الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

برقليس وأثره في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي /هشام مبشور



برقليس وأثره في الفلسفة الإسلامية: نموذج الفارابي       

بقلم هشام مبشور
يونيو حزيران 2016  (مؤمنون بلا حدود)
http://www.mominoun.com/articles/برقليس-وأثره-في-الفلسفة-الإسلامية-نموذج-الفارابي-4041

ملخّص

التأمل في طرق انتقال الفكر وتتبع مساراته ورصد حركاته ليس بالأمر اليسير، خصوصاً عند العلم أنّ

الأمر يتطلب وضع اليد على حركة لم تخلف آثاراً كثيرة، وما تركته متن قليل مخروم ضاع أغلبه، وما بقي

لا يشفي الغليل. ولعلنا لا نذيع سراً عندما نقول إنّ هذا هو الدافع الذي دفعنا للنظر في هذا الموضوع رغم

 


 
 
قلة البحث فيه، إن لم نقل انعدامه.

عند القول بتأثير فكر برقليس في فلسفة الفارابي لا نقلل من قيمة المعلم الثاني أو نجعل تفلسفه مجرد

استعادة لهذا العلم، بل على العكس إنّنا نبرز رحابة فكر الفارابي وانفتاحه على كلّ مصادر المعرفة المتاحة

أمامه في وقته، حتى ما تعلق منها بالأفلاطونية المحدثة التي أخذ عنها نظرية الفيض كاملة، بل إنّنا نزعم أنّها

السبب المباشر والدافع الأقوى الذي جعله يفكر في جمع رأيي الحكيمين: أفلاطون الإلهي وأرسطو المشائي،

متغافلاً عن الاختلافات البارزة بينهما، وحتى عند تشكيكه في انتحال بعض الكتب عن أرسطو وهي ليست

له، إلا أنّه يعود فيفند تلك النظرية ويرجح اختلاف الشراح والتأويل، لذا سلك سبيل التسوية بينهما عن

طريق تأويل نصوص اختلفا فيها، والذي جعله يقيم هاته التسوية اطلاعه على الأفلاطونية المحدثة خصوصاً

نصوص برقليس )الخير المحض( التي ثبت أنّها ظلت موجودة في عصر الفارابي وقبله وبعده تؤثر في

ابن سينا وإخوان الصفا، لكنّها لم تعرف باسم صاحبها بل باسم أرسطو فاختلطت به ونقلت مع كتاباته دون

أن يميز الناقلون بينه وبين كتب أفلاطون وأفلوطين والمدرسة الإسكندرية بصفة عامة، ودليلنا أنّ الناقلين

والمترجمين للكتب اليونانية لم يكونوا محققين قادرين على تمييز الكتب.

وحتى نثبت هذا الطرح استعنا بكتب التراجم والأعلام ننظر فيها ونرى مدى حضور برقليس فيها،

ثم نعبر لإيضاح أثره المفترض في فكر الفارابي عن طريق بسط النصوص وفتحها على بعضها بعضاً.

فهل عرف الفكر العربي المسلم برقليس؟ وكيف حضر في كتب التراجم؟ ثم إلى أي حد أثر برقليس في

الفارابي؟
 


تمهيد
وصفها عبد الرحمن بدوي «بالغلطة السعيدة 1» ، إنّها لحظة التقاء الفكر العربي الإسلامي بفكر أرسطو

أو ما ظنه من فكر أرسطو، وهو ليس له بل منحول عليه، ولعل هذه الغلطة سمحت للمفكرين المسلمين

بالالتقاء بفكر الأفلاطونية المحدثة الممثلة لمدرسة الإسكندرية، خصوصاً فيلسوفها الذي أحياها بعد طول

ركود وبعثها من جديد في حلة عقلية قامت تتصدى للفكر المسيحي باعتباره السبب الرئيس في تراجع
 





الفكر الفلسفي وضموره، فكلّ تصدٍ لهذا الفكر عودة للحظة الفكر اليوناني بأصوله الأولى عند أفلاطون

وأرسطو وعند شراحهم ومتأوليهم كأفلوطين...، الذين يمثلون الجيل الذهبي الرائد في مدرسة الإسكندرية.

هذه المهمة قام بها الفيلسوف الإسكندري برقلس*، الذي شرح كيفية تكوّن الكون، وأجاب عن سؤال ما

أصل الكون؟ وكيف تكوّن؟ ثم أثبت قدم العالم بمنهج تحليلي يقوم على حجج وأدلة عقلية تزدري النظرة

المسيحية للكون وتردّ حججها. بناء عليه مثل برقلس بفلسفته الوثنية خطراً شديداً على المعتقد المسيحي،

لهذا قام يحيى النحوي** يتصدى له بكتاب يردّ حججه ويثبت حدوث العالم. هذا النقاش الفلسفي سمع صداه

في الفكر الإسلامي الذي انقسم على نفسه، من يعتقد في قدم العالم ويدافع بحجج برقلس معتقداً أنّه رأي

لأرسطو كما وقع للفارابي عندما ظنّ أنّ كتاب «أثولوجبا » لأرسطو، يقول «... كذلك أرسطو طاليس بين
 



في كتاب «أثولوجيا » أنّ الواحد موجود في كل كثرة 2« . ومن يعتقد في حدوثه )الغزالي( ويدافع بحجج



يحيى النحوي.

حضور هذا الرجل وازن في المدرسة الإسكندرية خصوصاً أنّه ترأس مدرسة أثينا وخلف مجموعة من

تلامذته، منهم أمونيوس أستاذ يحيى النحوي الذي يقال إنّه بقي إلى عهد عمرو بن العاص الذي فتح مصر،
 





وهنا برز تأثير برقلس في الفلسفة الإسلامية إمّا بطريقة مباشرة عبر كتبه التي نقلت وعرفت في الحضارة

الإسلامية ككتاب القول بقدم العالم، أو بطريقة غير مباشرة عبر ردّ يحيى النحوي على كتاب أو كتابه
 



المنحول في الحضارة الإسلامية «الخير المحض 3» . فكيف حضر هذا الفيلسوف في الحضارة الإسلامية؟



وهل أثر على مفكريها؟
 
-1 بدوي، عبد الرحمن: أفلاطونية المحدثة عند العرب، الناشر وكالة المطبوعات شارع فهد السالم الكويت، الطبعة الثانية 1977 ، ص 1
*- برقلس proclus أحد أعلام الفلسفة في ق 5 م. من أهم أعلام مدرسة الإسكندرية فرع أثينا ) 484 - 412 م(. راجع: بريهه، إميل: الفلسفة الهلستينية
والرومانية، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ص 274


**- "كان يحيى النحوي تلميذ ساواري، وكان أسقف في بعض الكنائس بمصر، ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية. ثم رجع عما يعتقده النصارى في

التثليث فاجتمعت الأساقفة وناظرته، فغلبهم...، وعاش إلى أن فتحت مصر على يد عمرو بن العاص..، له من الكتب الرد على برقلس ثماني عشرة
 
مقالة، كتاب في أنّ كل جسم متناهٍ فقوته متناهية. مقالة.." راجع كتاب: الفهرست لابن النديم، تحقيق تجدد، نسخة إلكترونية بدون طبعة. ص 315 ،



انظر أيضاً كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة، تحقيق الدكتور نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، بدون طبعة،
 
ص ص 151 153
-2 الفارابي، أبو نصر: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس، تحقيق: الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق بيروت-
لبنان، الطبعة الثانية بدون سنة، ص 102
-3 انظر مقال مايرهوف: من الإسكندرية إلى بغداد. ضمن كتاب: عبد الرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دار النشر مكتبة النهضة
المصرية، طبعة 1940 ، ص 50 و 5


للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نقسم عناصر البحث في هذا الموضوع على الشكل التالي:

1- برقلس في التراجم العربية.

2- تأثير )برقلس والمدرسة الإسكندرية( في الفلسفة الإسلامية )نموذج الفارابي(.
 


