الجمعة، 28 ديسمبر 2018

حوار في موضوعات ميتافيزيقية. (م.ح)





مشاركة في حوار. (ديسمبر 2016)

على صفحة أحد الأصدقاء، وتعليقاً على منشور حول الموضوع الإيماني، حصل نقاش تضمن الكثير من التعليقات والآراء المتباينة، اتخذ بعضها الطابع السجالي.
شاركت بالتعليق الوارد أدناه، وأنشره على صفحتي للحفظ وكنوعٍ ربما من نرجسية الذاكرة، مع الإشارة بأن أحد المشاركين في النقاش قد قام بتفنيد بعض ما جاء في هذا التعليق، ولا أدري هل هو محق في كل ما قاله أم في البعض منه فقط..
.. أظن بأن الكثير من الموضوعات والمفاهيم (الإيمانية) قد تم التوصل إليها نتيجة الحاجة النفسية لذلك. والوعي البشري القلق، افترض حلولاً تجلب له السكينة، ثم حاول بعقله إثبات حقيقتها:
فانوجاد الإنسان في مواجهة حتمية الموت، جعله يفترض حياةً بعد الموت. (وللتوضيح، أنا لا أنفي وجود حياةٍ بعد الموت، ولا أؤكد ذلك، وربما لم يكن ذلك من أولوياتي في البحث. فأنا أعيش كما يجب أن أعيش، أو أحاول ذلك، ككائن أخلاقي لا يحق له الإضرار باحد.. وبعد ذلك ليكن ما يكون: وجود حياة ثانية أم عدم وجودها..).
والتعرض للظلم، جعلنا نفترض عدالةً بعد الموت. (وأيضاً أنا لا أنفي ولا أؤكد).
وكل ما نعجز عن تحقيقه نفترض نيله في حياة ثانية.
وبدايةً، هذا الإنسان العاقل، ربما كان الوحيد الذي طرح سؤالاً عن أصل الكون ومن أين جاء؟
افتراض وجود خالق لهذا الكون يريح، معرفياً، وكونه يمكن أن يكون تفسيراً لكل الافتراضات السابقة.
لكن السؤال العقلي، بعيداً عن الإيمان المسبق، هل هناك خالق؟
طبعاً هناك احتمالان: إما أن يكون هناك خالق. وإما ألا يكون هناك خالق.
وأظن أن كلاً من الاحتمالين، سيواجه تحديات منطقية ومترتبات لا يمكن للعقل الإجابة عنها. أو هو يستطيع الدفاع عنها بحجج متساوية، وهذا ما قال به كانط في كتابه "نقد العقل المحض" والذي يعتبر فيه بأن العقل ليس الأداة الصالحة للبحث في هذه المسائل.
أما في حال وجود علة أولى في هذا الكون، فأظن بأن الإجابة الأكثر تماسكاً حتى اليوم هي الإجابة التي قدّمها أرسطو. والعلة الأولى عند أرسطو هي علة غير خالقة: فلا شيء من لا شيء. ثم لأن الخلق من عدم تفترض تغيراً في العلة الأولى، على الأقل تغير الإرادة. فلا تعود علة أولى، ثم يجب أن يكون الكامل غير متغير ولا تتغير معرفته بتغير العالم الذي يسوده التحول الدائم.
السؤال هو: لماذا طرح الإنسان هذا السؤال؟ أظن لأن ذلك يشكل حاجة نفسية له. وبدايةً هي حاجة معرفية مرتبطة بطبيعة الإنسان المتسائل.
أما الإجابة المستوحاة من باسكال المعتمدة على قانون الاحتمالات، فلا أظن أن لها علاقة بالإيمان الحقيقي. أن أؤمن لأن ليس في ذلك خسارة، أو لأن الخسارة ستكون أقل من الخسارة في حال ثبت العكس: أي أن الخسارة في حالة الإيمان بوجود خالق، ثم تبيّن عدم صحة هذا الاعتقاد، ستكون أقل من الخسارة في حالة عدم الإيمان بوجود خالق ثم التبيّن بأن الخالق موجود.
أولاً، أظن أن هذا إيمانٌ متهافت.
ثانياً، حتى لو كان شخص غير مؤمنٍ، ثم تبيّن وجود خالق. فلِمَ تكون هناك مشكلة؟؟
هذا يذكّرني بتساؤلٍ لأمين معلوف يقول فيه: ألله الذي خلقني ضعيفاً، هل سيحاسبني على ضعفي في يومٍ من الأيام؟؟
ولنفترض بوجود إله، ولم أتمكن بعقلي من التوصل إلى ذلك. فهل سيحاسبني الله على محدودية قدرتي العقلية التي عجزت عن التوصل إلى ذلك؟
في كل الأحوال، أظن بأن الإنسان الإنسان، لن يتغير سلوكه مهما كانت الاحتمالات. (إلا في موضوع الطقوس والعبادات، والتي أعتبرها غير أساسية في هذا السياق).
الإيمان يجلب الراحة. وهذا جيد.
والإيمان قد يكون المصدر الأساسي للأخلاق عند الكثيرين. وهذا أيضاً جيد. ونجد أفلاطون يدعو إلى إقناع الناس بوجود خالق وحساب بعد الموت كنوع من التربية الأخلاقية لعموم الناس.
لكن هذا لا يوازي أيّ أهمية على مستوى الأدلة.
هذه ستبقى أحجية على مستوى العقل. وأظن أن استخدام العقل في هذا المضمار، هو نوع من الآلية الدفاعية عن إيمان سبق توصل العقل إليه. وقد يسميه البعض بالعقل التبريري وليس العقل المكتشف.
أرى أن هذا الكوكب يتسع للجميع. ولكل وجهة نظره التي يرى العالم من خلالها. ما يجمع الناس هو اشتراكهم في الإنسانية. ومن طبيعة الأمور أن يختلف الناس في قناعاتهم. لكن المرض كل المرض، هو محاولة إلغاء الآخرين. حتى لو كنت متأكداً من فكرتي، فهذا لا يبرر لي إلغاء "المخطئين".
.
تعليق للصديق (الدكتور..):
 تحية وبعد
نقاشك جميل كنقاش هل تدري لماذا
لأنك انطلقت من البداية يعني من نقطة انك لاتعرف وانتهيت الى نقطة انك لاتعرف
اعتقد ان اَي إنسان عقله نظيف من المواقف المسبقة سيصل الى نتيجةمشابهة لما وصلت اليه
إذن أين هي الحاجة النفسية 
أنا أظن ان المسألة لها مستويان 
المستوى الفلسفي أو النخبوي وهذا من المحتمل وعلى الأرجح ان يكون احترافياً نفعياً
والمستوى العام الخاضع الذي يتلقى الإيمان جاهزاً على طريقة دين المرء ما علمه ابوه علماً أن "ابوه" قد يكون السلطان من اَي نوع 
يقول الحديث "إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق " إذن الأخلاق كانت قبل الأديان لانها حاجة اجتماعية أولاً اما الإيمان فمهمايكن يبقى موضوعاًذاتياًلا داعي لإعلانه فضلاً عن التبجح به.
.
محمد الحجيري: 
صباح الخير دكتور ..، وتسعدني مشاركتك في النقاش.
أنا أتفق معك تماماً بأن الأخلاق سابقة على الدين..
ما قصدته بالحاجة النفسية عند الإنسان له مستويان: مستوى معرفي، فالإنسان بفطرته يمتلك الفضول المعرفي، ويعتبر أن لكل ظاهرة سبباً، البعض يعتبر بأن اعتبار الإنسان بأن لكل ظاهرةٍ سبباً فطريّ ويخلق مع الإنسان (ديكارت)، والبعض الآخر يعتبره نوعاً من العادة الذهنية بسبب إطراد الحوادث. وفي كلتا الحالتين، الأكيد أن الإنسان يفسر ظواهر الطبيعة على هذا النحو.
قد يكون السبب داخل الطبيعة نفسها، أو قد يكون مفارقاً.. لكن دائماً نعتبر بأن لكل ظاهرة سبباً.
وهذا ما يجعل الإنسان يسأل: من أين جاء الكون؟
ونحن نلاحظ هذا الفضول المعرفي والبحث عن الأسباب لدى الأطفال، فالطفل يسأل أهله عن أصل كل الأشياء، وحين يعجز الأهل عن الإجابة أو التفسير، يقولون: خلقها الله. وحين يسأل: ومن خلق الله؟ يقولون له: اسكت! حرام.
أجوبة الأهل بالطبع مكتسبة ومرتبطة بثقافة البيئة. لكن سؤال الطفل هو ما يهمنا في الموضوع.
الحاجة النفسية في بعدها المعرفي قصدت بها هذا الأمر تحديداً: التساؤل.
والإنسان كان ينسب الظواهر إلى أسبابها الطبيعية التي يعرفها، وحين يعجز، كان يلجأ إلى أسباب مفارقة: الآلهة التي كانت تملأ ثغراته المعرفية الطبيعية لتفسير الظواهر.
من هنا كان اللجوء إلى ما بعد الطبيعة يحل له مشكلة معرفية.
مع سيادة طريقة التفسير العلمية مع أوغست كونت: البحث عن أسباب الظاهرة الطبيعية داخل الطبيعة ذاتها، تقلص دور القوى المفارقة، وإن لم يغب كليةً، وأنا أظن أنه حتى التفسيرات العلمية تلجأ إلى نوع من التفسير الميتافيزيقي أحياناً كثيرة، وهذا أمر بحاجة إلى بحث متخصص: مثل افتراض قانون السببية نفسه الذي لا نستطيع أن نبرهن عليه.
وفي كل الأحوال فما زال بين ظهرانينا غالبية تفسر كل ما لا تجد له تفسيراً طبيعياً من خلال تفسيرات ميتافيزيقية، وإن كان البعض يشعر بالاستغناء عن ذلك، لكن بالقول: لا أعرف. (وهذا رأيي. وإن كان البعض يبالغ في علمويته ويعتبر بأن العلم قادر على تفسير كل الظواهر).
أما الحاجة النفسية في بعدها التعويضي (إذا صح القول)، فأظنه مرتبط بأحلام الإنسان وطموحاته، ثم اكتشافه العجز عن تحقيق ذلك.
فالإنسان الذي اكتشف أن الموت حقيقة أكيدة (وهذا ما تعالجه الأدبيات القديمة، ومنها ملحمة غلغامش)، افترض حياة بعد الموت. وكذلك افترض عدالةً بعد الموت، وافترض كل ما نعرفه من صور تصف حياة الجنة.
وهذه الأمور كانت منتشرة في كل الحضارات، ليس لأنها مقنعة (مثل عبادة مظاهر الطبيعة)، لكن لأنها كانت تعويضاً عن شعور الإنسان بالنقص.
وأظن أننا ما زلنا حتى عصرنا، الغالبية ما زالت تشعر بذلك، وقلة هم الذين يبحثون عن أجوبتهم الخاصة، ويتخلون عن الأجوبة الجاهزة التي تشكل ثقافة الجماعة.
آسف لهذه الإطالة، وأظن أننا نلتقي ربما على أغلبية الأفكار إن لم يكن كلها. لكن يبقى التوسع مفيداً لإشراك الأصدقاء في الاطلاع على الآراء والمشاركة في النقاش.
وأخيراً لك مني كل التحيات والاحترام.

مشاركة في حوار..(2)
زميلنا العزيز ..:
معك حق في القول بأن تعليقي لم يكن مناقشةً للمنشور (...) . وذلك يعود ربما لموقف خاص بي حول فهمي للحوار، هو أقرب إلى التعارف منه إلى الإقناع أو الاقتناع: أطلع على الرأي الآخر وأبدي رأياً.
وأنا أبديت رأياً، هو ليس لي، لكني أتبناه: وهو موقف كانط القائل بأن العقل ليس الأداة الصالحة للبحث في الميتافيزيقا.
ولو اعتبرتُ الحجة (في المنشور) قاطعةً، لكان لا معنى لرأيي المذكور. لكن ما أقدره لدى صديقنا هو احترامه لحق الاختلاف، وهذا ما لا نجده كثيراً عند أصحاب المعتقدات، أكانت دينية أم سياسية أم أخلاقية..
ولو كان لي أن أبدي رأياً سريعاً في الموضوع، لقلت بأن الحديث عن الحاجة في العبارات الواردة في المنشور لا تحمل نفس المعنى. (ملاحظة: ورد في المنشور مدار النقاش بأن الحاجة إلى الطعام والشراب تثبت وجودَهما، وكذلك الحاجة إلى العبادة تثبت وجود المعبود..)
فالحاجة إلى الطعام والشراب هي حاجة بيولوجية، تعني أن استمرار الحياة ما كان ممكناً لولاهما. يعني أنهما ضروريان للحياة ولا يُستغنى عنهما.
أما الحاجة إلى المعبود أو إلى العبادة، فلها معنى آخر. واستمرار الوجود غير مقترن بذلك. هي "حاجة" نفسية ومعرفية. وبظني أن ذلك ناشئ من طبيعة الإنسان المتسائلة، والعارفة التي رأت الكون فتساءلت: من أين جاء؟ واكتشفت الموت والعجز عن تحقيق العدل فافترضت حياةً وعدالةً بعد الموت. وهذا "الافتراض"، لا أقول عنه بأنه صحيح أو خاطئ، وإن كان لديّ ترجيح ما، لكن أقول بأن العقل لا يستطيع إدراكه.
وتاريخ العبادات يرجح أن ذلك كان يتم بسبب هذه الحاجة النفسية: فمن كان يعبد مظاهر الطبيعة كان يحسب اعتقاداته صحيحة، بينما لا أحد يرى ذلك الآن. الحقيقة هي أن من طبيعة الوعي البشري أن يطرح هذه الأسئلة. لكن حقيقة الأجوبة تختلف باختلاف المعتقدين.
(
إضافة: أظن بأن القول بأن الحاجة إلى الطعام يثبت وجود الطعام، ناتج عن قياس أرسطي مضمر مفاده: لا حياة بغير وجود الطعام، والحياة موجودة، إذاً الطعام موجود. لكن هذا لا ينطبق على القضية الأخيرة. فلا نستطيع القول بأنه لا حياة بغير وجود عبادة.. مفهوم الحاجة يختلف بين القضيتين الأولى والثانية.. وهذا كان له تسمية محددة في منطق أرسطو)
أما في ما يتعلق بأرسطو، فبظني أن جوابه هو الرأي الأكثر تماسكاً من الناحية المنطقية، وهو قوله بقِدم العالم. لأن القول بحدوث العالم يطرح إشكاليات كثيرة تعرفها ويعرفها كل من له إلمام بتاريخ علم الكلام: هل الخالق يتغير حين يخلق العالم وحين يعلم الجزئيات والتغيرات فيه..؟ نظرية أرسطو كانت بمنأى عن هذه الصعوبات المنطقية واحتمال الوقوع في التناقض.
لكن هل نظرية أرسطو هي حقيقة علمية؟ بالتأكيد لا.
أصل الكون سيبقى لغزاً أمام العقل البشري. فلا هو يستغني عن طرح سؤال العلّة: من أين جاء الكون؟ ربما بسبب من عادة ذهنية كما يرى هيوم، لأنه يرى بأن كل ما يحدث ينتج عن مسببٍ سابق له..
وهو إذا افترض علّة مسببة كان أمام مشكلتين: ما علّة هذه العلّة؟ وهي ما أجاب عنها أرسطو بأنه لا يمكننا الاستمرار في الأسباب إلى ما لانهاية.. ولا أجد مبرراً مقنعاً لهذه الإجابة إلا التخلص من المأزق.
وثانياً ما هي العلة التي جعلت العلة الأولى تتبدل وتخلق العالم بعد أن لم يكن؟
في كل الأحوال، أظن بأن تاريخ الإجابات عن هذه الأسئلة هي تاريخ اهتمام الإنسان بهذه المشكلة، وتطورها مرتبط بتطور معارفه. لكن السؤال هو: لماذا يطرح الإنسان هذه الأسئلة، ويقبل عنها بعض الإجابات التي نجدها اليوم لا تستحق عناء التفنيد؟ ربما هو شعوره الملازم بالحاجة إلى ذلك، وتطورت إجاباتُه بتطور قدرته عبر العصور في الإجابة على تلك التساؤلات.
إنه الوعي الشقي الذي يخلق التفاؤل لأنه بحاجة إليه. والذي يفترض الإجابات لأنه بحاجة إلى "الحقيقة". وهذه الإجابات تعبر عن مكوّن أساسي من إنسانية الإنسان، إن لم يكن من حيث بلوغُ الحقيقة، فمن حيث انهمامُه بهذه الموضوعات.
وهي أجوبة راقية، حتى ولو كانت وهميّة، بشرط ألا تكون مدخلاً لاضطهاد الآخرين، أو سوق الناس إلى الجنة بالعصا.
أن تقتنع أنك على صواب، وبأنك وحدك الحاصل على الخلاص، فلا ضير في ذلك، شرط ألا يؤدي بك ذلك إلى ادعاء تكليف إلهي بمحاسبة الناس الآن وهنا، أو ربط حقوق المواطنين بناء على ما يعتقدون، وهو ما تجاوزه العالم الغربي (الكافر) منذ قرون، بينما ما زالت الأمور في مجتمعاتنا ودولنا على ما نعلمه جميعاً.
ما أقدّره عند الشيخ (..) ، ليس أين نختلف وأين نتفق، بل أننا نتفق على أنه يحق لنا الاختلاف.



الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

أسرار؛ (م.ح)



أسرار.
لم يشاهد أحدٌ مادةً خَلقت مادة. ولا شاهد أحدٌ مادةً خُلقت بغير مادة. لم تُشاهد قط مادة تُخلق من عدم. وُجِد الإنسان والعالم أمامه معطى قائم، وتأثير بين أجزائه متبادل.
فكيف خطرت في بال الإنسان فكرة الخلق من عدم؟

لم يشاهد الإنسان إلا مادةً تنتقلُ من حالةٍ إلى حالةٍ جديدة.
ودائماً كان سبب الانتقال موجوداً في المادة ذاتها.
لماذا يتساءل الإنسان: من يحرك هذا الكون؟
لماذا يفترض الإنسانُ السكون كأصل، مع أنه لا يرى غير الحركة؟
ثم يفترض محركاً مفارقاً، مع أنه لا يرى إلا أسباباً محايثة؟
وهل كان يمكن أن تنتج الحركة عن السكون؟
الإنسان، هذا الكائن العجيب، الميتافيزيقي الخالق للأفكار
يرى أمامه مادةً، فيفترض العدم قبلَها.
ويفترض كائناً مفارقاً أوجدها من العدم.
ويرى أمامه هذه المادة في حركةٍ دائبة
فيفترض السكون قبلها
ويفترض كائناً مفارقاً يحركُّها
لكنه بذلك يفتح الباب أمام أسئلةٍ لا تنتهي
غريبٌ هذا الإنسان، يعقّد الأمور على نفسه.
بعضُنا يرحل ظاناً أنه يملك معرفة الأسرار
لكن..
من ذهبَ لم يعد
لذلك سيبقى كلٌّ منا راضياً بما يعتقده.

26/12/2017 

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

العالم والأشياء؛ كلاوس هيلد؛ ترجمة اسماعيل المصدق.





العالم والأشياء:
قراءة لفلسفة مارتن هايدجر(*)
 كْلاوْس هيلْد Klaus Held
ترجمه عن الألمانية: إسماعيل المصدق
(عن مجلة فكر ونقد العدد الأول 1997)


تقديم النص والكاتب
المقال الذي قمنا بترجمته من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية هو نص لمحاضرة ألقاها الأستاذ Klaus Held سنة 1990 في عدة منتديات ونشر في إطار مؤلف جماعي أصدره Christoph Jamme و Karsten Harries تحت عنوان : "مارتن هايدجر، الفن ـ السياسية ـ التقنية" عن دار النشر Wilhelm Fink بميونيخ سنة 1992، ص 319  ـ 333 .
تحاول هذه المحاضرة أن تقدم نظرة إجمالية عن فلسفة هايدجر. ورغم أنـها موجهة إلى جمهور واسع من المثقفين، فإنـها تتوفر على قيمـة علمية وفلسفية كبرى، خاصة وأنـها تعمل على وضع فلسفة هايدجر في سياق يبرز بوضوح أهميتها وارتباطها بقضايا العصر. ويمكن اعتبار هذا النص مدخلا مفيدا يساعد القارئ على أن يتوجه بكيفية سليمـة في قراءته لكتابات هايدجر، فهو ينطلق من تحليلات هايدجر في مؤلفه الأساسي "الكون والزمان" ويبرز العلاقات والخيوط الدقيقة التي تصل بينها والتي يصعب على القارئ العادي أن يتبينها ويمسك بـها. وفضلا عن ذلك، يعمل على إظهار الجسور العميقة والخفية التي تربط بين تحليـلات "الكون والزمان" وفلسفة هايدجر المتأخرة. ومع ذلك فإن هـذه النظرة تجتنب السقوط في عرض صوري يضحي بالمضمون الفينومينولوجي الذي يتشبث به Klaus Held بشدة.
ولد Klaus Held سنة 1936. درس الفلسفة والفيلولوجيا الكلاسيكية في جامعات ميونيخ، فرايبورج، بون وكولونيا. قدم أطروحة الدكتوراه سنة 1962 تحت إشراف Ludwig Landgrebe، أحد تلامذة هوسرل ومساعديه البارزين. يشغل منذ سند 1974 منصب أستاذ للفلسفة في جامعـة Wuppertal، وتنصب أبحاثه على عدة ميادين أهمها الفلسفة اليونانية،  الفلسفة السياسية والفينومينولوجيا. وهو من المساهمين في إصدار سلسلة الأعمال الكاملة لـهايدجر. يعمل حاليا على صياغة مشروع فينومينولوجيا للعالم السياسي تستلهم أسس التحليل الفينومينولوجي لدى كل من هوسرل وهايدجر. تقلد منصب رئيس الجمعية الألمانية للبحث   الفينومينولوجي من 1987 إلى 1994. ترجمت أبحاثه ودراساته إلى عدة لغات. ونقدم فيما يلي لائحة كتاباته المترجمة إلى اللغة الفرنسية :
* Rendez-vous chez Platon. Voyage au pays des philosophes, Paris 1996.
* Heidegger et le principe de la phénoménologie, in: Heidegger et l’idée de la phénoménologie, Den Haaf 1988. (Phaenomenologica 108).
* Husserl et les Grecs, in: E. Escoubas et M. Richir : Husserl,  Grenoble 1989.
* Le monde natale, le monde étranger, le monde un, in : S. Ijsseling: Husserl-Ausgabe und Husserl-Forschung, Den Haag 1990  (Phaenomenologica 115).
* Humanité et monde politique, in: Cahier de philosophie : Le  monde De la phénoménologie à la politique, n° 15/16, Paris 1992/93.  
* Disposition affective fondamentale et critique du temps chez Heidegger, in: R. Brisart et R. Célis: l'évidence du monde. Méthode et emprise de la phénoménologie, Bruxelles 1994.
* L’intentionnalité et remplissement de l'existence, in : D. Janicaud :
L’intentionnalité en question. Entre phénoménologie et recherches cognitives,Paris 1995.

