الاثنين، 1 أغسطس 2016

ما العقلانية، أيّ عقلانية (5)/ عبد الصمد الكبّاص.




 


ما العقلانيّة أي عقلانيّة (5)

العقلانية نفوذ كوني

 

السبت 29 كانون الثاني (يناير) 2011




 
لنقلها بشكل مباشر ومن البداية، حقق انتشار العلوم صيغة فريدة من المشاركة الكونية في العقلانية. ليس فقط من ناحية المساهمة في تطويرها والانخراط الفاعل في بنائها بل كذلك من ناحية الاستفادة المتفاوتة من نتائجها. إنّ مؤسسات مثل المستشفيات المنتشرة في كل مكان والعيادات الطبية والمصحات المفتوحة حتى لأغراض تجارية محضة، تضع الجسد الإنساني تحت تصرف نفوذ نمط من العقلنة يجعل من تطوير جودة الحياة المتاحة من خلال تقوية أداء الأعضاء وتكامل وظائفها وتصويب اختلالاتها سبيلا للتحكم المادي في تدبير الحياة وعقلنة عطائها.


 إن الذين يلجأون إلى خدمات المستشفيات وهم بالملايير ممن ينتسبون للأسرة البشرية من الأكثر غنى وثراء إلى الأفدح فقرا وبؤسا، من الأعمق ثقافة إلى الأكثر جهلا، يساهمون في تكريس وتعميق النفوذ الكوني لهذه العقلانية على حد سواء مع الذين ينتجونها ويطورونها، أي الذين ينتجونها كمعرفة مصاغة أصلا لتطبق على الأجساد، لأنهم يهيئون لها حقلا للانطباق من جودهم الخاص.


لا يتوقف الأمر عند حدود العلوم الطبية وإنما يمتد في مختلف الحقول التي تضع تدبير الحياة في صلب انشغالها، كعلوم السكان التي لا تترك التطور الديمغرافي يتشكل بحكم مبدأ قدري خارج عن سيطرة الانسان، وإنما تخضعه لمراقبة دقيقة يضبطها حساب الحاجيات وضغط توازن الاستغلال وحماية الموارد، فيتحول ما كان متروكا لمشيئة إلهية تدبره في مقدرات الغيب التي تفلت من تحكم البشر، إلى مجال منظم بكامله انطلاقا من مبدأ بشري مشدود بكامله إلى ضغط قيمتي المردودية والحاجة. ينسحب نفس الشيء على نقلات البيولوجيا والهيدرولوجيا وعلوم الاقتصاد والاتصال والسياسة والجغرافيا..


قد لا يتعرف أولئك الذين يطالبون بتوسيع حريتهم في التعبير على أن ذلك أضحى متاحا انطلاقا من سيادة عقلانية تحدد الوجود البشري كبنية حقوقية لا تتجزأ، بنية غير محددة انطلاقا من هبة إلهية وإنما من الطبيعة الإنسانية نفسها. وأن السيادة الكونية لهذه العقلانية هي التي تجعل مثل هذه المطالب معقولة وتمنحها وجاهتها. دلالة ذلك أن التشكل الحقوقي لعالم اليوم الذي أضحت فيه حتى الطبيعة حقا بشريا، يجسد خضوع الوجود الإنساني لنظام عقلاني صاغته الإرادة الإنسانية وتعمل على توسيعه وتطويره. سياسيا أيضا تحدد التنظيم الدولي للكيان السياسي بنسق عقلاني أساسه تحول نموذج الدولة الأمة (تترجم أيضا بالدولة الوطنية) إلى نموذج كوني خلال النصف الثاني من القرن العشرين( أي بعد تصفية تركة الاستعمار) وانطلاقا منه تتحدد الحقوق السياسية للدول والتزاماتها الداخلية والدولية أيضا.


لا ينتبه أولئك الذين يبحثون عن منطق شامل للعقلانية تحت هدي النصوص الفلسفية الكبرى، أن المنجزات العقلانية التي تستحق اسم منجزات عظيمة تشكلت في هيئة عقلنات مجهرية جعلت من مبدأ " كل ماهو واقعي فهو عقلاني" مبدأ متحققا ليس لأن هناك لوغوس موضوعي يحكم الطبيعة، وإنما لأن هناك استحواذا على إمكانات الطبيعة وتسخيرها لغايات بشرية.


لم تنشر الفلسفة رغم عظمة نصوصها روح العقلانية في العالم بقدرما فعل ذلك العلم الذي جعل الواقع البشري بكل مافيه من مظاهر لاعقلانية خاضعا لأنماط من العقلانية. لقد أدخل العلم المعاصر حتى تلك الوقائع الوجودية التي كانت تعتبر من الظواهر ذات المضمون الملغز في صميم تدبيره. إذ أن الطب مثلا لم يجعل أمر الحياة انشغالا اساسيا له فحسب، بل أدخل الموت أيضا في صلب تدبيره فمنحه مبرره العلمي المحسوب بدقة في انتظار أن يحسم أمره نهائيا لصالح الحياة. بالطبع إن الشكل العام لهذه العقلانية قد يترك للتأويل الفلسفي لكن ذلك لن يكون مجديا إلا إذا كان هذا التفلسف من داخل العلم نفسه متحررا من نزعة شرح النصوص الكبرى أو التذكير بمضامينها. لا يمكننا التفكير في نمط العقلنة الذي يحكم عالمنا اليوم وتأمله اعتمادا فقط على نصوص فلسفية لأن هناك نصوصا من طينة أخرى التي تشكل التوجه المستقبلي لهذه العقلانية. نأخذ مثلا على ذلك إعلان الألفية الثالثة الذي يحدد الغايات الكبرى التي ينبغي على البشرية ككل أن تحققها. لكن ما يوجد في عمقها هو هذه الرغبة في التحكم البشري في النتائج غير العقلانية لعقلانية الحاضر. معنى ذلك أن أمر المستقبل لم يعد متروكا للغيب ولمفاجآت القدر. وإنما شكلا منتظرا انطلاقا من حساب محدد بدقة.


