإذا أردنا، ولو إلى حدٍّ ما على الأقل، أن نجد لهما نظراء في عالم الإسلام، فإننا يجب أن نتجه إلى المتكلمين الذين يسميهم توماس الأكويني (المتكلمين في شريعة العرب)، وهذا ما سنفعله. (47)

الفلسفــة

 

لخصت في الصفحات السابقة الخلفية التي يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي، وسنكتفي فـي الـصـفـحـات الـتـالـيـة بـعـرض مميزات الـفـلـسـفـة الإسلامية في مجموعها، وفي أثناء ذلك سنبرز الدور الذي قام به هذا أو ذاك من ممثّليها.

وأول ما يلاحَظ هو أن تلك الفلسفة تمثّل وحدة لا سبيل إلى إنـكـارهـا على الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنـفـت فيها.

كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند فلاسفة المسلمين في الشرق هي بعينها الموجودة عندهم في الغرب.

ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة بالحياة الـيـومـيـة، ولـم يـكـن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيهـا. وأقـصـى مـا فـي الأمـر أنـهـم كـانـوا يلجأون إلى التأول المجازي في موضوعات معيّنة( مثل الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضاً نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة الهيلينستية: منطق أرسطو، والإيمان بالعقل باعتباره العيار الأعلى، والنظر إلى الله تعالى على أنه وجود محض، محرك

أول غير متحرك، وفي الغالب القول بضرورة خلق العالم في الأزل. ويتميز أولئك الفلاسفة بنفس التكوين المدرسي (الاسكولائي) المستمَدّ من النشأة الدينية العامة لهم، وهم توصلوا إلى نفس النتائج في النقط الأساسية، وهم يشتركون في ظروف الحياة من ازدهار ونموّ، وهي الظروف التي كان يتسم بها المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى.

ويلاحَظ ثانياً أن هذه الفلسفة جزءٌ من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصورة دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوعٍ من الإلهام عند الفلاسفة القدماء، وأن الوحي الإسلامي ما هو إلا استمرار لذلك الإلهام.

وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يظلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية أن الفارابي كتب رسالة خاصة يدلل فيها على أن أفلاطون وأرسطو يذهبان، من حيث الجوهر، مذهباً واحداً ولكن بحكمين مختلفين، وهو يبيّن أيضاً أنهما يتفقان في تصورهما للحياة: فأفلاطون قد جسّد هذا التصور بصورة عينيّة، في حين أن أرسطو يوضحه في كتاباته المدوّنة. وهذا يصدق أيضاً على طريقة التعليم عند كلٍ منهما: فأفلاطون يستخدم أسلوب القصة، بينما يستعمل أرسطو لغةً مبهمة. لكن كلاً منهما يحب أن يجعل تلاميذه "يكتشفون" الحقيقة بالبحث عنها وراء الظواهر السطحية. ومذهبهما واحد كما يقول الفارابي، وهو يبيّن أن كلاً منهما يذهب المذهب نفسه في نظرية المثل ومسائل المعرفة والطبائع والوراثة وغيرها. وبسبب هذه الصلات التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية تقترب الفلسفة الإسلامية كل الاقتراب من الفلسفة الغربية، وذلك حتى عصر النهضة على الأقل.

ويلاحَظ في المقام الثالث أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون "حكمة". فقد كان الفارابي (ت 339هـ/ 950م)، وابن سينا (ت 428هـ / 1037م) وابن رشد (ت 595هـ / 1198م) مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات. والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها، ويذكر الفلسفة في النهايرة على أنها رأس العلوم، لأنها تتضمّن اليقين في المعرفة التي يُحصَل عليها بالبرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء" (والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:

1ـ المنطق، 2ـ الطبيعيات، 3ـ الرياضيات، 4ـ الإلهيات. ويدخل ابن سينا في نطاق الإلهيات جميع ما جاء به الوحي في القرآن الكريم. ويبيّن أن الله، وهو واجب الوجود والذي لا واجب وجود سواه، خير، قادر على كل شيء، وخالق كل شيء وقدير حكيم. وهو يحل مشكل الشر بأن يميّز بين العلل بالذات، والعلل بالعرَض، بل هو يعالج المشكلة الدقيقة الخاصة ببعث الجسد، ويتناول ذلك بالطريقة الفلسفية، ويرجع إلى العلوم الدينية الخاصة بالموضوع من أجل وضع أسس العقيدة في هذه المسألة. وإلى جانب ذلك ـ وهو ما يدل على طابع الشمول في الحكمة الإلهية لدى الفلسفة ـ يحاول ابن سينا أن يتبيّن من جديد عن طريق الاستدلالالفلسفي صحة أوامر القرآن الخاصة بأمور الجماعة، وهي الخلافة، وبناء الأسرة، وبيان حكمة تعدد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.

ويذهب ابن رشد إلى أبعدَ من ذلك. إذ قال بوجود ثلاثة أنواع من العقول بحسب أنواع الأدلة الثلاثة التي بيّنها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيّنة ضرورية، وربد هذه الأدلة هو الذي يكون الفلسفة. لكن هذا لا يتسنى إلا لقلّة من العقول (الخواص) الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرّس نفسها لها. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية. أما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيّأة لاتباع الاستدلال المنظم. والعقول الأخيرة نجدها عند جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة وحسب.

على أن أحد وجوه الإعجاز في القران، كما يقرر ابن رشد، هو أنّ فهمه ميسّر لهذه الأنواع الثلاثة من العقول، فكل منها يتبيّن الحق فيه بما يتفق مع قدرته العقلية. فليس هناك مشكلة بالنسبة للآيات القرآنية المحكمة التي لا لبس في معناها. فالجميع يفهمونها ويدركون معناها على نحو واضح. وهناك آيات متشابهة لأن فيها أمثالاً ومجازات. ولهذه الآيات معنى حرفي وآخر خفي أعمق. والفلاسفة وحدَهم، وهم صفوة العقول، هم الذين يستطيعون أن يدركوا التسلسل الدقيق للاستدلال، وأن يفهموا المعنى الأعمق. أما الجمهور فإنهم يفهمون النصوص بمعناها الحرفي. وينبغي الحذر من السماح لهم بالنظر إلى المعنى العميق الخفي الذي تخفيه تلك الآيات، لأنهم لن يفهموا فيتزعزع إيمانهم. أما الذي يحدث الفوضى ويبذر الاضطراب فهو تشغيب المتكلمين الذين لم يستطيعوا إدراك الدليل البرهاني، فلجأوا إلى الأدلة الجدلية التي لا تثبت شيئاً. وابن رشد لا يخفي استهزاءه بأولئك المفسدين, ولا يتردد في اللجوء إلى السلطان لكي يمنعهم من الاستمرار في أعمالهم الخاطئة.