ترجمة النص:
في السنة الماضية، تم في العالم كله إحياء الذكرى المئوية لميلاد مارتن هايدجر، الذي يعتبره الكثيرون أكبر مفكر في قرننا. ترك هايدجر أمام القارئ مجموعة ضخمة من الأعمال صدر منها، لحد الآن، خمسون كتابا.  وعليه، فإن تقديم نظرة إجمالية عن الكل في ساعة واحدة سيكون محاولة غير مفيدة ومملة. لكن ربما أمكنني أن أحاول القيام باستحضار حي لشيء من روح التفلسف الهايدجري، وذلك بأن أنطلق من مشكل يقض مضجعنا اليوم بشكل خاص،  أقصد مشكل إتلاف بيئتنا[i] بواسطة التقنية والصناعة.
في مناقشة هذا المشكل، هناك موقفان أساسيان يتعارضان جذريا. يصر الطرف الأول على أنه من حق الإنسان مبدئيا أن يغير عالمه بالكيفية التي يريد ؛ لكن عليه فقط أن يعمل، بكيفية أكثر يقظة مما هو عليه الأمر حتى الآن، على تجنب الآثار المضرة التي تنجم عن تدخله في البيئة. يبقى الإنسان، بالنسبة لهذا الموقف، هو مركز العالم الذي يستغله ومالكه. أما الرأي المعارض فيحارب بالضبط مركزية الإنسان هاته؛ إنه يدعو إلى أن يتخلى الإنسان عن الادعاء بأنه يمثل مركز العالم،  وأن يتعلم، بدل ذلك، كيف يندرج في الدورات الإيكولوجية للطبيعة  وكيف يخضع لها. ليس الإنسان هو الذي ينبغي أن يسود، بل الطبيعة. هكذا نجد أنفسنا أمام نزعة طبيعية تعارض نزعة مركزية الإنسان.
توجد البشرية اليوم، حسب هايدجر، أمام خطر له مدى عالمي: إنـها في الطريق لأن تصبح، بسبب إتلاف كل ما يتولد عن الطبيعة في العالم، بدون موطن.[ii] لهذا أصبح الآن يطيب للمرء، في دائرة النزعة الطبيعية، أن يتخذ من هايدجر مرجعا. إلا أن الأمر يتعلق هنا بسوء فهم. فنـزعة مركزية الإنسان والنزعة الطبيعية في إطار مناقشة مشكل البيئة ليستا سوى طبعة جديدة لجدل يخترق فلسفة العصر الحديث وثقافته منذ مدة طويلة.
تعود نشأة العصر الحديث إلى أشياءَ منها أن الإنسان، في أواخر العصر الوسيط، فقد الثقة في نظام الطبيعة كما خلقه الله، وأصبح يبحث، بسبب ذلك، عن نقطة أكيدة جديدة. وجدت الفلسفة هذه النقطة الأكيـدة في اليقين من أن الإنسان يمكن أن يشك في كل الأشياء إلا في وجود وعيه ذاته الذي يشك. بسبب الرجوع إلى داخلية الوعي، يصبح العالم، بالنسبة للإنسان، موضوعا يواجهه في البداية كشيء غريب. إلا أن الوعي يتوفر على القدرة على فهم الموضوع وتملكه. هكذا يحتل الإنسان منـزلة الذات، أي القطب المرجعي بالنسبة للعالم. من حيث المبدأ، يمكن فلسفيا تصور إمكانيتين لتخطي الهوة التي تفصل الذات عن العالم بصفته موضوعاً. تتمثل الإمكانية الأولى في اعتبار العالم كحقل فاعلية أنشأتـه الذات لـها من أجل أن تثبت فيه قوتـها؛ هذا الموقف الأساسي تتخذه النزعة الذاتية، التي تعتبر نزعة مركزية الإنسان في إطار مناقشة مشكل البيـئة وليدها الأحدث. أما الإمكانية الأخرى فهي أن تعتبر الذات نفسها هي أيضا كقطعة من الطبيعة، من الموضوع؛ هذه النزعة الطبيعية تعود هـي أيضا للظهور من جديد في إطار مناقشة مشكل البيئة.
هذان الموقفان يقعان معا داخل ثنائية الذات والموضوع التي تنتمي للعصر الحديث.  لم يكن من الممكن أن يتبنى هايدجر أيا من الموقفين، وذلك بالضبط لأنه فكر فيما وراء هذه الثنائية. بذلك يبتدئ مؤلفه الأساسي "الكون والزمان" [iii] الذي نشره سنة 1927 واكتسب بفضله شهرة كبرى. إن ارتباط الوعي، الذات، بالطبيعة كموضوع ليس هو العلاقة الأصلية للإنسان بالعالم، فهذا الارتباط ليس سوى وليد متأخر لعلاقة أصلية أكثر. أين تكمن هذه العلاقة؟ أود أن أعالج هذا السؤال في بضع خطوات انطلاقا من "الكون والزمان" إلى تفكير هايدجر في مرحلته المتأخرة. خلال ذلك سيتضح بأي معنى يمكن أن يتكلم هايدجر عن فقدان الإنسان الحديث في العالم لأي موطن، وهل يرى إمكانيةً لأن يسترجع العالم من جديد طابعه كموطن.
غالبا ما نستعمل مفهوم "العالم" للدلالة على كلية الأشياء. يتكون العالم من الأشياء. إذا انطلقنا من التعارض الذي يقيمه الفكر الحديث بين قطب وعينا وقطب العالم، فإننا سنكوّن عن الأشياء الصورة الآتية: لدي أنا في البداية اليقين بأنني أنا نفسي موجود، ذلك أنه لا يمكن أن أشك في وعيي ذاته. إلا أن بحثي عن اليقين سيفضي بي خارج مجال وعيي. فهناك مثلا يوجد مقعد. إنني في العادة متيقن منه هو أيضا، فحواسي تنقل إليّ الانطبـاع بأن المقعد موجود، حيث يمكنني رؤيته ولمسه. المقعد موجود، هذا يعني: إنه حاضر[iv] كموضوع لإدراكي.
وإذا تأكد ذلك، فإنه يصبح بإمكاني إصدار أحكام عن الموضوع، كأن أقول مثلا: "المقعد قائم في الركن" أو "المقعد يهتز". إن أحكاما كهذه نجدها في الحياة اليومية، ولكن، على مستوى أعلى، في العلم أيضا، وذلك عندما يحدد عالم النباتات مثلا نوع زهرة تم اكتشافها أخيرا. إنه يرى الزهرة كموضوع قائم أمامه، حاضر، ثم يقول: "هذه النبتة تنتمي لفصيلة السحليات"، أو يسجل هذه الملاحظة: "يبلغ طول النوع الجيد من السحليات عشرة سنتمترات". يتعلق الأمر في المثال الأول بتصنيف الزهرة، وفي المثال الثاني بوصفها. ويظهر مبدئيا أن الإنسان في حياته اليومية لا يتعامل مع الأشياء بكيفية مخالفة. إنه يسجل كونها حاضرة ويصنفها، مثلا: "هناك يقوم مقعد"، وهو ما يعني: "تلك القطعة من الأثاث هناك تنتمي إلى صنف المقاعد"؛ أو إنه يصفها، مثلا: "المقعد يهتز".
ولكن هل تقابلنا الأشياء حقيقة في حياتنا اليومية بـهذه الكيفية، أي كموضوعات حاضرة قابلة للتصنيف والوصف؟  هل صحيح أنه ليس هناك مبدئياً أي فرق بين عالم الحياة اليومية والعالم بصفته موضوعا للعلم، كما يجب أن نعتقد إذا انطلقنا من ثنائية الذات والموضوع؟ من هـنا يبتدئ التحليل النقدي الجيد الذي يقوم به هايدجر في "الكون والزمان". مـا هي العلاقة التي تربطنا بالأشياء في الحياة اليومية، إذا وصفناها دون أحكام مسبقة؟
يبدو أن هذه العلاقة تتمثل عادة في أننا نستعمل الأشياء لغرض ما. إننا نستعمل المقعد مثلا للجلوس، وعندما نقول: "المقعد يهتز"، فإن ذلك ليس حكما وصفيا، بل إننا نريد أن نقول: "إن المقعد غير صالح للاستعمال"، وذلك لأن الاهتزاز يزعجنا عند الجلوس. وهكذا فنحن نفهـم المقعد في حياتنا اليومية لا كموضوع نريد أن نصدر حوله أحكامـا، كما يفعل عالم النباتات، بل إننا نفهمه انطلاقا من الاستعمال وحده. إنكم مثلا تحتاجون خلال هذه المحاضرة إلى شيء  يمكن الجلوس عليه، في سياق الاستعمال هذا يبرز المقعد في مجال رؤيتكم. إن مجال الاستعمال هو الذي يقرر ماذا يكون المقعد بالنسبة لنا، إنه يحدد كون المقعد. إن هذا الكون ليس كونَ حضورٍ للتصنيف أو الوصف، بل كونٌ من أجل الاستعمال. هكذا يمكن أن يظهر لنا المقعد صالحا كثيرا أو قليلا للاستعمال. إنه إذا عبرنا بصور حسية، أحسن أو أسوأ "لليد"، كمـا تكون أداة يدوية جيدة كثيراً أو قليلاً بالنسبة ليدنا. لـهذا يقول هايدجر: إن كون الأشياء في حياتنا اليومية ليس كونَ حضور، بل هو كونٌ ـ لليد.[v]
إن ما هو العالم يتحدد انطلاقا من فهم الأشياء التي يتكوّن منها. فماذا يكون العالم إذن، علما بأن كون الأشياء له في البداية وفي العادة طابع الكون لليد؟ إن سياق الاستعمال الذي يحدد كون الأشياء اليومية هو شبكة من غايات كثيرة لا يمكن الإحاطة بها ونحتاج لتحقيقها إلى أشياءَ جدِّ متنوعة؛ كل شيء من هذه الأشياء محبوك في هذه الشبكة بكيفيات متعددة. كل إنسان يعيش في سياق للاستعمال، وهذا يطبع مجال ممارسته، أي أفقـه. إن أفق الموظف يختلف عن أفق الرياضي أو التلميذ أو غيرهما. ولـهذا نتحدث عن عالم الإدارة والرياضة والمدرسة،   وغيرها كثير. تختلـف الأشياء التي نحتاج إليها والغايات التي لأجلها نستعملها باختلاف العالم الذي نعيش فيه. انطلاقا من العالم كأفق لسياق الاستعمال الخاص بنـا نفهم كيف تكون الأشياء لليد بالنسبة إلينا. إن الأفق هو إذن عالمنا اليومي.
إن العالم حسب ثنائية الذات والموضوع هو كلّية الموضوعات الحاضرة القابلة للتصنيف والوصف. وعلى غرار ذلك، قد يعتبر المرء أن العالم اليومي هو أيضا كلية، أي جملة الأشياء التي هي لليد من أجل الاستعمال. إلا أنه قد تبين بالضبط أن العالم اليومي ليس له طابع جملة من الأشياء، بل طابع الأفق، أي طابع سياق شامل داخله نعيش ونتوجه إلى الأشياء، وذلك لأننا نفهم كيفية استعمالـها انطلاقا من السياق. وهكذا فإن هذا السياق مألوف لدينا قبل التعرف على الشيء المفرد، إنه بالنسبة لنـا هو الأولي، أما الأشياء فتشكل ما هو ثانوي. لو كان العالم اليومي مجرد جملة من الأشياء، لكان الأمر على عكس ذلك؛ فالجملة ليست سـوى شيء من الدرجة الثانية، شيء مشتق، لأنها تتوقف على الأجزاء التي تتكون منها.
يمكن مقارنة العالم كأفق بالضوء. بدون ضوء لا نستطيع رؤية أي موضوع، وبدون أفق الاستعمال ستبقى الأشياء اليومية بدون دلالة بالنسبـة لنا. إنه فقط في ضوء الأفق تظهر لنا الأشياء على ما هي عليه في الحياة اليومية، أي كأشياء لليد. إن العالم كأفق يمنح الضوء لظهور ما هو لليد، إنه البعد المفتوح المشرق الذي يمكن فيه للأشياء أن تظهر ذاتـها لنـا. عندما نرى شيئاً ما لا ننتبه عادة للضوء الذي يمكننا من الرؤية،   بل للأشياء التي تصبح بفضله مرئية. وبالمثل، فإن انتباهنا في الحياة اليومية لا ينصب عادة على البعد الذي يسمح بالظهور، على أفق الاستعمال، بل على الأشياء لليد التي تظهر في ضوئه.
وفوق ذلك، فإن هذا الانتباه للأشياء لليد يختلف عن كيفية اهتمام العالم بموضوعات حاضرة. فعالم النباتات يجفف الزهرة حتى يتمكن دائما من مشاهدتـها من جديد، أما الإنسان اليومي فليس له أي اهتمام بمثل هذه المشاهدة. إنه يود على العكس من ذلك، أن يتم استعمال الأشياء لليـد دون مشاكل حتى لا تلفت ما أمكن نظره بشكل خاص. إننا نصبح منتبهين لما هو لليد عندما يتعثر استعماله، مثلا عندما يزعجنا. إنه فقط عندما يهتز المقعد أو يضغط الحذاء على رجلي يثير لدي انتباها خاصا. آنذاك ربما أجـد نفسي مدعوّاً  لأن أشاهده وأفحصه، بكيفية معبر عنها، كموضوع حاضر، وهكذا ينتهي بي الحال، إلى أحكام تصنيفية أو وصفية حول الموضوع.  إن كونه يتحول من كون- لليد إلى كون-حضور. وهذا يمكن بدوره، عندما نزاوله بكيفية نسقية، أن يصل إلى حد أن تظهر لنـا كل الأشياء بصفتها أشياء حاضرة. وعلى هذا النهج يمكن إذن أن يصبح العالم أيضا بصفته كلاً،  أي بصفته جميع الموضوعات الحاضرة، محط انتباهنا. ولكن بذلك يظهر لنا هو ذاته كما لو كان موضوعا مفرطا في الكبر، أي بصفته الموضوع الذي يضم داخله كل الموضوعات.
نظرا لأن الإنسان يستطيع على هذا النحو أن يموضع العالم، فقد أمكن للفلسفة الحديثة أن تجعل من العالم موضوعا يقابل الوعي البشري. إلا أن هذه الموضعة تشترط العلاقة الأولية للإنسان بالعالم. هذه العلاقـة الأولية ليست علاقة بما في الكلمة من معنى، إذا فهمنا "العلاقة" كارتباط بموضوع، بل إنها تكمن في أننا نكون عند فهمنا للأشياء في أُلفة قبل-موضوعية[vi]   مع الأفق وفي أننا بـهذا المعنى نقيم في البعد المشرق للظهور الذي هو العالم. لذلك ينعت هايدجر في "الكون والزمان" العلاقة الأصلية للإنسان بالعالم ك "كون-في-العالم".
إن موضعة العالم في الفلسفة الحديثة هي اغتراب عن الألفة الأصلية مع البُعد القبل -موضوعي للكون-في-العالم، فما هو الجذر العميق لـهذا الاغتراب؟
لكي يكون العالم كموضوع أمراً ممكنا، يجب أن نتجاهل بأن العالم هو في الأصل ليس موضوعا، بل بُعدٌ قبل-موضوعي للظهور [=أفق استعمال]. لكن هذا التجاهل ليس أمراً مستعصيا علينا، وذلك نظرا لأن العالم كبُعد للظهور لا يثير اهتمامنا في الحياة اليومية. إنه لا يخطر ببالنـا عادة أن نـهتم ببُعد الظهور، لأننا نكون مشغولين بما فيه الكفاية بتدبير أمرنا في الوضعيات التي تواجهنا في حياتنا باستمرار.
كل وضعية تتيح لنا إمكانياتٍ كثيرةً للتصرف وتضعنا بكيفية لا مناص منها أمام مهمة اختيار إمكانيات ما في ضمنها. عندما نختار إمكانيات ما ونحققها، فإن هذا لا يعني أننا سنكون منذ ذلك الحين قد تحررنا من ضرورة الاختيار بين إمكانيات، ذلك أن كل تحقيق لإمكانيات يجلب وضعيات مع إمكانيات جديدة، وهكذا فإننا لا نخلد للسكينة، لأن حياتنا هي دائما وفي كل مكان مشدودة إلى إمكانيات. إن كوننا نحن البشر ليس أبدا كونا متحققا جاهزا، بل هو باستمرار كون-ممكن.[vii] [هذا يشبه ما سيقول به سارتر].بعد أن ميزنا سابقا بين كيفيتين لكون الأشياء، الكون-لليد، والكون-الحضور، نجد أنفسنا الآن أمام كيفية للكون خاصة بوجودنا البشري.. إن كيفية الكون الخاصة بوجودنا هي الكون الممكن. يتعلق الأمر في كل تحليلات "الكون والزمان" بكيفيات للكون، ولـهذا السبب يرد أيضا مفهوم "الكون" في العنوان.
في الوضعيات [ربما تماثل المواقف عند سارتر] وإمكانياتـها نعيش بكيفية مشخصة الكون-الممكن الذي يميز وجودنا. كل وضعية للحياة اليومية تطلعنا على سياق الاستعمال، أي الأفق الذي نفهم الأشياء انطلاقا منه. وهكذا يكون العالم بالنسبة لنا ماثلا في كل وضعية. يقدم لنا العالم في الوضعيات المختلفة إمكانيات لتصرفنا. إن الوضعيات هي منفذنا إلى العالم، ولكنها تحجبه عنا أيضا، وذلك لأنها تشدنا إلى الإمكانيات التي يكون علينا في كل مرة أن نتعامل معها. إن وجودنا يكون بسبب تعدد الوضعيات متشتتا في إمكانيات كثيرة، وبسبب هذا التشتت ينقصنا التركيز والسكينة اللازمين لكي نلاحظ أن وجودنا ليس مجرد حشد لإمكانيات منفصلة عن بعضها البعض وأن هذه الإمكانيات مترابطة داخليا فيما بينها، لأنـها ليست سوى أشكال متنوعة للكون-الممكن الواحد عموما الذي يحدث حسبه وجودُنا.
لو تأتى لنا أن نستجمع أنفسنا وأن نفهم وجودنا وننجزه ككل بصفته كونا-ممكنا متكاملا، لانفتح لنا بذلك أفق كوننا-الممكن هو أيضا ككل. هذا الأفق هو العالم. صحيح أن العالم مألوف لدينا في الكون-في-العالم بكيفية قبل-موضوعية، ولكن، مع ذلك يبقى في الحياة اليومية خفيا عنا أن وجودنا منفتح لبُعد الظهور "العالم"، لأننا لا نستجمع أنفسنا حول وحدة كوننا-الممكن وكليته. ولكن هل يمكننا إطلاقا أن نستجمع أنفسنا بهذا المعنى؟ هل يمكن أن نعيش تجربةً تجعلُنا نرى أن وجودنا هو في كليته كون-ممكن؟
إن ذلك ممكن بالفعل، لأن وجودنا في كليته، مهدد من قبل إمكانية العدم. فضمن الإمكانيات التي هي أمامنا، هناك دائما إمكانية قصوى أيضا: الموت ؛ وهي إمكانية قصوى،   لأنـها تهدد بأن تجعل كل الإمكانيات  الأخرى غير ممكنة، وبـهذه الكيفية تجعلنا نستشعر أن وجودنا في كلّيته هو كون-ممكن. إن الخطر الدائم الذي يـمثله الموت قـد يمكن أن ينبهنا  إلى أن نستجمع  أنفسنا من التشتت في الوضعيات الكثيرة لحياتنا،  إلا أننا نتهرب من أن نواجه تعرضنا للموت[viii] بسكينة وثبات، ولـهذا فإننا نسقط في الوضعيات،  أي نستسلم لـها كما يستسلم مدمـن على المخدرات أو الكحول للجرعة أو الزجاجة التالية التي يحتاج إليها فـي هذه اللحظة بالذات.
في القلق نستشعر أن وجودنا مهدد من قبل الإمكانية القصوى للموت. والقلق هو حالة وجدانية، خلالها نجد أنفسنا، بكيفية قبل-موضوعية، أمام كوننا-في-العالم ككل. إن العالم اليومي الذي نشعر فيه بالألفة يصبح دفعة واحدة موحشا بالنسبة لنا. وهكذا ينتابنا الشعور بأن الأرض تميل تحت أقدامنا وأن العالم ينفلت منا. هذه الحالة الوجدانية تطبع خفية وجودنا في كل حين، إلا أننا لا نريد في العادة أن نتركها تصعد إلى السطح. يجب علينا أن نبدي الجرأة على أن نعرض أنفسنا للرجة التي يحدثها القلق، حتى نستجمع وجودنا من السقوط.[ix]  وعندما نعزم على ذلك، نفتح أنفسنا، بكيفية معبر عنها، للعالم في كليته، دون أن نموضعه. إن العزم[x] مفهوما على هذا النحو يحررنا لأن نكون منفتحين للعالم.