يقودنا ما أشرنا إليه أعلاه إلى استناج روح هذه العقلانية الكونية التي تحكم وجودنا المعاصر و تصوغ شكل تعاملنا مع الواقع الذي يشملنا ابتداء من أجسادنا. إنها تقوم في انتزاع أمر تدبير العالم من الغيب و القدر والمشيئة الإلهية ووضعه رهن تدبير بشري بغايات بشرية. فالذي يستيقظ صباحا ويفتح أنبوب الماء في الحمام بلمسة خفيفة يخضع لشكل من العقلنة التي أخضعت الطبيعة لحسابها والتي حددت أيضا علاقته بنفسه والثقافة المنظمة لهذه العلاقة. شأنه في ذلك شأن من يقتني الدواء من الصيدلية عندما ينهك المرض قواه أو يقهره الألم فهو يقوم بذلك مستسلما لمنطق عميق يقول أن أمر جسمه محسوم انطلاقا من تدخل كيميائي محض ولا داعي لانتظار تدخل غيبي. لكن في نفس الوقت فهو باحتكامه لهذه العقلنة يساهم في تطويرها لأنها من دون من يثق في أدائها و ينفق المال من أجل الاستفادة منه لا يمكن أن تواصل تطورها.


إن الاكتساح العلمي لتفاصيل الحياة البشرية بما ينطوي عليه من شمول للعقلنة يضرب عميقا في صلب الثقافة الغيبية التي تصر على ترك أمر التحكم في مسار العالم إلى الله و الاحتفاظ بدور حاسم في تدبيره للغيب و القدر. لذلك لا تجد سبيلا للدفاع عن النفس عدا المهاجمة البلاغية للقوة التي ينطوي عليها شمول العقلنة الذي حمله الاكتساح العلمي للحياة. إن أكثر الناس عكوفا على الصلاة وإيمانا بقدرات الغيب لا ينتظرون تدخل المشيئة الإلهية عندما يمرضون، انما يطلبون تدخل الطبيب وكل المعرفة الطبية معه. ومن ثمة فهم يحملون بتصرفهم هذا إقرارا عمليا بقوة ونفوذ العقلنة العلمية.


كثيرا ما لا يقبل الناس أن حياتهم مشمولة بمنطق عقلاني فقط لأن ثقافة غيبية تهيمن على أذهانهم. لكنهم لا يعرفون أن هذه العقلانية التي تتحكم في عالمنا والتي لا تنتظر توجيها فلسفيا، لا تعود إلى اختيار فردي ولا إلى تبني طوعي من قبلهم، وإنما تمارس مفعولها رغما عنهم وعن اعتقاداتهم. من ينكر أن أتفه تفصيل في الحياة اليومية للمتدين وغير المتدين للمؤمن والملحد، محسوم سلفا انطلاقا من الحساب الضاغط للنفقات والمداخيل التي تفرضها العقلنة الاقتصادية المتصرفة في حياتنا. وهي عقلنة لا يجعل الفرد حياته رهن تصرفها باختيار منه وبناء على تبني فكري أو عقائدي يقر بالعقلانية. وإنما يجد نفسه خاضعا لها لأنها نظام يملي نفوذه في غياب إرادة الأفراد بل ويفرض عليهم التكيف معها.


تغير مضمون العالم مع شمول نفوذ هذه العقلانية فأضحى كيانا منظما انطلاقا من مبدأ بشري يدخل حتى مظاهر الفوضى الواقعية و المحتملة ضمن نفوذ التحكم العقلاني. وبقدرما حرّرت هذه العقلانية صياغة مفهوم العالم من الهيمنة السحرية لمبدأ العلة الذي أضحى معها سؤالا غير ذي جدوى لأن الأهم هو فعالية النظام ونجاعته، أدمجت الوجود البشري في أفق قيمي ينتظم نسقه حول المردودية والنجاعة والدقة .


ينبغي أن نحتفظ في هذا الصدد بنتيجتين أساسيتين، الأولى هي أن مكامن العقلانية في عصرنا غير متوفرة في الفلسفة وإنما في العلوم الدقيقة التي رسخت مفعول العقلانية في الواقع محققة بذلك مبدأ "كل ماهو واقعي فهو عقلاني"، ومن ثمة فإن عصرنا يرسخ لصيغة خاصة في العقلانية قوامها المفعول العقلاني أي قوة تدخله في ابتكار الواقع وتعديله وحمله على تقديم نتائج معينة. فالأهم فيه ليس فقط هو طبيعة التفسير الذي يبنى حول الظواهر ولكن فعالية التدخل في تلقائيتها وحساب النتائج المترتبة عن ذلك وهو ما يجعل من الواقع قطاعات معقلنة.


والنتيجة الثانية هي أن العقلنة التي يخضع لها العالم لا يمكن أبدا التفكير فيها من زاوية أحادية مرتبطة فقط بهاجس القيمة. إن الأهم فيها هو أن مدخلها الأساسي هو الكونية أي هذا التأسيس لجعل كل أجزاء العالم مشدودة إلى نفس السيرورة ومدفوعة إلى ذات المصير. ويبدو أن درس الإيكولوجيا ومحاربة الفقر ومواجهة تحدي ندرة الموارد والصراع مع المرض، كفيل بتوضيح ذلك... لأن العقلانية نفوذ كوني..

 

ليست هناك تعليقات: