السبت، 30 يونيو 2018

آلان باديو محاوراً ميشال فوكو.





آلان باديو محاوراً ميشال فوكـو

فبراير 16, 2017
*أحمد فرحات
http://thaqafat.com/2017/02/74375

تكاد لا تحصى اللقاءات الإعلامية التي أجراها ميشال فوكو، فيلسوف فرنسا والعالم الغربي الحديث، على مدار حياته القصيرة، التي لم تتجاوز الـ57 عاماً، قصفه خلالها مرض الإيدز، واضعاً حداً نهائياً لحياته في العام 1984؛ وقد توزعت لقاءات هذا الرجل الكبير، الذي ولد في إحدى بلدات ريف بواتييه الفرنسي في العام 1926، على دوريات يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، فضلاً عن المنابر الإذاعية والتلفزيونية المختلفة، داخل فرنسا وخارجها؛ وكانت له فلسفة وراء إكثاره من اللقاءات الإعلامية، قالها مرة لصديقه السويدي إيريك هاند واكس: «الإعلام له فضل غير منكور في معاودتي تأليف أفكاري وبلورتها من جديد، أمام نفسي، وأمام العالم، بزخم أكثر تنظيماً ووضوحاً».

واللافت أن من بين محاوري ميشال فوكو زملاء فلاسفة كبار له من أمثال: جيل دولوز وآلان باديو، وبول ريكور وجان هيبوليت، فضلاً عن كتّاب ونقاد مرموقين آخرين من طراز مادلين شابسال، جورجو آغامبين وريمون بيللور.. وغيرهم.

في ما يلي ننشر مقابلـة مع ميشال فوكو، كان أجراهـا الفيلسوف آلان باديوAlain Badiou  في 27 فبراير عام 1965 ونشرتها «الملفّات الإذاعية التلفزيونية» المدرسية Dossierspedagogiques de la radio-diffusion scolaire  نقلاً عن حلقة بث تلفزيونية.

والمقابلة التي ينشرها هنا ملحقنا الثقافي للمرة الأولى بالعربية مع فوكو، ستنشر لاحقاً في كتاب ضخم، سيصدر بالعربية في بيروت هذا العام 2017، متضمناً أبرز اللقاءات مع هذا الفيلسوف الفرنسي الحيوي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في النصف الثاني من القرن العشرين.

في ما يلي نص المقابلة:

** باديو: مـا هو علم النفس؟

* فوكو: بداية، لا أعتقد بصحة محاولة تعريف السيكولوجيا أو تحديدها بأنها علم، وإنمـا كصورة ثقافية أو شكلٍ ثقافي ربمـا؛ وهـذا يندرج في سلسلة كاملة متكاملة من الظاهرات التي عرفتها الثقافة الغربية منذ زمن بعيد، والتي وُلِـدت أو نشـأت فيها بعض الأمـور، مثل الاعـتراف (بمعنى البوح)، ومثل علم القضايا الضميرية (ذمامة)، ومثل الحوارات والخطابات والاستدلالات التي كانت تقوم بها بعض الأوساط في القرون الوسطى، أو في محاكم الحب (هي محاكم كانت تقضي في قضايا الحب الرفيع واشتهرت في القرن الثاني عشر في جنوب فرنسا) أو في أوساط «أدب الحذلقة» في القرن السابع عشر.

** باديو: هل هنـاك علاقات داخلية أوخارجية بين «علم النفس» كصورة ثقافية أو شكلٍ ثقافي، وبين الفلسفة كصورة ثقافية أو شكلٍ ثقافي؟

* فوكو: أنتم هنـا تطرحون سـؤالين اثنين: هل الفلسفة صورة ثقافية أو شكل ثقافي؟ أقول لكم إنني لست بالفيلسوف المكثـر، ولا أحتل بالتالي موقعاً أو منزلة تجعلني بين خـير المؤهلين لمعرفة مـا تسـألون عنه. واعتقادي أن هذه المسـألة هي المشكلة الكبرى التي تدور حولها السجالات الآن؛ ولعل الفلسفة ربمـا كانت واقعـاً، الصورة الثقافية أو الشكل الثقافي الأعمّ الذي نستطيع بـه، أو بواسطته التفكير حول ما هو الغرب.

والآن، مـا هي العلاقات بين «علم النفس» كصورة ثقافية أو شكلٍ ثقافي، وبين الفلسفة. أعتقد أننـا هنـا عنـد نقطة نـزاع، لا تزال تواجه منذ مئة وخمسين عامـاً الفلاسفة والسيكولوجيين (علماء النفس)، وهذه مشكلة قد عادت لتطرح مجدداً الآن، بسبب كل تلك الأسـئلة التي تدور حول إصلاح التعليم.

الرأي عندي، هو أنـه يمكننا قول ما يلي: أولاً، إن «علم النفس»، والعلوم الإنسانية عبره، أو من خلاله، لا تزال بالفعل، وفي الواقع، في علاقات متداخلة متشابكة مع الفلسفة، منذ القرن التاسع عشر. لكن كيف يمكن تصوّر أو فهم تداخل الفلسفة وتشابكها هذا مع العلوم الإنسانية؟ والحقُّ إن مـا يسعنا قوله لأنفسنا، هـو أن الفلسفة في العالم الغربي قـد اختطّت لنفسـها عشوائياً، في الظلمة الدامسة، في الفراغ، وفي عتمة وعيها نفسه، مناهجها ورسمت واحتجزت نطاقاً لها، هو ما تسمّيه النفس أو الفكر، وهـو نطاقٌ بات اليوم بمثابة تراث وميراث يمكن للعلوم الإنسانية استثماره واستغلاله على نحـوٍ واضح، إيجابي وحصيف. وبهـذا تســتطيع العلوم الإنسانية أن تحتل على نحو شرعي هذا النطاق الفضفاض الملتبس الذي أسلفت الإشارة إليه، والذي تركته الفلسفة أرضاً بائرة مهملة.

هذه هي الإجابة التي يمكن تقديمها (عن السؤال الذي تقدم). واعتقادي أن هذا هـو ما تقوله جمهرة من يمكن اعتبارهم أصحاب العلوم الإنسانية، وهم الذين يعتبرون أن المهمّة الفلسفية القديمة، التي ولدت في الغرب مع الفلسفة اليونانية، هي مهمة ينبغي استرجاعها واستئنافها بأدوات العلوم الإنسانية. وأنا لا أعتقد أن هذه الإجابة تحيط بالمشـكلة المطروحة إحاطة صحيحة دقيقة، بل إن الرأي عندي، هو أن مثل هذا المنحى في تحليل الأشياء، هو منحى يرتبط بطبيعة الحـال بمنظور فلسفي بعينه، عنيتُ به الفلسفة الوضعية.

وفي وسعنا أن نقول شـيئاً آخـر، هو النقيض المقابل لمـا تقدم: ألا وهـو أن هذا ربمـا كان يُشكّل جزءاً من قَـدَرَ الفلسفة الغربية، عنيتُ أن يكون شيءٌ مثل علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) قـد أصبح ممكناً؛ وحين أقول علم الإناسة، فإنني لا أريـد الكلام عن ذلك العلم الخاص الذي يطلق عليه هـذا الاسـم، والذي هو دراسة الثقافات الخارجية، أي تلك التي هي خارج ثقافتنا؛ ومـا أفهمه من تعبير أو مصطلح علم الإناسة، هو تلك البنية الفلسفية المحض، التي تجعل أن مشكلات الفلسفة باتت كلها متحـيّزة، تقيم داخل هذا الحـيِّز، أو هـذا النطاق، الذي يمكن أن نسمّيه نطاق التناهي الإنساني.

وإذا كنـّا لا نستطيع أن نتفلّسف إلّا حول الإنسان، بما هو كائن طبيعي أو إنسان طبيعي /‏‏homo natura، أو بمـا هو كائنٌ متناهٍ، أفلا تكـون كل فلسفةٍ حينها، وفي العمق، علم إناسة (أو أنثروبولوجيا)؟ آنئذٍ تصبح الفلسفة صورة ثقافية أو شكلاً ثقافياً تستحيل سائر علوم الإنسان في داخلها، علوماً ممكنة على وجه العموم.

هـذا مـا يمكننا قوله، وهـذا، إذا شـئتم، سيكون التحليل المقابل المعاكس لمـا كنت أحاول ترسّـمه منذ قليل، والذي كان يسترجع ويستردّ العلوم الإنسـانية إلى داخل قَـدَر الفلسفة الغربية الكبير، مثلمـا كان يسعنا منذ هنيهة أن نستردّ الفلسفة أو نسترجعها كضرب من البرنامج، الذي يدور في الفراغ لما يمكن أن تكون عليه العلوم الإنسانية. هـذا هو التشابك والتداخل، وهـذا هـو مـا ينبغي لنـا، ربمــا، تعقّله وتدبّره، الآن، وهنا حيث نحن، وكذلك فيما يستقبل على وجه العموم من السنين، وتعقل وتدبر كلا الأمرين، الحالي والمقبل في آنٍ معـاً.