لا يمكن أن ينوب عني في موتي اي أحد، فهنا أكون أنا هو أنا ذاتي، بحيث لا يمكن أن يعوضني أحد. كل ما هو غريب يسقط عني لكي يبرز ما هو خاص بي، ما هو أصيل في ولا يمكن استبداله، وحين لا أهرب مما هو خاص بي، أي بما هو أصيل في، من كوني أنا ذاتي،  يصبح وجودي "أصيلا".[xi] مع العزم، أي مع الجرأة على القلق تتحقق "أصالتي".  إن ما يعوق الإنسان في حياته اليومية عن أن ينفتح، بكيفية معبر عنها، للعالم كبعد قبل-موضوعي للظهور هو انعدام الأصالة، الزيف[xii] أو السقوط.
إن المفاهيم التي وجدنا أنفسنا أخيرا أمامها أثارت إلى اليوم لدى دراسي فكر هايدجر أخطر أشكال سوء الفهم. إننا نبلغ أصالة الوجود بفضل العزم، أي الاستعداد لأن نتحمل بكيفية واعية القلق إزاء موتنا، وهذا قد يحمل على الاعتقاد بأن هايدجر يدعو الإنسان إلى مواجهة عبث الموت  بـأن يعض على النواجذ  وبأن يتحمله ببطولة.   لهذا فُهِم "الكون والزمان" لمدة عقود كنزعة وجودية بطولية، فالإنسان الذي يركز اهتمامه بكيفية بطولية على مهمة وحيدة هي أن يتحمل تعرضه للموت، سيكون غير مبـال بالشؤون التي يحرص عليها الناس في حياتـهم اليومية. إن الحياة اليومية ترتبط بالعالم لأنـها محبوكة في وضعيات. يظهر أن هذا الارتباط بالعالم يفقد كل أهمية بالنسبة للعزم البطولي. وعليه يظهر أن العزم هو، بعكس ادعاء هايدجر، لا يفتح الوجود على العالم، بل يفصله عنه.
غير أن هذا التأويل يتجاهل ماذا يعني الموت بالنسبة للوجود الذي اختار العزم، إنه يحثه على أن يستجمع ذاته ككون-ممكن. مع هذا الاستجماع لا تفقد إمكانيات الوجود اليومي المرتبطة بوضعيات معينة أهميتها، بل، على العكس من ذلك، تكتسب دلالة مضاعفة، لأنها تفهم الآن، بكيفية معبر عنها، انطلاقا من الكل. بفضل العزم يشع على كل وضعية يومية ضوء جديد، إنه ضوء بُعدِ الظهور: "العالم".
إن الفهم الخاطئ "للكون والزمان" كتعبير عن وجودية بطولية أدى في الآونة الأخيرة إلى ظهور تأويل يعارض ذلك الفهم معارضة قصوى. وهكذا يدعو البعض إلى تقليص الاهتمام بنظرية العزم والوجود الأصيل، التي يزعم أنـها متناقضة، وإلى الاقتصار على تحليل الكون-في-العـالم اليومي. ويظهر أن هذا التحليل يتوفر على مزية كبرى تتجلى في أنه يصـف بالضبط علاقة الإنسان اليوم بالعالم، فقد صار العالم في القرن العشرين بمثابة سياق استعمال واحد، ولم تبق الأشياء تهم الإنسان إلا إذا كانت تؤدي وظيفة في تحقيق رفاهيته.
يظهر هايدجر، حسب هذا الاتجاه في التأويل، كمفكر يبارك فلسفيا هذه الوظيفة؛ فهو يبين أن الفهم الوظيفي يناسب كون الأشياء على أتم وجه، ذلك أن كونها هو في الأصل ليس أكثر من كون-لليد. وعليه فإن اعتبار العالم مجرد مخزون لموضوعات قابلة للاستعمال لن يكون تعبيرا عن سوء استعمال للأشياء ولا عن تطور تاريخي سلبي،  بل هو ليس سوى نتيجة تلزم عن أن الكل يستمد معناه في الأصل انطلاقا من الاستعمال. بـهذه الرؤية لم يكن هايدجر، فضلا عن ذلك، في طريق مغاير لفلاسفة النزعة البراجماتية في الولايات المتحدة،  الذين سبق أن تبينوا، في وقت مبكر،  بأن دلالة الأشياء لا يمكن فهمها إلا براجماتيا، أي انطلاقا من الكيفية التي نستعملها بـها. وهكذا فعندما يتم تخليص هايدجر من عبء الوجودية البطولية للأصالة، ينكشف كما لو كان وظيفيا أو براجماتيا متأخرا.
إلا أن هذه الكيفية لقراءة "الكون والزمان" هي أيضا مجانبة للصواب، فهايدجر لم يزعم أبدا  أن للأشياء كيفية واحدة فقط للكون،  هي كونـه-لليد في السياق  الوظيفي للاستعمال، وأن العالم ليس شيئا آخر سوى هذا السياق الوظيفي. إن العالم والأشياء لا تبدو بـهذه الكيفية إلا بالنسبة للوجود الزائف للحياة اليومية، أما إذا بزغ بفضل العزم على الأصالة، انفتاح جديد للعالم، فإن كون العالم والأشياء سيظهر بذلك على نحو جديد تماما. وهكذا فإن نظرية الأصالة لا غنى عنها من أجل فهم سليـم "للكون والزمان".
ترجع هذه الأخطاء في الفهم إلى أشياء منها أن هايدجر لم يقدم بعد في هذا المؤلف، على نحو إيجابي، كيفية ظهور العالم والأشياء بالنسبة للوجود الأصيل. وهو لم يتمكن من ذلك،   إلا عندما وجه اهتمامه، خلال مسار تطوره بعد " الكون  والزمان" وفي إطار محاولة جديدة، للسؤال : كيف تحولت علاقة الإنسان بالعالم في العصور المختلفة لتاريخنا.  إن الفهم اليومي للعالم الذي يظهر فيه هذا الأخير كسياق لما هو لليد قد تضخم في وقتنا باتخاذه شكل تعامل وظيفي مع البيئة. وإذا أردنا أن نحدد بكيفية إيجابية كيف يفهم العالم بالنسبة للوجود الأصيل،  فإننا نضع بذلك على عاتقنا مهمة البحث عن مخرج تاريخي من الوظيفية.  إننا نعتبر العلاقة الوظيفية بالعالم وكأنـها زيف عصر بأكمله،  أي الزمن الذي نعيش فيه. وبذلك يصير العزم تـهييئا لزمن يتحقق فيه عصر للأصالة.
تنشأ عن ذلك ثلاثة أسئلة:
أولا: أين يكمن زيف عصرنا إذا لاحظناه عن كثب؟ ماذا يعني بالنسبة للعالم والأشياء أن تصبح مجرد "مواد" للاستعمال الوظيفي؟
 ثانيا: أين يتجلى تخطي هذه العلاقة بالعالم في إطار أصالة جديدة؟
 ثالثا: إذا كان زمن مستقبل لعصر للأصالة مأمولا وممكنـا، فكيف سيظهر العالم وكيف ستظهر الأشياء إيجابيا في مثل هذا الزمن.
سأبتدئ بالسؤال الأول : على أي نحو تظهر الأشياء عندما نفهم العالم فهما وظيفيا؟   لقد سبق أن قلت إن الكون-لليد يصبح الكيفية الوحيدة لكل ما يصادفنا في العالم. وهذا يعني: إننا لا نعترف في كون الأشياء بما يمكن أن يتخلص من استعمالنا وأن يترك لها أي نوع من الاستقلال إزاء قبضتنا المدبرة الموجهة. وهذا يصدق سواء على الأشياء التـي ننتجها نحن أنفسنا أو تلك التي تنمو في الطبيعة. تنتمي إلى هذا الصنف الأخير مثلا الأشجار التي لم تبق تعتبر في التعامل الوظيفي مـع العالم إلا كموضوعات لتحقيق غاية استعمالية ما،  مثلا عندما تساهـم كغابة في راحة المتنزهين، أو عندما تهيئ لنا كنبات زينة في الحديقة متعة جمالية، أو عندما تستغل كخشب لصناعة الأثاث.
على أن جمال شجرة أو متانة قطعة أثاث من الخشب يرتبطان بأن مثل هذه الأشياء تشمل "فائضا" يجعلها "أكثر" من مجرد شيء يوجد وظيفيـا تحت تصرفنا. هذا "الفائض" هو أن الشيء، الشجرة أو الخشب مثلا، مستقر في ذاته[xiii]، هذا الاستقرار في الذات هو أمر خاص ليس في متناول التعامل الوظيفي مع الأشياء.  أكيد أن شجرة تصبح في متناولنا عندما تظهـر على مسرح العالم، أي في ضوء بُعد الظهور. ولكن هذا لا يعني أنـها بظهورها تسلم لنا ذاتها على نحو تام.  ينتمي إلى ظهور الشجرة أنـها خلال هذا الظهور تنطوي على ذاتـها بكيفية غامضة. وبفضل ذلك فإنـها تستقر في ذاتـها وتمتلك استقلالا وثباتا داخليا يسحب كونها من مجال نفوذنا الوظيفي. ولهذا السبب سيعز دائما لدرجة ما على شخص مرهف الحس أن يطيح بشجرة قديمة.
كل ذلك يصدق أيضا على الأشياء التي ننتجها، إنـها في الحقيقة لا تثير ابتهاجنا إلا عندما لا يستنفذ الاستعمالُ كونَها بشكل تام. يتجلى ذلك مثلا في الهيبة[xiv] التي تمنعنا من تقويض منزل قديم. إن هذه الهيبة إزاء قيام الشيء في ذاته تختفي عندما تصبح كل الأشياء التي نصنعها منتوجات موجهة  "للاستهلاك الفوري". إن الفرق بين الاستعمال والاستهلاك  يتقلص دائما أكثر فأكثر في المجتمع الحالي الذي يتم فيه بسرعة التخلص من الأشياء المستعملة ورميها.[xv]  إن المحافظة الحنونة على الأشياء خلال الاستعمال تتحول إلى استهلاك محض يتلفها ويجعلها تتحول عاجلا أو آجلا إلى قمامـة.  عندما يتم التصرف في الأشياء دون مشاكل يتلاشى ما لا يمكن إمساكه فيها وما بفضله تستقر في ذاتها،  أي يضيع انطواؤها على ذاتـها الذي بفضله تنسحب من قبضتنا. هذا الانسحاب في كون الأشياء يوقظ هيبة تتلاشى في التعامل الوظيفي مع الأشياء.
