الثلاثاء، 14 أبريل 2020

عن هايدغر؛ (من كتاب تاريخ الفلسفة في القرن العشرين)







عن هايدغر ـ 1 ـ

إن كتاب "الوجود والزمن" كتابٌ غير مكتمل. وككل كتب الفلسفة، يرجع عدم الاكتمال هذا إلى أسبابٍ عميقة، أسبابٌ يعرضها هايدغر نفسه في رسالة وجهها في شهر أبريل 1962 إلى فيلسوف أمريكي، الأب وليام ريتشاردسون.
كانت مسألة الوجود التي تشغل قلب الكتاب تطرح نفسها على هايدغر، كما يقول، منذ أن اكتشف سنة 1907 مقال برينتانو حول أرسطو. وأوحت له بعد ذلك قراءتًه لكتاب "البحوث المنطقية" لهوسرل بطريقة جديدة لمناقشة المسألة الشهيرة: المنهج الفينومينولوجي الذي يريد العودة إلى جوهر الأشياء ذاتها. لكن سرعان ما انحرفت الفينومينولوجيا في اتجاه نزعة مثالية متعالية جديدة، كان هايدغر يرفضها لأنه كان ينوي التفكير في الوجود في زمانيته وفي "تجذره التاريخي". والحال أن هوسرل أدار ظهره للتاريخ والتاريخانية في كتاب "الفلسفة كعلم صارم". هكذا فجأة وجد الفكر الهايدغري، كما ترسخ للمرة الأولى في "الوجود والزمن"، نفسه يدخل نزاعاً.
ولحل هذا النزاع وعرض مسألة الوجود بكل أبعادها، يتعيّن نزع إشكالية كتاب 1927 مما يمكن أن يكون ما زال عالقاً بها من "ميتافيزيقا". ويتعيّن التخلص من التأمل الذي أبرز في الكتاب معنى المشروع الميتافيزيقي نفسه ووسائل "تجاوزه": وستشغل هذه المحاولة بال هايدغر إلى وفاته. لهذا لا وجود لقطيعة في كتابه، بل قدّم منذ عام 1927 تأويلاً أكثر شخصيةً، وضد هوسرلي، لكلمة "فينومينولوجيا".
إن أفضل طريقةٍ للإمساك ثانية بمعنى ذلك التأويل هي إعادته إلى الحدْس العادي الذي يصدر عنه، والذي عدّه هايدغر دوماً المبدأ الذي كان يدور حوله كلُ فكرِه. هذا الحدس، الذي يصوغه في بعض النصوص بمساعدة كلمة "طيّ " pli، هو حدس اختلاف: الاختلاف، غير المحسوس ولكن المطلق، الذي يفصل الوجود عن الموجود، بينما يبدو هذان الأخيران مرتبطين أحدهما بالاخر ارتباطاً وثيقاً، مادام يستحيل أن يكون هناك موجود بلا وجود، ولا وجود بلا موجود.
ليست كلمة "موجود" هي التي تطرح المشكلة. فمجال الموجودات ليس سوى العالم الذي نعيش فيه. الإنسان موجود. ويمكن اعتبار الله نفسه "الموجود الأسمى". فاللاهوت ليس إلا فرعاً من الأنطولوجيا، أو علم الموجود. وبالمقابل، في ما يتعلق بمسألة معرفة بماذا يتميّز وجود الموجود عن الموجود، وخصوصاً لماذا يجب اعتبار هذا التمييز تمييزاً جوهرياً، فإنها تظل مسألةً غامضة.
ما هو الوجود إذاً؟ إن إحباطاً ينتظر القارئ ذا النية الحسنة على الرغم من الأهمية التي يحظى بها الرهان، ذلك أن أعمال هايدغر كلها تؤكد أن من حيث المبدأ لا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال. فالوجود ليس هو ما يدعوه الميتافيزيقيون بالجوهر أو الروح أو المادة. لا يمكن أن نقول عنه شيئاً لأنه بدون محمولات. بل إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بشأنه لن يكون سوى حشو: "الوجود هو ما يوجد". وبعبارة أخرى، لا يمكن إرجاع الوجود إلى مفهوم، ولا يمكن إدراكه بواسطة اللوغوس.
تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ( ص 176.)


عن هايدغر ـ 2 ـ

ما هو الوجود إذاً؟ إن إحباطاً ينتظر القارئ ذا النية الحسنة على الرغم من الأهمية التي يحظى بها الرهان، ذلك أن أعمال هايدغر كلِّها تؤكد أنه من حيث المبدأ لا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال. فالوجود ليس هو ما يدعوه الميتافيزيقيون بالجوهر أو الروح أو المادة. لا يمكن أن نقول عنه شيئاً لأنه بدون محمولات. بل إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بشأنه لن يكون سوى حشو: "الوجود هو ما يوجد". وبعبارة أخرى، لا يمكن إرجاع الوجود إلى مفهوم، ولا يمكن إدراكه بواسطة اللوغوس.
هذا هو الدافع الذي جعله [أي الوجود] يفلت من الفلسفة الغربية برمّتها. إن "الفلسفة" و"الميتافيزيقا" و"الأنطوـ تيوـ لوجيا" كلماتٌ مختلفة تعني الفشل نفسه، "النسيان" نفسه، "الانتهاك" نفسه للوجود. ذلك أن جميع الفلاسفة فشلوا بالطريقة ذاتها. ربما وحدَهم ماقبل السقراطيين، الذين يشغلون طرف السلسلة، ونيتشه في طرفها الآخر، استطاعوا في لحظة خاطفة أن يستشفوا الوجود. لكنهم أضاعوه في اللحظة نفسها التي استشفّوه فيها، نظراً إلى أن ما قبل السقراطيين سرعان ما وجدوا أنفسهم أسرى اللوغوس مجدداً، ولأن نيتشه عندما جعل من الحياة أسمى "قيمة"، سجن نفسه في ما أطلق عليها هايدغر "ميتافيزيقا" القيم، حتى وإن كان نيتشه يرفض ذلك المصطلح.
يتعيّن هنا أن نأخذ شيئاً بعين الاعتبار: يتبيّن أن اللوغوس، أي نمط التفكير المفهومي والبرهاني الضروري لفهم الموجودات، يكون غير وافٍ بالغرض عندما يتعلق الأمر بالتفكير في ما "يتجاوز" الموجودات (هذا النقد ينضم إلى نقد "مركزية اللوغوس" التي طوّرها في الثلاثينيات فيلسوف آخر مناصر للنازية، لودفيغ كلاغس (1872ـ 1956). والحال أن هذا اللوغوس، الذي ساهم ما قبل السقراطيين في إرساء دعائمه، نجح أفلاطون في إعطائه السيادة المطلقة على الفكر. وباكتشاف "خطأ" أفلاطون تمّ اكتشاف "خطأ" الفلسفة كلها. ذلك أن كل فلسفة هي أفلاطونية، بما فيها فلسفات ماركس ونيتشه وكارناب التي تمثّل "عمليات قلبٍ لها" ما دام أن "قلب" الأفلاطونية يعني عكسها رأساً على عقب ولا يعني الإفلات منها.
إن مثل هذه النظرة إلى تاريخ الفلسفة، التي تمكّن من إخفاء المادّية باختزالها في مجرد متغيرة للمثالية، تتسم على الأقل بالتسرّع. لكنها تتميّز بالوضوح، وبأنها تستتبع نتائج لا تقل وضوحاً.
لكن ماذا يتعيّن على المرء القيام به إن أراد ألا يسقط بدوره في الخطأ الفلسفي بامتياز؟ يتعين عليه بكل بساطة التخلي عن الفلسفة.
هكذا يظل كتاب "الوجود والزمن" ناقصاً بما أن الأمر، كما يشير إلى ذلك تكريم هوسرل، ما زال يتعلق بكتاب فلسفي.
ولن يكتب هايدغر منذ ذلك الحين كتباً بالمعنى الحقيقي للكلمة. وسوف يبيّن عن نخوة طفولية عندما سيرفض لقب "فيلسوف" ويطالب بلقب "مفكر".
(ص 177)

عن هايدغر ـ 3 ـ

لكن لا يكفي المرءَ أن يعلن "موت" الفلسفة للبرهنة على أنه وجد بالفعل مخرجاً. فلكي يصبح هذا "المخرج" واضحاً، ينبغي على "الفكر" نفسِه أن يبتعد بجرأة عن الإشكالية، العقلانية والإنسانوية، التي ظلت منذ أصولها الإغريقية تميز الخطاب الفلسفي. والحال أن الأشكال الثلاثة المهيمنة لهذه العقلانية الإنسانوية ستتجسد غداة الحرب العالمية الأولى في الشكل المسيحي والشكل الماركسي والشكل الليبرالي والعلماني (الذي هزّه النزاع الذي اجتاح أوروبا مدة أربعين عاماً) والذي يمثّه من بين آخرين هوسرل وراسل وكاسيرر وفاليري. يبدو الأمر وكأنه حدث مصادفةً، بيد أن هذه التيارات الفكرية الثلاثة هي التي لن ينفك هايدغر يصارعها منذ عام 1927. [أي عام صدور كتابه "الوجود والزمن"]
لقد بدا له أن الماركسية تجسد أخطر تهديد. لذلك مقتها إلى درجة أنه اعتمد بعد الحرب العالمية الثانية على انقسام بلده وعلى وجود الجيوش الروسية في برلين ليوحي بأن حرب هتلر لم تكن في العمق سوى حرب ضد الشيوعية. وبعبارةٍ أخرى، يجب القول إن تلك الحرب تبدو بعد مرور الوقت حرباً "خيّرة". ابتعد هايدغر عن الكاثوليكية، التي كانت "عقيدته الأصلية"، منذ عام 1918. ولن يترك أي فرصة تتاح بدون أن يحارب المسيحية عموماً، كما حدث مثلاً في دروسه الصيفية لعام 1935 التي تحمل عنوان "مدخل إلى الميتافيزيقا"، أو في نصّ 1936 الذي خصصه لتوضيح عبارة نيتشه "موت الإله". إذ لم يضف هايدغر سوى القول بأن ما يفرّق بين المسيحية واليهودية أقل أهمية مما يجمع بينهما، وأنه يرفضهما معاً باسم "وثنية جديدة" جرمانية منحدرة أصلاً من حركة "العاصفة والعاطفة".
("
العاصفة والعاطفة" حركة سياسية وأدبية ألمانية سادت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ويأتي اسم الحركة من عنوان مسرحية لفريريش ماكسيميليان كلينغز. وقد أراد تقليد تاريخي قومي أو متأثر بالقومية الألمانية أن يجعل من هذه الحركة ثورة الإحساس ضد الطابع المصطنع المجرد لفلسفة الأنوار.)
أما في ما يخص العقلانية الليبرالية، تلك الخاصة بالأنوار والفينومينولوجيا، فقد قطع هايدغر صلته بها نهائياً غداة ظهور "الوجود والزمن". وسيخصص منذئذٍ جزءاً مهماً من أعماله لإدانة ما عدّه الأمبراطورية الشريرة التي تجسدها هذه الأصنام الثلاثة للعقل الحديث التي تتجسد في العلم والتقنية وفكرة التقدم.
يعتقد هوسرل أن أساس العلم هو الفلسفة التي يعدّها كعلم صارم. أما هايدغر، فقد نقل الوظيفة التأسيسية للفلسفة التأسيسية إلى "الفكر"، مع تأكيد عدم قابلية هذا الأخير للقياس مع العلم. ألم يُشِر في عدة مناسبات إلى أن "العلم لا يفكر"؟ هذه العبارة ضد كانطية وضد هوسرلية المستفزة تذكرنا بالأطروحة 6.21 في كتاب "رسالة في المنطق والفلسفة". لكن نيّات المؤلفين مختلفة جداً.
فعندما صرّح فتغنشتاين بأن القضية الرياضية "لا تعبّر عن أي فكر"، كان يقصد فقط فصل الرياضيات عن القاعدة الأفلاطونية التي أقامها عليها فريجه. بينما كان هايدغر يريد أن يكون "مدمّراً". فعندما اتهم العلم بعدم التفكير، كان لا يقصد شيئاً آخر غير سلبه كرامته الفكرية. وللقضاء على التقنية، طابق هايدغر جوهرها وجوهر الميتافيزيقا المتهمة بكونها تجد لذةً في تبعيتها للوغوس أو "المنطق الرياضي" (عبارة قدحية يصف بها هايدغر كل الأبحاث المتحدّرة من فريجه وراسل) دون أدنى انشغال بالبرهان، أي بكل الأشياء التي لا تسير على ما يرام في العالم. كتب هايدغر في سلسلة من الملاحظات حرّرها ردأً على هجومات كارناب: "ليس دمار الأرض سوى نتيجة للميتافيزيقا" التي يظل كارناب سجيناً لها حسب رأيه. وبالنبرة القاطعة نفسها، يقول هايدغر عام 1935 إن "روسيا [كذا] وأميركا تعدّان معاً من الزاوية الميتافيزيقية شيئاً واحداً، أي الجنون الرهيب نفسه للتقنية الجامحة"، الشيء الذي سيسمح له بعد سنة 1945 بألا يحكم لمصلحة أيٍ منم خصمي الرايخ الثالث الذي كان بوسعه وحده أن يوقف "الانحطاط" الروحي لأوروبا.
أما في ما يتعلق بفكرة التقدم، التي تحملها الشيوعية وأسلوب العيش الأميركي معاً، فإن الكثيرين يعتقدون أن لها مكانة صغيرة في أعمال هايدغر. فلما كان من مريدي "الثورة" المحافظة، فإنه يتوقع الخلاص منم الماضي السحيق وليس من المستقبل. ويتصور هذا الأخير كـ "عودة إلى"، عودة إلى أصول الفلسفة (ما قبل السقراطيين) من جهة، وعودة أيضاً إلى الأصول الجرمانية، إلى "نقاء" الأصول التي لم تُمسَسْ والسابقة على عمليات الاختلاط المريبة. وهي عودةٌ أيضاً إلى الأساطير المؤسسة للأرض وللدم. إنها عودة إلى "وطن الوجود" الذي ليس سوى الوطن Heimat بلا زيادة ولا نقصان، عودة إلى الشعب Volk المدرك كحميمية دافئة ومطمئنة، وكأسرة قروية وحامية، وكمخرج في الغابة، وكمسلك في البادية، وككوخ جبلي. وباختصار، إنها عودة إلى الأنموذجات البدائية التي لم تفتأ منذ الرومانسية والإصلاح اللوثري تؤثّث النشيد الجنائزي للروح الألمانية وحنينها إلى الوحدة الضائعة، أو على وجه الدقة، التي لم يتم بلوغها أبداً. هذا دون الحديث عن كراهيته لليهودي الذي يسكنه وهمُ نمط الحياة "الزائفة"، "الشاردة"، وباختصار "المعادية لألمانيا".


عن هايدغر ـ 4 ـ


توجد في تارخ الأفكار الحديثة العهد صفحةٌ لافتة للنظر يمكن عنونتها بما يلي: كيف عمل اليسار الفرنسي على إنقاذ هايدغر من النسيان عندما أراد الإفلات من قبضة ماركس؟
بدأت الموضة مبكّراً جداً ما دام الفكر الهايدغري كان قد حظي باستقبالٍ جيد في فرنسا في مطلع الثلاثنيات. إذ خصص له جورج غوفيتش جزءاً من كتابه حول "التيارات الحديثة في الفلسفة الألمانية" (1930). أما الشاب ليفيناس، الذي تحمّس عام 1927 لكتاب "الوجود والزمن"، فقد نشر سنة 1932 مقالاً حول "مارتن هايدغر والأنطولوجيا". وحتى وإن كان انخراط هايدغر في الحزب القومي الاشتراكي معروفاً منذ سنة 1933، وقد حدّث ألكسندر كواري زميلَه ليفيناس عن ذلك، فإنه لم يكن بعدُ قد بدأ يتحدث عن التقزز الذي ستثيره الحرب، ثم الكشف عن محارق اليهود. هكذا فقد استسلم سارتر، بدون كثير ترددات، لإغراء جدلية "الوجود" و"العدم" التي اكتشفها في الترجمة الفرنسية (1938) لكتاب "ما هي الميتافيزيقا"؟ التي أنجزها هنري كوربان، مساعد كواري في المدرسة التطبيقية للدرسات العليا، قبل أن يتخصص لاحقاً بالمذهب الشيعي الإيراني.
أسهم نجاح وجودية سارتر بعد التحرير في إعاد أعمال هايدغر إلى الواجهة، وبدأت في الوقت نفسه المواقف السياسية لرئيس جامعة فريبورغ السابق تثقل على سمعته. إذ لما توضحت طبيعته النازية الحقيقية، بدأ سارتر يبتعد عنها، إذ نشر في مجلته "الأزمنة الحديثة" (1946ـ 1947) خمسَ مقالات زودت الملف معظم العناصر الضرورية، قدمت ثلاثُ مقالاتٍ منها (موريس دوغاندياك، وكارل لوفيت، وإريك فايل) عن الفيلسوف حكماً سلبياً. بينما جاهد ألفونس دووالينس وفريدريك دوطوارنيكي من أجل تبرئته. ففُتِح بابُ النقاش منذ ذلك الحين: هل يمكن الفصل بين الفلسفة والسياسة؟ هل يمكن رسم حدود بين الإدانة النظرية للنزعة الإنسانية من جهة، والإعجاب بـ "الثورة" القومية الاشتراكية من جهةٍ أخرى؟ أجاب سارتر بالنفي. فعلى الرغم من أنه قام بزيارة قصيرة لهايدغر عام 1952، تميزت بعدم فهم متبادل، فإنه لم يعد يرجع إلى فكره. كذلك إن رفض الماركسيين فكرَ هايدغر واضح جداً. ولم يبقَ إلا الآخرون، أولئك الذي يرفضون في آن واحد ماركس وسارتر "المتمركس" لسنوات الخمسينيات، والذين ستتطور لديهم تدريجياً مجموعة من المواقف المختلفة والغامضة إلى هذا الحد أو ذاك. (ص 185)

الاثنين، 13 أبريل 2020

الكليات ومشكلاتها الفلسفية؛





الكُليَّات ومشكلاتها الفلسفية: في نظريَّة أفلاطون للمُثُل
محفوظ أبي يعلا
باحث مغربي. درس القانون والفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة عبد المالك السعدي. حاصل على الإجازة في الدّراسات الأساسيّة، شعبة الفلسفة. وإجازة في الدّراسات الأساسيّة، مسلك الحقوق. نشر مجموعة من المقالات والأبحاث في مواقع إلكترونيّة وفي مجلات عربيّة.
Contents


عرفت الفلسفة في تاريخها الطويل الكثير من "المشكلات" الفلسفيّة. ولا شكّ أنَّ من بين أهم هذه المشكلات وأكبرها في تاريخ الفلسفة "مشكلة الكُليَّات". فقد أثارت "الكُليَّات" مشكلة وجودها منذ أفلاطون وأرسطو، وازدادت حدَّتها وضوحاً مع فلاسفة المرحلة السكولائيّة* في الغرب المسيحي. كذلك في العالم الإسلامي اصطدم فلاسفة الإسلام المشتغلون بعلوم الأوائل بمشكلة الكُليَّات. فحاولوا أن يبينوا آراءهم وتصوُّراتهم عنها. بيد أنَّ مشكلة الكُليَّات في الغرب المسيحي طرحت إشكالات لاهوتيَّة خطيرة، تمحورت حول طبيعة الألوهيَّة وطبيعة الأقانيم الثلاثة: الأب، والابن، والرُّوح القدس. فانقسم على إثر ذلك فلاسفة المرحلة السكولائيَّة إلى اسميين وواقعيين وتصوريين. وكان لكلِّ فريق منهم موقف من مشكلة الكُليَّات.
فما المقصود بالكُليَّات؟ وما هي نظرية المُثُل الأفلاطونيّة التي ترتكز عليها؟ ومن هم الاسميون؟ ومن هم الواقعيون؟ وكيف صاغ التصوريون نظريتهم حول الكُليَّات؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول أن نجيب عنها فيما سيأتي من مدارسة وتحليل ومناقشة.

نظرية المُثُل

لا بدَّ في البداية أن نسلط الضوء على نظرية المثل الأفلاطونيَّة، لأنَّه لا يمكن أن نفهم مشكلة الكُليَّات من دون أن نفهم نظرية المُثُل كما عرضها أفلاطون. ونظرية المُثُل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظرية المعرفة الأفلاطونيَّة. وكما هو معلوم، فإنَّ المعرفة عند أفلاطون هي "تذكر" للوجود الحقيقي الذي هو الماهيَّات. وعليه كان العلم الحقيقي هو العلم بالماهيَّات. ولهذا اهتمَّ أفلاطون أيَّما اهتمام بالماهيَّات التي أقام عليها نسقه الفلسفي الطبيعي والأخلاقي على حدٍ سواء.
والماهيَّات هي الصور، وهذه الصور غير متغيرة ولا متعدّدة، بل ثابتة وواحدة. وعليه كان الوجود واحداً ثابتاً. وإن كنا نلاحظ أنَّ في الوجود تغيراً فإنَّ هذا التغير ينتهي إلى الثبات. أو كنَّا نلاحظ أنَّ في الوجود كثرة، فإنَّ هذه الكثرة غايتها الوحدة. فبدون وجود وحدة أو ثبات فإنَّ العلم الحقيقي لا يحصل أبداً[1]. فلا "إمكانيَّة للمعرفة الحقّة إلا بالمعقول"[2] الذي هو الماهيَّات. وبما أنَّ العلم الحقيقي هو العلم بالماهيَّات أو بالمعقول، فقد كان من الضروري أن تكون هذه الماهيات ثابتة وغير متعددة. وقد رأى أفلاطون أنَّ للماهيات وجوداً مستقلاً عن وجود غيرها من الأشياء التي تشارك فيها. ولهذا صوَّر هذه الماهيَّات تصويراً تجسيمياً لا يقنع بالتًّجريد، تماشياً مع الرُّوح اليونانيَّة التي تميل إلى تجسيم الأشياء[3].
ترتيباً على ما سبق، يمكن أن نستخلص أنَّ الماهيَّات هي الأشياء الثابتة الواحدة، وبالتَّالي فهي كُليَّات، لأنَّ الكُليَّ هو ما يُقال عن الكثيرين المختلفين في العدد، لكنَّهم متفقون في الماهيَّة[4]. والكُليَّات بهذا المعنى تقابل المحسوسات الكثيرة أو الجزئيات التي يمكن أن ندركها بالحس، لأنَّ الجزئيات عبارة عن موضوعات مكانيَّة وزمانيَّة. في حين أنَّ الكُليَّات أو الماهيَّات هي موضوعات التَّفكير المجرد التي لا يمكن أن تُعيَّن في المكان والزَّمان تعيناً واضحاً، إنَّها من قبيل: الكيفيات والعلاقات والأعداد...إلخ[5].