خصوصية علم النفس

** باديو: قلتم في المنظور الأول، إنـه جرى تصور الفلسفة على وجه الإجمـال، كما لو كانت تحدّد نطاقها بالقياس على علم وضعي، وإنهـا تعود فتؤمن وضوحه الفعلي بعد ذلك. ما الذي يستطيع أن يضمن ويؤمن في مثل هذا المنظور خصوصية علم النفس النوعية بالقياس على مجالات البحث والاستقصاء الأخـرى؟ هل تستطيع الوضعية، وهل تريد، أن تضمن وتؤمن هذه النوعية؟

* فوكو: في الحقبة التي كانت العلوم الإنسانية تتلقّى فيها إشـكاليتَها، وتسـتمدّ نطاقهـا ومفاهيمها من فلسفةٍ، هي في الإجمـال فلسفة القرن الثامن عشر، فإنـه كان يمكن تعريف «علم النفس» (أو السيكولوجيا) كعلم للنفس أو للروح، أو كعلم للوعي، أو كعلمٍ للفرد. واعتقادي أن القسمة أو الاقتسام مع باقي العلوم الإنسانية التي كانت قائمة حينذاك، والذي كان ممكناّ، هو اقتسـام كان يمكن في هذا المستوى، أن يتمّ بصورة واضحة إلى حدٍ بعيد: كان يمكن مقابلة «علم النفس» بالعلوم الفيزيولوجية، مثلما نقابل بين الروح والجسد، ونُضادّ بين الروح والجسم. كما كـان يمكن المقابلة بين علم النفس وبين علم الاجتماع، كما نقابل بين الفرد والجماعة أو المجموعة؛ فـأمـا إذا عـرَّفنا «علم النفس» بأنـه علم الوعي، فبمـاذا ترانـا سنقابله ونضادّه؟ أعتقد أنـه في تلك الحقبة التي تمتد بالإجمال، من شوبنهاور إلى نيتشه، فإننـا نسـتطيع القول بأن حالة «علم النفس» تضاد الفلسفة وتقابلها مقابلة، وهي أيضاً مُضادة الوعي للاوعي. واعتقادي أن معاودة تنظيم وتحديد وتقسيم العلوم الإنسانية، إنمـا جرى بالضبط حول تبيان وتوضيح ماهيّة اللاوعي، أي أساساً حول فرويـد، بحيث أن ذلك التعريف الوضعي الموروث من القرن الثامن عشر، والذي يجعل أن حالة «علم النفس»، هي علم الوعي والفرد، لم تعـد تستقيم الآن، أي بعـد «حدوث» فرويـد.

مشكلة اللاوعي

** باديو: لنتموضع الآن في المنظور الآخـر: مـا هـو المعنى ومـا هي الدلالة التي تعطونها لإشـكالية اللاوعي، وهي التي تبدو لكم كالمبـدأ الذي جرت عبره وحوله معاودة هيكلة بنية مجال أو نطاق العلوم الإنسانية، طالمـا أنكم تعتبرون أن العلوم الإنسانية هـذه هي لحظةٌ من لحظات أقـدار الفلسفة الغربية؟

* فوكو: مشكلة اللاوعي، هي في الواقع مشكلة بالغة الصعوبة، ذلك أن ظاهر الأمـر، هـو أننـا نستطيع القول إن علم النفس التحليلي، هو شكلٌ أو صورةٌ من علم النفس، تضاف إلى علم نفس الوعي، ويضاعف علم نفس الوعي بطلاءٍ إضافي، أو بطبقة إضافية، هي طبقة اللاوعي، فكان أن تولـَّد عن ذلك الإدراك بأن اكتشاف اللاوعي، كان يجتذب في الحين نفسه، ويسـتجلب مشكلات لم تعـد تعني بالضبط، لا الفرد، ولا الروح المضادة للجسد؛ فبتنـا نولج في الإشكالية السيكولوجية أو النفسانية المحضة، أمـوراً كانت حتى ذاك، مستثناة منها، مستبعدة عنها، إمّـا لاعتبارها من الفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء)؛ وبهذا أعيد إدخال مشكلة الجسد (في المجال النفسي)، وإمّـا لاعتبارها من علم الاجتماع؛ وبهـذا أعيد إدخال مشكلة الفرد ووسطه والفئـة أو الجماعـة التي ينتمي إليها، والمجتمع الذي هو فيه، والثقافة التي لم يزل هو وأجداده يفكرون بها؛ مـا يجعل أن مجرد اكتشاف اللاوعي، لم يكن، وليس هـو إضافة مجالات أو نطاقات، ولا هـو توسّع علم النفس وتمدّده، وإنمـا هو مصادرته لغالبية المجالات والحقول والنطاقات التي كانت تغطّيها العلوم الإنسانية، بحيث أن بوسـعنا القول إن مختلف العلوم الإنسانية، باتت منذ فرويـد علوماً للنفس/‏‏ psyché بصورةٍ أو بأخرى. وهكذا فإن الواقعية القديمة من النمط الذي كان يمارسه دوركهايم/‏‏ Durkheim الذي كان يتعقل المجتمع كجوهر مقابل، أو مضاد للفرد، الذي هو بدوره ضرب من الجوهر المتكامل أو المندمج في داخل المجتمع؛ فهذه الواقعية القديمة باتت فيما يبدو لي شيئاً لا يمكن تفكّره أو تدبّره.. وكذلك فإن التمييز بين النفس/‏‏ الروح وبين الجسد، والذي كان لا يزال ساري القيمة في القرن التاسع عشر، في علم النفس الفيزيولوجي (السيكو- فيزيولوجيا)، أقول إن هذا التقابل أو هذا التضادّ القديم، لم يعد له وجود الآن، حيث بتنا نعلم أن جسدنا يشكل جزءاً من أنفسنا، أو يشكل جزءاً من هذه التجربة التي هي واعية ولاواعية في الآن عينه، والتي يتوجّه إليها علم النفس، بحيث أنـه لم يعـد ثمة في العمق الآن، سوى علم النفس/‏‏ السيكولوجيا.

** باديو: إعادة الهيكلة هذه التي تفضي إلى ضرب من الشمولية (التوتاليتارية) السيكولوجية أو النفسانية ـ إنمـا تتم حول موضوعة ــ وهنا استعير تعبيركم هو ذاته ـــ اكتشاف اللاوعي. والحال أن كلمة اكتشاف ترتبط على وجه العموم بالسياق العلمي؛ فكيف تفهمون مذّ ذاك، اكتشاف اللاوعي؟ أيُّ ضربٍ من الاكتشافات هو هذا الاكتشاف؟

* فوكو: اكتشف فرويـد اللاوعي، حرفيا كشيء؛ لقد أدركـه من حيث هو عدد من الأواليات (ميكانيزم) التي هي موجودة في الإنسان على وجه العموم وفي إنسان خاص بعينه أيضاً.

فهل إن فرويـد نذر علم النفس لتشييءٍ جذري، بحيث إن تاريخ علم النفس أو السيكولوجيا الحديثة، لم يتوقف عن القيام بردود فعل على ذلك ( أي على هـذا التشييء)، وصولاً إلى ميرلو بونتي/‏‏ Merleau Ponty وإلى المفكرين المعاصرين؟ إن هذا في الحق، أمـرٌ ممكن، لكن ربمـا كان الأمـر الذي جعل علم النفس/‏‏ السيكولوجيا ممكنة هـو بالضبط، أفق الأشـياء المطلق هـذا، ولو من الناحية النقدية، على الأقل.

يبقى من جهة أخرى، أن للاوعي عنـد فـرويـد، بنية لغة؛ لكن ينبغي ألّا ننسى أن فـرويـد، هـو مؤوِّل من أصحاب التأويل، وليس اختصاصياً بعلم العلامات والأعراض، وهـو مُفسِّـر وليس نحوياً؛ وأخـيراً فإن مشكلته ليست مشكلة ألسـنيّة، وإنمـا هي مشكلة فك الرموز وحلّ الألغاز. لكن ما هـو التفسير والتأويل، ومـاذا يعني تناول اللغة تناول المؤوِّل والمفسر وليس تناول الألسني، غيـر أن يكون ذلك بالضبط اعترافاً بأن ثمـة ضرباً من الخطوط أو من الكتابة المطلقة التي سيكون علينا أن نكتشفها في ماديتها نفسها، كما سيكون علينا، من ثمَّ، الاعتراف بأن هذه المادية هي ذات دلالة، وهذا هو الاكتشاف الثاني، وأن نكتشف بعد ذلك مـا تريد قوله، وهـذا هـو الاكتشاف الثالث، ثم سيكون علينا في النهاية، رابعاً، أن نكتشـف وفق أيـة قوانين تريد هذه العلامات أن تقول ما تود أن تقوله. وفي هذه اللحظة بالذات، وفي هذه اللحظة وفقط، نصادف طبقة علم العلامات (السيميولوجيا أو السيميوطيقا) أي مشكلات مثل مشكلات الاستعارة والمجاز المرسل على سبيل المثال، أي جملة الطرائق التي تستطيع جملة من العلامات أن تقول بهـا شيئاً، لكن هذا الاكتشاف الرابع ليس سوى رابع بالنسبة إلى ثلاثة اكتشافات تتقدّم عليها في أساسيتها، أي أنها أكثر أساسية منها، وهذه الاكتشافات الثلاثة الأولى هي اكتشاف شيء قائم أمـامنـا، إنـه اكتشاف نص يتطلب تأويلاً وتفسيراً، واكتشاف ضرب من الأرضية المطلقة من أجل تأويلٍ ممكن.

فك الرموز والتكهن

** باديو: اختصاصيو فك رموز النصوص يميّزون بين فك رموز وتكهنها، بمعنى أن قوام فك الرموز هو فك رموز نص نملك مفتاحه، في حـين أن التكهن يكون لنص لا نملك مفتاحه، انـه بنية الرسالة ذاتها. والسؤال هو هل أن الطرائق أو المناهج النفسانية هي من نوع فك الرموز أم من نوع التكهّن؟

* فوكو: بل هو التكهّن فيمـا أرى، ولكن ليس تماماً، والحق يقال، ذلك أن مفهومَي فك الرموز والتكهّن، هنـا أيضاً، هما مفهومان حدّدهما الألسـنيون أساساً من أجل أن يـسترجعوا ويسـتردّوا ما اعتُقـِد أنـه يستحيل استرداده واسترجاعه على أيـة ألسنية كانت، عنيت التأويل والتفسير. لكن لنقل في النهاية إنها فكرة التكهن؛ فأقول لك إن فرويـد يتكهّن أو يكتنه في الواقع، أي إنـه يعتـرف أن ثمـة ههنا رسالة، وأنـه لا يـدري مـاذا تريـد هذه الرسـالة أن تقول؛ ولا يدري وفق أيـة قوانين يمكن أن تريـد العلامات (والأعراض) أن تقول مـا تودّ أن تقولـه؛ فلا بـد إذن من أن يكتشف في حركة واحدة، وفي الآن عينه، ماذا تريد الرسالة أن تقول، ومـا هي القوانين التي سـتقول بها أو بموجبها الرسالة ما تود أن تقول؛ أو بعبارة أخرى، فإنـه لا بـدّ لللاوعي من أن يكون حاملاّ، ليس لما يقوله فقط، وإنمـا لمفتاح مـا يقوله أيضاً. ولهذا بالذات طالمـا أثار علم النفس التحليلي، وتجربة علم النفس التحليلي، ولغة علم النفس التحليلي، هـوىً جارفاً في الأدب؛ ذلك أن ثمـة ضرباً من الافتتان يكابده الأدب المعاصر، ليس بعلم النفس التحليلي وحسب، وانمـا بسائر الظاهرات التي تنتمي إلى الجنون؛ إذ ما هو الجنون الآن في العالم المعاصر، اللهم إلّا رسالة، أو في النهاية شيءٌ من اللغة، أو من العلامات التي نؤمل بأنهـا تريـد أن تقول شـيئاً، لكننا لا نعرف مـا تقوله ولا كيف ستقوله، إذ من دون ذلك، تغدو الأمور رهيبة مرعبة؛ فيكون لا بـد بالتالي من تناول الجنون كرسالة يكون لها مفتاحها الخاص بها. وهذا ما يفعله فرويـد أمام أعراض الهستيريا، وهـذا مـا يفعله الآن أولئك الذين يحاولون مقاربة مشكلة الفصام.

وهل الأدب، في نهاية التحليل، سوى ضرب من الكلام الذي نعرف جيد المعرفة أنـه لا يقول مـا يقوله، إذ لو أراد الأدب أن يقول مـا يقوله لقال ببسـاطة: «خرجت المركيزة في الساعة الخامسة…» ليس إلّا. لكننا نعلم أن الأدب لا يقول هـذا، وإذن فإننـا نعلم أنـه كلامٌ ثانٍ، منكفئ على نفسه، يقول شـيئاً آخـر غير الذي يقوله؛ ونحن لا نعلم ما هو هذا الكلام الثاني الواقع تحت الكلام الأول، لكننا نعلم ببساطة أنـه لدى الانتهاء من قراءة رواية، فإنـه لا بـد لنـا من أن نكتشف مـا تعنيه، وتبعا لمـاذا، ووفقاً لأيـة قوانين استطاع المؤلف أن يقول مـا يودّ أن يقوله؛ لا بـدّ لنـا من تأويل النص واستخراج رموزه وعلاماته (سيميوطيقاه).

وعلى هـذا، فإن ثمـة مـا يشـبه البنية المتناظرة للأدب وللجنون، قوامها أنـه لا يمكن استخراج سيموطيقا (علم علامات) الواحد منهما من دون أن نواكب ذلك بتأويله. واعتقادي أن هذا الانتماء، هو انتماءٌ لا فكاك لـه؛ لكن لنقل وبكل بساطة، أننـا لم نفهم إلى حدود العام 1950، أو فهِمنا سيئ الفهم وعلى نحـوٍ تقريبي، أنـه فيمـا عنى علم النفس التحليلي أو فيما عنى النقد الأدبي، فإن المسـألة فيهما، هي أقرب إلى أن تكون مسـألة تفسير وتأويل. لم نـر أن ثمة جانباً سيموطيقياً (علم علامات)، أي جانب تحليل لبنية العلامات نفسها. الآن بدأنا نكتشف هذا البُعد السيميوطيقي، فبتنا بالتالي نتستر على جانب التفسير والتأويل؛ والواقع هـو أن لغة الجنون ولغة الأدب تتميزان بخصوصية هي بنية الاحتواء والالتفاف أو التكوير، الأمـر الذي يوصلنا إلى ما يلي، ألا وهـو أنه لم يغلب على العلوم الإنسانية كافة الطابع النفساني وحسب، بل إن الأدب والنقـد الأدبي تقلّدا علم النفس، أو غلب عليهما علم النفس.

** باديو: إذا كان اللاوعي يتبدّى بالإجمال كموضوعٍ – نص، وهذا لكي نحتفظ بمنظوركم الشيئي او التشييئي، حيث تكتشـف الرسالة في كل لحظة أنها تنتسب إلى الشيفرة الخاصة بها، (أو الرموز أو القانون الخاص بها في منطق سيميوطيقيين آخرين)، بحيث أنـه لا توجد شـيفرة عامة (أو رموز أو قانون عام) تستطيع الرسالة بداخله أن تكتشف بالإجمال معناها الخاص بها، على نحـوٍ قبلي؛ فينتج عن ذلك، أن علم النفس لا يطيق ولا يستطيع أن يكون علماً عـامـاً، فهو لا يتصدّى إلّا لنصوص، وهـذه الأخيرة، أي النصوص، هي أشياء فريدةٌ وجذرية الفرادة، لأنها تحمل شـيفرتها الخاصة بها؛ وبهذا فإن علم النفس يكون علم نفس الفرد، ليس لجهة موضوعه وحسب، وإنمـا في منهجه في النهاية، أم تـرون أن هنـاك تأويلية ما عامـة؟

* فوكو: لا بدّ من التمييز هنـا، كمـا في أي مكان آخر، بين العام والمطلق؛ فليس ثمة تأويلية مطلقة، بمعنى أنـه لا يمكننا التيقّن من أننـا حصلنا أو نحصل على النص النهائي، وأنـه ليس ثمة معنى آخـر يُقال خلف المعنى المتوفر والدلالة الحاضرة. وكذلك، فإنـنـا لن نكون أكيدين ولن نتيقّن من أننـا نصنع في الجانب الآخـر ألسـنية مطلقة. وعلى هذا فإننـا لن نتأكد أبـداً، ولن نتيقّن مطلقاً من أننـا سنبلغ لا في هذا الطرف ولا في الطرف المقابل، من بلوغ الصورة العامة أو الشكل العام بإطلاق، أو النصّ الأول بإطلاق.

بعـد هـذا أقول إنني أعتقـد أن ثمـة بنياتٍ معممة، كبيرة إلى هذا الحد أو ذاك، وإنـه يمكن على سبيل المثال أن يوجـد لدى العديد من الأفراد عـددٌ من الطرائق المتماثلة، التي يمكن أن نجدها، وعلى النحـو ذاته، لدى هذا البعض أو ذاك، وليس ثمة من سبب أو علّة تجعل البنيات التي اكتشفت في ما يعني الواحد من الناس، بنيات لا توافق الآخـر.

** باديو: أفيكون علم النفس في نهاية الأمـر علم هذه البنيات، أم هو معرفة النص الفردي؟

* فوكو: سـيكون علم النفس معرفة البنيات، كمـا أن العلاج الشـفائي الذي لا يمكن ألا يكون مـرتبطا بعلم النفس، سيكون معرفة النص الفردي، ومعنى هذا، هـو أنني لا أعتقد أنه يسع علم النفس أن ينفصل عن برنامج معياري مـا. ربمـا كان علم النفس، شـأن الفلسفة نفسها، طبّاً ومداواة شفائية، بل إنـه كذلك بكل تأكيد، أي طب وعلاج شفائي على وجه اليقين؛ وليس لأن علم النفس يجـد نفسه وفق أكثر صوره وأشكاله إيجابية، منفصلاً عن علمين فرعيين هما: علم النفس والتربية مثلاً، أو علم النفس المرضي، أو علم النفس «السريري»، وليس لأن هذا الانفصال إلى لحظتين منعزلتين إلى هذا الحـدّ، يكون علم النفس شيئاً آخـر غير العلامة، وأنـه ينبغي جمعهما وتوحيدهما جميعاً. كل علم نفس هو تربية، وكل تقصٍ أو قراءة رموز هو علاج شفائي؛ إذ لا معرفة إلّا، وهي مواكبةٌ ومصحوبةٌ بالتحوّل والتحويل.