على أن نوع هذه الحكمة التي تحاول الفلسفة الإسلامية أن تأخذ بها، كانت من حيث القصد على الأقل حكمةً دينية، وهذه هي خاصيتها الرابعة. فهي تشتمل على عناصرَ دينيةٍ مأخوذة من القرآن الكريم، ولكنها بدلاً من اقتباسها كعاصر دينية، تسعى في إخلاص إلى "التوفيق" بين الدين والعقل بقصد إعطاء الدين صفةً علمية. وهي تطبق بناء هيكل السفينة اليونانية على مبادئ الدين وبذلك تضفي على الفلسفة اليونانية صبغةً لم تكن لها عند الأقطاب من الإغريق. وهكذا استطاعت أن تصل إلى العقول المؤمنة، أو على الأقل تلك العقول التي ترغب في التوفيق بين عقيدتها وبين العقل والعلم. وهذا يفسر لنا النجاح الذي حققته إلهيات ابن سينا وكتابه "في النفس" في العصور الوسطى المسيحية.

وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأسسها المتعلقة بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها حول العقل كل من الكندي والفارابي وخاصة ابن سينا تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوى النفس المختلفة والمراحل التي يجب أن تمرَّ بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها. وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيّدة بأضواءٍ معيّنة آتية من القرآن.

وعلى هذا حاول الفلاسفة أن يتمثلوا مادة الوحي بإدخالها في إطار الفلسفة اليونانية. ولم تخلُ محاولتُهم من إثارة تشكك المؤمنين المتمسكين بطريقة السلف، بل إنها أثارت استنكارهم، حتى إن الغزالي صاحب العقل المنفتح الذي كان على اتصال وثيق بمذاهب الفلاسفة أحصى عشين مسألة استخرجها من مؤلفات الفلاسفة وخطّأهم فيها، فبدّعهم في سبع عشرة مسألة منها، وكفّرهم في الثلاث الباقية، وهي قولهم بقدم العالم، وبعدم معرفة الله الجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان. وأدى الموقف الهامشي للفلاسفة إلى جعل مركزهم غير مريح، واضطرهم في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى السرّية. ومن هنا فمن الخطأ مقارنة أقوالهم بفلسفة القديس توما الأكويني أو دانس سكوتوس؛ فهذان الأخيران، إذا توخينا الدقة في التعبير لم يكونا فيلسوفين بمعنى الكلمة، وإنما كانا لاهوتيَين قبل كل شيء. فإذا أردنا، ولو إلى حدٍّ ما على الأقل، أن نجد لهما نظراء في عالم الإسلام، فإننا يجب أن نتجه إلى المتكلمين الذين يسميهم توماس الأكويني (المتكلمين في شريعة العرب)، وهذا ما سنفعله. (47)

 

أما الجويني الذي يلقب أيضا «بإمام الحرمين» فإنه يذكر في مناسبات عدة التقسيمات الكبرى لمادة البحث. وهو في أحد المواضع يميّز بين ما يجب لله من الصفات وما يجوز عليه. أي ما قد يجوز أن يفعله وما لا يجوز. وفي موضع آخر يميّز بين الأِياء التي يمكنالتوصل إليها بالعقل، وتلك التي لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق النقل السمعي، لكن ليس من السهل أن يميز شيئاً من ذلك في "الإرشاد". أما الجويني الذي يلقب أيضا «بإمام الحرمين» فإنه يذكر في مناسبات عدة التقسيمات الكبرى لمادة البحث. وهو في أحد المواضع يميّز بين ما يجب لله من الصفات وما يجوز عليه. أي ما قد يجوز أن يفعله وما لا يجوز. وفي موضع آخر يميّز بين الأِياء التي يمكنالتوصل إليها بالعقل، وتلك التي لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق النقل السمعي، لكن ليس من السهل أن يميز شيئاً من ذلك في "الإرشاد".

التـصـوف

عندما نتكلم عـن الـتـصـوف أو مـذهـب الـصـوفـيـة (Sufism(9 ندخل فـي ناحية من أروع نواحي الفكر الإسلامي بل الحضـارة الإسـلامـيـة. ذلـك أن كلام الكثيرين الذين كتبوا فيه يحرك نفوسنا، كما أن براعة أوصافهم تثير إعجابنا. غير أنه لا يمكن أن نكوّن فكرة حقيقية عن غزارة هذا الميدان إلا إذا تعرفنا على النصوص.

ولقد قدمت نظريات متـعـددة حـول أصـول هـذه الحـركـة فـي الإسـلام:

فقيل إن أصلها من الرهبانية السريانية، أو مـن الأفـلاطـونـيـة المحـدثـة، أو الزرادشتية الفارسية أو الفيدانتا الهندية.

لكن أمكن إثبات أنه لا يمكن التمسك بالافتراضات التي تذهب إلى اقتباس المسلم التصوف عن أصول أجنبية، إذ إنه منذ بداية الإسلام أحس نفر من المؤمنين المتحمسين  بالدافع إلى التأمل في القرآن عن طريق المداومة على تلاوته أو «التعمـق» في روحه إذا صح هذا التعبير. فالقرآن يتضمن كما بينا آنفا عددا من العناصر المتعلقة بالزهد والتصوف. وبعض الآيات القرآنية تذكر الناس مرة بعد أخرى بأن الله حاضر معهم، وبالخوف من الحساب، وزوال كل الأشياء الإنسانية، وجمال الفضيلة وما إلى ذلك. وهـنـاك آيـات أخـرى تعطي النفس المتدينة الفرصة للوصول إلى لب العقيدة. وهكذا نجد سلسلة من الآيات التي تذكر الإنسان برسالته وتؤكد على حاجته إلى أن يقيم في قلبه صرحا عامرا بالتقوى والإيمان، منها الآية :

{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أم من أسس بنيانه عـلـى شـفـا جــرف هــاوٍ، فـانـهـار بـه فـي نـار جـهـنـم، والـلــه لا يــهــدي الــقــوم الظالمين.

وعلى أساس هذه الأفكار نستطـيـع أن نـتـبـيّن بـوجـه عـام ثـلاث فـتـرات كبيرة في التاريخ العام للتصوف:

- الأولى تغطـي القـرون الـثـــلاثـة الأولـــى مـن تـاريـــخ الإســـلام (أي مـن القـرن السـابع إلى القرن التاسع للميلاد). وهـي فتـرة يمكن أن ندعـوها فتـرة الصراع من أجل البقاء. وكان التصـوف خلالها يبحث عن حقه في الوجـود وفـي التغـلب علـى بعـض الأحكام المسبقـة التـي كانت تعارضه بتشـجيع من السـلطات الرسمية التي يغلب عليها الحسـاسية والتشكك.

- والفترة الثانية تتميز بمحاولة التوفيق بين التصوف وخصومه، وانتصاره انتصارا يرجع قبل كل شيء إلى رجل عبقري هو الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي.

- والفترة الثالثة تتميز بانتشار المؤلفات الكبرى في التصوف (وتـشـمـل الفترة الواقعة بين القرن السادس والتاسع للهجرة/ الثاني عشر والخامس عشر للميلاد) كما تتميز بدخول التصوف في عـصـر الـتـدهـور ابـتـداء مـن القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وسنتحدث عن هذه الفترات بإيجاز شديد.

أحد تلامذة الجنيد، وهو من أصل فارسي، وقد أنكرته مدرسة بغداد بسبب غلوه في آرائه. ذلك أن تصوره للاتحاد باللـه ـ حـيـث تكمل النفس وتتقدس وتصبح ربانيـة كـأنـهـا إرادة حـرة حـيـة فـي يـد الـلـه ـ وكذلك أفكاره عن الرسالة من أنها لابد أن تنطبق في رأيه على كل إنسان، بالإضافة إلى الكرامات التي كان يظهرها وربطته في نظر تلامذته بالأنبياء; كل هذه الآراء جعلت الأوساط الصوفية والفقهية والسياسية تدينه، فسجن وحوكم وقطعت رأسه في الرابع والعشرين من ذي القعدة عام ٣٠٩هـ الموافق للسابع والعشرين من مارس ٩٢٢م. وقد خـصص لـوي ماسـينون مجلدين كبيرين لحياة الحلاج هما من أحسن ما كتب عن التصوف المقارن في هذا القرن.

وطريق التصوف يجمع بين الزهد والتصوف في آن واحد. وهو يتطلب تصفية النفس التي تهيئها للاتحاد مع الحقيقة الإلهيـة. ومـن يـسـلـك هـذا الطريق يمر في ثلاثة مقامات أساسية: مقام الطالب، ومقام السالك، ومقام المريد. وهنانجد الأقسامالكبرى للزهد المسيحي في الشرق. ويتم سلوك طريق التصوّف خطوة فخطوة. فالمتصوّف لا يترقى  إلى مقـام أعلى من مقامه إلا بعد أن يكون قد مر بالمقامات السابقة عليه. وقد ذكر أبو نصر السراج سبعة من هذه المقامات وهـي: الـتـوبـة، ويـضـعـهـا مـعـظـم المؤلفين في التصوف في رأس القائمة علـى اعـتـبـار أنـهـا المقام الأول، ثم الورع، وهو ينبغي أن يزيد (عند الصوفي) على ما لدى المؤمن الـعـادي مـن هذه الصفة، ثم الزهد التام في خيرات هذه الدنيا حتى في الحلال الموجود منها، ويأتي بعد ذلك الفقر ثم الصبر على المكاره والبلايا، والتوكل أي الثقة بالله، والرضا أي تقبل (العبد) لكل ما يحدث متمثلا فـي ذلـك لإرادة الـلـه تعالى.

والسعي إلى الكمال، وهو مجاهدة النفس، يقوم به الإنسان بإشرافٍ لا غنىً عنه من قبل مرشد روحي. وينبغي أن يكون الطالب أو المبتدئ بين يديّ شيخه الذي يرشده "كالميت بين يدي الغاسل". وعلى المرشد أن يراعي نزعات الطالب ومزاجه حتى يروّضه على التواضع والتوبة والصمت والصوم وما إلى ذلك من أنواع الرياضات. وكان الراغب في سلوك طريق الصوفية يقضي نهاره في التفكير والدعاء بلسانه وإدامة الذكر لعبارات بعينها ومحاسبة النفس وغير ذلك من أنواع الرياضة على التقوى.

وعلى حين أن المقامات أو المنازل تُنال بالمجهود الشخصي أي بالاكتساب، فإن الأحوالَ مواهبُ من الله تعالى. وقد ذكر السرّاج عشرة من هذه الأحوال وهي: المراقبة، والقرب، ولامحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والاطمئنان، والمشاهدة، واليقين. لكن ترتيب هذه الأحوال يختلف بحسب المؤلفين، فالمحبة توضع أحياناً بين المقامات المكتسبة، وفي أحيانٍ أخرى تعتبر أساس الاتحاد. (62)

الغزالي حجة الإسلام:

يعتبر الغزالي (ت ٥٠٥هـ/ ١١١١م) الرجل الذي أسهم بأكبر نصيـب فـي جعل التصوف مقبولا لدى أصحاب السلطة في الإسلام كل التشككات والظنون المسبقة حول التصوف عند علماء المسلمين المتشددين في أحكام الشريعة.

 ويعرف الغزالي في العصور الوسطـى الـغـربـيـة بـاسـم «الغازل» (Algazel(9 لكن الغرب لم يعرفه مع ذلك إلا عن طريق بعض مؤلفاته في الفلسفة، وخاصة كتابه «مقاصد الفلاسفة»، ولذلك لم يستطع الغرب حق قدره، على حين يمكن اعتبار الغزالي بالنسبة للفكر الإسلامي شبيهاً بالقديس توما الأكويني مع أخذ الاختلافات بين الحالتين بعين الاعتبار.

وللغزالي ترجمة ذاتية مؤثرة، هي كتابه "المنقذ من الضلال" الذي تذكّر بعضُ ملامحِه باعترافات القديس أوغسطين. وفي هذا الكتاب يصف الغزالي تطوّر حياته العقلية والروحية، ويقرّر أنه لم يجد السكينة إلا في اتباع "طريق الصوفية". ولا شك في أن الغزالي واحدٌ من أعظم المفكرين المسلمين، فقد كان متمكناً كل التمكن من علوم الدين، كما استوعب كل ما كان الناس في العالم العربي يعرفونه في عصره عن الفلسفة اليونانية، وتأثر تأثراً قوياً بالأفلاطونية المحدثة. وأتيحت له علاوةً على ذلك عدة فرص ليعرف المسيحية، فقرأ بصورة خاصة إنجيل يوحنا، وكتب عليه رداً.

الغزالي حجة الإسلام:

يعتبر الغزالي (ت ٥٠٥هـ/ ١١١١م) الرجل الذي أسهم بأكبر نصيـب فـي جعل التصوف مقبولا لدى أصحاب السلطة في الإسلام كل التشككات والظنون المسبقة حول التصوف عند علماء المسلمين المتشددين في أحكام الشريعة.

 ويعرف الغزالي في العصور الوسطـى الـغـربـيـة بـاسـم «الغازل» (Algazel(9 لكن الغرب لم يعرفه مع ذلك إلا عن طريق بعض مؤلفاته في الفلسفة، وخاصة كتابه «مقاصد الفلاسفة»، ولذلك لم يستطع الغرب حق قدره، على حين يمكن اعتبار الغزالي بالنسبة للفكر الإسلامي شبيهاً بالقديس توما الأكويني مع أخذ الاختلافات بين الحالتين بعين الاعتبار.

وللغزالي ترجمة ذاتية مؤثرة، هي كتابه "المنقذ من الضلال" الذي تذكّر بعضُ ملامحِه باعترافات القديس أوغسطين. وفي هذا الكتاب يصف الغزالي تطوّر حياته العقلية والروحية، ويقرّر أنه لم يجد السكينة إلا في اتباع "طريق الصوفية". ولا شك في أن الغزالي واحدٌ من أعظم المفكرين المسلمين، فقد كان متمكناً كل التمكن من علوم الدين، كما استوعب كل ما كان الناس في العالم العربي يعرفونه في عصره عن الفلسفة اليونانية، وتأثر تأثراً قوياً بالأفلاطونية المحدثة. وأتيحت له علاوةً على ذلك عدة فرص ليعرف المسيحية، فقرأ بصورة خاصة إنجيل يوحنا، وكتب عليه رداً.

التصوف العقلي:

نشأ عن تنوع العناصـر الـتـي جـاء بـهـا الـغـزالـي أن صـار لـه تـأثـيـر فـي اتجاهين متمايزين: أحدهما عقلــي أدى إلـــى تـصـــوف يمكـن أن نـســـمـيـه تصوفاً ميتافيزيقيـا أو عرفانيا (Gnostic(9 والآخر ذو اتجاهات شعبية اتخذت شكلا ملموسا يتمثل في الطرق الصوفية.

والأمر الذي يميّز الاتجاه الأول هو الاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى ما وراء العالم الملموس الذي هو مجرد مظهر لبلوغ عالم الحقائق المعقولة والروحانية، وذلك من طريق حدس وجداني (emotional) وهو ما يسمى بالمعرفة. واستخدام أولئك الصوفية (من أصحاب المعرفة) التحليلات الميتافيزيقية عند كبار الفلاسفة، وخاصة ابن سينا الذي تأثر بالأفلاطونية المحدثة وبعناصر إيرانية وهرمسية، فتكلموا في الأنبياء ورسالتهم وفي صدور الكثرة عن الواحد، وفي علاقة المخلوقات بخالقها، وفي تركيب العالم، وحلول الإله في نفس الصوفي أو الوحدة بين "الأنا الإنساني" و"الأنا الإلهي" كما تكلموا في الإشراق وفي وحدة الوجود. وقد صاغوا خلاصة آرائهم نثراً أو في قصائد مطوّلة يُعتبَر بعضُها من أجمل ما في الأدب العربي أو الفارسي. (64)

التصوف العقلي:

نشأ عن تنوع العناصـر الـتـي جـاء بـهـا الـغـزالـي أن صـار لـه تـأثـيـر فـي اتجاهين متمايزين: أحدهما عقلــي أدى إلـــى تـصـــوف يمكـن أن نـســـمـيـه تصوفاً ميتافيزيقيـا أو عرفانيا (Gnostic(9 والآخر ذو اتجاهات شعبية اتخذت شكلا ملموسا يتمثل في الطرق الصوفية.

والأمر الذي يميّز الاتجاه الأول هو الاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى ما وراء العالم الملموس الذي هو مجرد مظهر لبلوغ عالم الحقائق المعقولة والروحانية، وذلك من طريق حدس وجداني (emotional) وهو ما يسمى بالمعرفة. واستخدام أولئك الصوفية (من أصحاب المعرفة) التحليلات الميتافيزيقية عند كبار الفلاسفة، وخاصة ابن سينا الذي تأثر بالأفلاطونية المحدثة وبعناصر إيرانية وهرمسية، فتكلموا في الأنبياء ورسالتهم وفي صدور الكثرة عن الواحد، وفي علاقة المخلوقات بخالقها، وفي تركيب العالم، وحلول الإله في نفس الصوفي أو الوحدة بين "الأنا الإنساني" و"الأنا الإلهي" كما تكلموا في الإشراق وفي وحدة الوجود. وقد صاغوا خلاصة آرائهم نثراً أو في قصائد مطوّلة يُعتبَر بعضُها من أجمل ما في الأدب العربي أو الفارسي. (64)

وسوف نتناول من صوفية أهل االمعرفة Mysticism Gnostic هذه موضوعين رئيسيين هما: موضوع الله نور السماوات والأرض، وموضوع الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه ألوهية الكون وثراؤه.

والرجل الذي كان أكبر من تكلم في  الموضوع الأول من هذين الموضوعين كان

أحد صوفية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ولد في فارس ثم قتل في حلب بسبب آرائه الـتـي اعـتـبـرت إلحـاديـة،

..

انتشار التصوف العملي والتراث الشعبي

وعلى هذا النحو انتشرت [بعد الغزالي] الطرق الصوفية بين الجماهير بعد أن كانت في الأصل مجموعات يتألف كل منها من شيخ ومريديه. وساعد على انتشار هذه الطرق تلك السهولة التي كان دعاة الإسلام يقبَلون بها الراغبين في اعتناق الدين الجديد. إذ كان كل ما يطلبونه منهم هو إظهار الرغبة في الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين بإخلاص. وكانوا يغضون الطرف عن العادات السابقة (عند من يدخل في الإسلام) إذا لم يكن الشرك ظاهراً فيها تماماً، وكان من شأن هذا التسامح أن يغيّر وجه الإسلام كله في بضعة قرون تغييراً ملحوظاً. فحتى ذلك الحين كانت سلطة العلماء التي يعترف بها الناس هي وسيلة المحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. فلما زال تأثيرهم في المحافظة على تلك الوحدة، صارت كل منطقة دخلها الإسلام حديثاً أو تحوّلت إلى الإسلام منذ زمن بعيد تبدو عليها مسحةُ تراثِها الشعبي وآثار عادات أسلافها. واقترن ظهور هذه الإقليمية في عالم الإسلام بعصر الجمود في العلوم الدينية وكل أوجه الثقافة العربية والإسلامية.

...

إن الطرق التي كانت في الأرياف وانتشرت في القرى فقد كانت أكثر تعرضاً للمؤثرات المحلية. وهناك حالات نجد فيها أن الأسرة الواحدة من التنظيمات الصوفية التي لها فروع في المدن ظلت وثيقة الصلة بالتعليم الإسلامي الحقيقي، في حين ظلت في فروعها الريفية آثار لفكرة حيوية الطبيعة الجامدة، وهذا كان شأن الطريقة الشاذلية الكبرى في الشمال الإفريقي. (69)

 

[إن جلال الدين الرومي]، إذ يستعمل الحكايات والأساطير شبه التاريخية والتأملات والمجازات والأمثال، فإنه يلتزم دائماً بالموضوع الوحيد الذي يدور حول كل الديوان، وهو محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. وهذا هو الشيء الوحيد الذي له قيمة. ويعتقد جلال الدين الرومي أنه لا بد للإنسان من أن ينسى نفسه حتى يفنى في الله. (70)

وسوف نتناول من صوفية أهل االمعرفة Mysticism Gnostic هذه موضوعين رئيسيين هما: موضوع الله نور السماوات والأرض، وموضوع الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه ألوهية الكون وثراؤه.

والرجل الذي كان أكبر من تكلم في  الموضوع الأول من هذين الموضوعين كان

أحد صوفية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ولد في فارس ثم قتل في حلب بسبب آرائه الـتـي اعـتـبـرت إلحـاديـة،

..

انتشار التصوف العملي والتراث الشعبي

وعلى هذا النحو انتشرت [بعد الغزالي] الطرق الصوفية بين الجماهير بعد أن كانت في الأصل مجموعات يتألف كل منها من شيخ ومريديه. وساعد على انتشار هذه الطرق تلك السهولة التي كان دعاة الإسلام يقبَلون بها الراغبين في اعتناق الدين الجديد. إذ كان كل ما يطلبونه منهم هو إظهار الرغبة في الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين بإخلاص. وكانوا يغضون الطرف عن العادات السابقة (عند من يدخل في الإسلام) إذا لم يكن الشرك ظاهراً فيها تماماً، وكان من شأن هذا التسامح أن يغيّر وجه الإسلام كله في بضعة قرون تغييراً ملحوظاً. فحتى ذلك الحين كانت سلطة العلماء التي يعترف بها الناس هي وسيلة المحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. فلما زال تأثيرهم في المحافظة على تلك الوحدة، صارت كل منطقة دخلها الإسلام حديثاً أو تحوّلت إلى الإسلام منذ زمن بعيد تبدو عليها مسحةُ تراثِها الشعبي وآثار عادات أسلافها. واقترن ظهور هذه الإقليمية في عالم الإسلام بعصر الجمود في العلوم الدينية وكل أوجه الثقافة العربية والإسلامية.

...

إن الطرق التي كانت في الأرياف وانتشرت في القرى فقد كانت أكثر تعرضاً للمؤثرات المحلية. وهناك حالات نجد فيها أن الأسرة الواحدة من التنظيمات الصوفية التي لها فروع في المدن ظلت وثيقة الصلة بالتعليم الإسلامي الحقيقي، في حين ظلت في فروعها الريفية آثار لفكرة حيوية الطبيعة الجامدة، وهذا كان شأن الطريقة الشاذلية الكبرى في الشمال الإفريقي. (69)

 

[إن جلال الدين الرومي]، إذ يستعمل الحكايات والأساطير شبه التاريخية والتأملات والمجازات والأمثال، فإنه يلتزم دائماً بالموضوع الوحيد الذي يدور حول كل الديوان، وهو محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. وهذا هو الشيء الوحيد الذي له قيمة. ويعتقد جلال الدين الرومي أنه لا بد للإنسان من أن ينسى نفسه حتى يفنى في الله. (70)


جورج قنواتي: تراث الإسلام في الغرب (في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف). (عن "تراث الإسلام")

 



تـراث الإســلام فـي الغــرب (في الفلسفة وعلم الكلام والتصوّف)

 

 

بقي علينا أن ننظر ما هو الجزء الذي انتقل إلى الحضارة الغربية من تراث المسلمين في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف.

ولنبدأ بتذكير القارئ بواقعةٍ مهمّة، وهي أن العرب ظلوا فـي الأنـدلـس طوال سبعة قرون تقريبا (انظر ما سبق ذكره في الفصل الـثـانـي مـن هـذا الكتاب). وكانت قرطبة مركز حياة فكرية قوية حافلة، قامت فيها الفلسفة وعلم الكلام بدورهما بشكل واضح. ولم تقتصر الاتصالات بين المسلمين والنصارى على التجارة وحسب، بل إن الثقافة الإسلامية كان لها تأثير كاف جذب إليها أحسن العقول بين نصارى تلك البلاد. وعلاوة عـلـى ذلـك فـإن الأساقفة كانوا توّاقين إلى التعرف على كتب أولئك الناس (المسلمين) الذين كانوا يعتقدون أن رسالتهم هي تحويلهم إلى المسيحية. وبناء على تعليمات هؤلاء الأساقفة ترجمت الكتب العربية. وعندما استعاد المسيحيون طليطلة من المسلمين عام 478 هـ / 1085م، عمل الأسقف رايموندو على ترجمة الكتب العربية هناك. كما تمت ترجمات أخرى أيضاً في برغش، وكذلك في صقلية في ربط فريدريك الثاني (1215ـ 1250م)، حيث قام ميخائيل سكوتس (ت حوالي 1236م) بإسهام نشط في تعريف سيده بـ "علوم العرب". وقد تناول الفصل الثاني من هذا الكتاب بالتفصيل كل عملية التبادل الثقافي هذه.

والذي يستلفت النظر في هذه النقول من العربية، أنها قامت على أساس الاختيار، إذ تُرِكت بعض المؤلفات جانباً عن قصد، وبخاصة كتب الأدب، وذلك حتى تقتصر الترجمة على الكتب العلمية والفلسفية. ونتيجة لذلك بقيت كتب الحديث والمسائل التي تطرحها، وكتب الفقه الأساسية، وكل كتاب الإحياء للغزالي مجهولة من قبل الغرب. فالغزالي عند أهل العصور الوسطى اللاتينية في أوروبا كاد لا يكون معروفاً إلا باعتبار أنه صاحب "مقاصد الفلاسفة" دون غيره من المؤلفات، وهو ملخص واضح وبسيط للفلسفة في المشرق. ومن مذاهب المتكلمين لم يعرف الغرب سوى موضوعاتٍ قليلةٍ مثل المذهب الذري ومذهب المناسبات (Occasionalism). وقد رفضهما توما الأكويني بازدراء. لكن الإسهام العربي الإسلامي في مجال العلم (والفلسفة) لقي ترحيباً حاراً عندما أصبحت الوسيلة التي انتقلت بها الثروة العلمية والفلسفية لليونان القدماء إلى الغرب.

وقد زاد هذا الإسهام العلمي غنى وثراء نتيجة للجهد الشخصي الذي بذله العرب. فمنذ القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي فصاعداً كثرت الترجمات لكتب العرب في الفلك والتنجيم والطب والعلم التجريبي (والسحر). وأصبحت مدينة هيرفورد في القرن الحادي عشر الميلادي مركزاً إنجليزياً حقيقياً للدراسات العربية. وبعد ذلك بقليل يجوز أن تكون ترجمة القرآن، التي تمت بطلبٍ من بطرس الجليل (ت 1155م)، هي التي شجعت على المضيّ في الترجمة في مجال الفلسفة في مدينة طليطلة. لكن التفضيل كاد يقتصر على كتب الفلسفة.  (71)

وطوال قرونٍ كثيرة خلت، لم يكن قد عُرِف سوى كتاب أو كتابين من مؤلفات أرسطو نجَوَا من الضياع بعد سقوط الأمبراطورية الرومانية. ولكن منذ سنة 1125م فما بعدها، عثر على ترجمات لبعض مؤلفاته قام بها بويثيوس، وكانت مفقودة حتى ذلك الحين. كما كانت هناك أيضاً مصادرُ أخرى ساعدت على وضع "أورغانون" أرسطو كاملاً في متناول أهل الفكراللاتينيين. وبتأثر من هذا المنطق الجديد بدأت ثورة جدلية. وبعد ذلك بسنوات ظهرت أعمال أخرى لأرسطو في ترجماتٍ لاتينية. ولم تقتصر هذه الترجمات على المنطق، بل شملت أيضاً الطبيعيات (وبعد ذلك بقليل ظهرت الأخلاق والميتافيزيقا لأرسطو). وقد اختلطت بهذه المؤلفات نصوص من الأفلاطونية المحدثة. ومن ذلك الكتاب المنسوب لأرسطو المسمّى "أثولوجيا" أرسطوطاليس والذي يضم شذرات من تاسوعات أفلوطين وكتاب العلل (الذي يشمل أيضاً شذرات من كتاب "الأسطقسات الإلهية" لبرقلس.

وفي الوقت نفسه بدأت تظهر في الغرب الأعمال الأصلية للمؤلفين المسلمين مثل "في ماهية العقل والإبانة عنه" للكندي (ت 260هـ / 873م)، وكتاب أبي نصر الفارابي في العقل أيضاً، بالإضافة إلى كتابه في العلوم، وكتابه "إحصاء العلوم"، و"كتاب الشفاء" لابن سينا، وبخاصة قسم الإلهيات، وكتابه في النفس، وكتاب "مقاصد الفلاسفة" للغزالي، وكتاب "ينبوع الحياة" لابن جبرونل (الذي يعرف في الغرب باسم (أفيسبرون) (ت 450هـ / 1058م). ومن بين هذا الإسهام العربي في العلوم، يبرز لنا قبل كل شيء عالمان كان لهما أثرٌ كبير في الفكر الغربي المسيحي، هما ابن سينا وابن رشد.

استرعت انتباه علماء العقائد المسيحيين نزعات الأفلاطونية المحدثة بجوانبها الصوفية والدينية الموجودة عند ابن سينا، إذ كان أولئك اللاهوتيون توّاقين إلى الوصول إلى أساس فلسفي لما كانوا يأخذون به من المذهب الأوغسطيني، وكان من ثمرات ذلك المذهب الحسي الأوغسطيني السينوي كتاب "في النفس" لكبير أساقفة طليطلة يوحنا الطليطلي (القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي). وقد نُسِب هذا الكتاب بعض الوقت إلى جنديشلب [غونديسالفي]. وهذا الكتاب مؤلف شخصي لكنه متأثر كلية بابن سينا. والمؤلف يعلق في هذا الكتاب على الفلسفة الأفلاطونية المحدثة في صورتها المسيحية الموجودة عند القديس أوغسطين، وذلك في ضوء الفلسفة الأفلاطونية المحدثة في صورتها العربية الموجودة عند ابن سينا والفارابي. وفي ذلك يقول جيلسون "إن كتاب النفس المنسوب إلى جنديشلب يعين بدء دخول آراء ابن سينا في الفكرالمسيحي. وفي القرن السابع الهجري (الثالث عشر م)، نجد هذا الاتجاه ظاهراً إلى حدٍ كبير أو قليل في كتابات ويليام الأوفيرني Auvergne (ت 1249م)، وفي أعمال كبار الرهبان الفرنسسكان من أساتذة جامعة باريس من أمثال اسكندر الهاليسي (ت 1245م)، ويوحنا دو لاروشيل (ت 1245م)، والقديس بونافنتورا (ت 1274م)، بالإضافة إلى الفرنسسكان الإنجليز من أمثال روبرت جوسيتست (ت 1254م)، ويوحنا بيكهام (ت 1292م). وقدر لهذا الاتجاه الآتي من ابن سينا أن ينتشر ويزدهر إلى أقصى حد في فكر روجر بيكون المستنير الذي تأثر بابن سينا (والفارابي) إلى درجة أن نظريته عن قداسة البابا تتفق تمام الاتفاق مع النظريات التي قال بها ابن سينا عن الخلافة.

ولنضف إلى ما تقدم أن التأثير الضخم الذي كان لفكر ابن سينا في ذلك الوقت، تجاوز كثيراً الإطار الخاص للمذهب الأوغسطيني السينوي بمعناه الضيق، ونجد هذا التأثير حياً وقوياً في تعريف ألبرت الأكبر للنفس وفي نظريته في النبوة. وقد اقتبس توما الأكويني منه أيضاً كثيراً من عناصر عدته من الوسائل والمنهج والمصطلحات، كما أن دانس سكوتس اتخذ من فلسفة ابن سينا إلى حدٍ ما أساساً بنى عليه أقواله في ما وراء الطبيعة. وأخيراً حاول بعض العلماء أن يجدوا عند ابن سينا سوابق للكوجيتو الديكارتي.

أما ابن رشد، فلم تجرِ الأمور معه في الغرب على هذا النحو منم التوفيق، وفي بعض الفترات كان وضعه مؤسفاً بحق. وقد سبق أن قلنا إن تأثير أرسطو كان قد تسرّب (إلى الغرب) من قبل، وكان مذهبه الطبيعي ومذهبه في الحتمية قد جعلا السلطات على حذرٍ منه، فأصدرت عام 1210م قراراً يقضي بحظر تدريس كتبه في جامعة باريس. ولم تصل مؤلفات ابن رشد إلا بعد ذلك، حيث استقبلت أول الأمر استقبالاً حسناً، لأن أحداً لم يكن بعد قد فطن في ذلك الحين إلى الأخطار الكامنة في آرائه، والحق إن شهرة ابن رشد كشارح لأعمال أرسطو قد أكسبته في الغرب لقب "الشارح الأكبر"، لكن تلك الأخطار ما لبثت أن تكشفت. وقد سبق أن نوهنا بموقف هذا الفيلسوف القرطبي بالنسبة لصصلة الفلسفة بالشريعة. والواقع أن الدين كان عليه أن يدفع الثمن في هذا التوفيق، إذ إن الفلسفة هي التي كان عليها أن ترفض الحقائق القطعية، أما الشريعة (في نظر ابن رشد) فليس عليها أكثر من أن تقدم أنواع التمثيل والتشبيه القريبة إلى الواقع المحسوس على نحو يناسب أفهام الجمهور، وهذا يعلل لنا محاولة بعض المفكرين المسيحيين تفسير هذا الاتجاه على أنه قبول بـ "حقيقة مزدوجة" يظن أن الشارح الأكبر كان يؤمن بها، وكانوا هم مستعدين لقبولها واعتبارها موقفاً خاصاً بهم تجاه هذه المسألة. لكن هذا الاتجاه في الواقع معناه هدم الدين وعلومه، لأنه كان في تقدير أصحاب ذلك الاتجاه أن الدين وعلومه يمكن أن يكونا في النقاط الأساسية مناقضين للعقل.

غير أن الأمر الأخطر من ذلك هو أن ابن رشد اتبع في ما كتبه في علم النفس تفسيراً مادياً لكلام أستاذه أرسطو. فكان يرى أن الإنسان، في نهاية الأمر، حيوان راقٍ، يولد ويموت كغيره من الحيوانات. والذي يميّزه عن سائر الحيوان هو استعداد ذهنه للاتصال بالعقول المفارقة الممثلة في العقل الفعّال والعقل المنفعل passive في النوع البشري.

فهناك عقل واحد لجميع البشر، وهذا هو أساس القول بالنفس الواحدة عند ابن رشد. والعقل الفعال هو آخر العقول السماوية، وهو الذي يحرك فلك القمر. أما العقل المنفعل أو "المتقبل" receptive فيتلقى من العقل الفعّال صور المعقولات التي "جرّدها". وهذان العقلان يوجدان على حدود العالم الروحي، ولهما قدرة على التجريد يستطيعان بها الجمع بين المخلوقات لابشرية باستعمال خيالاتهم الذهنية، ومن ذلك يستخرجان المعقولات. وعلى وجه الدقة فإن وعينا بأننا نفكر لا يكون إلا بمقدار فاعلية العقل المنفعل. ومن ثم فإن ما يبقى منا بعد الموت قد لا يكون إلا ذكرى في العقل المنفعل والعقل الفعّال، وهذان الأخيران هما وحدهما الروحيان اللذان لا يفنيان. وهكذا فإن موقف ابن رشد هنا يعتبر موقفاً مادياً متطرفاً إلى حدٍ كبير.

بدأت هذه الإفكار تدخل كلية الآداب في باريس، وتبنّاها إلى حدٍ ما رجل يدعى سيجر البارابانتي (ت حوالي 1281م). وقد وجد القديس توما الأكويني أن عليه أن يدحض هذه الآراء في كتابه المسمى "في وحدة العقل رداً على الرشديين" وكان على السلطات الدينية أن تتحرك، فوجهت ضربةً قوية لهم من خلال قرار عام 1270م بإدانتهم، كما صدر قرار إدانةٍ على نحو أقوى عام 1277م. وقد هدأت الأزمة بعض الوقت، وبدا لحين أنه قد قضي على الرشدية اللاتينية التي يفضل فان شتينبرجن أن يطلق عليها اسم "الأرسطية المنحرفة"، ولكنها تشبثت بالبقاء وظهرت فمن جديد بعد ذلك بقليل واستمرت حتى عصر النهضة. والواقع أن وجود الرشدية في باريس في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) أدى إلى مهاجمة ريمون لوك (ت 1316م) لها مرة تلو أخرى، وكتب عدة رسائل صغيرة في الرد عليها. ولم يلبث اسم ابن رشد أن أصبح سبّة في أفواه البعض، ووصف بأنه "الملعون" وأنه "نابحٌ مسعور" و"عربيٌّ فاسق". ومع ذلك فإن الرشدية الباريسية انتعشت مرة أخرى على يد جان دي جاندون الذي كان يشغل عام 1316م منصب أستاذ الأدب في كلية نافار. وقد حاول أن يضع خلاصة للفلسفة المشّائية اعتمد فيها على ابن رشد وألبرت الأكبر.

ومن باريس انتقلت الرشدية إلى بادوا التي أصبحت على حد تعبير رينان بمنزلة "الحي اللاتيني للبندقية". وكان الذي نقل الرشدية إلى هناك منجّم فلكي في القرن الرابع عشر الميلادي يدعى بيترو دابانو (ت 1315م). وقد خلّف لنا بترارك الذي كان يبغض الرشدية في رسالته الساخرة "الجهل بالنفس وبأشياء كثيرة" تفاصيل لاذعة عن النصر الصاخب الذي أحرزه هذا المذهب الرشدي في بادوا.

وفي القرن الخامس عشر كان بومبونازي (ت 1525م) هو الذي انتصر، في حين حاول مؤلفون من أمثال نيفوس (ت 1546م)ن وزيمارا (ت 1532م) أن يوفقوا مرة أخرى بين آراء ابن رشد واللاهوت المسيحي.

وأدت الحاجة إلى معرفة أفضل لآراء الشارح الأكبر، إلى القيام بترجمات جديدة لأعماله عن العبرية والعربية في كل من بادوا وباريس. كما أنّ فنّ الطباعة الذي كان قد ظهر قبل ذلك بقليل أتاح لابن رشد آخر فرصة للنجاح في أوروبا المسيحية. وهكذا بينماكان ابن رشد قد أصبح مجهولاً تقريباً في بلاد الإسلام، فإن كتبه طبعت في البندقية في عام 1481، 1482، 1484، 1489، 1497، 1500م. كما تمت أيضاً طبعاتكاملة لأعماله في سنتي 1553، 1557م. وهناك بالإضافة إلى الطبعات الكثيرة لأعمال ابن رشد في البندقية، طبعات أخرى تمت في القرن السادس عشر في نابولي، وبولونيا، وباريس، وليون، وستراسبورغ. ومع ذلك، فبعد عام 1580م أخذ عدد قراء ابن رشد يتضاءل. وقد طبعت أعمالُه مرة أخرى في جنيف عام 1608م، وبعد ذلك نامت مؤلفاته تحت غبار المكتبات. والواقع أن الرشدية استمرت طوال عصر النهضة، ومن الممكن أن نرى في ذلك تأكيداص صارخاً لاستقلال العقل بنفسه بالنسبة إلى العقيدة الدينية، وهو أمرٌ دفع البعض إلى أن يجعل من العقل سلاحاً يوجهه ضد كل فكرة جينية. ولا شك في أنه لو قدر للشارح العربي في أن يشهد مصير مذهبه لَنبذ بقورة وعنف أولئك الذين كانوا يستندون إليه في محاربة الدين.