برقليس  في التراجم العربية:

يتطلب الوقوف على امتدادات فلسفة برقلس في الحضارة الإسلامية رصد أهم النقاط التي أثر فيها على

فلاسفتها، النظر بداية لحضوره في هذا الفضاء الغريب على الفكر اليوناني، يقول دي بور: «إذ نستطيع

أن نقرّ بالإجمال أنّ السريان والعرب تقبلوا إمساك حبل الفلسفة عندما كان ينقطع من أيدي آخر فلاسفة
 



اليونان، أعني أنهم بدؤوها حينما أخذ علماء المذهب الأفلاطوني الجديد يشرحون فلسفة أرسطو التي كانت

كتب أفلاطون تدرس وتشرح إلى جانبها؛ وظل الحرانيون هم وبعض الفرق الإسلامية زمناً طويلاً يدرسون
 


الآراء الأفلاطونية 4» . أي أنّ الأفلاطونية المحدثة آخر سلسلة من سلاسل الفلسفة اليونانية لعبت دوراً بارزاً


في إبقاء أرسطو وأفلاطون في فكر الفرق الإسلامية التي قامت بشرحه وتفسير عبارات ورفع القلق عنها.

والفكرة نفسها يعبّر عنها عبد الرحمن بدوي، وهو يقول: «ففي غربها )أي الحضارة الغربية( كانت

مدرسة الإسكندرية من أوائل القرن السابع ميلادي ما تزال تزدهر فيها علوم الأوائل وبخاصة الطب، وكان
 

من أواخر كبار رجالها يوحنا النحوي الذي كان من كبار شراح أرسطو، كما لعب دوراً في الدفاع عن
 

العقائد الدينية المسيحية ضد هجمات الفلسفة الوثنية المتمثلة في برقلس 485-412( proclus م(، ممّا أدى
إلى مجادلات بين الفلسفة والدين ستشهد أصداؤه وموازياته في الفلسفة الإسلامية 5» . فكأنّ الفلسفة الإسلامية

جاءت إمّا للرد على المذهب الإلحادي لبرقليس وتفنيد حججه حول قدم العالم، أو لتزكية رأيه والذود على

نظريته في قدم العالم، وبين النزعتين نزعة مالت للتوفيق بينهما، لتجمع بين الفلسفة اليونانية والشريعة

الإسلامية، ودعت لضرورة نفي تعارض العقل والنقل، إذ كلاهما حق ولا مجال لتنابذ الحق مع الحق.
 

وكتعبير يؤكد الموقفين السابقين ويثبت الحضور القوي لبرقلس في الفلسفة الإسلامية، نقف عند أهم

التراجم لنرى هل كان حاضراً فيها؟ وهذا يؤكد أنّه كان حاضراً في الفضاء العربي، إذ كتب التراجم كما هو

معروف كتب تؤرخ للحدث، أم لم يكن حاضراً؟.
 



-4 دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النشر مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الخامسة بدون تاريخ،
ص ص 41 و 42
-5 بدوي، عبد الرحمن: الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية، ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية الجزء 1، نشر المؤسسة العربية
للدراسات، الطبعة الأولى 1995 ، ص 5

 
أ- أول كتاب نبدأ به كتاب الفهرست لابن النديم )ت 385 ه - 995 م(، الذي يخبر عن ديدوخس برقلس

الأفلاطوني، فيصرح: «من أهل أطاطرية، له كتاب حدود أوائل الطبيعيات. كتاب الثماني عشرة مسألة

التي نقضها يحيى النحوي كتاب شرح قول فلاطن أنّ النفس غير مائتة ثلاث مقالات. كتاب الثالوجيا،
 
وهي الربوبية. كتاب الحيز الأول كتاب الجواهر العالية، مقالة. كتاب تفسير وصايا فيثاغورس الذهبية،

نحو مائه ورقة، ويوجد سرياني عمله لابنته، وكان ثابت نقل منه ثلاث أوراق، ثم توفي ولم يتممه. كتاب

برقلس، ويسمى ديادوخس، أي عقيب فلاطن، في العشر مسائل. كتاب الجزء الأول، كتاب المسائل العشر

المعضلات. كتاب الجزء الذي لا يتجزأ. كتاب في المثل الذي قاله فلاطن في كتابه المسمى غورغياس،
 

سرياني. كتاب تفسير المقالة العاشرة في السير، خرج سرياني، كتاب برقلس الأفلاطوني، الموسوم بسطو

خوسيس الصغرى. كتاب برقلس في تفسير فادن في النفس، سرياني، وقد نقل منه أبوعلي بن زرعة شيئاً
 
يسيراً عربياً 6» .



هل نقل برقلس كلّ هذه الكتب بالعربي أم فقط الأخير؟ وهل يقصد بالحيز الأول كتابه الخير الأول أو

الخير المحض؟ هذه الأسئلة لا يجيب عليها ابن النديم. رغم تطويله سلسلة كتب برقليس. والأهم أنّه أظهر

لنا جانباً مميزاً عن بعض كتب برقليس، وهو جانب ترجمة كتب له، اكتفى منها ابن النديم بإيراد المترجم
 

وهو أبو علي بن زرعة دون ذكر ما تمّت ترجمته. والملاحظة الثانية أنّ ابن النديم لم يلتفت لبعض الكتب

المنحولة على برقليس، وهي ليست له. هاته الملاحظات تدفعنا لنذكر كتباً أخرى للتراجم.
 

ب- نسوق الآن ما جاء عند القفطي ) 568 - 646 ه ��/ 1172 - 1248 م( في كتابه: إخبار العلماء بأنباء
الحكماء، يقول فيه عن برقلس: «ريدوخس أفلاطوني في أهل أطاطوية، وهو برقلس القائل بالدهر الذي

تجرّد للردّ عليه يحيى النحوي بكتاب كبير صنفه في ذلك وهو عندي ولله الحمد والمنة على كل خير، وذكر

يحيى النحوي في المقالة الأولى من الرد عليه أنّه كان في زمان دقلطيانوس القطبي، وكان برقلس متكلماً

عالماً بعلوم القوم أحد المتصدرين فيها. وله تصانيف كثيرة في الحكمة، منها كتاب حدود أوائل الطبيعيات.
 

وكتاب شرح أفلاطون أنّ النفس غير مائتة ثلاث مقالات. وكتاب الثاؤلوجيا وهي الربوبية. كتاب تفسير

وصايا فيتاغورس الذهبية. كتاب برقلس ويسعى ديادوخس أي عقيب أفلاطون في العشر المسائل. كتاب

في المثل الذي قاله أفلاطون في كتابه المسمى غوغياس سرياني. كتاب برقلس الأفلاطوني الموسوم باسطو

خوسيس الصغرى وغيرها. قال المختار بن عبدون بن بطلان الطبيب النصراني البغدادي إنّ برقلس هذا
 
كان من أهل اللاذقية وابن بطلان كثير المطالعة لعلوم الأوائل وكتبهم وأخبارهم غير متهم فيما ينقله 7» .
-6 الفهرست، مرجع سبق ذكره، ص 312 و 313 . التشديد منا.
-7 القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء: تحقيق وتصحيح السيد محمد أمين الخانجي الكتبي، دار الكتب الخديوية مصر، طبعة قديمة 1326 ه موافق
1908 م، ص 6


تتميز هذه الرواية بأنّها تذكر كتاب حجج برقلس في قدم العالم، وهذا الكتاب ذكره الشهرستاني
 
)ت 548 ه( 8، ثم تذكر خبراً على لسان ابن بطلان أنّ برقليس كان من أهل اللاذقية، وابن بطلان هذا طبيب
من أهل بغداد توفي سنة 455 ه، فكيف يمكن الثقة فيه وهو بعيد عن برقلس ثم هو بعيد عن مجال الفلسفة؟



والذي يحكي عن حياة برقلس أنّه درس في الإسكندرية ثم انتقل إلى أثينا دون أن يغادرها إلى وفاته. هذا

الخبر على صغر حجمه كفيل بالتشكيك في كل ما يورده القفطي من أخبار عن برقليس، خصوصاً أنّه جعل

ابن بطلان ثقة لا يرد له خبر.
 