يتجلى ذلك بكيفية مشخصة في أننا خلال هذا التعامل لا نتوقف عند الأشياء. هذه الظاهرة سبق أن لاحظناها في الاستعمال اليومي لليد. إننا لا ننتبه إلى الأشياء التي هي لليد ما دامت جيدة في الاستعمال، وهذا يعني أن اهتمامنا بـها يبقى عابراً ولا يدوم. إن الشيء لا يشد الانتباه إليه إلا عندما يقع خلل في استعماله. هذه العلاقة بما هو لليد تمتد اليوم لتشمل كل ما يصادفنا عموما في العالم.   الكل يظهر في ضوء وظيفة ما، ولكن هذا الظهـور لا يكمن في أن يظهر يتمتع هو ذاته وفي ذاته بكيان قار، بل في أنه يغيب في الاستعمال. إن استعمال الأشياء يعني أن لا نتيح لـها أية فرصة لكي تلفت نظرنا بصفتها أشياء قائمة ومستقلة بذاتـها يجد فيا التأمل المتروي سندا له. إن ما يلفت الانتباه خلال التعامل الوظيفي هو ما يجب إصلاحه أو تعويضه، ولكن معنى هذه الإجراءات يتمثل بالضبط في أن تجعـل الأشياء من جديد غير مثيرة للانتباه، أي أن تعيد إنتاج غيابـها خلال الاستعمال.
إن الانسحاب الذي يسم كون الأشياء يجعلها تقيم في ثباتها الداخلي وبذلك تقاوم غيابها التام في الاستعمال. هذا الانسحاب كان دائما أمرا ممتنعا عن الإدراك والظهور، ولكنه ظل مع ذلك  يمارس تأثيرا من خـلال شيء من الهيبة ينتاب الإنسان تجاه الأشياء، ولم يسقط في طي النسيان على نحو تام إلا في إطار التعامل الوظيفي مع الأشياء. إن ما يغيب في الحقيقة مع غياب كل الأشياء في الاستعمال الوظيفي الشامل  هو الانسحاب ذاته. إن امتناعه عن الظهور يتزايد ويصير خفاء كليا. في امتناعه عن الظهور، ينزع الانسحاب منذ البدء إلى أن ينسحب إلى هذا الخفاء. إن انسحاب الانسحاب بذاته يبلغ حده الأقصى في التعامل الوظيفي مع الأشياء، بحيث إن الناس فقدوا أيضا أية فكرة عن أن هناك شيئا مثل الانسحاب. ولهذا فإن من يتكلم عن الانسحاب يكون عرضة لأن يتهم بأنه يرى أشباحا.
إن الأشياء هي منفذنا إلى العالم. بسبب الخفاء الجذري للانسحاب خلال التعامل الوظيفي مع الأشياء، تفقد هذه الأخيرة ثباتها الداخلي الذي يمكن أن نتوقف عنده، وبذلك يفقد العالم أيضا ثباته الذي بفضله يمنح لوجودنا سندا. هكذا يصبح الأساس الراسخ للعالم هاوية[xvi]نشعر إزاءها بانقباض. إن الفزع من ذلك يبعث فينا القلق، إلا أنه قلق لا نستطيع أن نتبين مصدره، لأن جذره الحقيقي، الذي هو غياب الانسحاب في خفاء تام، يبقى، بسبب هذا الخفاء بالضبط، مجهولا لدينا.
هذا القلق الذي يمتنع عن التفسير ويفوق الوصف أصبحت تتناقله الألسن في قرننا، وكثيراً ما تم التعبير عنه في الإنتاجات الأدبية لعصرنا. إنه القلق على فقدان ذلك الموطن الذي يرتبط بكون الإنسان عموما، أي العـالم كبُعد للظهور منتم للكون –في- العالم. إلا أننا لا نفهم عادة علامات الضيق الذي وقعنا فيه بسبب هذا الفقدان للموطن بـهذا المعنى، لأن مما يميز العلاقة الوظيفية بالعالم أنها تؤول هذه العلامات أساسا كاختلالات. وهكذا فإننا نعتبر مثلا أعراض إتلاف البيئة فقط  كأعطاب علينا إصلاحها وتجنبها في المستقبل عن طريق تحسين تنبؤاتنا. وهذا يعني أنـها تظهر لنا كاختلالات وظيفية ليست موجودة إلا لكي تتم إزالتها. وبذلك لا يتم مبدئيا الخروج من أفق الفهم الوظيفي للعالم.
إن فقدان الموطن يحدث على نحو غير ملحوظ لدرجة أن صيحات الإنذار، التي تصدر عن أناس ينتابهم هلع شديد، تبدو أمام العموم كنـزوات هستيرية. فكيف يمكن، في ظل هذه الظروف، أن يصبح الضيق الناشئ عـن الفقدان الجديد للموطن أمرا ملحوظا أولا، ومن ثم باعثـا على البحث عن مخرج من العلاقة الوظيفية بالأشياء؟  بـهذا نصل إلى السؤال الثاني الذي طرحته قبل قليل: أين يتمثل التخلص من زيف هذه العلاقة في إطار أصالة جديدة.
إننا نبلغ الأصالة بفضل العزم، أي الجرأة على القلق. في القلق نستشعر كيف ينفلت منا الكون ـ في ـ العالم إلى العدم. هذا الانفلات يسحب من وجودنا كل سند. إن العدم يجعلنا بـهذه الكيفية في حالة القلق لأننا لا نستطيع الإمساك به كما نمسك بموضوع. إنه مثل تيار غير مرئي في دوامة يجذب كل ما يظهر على سطح الماء نحو الهاوية. وكذلك فإن العدم  يسحب منا الأشياء،  وخلال ذلك يبقى كساحب، غير مرئي، خفيا. وهـذا ليس شيئا آخر سوى الانسحاب الذي يسحب ذاته إلى الخفـاء.  إن العدم الذي يهز كل كوننا-في-العالم ليس سوى اسم آخر للانسحاب الذي يسحب ذاته. كما أن إبداء الجرأة على القلق إزاء العدم لا يعني شيئا آخر غير الاستعداد لتقبل الانسحاب.
سبق أن رأينا أن تحمل القلق في إطار العزم يفتح وجودنا للعالم، والآن يتضح اين يتمثل إيجابيا هذا الفتح. إنه يجعلنا قادرين على أن نعير انتباهنا للأشياء بحيث نتوقف عندها. هذا الانتباه هو الهيبة إزاء استقرار الأشياء في ذاتـها، الذي يحميها من أن تختفي في الاستعمال الوظيفي. هـذه الـهيبة تصير ممكنة بفضل الاستعداد لتقبل الانسحاب، هذا الاستعداد يتطابق مع الجرأة على القلق. هكذا تتأكد الصلة بين العزم والانفتـاح للعالم، تلك الصلة التي ينكرها اتجاه تأويل "الكون والزمان" كوجودية بطولية.
ولكن ما الذي يخول لنا الحق في أن نطابق بين الانسحاب الذي يضمن للأشياء صلابة استقرارها في ذاتـها والعدم الذي يسلب من وجودنا خلال القلق كل سند ثابت؟ كيف يمكن لتيار العدم هذا الذي يجعـل العالم والأشياء تنفلت منا على نحو رهيب أن يكون، كانسحاب، هو بالضبط ما يحمي الأشياء من الاندثار في العلاقة الوظيفية بالعالم ويجعلها تظهر بصفتها مستقرة في ذاتـها؟  ألا يتعلق الأمر هنا بتناقض؟
إن هذا الوضع ليس غريبا هنا بالدرجة التي يمكن أن يبدو بـها للوهلة الأولى. لنتصور وداع زائر عزيز بالمحطة يستمر في التلويح لنا بيده من القطار المتحرك إلى أن يصير منسحبا عن نظراتنا. في هذا الانسحاب ذاته المرتبط بالوداع، في غيابه بعيدا عنا، يمكن أن يتجلى لنا هذا الشخص بكيفية أكثر وضوحا وثباتا مما كان عليه الأمر وهو يقربنا. وإنه غالبا ما يحـدث أن إنسانا لا يكتسب بالنسبة لنا في صورته الداخلية والخارجية طابعا راسخا إلا عندما يصبح ميتا، أي عندما ينسحب نـهائيا من قربنا. لقد عبر الإغـريق، خلال الزمن الكلاسيكي لأثينا، بكيفية واضحة عن هـذه العلاقة المتعارضة الاتجاه بين الانسحاب والظهور في شواهد قبـورهم التي لا تضاهى. إن العدم في الظهور، الانسحاب الذي يثير فينـا القلق ويهزنا في كل تجارب الوداع والفقدان، لا يكتفي بأن يسلبنا ما كان قريبا منـا، بل إنه يمكن أيضا أن يمنحنا شيئا ما: إنه يجعل ذلك المنسحب منا يظهر بكيفية زائدة. هذه الزيادة في الظهور هي أيضا منبع الجميل في الفن الرفيع.
بـهذا يمكن أن ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الثالث: كيف سيظهر العالم والأشياء في زمن مقبل يحل فيه عصر للأصالة؟ كيف ستقدم ذاتها عندما ستظهر بكيفية زائدة بفضل استعداد جديد لتقبل الانسحاب؟ أود أن ابتدئ بظهور العالم لأنتقل بعد ذلك إلى الأشياء.
العالم هو البعد المفتوح المشرق الذي يسمح بالظهور. إذا قارنا الانفتاح المشرق لهذا البعد بالضوء، فإن العدم سيكون هو الظلمة المغلقة التي تعتم وجودنا وتجعله موحشا خلال القلق. قد يمكن أن يعتبر المرء بأن الانسحاب، تيار العدم، يجب أن يمتص ضوء العالم، كما يبتلع ثقب أسود في الكون[xvii] كل ضوء. إلا أننا نصطدم هنا بـهذا الأمر العجيب المرتبط بالوجود البشري. إنه يكمن ككون ـ في ـ العالم في بزوغ ضوء بعد الظهور: "العالم". مع ولادة كل إنسان يحدث ذلك الأمر المثير للدهشة الذي يتمثل في أن الظلمة المنغلقة للانسحاب تفسح الطريق للبعد المفتوح المشرق الذي نسميه العالم.  يتراجع الانسحاب إلى الخلف من أجـل أن يبزغ العالم. هذا مظهر آخر لخفاء الانسحاب. إن الانسحاب يسحب ذاته، يخفي ذاته في الظلمة الخاصة به لكي يسمح بظهـور الأشياء، أي ببزوغهـا في الإشراق المفتوح للعالم.
هذه الوضعية هي قبل كل فلسفة مألوفةٌ لدينا بكيفية تامة في نمو النباتات، وفوق ذلك في بروز كل حي في العالم، إنـها انبثاق الحي من الأرض. إن الأرض هي ذلك المنغلق الذي يفسح من مأمنه المظلم الطريق لظهور الحي ونموه، بحيث يستطيع أن يتجه نحو الأعلى، أي إلى داخل الفضاء المفتوح لمجال الضوء الذي نسميه السماء.
في علاقة السماء والأرض نعيش بكيفية مشخصة تجربة فسح الطريق لبعد الظهور: العالم انطلاقا من الانسحاب. لا ينبغي فهم هاتين الجهتين[xviii] كموضوعين كبيرين، بل باعتبارهما البعدين الأصليين المتقابلين للظهور. إن المجال، البعد، الذي يتكون بفضل هذا التقابل ليس شيئا آخر غير العالم. إن العالم كتفاعل بين السماء والأرض يتضمن هو ذاته في ذاته العلاقة المتعارضة بين الانسحاب الذي يصون  وفسح الطريق  لبعد الانفتاح انطلاقا من الانسحاب.