** باديو: بـدا لنـا في مـراتٍ عـدة أنكم توشكون أن تقولوا إن علم النفس لا يكتفي بأن يقيم علاقاتٍ وبنياتٍ، بالغاً ما بلغت دقتها أو كان تعقيدها، بين عناصر مُعطاة، ولكنه يشـتمل بالإضافة إلى ذلك، على تأويلات، وأن العلوم الأخرى هي على العكس من ذلك، لا تستطيع حين تصادف المعطيات التي تتطلّب تأويلاً، أن تلبّيها، بحيث أنـه يبدو وكأنكم تقولون إنه ينبغي لعلم النفس، أن يدخل إلى مقدمة المسرح ويطل على المشهد في هذه اللحظة تحديداً. فإذا كان فهمنا هذا صحيحاً، فهل إن كلمة علم النفس، تظل تحمل المعنى ذاته والدلالة ذاتها في تعابير مثل «علم النفس الإنساني» أو «علم النفس الحيواني»؟

* فوكو: أنـا سـعيد لأنك طرحت عليَّ هـذا السـؤال، ذلك أنني كنت أنا نفسي مسـؤولاً عن انزلاق أو عن زلّة قـدم. فقـد قلت بادئاً إن تمفصل العلوم الإنسانية قد تغيّر على وجه العموم، وأُعيد تشكّل صورته وصياغته نتيجة لاكتشاف اللاوعي، وإن المفارقة شـاءت أن يأخذ علم النفس ضرباً من الإمرة على باقي العلوم؛ ثم رحت أتكلم عن علم النفس من منظور فرويدي حصري، كمـا لو أنـه لا يسع أي علم نفسٍ إلّا أن يكون فرويدياً. هناك إعادة تقسيم أو تخريج عامة للعلوم الإنسانية، انطلاقاً من فرويد، وهـذه واقعةٌ لا سبيل لنكرانها في اعتقادي؛ كمـا أن أكثر علماء النفس وضعية، لا يستطيعون نكرانها. غير أن هـذا لا يعني أن علم النفس، بكلّه وجميعه، وفي تطوراته الإيجابية، قد أصبح علم نفس اللاوعي، أو علم نفس علاقات الوعي باللاوعي. فقد بقي هناك ضرب من علم النفس الفيزيولوجي، كما لا زال هناك ضرب من علم النفس الاختباري؛ وفي النهاية فإن قوانين الذاكرة، كمـا أثبتها منذ خمسين أو ستين عاماً، ذلك «العالِم» الذي يحمل الاسم نفسه الذي أحمله، هي قوانين لا صلة لها البتة بظاهرة النسيان الفرويدية. وهي لم تزل كما كانت، وأنـا لا أعـتقد أن حضور الفرويدية قـد غيـَّر في الحقيقة شـيئاً على صعيد المعرفة اليومية الثابتة في الملاحظات التي يمكن أن نلاحظها حول الحيوانات، أو حتى في مجال بعض وجوه السلوك الإنساني. المسـألة هنا هي مسـألة ضرب من الاسـتحالة الحفائرية، أو التحوّل الآثاري (الأركيولوجي) العميق الذي هو تحوّلات الفرويدية وليس تغييراً جـذرياً (أو مسـخا) للمعرفة النفسانية كلها.

** باديو: لكن إذا كان مصطلح علم النفس يتقبّل وجوهـاً بمثل هذا الاختلاف، فأي معنىً هو المعنى الذي سيكون مشتركاً بين هذه الوجوه؟ هل هناك وحدة لعلم النفس/‏‏ السيكولوجيا؟

* فوكو: بلى، إذا وافقنا على أنـه حين يدرس عالم نفس سلوكَ جرذٍ في متاهة، فلأنـه يسعى إلى تحديد وتعريف الصورة العامة أو الشكل العام للسلوك الذي يمكن أن تصحّ نسبته إلى الجرذ، كما تصحّ نسبته إلى الإنسان. فالمسـألة هي دائماً مسـألة ما يمكن أن نعرفه عن الإنسان.

علم معرفة الإنسان

** باديو: هل تقبلون والحالة هي هذه، أن نقول إن موضوع علم النفس هـو معرفة الإنسان، وأن مختلف «السـيكولوجيات» هي وسائل لهذه المعرفة؟

* فوكو: بلى، وأنـا في النهاية أوافق على هذا من دون أن أتجرّأ كثيراً على قولـه، لأنـه يبـدو مفرط البسـاطة، إلّا أنـه يصبح أقل بسـاطة بكثير، إذا تـذكرنا أنـه ظهـر في مطلع القرن التاسع عشر، مشروع غريب لمعرفة الإنسان. هنـا تقع، ربمـا، إحدى الواقعات الرئيسة في تاريخ الثقافة الأوروبية، ذلك أنـه إذا كان قـد وُجِـدَ في القرنين السابع عشر والثامن عشر كتب تحمل أسـماء مثل «مصنّف في الإنسان» (لديكارت) و«مصنّف في الطبيعة البشرية» (لديفيد هيوم) مثلاّ، إلّا أنها لا تتناول الإنسان، كما نفعل نحن حينما نمارس علم النفس، ذلك أن كل تفكيرٍ حول الإنسان، ظلّ حتى نهاية القرن الثامن عشر، أي حتى عمانوئيل كانط، تفكيراً ثانياً بالنسبة إلى فكرٍ أول، هـو، لنقل، فكـر اللانهاية. والمسـالة هنا هي مسـألة الإجابة عن أسـئلة كهذه، بالنظـر إلى أن الحقيقة هي مـا هي، أو هي هذا الشيء أو ذاك ممـا تعلّمناه من الرياضيات والفيزياء، فلماذا ندرك على النحو الذي ندركه، ونعرف على النحـو الذي نعرفه ونخطئ بالصورة التي نخطئ بها؟

بدأ انقلاب الأمور رأساً على عقب انطلاقاً من كانط، أي أن مشكلة الإنسان لن تطرح كمشـكلة، انطـلاقاً من اللانهاية أو من الحقيقـة، بحيث نطرح مشـكلة الإنسان كضرب من ظلٍ منعكـس عنهما؛ فمنذ كانط، لم تعـد اللانهاية معطى من المعطيات، ولم يعد ثمة تناهٍ، وبهذا المعنى نقول إن النقد الكانطي كان يحمل في ذاته إمكانية، أو ـــ خطـر ـــ إناسـة (أنثروبولوجيا).

** باديو: هل تعتبرون أن بوسعنا القول عن علم النفس كعلم وكتقنية، ما نقوله عن العلوم الدقيقة الصارمة، عنيتُ أنهـا تصنع فلسفتها بنفسها، أي أنها تمارس هي نفسها نقد مناهجها ومفاهيمها… إلـخ؟

* فوكو: أعتقـد أن ما يجري حالياً في علم النفس التحليلي، وفي عدد من العلوم الأخرى، كالإناسة (الأنثروبولوجيا) هو شيءٌ كهذا. فحـين يأتي شيءٌ مثل تحليل لاكان/‏‏ Lacan، ليعقب تحليل فرويد، ويكون ممكناً، وأن يكون شيءٌ مثل ليفي ستروس/‏‏ Levy-Strauss ممكناً بعد دوركهايم/‏‏ Durkheim، فإن هذا يثبت أن العلوم الإنسانية، هي بصدد إنشاء أو إقامة ضرب من العلاقة النقدية بنفسها ولنفسها، علاقةٌ من شأنها التذكير بالعلاقة التي تمارسها الفيزياء أو الرياضيات بالنسبة إلى ذاتيهما، وكذلك الحال بالنسبة إلى الألسـنية.

** باديو: لكن ليس بالنسبة إلى علم النفس الاختباري؟

* فوكو: حتى الآن لا. في النهاية، حين يقوم علماء النفس بإجراء دراسات حول التعلّم، وعندما يجربون بعد ذلك النتائج، فإلى أي حـد تستطيع التحليلات حول المعلومات إتاحة ترميز هذه النتائج (أي نقلها من اللغة العادية الاصطلاحية إلى لغة الرموز)؛ وكذلك فإن علم النفس ينشئ لنفسه ضرباً من العلاقة التفكّرية التعميمية التأسيسية. والحال هو أننـا لا نستطيع القول بأن السيبرنطيقا (أو النظرية الإحيائية الآلية كما يسميها البعض) أو النظرية المعلوماتية هي فلسفة علم نفس التعلم، كمـا لا نستطيع أن نقول إن مـا يقوم به لاكان /‏‏ Lacan حالياً في علم النفس التحليلي، أو ما يقوم به ليفي ستروس/‏‏ Levy-Strauss، هـو فلسفة الإناسـة أو فلسفة علم النفس التحليلي، بل هـو بالأحرى ضرب من علاقة العلم الانعكاسية أو التفكّرية حول ذاته.