ج- بعد هذا نبسط القول في كتاب ابن أبي أصيبعة ) 600 ه- 668 ه(، عيون الأنباء في طبقات الأطباء


الذي يذكر خبراً صغيراً عن برقلس حينما تحدث عن كتب أبي علي محمد بن زكرياء الرازي، يقول: ...«
 
كتاب الشكوك التي على برقلس 9» ، ويورد أيضاً خبراً آخر عنه وهو يتناول كتب يحيى النحوي، يقول فيه:
«... كتاب الرد على برقلس، ثماني عشرة مقالة 10» .



والخبران على اختزالهما يزيدان الأمر صعوبة واستشكالاً، فهما لا يؤكدان ولا ينفيان هل عرف الفكر

العربي برقلس؟ وهل ترجم للعربية؟ وكتاب الرد على برقلس ليحيى النحوي هل كان هو الداعي من وراء

كتابة زكرياء الرازي كتاب الشكوك التي على برقلس؟ ثم ماذا تناول برقلس في كتابه هذا؟ لا إجابة لابن
 

أبي أصيبعة، وكيف يجيب وهو لم يهتم في سيرته ببرقلس عكس سابقيه ولاحقيه بل مرّ عليه مرور الكرام،

وأورده بالعرض والقصد الثاني )كما يقول ابن باجة(.

د- والخبر الأطول والأقوى في كتب التراجم، المثبت لحقيقة معرفة الفكر العربي الإسلامي لبرقلس

خصوصاً معرفة حججه حول قدم العالم ثم الرد عليها وإثبات شبهها وبطلانها، وهذا يؤكد أنّ برقلس ظلّ

حياً داخل نسيج الفكر الإسلامي ومفاصله يناقش قدم العالم مع القائلين بحدوثه. لهذا صار لزاماً على كل قائل
 

بحدوث العالم تبكيت حججه وإثبات الشبهة فيها. وهو ما قام به الشهرستاني ) 476 ؟ 548 -ه( الذي عنون
نصه الطويل عن برقلس: بشبه برقلس. يقول فيه*: «شبه برقلس في قدم العالم أنّ القول في قدم العالم وأزلية

الحركات بعد إثبات الصانع والقول بالعلة الأولى إنّما ظهر بعد أرسطوطاليس، لأنّه خالف القدماء صريحاً

وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهاناً، فنسخ على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول
 
فيه، مثل الإسكندر الأفروديسي وثامستيوس وفرفريوس، وصنف برقلس المنتسب إلى أفلاطون في هذه

المسألة كتاباً وأورد فيه هذه الشبه، وإلا فالقدماء إنّما أبدوا فيه ما نقلناه سابقاً. الشبهة الأولى: قال الباري
 


-8 راجع كتاب الشهرستاني: الملل والنحل، حققه الأستاذ أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة 1313 ه- 1992 م،

ص 482 إلى 488
 
-9 ابن أبي أصيبعة، مرجع سبق ذكره، ص 425
-10 ابن ابي اصيبعة، مرجع سبق ذكره، ص 154


*- لن نورده كاملاً لطوله، يشرح فيه بصفة عامة حجج أو شبهه في قدم العالم وهي ثمانية، يمكن الرجوع إليها في كتاب الملل والنحل، للشهرستاني،

مرجع سبق ذكره، بداية من الصفحة 4
 
تعالى جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده، وجوده قديم لم يزل، فيلزم أن يكون وجود العالم قديماً لم يزل ولا

يجوز أن يكون مرّة جواداً ومرّة غير جواد، فإنّه يوجب التغير في ذاته فهو جواد لذاته بل من غيره وليس
 

لواجب الوجود لذاته حامل على شيء ولا مانع من شيء)...(، وممّا ينقل عنه في قدم العالم قوله لن يتوهم

حدوث العالم إلا بعد أن لم يكن فأبدعه الباري )تعالى( وفي الحالة التي لم يكن لم يخل من حالات ثلاث،

إمّا أنّ الباري )تعالى( لم يكن قادراً فصار قادراً وذلك محال لأنه قادر لم يزل، وإمّا أنّه لم يرد فأراد، وذلك

محال أيضاً لأنّه مريد لم يزل وإمّا أنّه لم يقتض الحكمة وذلك محال أيضاً لأنّ الوجود أشرف من العدم على

الإطلاق، فإذا بطلت هذه الجهات الثلاث تشابهاً في الصفة الخاصة وهي القدم على أصل المتكلم أو كان القدم
 
بالذات له دون غيره وإن كانا معاً في الوجود. والله الموفق 11» .



الملاحظ في هذا النص الطويل أنّه أورد ثماني شبه )حجج عن قدم العالم( رغم أنّ التراجم الأخرى مثل
 
ابن النديم تؤكد أنّها ثماني عشرة حجة 12 . بالإضافة إلى أنّ الشهرستاني يعتبرها شبهاً، رغم أنّه لم يرد ويبكت
أغلبها خصوصاً الأخيرة، يمكن الرجوع إليها، وهذا ربما يؤكد تأثره حتى لا نقول إعجاب الشهرستاني -

المعتنق لمذهب الأشعري الرافض للقول بقدم العالم - بحجج/ شبه برقلس. فهل عرف العرب- المسلمون

كتباً أخرى لبرقلس غير هذا الكتاب؟
 






تلقي كتاب «الخير المحض » في الفلسفة الإسلامية:
 
 

بعد طول المناقشة لظروف وحيثيات هذا الكتاب، يؤكد الدكتور عبد الرحمن بدوي أنّ هذا الكتاب

مستخلص من كتاب «عناصر الثاؤلوجيا » لبرقلس، استخلصه أحد تلامذته أو أحد رجال الأفلاطونية المحدثة

المتأخرين، ونسبه إلى برقلس نفسه. ثم يضيف: «بقيت مشكلة أخرى دون حل وهي: من الذي ترجمه إلى

العربية؟ ويغلب على ظننا أنه لا بدّ أن يكون أحد كبار المترجمين المتمكنين من اللغة العربية، ونتأرجح هنا

بين إسحق بن حنين وبين أبي عيسى بن زرعة، إذ أسلوبه أقرب إلى أسلوب كليهما. أمّا بالنسبة إلى الفارابي
 
فنستبعدها كما استبعدنا ابن داود المزعوم 13» .



يستخلص أنّ الكتاب منحول لبرقلس، وهو ليس له، وهنا موضع التشكيك لكنه يظل مجرد تخمين:

«ومهما أوتي المرء من براعة في التحليل الباطن للنصوص، فإنّ عمله الهائل هذا تحت رحمة أقل خبر

صحيح يأتي به مصدر تاريخي موثوق به. وكم من أبنية فيلولوجية رائعة بذل فيها بعض الباحثين ذكاء
 





خارقاً وجهداً هائلاً، ثم انهارت كلها دفعة واحدة بريح خبر تاريخي بسيط !)...( ندعو الباحثين ألا يسرفوا

في طريقة التحليل الباطن للنصوص من أجل معرفة مصدرها أو صاحبها الحقيقي، بل يتريثوا حتى تكشف
 



-11 الشهرستاني، مرجع سبق ذكره، ص ص 482 ، 488
-12 راجع الفهرست، مرجع سبق ذكره، ص 313
-13 الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره، ص 3

لهم الوثائق الجديد 14» . وإن اختلف الباحثون في نسبتها فقد توافقوا* على أنّها مأخوذة من كتاب «أتاؤلوجيا »



لبرقلس. فهل عرف فلاسفة الإسلام حقيقة هذا الكتاب )الخير المحض(؟ وهل أثر فيهم؟

سنجيب عن السؤال الأول، ثم نؤخر الجواب عن السؤال الثاني الذي سيطول الحديث فيه ويتشعب. إن

لم نقل إنّه موضع نظر وفحص مستشكل.
 

يورد ابن النديم في الفهرست خبراً يتيماً لانفراده به عن باقي التراجم التي بحثنا فيها** يقول موضحاً
كتب برقلس: «كتاب الحيز الأول » ويقصد به في نظر بدوي الخير الأول وهو الخير المحض لبرقلس 15 .