في الوجود اليومي الزائف يبقى خفيا عنا أن العالم كتفاعل للسماء والأرض هو ظهور تلك العلاقة،  إن ذلك لا ينكشف لنا إلا عندما نحمل، في إطار الأصالة، تعرضنا للموت على عاتقنا ونصبح بفضل الجرأة على القلق مستعدين لتقبل الانسحاب.  إن العالم لا ينكشف كتقابل للسماء والأرض إلا بالنسبة للناس المعرضين للموت، الذين يفهمون ذاتـهم، بكيفية معبر عنها، كمعرضين للموت، والذين يكونون بذلك قادرين على أن يتوقفوا  في الاستعمال الوظيفي العادي للأشياء،  وأن يقيموا عندها مستجمعين لأنفسهم،  أي، إلا بالنسبة للناس المعرضين للموت بهذا المعنى الكامل للكلمة. ولهذا فإن ما يميز الإغريق القدامى الذين كانوا يسمون الناس بالمعرضين للموت أنهم فهموا كل شيء انطلاقا من تفاعل السماء والأرض.
بذلك يكون قد تبين بأنه لا ينتمي للتجربة الأصلية للعالم السماء والأرض فقط، بل كذلك الناس كمعرضين للموت الذين يحدث تفاعل السماء والأرض بالنسبة لـهم. عندما يأخذ المعرضون للموت تعرضهم للموت مأخذ الجد، يعلمون أن كونـهم -في-العالم هو أمر عجيـب. إن الانسحاب لا ينتمي لدائرة نفوذنا، لأنه هو الذي يسحب ذاته. لـهذا فإن المعرضين للموت يفهمون أعجوبة فسح الطريق لبعد الانفتاح [على] العالم انطلاقا من الانسحاب كهدية، أي كهبة تلقائية [xix] ليست قابلة للحساب أو الإنتاج بواسطة شيء ما.
تتميز الـهبة الحقة بأن مانح المنحة يعطي في إنكار للذات، إنه لا يريد هو ذاته أن يظهر، بل أن يغيب، وذلك حتى يمكن أن يتقبل الممنوح الـهبة دون حرج. كلما صدرت الـهبة عن تلقائية أكبر، أي كلما كانت أقل قابلية للحساب بكيفية ما، كلما ازداد تواري المانح وراء الـهبة. إن الـهبة الأكثر تلقائية هي فسح الطريق للعالم كبعد للظهور انطلاقا من الانسحاب. لذلك يمكن، في أحسن الأحوال، فقط أن نخمن من هو مانح الـهبة.
ومن جهة أخرى فإن هذا التخمين يجب أن يسمى مانح الـهبة، ذلك أنه ينتمي للـهبة جواب مناسب عليها هو الشكر. لهذا تحدثت الثقافات المختلفة للبشرية عن الله أو الآلـهة.  ولكن كل تسميات الله سـواء أكانت "زوس" أو "يهوى" أو "الأب" أو أي شيء آخر لا تنـادي، بوصفها تخمينات خاطرة، سوى شيء زائل تاريخيا. ورغم ذلك يمكن أن نقول: تنتمي الكائنات التي ينعتها المعرضون للموت بأنـها إلـهية، وباختصار الإلـهيون، هي أيضا للعالم، لأنـها هي من يتلقى شكر المعرضين للموت، وهكذا ينتمي للعالم أربعة: الإلـهيون والمعرضون للموت، السماء والأرض. هايدجر يسمي ذلك في كتاباته المتأخرة الرباعي. إذا تأتى لنا أن نعيش تجربة أصيلة للعالم، معارضة لاتجاه التعامل الوظيفي مع الأشياء، فإنه سيظهر كرباعي.
لا يمكن الفصل بين الأشياء والعالم كما تم بيان ذلك عدة مرات، لهذا يبقى الآن السؤال مطروحا: كيف ترتبط الـهيبة إزاء الانسحاب في الأشياء مع تجربة الرباعي. إن الأشياء حتى عندما تؤخذ كأشياء لليد  من أجل الاستعمال،  فإنـها لا تكون موضوعات منعزلة، بل إنها تبدو في سياق الاستعمال وتستمد معناها وكونها من هذا السياق وحده. وبموازاة ذلك، فإن الأشياء، في تجربتها الأصيلة المرتبطة بالهيبة، إزاء الانسحاب، يجب أن تستمد معناها وكونـها من الرباعي.
يمكن بيان ذلك بكيفية مشخصة. مثال هايدجر ذاته هو الجسر. يصادفنا الجسر في الحياة اليومية كشيء لليد، وذلك يعني أننا نستعملـه دون أن نفكر خلال ذلك كثيرا، وأنه عندما تختل حركة المرور يتم إصلاحه بأسرع ما يمكن. إلا أن نظرة إلى الـهاوية التي تكمن تحت الجسر قـد يمكن أن تثير فينا رعبا شديد الأثر وأن تجعلنا نتوقف لحظة خلال حركة استعمال الجسر. في الخطر أمام الهاوية يفصح العدم، الذي يطبع تعرضنا للموت، عن ذاته.  إن الهاوية تجعل الجسر يظهر كشيء تلتقي فيه الأرض والسماء. فالجسر مشدود فوق الهاوية لأنه يستند في طرفيه إلى الأرض الصلبة، وهكذا يكون كله محمولا من قبل الأرض، وهو بدوره يحملهـا، لأن حمل الأرض يتواصل فيه. إن الأرض الحاضرة في حمل الجسر تحمينا من الهاوية. نظرا لأن الجسر يحلق فوق الـهاوية، فإنه يعلو ويرتفع إلى انفتاح السماء. إنه يثبتنا في السماء كما لو كنا راقصين على الحبل، وهكذا يجلب السماء إلى الأرض.
إلا أن ذلك لا يصدق إلا بالنسبة لأولئك المعرضين للموت الذين يتحملون أن يكون وجودهم رقصا على الحبل فوق الهاوية، أي الذين لا يهربون من كونهم عرضة للموت. في المخاطرة التي صارت بناء، والتي تتمثل في أن كل جسر هو اجتياز للهاوية، يصادف أولئك المعرضون للموت تعرضهم هم أنفسهم للموت. إنهم يفهمون حياتهم المعرضة للموت كـهبة، ولهذا وضع الناس في الماضي على الجسور أشكالا تمثل قديسين أو ملائكة يذكرون للإلـهيين - لفظ Engel: الملاك يعني Bote: الرسول-بحضورهم. ليس الجسر فقط، بل كل الأشياء الموجهة للاستعمال يمكن أن تظهر، عندما نستكين ونفهمها في الأصالة ونحن مستجمعون لأنفسنا، كمحل يتجمع فيه الرباعي. إن اللفظ الألماني القديم الذي يدل على التجمـع هو، فوق ذلك، Thing، إذن Ding: الشيء.
ولكن أليست هذه الكيفية لتجربة الأشياء مجرد حماس شعري؟ وألا يصدق ذلك على الأمل كله في مستقبل يحل فيه عصر للأصالة؟ كلمـا تقدم عصرنا أكثر، كلما ذكرنا عالمنا،  بشكل أقل، بالرباعي، ولن يلبث أن يظهر لنا العالم كمجرد ترسانة من "الموارد" القابلة للتدبير والتوجيه المحكمين من أجل إعداد منتوجات قابلة للاستعمال. ومع ذلك، فإن هايدجر يحمل الأمل المؤسس في انكشـاف تاريخي  لمخرج من هذه الوضعية، يتأسس هذا الأمل بالضبط على أن الانسحاب ذاته يسحب ذاته اليوم إلى خفاء كامل. فمن جهة، يبدو لغزا كيف يمكن أن نصبح مستعدين لتقبل انسحاب لا يمكن حتى أن نخمنه، لأنه هو ذاته يسحب ذاته جذريا. ولكن من جهة أخرى، إن هذا السحب للذات ليس سوى التصعيد الأقصى للانسحاب. وهنا تكمن حسب هايدجر فرصتنا: قد يمكن بالضبط أن نفهم لأول مرة في تقليدنا التاريخي بأن العالم والأشياء تعطانا انطلاقا من الانسحاب الذي يسحب ذاته. إلا أن حدوث ذلك ليس رهينا على أي حال بقدرتنا، ذلك أن ما يميز الانسحاب بالضبط هو أننا لا نتحكم فيه، لأنه يسحب ذاته. إننا تابعون للكيفية التي يفسح بـها الطريق لبعد الظهور. ولكن يمكننا من خلال التأمل الفلسفي أن نستعد لفهم أن الانسحاب، ببلوغه حدا أقصى، يجعل الإنسان من جديد مستعدا لقبول كونه معرضا للموت وبذلك منفتحا للرباعي.
يختلف هذا التأمل والاستعداد الفلسفيان اختلافا أساسيا عن التصميم المنبثق من الذات والقاضي بأن نعمل بكيفية أفضل من الآن فصاعدا على تجنب الأضرار الناجمة عن تدخلنا في البيئة، فهذا ليس سوى تصحيح ذاتي للاستغلال الوظيفي للبيئة. لقد قابلت في البداية هذا الموقف الذي يدافع عن مركزية الإنسان بالنزعة الطبيعية الإيكولوجية. إلا أن هذه النزعة ليسـت هي أيضا طريق هايدجر، ذلك أن الحث على أن نخضع تماما لدورات الطبيعة يتجاهل منزلة الإنسان في العالم. ينتمي للعالم كرباعي المعرضون للموت. فلا يوجد الرباعي إلا بالنسبة للإنسان الذي يفتح ذاته له في وجوده الأصيل. إن العالم يحتاج لظهوره إلى الإنسان. ومن يرد أن يجعل من الإنسان مجرد عجلة صغيرة في النظام الكلي الإيكولوجي للطبيعة يدنِ جدا من منـزلة الإنسان. إنه لا يقوم  إلا بقلب النـزعة الوظيفية الذاتيـة على الرأس جاعلا منها نزعة وظيفية موضوعية للطبيعة. حقا يكمن في كلمـة السر "الطبيعة" تخمين يشير إلى ما وراء الوظيفية ذات الاتجاه الإيكولوجي. الطبيعة "Natur" هي الترجمة اللاتينية للفظ اليوناني "physis"، وعن الـ physis  يقول هيراقليط، أحد أوائل عظماء تاريخ الفلسفة، بأنـها تنـزع إلى أن تختفي. في إنصاته لـهذه الكلمة سمع هايدجر تخمينا مبكرا للانسحاب ؛ وعلى الـهيبة إزاء الانسحاب يتوقف كل شيء.