الكُليَّات:

والمتأمّل للكُليَّات يجد أنَّه من الممكن أن تقسم إلى قسمين:
أ ـ كُليَّات حمليَّة
ب ـ كُليَّات صوريَّة
ففي الكُليَّات الحمليَّة نكون أمام الخواص والعلاقات التي تُكوِّن معنى الحدود العامَّة أو المحمولات، وتظهر هذه الكليَّات الحمليَّة في فكرنا وفي كلامنا، إذ إنَّنا لا نستطيع أن نفكر دون وجود هذه الكُليَّات التي تعبر عن حدود عامة. فمثلاً حين أقول: لون السماء أزرق، فإنَّني هنا عبَّرت عن حدِّ الزرقة. كذلك حين أتحدث عن مفاهيم من قبيل العدالة والجمال والتَّساوي ...إلخ، فإنَّني أعبّر عن كُليَّات تكون معنى الحدود العامة[6].
أمَّا في الكُليَّات الصوريَّة فنكون أمام الكيانات المجرَّدة في الرياضيات، فمثلاً عبارة:
فـ 1 + 1 = 2 هي عبارة صوريَّة لا يمكننا لمسها أو الإحساس بها، على الرغم من أنَّه قد تقترب بعض الأشياء الماديَّة منها قليلاً أو كثيراً[7].
وحين نقول 1 + 1 = 2، أو الأزرق لون، فإنَّنا هنا لا نحتاج لأيَّة تجربة لنثبت تلك الحقائق الكُليَّة الصوريَّة والحمليَّة، لأنَّها حقائق صادقة بالبداهة، ومن المستحيل أن نقيم عليها التجارب. وهكذا تصبح الكليَّات الحمليَّة والصوريَّة عبارة عن معرفة قبليَّة، والقبلي هو سابق للتجربة. فكلُّ قول يفترضه الذِّهن، ويثبت صدقهُ أو كذبهُ بمعزلٍ عن التّجربة، هو قول قبلي[8].  وبهذا المعنى يمكن أن نفهم تصوُّر الأفلاطونيين للعقل، فالعقل ليس عبارة عن صفحة بيضاء، بل إنَّنا من خلاله نستطيع النَّظر في الكُليَّات واستخراج ما فيها من كيفيات وعلاقات بحكم الضرورة دون الحاجة إلى تجربة، أي ما نحتاجه هو التذكر فقط. [هل أفلاطون يقول ذلك حقاً؟ أي أننا نستطيع أن نصل إلى المثل دون العبور المحسوسات، أو ما يسميه الجدل الصاعد؟]

المحاورات الأفلاطونيَّة والكُليَّات

ونظرية المُثُل الأفلاطونيَّة نجد ذكرها في مجموعة كبيرة من المحاورات الأفلاطونيَّة، نجدها في محاورة فيدون وفي محاورة بارمنيدس وفي محاورة السّفسطائي وفيليبوس وطيماوس. وكلُّ محاورة من هذه المحاورات تتطرق إلى جانب من جوانب نظريَّة المُثُل. فإذا كانت محاورة فيدون تتناول سببية المثل، فلا بد أن يوجد الجمال في ذاته والخير في ذاته والعدل في ذاته...، حتَّى نستطيع العلم بشيء ما أنَّه جميل وخير وعادل، فإن كان هذا هو أحد مواضيع محاورة فيدون، فإنَّ محاورات السّفسطائي وفيليبوس تذهب إلى أنَّ المُثُل تحيا في نظام بديع، وأنَّ بينها علاقات أساسيَّة ينظمها في الجوهر مثال المُثُل الذي هو "الخير الأسمى". وأمَّا محاورة بارمنيدس فتتطرق للعلاقة بين الشيء المحسوس والمثال، وكيفية فهم هذه العلاقة التي هي المشاركة. كما تتضمن نقداً ذاتياً قوياً حول أقوال أفلاطون عن الصور. وأمَّا في محاورة طيماوس فيتخيل أفلاطون فيها الماهيَّات الرياضيَّة كالأعداد والأشكال. [ربما تأثراً بفيثاغورس] وسنعمل على تسليط الضوء على بعض ما جاء في هذه المحاورات حول نظرية المُثُل فيما سيأتي من هذا البحث، قبل أن نتطرق لمشكلة الكُليَّات.
إنَّ الحديث عن وجود الكُليَّات أو المُثل يتجلى واضحاً في محاورة فيدون، فنحن نجد فيها هذا الحوار بين سقراط وسمياس:
"ـ حسناً، ولكن بقي شيء آخر يا سمياس، أُثمَّة عدلٌ مطلق أم ليس له وجود؟
ـ لا ريب في أنَّه موجود
ـ وجمال مطلق وخير مطلق؟
ـ بالطبع
ـ ولكن هل حدث لك أن رأيت واحداً منها بعينيك؟
ـ يقيناً لم أره
ـ ألم تدركها قط بأيَّة حاسة جثمانيَّة أخرى؟ (ولست أتحدث عن هذه وحدها، بل كذلك عن العظمة المطلقة وعن الصحة وعن القوَّة وعن ذات كلِّ شيء، أي حقيقة طبيعته) ألم يأتك علمها قط خلال أعضاء الجسد؟ أليس الذي يريد عقله على أن يتصور ذات الشيء الذي هو بصدد بحثه أضبط تصور، إنَّما يسلك بذلك أقصر السبل التي تؤدي إلى معرفة طبائعها الكثيرة؟
ـ يقيناً"[9]
يتضح من خلال هذه المحاورة أنَّ أفلاطون يتحدث عن وجود الكُليَّات من قبيل العدل المطلق والجمال المطلق والخير المطلق ...إلخ. ويقول في المحاورة نفسها، أعني محاورة فيدون:
"- هل نتقدم خطوة أخرى، فنؤكد بأنَّ التَّساوي موجود فعلاً، لا تساوي الخشب بالخشب أو الحجر بالحجر، بل ما هو أسمى من ذلك وأرفع. أتؤكد بأنَّ التَّساوي موجود في عالم التّجريد؟
ـ فأجاب سمياس: نعم، أؤكد ذلك، وأقسم على صحته بكلِّ ما وسعت الحياة من يقين"[10].
فالتَّساوي المطلق باعتباره من الكُليَّات هو أيضاً موجود. لكن كيف جاءنا العِلم به؟ هنا نصل إلى الحديث عن علاقات الكُليَّات بالعالم المحسوس أو علاقة الكلي بالجزئي. يقول أفلاطون: "ألم نَرَ متساويات من الأشياء الماديَّة، كقطع الحجر والخشب، فاستنتجنا منها مثالاً لمساواة تخالفها؟"[11]، معنى هذا أنَّنا شاهدنا في الحياة أشياء متساوية كقطع الخشب مع بعضها بعضاً، فعرفنا منها أنَّ هناك تساوياً مجرَّداً ومطلقاً، على الرغم من أنَّ المتساويات ليست تطابق مثال التَّساوي إلا أنَّنا مع ذلك، ومن خلالها، استطعنا أن نتصور مثال التَّساوي. يقول أفلاطون: "ومع ذلك، فأنت مع هذه المتساويات قد تصورت مثال التَّساوي ووصلت إليه، على الرغم من أنّها مخالفة، لذلك المثال"[12]. لقد تصورنا مثال التّساوي من خلال رؤية المتساويات التي لا تشبهه، لأنَّه إذا كان مثال التساوي من الكليات، فإن المتساويات التي لا تشبهه مجرد أجزاء. وقد تطرقنا فيما تقدم إلى التقابل بين الكليات والجزئيات. إذن، إننا نستطيع الوصول إلى تصور الكليات من خلال تصور الجزئيات، وذلك عن طريق عملية التّذكر. هكذا نعود إلى نظرية المعرفة الأفلاطونيّة، فيظهر لنا بوضوح أنَّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنظرية المُثُل. يقول أفلاطون: "فمادمت قد تصورت شيئاً من رؤية شيء آخر، سواء أكانا شبيهين أم متساويين فقد حدثت بذلك من غير شك عمليّة تذكر"[13]. ومن هنا، يصل أفلاطون في محاورة فيدون إلى الاستنتاج التَالي:
"إذن فلا ريب في أنَّنا كنَّا نعرف التَّساوي المطلق قبل أن نرى المتساويات المادية لأول مرَّة، وفكرنا في أنَّ كلَّ هذه المتساويات الظاهرة، إنَّما تنشد ذلك التَّساوي المطلق، ولكنَّها تقصر من دونه؟
ـ هذا صحيح"[14].
وأفلاطون حين يتحدث في هذه المحاورة عن مثال التَّساوي فإنَّه لا يَقْصر الحديث عنه فقط، بل يمكن أن نقول الأمر نفسه عن سائر المُثل جميعاً، كالجمال والخير والعدل والقداسة وغيرها من الكُليَّات. فقد أرى شيئاً جزئياً يمكن إدراكه بالحسِّ كالوردة الجميلة، فأتذكر من خلالها، أي من خلال هذا الشيء الجزئي الجميل، مفهوماً كُليَّاً مرتبطاً بالفكر المجرَّد وهو "الجمال". وإذا كانت الوردة ستذبل وستفنى، فإنَّ مفهوم الجمال الكُلي هو مفهوم خالد لا يفنى، ومن هنا كانت الكُليَّات حقائق أعظم من الجزئيات، لأنَّ هذه الأشياء الجزئيَّة المجسَّدة كالوردة مثلاً ظهرت إلى الوجود ثم ذبلت واختفت، أمَّا "الكُليَّات" فإنَّها لا تموت، وتوجد قبل الأشياء الفانية، ومعها وبعدها، وتتشخص بها[15]. فالجمال أكثر حقيقة من هذه الوردة الجميلة أو تلك، والإنسانيَّة أكثر حقيقة من هذا الإنسان أو ذاك.
ويرى أفلاطون أنَّ هذه الكُليَّات مفارقة، أي أنَّها تنتمي إلى عالم آخر. وأنَّ كلَّ شيء في العالم المحسوس له صور في عالم المُثُل، سواء كان هذا الشيء جوهراً أو نسبة أو أسماء ...إلخ[16]. إلا أنَّنا يمكن أن نستنتج ممَّا ذكرناه أنَّ أفلاطون لا يرى أنَّ الصور مفارقة كلَّ المفارقة للأشياء. وإنَّما هي باطنة في الأشياء. لأنَّ المحسوس مستخرج من الصور، فالوجود الحقيقي، كما رأينا، هو وجود الصور. ومنه فإنَّ المحسوسات داخلة تحت وجود الصور أو الماهيَّات.
ويذهب أفلاطون في نظريته حول الصور أو المثل إلى القول إنَّ علة العلل هي صورة الخير. فكما أنَّ الشمس هي مصدر الضوء والحياة في الوجود، فإنَّ صورة الخير هي مصدر النُّور ومصدر الحياة بالنسبة إلى بقية الصور[17].  إنَّها علّة الوجود وفكرة الأفكار ومثال المُثُل. وفي محاورة فيليبوس يحاول أفلاطون أن يناقش هذا الموضوع، أعني موضوع الخير، بكثير من التفصيل.

معرفة المُثٌل

لكن كيف يصل الفيلسوف إلى معرفة المُثُل؟ ما منهجه؟ هنا نلاحظ أنَّ أفلاطون لا يعتبر الهندسة والرياضيات إلا وسيلة للانتقال من العالم المحسوس إلى العالم المعقول، أي عالم المُثُل. فالرياضيات والهندسة هما النموذج الأمثل عن المعقول. لأنَّنا، على سبيل المثال، حين نرسم مربعات ومثلثات محسوسة، فإنَّنا في الوقت نفسه نهتم بالمربعات والمثلثات التي تُدرك بالعقل. غير أنَّ الرياضيات لا تبحث إلا في المعقول المجرَّد، في حين أنَّ وصول النَّفس إلى المبدأ النهائي لكلِّ المُثُل يتطلب علماً آخر يبحث في ماهيَّة الوجود. هذا العلم هو الجدل (الديالكتيك) الذي يتجاوز كلَّ العلوم[18]، والذي يقوم على الخطاب، وعلى مناقشات منظمة. والنموذج الأمثل لعلم الوجود، أي فنّ الجدل، هو المحاورات الأفلاطونيَّة نفسها. فالفيلسوف الجدلي المتمثل في سقراط يملك نظرة شاملة عن كلِّ شيء، في ضوء الوحدة التي يمنحها الخير لكلِّ الأشياء عبر لحظتين متمايزتين[19]:

أ ـ الجدل الصاعد:

 وهو جدل يسير من الكثير إلى الواحد. إنَّه جدل نرتفع فيه من الأفراد إلى الأنواع، فالأجناس ...إلخ، إلى أن نصل إلى صفة واحدة تعمُّ الجميع. وغاية الجدل الصاعد هي رفع الفكر من الإحساس إلى الظنِّ، ومن الظنِّ إلى العلم الاستدلالي، ومن العلم إلى العقل المحض.

ب ـ الجدل النّازل:

هو جدل يقوم على النُّزول من أعلى المبادئ إلى أدناها ووسيلته القسمة. إنَّه على عكس الجدل الصاعد، فإذا كنَّا في الجدل الصاعد نرتفع من الأفراد إلى الأجناس العالية، فإنَّنا في الجدل النَّازل ننزل من الأجناس العالية إلى الأفراد. وغاية هذا الجدل إعادة سلسلة المُثل دون الالتجاء إلى التَّجربة.[20]
والجدل يعتمد على المنطق، ولذلك يؤكد أفلاطون على ضرورة تعلم المنطق وعدم كراهيته، لأنَّنا من خلاله نصل إلى معرفة المُثُل. يقول أفلاطون: "فكما أنَّ ثمَّة أعداء للإنسانيَّة، وهم من يمقتون البشر، كذلك هناك من يكرهون المنطق، وهم من يمقتون المُثُل"[21]. ومن هنا يمكن أن نفهم تصدّي أفلاطون للسفسطائيين، لأنَّ السفسطائيين أيضاً يوظفون المنطق في خطاباتهم، إلا أنَّ منطقهم منطق فاسد، لأنَّهم يهدفون من خلال مغالطاتهم المنطقيَّة إلى إضفاء مظهر الحقيقة على جهلنا وعلى أوهامنا المتعمدة، فينكرون العلم بالماهيَّات الثابتة. وقد خصَّص أفلاطون محاورة كاملة عن السفسطائيين، وهي محاورة السفسطائي التي حاول من خلالها أن يبيّن الفرق بين الفيلسوف الذي يوظف فنَّ الجدل وبين السفسطائي الكاذب والمخادع الذي يطلب العلم بالمتغيرات.

دحض نظرية المُثُل

أمَّا النَّقد الذَّاتي لنظرية المُثُل فيظهر بوضوح في محاورة بارمنيدس. ففي هذه المحاورة يطرح بارمنيدس مجموعة من الأسئلة على سقراط، من قبيل: هل نجعل للإنسان مثالاً متميزاً عنَّا؟ وهل للوحل والشعر مُثُل أيضاً؟ يذكر أفلاطون في محاورة بارمنيدس ما يلي:
"ـ هل تجعل مثلاً مثالاً في ذاته وقائماً بذاته للحقِّ وللجمال وللخير ولكلِّ التَّعيينات المماثلة؟
ـ قال مؤكداً [أي سقراط]: نعم.
ـ وكذلك مثالاً للإنسان متميزاً عنَّا وعن كلِّ إنسان مثلنا، مثالاً في ذاته للإنسان أو للنار أو للماء؟
ـ هذا يا بارمنيدس سؤال كثيراً ما حيَّرني، فلم أعرف ما إذا كان يلزم أن نجيب عنه بالمعنى السابق نفسه أم لا.
ـ وأسألك أيضاً يا سقراط عن الموضوعات التي يمكن أن تبدو سخيفة، مثل الشعر والوحل والوسخ، وكلّ الأشياء الأخرى التي لا أهمية لها ولا قيمة، هل يلزم أن نضع لكلِّ منها مثالاً منفصلاً ومتميزاً عن الموضوع الذي نلمسه بأيدينا؟
ـ أجاب سقراط: لم يخطر ببالي ذلك على الإطلاق، إنَّني أسلم بوجود الأشياء التي نراها، أمَّا أن نعتقد بوجود أيّ مثال لها فأخشى أن يكون ذلك أمراً غريباً، وإنّي أعترف بأنَّه من حين لآخر كانت تزعجني فكرة أنَّه ربَّما يلزم أن نقبل بوجود مثل لكلِّ شيء، ولكن ما كنت أبلغ هذه النقطة حتَّى أحيد عنها بأقصى سرعة خشية الضياع والسقوط في هاوية من التُّرهات، وعندئذٍ أعود وألجأ إلى الموضوعات التي سلمنا للتوِّ بأنَّ لها مثلاً، فهذه الموضوعات هي التي أتحدث عنها، وهي التي تنصبُّ عليها دراستي"[22].
وقد حاول أفلاطون لاحقاً أن يقصر الصور والمُثل على الأشياء الحسنة فقط، وعلى الأشياء الطبيعيَّة لا المصنوعة. لكنَّه لم يعد بذلك منسجماً مع نظريته حول أنَّ العلم الحقَّ يكون بمعرفة المعقول، وأنَّ العلم لا يتحقق إلا عن طريق الماهيَّات. لأنَّنا من الممكن أن نعلم حقيقة الأشياء غير الحسنة، وحقيقة الأشياء المصنوعة، وبالتَّالي فإنَّه، حسب نظرية أفلاطون، ينبغي أن تكون لهذه الأشياء ماهيَّات ثابتة[23].

مشكلة الكُليَّات

الآن بعد أن تطرَّقنا لمسألة الكُليَّات، سنقوم بمناقشة المشكلة الفلسفيَّة التي طرحتها، والتي سُمّيت باسمها. فما الذي نقصده بمشكلة الكُليَّات؟ ما نقصده هو أنَّه إذا كان من الواضح أنَّ هناك حدوداً عامَّة ذات معانِ، كما قدَّمنا، فهل يكون بالضرورة أنَّ هناك أشياء موجودة بالفعل في عالم آخر هي معاني الحدود العامَّة؟ ثمَّ إن وجدت، فأين؟ هل في العقل أم خارجه؟ وهل وجودها وجود مادّي أم غير مادّي؟ وهل توجد هذه المعاني المجرَّدة، أي الكُليَّات، متصلة بالأشياء أم توجد مستقلة عن الأشياء؟
لقد انقسم الفلاسفة إلى ثلاثة تيَّارات في معرض مناقشتهم لهذه المشكلة الفلسفيَّة. فتيار منهم عرف بالواقعيين، والتيار الثاني بالاسميين، والثالث بالتصويريين.
فأمَّا فيما يتعلق بالتَّيار الواقعي، فإنَّ هذا التَّيار الذي يتزعمه أفلاطون نفسه يرى أنَّ الكُليَّات موجودة خارج العقل في عالم المعقولات، أي في عالم المُثل[24]. وعليه، يرى الواقعيون أنَّه بمقدورنا أن نطبق الحدود العامَّة على الكثير من الأشياء لعلمنا بالخاصة المشتركة بينها، هذه الخاصة التي يستحيل وجودها في الزًّمان والمكان. فعلى سبيل المثال أستطيع القول إنَّ الطاولة، وهي شيء جزئي، "صلبة". لأنَّني على علم بالمعنى الكُلي المجرَّد للصلابة، كما لديَّ علم بأنَّ هذا المعنى الكُلي يكمن في الشيء الجزئي الذي هو الطاولة. كذلك حين أفكِّر في الأشياء الجزئيَّة الجميلة، كالوردة أو المرأة أو الحصان...إلخ، فإنَّه يكون لديَّ إدراك أنَّ المعنى الكُلي، وهو "الجَمال"، يكمن في كلِّ تلك الأشياء الجزئيَّة.
والمفارقة الأفلاطونيَّة الكبرى هنا هي في أنَّنا ينبغي أن نعتبر المُثُل أحقَّ بالوجود من كلِّ الأشياء المحسوسة. فكأنَّنا ينبغي أن نؤمن بالظلِّ أو بالأشباح على أن نؤمن بما هو ملموس ومحسوس. وهذا ما جعل الأفلاطونيَّة أساساً لكلِّ مذهب مثالي يغلب الفكر على المادَّة.
أمَّا المذهب الثاني الذي ناقش مشكلة الكُليَّات فهو المذهب الاسمي. والاسميون يضادُّون الواقعيين. فهم يرون أنَّ الكُليَّات مجرَّد ألفاظ أو "أسماء". إنَّ اللّفظ الكُلي، وفقاً للاسميين، ليس له أيُّ معنى أكثر من مجموعة الأشياء التي ينطبق عليها[25]. فالكُليَّات ما هي إلا نفخة صوت، وحين نقول مثلاً "إنسان" فإنَّنا لا نعني بهذا اللَّفظ فقط ما يندرج ضمنه أفراد بني الإنسان، بل نعني أيضاً أنَّه حقيقة فيزيائيَّة للَّفظ نفسه، أي أنَّ اللَّفظ إنسان ما هو إلا صوت أو نسمة صوت، أي: انبعاث صوت[26]. كذلك حين نقول "الوردة جميلة"، و"المرأة جميلة" فإنَّ اللَّفظ المشترك بين العبارتين، وهو الذي يدلُّ على الجمال، هو مجرَّد صوت أو اسم ينطبق على الشيئين معاً. ونحن نعرف معنى هذا اللَّفظ من خلال رؤية الأشياء التي ينطبق عليها. ويرى بعض الاسميين أنَّ التَّشابه بين الأشياء التي ينطبق عليها اللَّفظ الكُلي هو ما يحدّد المشترك بين الأشياء. يقول هوبز في هذا الصدد: إنَّ الأشياء التي ينطبق عليها اللَّفظ الكُلي إنَّما يرتبط بعضها ببعض بما بينها من تشابه"[27]، لكن ما هو التَّشابه؟ أليس التشابه هو نفسه معنى كُلي؟ ألسنا إذن نعود إلى المذهب الواقعي الذي نحاول نقده؟ في هذه النُّقطة يظهر ارتباك نظرية الاسميين حول علاقة الكُليَّات بالأشياء. وأمَّا بخصوص وجود الكُليَّات، فإنَّ المذهب الاسمي لا يرى بوجود الكُليَّات في العقل ولا في خارجه[28].
وأمَّا فيما يتعلق بالمذهب الثالث، وهو المذهب التَّصوُّري، فإنَّ التصوُّريين حاولوا أن يوفِّقوا بين الواقعيين والاسميين، فرأى هذا التّيَار أنَّ الكُليَّات هي صور عقليَّة، وليست مجرَّد أسماء أو إشارات دالة على أفراد كثيرين[29]. بمعنى أنَّ موضوعات الفكر ومدلولات الأسماء الكُليَّة هي مدركات عقليَّة، وإذا كانت الواقعيَّة ترى أنَّ هذه الكُليَّات توجد خارج العقل، فإنَّ التًّصوريَّة ترى أنَّ الكُليَّات لا توجد إلا في العقول، والعقول دون غيرها هي التي تكوّنها أو تركِّبها[30].