** باديو: مـاذا تعلّمون من علم النفس، إذا مـا وجدتم أنفسكم في صف من صفوف الفلسفة الموجودة حالياً، وكما هي حالياً؟

ـــ فوكو: أول التدابير الاحتياطية التي أتخذها لو كنت أستاذاً للفلسفة، وكان عليَّ أن أُعلـِّم علم النفس، هـو شراء قناعٍ يكون على أكثر ما يمكنني تصوره من كمالٍ في الأقنعة، ويكون أبعد ما يكون عن خِلقتي وسِحنتي الطبيعية، بحيث لا يتعرّف تلاميذي إليّ. وأحاول أن أُغـيّر صوتي واتخـذ، شأن أنطوني بيركينز/‏‏ A. Prkins في فيلم عصاب /‏‏psychose، صوتاً آخـر، بحيث لا يظهر ولا يتبيّن شيءٌ من وحدة خطابي. هذا هـو أول الاحتياطات التي أتخذها. بعد ذلك سـأحاول، وفي حدود كل ما هو ممكن، أن أُدرّب الطلاب على التقنيات الجارية حالياً لدى علماء النفس، طرائق المختبر ومناهج علم النفس الاجتماعي، وأحاول أن أشرح لهم قوام علم النفس التحليلي. وفي الساعة التالية بعد ذلك، أنزع قناعي، واستردّ صوتي، وأبدأ تدريس الفلسفة، حتى ولـو اسـتدعى الأمـر حينذاك أن نلتقي بعلم النفس، بما هو ذلك الضرب من الدرب المسـدود المحتوم الذي لا مناص منه، والذي سلكه الفكر الغربي في القرن التاسع عشر؛ لكنني لا أنتقد علم النفس، حين أقول الدرب المسدود المحتوم، الذي لا مناص منه، ولا سبيل مطلقاُ لتلافيه، كعلم، ولا أقول إنـه علم ليس وضعياً كما يجب، ولا أقول إنـه ينبغي لـه أن يكون أكثر أو أقلّ تفلسفاً، وإنمـا أقول إن ثمـة غفوة إناسية (أنثروبولوجية) طابت لها نفس الفلسفة ونفس العلوم الإنسانية، بحيث أن بعضها حمل بعضها الآخـر على النوم، وأنـه لا بـدّ من الاسـتيقاظ من هذا السبات الإناسي، مثلمـا كان الاستيقاظ في الماضي من السبات الدوغمائي (العقدي الوثوقي).

غفوة أنثروبولوجية

ثمـة غفوة إناسية (أنثروبولوجية) طابت لها نفس الفلسفة ونفس العلوم الإنسانية، بحيث إن بعضها حمل بعضها الآخـر على النوم، وأنـه لا بـدّ من الاسـتيقاظ من هذا السبات الإناسي، مثلمـا كان الاستيقاظ في الماضي من السبات الدوغمائي (العقدي الوثوقي).

افتتان الأدب بـ «الجنون»

أثار علم النفس التحليلي، وتجربة علم النفس التحليلي، ولغة علم النفس التحليلي، هـوىً جارفاً في الأدب؛ ذلك أن ثمـة ضرباً من الافتتان يكابده الأدب المعاصر، ليس بعلم النفس التحليلي وحسب، وإنمـا بسائر الظاهرات التي تنتمي إلى الجنون؛ إذ ما هو الجنون الآن في العالم المعاصر، اللهم إلّا رسالة، أو في النهاية شيءٌ من اللغة، أو من العلامات التي نؤمل بأنهـا تريـد أن تقول شـيئاً، لكننا لا نعرف مـا تقوله ولا كيف ستقوله، إذ من دون ذلك، تغدو الأمور رهيبة مرعبة؛ فيكون لا بـد بالتالي من تناول الجنون كرسالة يكون لها مفتاحها الخاص بها.

«الشرح» و«الفهم والاستيعاب»

يبـدو لي أن المرة الأولى التي جرى فيها التمييز بين «الشرح» وبين «الفهم والاستيعاب»، وجرى عرضهما كشكلين معرفيين جذريين مطلقين ولا يتفقان مع بعضهما بعضاً، كان على يـد ديلثي/ Dilthey. والحق أن هـذا أمـرٌ مهـمٌ جداً، وهـو بحسب مـا أعلم، مـا صنع التاريخ الوحيد البالغ الأهمية والكبير الفائدة للتأويلية الغربية، وإن كان تاريخـاً تقريبياً بعض الشيء.

____

 

الجمعة، 29 يونيو 2018

آلان باديو: الحياة الحقيقية وقلق الحضارة. (مقابلة)



آلان باديو: الحياة الحقيقية وقلق الحضارة

 


 يجيب آلان باديو في هذا الحوار على أسئلة جولييت سيرف من مجلة "تيليراما" الفرنسية حول الأزمات متعددة الأشكال في الغرب والعالم والتي يعتبرها الفيلسوف الفرنسي أعراضاً لـ"قلق عميق في الحضارة" يستدعي تجاوزها ابتكار نموذج يتخطى الراهن ويستقي، برأي باديو، من مبادئ أربعة قامت عليها الفكرة الشيوعية. هنا ترجمة غير حرفية للشريط المصور، بسبب من طبيعة الكلام المرسل في لقاء حي، ولكن الملتزمة بإيصال المعنى واضحاً ودقيقاً.

كتابكم الأخير "الحياة الحقيقية" يتحدث عن الشباب في عالم اليوم والتشوش الكبير الذي يعيشونه وتلاحظون الهوس في زماننا بتمجيد الشباب من جهة والخوف منهم في الوقت نفسه. كيف تفسرون هذه المفارقة؟

حتى نفهم الوضع الراهن للشباب علينا رؤية وضع العالم كله كما هو عليه اليوم. منذ انتصار الرأسمالية المعولمة والمجتمع الذي بنته، تحوز قضية احتلال مكان في العالم والخروج منتصرين من سباق التنافس والمزاحمة (ضمن ديناميكية حركة رؤوس الأموال والبضائع والأفكار) أهمية كبرى. وتحقيق هذا هو صراع صعب ومؤلم عدا عن أن المنتصرين فيه هم في نهاية الأمر قليلو العدد دائماً. سيؤدي بنا رفضنا لقانون المنافسة إلى الاستسلام إلى الحنين لعالم قديم ذي ترتيب واضح، أقل تحركاً وأقل تنافساً، وقيم رمزية أكثر وضوحاً وتثبيتاً وتقليدية. أعتقد أن كلا الخيارين (مجتمع المنافسة أو مجتمع التقاليد) لا يقدم للشباب مستقبلاً واضحاً أو شغوفاً. في الأول، هناك التموضع التنافسي في العالم كما هو، وفي الثاني هناك التراجع نحو قيم كان يعتقد أنها ضعفت أو دمرت منذ وقت طويل. الشباب منقسم ضمن هذه الشروط، منقسم حول الخيار أو حول انعدام الخيار. أولئك الذين يقبلون الخيار الأول ينعمون بالتقدير (هم شباب العالم). إيديولوجيا هذا الخيار أنه يجب البقاء شاباً إلى الأبد حتى نبقى مقاتلين فعالين إلى الأبد في معركة التنافس. بالمقابل هناك شباب الضواحي والهوامش كـ"شبح ينتاب مجتماعتنا". الشباب منقسم بحدة إذاً. واختيار نمط حياة ذي معنى/اتجاه بات أمراً شديد التعقيد الأمر الذي يؤدي إلى أزمات يعرفها الجميع (المدرسة، التعليم المهني، المسار المهني... الخ).

حسناً، ما الذي ينقص هؤلاء الشباب أساساً؟ هل هي ما تسمونها في كتابكم "طقوس تلقين المبادئ"؟ تبدون في الكتاب نادمين حتى على إلغاء الخدمة العسكرية للذكور؟

"طقوس تلقين المبادئ" من الأمور القليلة الباقية من العالم القديم ولن نعود إليها. كانت مرحلة الشباب تستكمل بطقوس ترسم بوضوح الحدود بين مرحلتي الطفولة والبلوغ في عالم قديم مستقر نسبياً ومرتب تكون الخدمة العسكرية أحد آخر تمظهراته (كان المواطن يطلب ليكون في خدمة المجتمع/الوطن/العائلة... الخ). المطلوب اليوم ليس إيجاد "طقوس تلقين مبادئ" (هذا مسار متقادم) بل إيجاد طرق جديدة في الترميز: لا يمكن للشخص أن يكوّن نفسه دون الاعتماد على مجموعة قيم، أي دون أن يستطيع أن يعرف لماذا تستحق حياته أن تعاش. والقيمة اليوم هي أن تكون ناجحاً. لكن ماذا يعني ذلك؟ إذا لم تقبل بأن تكون مملكة العالم خاضعة لقانون النجاح المالي/الاجتماعي سيتم استبعادك لأن لا وجود لأي قيمة أخرى بديلة ما عدا تلك التي للعالم القديم، وهذه الأخيرة مدمِّرة وسطحية وعلى درجة كبيرة من العنف والقسوة.

ما هي إذاً تلك القيم الأخرى التي تكوّن حسب رأيكم "الحياة الحقيقية"؟

كان (أرتور) رامبو في نهاية القرن 19 قد قال بأسلوب تنبؤي إن "الحياة الحقيقية مفقودة". ما الذي كان يعنيه؟ كان يقصد أن الحياة الحقيقية المفقودة هي تلك التي تكون على مستوى الشاعر. الحياة الحقيقية هي التي يمكنها أن تكون بذاتها "شاعراً"، التي تكون بذاتها كثيفة، شغوفة، ومتفردة دون أن تدفع في الآن ذاته ثمن تدمير أو السيطرة على حيوات الآخرين أو أن تحاول أن تكون الأفضل بينها. بالنسبة لرامبو، ولنا كذلك، ما يفتقده العالم كما هو عليه اليوم هو نظام رمزي، نظام قيم، يعزز كل ما هو إبداعي ويثمّن الجديد (الفني، العلمي، السياسي... الخ) باعتماد عناصر على قدر كاف من الكليّة (
universalisme) تمكن من الدفع باتجاه المساواة. العالم القديم، بمعنى عام، كان عالماً ينظم القيم بواسطة ترتيب صارم للتنظيم الاجتماعي (الأنظمة الملكية الكبرى، المؤسسات الكنسية الكهنوتية، القيم الأخلاقية، والقبول أنه لطالما كان هناك وسيبقى موجوداً الأغنياء والفقراء... الخ). الرأسمالية دمرت هذا العالم لأنها ببساطة وكما بيّن ذلك ماركس لا تعرف أبداً أياً من هذه الأشياء. شرح ماركس في "البيان" أن ما تعرفه الرأسمالية هو "أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة"، أي خضوع الجميع للقانون عديم الرحمة لازدهار الثروة. العالم القديم قد دمر والبحث الآن هو عن نظام قيم آخر لا يتقلص ليشبه النظام المقتصر على مواضيع المنافسة الكونية وتصنيف الناس بين ناجحين وفاشلين كما هو الأمر في الغرب. أعتقد أن من الواجب إعادة إنشاء نظام رمزي ما يمنح الحياة معنى فردياً خلاقاً ومتفرداً ويكون في الوقت نفسه ضمن مناخ عام أكثر مساواة مما هو عليه الحال اليوم. لذلك أستطيع القول بطريقة تجريدية بعض الشيء أن علينا توجيه شغلنا باتجاه ما أسميه "الرمز المساواتي" الذي يحل محل "الرمز الهيراركي للزمن الماضي" ويقف بالتعارض مع الفوضى العنيفة لعالم رأس المال.

تقولون إن "الرأسمالية هي آلة تفقد الأفراد الاتجاه". هل يمكن اعتبار ذلك تلخيصاً صحيحاً لموقفكم؟

نعم ويحصل ذلك بطريقتين. فإما تفقدهم الاتجاه "إيجابياً" بتوجيههم نهائياً نحو الفكرة التي تقول أنه في العمق لا يوجد في العالم شيء آخر غير النجاح المادي (وهذا في الحقيقة بمعنى ما هو كذلك إفقاد للاتجاه، لأن ذلك يعني "ادعس على الآخرين حتى تحقق ما تريد" وهو ما يتعارض بعمق مع وجود البشرية بكاملها). أو، بالمقابل، لدينا المحبطون الذين يشعرون بالمرارة لأنهم لم يجدوا مكاناً لهم في هذا التنافس العام والجاهزون لفعل أي شيء مقابل أن يشعروا أنهم بذلك ربما يفعلون شيئاً غريباً ورائعاً وخارج المألوف. هذا بحث مشلول لأنه مشدود إلى العالم القديم ومجبر على أن يجد لنفسه أسباباً تنتمي إلى هذا العالم القديم (دينية أو هيراركية أو سلطوية). ودائماً حين نقوم بالفعل استناداً إلى أفكار ميتة بالفعل نصبح نحن فريسة الموت وهذا ما يفسر أن الأسلوب الوحيد لتفعيل أي شيء في هذا الاتجاه هو الجريمة والانتحار في الوقت نفسه. لنلاحظ أن جميع الاعتداءات المرعبة والمجازر الجماعية التي شهدناها مؤخراً بذهول كانت تنتهي دائماً بانتحار أبطالها. إذاً فإن الموت بالنسبة لهؤلاء الأشخاص (موتهم هم وموت ضحاياهم في نوع من التضحية النهائية) يعطيهم انطباعاً سخيفاً لكنه حقيقي بأنهم بكل بساطة موجودون. علينا في الآن نفسه أن نسأل أنفسنا كيف يمكن للعالم أن ينتج هذا النوع من الأفراد؟ وهذا ما حاولت أن أوضحه بالتركيز على أن التجانس المطلق للتمثيلات المرسملة والمالية لعلاقات الإنتاج والاجتماع كلها تتضمن عالماً من التنافس والتزاحم وأن للافتقاد إلى رمز مساواتي نتائج قاتلة.

ما رأيكم بواقعة أن "داعش" يجند بإطراد شباباً وفي أحيان كثيرة قاصرين وكذلك فتيات؟

هذا يندرج فيما نتحدث عنه هنا. وأعتقد أنه كان من الممكن تجنب ذلك لو عُرض على الشباب وعلى نطاق واسع توجه إيجابي نحو عالم جديد رمزياً (عالم مساواتي قدر ما تتيحه الظروف) دون أن يشعروا بأنهم مجبرون على العودة والإشارة إلى عالم قد اختفى. هناك جانب يذكر بالزومبي في هذا النوع من الإرهاب والمجازر الجماعية، أي الميت/الحي، فهم يأتون في الحقيقة بعد موت الآلهة (موت الله خاصتهم على كل حال) ويدفعون بالموت نفسه ثمن هذا الموت. وهذا ببساطة ناتج عن انتفاء تقديم أي سبيل آخر أمام من لم يجد له مكاناً حقيقياً في عالم المنافسة. لا سبيل آخر معروضاً يجيب عن السؤال الأساس: هل من الممكن إقامة نظام قيم مترسخ في المساواة بين جميع الرجال والنساء ولا تتم تصفيته عبر المنافسة المتوحشة المحتومة بين الدول أو الشركات الكبرى... الخ حيث يكون الانتصار على الآخرين قاعدة مقبولة دائماً وعلى جميع مستويات التنظيم الاجتماعي.

كيف تردون على منتقديكم الذين يذكرون بالملايين من ضحايا الأنظمة الشيوعية عبر التاريخ؟

الفرضية الشيوعية، أي فرضية عالم لا يعود محكوماً بواسطة المالكين ووكلائهم وانعدام المساواة الرهيب الذي يرشح منهم، قد صيغت بشكل واضح منذ القرن 19. من المهم العودة دائماً إلى البدء لنعرف عن ماذا نتحدث. وتتكون هذه الفرضية من 4 مبادئ كبرى مرتبطة ببعضها:

1- لا يمكن القبول بأن يكون عالم الاقتصاد والإنتاج والعمل تحت قبضة أرستقراطية من مالكي رؤوس أموال شديدة الضيق وتصبح مع مرور الزمن أكثر ضيقاً بعد. بين ماركس أن رأس المال يتركز بالضرورة وأن مالكي ثروات العالم يصبحون أقل فأقل من حيث عددهم. نعرف اليوم وعبر إحصاءات رسمية أن أقل من 2% من البشر يملكون ما يملكه 3 مليارات آخرين، وهي بالتالي أرستقراطية أكثر انحصاراً من تلك التي كانت في ظل النظام القديم حيث كان النبلاء يشكلون حوالي 10% من مجمل السكان. الشيوعية تقول إن بالإمكان القيام بشيء مختلف وأن الإنتاج يمكن أن ينظم بشكل يمنع الخضوع لأرستقراطية بالغة التقييد.

2- وهنا مبدأ هام غالباً ما يتم نسيانه، لقد أكدت الشيوعية أنه لم يكن من الضروري أو من المحتم القيام بتنظيم هائل للعمل يقسمه إلى عمل يدوي وعمل ذهني، إلى مهام إدارة ومهام تنفيذ... الخ. ماركس تحدث عن العامل المتعدد الأشكال، أي ذلك الذي يمكنه التحرك بين مختلف أنظمة العمل معتبراً تحقيق ذلك المهمة التي على الشيوعية إنجازها.

3- لم يكن من المؤكد أنه كان من الواجب الإبقاء بأي ثمن على الشكل الشمولي والقومي للدولة، رغم أنه وخلال زمن طويل كان من الضروري ربما إقامة دولة مركزية لكن ذلك لم يكن المصير العام للدولة... وهذا ما يسميه ماركس صيرورة الهلاك المتعاظم للدولة، أي القيام بمجمل مهمات الدولة من قبل مجموع المنظمات الشعبية المحلية المتشعبة.

4- لم يكن من الضروري أن يكون البشر وإلى الأبد تحت رحمة الصراعات بين الأمم والتي تسببت بالحروب والمجازر الأكثر هولاً في كل التاريخ الإنساني.

هذه هي الشيوعية... هي سياسة تحاول أن تستند في كل حال من الأحوال المحددة والخاصة إلى هذه المبادئ الأربعة. بالطبع فإن ما جرى هو أن التفسير المعمم لكل هذا كان أنه لتحقيق ما تقدم ذكره يجب الاستيلاء على السلطة. مسألة السلطة أي الدولة باتت المسألة المركزية التي تختصر غيرها من المسائل. وهذا ما جرى بالفعل بدءاً من اللحظة التي وقعت فيها ثورات تستقي من النموذج الشيوعي. ما حصلنا عليه بنتيجة هذه الثورات هو تقريباً عكس ما كانت تعلنه المبادئ: إنشاء دول على درجة كبيرة من المركزية.. دول عنيفة مرعبة وإرهابية. يجب التذكير بالمقابل أن هذه الدول كانت محاطة بأعدائها وينظر إليها كشيء شاذ في العالم. رأينا إذاً العنف الهائل وتنظيم العمل القسري وزيادة الإنتاج مهما كلف الثمن... الخ ولكن كذلك الدخول في مسار منافسة متفاقمة مع الغرب لم يكن لديها أي حظ في كسبها لأنها كانت تقلّد دون أي عقلانية وعن بعد كثيراً من قواعد وأنظمة العالم الذي كانت تنتقده. الآن، هذه المرحلة انتهت.. وفشلت. فشلت فشلاً كاملاً وتاماً ونحن اليوم نواجه ما أسميه "المرحلة الثالثة". كان هناك مرحلة ابتكار الفكرة في القرن 19، ثم مرحلة محاولة التطبيق بوسائل دولتية وشمولية خالصة، واليوم علينا العودة إلى مبادئ القرن 19 وإيجاد سبل للعمل السياسي لا تكون خاضعة للسلطة المطلقة للدولة وقادتها. وهذا أمر علينا القيام به.. علينا نحن ابتكاره.

إذاً، فأنتم لا ترغبون بالديمقراطية كما هي عليه اليوم ولا تعتقدون أنها أفضل الأنظمة أو على الأقل أقلها سوءاً كما كان يقول تشرتشل؟

إن قضية النظام السياسي ليست القضية ذات الأولوية. ما يصدمني في كل الصراعات الانتخابية هو أن لا أحد أبداً يطرح المشكلة الأساس ألا وهي ما الذي نفهمه تماماً من كلمة مجتمع. فالجميع يتصرف كما لو كان ذلك بديهية، غير أن المجتمع الديمقراطي ليس بديهية أبداً. الديمقراطية اليوم هي عنصر شكلي ويجب النظر إليها باعتبارها كذلك، وهي أيضاً، وأعتقد أن الجميع قد مر بهذه التجربة، نظام خيبة الأمل المتواصلة. هنالك هيجان انتخابي معتبر ونتصرف كما لو أن ذلك على درجة كبرى من الأهمية وأن المتسابقين يطرحون خيارات راديكالية... الخ، ومن ثم نفهم بسرعة فيما بعد أنهم يقومون جميعاً بالشيء نفسه. لماذا؟ ليس لأنهم سيئون مثلاً أو غير ذلك، بل لأنهم بالأحرى وحين يحوزون السلطة يدركون أنه في هذا العالم (في العالم كما وصفته الآن) ليس هناك من هامش كبير للمناورة والفعل، هذا العالم الذي تقف بنيته الداخلية حائلاً أمام كل تنوع جدي. أعتقد إذاً أن في مناخات كهذه ليس هناك من فروق كبيرة... وهنا نرى أنه نظام خيبة الأمل المتواصلة لأنه وحتى يتم انتخاب شخص ما فإن عليه أن يقول أن هناك فروقاً كبيرة مع الآخرين، ثم ما نلبث نحن أن نفهم أن هذه الفروق ليست في الحقيقة إلا فروقاً صغيرة جداً. النتيجة هي أننا سنذهب في المرة المقبلة ونصوت للآخرين (أي ما نسميه نظام التناوب) والذي لن يكون إلا تسخيناً وتحضيراً ليعود الأولون وهكذا. أستطيع أن أفهم أن ينخرط البعض في هذه اللعبة.. لم لا.. يمكننا في نهاية المطاف أن نقول "حسناً لكن فرقاً صغيراً هو دائماً فرق صغير... الخ" لكننا نتعود مع مرور الوقت على أن يصبح هذا الفرق الصغير أصغر فأصغر... هذه هي القاعدة. على مستواي الشخصي ووضعي كفيلسوف وناشط ملتزم كان شاهداً على مراحل معقدة لا يمكن حل المشكلات الحقيقية في مجتمعاتنا بهذه الطريقة لأن تلك المشكلات تتطلب اعتماد خيار أكثر عمقاً وجذرية. وبالحديث عن مجتمعاتنا، فقد تكلم فرويد عن "قلق في الحضارة" حين وقعت الحرب العالمية الأولى والتي كانت بالنسبة له دليلاً ضارباً على ذلك. هذه هي المشكلة.. هناك قلق في الحضارة وهي أكثر عمقاً من مسألة ما إذا كنا سنفضل في الانتخابات (إيمانويل) ماكرون على (فرانسوا) بايرو.

 تفضلون إذاً تركيز جهودكم على "إفساد الشباب"؟ ماذا يعني ذلك؟

للإجابة علينا العودة إلى أستاذنا المؤسس سقراط الذي حوكم بتهمة "إفساد الشباب" بالمعنى التالي: كان سقراط يحوّل الشباب ويبعدهم عن طريق العبادات في المدينة وكذلك حتى عن اللعبة السياسية (لم يكن سقراط راضياً عن الطريقة التي تعمل بها المجالس السياسية... الخ). لذلك، فقد اعتبره محاكموه شخصاً يبعد الشباب عن الانخراط في العالم كما هو. ورغم أن المجتمع هناك كان ديمقراطياً إلا أنه كان في الوقت نفسه مجتمعاً محافظاً بالنسبة لقوانينه. وسقراط في هذا الجو اعتبر خارجاً عن الشرعية الديمقراطية وحكم عليه تالياً بالإعدام. إذاً فإن مهمة الفلسفة تكمن في التوجه إلى الشباب في ظروف تتضمن نقداً راديكالياً للعالم الاجتماعي والسياسي والعام كما هو عليه. لا يمكن للفلسفة أن تتردد ولا تبادر بهذا النقد بحجة الخضوع والامتثال للقواعد العامة الاجتماعية أو الوطنية. هذا تراث ثمين وصلنا من ذلك الزمن وكان دائماً يتم تبريره بالوظيفة النقدية للفلسفة وبأن الفلسفة تعيّن إمكانية إنشاء حياة مختلفة عن تلك الموجودة، حياة تكون متجهة بشكل أكثر وضوحاً نحو قيم ذات معاني كليّة (
universalisme) ولا تكون محكومة من قبل شخوص ذوي نزعات قومية معادية للأجانب وتتركز حول إرادة النجاح وشؤون الموازنة... وغيرها مما لا يعطي معنى حقيقياً للسياسة عموماً. هذا هو إذاً ما اعتبره المواطنون الأثينيون المتزمتون "فساداً" وباسمه أجبروا سقراط على تجرّع السم... الفرق بيني وبين سقراط هو أني لم أحاكم بالموت وهو ما يسأل عنه القضاة في زماننا.

تقدمون قراءات فلسفية على خشبة مسرح "
La Commune" في ضواحي باريس وأنتم معروفون كذلك ككاتب مسرحي وعرضت أحد أعمالكم الأوبرالية بعنوان "الشال الأحمر". ما الذي يمثله المسرح في حياتكم وعملكم؟ وهل صحيح أنكم كنتم ترغبون في أن تصبحوا ممثلاً كوميدياً؟

هذا صحيح تماماً، وربما لقد أصبحت هذا الممثل الكوميدي رغم كل شيء. اللقاء بالمسرح كان بالنسبة لي لقاءاً مزلزلاً حين كنت شاباً (12-13 عاماً). ظهرت في تلك الفترة في مدينتي تولوز فرقة متأثرة بأفكار (جان) فيلار حول المسرح الشعبي تسمى "
Le Grenier de Toulouse" قدمت عروضاً أثرت فيّ بشدة وتضمنت أفكاراً تجديدية (كاعتمادها خطاباً أكثر مواجهة مع الجمهور بالإضافة لبساطتها وتحطيمها للقوانين القديمة في الكوميديا... الخ). وكان أستاذي في تلك المرحلة قد أدخل المسرح في التعليم وقدم بعض العروض ومن ثم أصبحت كوميدياناً كما كثيرين في تلك المدرسة. قدمنا بعض المسرحيات لموليير مثل "غيرة المخدوع" و"الصقلي" وصولاً إلى "خيانات إسكابان" التي حظيت فيها بدور البطولة وبدأت أعي أن المسرح هو ذلك المكان المتفرد حيث تقدم ويعاد تقديم شخوص البشرية في حيواتهم، هو المكان الذي يوضح "اللعبة" الاجتماعية بمعنى مزدوج لكلمة "لعبة"... أي هو "اللعب" من جهة وكون اللاعبين يشكلون في الوقت نفسه "لعبة" في المجتمع... الخ من جهة أخرى. المسرح هو مكان هذه اللعبة المزدوجة والتي تتناسب بطريقة ما مع الفلسفة. ستحاول الفلسفة تبيان أن بإمكاننا أن "نلعب" بشكل مختلف في الحياة الشخصية والجماعية. هنالك برأيي نوع من التوافق بين المسرح والفلسفة وهنا أعارض أستاذي أفلاطون الذي لم يكن يثق كثيراً بالمسرح باعتباره مكاناً للتقليد والأوهام والشهوات المنفلتة... الخ. أعتقد أنه كان مخطئاً في ذلك.. ربما لأنه لم يتلق مثلي تعاليم بريشت فيقوم بإصلاح خطئه. أخطأ أفلاطون لأنه لم يدرك أن اللعب/التمثيل في المسرح يتم تناوله بشيء من التباعد الذي يسمح بتقييمه كواقع وكلعب/تمثيل في الآن ذاته... أو كلعب/تمثيل الواقع. للمسرح وفق وجهة النظر هذه وظيفة تعلمية وجوهرية. بالتالي، بقيت متعلقاً بالمسرح الذي لم يتعارض مع الفلسفة في حياتي... على العكس فقد قام بتنشيطها من الداخل.

وهل ما زلتم تكتبون للمسرح؟

نعم، لقد كتبت مؤخراً مسرحية إذاعية بعنوان "محاكمة سقراط الثانية" قدمتها إذاعة "فرنسا ثقافة" وسجلت في الاستديو الكبير لـ"بيت الإذاعة" ولعبت فيها دور سقراط.

أعرف أن واحداً من أحلامكم هو تنفيذ فيلم سينمائي على الطريقة الهوليودية عن حياة أفلاطون وأنكم تتمنون أن يقوم براد بيت بدور أفلاطون وشون كونري بدور سقراط. هل ما زلتم تفكرون بذلك؟

نعم لكنه لم يحرز أي تقدم وذلك خطئي لوحدي لأن علي بداية أن أحضر سكريبت كاملاً عن حياة أفلاطون باللغة الإنجليزية. لقد كتبت بالفعل 7 مشاهد من خطة عامة تتضمن 24 أو 25 مشهداً. لذا فإن أمامي عملاً كثيراً بعد لكنني أنوي فعلاً كتابة هذا العمل المهم لأننا لا نعرف تقريباً أي شيء عن حياة أفلاطون والبعض يطلق العنان لخياله وابتكاراته حول هذه الحياة. هناك الكثير من القصص الكاذبة حول حياته... الخ. نستطيع إذاً إعادة بناء قصة حياة أفلاطون من وجهة نظر أفلاطون نفسه وهذا هو الأمر المهم. أي إعادة كتابة قصة حياة أفلاطون انطلاقاً من حواراته نفسها ومحاولة تقديم حياته الفلسفية في فيلم يجب أن يكون إنتاجاً ضخماً جداً... لماذا؟ يجب علينا أن نتعامل بجدية مع القصص التي تروى عن أفلاطون. يقال مثلاً أن قراصنة قبضوا عليه خلال عودته من إحدى رحلاته إلى صقليا وذهبوا به إلى الجزائر.. إذاً، ترون أن الواجب تقديم معركة بحرية بإمكانيات معتبرة، فالفلسفة تستحق أن تنفذ من أجلها معارك بحرية جديرة بأن تسمى معارك.

ولذلك يجب إقناع هوليوود؟

طبعاً... وما زلت أعتقد أن براد بيت يمكن أن يقبل الاشتراك مجاناً دون مقابل في الفيلم... إنه لشرف عظيم أن يحظى أي شخص بتمثيل دور أفلاطون.

كتابكم "مديح الحب" كتاب صغير حظي بنجاح كبير وتمت ترجمته حول العالم. الآن وبعد عدة سنوات على صدوره، كيف تفسرون هذا النجاح وما الذي تغير في فلسفتكم وعلاقتكم بالجمهور بعد هذا الكتاب؟

أود في البداية أن أقول إنه ليس غريباً إحراز النجاح حين يتعلق الأمر بموضوع الحب... فهذا معروف من زمن طويل، لكن كان من الضروري أن أقدم شيئاً جديداً على هذا الصعيد حتى يثير الكتاب الاهتمام. في الحقيقية لقد دافعت ومنذ زمن طويل عن فكرة أن الحب، جنباً إلى جنب مع العلم والفن والسياسة التحررية، هو إحدى دعائم الحقيقة. لكن ما هي حقيقة الحب؟ هذا ما حاولت أن أبينه في الكتاب الصغير. وجاوبت أن حقيقة الحب هي حقيقة الاختلاف، بمعنى أن الحب هو أن يقبل المرء في حياته نفسها بوجود شخص آخر يكون مختلفاً إلى أبعد الحدود عنه، وذلك باعتبار أن كل الأشخاص مختلفون عن بعضهم إلى أبعد حد. وقلت إن الحب هو ذلك الشيء الذي يتغلب بشكل جذري على الصعوبة التي تطرحها الغيرية. هذا هو المسار الذي يجري فيه هذا التغلب رغم أنه ينطوي كذلك على صعوبات أو أزمات أو حتى على أحداث تراجيدية. وقلت كذلك إن الحب هو العالم وقد اختُبر لا من وجهة الواحد بل من وجهة نظر الاثنين معاً. إنه العالم وقد أعيد تشكيله وأعيد تكوينه وأعيد اختباره انطلاقاً من أننا اثنان وليس واحداً. إنه ومن خلال هذا القبول النهائي لغيرية متضمنة في وجودكم ذاته يأخذ الحب مساره. إذاً، فالحب في العمق فلسفياً هو ما يمنح الاختلاف حقيقته لكن ليس بأن نردد بأن "الاختلاف هو الاختلاف"، بل أن نرى أن الاختلاف فعل خلاق... فنحن حين نكون في علاقة حب مع أحد ما تتغير علاقتنا كلها بالعالم وتنتظم بطريقة مختلفة. هذا ما حاولت قوله في الكتاب، الذي هو في الأصل حوار مع نيكولا تريونغ في مدينة أفينيون، وانتبهت إلى أن لهذا النوع من الأفكار جمهوراً معتبراً ومهماً فهم الأطروحة التي يدافع عنها الكتاب وهي أن الحب بوصفه كذلك يتعرض للتهديد اليوم. الحب مهدد لأنه لا يتوافق في الحقيقة مع الفردانية التنافسية المطلوبة في مجتمعاتنا حتى يتم قبولنا فيها كمنتصرين. فالحب يتوقف على قبولنا التام للآخر في حياتنا الخاصة ويخضع فردانيتنا ليس لاختبار النجاح الشخصي والانتصار على الآخرين ولكن لاختبار الغيرية. هنالك بالتالي انعدام توافق خفي بين الحب والعالم كما هو اليوم. لقد انتبهت إلى أن انعدام التوافق هذا هو ربما قلق منتشر لدى كثيرين يتساءلون حول ما إذا كان للحب مكان اليوم ويقولون أليس الحب خطيراً؟ هل علاقة الحب ما زالت ممكنة؟ وذلك إذا أخذنا بالاعتبار أن نصف الأزواج ينفصلون بعد مضي عدة سنوات على حبهم وأننا نعيش أزمة في الشعر (لقد توقف رامبو كذلك عند موضوع أزمة الحب). هذه الأزمة تقلق كثيرين إذاً لأن لقاء الحب وتجربة الحب هو في نهاية الأمر تجربة كونية (
universalisme). ونرى أن صعوبة الحب المحتملة اليوم أو فكرة أنه في نهاية الأمر من المستحسن ألا تكون علاقة الحب عميقة كثيراً ويكون بديلها نوعاً من العقد بين الطرفين... لقد انتقدت مثلاً طرق العثور المنظم عن طريق مواقع التعارف على شريك الحب حيث يقولون لنا "سنجد لكم الشريك الذي يشبهكم كثيراً.. الذي يتوافق معكم: لديه نفس ذوقكم ويحب الرحلات التي تحبونها... الخ". وقلت إن قصص الحب الحقيقية كانت دائماً مناقضة لهذا المسار. قصص الحب الحقيقية كانت دوماً اختباراً لاختلاف رئيسي ومسار حياة تقوم بدمج هذا الاختلاف الرئيسي. حين يصبح هذا عبارة عن عقد بالتراضي يعود بالمنفعة على الطرفين فمن الأفضل أن يتم توقيعه مسبقاً والقول إنه وبحسب ملف الشخص الذي عرضوه علي على الانترنيت سأختار هذه وذاك. أعتقد أن هذا يشكل عرضاً لأزمة الحب لأننا في النهاية نتعامل معه كما نتعامل مع حيازة السلعة أي بحسب مبدأ التوافق وإشباع رغبتنا التجارية. والآن لأجيب عن سؤالك تماماً، أنا أيضاً دهشت من نجاح هذا الكتاب وقلت لنفسي يبدو أنني قد لامست فيه مسألة تتعلق بصيانة الحب وفكرة أنه إذا كان الحب مهدداً... إن اختفى الحب من الحياة الاجتماعية سيشكل ذلك فقداً كبيراً لحيوات كثيرة تعيش وحيدة وفاقدة للاتجاه. حتى اليوم حين أعرض الكتاب يأتيني كثيرون لأوقع لهم الكتاب وتقريباً في أغلب الحالات يطلبون مني أن أوقعه باسم أحبائهم... يأتي مثلاً ألفريد ويقول لي "وقع لي الكتاب باسم بريجيت" أو بالعكس... والعكس هو ما يحصل في أكثر تلك الحالات أي أن القوة الكبرى التي تدعم الحب نسوية على ما أعتقد. وقد دافعت كذلك عن هذه الفكرة الأخيرة.. أعتقد أن هناك أسباباً رئيسية وليس ثانوية تجعل من النساء عناصر جيش الدفاع عن الحب.

هل يعود ذلك لكونهن من يسعين لتستمر مغامرة الحب عبر الزمن؟

أعتقد أن ذلك يعود إلى أنهن كن يشكلن رمزاً للغيرية لردح طويل من الزمن في العالم الهيراركي القديم. في ذلك الوقت كانت البشرية ذكورية ولسبب رئيسي هو أن "الله" نفسه كان مذكراً. حتى أستاذي (جاك) لاكان كان يقول أن الكلمة اليونانية التي تعني "الآخر" وهي
héteros مرادفاً للقول أن hétérosexuel هو الشخص الذي يحب النساء ذكراً كان أم أنثى. من يحب النساء إذاً يحب الاختلاف. والنساء بقين أكثر انفتاحاً على فكرة الاختلاف هذه، رغم أنها أضرت بهن ووقعن ضحيتها خلال زمن طويل، وهذه الفكرة تبقى ذات قيمة إيجابية تقوم على احتضان الاختلاف وبناء العالم انطلاقاً منه. هم أكثر انفتاحاً من الرجال الذي يبقون محافظين فيما يتعلق بهويتهم... لكن عليهم أن يتغيروا.
---------------------------------------------------
الترجمة والمصدر: مونت كارلو الدولية