كما تأكد فيما سبق أنّه كتاب منحول لبرقلس، والظاهر أنّه مسكون بنَفَس برقلس. الأمر ذاته نجده عند عبد
 
اللطيف البغدادي )- 557 629 ه/ 1162 - 1231 م( من كتاب «في ما بعد الطبيعة » يبدأ نصه ب: «قال الحكيم
في كتاب )إيضاح الخير( 16» ، والمقصود بالحكيم أرسطو. يقول: «وهذا كله ممّا تعلمناه من أرسطو 17» .



يظهر أنّ البغدادي اشتبه عليه كتاب «الخير المحض » كما اشتبه على ابن النديم حين نسبه إلى برقلس وهو

منحول.
 
الأمر نفسه سيقع فيه ابن سبعين )ت 668 ه ��/ 1271 م( في كتابه المسائل الصقلية: «...فهذه حجته



ببراهين على قدم العالم بحسب رأي أرسطو أو بخلاف الرأي الصحيح، والذي أقوله إنّ الرجل كان في آخر
 
عمره أبصر وأكثر تحقيقاً من أوله كذلك يظهر من قوة كلامه في كتاب التفاحة والخير المحض 18» ، وهذا



اعتراف من صوفي رفض مقولات ابن رشد وتصدى لها معتبراً أنّها تقليد لأرسطو، بمدى قوة حجج برقلس

وحضورها في الساحة العربية، برغم ظنه الكتابين لأرسطو وهما منحولان عليه، ويستمر ابن سبعين في

القول: «أمّا جزء الفلسفة الإلهي فكتب فيه كتباً منها كتاب ما بعد الطبيعة وكتاب الخير المحض وكتاب
 

التفاحة وكتاب الوحدة وكتاب ثلوجيا 19» . من الرواية تنجلي حقيقة نسبة ابن سبعين دون تحرس ولا تثبت



لكتابين لأرسطو وهما ليس له: الخير المحض، وظهر أنّه ليس لأرسطو ثم كتاب ثلوجيا وهو من تاسوعات
 
أفلوطين 20 . المنحى نفسه سيذهب فيه ابن أبي أصيبعة عندما ينقل هذا الخبر-كتاب الخير المحض لأرسطو-
 
-14 الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره، ص 10

*- على الأقل فيما أخبر به بدوي في تمهيده الممتع في كتابه الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره.

**- نظرنا في كتاب ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، وكتاب كشف الظنون، لحاجي خليفة، الشهرستاني: الملل والنحل، ابن أبي أصيبعة

عيون الأنباء.
 

-15 الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره، ص 29
-16 البغدادي، عبد اللطيف يوسف: فيما بعد الطبيعة، مأخوذ من كتاب الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره، ص 248
-17 الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره، ص 254
-18 الأفلاطونية المحدثة، مرجع سبق ذكره، ص 255
-19 ابن سبعين: الكلام على المسائل الصقلية، حققه محمد شرف الدين يالتقايا، المطبعة الكاتوليكية بيروت 1941 ، بدون طبعة. ص 19 ، الفقرة 15
-20 راجع مقدمة كتاب: بدوي، عبد الرحمن: أفلوطين عند العرب، دار النشر مكتبة النهضة المصرية 1955 ، بدون طبعة، بداية من الصفحة 1


فيقول: «ولأرسطوطاليس أيضاً من الكتب ممّا وجدت كثيراً من غير الكتب التي شاهدها بطليموس )ذكرها
 
من قبل( كتاب الفراشة )...( كتاب إيضاح الخير المحض... 21» .



زيادة في إثبات انتحال الكتاب لأرسطو، تأكيد الشهرستاني بطريقة غير مباشرة أنّه «... طالعه من لم
 
يعرف طريقه )كان الحديث من قبل على ابن سينا( 22» . وبالفعل عند فتح كتب ابن سينا )- 370 428 ه/- 980
1037 م( لا نجد إلا ذكراً متواصلاً للشيخين والحكيمين أرسطو وأفلاطون ثم الفارابي، ولم يذكر - على الأقل

فيما طالعنا وكما أكد بدوي - برقلس من قريب أو من بعيد، رغم أنّه استعمل بكثرة مجموعة من مفاهيمه

وألفاظه الفلسفية، ووظفها في كتاباته مثل الخير الأول، الخير الأعلى، الخير المحض، الخير الحقيقي
 
المحض 23 ، والخير الأقصى 24 . يقول في الاتجاه نفسه: «... إنّ نفس الحركة ليست لأجل ما تحت القمر،
ولكن للتشبه بالخير المحض والتشوق إليه 25» . والقول هذا يبدو أنّه يؤكد معرفة ابن سينا تلميذ الفارابي غير
المباشر ) 260 - 339 ه/ 874 - 950 م( ببرقلس وتأثره بفلسفته رغم عدم ذكره له، وهذا لا يبطل تأثره، فكم
وجدناه لا يذكر في كتبه فلاسفة تأثر بهم. ورغم ذلك يحتاج منا القول السابق لكثير من التحوط والتحرس
قبل بحثه، خصوصاً أنّ هذا المجال ما زال «بكراً » لم يبحث، وهذا موضوع يحتاج لبحث وحده، وهذا ليس

مجال نظر هذا المقال. فهل أثر برقلس في فلاسفة الإسلام؟

 
 
أثر برقلس في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي)

لإبراز أثر برقلس، حتى لا نقول آثار برقلس على الفلسفة الإسلامية نقترح إظهار أثر مدرسة الإسكندرية


على الفلسفة الإسلامية، وبعد ذلك نبسط القول في أثر برقلس بشكل خاص على الفلسفة الإسلامية، نموذج
الفارابي.

أثر مدرسة الإسكندرية في الفلسفة الإسلامية:


أثر مدرسة الإسكندرية في الفلسفة الإسلامية بادٍ للعيان، ولكن كم حقيقة اختفت خلف الواضح بذاته؟
لتبقى مهمة الفلسفة هي كشف خفاء الواضح وتعريته. وهذا ما نصبنا أنفسنا للقيام به، لذلك نقترح عدة
نصوص نسوقها ونعلق عليها تثبت هذا الأمر، منها:


-21 ابن أبي اصيبعة، مرجع سبق ذكره، ص 105
-22 الشهرستاني، مرجع سبق ذكره، ص 486
-23 ابن سينا: النجاة في المنطق والإلهيات، حققه: الدكتور عبد الرحمن عميرة، دار الجيل- بيروت، الطبعة الاولى 1412 - 1992 م، ص 120
24 ابن سينا، مرجع سبق ذكره، ص 122
-25 ابن سينا، مرجع سبق ذكره، ص 12

 





حديث عبد الرحمن بدوي عن امتزاج الروح الشرقية بالروح اليونانية، في قوله: «فنحن نراها )أي
الحضارة الإسلامية( تأخذ العناصر الدخيلة على الروح اليونانية الخالصة، ونعني بها تلك العناصر الشرقية
التي مزجت بعناصر يونانية فكأنها لم تأخذ إذاً شيئاً ممّا يميز الروح اليونانية الحقيقية ويطبعها بطابعها
الخاص، وإنّما هي استعادت ما أخذته منها الروح اليونانية. وفي هذا تعليل واضح للنجاح الهائل الذي
لقيته الأفلاطونية المحدثة في العالم الإسلامي. فأرسطو اليوناني لم تستطع الروح الإسلامية أن تهضمه،
فاستعانت على هضمه بالأفلاطونية المحدثة التي هي مزيج، نصيب الروح الشرقية فيه أكبر من نصيب
الروح اليونانية. بل إنّ العلوم الشرعية نفسها، وخصوصاً الحديث، قد تأثر أعظم التأثر بهذه الأفلاطونية


المحدثة 26» . كلام خطير من بدوي إذ أثر الفلسفة اليونانية ممثلة في الأفلاطونية المحدثة لم يقتصر كما يظن





فقط على جانب الفلسفة بل امتد إلى علوم الدين، أي أنّ الفلاسفة الأفلاطونية المحدثة أثروا حتى في الفقهاء،
والأمر راجع إلى أنّهم وجدوا فيها روحهم.
المنحى نفسه سينحوه الدكتور علي سامي النشار، حينما يعتبر الفلاسفة المسلمين «عرفوا رجال المدرسة
)الإسكندرية( في أوائل القرن السابع، كأصطفن الإسكندراني، والطبيبين بولس الإجانيطي وأهرن، بل
عرف المسلمون منهج الدراسة في مدرسة الإسكندرية المتأخرة وتابعوا لفترة من الزمن هذا المنهج، ومن
الأمثلة على هذا دراستهم كتب المنطق الأرسططالي حتى آخر الأشكال الوجودية. فلم يكن يدرس من المنطق
في مدرسة الإسكندرية سوى ذلك. كما أنّ جوامع كتب جالينوس التي ألفت في العهد المتأخر من مدرسة


الإسكندرية هي نفسها التي وصلت إلى العرب وقاموا بدراستها 27» .