  هوامش الترجمة:
لا أظنني محتاجا إلى الحديث عن الصعوبات التي واجهتني عند ترجمة هذا النص. لقد كنت مضطرا في غالب الأحيان إلى أن أنحت بنفسي مقابلات عربية للمصطلحات والتعابير الألمانية. لاشك أن كثيرا من المصطلحات والتعابير المستعلمة في الترجمة غير قادرة على أداء المضمون الأصلي بما يكفي من الدقة، ولهذا وضعنا هوامش تحاول أن تقرب القارئ العربي ما أمكن من هذا المضمون، وآمل أن يرجع إليها القارئ خلال دراسة النص وأن يقرأها بعناية. وغير خاف عني أن الترجمة التي أقدمها تعاني من قلق في العبارة، وهو يرجع إلى أنني كنت موزعا بين مطلب تقديم مضامين النص الألماني بأمانة ومطلب احترام الإمكانيات التعبيرية للغة العربية، وقد صعب علي في كثير من الأحيان أن أوفق بين المطلبين. وأخيرا فإن بعض المصطلحات والتعابير المستعملة ثقيلة على اللسان العربي، إلا أن عذري أنني لم أجد، لحد الآن، ما هو أفضل منها لأداء المعنى.
1 ـ Umwelt : تترجم عندما ترد في سياق إيكولوجي بلفظ "البيئة"، أما في الدراسات الفينومينولوجية فتعني "العالم المحيط". وقد فضلنا ترجمتها في النص كله بلفظ "البيئة"، إلا أنه ينبغي أن يستحضر القارئ باستمرار أن البيئة هي العالم المحيط، إذ بذلك فقط تتضح العلاقة بين مشكـل البيئة وبين سياق النص الذي يطرح مشكل العالم.
2 ـ Heimat : وطن، بلد، جزء من بلد أو محل يحس معه الإنسان بألفة لأنه ولد ونشأ فيه أو أقام فيه مدة طويلة، ويتعلق به تعلقا له غالبا طابع عاطفي. ترجمناها ترجمة تقريبية باستعمال لفظ "الموطن".
Heimatlosigkeit : تعني عادة حالة من شرد من وطنه، من هو بدون وطن أو جنسية ؛ وفي سياق هذا النص حالة من لا موطن له. يرى هايدجر أن الإنسان الحالي يتجه، بسبب إخضاعه لكـل ما هو كائن وتحويله لكل ما هو معطى في الطبيعة إلى مجال للسيطرة العلمية ـ التقنية، إلى أن يصبح بدون موطن أصلي.
3 ـ فضلنا ترجمة Existenz / existence بلفظ "وجود"، واستعملنا لترجمة Sein / être لفظ "كون" كمصدر لفعل "كان". ويبدو وأنه أكثر ملاءمة، لأننا يمكن أن نسمع فيـه معنيين أساسيين : فالفعل كان يدل على الحال (مثلا : "كنتم خير أمة أخرجت للناس") وفي نفس الوقت على الوجـود (مثلا : "ما شاء الله كان").
4 ـ là-devant / Vorhanden : نعت يستعمل عادة للدلالة على ما هو كائن، موجود، متوفر؛ ويستعمله هايدحر لوصف الكائن أو الشيء من حيث هو قائم أمامنا، حاضر ؛ وقد استعملنا في الترجمة اللفظ الأخير.
L’étant là-devant / Das Vor handene : الشيء أو الكائن القائم أمامنا، الحاضر ؛ ما هو حاضر.
L’être-là-devant / Das Vorhandensein : كيفية الكون الخاصة بما هو قائم أمامنا، بما هو حاضر. استعملنا لترجمتها : كون الشيء حاضرا، أو الكون ـ الحضور.
5 ـ  en utilisation, à utiliser / Zuhanden: نعت يستعمل لوصف ما هو لليد، في متناول اليد، من أجل الاستعمال. ويستعمله هايدجر لوصف الأشياء أو الكائنات من حيث إنـها تفهم في سياق الاستعمال، أي من حيث إنـها تؤخذ لا كموضوع للإدراك والنظر، بل كوسيلة لتحقيق أغراض عملية مرتبطة بالحياة اليومية.
L’utilisable / Das Zuhandene ما هو لليد، الكائن أو الشيء الذي هو لليد، أي المعطى في سياق للاستعمال.
L’utilisabilité / Das Zuhandensein : الكون ـ لليد، كيفية كون الأشياء المعطاة في سياق الاستعمال.
ليس التمييز بين ما هو حاضر وما هو لليد تمييزا بين صنفين من الكائنات، بل هو تمييز أنطولوجي بين كيفيتين لكون الأشياء. يعتبر الشيء حاضرا عندما نتعامل معه كموضوع قائم أمامنا، معطى لنظرتنا الحسية أو العقلية، أي كموضوع نوجه نحوه اهتمامنا ونعمل على تحديد خصائصه. أما الشيء لليد فهو الشيء كما يتم التعامل معه في إطار سياق استعمالي، أي باعتباره وسيلة لبلوغ غرض ما. عندما نتعامل مع الشيء كشيء لليد، فإن اهتمامنا لا ينصب على الشيء، إنه لا يكون حاضرا أمامنا بما في الكلمة من معنى، بل بالعكس، إنه لكي يؤدي وظيفته بكيفية مرضية يجب أن لا يثير انتباهنا، بل أن يحيلنا إلى كائن آخر في سياق الاستعمال، وهكذا. في كتاب "الكون والزمان" يعمـل هايدجر على بيان أن الأنطولوجيا التقليدية كلها تقوم على تصور يطابق بين الكون والكون ـ الحضور، أي يعتبر أن الكون الحضور هو الكيفية الوحيدة للكون، ويحاول هايدجر في نفس الكـتاب أن يكشف عن جذور هذا التصور في بنية وجود الإنسان. والأنطولوجيا التقليدية تقع بذلك في خطأ أساسي، إذ أنـها من جهة تتجاهل أن الأشياء لا تعطانا في الأصل كأشياء حاضرة، بل كأشياء لليد، ومن جهة أخرى تعمل على تطبيق هذا المفهوم للكون حتى في فهم كون العـالم (فتعتبره كلية الأشياء الحاضرة أو طبيعة ممتدة مثلا) وكون الإنسان (فتعتبره جوهرا مفكرا مثلا).
6 ـ  vorgegenstand lich : قبل ـ موضوعي. إن علاقة الإنسان بالعالم ليست، حسب هايدجر، علاقة ذات متقوقعة ومنطوية بموضوع خارج عنها وقائم أمامها تقرر بين الفينة والأخرى أن تتعامل معه. إن الإنسان، حسب هايدجر، هو دائما وبكيفية مسبقة كائن ـ في ـ العالم، أي إنـه في علاقة ألفة مع العالم، وهذه العلاقة لا تنشأ بقرار منه، بل هي محدد أساسي لوجوده ؛ علاقة الألفة هاته هي التي تسمح لنا بأن نتوجه عادة في العالم دون وقبل أن نتخذه كموضوع.
7 ـ l’être possible / Das Moglichsein  : الكون ـ الممكن، هو كيفية الكون الخاصة بالإنسان.
[1]  ـ mortel / sterblich : فان، معرض للموت.
Mortalité / sterblichkeit : فناء، تعرض للموت. فضلنا استعمال "معرض للموت: و "تعرض للموت"، وذلك لإبراز "الموت" الذي له دلالة أساسية في تحليلات هايدجر.
9 ـ dévalement / verfallen : السقوط. لا ينبغي فهمه بالمعنى الديني أو الأخلاقي. السقوط هو حسب هايدجر شكل لكون الإنسان في العالم، إنه يعني الاستسلام للوضعيات الجزئية والإمكانيات القريبة، إنه نسيان الذات والهروب إلى ضجيج الحياة اليومية والغرق في مهامها المتلاحقة التي تقود كل منها إلى الأخرى، بحيث ينشأ عن ذلك تشتت وجود الإنسان وعجـزه عن استجماع ذاته وإدراك وجوده ككون ممكن واحد.
10 ـ réso/ entschlossenhcit : العزم.
11 ـ propre / eigentlich : أصيل.
Propriété / eingentlichkcit : أصالة.
12 ـ impropre / uneigentlich : زائف.
Impropriété / uneigentlichkcit   : زيف.
لا يفهم هايدجر الأصالة والزيف بالمعنى الأخلاقي، بل بالمعنى الأنطولوجي، تتحقق الأصالة عندما ينجز الإنسان وجوده بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي بكيفية صريحة، أي عندما تنبثق مشاريعه واختياراته منه هو ذاته، مما يخصه، مما هو أصيل فيه، وعندما يفهم وجوده ككون ـ  ممكن واحد ونـهائي. أما عندما يستسلم الإنسان للوضعيات الجزئية ويتشتت وجوده فيها ويقع ضحية لما تـمليه عليه  الأشياء أو يقوم بما يقوم به "الناس"، فإنه لا ينجز وجوده بالمعنى الحقيقـي للكلمة، أي إن وجوده يكون زائفا.
13 ـ in sich : في ذاته سيرد هذا التعبير عدة مرات في النص. ولا ينبغي خلطه بالمعنى الكانطي للشيء "في ذاته": an sich. إن كون الشيء قائما في ذاته أو مستقرا في ذاته يعني أنه قائم أو مستقر داخل ذاته، أي أن للشيء كيانا أو قواما يجعله غير قابل لأن يختزل ويذوب تماما في وظيفته الاستعمالية. وهذا لا يمنع من أنه يمكن فهم استقرار الشيء في ذاته أو قيامه في ذاته في إطار تجربة أصيلة كما سيتم بيان ذلك فيما بعد.
14 ـ die schen : حالة وجدانية تعبر عن خشية مشوبة بالاحترام أو التوقير والخجل. يبدو أن لفظ "الهيبة" هو أقرب للتعبير عن هذه الحالة.
15 ـ consommation / verbranch : الاستهلاك. استهلك الشيء بمعنى أنفذه وأفناه. لإدراك الظاهرة التي يقف عندها  الكاتب بكيفية مشخصة يكفي أن نفارق بين مناديل الجيب المصنوعة من الثوب والتي نحرص على المحافظة عليها خـلال الاستعمال وبين تلك المصنوعة من الورق والموجهة للاستعمال مرة واحدة، أي للاستهلاك. وهناك في حياتنا اليومية أمثلة عديدة تؤكـد نفس الظاهرة.
16 ـ grund : أساس.  Abgrund : هاوية.
17 ـ يرد لفظ "الكون" هنا بمعنى universum / univers
18 ـ ليست الأرض والسماء جهتين بالمعنى المكاني، بل بمعنى أنـهما البعدان المتقابلان للظهور أو الكيفيتان اللتان يحدث بـهما العالم كنزاع بين الانغلاق والانفتاح ؛ إنـهما حدثان، فالأرض تعبر عن حدوث الانغلاق والسماء عن حدوث الانفتاح.
[1][1] ـ Jrei: تعني عادة حر. فضلنا ترجمتها هنا بلفظ "تلقائي" لأنه أكثر اقترابا من المعنى المقصود. فالـهبة تلقائية، بمعنى أنه لا يمكن إنتاجها أو إحداثها حسب شروط معينة، ولا يمكن حسابـها والتنبؤ بـها، وبمعنى أنـها لا تتم لتحقيق غاية ترجى من ورائها. 

(*) نتقدم بشكرنا العميق إلى الأستاذ Klaus Held الذي تفضل وأذن لنا بنشر الترجمة العربية لمقاله هذا على صفحات هذه المجلة.