الكُليَّات والمنطق واللَّاهوت

لقد طُرِحت في المرحلة السكولائيَّة من تاريخ الفلسفة مشكلة الكُليَّات بشكل حاد، وذلك بعدما تعرَّف الفلاسفة المسيحيون على مشكلة الكُليَّات من خلال كتاب "الإيساغوجي"، الذي اشتهر أيضاً في العالم الإسلامي، إلى جانب المقولات العشر الأرسطيَّة التي يُعدُّ الإيساغوجي مدخلاً لها. ومشكلة الكُليَّات تبدو للوهلة الأولى أنَّها مشكلة ميتافيزيقيَّة وطبيعيَّة، لكنَّها أيضاً مشكلة مرتبطة بالمنطق كما سنرى.
فالكُليَّات في المنطق تدرس في الإيساغوجي الذي يعني الكُليَّات الخمس، وهي الكُليَّات التي تدرك بالعقل وليس بالحواس، كالنوع والجنس والفصل والخاصَّة والعامَّة. ويذكر إخوان الصَّفاء أنَّ في الإيساغوجي ستة ألفاظ، فيقولون: "واعلم أنَّ الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني التي في أفكار الناس ستة أنواع: ثلاثة منها دالات على الأعيان التي هي موصوفات، وثلاثة منها دالات على المعاني التي هي الصفات. فالألفاظ الثلاثة الدالة على الموصوفات قولهم: الشخص والنوع والجنس. والثلاثة الدَّالة على الصفات هي قولهم: الفصل، والخاصة، والعَرَض"[31]. والإيساغوجي يُعدُّ مدخلاً إلى المقولات العشر الأرسطيَّة المتعلقة بالجوهر وجنس الأين والكم والمضاف وجنس الملكة...إلخ. وبالجملة فقد حاول أرسطو أن يجمع في المقولات العشر "كلَّ موجود من الجواهر والأعراض، وما كان وما يكون، ولا يقدر أحد أن يتوهَّم شيئاً خارجاً عن هذه الأجناس، وما تحتويه من الأنواع والأشخاص"[32]، فكلُّ ما هو موجود يندرج تحت إحدى المقولات، فإمَّا أن يكون جوهراً أو كيفاً أو كمَّاً أو نسبة ...إلخ، وبالتَّالي فهذه المقولات هي كُليَّات عامة يقوم عليها المنطق، ولهذا يمكن أن تترجم كلمة "المقولات" بالكُليَّات. ويقول إخوان الصَّفاء إنَّ هذه المعاني، أي المقولات العشر، كلُّها يمكن أن نجمعها في شخص واحد، ويضربون مثال ذلك بزيد، "فإنَّه جوهر، وفيه كميَّة، لأنَّه طويل، وفيه كيفيَّة، لأنَّه أسود، وفيه مُضاف لأنه ابنٌ، وأينٌ لأنَّه في مكان، ومتى لأنَّه في زمان، ونسبة لأنَّه قائم أو قاعد، وملكة لأنَّه ذو مال، ويفعل إذا ضَرَب، وينفعل إذا ضُرِب[33].
وأمَّا بخصوص علاقة الكُليَّات باللاهوت، فقد انقسم الفلاسفة المسيحيون في القرون الوسطى، أثناء مناقشتهم لمشكلة الكُليَّات، بعد تعرفهم على الكتب المنطقيَّة الأرسطيَّة، إلى ثلاثة تيارات: تيار من الفلاسفة تبنَّوا أقوال أفلاطون، فكانوا بالتَّالي على المذهب الواقعي، وهؤلاء هم: فرديجيز دو تور، وجون سكوت أريجين وغيرهما، وتيار ثانٍ كان فلاسفته من أنصار أرسطو. بمعنى أنَّهم كانوا اسميين، وتيار ثالث حاول فلاسفته أن يوفقوا بين أقوال أفلاطون وأرسطو متأثرين بفلسفة ابن سينا كالقديس توما الإكويني.
فأمَّا التَّيار الواقعي الذي أخذ موقفاً أفلاطونياً خالصاً في مسألة الكُليَّات في القرون الوسطى، فقد كان يتزعمه فرديجيز دو تور الذي كان يقول إنَّ الوجود الحقيقي هو وجود الكُليَّات. وسار على خطى دو تور أول فيلسوف مدرسيّ وهو جون سكوت أريجين الذي توسَّع في المذهب الواقعي، وقال إنَّ العالم يسير من الكُليّ المتقوم إلى الجزئي، ثم ينتقل من الجزئي إلى الكُلي المتقوم[34].
وأمَّا أول فيلسوف مسيحي مدرسيّ قال بالاسميَّة فهو روسلان. فقد رأى هذا الفيلسوف، متأثراً بقولة بويس** عن المقولات بأنَّها منصبة على الألفاظ، لا على الأشياء نفسها ـ رأى أنَّ الماهيَّات، أو الكُليَّات ليست غير أسماء[35]. وقد ترتب عن هذا القول نتائج خطيرة بعد أن أخرجه روسلان من ميدان المنطق إلى ميدان اللاهوت. فحين طبَّق روسلان تصوره الاسمي حول الكُليَّات على اللاهوت، كانت النّتيجة أن أصبح يقول إنَّ الله ثلاثة وليس واحداً، فليس هناك أقنوم واحد كُلي هو الله، كما كان يرى الفلاسفة الواقعيون، بل إنَّ كلَّ أقنوم هو جوهر مستقل عن الآخر[36]. وبعبارة أخرى: اعتقد روسلان أنَّ الأشياء الجزئيَّة المحسوسة هي وحدها الحقيقة، ونظر إلى مذهب الثالوث على أنَّه توكيد لوجود آلهة ثلاثة[37]. وبسبب هذا القول فُصل روسلان من وظيفته كرجل دين، واعتُبر من المهرطقين.
وأمَّا الفيلسوف الذي تأثر بتصور ابن سينا في مسألة الكُليَّات فهو توما الإكويني، الذي قال على غرار ابن سينا إنَّ للكُليَّات ثلاثة أنماط في الوجود. فما هي هذه الأنماط التي قال بها ابن سينا وردَّدها الإكويني؟ لقد حاول ابن سينا أن يكون توفيقياً بين تصوُّر أفلاطون وتصوُّر أرسطو في رؤيته لمسألة الكُليَّات. فقال إنَّ الكُليَّات تأتي، في الآن نفسه، في العقل الإلهي قبل الأشياء، فالإله يخلق الأشياء وفقاً لصور معيَّنة، وقد سبق لأوغسطين أن رأى قبل ابن سينا أنَّ الصور هي الأفكار التي على أساسها يخلق الله الأشياء[38]، وتأتي الكُليَّات أيضاً، حسب ابن سينا، في الأشياء بقدر انتماء هذه الأشياء إلى العالم الخارجي، وتأتي الكُليَّات، في الآن نفسه، وفقاً لابن سينا، في الفكر البشري الذي يدرك الصور عن طريق التجربة[39]. وهذا الرأي ردَّده توما الإكويني، فقال إنَّ الكُليَّات موجودة في العقل بعد الكثرة، وهي موجودة في الأعيان وجوداً طبيعياً، وهي موجودة في العقل الإلهي قبل الكثرة.[40]

خاتمة

حاولنا في هذا البحث المتواضع معالجة مسألة الكُليَّات والمشكلة الفلسفيَّة التي طرحتها. وذلك من خلال تعرُّفنا على نظرية المُثل الأفلاطونيّة، وكذلك على بعض ما جاءت به المحاورات من نقاشات حول الكُليَّات. وحاولنا أيضاً أن نسلط الضوء على علاقة مشكلة الكُليَّات باللاهوت والمنطق. ولعلَّ بحثنا هذا يعتريه بعض النَّقص، لأنَّنا، من جهة، لا ندَّعي إلماماً عميقاً بالفلسفة كإلمام أساتذتها الأكفاء، ومن جهة ثانية، فإنَّ هذا الموضوع مازال فيه الكثير ممَّا يُقال، ولأسباب منهجيَّة وتنظيميَّة للأفكار، أغفلنا بعض النقاط والقضايا التي قد تكون مهمَّة.

اقتباسات حول الكلّيات واللاهوت:
لقد انقسم الفلاسفة إلى ثلاثة تيَّارات في معرض مناقشتهم لهذه المشكلة الفلسفيَّة. فتيار منهم عرف بالواقعيين، والتيار الثاني بالاسميين، والثالث بالتصويريين.
فأمَّا فيما يتعلق بالتَّيار الواقعي، فإنَّ هذا التَّيار الذي يتزعمه أفلاطون نفسه يرى أنَّ الكُليَّات موجودة خارج العقل في عالم المعقولات، أي في عالم المُثل[24].
أمَّا المذهب الثاني الذي ناقش مشكلة الكُليَّات فهو المذهب الاسمي. والاسميون يضادُّون الواقعيين. فهم يرون أنَّ الكُليَّات مجرَّد ألفاظ أو "أسماء". إنَّ اللّفظ الكُلي، وفقاً للاسميين، ليس له أيُّ معنى أكثر من مجموعة الأشياء التي ينطبق عليها.. وأمَّا بخصوص وجود الكُليَّات، فإنَّ المذهب الاسمي لا يرى بوجود الكُليَّات في العقل ولا في خارجه[28].
وأمَّا فيما يتعلق بالمذهب الثالث، وهو المذهب التَّصوُّري، فإنَّ التصوُّريين حاولوا أن يوفِّقوا بين الواقعيين والاسميين، فرأى هذا التّيَار أنَّ الكُليَّات هي صور عقليَّة، وليست مجرَّد أسماء أو إشارات دالة على أفراد كثيرين[29]. بمعنى أنَّ موضوعات الفكر ومدلولات الأسماء الكُليَّة هي مدركات عقليَّة، وإذا كانت الواقعيَّة ترى أنَّ هذه الكُليَّات توجد خارج العقل، فإنَّ التًّصوريَّة ترى أنَّ الكُليَّات لا توجد إلا في العقول، والعقول دون غيرها هي التي تكوّنها أو تركِّبها[30]
بخصوص علاقة الكُليَّات باللاهوت، فقد انقسم الفلاسفة المسيحيون في القرون الوسطى، أثناء مناقشتهم لمشكلة الكُليَّات، بعد تعرفهم على الكتب المنطقيَّة الأرسطيَّة، إلى ثلاثة تيارات: تيار من الفلاسفة تبنَّوا أقوال أفلاطون، فكانوا بالتَّالي على المذهب الواقعي، وهؤلاء هم: فرديجيز دو تور، وجون سكوت أريجين وغيرهما، وتيار ثانٍ كان فلاسفته من أنصار أرسطو. بمعنى أنَّهم كانوا اسميين، وتيار ثالث حاول فلاسفته أن يوفقوا بين أقوال أفلاطون وأرسطو متأثرين بفلسفة ابن سينا كالقديس توما الإكويني.

لائحة المراجع والمصادر

ـ إخوان الصَّفاء، رسائل إخوان الصَّفاء وخلَّان الوفاء، المجلَّد الأوَّل، دار صادر، ط: 1
ـ أفلاطون، محاورة بارمنيدس، تعريب: حبيب الشاروني، المجلس الأعلى للثقافة، ط: 1
ـ جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى.
ـ عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، وكالة المطبوعات، دار القلم، ط: 3
ـ عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأوَّل، المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنَّشر، ط: 1
ـ محمد هشام، في النظرية الفلسفيَّة للمعرفة، إفريقيا الشرق، طبعة سنة: 2001
ـ وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفيَّة المختصرة، تعريب: مجموعة من المترجمين. مكتبة الانجلو المصريَّة، طبعة سنة: 1963
ـ وِل ديورانت، مباهج الفلسفة، الكتاب الأوَّل، ترجمة: أحمد فؤاد الإهواني، مكتبة الإنجلو المصرية، طبعة سنة: 1955
ـ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوربيَّة في العصر الوسيط، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، طبعة سنة: 2014
ـ أفلاطون، محاورات أفلاطون (محاورة فيدون) عرَّبها عن الإنجليزية: زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التَّأليف والتَّرجمة والنَّشر.
* السكولائيَّة أو المدرسيَّة هي لفظة تطلق على مرحلة تاريخيَّة من تطوُّر الفلسفة، حيث كانت تدرس هذه الأخيرة في المدارس والأديرة. وابتدأت هذه المرحلة في القرن التَّاسع ميلادي، وهناك اختلاف بين مؤرخي الفلسفة حول نهايتها، إلا أنَّ الرأي الشائع أنَّها تنتهي في القرن الرابع عشر ميلادي.

[1] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأوَّل، المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنَّشر، ط: 1، ص 162
[2] محمد هشام، في النظرية الفلسفيّة للمعرفة، إفريقيا الشرق، طبعة سنة: 2001، ص 15
[3] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ص 163
[4] نفسه، ص 163
[5] وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفيَّة المختصرة، تعريب: مجموعة من المترجمين. مكتبة الإنجلو المصريَّة، طبعة سنة: 1963، ص 260
[6] نفسه.
[7] نفسه.
[8] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، ص ص 184 - 185
[9] أفلاطون، محاورات أفلاطون، محاورة فيدون، عربها عن الإنجليزية: زكي نجيب محمود، مطبعة لجنة التَّأليف والتَّرجمة والنَّشر، طبعة سنة: 1937، ص 182
[10] نفسه، ص 202
[11] نفسه، ص 203
[12] نفسه
[13] نفسه، ص 204
[14] نفسه، ص 205
[15] وِل ديورانت، مباهج الفلسفة، الكتاب الأوّل، ترجمة: أحمد فؤاد الإهواني، مكتبة الإنجلو المصرية، طبعة سنة: 1955، ص 35
[16] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ص 167
[17] نفسه.
[18] محمد هشام، في النظرية الفلسفيّة للمعرفة، مرجع سابق، ص 25
نفسه.
[20] نفسه.
[21] أفلاطون، محاورة فيدون، مرجع سابق، ص 240
[22] أفلاطون، محاورة بارمنيدس، تعريب: حبيب الشاروني، المجلس الأعلى للثقافة، ط: 1، ص 15، 16، 17
[23] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ص 167
[24] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص 552
[25] وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفيّة المختصرة، مرجع سابق، ص 44
[26] عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، وكالة المطبوعات، دار القلم، ط: 3، ص 267
[27] وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفيَّة المختصرة، مرجع سابق، ص 45
[28] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج: 1، مرجع سابق، ص 83
[29] نفسه، ص 282
[30] وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفيَّة المختصرة، مرجع سابق، ص 119
[31] إخوان الصَّفاء، رسائل إخوان الصفاء وخلَّان الوفاء، المجلّد الأوَّل، دار صادر، ط: 1، ص 395
[32] نفسه، ص 408
[33] نفسه، ص 408
[34] عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، مرجع سابق، ص 62
** بويس هو فيلسوف ولد سنة 470 ميلادية، وتوفي سنة 525. وقد اهتمَّ بترجمة كتب أفلاطون، وكتب أرسطو المنطقيّة.
[35] يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوربيَّة في العصر الوسيط، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، طبعة سنة: 2014. ص 77
[36] عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، مرجع سابق، ص ص 63 و64
[37] وج. أو. أرمسون، الموسوعة الفلسفيَّة المختصرة، مرجع سابق، ص 119
[38] عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ص 163
[39] برتراند راسل، حكمة الغرب، الجزء الأوَّل، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 364 ـ يونيو 2009، ص 260
[40] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ج: 2، مرجع سابق، ص ص 239، 240