وإلى جانب أعمال ابن سينا وابن رشد التي كان لها تأثير كبير في مجال الفلسفة في العصورالوسطى في الغرب، لا بد أن نذكر كذلك رسالة "حي بن يقظان" التي ألّفها أبو بكر بن طفيل (ت 581هـ / 1185م). ففي هذا النوع من القصة الفلسفية التي عرفت في ترجمتهم اللاتينية باسم "الفيلسوف المعلم نفسه" أراد المؤلف أن يبيّن في صورة رمزية الاتفاق بين العقل والدين. وتدور القصة حول حي بن يقظان الذي هو طفل ترك دون أب أو أم فوق جزيرة غير مسكونة في المحيط الهندي، حيث أرضعته غزالة. وأصبح شيئاً فشيئاً يدرك الحياة ويكتشف بالتدريج ما حوله في العالم من أشياءَ كثرةٍ ومتنوّعة، ويتعرّف على قوانين الطبيعة إلى أن ينتهي إلى إثبات وجود الله تعالى خالق العالم ويتوصّل منجديد إلى كل حقائق الدين.

لقي هذا العمل الذي يعتبر درة في الأدب العربي نجاحاً كبيراً في الغرب غير الإسلامي. فترجمت تلك الرسالة إلى العبرية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، وإلى اللاتينية في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، (الخامس عشر الميلادي) على يد بيكوديللا ميراندولا (ت 1494م). وفي عام 1671 ظهرت ترجمة لاتينية أخرى لتلك الرسالة عن العربية بقلم إدوارد بوكوك الأصغر (وأعيد طبعها عام 1700م). وبعد ذلك ظهرت ترجمتان إلى الإنكليزية عن اللاتينية، إحداهما قام بها ج. كيث. (1674م) وهو رجل من جماعة الكوكريين، وقد اتبر "كيث" رسالة حي بن يقظان كتاب تثبيت للإيمان. ثم ظهرت ترجات هولندية لهذه القصة لم يعرف من قام بها وذلك بين عامي 1672، 1701، وترجمة ألمانية قام بها برتيوس عام 1726م، وقد نقلت الترجمات الأخيرة عن اللاتينية. وأخرج سيمون أوكلي ترجمة أخرى عن العربية (ظهرت في السنوات 1708، 1731، 1905م)، ثم راجعها وأصلحها أ. س. فولتون عام 1929. وهناك أيضاً ترجمة ألمانية أخرى قام بها إيكهورن (1783)، وتمت بعد ذلك ترجمة إنكليزية مختصرةبقلم بي برونلي (1904). وترجمت هذه في ما بعد إلى الألمانية (1907). وترجمه بونس بوجيس (1900) إلى الأسبانية، كما ظهرت ترجمة أسبانية أخرى لأنخل بالنثيا (1934)، وترجمة فرنسية بقلم غوتييه (1900، 1936) الذي أخرج في الوقت نفسه نشرة نقدية للأصلالعربي. وظهرت كذلك ترجمة روسية لقصة حي بن يقظان قام بها كوزمين (1920). وقد بيّن الباحثون أن دانيال ديفو صاحب قصة روبنسون كروزو قد استوحى قصته من كتاب "الفيلسوف المعلم نفسه" (وهو ترجمة لاتينية لرسالة حي بن يقظان).

وأخيراً لا بد أن نقول كلماتٍ قليلةً عن أثر التصوّف الإسلامي في الغرب، ويدخل في هذه الناحية موضوعان:

الأول، يتناول المصادر الإسلامية للكوميديا الإلهية التي بينها العلامة الإسباني الكبير المتخصص في الإسلاميات ميجيل آسين بلاثيوس، ثم ألفِيَ عليها ضوءٌ محدد عندما قام شيروللي بنشر كتاب المعراج، والموضوع الثاني، هو فكرة الحب الرفيع الذي يمكن أن يربط بالحب الأفلاطوني (وعند العرب ما يسمى الحب العذري) الذي عرف في القرون الإٍسلامية الأولى. ويمكن ربطه كذلك برسالة صغيرة كتبها ابن سينا عن الحب وأسماها رسالة في العشق، لكن هذه المسائل هي في الحقيقة مسائل تتعلق بتأثرات الأدب المقارن.

ولنذكر هنا باختصار مؤلف آسين بلاثيوس عن الصلات بين التصوّف الإسلامي والمسيحي. فقد ترجم بلاثيوس عدداً كبيراً من النصوص للغزالي وابن عربي وشرحها. كما وضع دراسة مطوّلة للصوفي الأندلسي ابن عباد الرندي (ت 792هـ / 1390م). وهو يرى في ابن عباد المثل الذي احتذاه يوحنا ذو الصليب. وقد انتهى آسين بلاثيوس إلى هذه النتيجة مستنداً قبل كل شيء إلى مصطلحات صوفية عند ابن عباد وما يقابلها عند يوحنا ذي الصليب، مثل: قبض، بسط. كما توصل إلى هذه النتيجة أيضاً عن طريق دراسة مذهب الشاذلي في الزهد في الكرامات. وقد نشأ ميل بلاثيوس إلى الربط بين نصوص متشابهة عن وجهة نظره الأساسية التي عبّر عنها بنفسه قائلاً: "ينبغي ألا ننسى أن التصوف الإسلامي بصفة عامة، والطريقة الشاذلية منه بصفة خاصة، هو الوريث للمسيحيةالشرقية والأفلاطونية المحدثة في الوقت نفسه". وقد طبق هذه الفكرة على القديس يوحنا ذي الصليب وقال: "إذا تأكد الافتراض القائل باتقال الآثار المكتوبة، فإن الأمر يكون مسألة حالة عادية من حالات إعادة نص أدبي إلى أصحابه. إذ إن أي فكرة من الإنجيل أو من القديس بولص، غرست في الفكر الإسلامي في العصورالوسطى، تكون قد اكتسبت في محيطها الجديد تطوراً كبيراً من ألوان الأفكار الجديدة، واتخذت صوراً وتعبيراتٍ متنوعة غير عادية، حتى إذا انتقلت هذه الفكرة إلى الأرض الأسبانية لم يجد متصوفونا في القرن السادس عشر غضاضةً في الاقتباس منها في مؤلفاتهم".

ولنا ملاحظتان في ختام هذا الفصل، فالفلسفة الإسلامية منجهة تعين مرحلة مهمة في تطور الفكر الإنساني في جملته. كما إن جهد الفلاسفة المسلمين يبدو محاولة نبيلة لكي يتجاوز الإنسان حدود نفسه، ويحقق رغبته في الاتحاد بالله، وينظم الدولةمن أجل إسعاد الإنسان. وهكذا فإن الروح التي كانت تحدوهم تستحق البقاء.

ومن جهةٍ أخرى فإن المؤلفات الكبرى لمتصوفي الإسلام العظام ستظل تستحوذ على إعجاب كل أولئك الذين تستجيب قلوبهم للجمال ويتعطشون إلى المطلق. فهم يستطيعون أن يجدوأ فيها عندما تتاح لهم الفرصة غذاءً لتشوقهم الروحي.

أفليس هذا أفضل دليل على خلود أعمالهم؟ (صفحة 79)

جورج شحاتة قنواتي