شهادة أخرى تثبت صدق ما انطلقنا منه وهو تأثر الفلسفة الإسلامية بصفة عامة بالأفلاطونية المحدثة،
وبصفة خاصة تأثرها ببرقلس كما سنبين بعد ذلك -، وتضيف شيئاً جديداً أنّ منهج المدرسة الإسكندرية
وطريقة تدريسها القائم على حفظ المتون وأمهات الكتب الفلسفية ثم تدارسها من طرف الطالب مع أستاذه،
ما زال قائماً في ذلك الوقت وحتى الساعة في الفلسفة الإسلامية في مساجدها وجوامعها، ولعله يظهر
بحق تأثرها العميق بمناهج التدريس في مدرسة الإسكندرية، وكي يتبدى بشكل أكبر ما قلناه نسوق نصاً
للقفطي يقول فيه: «والإسكندرانيون هم الذين رتبوا بالإسكندرية دار العلم، ومجالس الدرس الطبي، وكانوا


يقرأون كتب جالينوس ويرتبونها على الشكل الذي تقرأ عليه اليوم 28» . ويضيف النشار أيضاً: «ولم يتبين





الفلاسفة الإسلاميون المشاؤون حقيقة الاختلاف بين الآراء المشائية والآراء الأفلاطونية المحدثة. وبقي فهم


-26 بدوي، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، مرجع سبق ذكره، ص: ى، أى.
-27 النشار، علي سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الجزء الأول، دار المعارف - القاهرة، الطبعة التاسعة بدون تاريخ، ص 104





-28 نقلاّ عن كتاب: علي سامي النشار، مرجع سبق ذكره، ص 81
 
الإسلاميين لأرسطو مشوباً عامة بالأفلاطونية المحدثة. ولم يتخلص أرسطو من هذا اللبس إلا متأخراً، لدى
 
أكبر شراحه في العصر الوسيط وهو ابن رشد 29
 
 
ولو اكتفينا بهذه النصوص لظهر أثر المدرسة الإسكندرية من حيث المنهج وطريقة التدريس، يضاف
لما سبق الأفكار التي تلبست بأرسطو ودخلت عن طريقه في العديد من الكتب المنحولة. ولم ينجُ منها إلا
ابن رشد الذي «اشتم » فيها غير رائحة أرسطو فتشكك في أمرها وأعرض عنها. أمّا الفارابي وابن سينا
فقد خلطا بين أفلاطون وأرسطو بشكل واعٍ، وأضافا بشكل «لا واعٍ » أفلوطين، فخاضا في قضاياها وناقشا
 
إشكالاتها وانفتحا على مسائلها وتأثرا بفلاسفتها، وعلى رأسهم برقلس proclus فكيف حصل هذا التأثر؟
 
 
ما أوجهه وما أبعاده؟.
 
نبدأ القصة من الفارابي ممّا يحكيه المسعودي ) 283 - 346 ه/ 896 - 957 م( عن انتقال الفلسفة إلى لحظة
 
 
بلوغها العرب في شخص الفارابي، يقول بعد شرحه المقصود بالفلسفة وبيانه أقسامها الأولى والثواني
يتساءل: «ولم قسمت بهذه القسمة وجرت قسمتها هذا المجرى؟ ولأيّة علة ابتدئ بالفلسفة المدنية من سقراط
ثم أفلاطون ثم أرسطاليس ثم ابن خالته تاوفرسطس ثم أوذيمس، ومن تلاه منهم واحداً بعد آخر، وكيف انتقل
مجلس التعليم من أثينة إلى الإسكندرية من بلاد مصر، وجعل أوغسطس الملك لما قتل قلوبطرة الملكة التعليم
بمكانين الإسكندرية ورومية، ونقل تيدوسيوس الملك الذي ظهر في أيامه أصحاب الكهف التعليم من رومية،
ورده إياه إلى الإسكندرية؟ ولأي سبب نقل التعليم في أيام عمر بن عبد العزيز من الإسكندرية إلى أنطاكية،
ثم انتقاله إلى حران في أيام المتوكل؟ وانتهى ذلك في أيام المقتدر وإبراهيم المروزي، ثم إلى أبي محمد بن
كرنيب وأبي بشر متى بن يونس تلميذي إبراهيم المروزي، وعلى شرح متى لكتب أرسطاليس المنطقية
يعول الناس في وقتنا هذا، وكانت وفاته ببغداد في خلافة الراضي، ثم إلى أبي نصر محمد بن محمد الفارابي
 
تلميذ يوحنا بن حيلان، وكانت وفاته بدمشق في رجب سنة 339 ه 30» .
 
 
يواصل في المنحنى نفسه ابن أبي أصيبعة، عندما يقول: «وحكى أبو نصر الفارابي في ظهور الفلسفة
ما هذا نصه قال: إنّ أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين، وبعد وفاة أرسطوطاليس بالإسكندرية إلى
آخر أيام المرأة.. وأنّه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكاً، وتوالى في مدة ملكهم
من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلماً أحدهم المعروف بأندونيقوس. وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة )هل يقصد
كليوبطرة؟( فغلبها أوغسطس الملك من أهل رومية، وقتلها واستحوذ على الملك. فلما استقر له نظر في
 
-29 علي سامي النشار، مرجع سبق ذكره، ص 110 . يعتمد النشار في هذا الموقف على دي بور، وقد أورد له عدة مقولات تبين الفلاسفة المشائين
 
 
)الفارابي، ابن سينا...( مقلدين لأرسطو حتى صورهم لم يتخلصوا من رقبتهم رغم إحساسهم ببعض الكتب المنحولة له كما وقع مع الفارابي في كتاب
ثالوجيا، يقول دي بور، في المرجع نفسه الذي سبق ذكره: "وظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام انتخابية عمادها الاقتباس ممّا ترجم من كتب الإغريق"
 
ص 50
-30 المسعودي، أبي الحسن علي بن الحسين: التنبيه والإشراف، حققه: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي للطبع والنشر- القاهرة، بدون طبعة،
ص ص 105 ، 1
 


خزائن الكتب وصنعها، فوجد فيها نسخاً لكتب أرسطوطاليس قد نسخت في أيامه وأيام تاوفرسطس، ووجد
المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتباً في المعاني التي عمل فيها أرسطو. فأمر أن تنسخ تلك الكتب التي كانت
نسخت في أيام أرسطو وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي. وحكم أندرونيقوس في
تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نسخاً يحملها معه إلى رومية ونسخاً يبقيها في موضع التعليم بالإسكندرية؛ وأمره
أن يستخلف معلماً يقوم مقامه بالإسكندرية ويسير معه إلى رومية، فصار التعليم في موضعين وجرى الأمر
على ذلك إلى أن جاءت النصرانية فبطل التعليم من رومية، وبقي بالإسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية
في ذلك، واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا التعليم وما يبطل. فرأوا أن يعلم من كتب المنطق
إلى آخر الأشكال الوجودية، ولا يعلم ما بعده، لأنهم رأوا أنّ في ذلك ضرراً على النصرانية، وأنّ فيما أطلقوا
تعليمه ما يستعان به على نصرة دينهم فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار، وما ينظر فيه الباقي مستوراً إلى
أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية، وبقي زمناً طويلاً إلى أن بقي
معلم واحد فتعلم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حران والآخر من أهل مرو. فأمّا
الذي من أهل مرو فتعلم منه رجلان أحدهما إبراهيم المروزي والآخر يوحنا بن حيلان. وتعلم من الحراني
إسرائيل الأسقف وقويري وسار إلى بغداد فتشاغل إبراهيم بالدين، وأخذ قويري في التعليم، أمّا يوحنا بن
حيلان فإنه تشاغل أيضاً بدينه وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها. وتعلم من المروزي متى بن
يونان )متى بن يونس()...( وقال أبو نصر الفارابي عن نفسه إنّه تعلم من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب
البرهان )...(، وكان )الفارابي( أخذ الصناعة عن يوحنا بن حيلان ببغداد )...( وتعلم أبو المبشر متى من

 

إبراهيم المروزي )...( وكان يوحنا بن حيلان وإبراهيم المروزي قد تعلما جميعاً من رجل من أهل مرو 31» .
 
 
ما يستخلص بشكل سريع من الروايتين:
 
1 التعليم انتقل من الإسكندرية إلى أنطاكية فبغداد، وهذا ما أكده مايرهوف 32 .
2 الكتب الأرسطية وصلت إلى بغداد بعد تضيق الكنيسة عليها رغم عدم موافقة مايرهوف على هذا
 
 
الرأي.
 
3 تبقى معلم واحد )؟( انتقل من الإسكندرية إلى أنطاكية فتعلم منه رجلان حملا الكتب )هل كتب
 
 
أرسطو أم كتب مدرسة الإسكندرية؟( أحدهما من مرو تعلم منه إبراهيم المروزي أستاذ أبي بشر متى بن
يونس أستاذ الفارابي في المنطق، وتعلم منه أيضاً يوحنا بن حيلان الذي لا نعرف عنه شيئاً، وهو أستاذ
الفارابي. يبدو من هذا الكلام النتيجة الرابعة.
 
31ـ ابن أبي أصيبعة، مرجع سبق ذكره، ص 604 ، 605 ، بحثنا عن شخصية يوحنا بن حيلان عند ابن النديم، وابن أبي أصيبعة، والققطي لم نجد له ذكراً.
32ـ راجع مقالة مايرهوف، ضمن كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، مرجع سبق ذكره ص 37، 100
 
4 أثر يوحنا بن حيلان وأبو بشر متى بن يونس على الفارابي، والأولان أستاذهما الأعلى من مدرسة
 
 
الإسكندرية، ولتأكيد هذه النتيجة وقفنا عند نصوص للفارابي يبدو فيها متأثراً ببرقلس إمّا في الحديث عن
الخير المحض أو العلة الأولى والتي من سماتها القدم.
 
1-2 : النظام الكسمولوجي.
سنرى كيف رتّب كلٌّ من الفارابي وبرقليس الكون، ثم ننظر في صحة القول بتأثير برقليس في
الفارابي.
- يقول الفارابي: «فالأول يعقل ذاته بوجه ما هي الموجودات كلها، فإنّه إذا عقل ذاته فقد عقل بوجه ما
 
الموجودات كلها، لأنّ سائر الموجودات إنّما اقتبس كل واحد منها الوجود عن وجوده 33» . ليعقل العقل الأول
 
 
الموجودات دون ذاته يكفي أن يعقل ذاته، إذ عنها خرجت الموجودات هو شرطها الشارط. هي في حاجة له
وهو مستغن عنها. لعل هذا ما يسمى باقتصاد تعقل الوجود. يكفي تعقل الموجود الأول «العقل الأول » لذاته
ليعقل الموجودات الأخرى المنبثقة عنها. بينما هي في مسيس الحاجة لعقل العقل الأول من جهة فيضها عنه
)نشأتها عنه(، ثم عقل ذاتها من جهة تبعيتها في استمرار وجودها له.
- يقول برقلس: «كل عقل )بالفعل( فإنّه يعقل ذاته، وذلك أنّه عاقل ومعقول معاً. فإذا كان العقل عاقلاً
ومعقولاً، فلا محالة أنّه يرى . )فإذا رأى ذاته( علم أنّه عقل يعقل ذاته. فإذا علم ذاته علم سائر الأشياء التي
تحتله لأنّها منه، إلا أنّها فيه بنوع عقلي. فالعقل والأشياء المعقولة واحدة. وذلك أنّه إن كان جميع الأشياء
المعقولة في العقل، والعقل يعلم ذاته، فلا محالة إذا علم ذاته علم سائر الأشياء. وإذا علم سائر الأشياء علم
 
ذاته 34» . النظام الكسمولوجي يفرض أنّ الأدنى في حاجة - لتعقل ذاته - إلى عقل الأعلى منه، ثم تعقل ذاته
 
 
من جهة أنّه سبب وجوده. بينما الأعلى في حاجة فقط إلى تعقل ذاته التي ينتج عنها ضمناً تعقل كل ما هو
متسفل عنه. وهنا يبرز بوضوح استمرار نفس برقليس الأنطلوجي في تفكير الفارابي. الأمر الذي يعجل بنا
لمتابعة النصوص ومقارنتها من عدة زوايا، منها:
 
2-2 : صفات الأول )العلة الأولى(
- صفات الأول عند الفارابي لا نقص فيه ولا يحتاج إلى ذات أخرى تعلمه أي تحوله من حال إلى حال،
 
وهو حكيم «فإنّ الحكمة هي أن يعقل أفضل الأشياء بأفضل علم 35» ، ولا ضد له أو شبه «فإذن لم يمكن أن
 
 
يكون موجوداً ما في مرتبة وجوده، لأنّ الضدين هما في رتبة واحدة من الوجود. فإذن الأول منفرد بوجوده
 
-33 الفارابي، أبو نصر، كتاب السياسة المدنية، نسخة إلكترونية عن موقع com.mostafa-al . ص 3
-34 برقلس، كتاب الخير المحض، نقلاً عن الأفلاطونية المحدثة، مصدر سبق ذكره، ص ص 14 ، 15
-35 كتاب السياسة المدينة، مرجع سبق ذكره ص 8
 
لا يشاركه شيء آخر أصلاً في نوع وجوده فهو إذن واحد 36» . إذ لو كان له ضد لما كان بمقدوره أن يوجد
 
 
وجوداً متفرداً، بل لوجد وجوداً معوياً يشترط بقاء ضده ليبقى مثل الحال عند الصحة والمرض أو الموت
والحياة، يستلزم أحدهما الأخر. الأولية تفترض غياب الضدية. ويضيف أيضاً: «ولا يمكن أن يكون شيء
هو أصلاً في مرتبة وجوده ولا نظير له ولا ضد، وإلى أول لا يمكن أن يكون قبله أول. وإلى متقدم لا يمكن
أن يكون شيء أقدم منه، وإلى موجود لا يمكن أن يكون استفاد وجوده من شيء أصلاً، وأنّ ذلك الواحد هو
 
الأول والمتقدم على الإطلاق وحده 37» ...، من أبرز صفات الأول كما بينها الفارابي أنّه واحد، عالم، حكيم،
 


يفيض عنه وجود الموجودات، ثم قديم.
- أمّا عند برقلس فصفات الواحد أو العلة الأولى، فهي: «العلة الأولى مستغنية بنفسها وهي الغناء
الأكبر؛ والدليل على ذلك وحدانيتها لأنّها لا وحدانية مبثوثة فيها، بل هي وحدانية محضة لأنّها بسيطة في
غاية البساطة. )...( فذلك الشيء هو الغناء الأكبر، يفيض ولا يفاض عليه بنوع من الأنواع، فأمّا سائر
الأشياء - عقلية كانت أو حسية - فإنّها غير مستغنية بأنفسها، بل تحتاج إلى الواحد الحق المفيض عليها
 
 
بالفضائل وجميع الخيرات 38» . الوحدانية من خصائص الأول بل اشتق اسمه، ودليل وحدانية الأول بساط
 
 
 
مكوناته وغياب الضد عنها مع ما يقتضيه من تعالق وتخارج. ويضيف في إثبات صفة العلم: «كل عقل إلهي
فإنّه يعلم الأشياء بأنّه عقل، ويدبرها بأنّه إلهي. وذلك أنّ خاصة العقل العلم، وإنّما تمامه وكماله بأن يكون
 

عالماً 39» . العلم تمام الذات والجهل نقصها. يأخذنا برقليس للاستنتاج ضمنياً أنّ الأول لما كان تاماً، وإلا
 
 
 
سقطت أوليته، كان عالماً يعلم ذاته فيعلم ما فاض عن تلكم الذات من موجودات. وعن فيضان العلة الأولى
يقول: «فأمّا المفيض فواحد غير مختلف، يفيض على جميع الأشياء الخيرات بالسواء، فإنّ الخير يفيض على
 
 

جميع الأشياء من العلة الأولى بالسواء 40» . الأول تفيض عن أوليته الموجودات المترتبة بحسب القرب أو
 
 
البعد عنه بالثانية والثالثة....، ومن شرائط الفيض أن يفيض الأول بالخير، فهو خير محض، وهاته خاصية
أخرى تنضاف لخصائصه.
- عن الجوهر يؤكد الفارابي: «أمّا الجواهر غير الجسمانية، فليس يلحقها شيء من النقص الذي يخص
الصورة أو المادة )...( فإنّ كلّ واحد منها قوامه لا في موضوع، ووجود كلّ واحد منها لا لأجل غيره )...(،
 
 

ولا به حاجة إلى أن يزيد وجوداً يستفيد في المستقبل بفعله في غيره، أو بفعل غيره فيه 41» . منه يظهر أنّ
 
 
الجوهر قائم الذات ومستقلها. يؤثر ولا يتأثر، يفعل ولا ينفعل، يتقدم ولا يتأخر.

 

-36 كتاب السياسة المدينة، مرجع سبق دكره، ص 42
-37 الفارابي، كتاب إحصاء العلوم، تحقيق الدكتور علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى 1996 ، ص 76
-38 كتاب الخير المحض، نقلاً عن الأفلاطونية المحدثة، مصدر سبق ذكره، ص 22
-39 كتاب الخير المحض، نقلاً عن الأفلاطونية المحدثة، مصدر سبق ذكره، ص 23
-40 كتاب الخير المحض، نقلاً عن الافلاطونية المحدثة، مصدر سبق ذكره، ص 24
-41 كتاب السياسة المدنية، مرجع سبق ذكره ص 5
 
- يقول برقلس في الاتجاه نفسه إنّ «كل جوهر قائم بذاته فهو غير مكون )من شي آخر( )...( فقد
 
وضح إذن أنّ كل جوهر قائم بذاته ليس بمكون من شيء آخر 42» . والقيمومة بالذات حتى لا نقول القيوم
 
 
تعني الاستقلالية والانفصال عن كل تأثير مفترض. ويزيد في إثبات صفات الجوهر التي أكدها الفارابي آنفاً
 
بالتصريح: «فقد بان ووضح أنّ كل جوهر قائم بذاته لا يبيد ولا يفسد 43» . بمعنى أنّ الجوهر قديم غير قابل
 
 
للكون )النشأة( والفساد )العدم(. كما يثبت للجوهر صفة أخرى قال بها سابقاً الفارابي، يقول: «كل جوهر
قائم بنفسه، أعني بذاته، فإنّه مبتدع بلا زمان، وهو في جوهريته أعلى من الجواهر الزمانية )الموجودات
الجسمانية عند الفارابي( )...(، فقد وضح أنّ كل جوهر قائم بذاته إنّما ابتدع بلا زمان، وأنّه أعلى وأرفع من
 
الزمان ومن الأشياء الزمانية 44» .
 
 
- عند الفارابي لا نمرّ من نوع من الوجود إلى نوع آخر إلا عبر وسائط تسمح بهذا المرور، ويقصد
هنا العقل الحادي عشر الذي عقل نفسه، فخرج عنه الوجود الحسي عالم الكون والفساد، فهو من هذه الجهة
صورة للعالم الحسي، ولكنّه من جهة ما يعقل الأول فهو مادة له، وما يخرجه من القوة إلى الفعل إنّما هو
العقل الفعال الذي يمثل واسطة. أمّا في عالم الكون والفساد فإنّنا نمرّ عبر وسائط مثل الخيال الذي يتسلم
الصور والرسومات من الحواس فهي مادة له وهو صورة لها، ثم يمدها إلى العقل المستفاد الذي هو صورة
له ومادة للعقل الفعال، إذن هو واسطة )أي الخيال( بين الحواس والعقل. فكذلك العقل الحادي عشر الواسط
 
بين الجواهر فوق زمانية والزمانية 45 .
 
 
- يقول برقلس: «وأمّا الجواهر المنقطعة عن الزمان فإنّها لا تشبه الجواهر الدائمة التي فوق الزمان
بجهة من الجهات. فإن كانت لا تشبهها، فإنّها لا تقدر أن تتناولها ولا تماسها. فلا بدّ إذن من جواهر تماس
الجواهر الدائمة التي فوق الزمان، فتكون مماسة الجواهر المنقطعة عن الزمان فتجمع بحركتها بين الجواهر
الزمانية المنقطعة عن الزمان وبين الجواهر الدائمة التي فوق الزمان؛ وتجمع بدوامها بين الجواهر التي فوق
الزمان وبين الجواهر التي تحت الزمان، أعني الواقعة تحت الكون والفساد، وتجمع بين الجواهر الفاضلة
 
وبين الجواهر الجسمية، لئلا تعدم الجواهر الفاضلة فتعدم كل حسَن وكل خير 46» . واضح دور الواسطة
 
 
التي تجمع بين عالمين مختلفين في التكوين والحركة والعناصر متبايني النظام، نقصد عالم الجواهر فوق
الزمان وعالم الجواهر تحت الزمان، فالفوق والتحت يحيل إلى أنّ هناك السطح الذي يلعب دور المقرب
الواسطة لكن يشترط فيه الحياد. يبين برقليس بشكل أكبر هويّة هذا الوسط المحايد، فيعلن: «إنّه بين الشيء
 
-42 الخير المحض، مصدر سبق ذكره، ص 25
-43 الخير المحض، مصدر سبق ذكره، ص 26
-44 الخير المحض، مصدر سبق ذكره، ص 29
-45 راجع كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، للفارابي، الفصل العاشر حققه: الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق ببيروت، لبنان، الطبعة الثانية
 
 
بدون طبعة.
 
-46 الخير المحض، مصدر سبق ذكره، ص 29
 
 


الذي جوهره وفعله من حيز الدهر، وبين الشيء الذي جوهره وفعله من حيز الزمان، موجود متوسط وهو

الذي جوهره من حيز الدهر وفعله من حيز الزمان 47» . الملاحظ أنّه يحدد هذا الوسيط بصفاته لأنّه ليس


جوهراً، فلو كان جوهراً لكان إمّا من جنس الزمان المتناهي أو الدهر اللامتناهي، الأمر الذي لا يضمن
حياده ووسطيته، لذا قرر أنّه يشارك الزمان في زمنيته ويفارقه بدهريته، ويقاسم الدهر في دهريته وينفصل
عنه في زمنيته، هو أشبه ما يكون بزمان دهري أو دهر زماني لو صح القول. وهي الخصائص نفسها التي
نجدها عند العقل الحادي عشر من عقول نظرية الفيض عند الفارابي.
- الفارابي يعنون الفصل السابع من كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة ب: «القول في كيفية صدور

جميع الموجودات عنه » عن طريق نظرية الفيض 48 . فصل يشرح فيه نظرية الفيض بكثير من التفصيل،


ويبين كيف خرجت الكثرة من الوحدة دون أن يؤدي لتكثر الوحدة ولا لتوحد الكثرة، يحافظ للطرفين على
خصائصه الذاتية.
- أمّا برقلس فيقول: «العقول الأول تفيض على العقول الثواني الفضائل التي تنال من العلة الأولى
وتنسك الفضائل فيها إلى أن تبلغ آخرها. والعقول العالية الأولى التي تلي العلة الأولى تؤثر الصور الثابتة
القائمة التي لا تؤثر فلا تحتاج إلى إعادتها مرة أخرى )...( وإنّما كثرت الأنفس بالنوع الذي به تكثرت
العقول )...( فالأنفس التي تلي العقل تامة كاملة ]قليلة الميل والزوال[. والأنفس التي تلي )الأنية( سفلاً هي
في التمام والميلان دون )الأنفس( العالية. والأنفس العالية تفيض الفضائل، التي تقبل من العقل، على الأنفس

)السفلية( 49» .


- يتحدث الفارابي عن الفيلسوف كمدبر للمدينة يكفي توفره على شروط تخصّ الجسد والنفس، وفضيلة
الفيلسوف التي وهبته حكم المدينة تتجلى في قدرته على استخدام العقل، لذلك هو رئيسها كما يترأس القلب
الجسد.
- ولعل الأمر نفسه يتحدث عنه برقلس القائل: «... فالعقل إذن رئيس جميع الأشياء التي تحته وممسكها

ومدبرها، كما أنّ الطبيعة تدبر الأشياء التي تحتلها 50» . يوازي برقليس بين النظام الطبيعي بقوانينه وسنن


الخاضع فيها الأدنى والأخس والأضعف للأرقى والأشرف والأقوى. وكما يفسد النظام الطبيعي بتغير
مجراه وتعطل قوانينه )لو كان بالإمكان تعطلها(، فكذلك تفسد المدينة وتعمها الفوضى حينما يحكم من هم

-47 الخير المحض، مصدر سبق ذكره، ص 30
-48 كتاب آراء المدينة الفاضلة، مرجع سبق ذكره ص 55
-49 كتاب الخير المحض، سبق ذكره، 8
-50 الخير المحض، مصدر سبق ذكره، ص 12
 
ليسوا بأهل للحكم. وقديماً قالها أفلاطون في جمهوريته عند مناقشته للعدالة، فجعلها بقيام كل فرد لدوره
ووظيفته على أحسن وجه، وبحسب انتمائه لكل طبقة اجتماعية.
 
مبتدأ القول:
 
 
هل هذه التشابهات والتماثلات جزء من المصادفة أم من وحي خيال مريض بمطابقة الأشخاص أم مجرد
لي للنصوص؟ ربّما، لكن لنتتبع الأمر. فلو كان مصادفة لما وجدنا النصوص تتشابه أكثر من مرّة ويحيل
بعضها لبعض، ثم ما القول في المفاهيم التي تتكرر في نص الفارابي محيلة إلى نص برقلس، وما القول في
 
اعتقاد الفارابي ودفاعه عن قدم العالم حتى كفر؟ 51 ، وكيف نفسّر نظرية الفيض وصدور الموجودات عن
 
 
الواحد خصوصاً إذا علمنا أنّ الفارابي ظنّ عدة نصوص لأرسطو وهي ليست له ك «أتالوجيا »، وأحسّ
 
بذلك لكن استبعد احتمال انتحالها 52 . وإن استبعدنا كلّ هذه الفرضيات، ماذا نقول عن كون الفارابي درس
 
 
عند يوحنا بن حيلان وهذا تلميذ لمعلم من مرو خرج من أنطاكية بكتبه، وفي وقتها كانت أنطاكية متشبعة
بفكر مدرسة الإسكندرية؟
أمّا الافتراض الثاني )خيال مريض( فالأمر مستبعد، لأنّنا أحضرنا عدة نصوص تثبت صدق نية البحث
والتحري والتقصي ويبقى الافتراض الأخير وهو مردود عليه، إذ دور الباحث في الفلسفة هو إخراج التراث
من الخزانات ثم جعله حيّاً في أوساطنا والاستفادة منه. وفي هذا الإطار يقول الدكتور محمد عابد الجابري:
«إنّه علينا أن نجتهد ونجاهد في أن نعيش بوجداننا وعقولنا الإشكالية نفسها التي عاشها الفارابي وحاول فك
 
رموزها، إذا نحن أردنا النفاذ إلى عمق تفكيره وآفاق رؤيته 53» . وهذا ما ظنننا حاولنا فعله، فهل وفقنا أم لا؟
 
 
وهل بلغنا ما نصبو إليه؟.
 
-51 الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، بدون طبعة. يقول الغزالي: "وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الاسلام
 
 
"الفارابي أبو نصر" و"ابن سينا"، فنتقصرعلى إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذهب رِؤسائهم في الضلال، فإنّ ما هجراه واستنكفنا من المتابعة
 
فيه لا يتمادى في اختلاله، ولا يفتقر إلى نظر طويل في إبطاله، فليعلم أنا مقتصرون على رد مذهبهم بحسب نقل هذين الرجلين" ص 63 ، 64 . يبدو
 
 
تأثر الغزالي بحجج يحيى النحوي بشكل واضح، وقد أورد مجموع حجج برقلس رغم رفضها فلا يستبعد تأثره بها، وهذا بحث وحده.
 
-52 راجع كتاب الفارابي: الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطاليس، مرجع سبق ذكره، ص 105
-53 الجابري، محمد عابد: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة 1993 ، ص 57
 
المصادر:
 
 
- دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار النشر مكتبة النهضة المصرية، الطبعة
الخامسة بدون تاريخ.
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق الدكتور نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت، بدون
طبعة.
ابن النديم: الفهرست، تحقيق تجدد، نسخة إلكترونية بدون طبعة.
ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، حققه الدكتور إحسان عباس، دار صادر بيروت، بدون طبعة.
ابن سبعين: الكلام على المسائل الصقلية، حققه محمد شرف الدين يالتقايا، المطبعة الكاتوليكية بيروت 1941 ، بدون طبعة.
 
- ابن سينا: النجاة في المنطق والإلهيات، حققه: الدكتور عبد الرحمن عميرة، دار الجيل- بيروت، الطبعة الأولى - 1412
1992 م.
- الشهرستاني: الملل والنحل، حققه الأستاذ أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1313 ه -
1992 م.
 
الغزالي، أبو حامد، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، بدون طبعة.
- الفارابي، أبو نصر: آراء أهل المدينة الفاضلة، حققه: الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق ببيروت، لبنان، الطبعة الثانية،
بدون سنة الطبع.
الفارابي، أبو نصر: كتاب إحصاء العلوم، تحقيق الدكتور علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى 1996 .
 
الفارابي، أبو نصر: كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس، تحقيق: الدكتور ألبير نصري نادر،
دار المشرق بيروت - لبنان، الطبعة الثانية بدون سنة.
القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء: تحقيق وتصحيح السيد محمد أمين الخانجي الكتبي، دار الكتب الخديوية مصر، طبعة
قديمة 1326 ه موافق 1908 م.
 
المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: التنبيه والإشراف، حققه: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي للطبع والنشر
- القاهرة.
مقال مايرهوف: من الإسكندرية إلى بغداد. من كتاب عبد الرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دار النشر
مكتبة النهضة المصرية.
المراجع:
 
 
بدوي عبد الرحمن «أفلاطونية المحدثة عند العرب »، الناشر وكالة المطبوعات شارع فهد السالم الكويت، الطبعة الثانية
1977
بدوي، عبد الرحمن: أفلوطين عند العرب، دار النشر مكتبة النهضة المصرية 1955 ، بدون طبعة.
بدوي، عبد الرحمن: الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية، ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية الجزء 1، نشر
المؤسسة العربية للدراسات الطبعة الأولى 1995
الجابري، محمد عابد: نحن والتراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة 1993
 
خليفة، حاجي: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حققه الأستاذان محمد شرف الدين يالتقيا ورفعت بلكيه الكلسي، دار
إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.
النشار، علي سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الجزء الأول، دار المعارف -القاهرة، الطبعة التاسعة بدون تاريخ.
 
 
 
 
 
 
 
 

 




ليست هناك تعليقات: