الأحد، 24 مارس 2019

مولد الحداثة [في القرن العشرين]؛ كريستيان دو لا كامبانيْ.





(عن كريستيان دو لا كامبانيْ: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ترجمة حسن أحجيج)


مع الملاحظة بأن الحداثة التي يقصدها دو لا كامبانيْ هي تلك التحولات النظرية الكبرى التي شهدتها بدايات القرن العشرين.

[تمفصلات]

أود منذ البداية البرهنة على أن الربع الأخير من القرن التاسع عشر يشكل بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة بداية "قطيعة" ما زلنا نعيش في شرَك نتائجها. (ص 8)

مقدمة: مولد الحداثة.
سوف يحصل القرن العشرون من لائحة جوائز التاريخ على الجائزة الكبرى في الرعب عن جدارة واستحقاق، وسيكون البحث عبثاً، إذ لم يشهد أي عصرٍ آخر اقتراف مثل هذا القدر من الجرائم على مستوى كوكبنا. إنها جرائم جماهيرية طُبِّقت على نحو عقلاني وبرباطة جأش..
ومع ذلك، كانت انطلاقة هذا القرن جيدة قبل أن تتحول إلى مأساة، إذ كانت هناك بدايات تنبئ بالخير، وكانت تلك البدايات دوافع حقيقية إلى التفاؤل بالنسبة إلى أوروبا التي بلغت أوج قوتها بين 1880 و1914.
ألم تعش أوروبا خلال السنوات الثلاثين التي سبقت الحرب العالمية الأولى عصراً ذهبياً حقيقيا؟ فقد كانت تهيمن على بقية العالم عسكرياً واقتصادياً، وكانت تعتقد أنها تشهد عهد انتصار الفكر الأنواري بفضل تقدم التكنولوجيا والطب والتربية. وفي الوقت نفسه، دخلت بفضل طليعتها من المفكرين والمبدعين عهداً جديداً هو عهد "الحداثة" الذي أعلنت عن مجيئه التغيرات العميقة التي مسّت النظام الثقافي. ولتقييم هذه التغيرات يتعيّن علينا أن نتذكر أن الإنتاجات الفنية والمعرفية لم تكن تُعد منذ عصر النهضة إلى نهاية القرن التاسع عشر مجرد بناءات ذهنية، وإنما تمثيلات وفيّة للواقع الذي يسبقها في الوجود. كانت الآلية التي تتولد وفقها هذه التمثيلات بدون شك موضوعاً لتحليلات متنوعة جداً كانت تعترض أحياناً على السمة "الطبيعية" لهذه التمثيلات، لكنّ مثل هذه النزعات الشكية تظل مع ذلك معزولة. أما معظم الذين تساءلوا حول تمثلاتنا، فإنهم يرون أن علاماتنا صادقةٌ ولغاتِنا حقيقية، وعقلنا متوافق جداً مع العالم. (ص 11)
بدأت هذه العقائد التي سادت مدة طويلة تفقد تدريجياً هيمنتها انطلاقاً من سنة 1880. إذ ارتبطت هذه العقائد بفكرة عن الكون لم تتغير منذ ثلاثة قرون، ووجدت هذه الفكرة والعقائد نفسها أخيراً عرضةً للتساؤل. وظهرت مجموعة من الأسئلة كانت مكبوتة حتى ذلك الحين: هل لعلاماتنا أساس خارج ذهننا؟ هل القوانين التي تنظّم هذه العلامات هي القوانين الممكنة الوحيدة؟ هل من المؤكد أنها تعكس شيئاً آخر غير اختيارات ذاتية أو معايير ثقافية؟ وبدأ كثير من العلماء والفنانين والفلاسفة يشككون فيها لأسباب متعددة. لكن إذا كان الكثير منهم يعتقدون أنّ تطلّع لغاتنا إلى قول الحقيقة ليس إلا وهماً، فإنهم بالمقابل شغفوا بالعلامات نفسها التي تربح على مستوى السرية ما تفقده على مستوى الشفافية. وينطبق الشيء نفسه على آلية التمثل التي أصبحت في سنوات قليلة موضوع تأملات مدمرة.
يتعلق الأمر إن شئنا بـ "أزمة" معيشة كإغناء، وإلى حدٍ بعيد كتحرر. ذلك أنه إذا لم يكن منطق التمثل في معناه الكلاسيكي سوى بناءٍ ذهني، وليس تعبيراً عن بنية "طبيعية" وثابتة، فإن من الممكن وجود أنماط بنائية أخرى، ويمكن تصور استعمالات أخرى للعلامات وإقامة قواعد لعب أخرى. وعلى هذه القواعد أن تمكّن بدورها من استكشاف مناطق جديدة، وذلك بقدر التعطش إلى التوسع الذي هيمن على أوروبا في كل الميادين.
هذه بعض الانشغالات التي تسمح لنا بتحديد انبثاق ثقافة "حديثة"، حيثما رأيناها تزدهر بين العامين 1880 و 1914. (12)
تتجلى هذه الانشغالات مثلاً لدى شعراء تلك السنوات. .. [الذين] يشتركون في التعامل مع اللغة بحريّة لم يكن أحدٌ يجرؤ آنذاك على التفكير بها.
..
لكن لغة الرسم هي التي تعرضت أكثر من غيرها لتغيرات مذهلة؛ وكان السبب المباشر في ظهور هذه التغييرات هو ازدهار التصوير الفوتوغرافي. إذ ما جدوى الوقوف عند إعادة إنتاج المظاهر، بينما أصبح بالإمكان في تلك الفترة القيام بهذه المهمة بواسطة وسائل ميكانيكية تماماً؟ ولمّا كان الرسامون يعون أن هذا "التقدم" سيضعهم أمام تحدي بناء مشروعيةٍ جديدة، فقد قرروا البحث في ذواتهم عن قوانين ستتحكم منذئذ في عملهم، بدل الاستسلام للقوانين التي تفرضها عليهم العين.
بدأ تاريخ الرسم الحديث، كمغامرة فلسفية حقيقية، مع رد فعل كل من سيزان وفان غوغ وغوغان ضد الواقعية البصرية التي بجّلها الانطباعيون من جهة، ومع الرمزية من جهة أخرى. لقد فتح الأوائل الباب لإعادة بناء ذهنية للواقع، سيمنهجها المتوحشون (1905) والتكعيبيون (1908). أما في ما يخص أنصار الرمزية.. فإنهم اختاروا التنكر للعالم المحسوس، وهدفوا إلى تصوير عالمهم الذهني الخاص الذي يخترقه القلق الديني. وسينشأ الرسم التجريدي أو غير التصويري عن هذه القطيعة الروحية تحت تأثير كل من كاندينسكي وكوبكا، ثم مالفيتش وموندريان بعد ذلك.
لنتفاهم أولاً، إذا كانت لوحة مالفيتش "مربع أسود على خلفية سوداء" (1915) تنتمي إلى الرسم "اللاموضوعي"، فإنها لا تفتقد قيمة تصويرية، بل إنها ترجع إلى مطلق روحي فقط وليس إلى موضوع مرئيّ. وبعد ثلاث سنوات من ذلك، سجّلت لوحة "مربع أبيض على خلفية بيضاء" نهاية المسار المساراتي. وعندما بلغ الرسم هدفه الأسمى، اعتقد أنه وصل إلى نهايته، فتخلى مالفيتش عن ريشاته.
وتشهد عودة مالفيتش إلى ممارسة الرسم بعد اعتزاله، لإنجاز لوحات تصويرية غريبة ذات إغراء "بدائي"، على أنه لا يمكن تقرير موت الرسم بمرسوم، ولا موت الفلسفة أيضاً. (ص 14)
 إن ظهور الحداثة بالنسبة إلى العلماء لا تترجمه الطفرة الجذرية التي مسّت الصورة التي يحملونها عن العالم فقط، بل يترجمه أيضاً السؤال الجدي الذي طرح حول أساس العلوم، وكذلك ابتكار فروع معرفية تتمحور حول تحليل التمثيل.
كانت الرياضيات أول ما مسّته عملية إعادة السبك التي بدأت في سبعينيات القرنالتاسع عشر، إذ انخرط علماء الرياضيات في مشروع شجاع هو التفكير في لغتهم الخالصة، ذلك عندما لاحظوا أن مفاهيمهم الرئيسة، وخصوصاً مفاهيم علم الحساب، تفتقد الصرامة. ويرتبط مشروع إعادة التفكير هذا بالازدهار الفريد للمنطق الذي كان يميل إلى أن يصبح أكثر العلوم "جوهرية" من بين العلوم الأخرى.

ودشنت العلوم الفيزيائية والكيميائية بدورها مرحلة ازدهارها في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، إذ تلاحقت عدة اكتشافات أساسية: فقد صاغ بلانك مفهوم "الكوانطوم"؛ وتوطدت أخيراً الفرضية القديمة المتمثلة في البنية الذرية للمادة،وصاغ أينشتاين نظرية النسبية (1905)، التي فجربت الفكرة الموروثة عن نيوتن والمتمثلة في المكان والزمان المطلقَين. لذلك كانت بالنسبة إلى التمثل العلمي للعالم نظريةً ثورية، مثلما كان الابتكار الملازم للتجريد ثورة بالنسبة إلى التصوير الرسمي.
تولدت الميكانيكا "الكوانطية" عن البحوث التي أجريت حول لنية الذرّة، وعرفت في السنوات اللاحقة نمواً سريعاً. هذه الميكانيكا، بصيغتها المهيمنة التي دافع عنها بوهر والتس سهلت انتشار    ها نظرية هينزبرغ في التغير (1927)، انتهت بوضع الحتمية الكلاسيكية محط تساؤل، ونازع في هذا التساؤل كلٌّ من أينشتاين وشرودنغز وبروغلي الذين ما زالت اعتراضاتهم حول مستقبل الفيزياء موضع نقاش ضروس إلى اليوم.
ولم يكن التجديد في مجال البيولوجيا أقل شأناً من غيره في المجالات الأخرى. فمن جهة، عملت نظرية التطور الداروينية على إدخال الطبيعة في التاريخ، ومن جهة أخرى، خبا لهيب الصراع الدائر بين النزعة الميكانيكية والمذهب الحيوي، تاركاً مكانه لمقارنة وظيفية للأحياء. وبفضل هذا التغيير في الرؤية، حققت الفيزيولوجيا وعلم الأعصاب تطوراً مهماً، بينما فتحت أعمال باستور الطريق للطب الحدي، وأعمال ماندل لعلم الجينات أو نظرية الوراثة.
وأخيراً جاء دور العلوم الاجتماعية، فقد ظل اهتمام هذه العلوم منصبّاً مدةً طويلة على دراسة المكان والزمان البشريين (التاريخ والجغرافيا والاقتصارد وعلم الاجتماع)، لكنها انطلاقاً من سنة 1880، ستغتني بثلاثة تخصصات جديدة قاربت ظاهرة التمثل من زوايا مختلفة.
فعلى مسافة من الفيلولوجيا الكلاسيكية، المنشغلة بالتطور التاريخي للغات أكثر من انشغالها بنمط اشتغالها الداخلي، قدم العالم اللغوي السويسري دو سوسّير (1857ـ 1913) مبادئ علم لغوي جديد، لن تمارس أفكاره كلّ تأثيرها إلا بعد مرور نصف قرن على ذلك.
وستنمو الإثنولوجيا من جهتها في حضن الغزوات الاستعمارية، مساهمة في الوقت نفسه من تقويض أيديولوجيا المركزية العرقية التي كانت تلهم تلك الغزوات. وبالفعل، كلما اكتشفت الإثتولوجيا غنى العادات والمثلات "ما قبل منطقية" (ليفي ـ برول)؛ انقادت إلى الاعتراض على "التفوّق" المزعوم للحضارة الأوروبية وإلى تقييم الوحدة العميقة للحدث الرمزي، أي الجنس البشري، ذلك بغض النظر عن "غرابة" المجتمعات بدون كتابة.
أما في ما يخص التحليل النفسيس، وهيكلمة صاغها سنة 1896 الطبيب النمساوي سيغموند فرويد (1856ـ 1939)، فإنه، وإن كان لا يشكل علماً بالمعنى المتعارف عليه، كما سيوضح ذلك كارل بوبر، لا يمكن اعتباره نوعاً من الميتافيزيقا الجديدة ولا فرعاً من فروع علم النفس أو الطب النفسي. واللاشعور الفرويدي ليس مدلولاً رومانسياً ولا مقولةً لوصف الأمراض، وإنما هو "كيان" كوني يبدو أن ظهوره لازم ظهور اللغة والرمزي عموماً. ويرتبط اكتشافه بممارسة نوعٍ من فك الرموز، سواءٌ من خلال العَرَض العُصابي (دراسات في الهستيريا، بالاشتراك مع بروير 1895)، أو من خلال الحلم أو فلتة اللسان أو النكتة لدى الإنسان "السوي". وقد بذل فرويد، الذي يبدو أنه لم يكن على علم بالبحوث التي كان ينجزها معاصره سوسير، جهوداً كبيرة لتوضيح نظريته ف أعماله الثلاثة، تأويل الأحلام (1900) وعلم النفس المرضي للحياة اليومية (1901) والنكتة في علاقتها باللاشعور (1905). وتشترك هذه الأعمال الثلاثة في كونها تحمل التصور نفسه عن "المشهد" النفسي كمكان لـ "مسرحية" يكون فيها اللاشعور هو مؤلفها الخفي. ومقارنةً بالثورات التي كانت تحدث في مجالي الفن والعلم، كان الإيقاع الذي تتطور به الأفكار الفلسفية هادئاً وبسيطاً. ومع ذلك إذا كانت التحولات الفلسفية بين العامين 1880 و 1914 أقل إثارة من غيرها في المجالات الأخرى، فإنها لم تكن أقل عمقاً.
ترتبط هذه التحولات بظهر انشغال علماء الرياضيات بالأسس التي تقوم عليها هذه الأخيرة. ذلك أن صلابة باقي الأنشطة المعرفية الأخرى تتوقف على صلابة الرياضيات. فلكي تنمو المعرفة في أمان يجب أن تصاغ المبادئ الرياضية الأساسية بلغة دقيقة وصارمة وخالية من كل فرضية مسبقة، حدسية كانت أو تجريبية أو ميتافيزيقية. بيد أن الوضع لم يكن كذلك سنة 1880.
ظلت الطريقة التي كانت تدرك بها هذه اللغة آنذاك سجينةمذهب لم يكن يرضي مجمل علماء الرياضيات. وهذا المذهب، الذي كانت تدافع عنه مدرسة ماربورغ بقيادة الفيلسوف الكانطي الجديد هيرمان كوهن (1842ـ 1918)، يعود في جزئه الأساسي إلى النسق الذي عرضه قبل قرن من الزمان إيمانويل كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781).
ما هو "المذهب النقدي" عند كانط؟ إنه نظرية متعلقة بالأسس التي تقوم عليها "قدرتنا المعرفية" وحدودها، وترتكز هذه النظرية على وصف وتصنيف لأحكامنا قابلين للمناقشة.
يرى كانط أن كل حكم هو فعل عقلي يقيم علاقة بين محمول وموضوع، ويعبّر عنه بجلمة تصاغ على نحو (س هي ص). ويمكن أن يكون هذا الحكم تحليلياً أو تركيبياً. ففي الحكم التحليلي يكون المحمول متضمناً في تعريف الموضوع. مثلاً: "كل الأجسام ممتدة". فالقول بأن الامتداد يشكل جوهر كل جسم هو حكم يمكّن من توضيح المعرفة، لكنه لا يغنيها. وبالتالي لا تحقق المعرفة نمواً حقيقياً إلا بفضل الأحكام التركيبية. (17)
وتنقسم الأحكام التركيبية إلى نوعين: أحكام قبلية وأحكام بعديّة. ففي الحكم التركيبي البعدي، يجب أن يأتي الدليل على العلاقة بين المحمول والموضوع من الخارج. مثلاً: "كل الأجسام ثقيلة"، ما دام الثقل، على خلاف الامتداد، لا ينتمي إلى جوهر الأجسام. وبالمقابل، فإن تلك العلاقة تمثل في الحكم التركيبي القَبْلي طابعاً ضرورياً وأبدياً. إذ إنها تستند إلى "تجربة فكرية" مستقلة عن كل واقع. وباختصار، إنها تقوم على حدس خالص وليس على حدس تجريبي. مثلاً: "7+5=12"، أو: "الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين".
يفسّر كانط في الجزء الأول من النقد، الذي يحمل عنوان "الجمالية المتعالية"، كيف أن كل هذه القضايا الرياضية هي أحكام تركيبية قبلية. والحدس الخالص في الهندسة ينتمي إلى النظام المكاني: يدرك عقلي وجود علاقة بين النقط والخطوط والمساحات الموجودة في فضاء ذهني. وفي الحساب، ينتمي الحدس الخالص إلى النظام الزمني: يماثل عقلي عمليةَ جمعٍ كيفما كانت بتتابع أرقام يحدث في الزمن كما هو الحال بالنسبة لعملية التفكير تماماً. وبالمقابل، فإن كل قضايا الفيزياء والعلوم الطبيعية عموماً تشكل أحكاماً تركيبية بعدية؛ ولذلك تظل دوماً قابلة للمراجعة.
ومع ذلك، تقتسم القضايا الرياضية والقضايا الفيزيائية خاصّية مشتركة: وهي كونها تفترض أن كل تجربة معطاة في الحدس. وسواءٌ كان الحدس خالصاً أو تجريبياً، فإنه ليس من الممكن أن تُعطَى فيه أيةُ معرفة بدون اللجوء إلى التجربة وبدون حدوث لقاء بين مفهوم وحدس. يقول كانط في هذا السياق: "إن الأفكار بدون محتوى تظل فارغة، والحدوس بدون مفهوم تظل عمياء".
يتعيّن على العقل إذاً ألا يتجاوز مجال التجربة بأي حال من الأحوال. إذ لا معرفة إلا بما هو معروض في هذا المجال؛ وبصيغةٍ أخرى، لا معرفة إلا بـ "الظواهر". فلا أحد يستطيع أن يعرف الأشياء "في ذاتها"، أي بمعزل عن الطريقة التي تظهر لنا بها: تلك هي أطروحة كانط الأولى. (ص 18)
ومع ذلك، ليست الكلمة الأخيرة للتجربة، ذلك أن شروط إمكانها نفسها ليست تجريبية. رأينا سابقاً أن حدوسنا تصاغ في أشكالٍ قبلية (المكان والزمان) وتنتمي إلى بنيتنا الإدراكية، كما أن كل مفاهيمنا تصدر عن اثنتيّ عشرة "مقولة" عامة تنتمي إلى بنية فهمنا. وباختصار، إن الذات العارفة ذاتٌ "متعالية" وسابقة على كل تجربة ممكنة، لأن موضوعية العلم تظل مستقلة عن الشروط التي تنتَج فيها: وتلك هي أطروحة كانط الثانية.
إن هاتين الأطروحتين متكاملتان؛ فالأولى تنقذنا من الوثوقية التي لا يمكن عقلاً مستسلماً لذاته أن يسقط فيها (لايبنز)، وتنقذنا الثانية من النزعة الشكية التي يمكن للمذهب التجريبي المعمّم أن يسقطنا فيها. هكذا أمكن لكانط أن يشعر بالرضى بعد أن وضع المعرفة في منأى من الخطرين اللذين يتهدداننا. لقد استطاع أن ينتزع الفلسفة من "ساحة المعركة" التي كانت تسجنها فيها الميتافيزيقيات المتصارعة. كذلك استطاع أن يضعها في "الطريق الآمنة للعلم". ومنذئذٍ، لم تعد مهمة الفلسفة تتمثل في استخدامها كأرضية للنظريات المتضاربة، العقيمة والاعتباطية، بل أصبحت تتمثّل في مصاحبة العمل العلمي من خلال تسليط الضوء على المفاهيم العلمية. وبعبارة أخرى، أصبحت مهمة الفلسفة هي التحقق مما إذا كان العمل العلمي يتمّ في الإطار الذي وضعه كتاب النقد.
إن النسق الكانطي، المتمثل في فلسفة العلم كفلسفة حذرة، يشكل بصورةٍ ما أوجَ الفكر الأنواري. فعندما نتفحص عن قرب نظريته في المعرفة، نلاحظ أنها تتضمن بعض الصعوبات. لكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن العقلانية الكانطية ستجسّد أنموذجاً سيتبنّاه، لأزيد من مائة سنة، كل من سيعتقد، مثل كانط، أن مهمة الفلسفة هي التأسيس للعلم، وأن هذه المهمة نفسها يمكنها أن تتم بطريقة علمية. (ص 19)
يعرف الجميع اليوم أن هذين المعتقدين وهميّان، لكن فتغنشتاين (1921) وهايدغر (1927) هما أول فيلسوفين سيؤكدان ذلك على نحوٍ جليّ. ذلك أن الحركة المناهضة للكانطية التي تفجرت انطلاقاً من سنة 1880 لم تكن موجة ضد هذه الأفكار العظيمة أكثر مما كانت موجهة ضد الدور الذي تسنده نظرية الرياضيات إلى الحدس. كان أكبر المناهضين لهذا التصور الكانطي بين العامين 1880 و1914 هما فريجة وهوسرل. فالأول رفض الحدس جملة وتفصيلاً، بينما احتفظ به الثاني ومنحه معنى ودوراً مختلفين. لكن الحقيقة أن الاعتراض ظهر قبلهما بشكل خفي، ذلك سنة 1810، أي بعد وفاة كانط بست سنوات. وظهر هذا الاعتراض في الأمبراطورية المجرية، المنطقة الثقافية الواسعة التي صَعُب على الفكر الكانطي ذي الأصل "البروسي" أن يتجذر فيها.
إن أول ناقد لكانط، وبالتالي الرائد الأول لـ "الحداثة" الفلسفية، هو بيرنهارت بولزانو (1781ـ 1848). ولِد بولزانو في براغ، وهو رجل دين كاثوليكي يدرّس "علوم الدين" في جامعة شارل. وهو ذو عقل موسوعي يعلن انتماءه إلى فكر لايبنتس: أولاً نظراً إلى أنه عالم رياضيات متألق، صاغ نظريات أساسية للتحليل كفرع من الرياضيات الذي يرجع إلى لايبنتس. وثانياً، نظراً إلى اهتمامه بالمنطق؛ هذا التخصص الذي ظهر قديماً بفضل جهود أرسطو والمدرسة الرواقية، والذي فتح له رامون لول Lull ولايبنتس آفاقاً جديدة لم يفهمها معاصروهما.
كان رامون لول (1233ـ 1316)، هذا الكتالاني المعروف باسم رايمون لول، يرغب في هداية اليهود والمسلمين إلى الإيمان "الحقيقي" بواسطة قوة الاستدلال الجيد فقط، لذلك تصوّر "فناً عظيماً" قادراً على حل أي معضلة نظرية، كما هو الشأن بالنسبة إلى السيمياء Alchimie التي منحت البشر سلطة مطلقةً على المادة. ولم يُتوَّج هذا الجهاد المنطقي اللاهوتي بالنجاح، بل جنى خيبات الأمل فحسب. وبعد مرور أربعة قرون على ذلك، حلّ ديكارت ليتهكم بدوره بتأملات لول وينزع عنها كل مصداقية. (ص 20)
كان لايبنتس حذراً أكثر من سابقيه، لذلك بذل جهده لتحسين "الفن" الذي اقترحه لول. لقد أراد هذا الدبلوماسي المحنّك والمسيحي المسكوني أن يساهم بدوره في توحيد الجنس البشري من خلال تيسير وحدة المعارف. لكن كيف يمكن الربط بين الفروع المعرفية المنفصلة بعضها عن بعض؟ يمكن الربط بينها بترجمتها في لغة كونية تكون في متناول الجميع: إنها لغة الرياضيات. لذلك بذل لايبنتس جهوده للحفاظ على نوع الكتابة الصورية المكوَّنة من عدد قليل من العلامات الأصلية القادرة على أن تسجل كل المفاهيم المفكَّر فيها تبعاً لقواعد قابلة للتركيب في ما بينها. وللإجابة عن أي سؤال بمجرد إجراء عملية حسابية بسيطة، يكفي تطبيق بعض العمليات الحسابية على هذه الرمزية المتفق حولها. لكنّ معاصري لايبنتس لم يروا في هذه البحوث التي ظلت مجهولة مدة طويلة إلا نتيجة لنزوع غريب نحو الحلم.
 كان كانط يجهل تلك البحوث، وكان فضلاً عن ذلك يعُدّ المنطق عموماً مجرد تخصص معرفي لا جدوى منه، ولم يحقق أيَّ تقدم منذ أرسطو. وهذا هو السبب الذي دفع بولزانو اللايبنتسي [نسبةً إلى لايبنتز] إلى رفض كانط.
أما السبب الثاني، حسب بولزانو المؤمن بفضائل المنطق، فيتمثل في أن الاستعمال الجيد لهذا الأخير يمكنه أن يقدم لمشكلة أساس الرياضيات حلاً مرضياً أفضل من الحل الذي اقترحه كانط. هذه هي الأطروحة التي يناقشها بولزانو بتفصيل في كتابه "مساهمة في تأسيس الرياضيات على أفضل الأسس" (1810). وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مرّ خفية في عصره، فإنه أول كتاب عارض مدلول الحدس الخالص، الذي يعدّه بولزانو "صعباً" ومتناقضاً. فالحدس دوماً تجريبي، سواءٌ أكان مكانياً أم زمنياً. ويمكنه أن يقوم بدور تكميلي ذي سمة تربوية، شأنه شأن اللجوء إلى الشكل في البرهنات الهندسية. لكن لا يمكن المرءَ أن يستخرج منه أيّ نظرية جديرة بهذا الاسم. فإذا أراد الباحث، كما يريد كانط، أن يؤسس الرياضيات على أسس صلبة، فإنه يتغين عليه أن يدرك تلك الأسس بطريقة منطقية خالصة بعد تطهيرها من كل عنصر حدسي. (21)
وعموماً، إن رغبة بولزانو في النجاح حيثما فشل كانط هي التي قادته إلى رفض مذهب "الجمالية المتعالية". وعلى الرغم من الوضعية الهامشية التي كان يشغلها بسبب اختياره هذا، تابع بولزانو نشاطه ونشر في جوّ من اللامبالاة النسبية عملاً عظيماً يحمل عنوان "نظرية العلم" (1837)، ثم ظهر له بعد وفاته كتاب "مفارقات في اللامتناهي" (1851).
ويعدّ هذا الكتاب الأخير مقدمة للبحوث التي سيجريها لاحقاً عالم الرياضيات ريتشارد ديديكاند (1831ـ 1916) حول طبيعة الأعداد اللاعقلانية. كذلك يعدّ "مقدمة لظهور نظرية المجموعات" (1872) على يد عالم آخر سيعلن بدوره مناهضته للكانطية هو غورغ كانتور (1845ـ 1916).
أما كتاب "نظرية العلم"، فقد عاود الصلة بطموح لايبنتس إلى تأسيس رياضيات كونية، أي بمشروع توحيد المعرفة بواسطة قواعد نطقية خالصة. وأقحم بولزانو أيضاً مدلولاً جديداً هو "التمثّل في ذاته" بهدف تسليط الضوء على ضرورة التمييز بين المحتوى المفهومي لتمثّل معين من جهة، والصور الذهنية القادرة على التعبير عنه من جهة أخرى. وعموماً، فقد طور الأطروحة ذات النفس الأفلاطوني القائلة: إنه لا يمكن اختزال القوانين المنطقية، المزودة بـ "حقيقة في ذاتها" مستقلة عن ذاتيتنا، في العمليات التي تصاحب صياغتها في عقلنا.
هكذا يظهر بولزانو كرائد لـ "المذهب المنطقي" (أي لمذهب واقعي للكيانات المنطقية) الذي سيعاود الظهور مجدداً في نهاية القرن التاسع عشر لدى كل من فريجه وهوسرل. ولن يعود الإشعاع لأعمال بولزانو إلا بعد وفاته، وستؤثر هذه الأعمال في بعض الفلاسفة الذين لن يدخروا جهداً في نقد كانط، مع أنهم لم يفعلوا ـ كل بطريقته الخاصة ـ غير استعادة الإيعاز الكانطي: إقحام الفلسفة في "الطريق الآمنة للعلم".

كان تأثير بولزانو أكثر وضوحاً في النمسا وبولونيا. فقد ظهر هذا التأثير مثلاً لدى فراتنس برينتانو (1883ـ 1917) الذي ولد في ألمانيا ودرس في فيينا، وكذلك لدى أليكسيوس فون مينونغ (1853ـ 1920) الذي قضى مجمل مساره المهني في غراتس بعد أن تتلمذ لبرينتانو. وقد عمّق مينونغ وبرينتانو التفكير البولزاني في بنية الفكر، وخصوصاً في العلاقة التي تربط بين الفعل الذهني والموضوع الذي يستهدفه. وألحّامعاً على ضرورة تجنيب المحتوى المنطقي لمفاهيمنا كلّ تأويل ذاتي. وستلهم أعلماُهما كلاً من فريجه وهوسرل. (ص 22)
ومن جهة أخرى، سيعمل تلميذ آخر لبرينتانو على نشر الأطروحات البولزانية في بلاده، وهو البولوني كاسيمير تواردوفسكي (1866ـ 1938) الذي ألّف كتاباً يحمل عنوان "في محتوى المثلات وموضوعها" (1894) وكوّن طوال سنوات تدريسه في جامعة لفوف Lwow، بين العامين 1895 و 1930، جيلاً من المناطق المهووسين بتخليص نظرية العلم من كل اختزال سيكولوجي أو تجريبي. وسيؤسس هرلاء المناطقة: لوكازييفتش، وليسنييفسكي، وتراسكي، وكوتاربينسكي ـ بعد الحرب العالمية الأولى ـ مدرسة فرصوفيا التي ستغذي ببحوثها أعمال كارناب وبوبر وكواين Quine.
وفي غضون ذلك، استطاع المنطق، الذي لم يتطور منذ لايبنتس، أن يحقق تقدماً بفضل ثلاثة علماء: الأيرلندي جورج بول Boole، والأميركي تشارلز بيرس، والألماني غوتلوب فريجه. وستقدّم أعمالهم، وخصوصاً عمل فريجه الذي يعدّ الانطلاقة الحقيقية للفلسفة الحديثة، إجابات جديدة على لغز أسس الفلسفة. وستثير، بالموازاة مع أعمال نيتشه، اهتماماً جديداً بمسألة اللغة.
ومع ذلك، لن يتم القضاء على "أزمة" التمثّل، لكنها على الأقل ستمكن الفلسفة من أن تتحرر من الكانطية، ثم لتكتشف أن ملاحقتها لمشروع كانط عبر سبل أخرى سيقودها إلى الطريق المسدود. وهو اكتشاف سيلزم مفكري القرن العشرين، بالإضافة إلى عوامل أخرى، بالتساؤل مجدداً حول التصوّر الكلاسيكي للعقل الذي يمثله ديكارت وفلاسفة الأنوار. (ص 23)

الاثنين، 18 مارس 2019

بولزانو؛ المعارضة الأولى لكانط؛ كريستيان دو لا كامبانيْ.



بولزانو؛ المعارضة الأولى لكانط:
(عن كريستيان دو لا كامبانيْ: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ترجمة حسن أحجيج)


تقتسم القضايا الرياضية والقضايا الفيزيائية خاصّية مشتركة: وهي كونها تفترض أن كل تجربة معطاة في الحدس. وسواءٌ كان الحدس خالصاً أو تجريبياً، فإنه ليس من الممكن أن تُعطَى فيه أيةُ معرفة بدون اللجوء إلى التجربة وبدون حدوث لقاء بين مفهوم وحدس. يقول كانط في هذا السياق: "إن الأفكار بدون محتوى تظل فارغة، والحدوس بدون مفهوم تظل عمياء".
يتعيّن على العقل إذاً ألا يتجاوز مجال التجربة بأي حال من الأحوال. إذ لا معرفة إلا بما هو معروض في هذا المجال؛ وبصيغةٍ أخرى، لا معرفة إلا بـ "الظواهر". فلا أحد يستطيع أن يعرف الأشياء "في ذاتها"، أي بمعزل عن الطريقة التي تظهر لنا بها: تلك هي أطروحة كانط الأولى.
ومع ذلك، ليست الكلمة الأخيرة للتجربة، ذلك أن شروط إمكانها نفسها ليست تجريبية. رأينا سابقاً أن حدوسنا تصاغ في أشكالٍ قبلية (المكان والزمان) وتنتمي إلى بنيتنا الإدراكية، كما أن كل مفاهيمنا تصدر عن اثنتيّ عشرة "مقولة" عامة تنتمي إلى بنية فهمنا. وباختصار، إن الذات العارفة ذاتٌ "متعالية" وسابقة على كل تجربة ممكنة، لأن موضوعية العلم تظل مستقلة عن الشروط التي تنتَج فيها: وتلك هي أطروحة كانط الثانية.
إن هاتين الأطروحتين متكاملتان؛ فالأولى تنقذنا من الوثوقية التي لا يمكن عقلاً مستسلماً لذاته أن يسقط فيها (لايبنز)، وتنقذنا الثانية من النزعة الشكية التي يمكن للمذهب التجريبي المعمّم أن يسقطنا فيها. هكذا أمكن لكانط أن يشعر بالرضى بعد أن وضع المعرفة في منأى من الخطرين اللذين يتهدداننا. لقد استطاع أن ينتزع الفلسفة من "ساحة المعركة" التي كانت تسجنها فيها الميتافيزيقيات المتصارعة. كذلك استطاع أن يضعها في "الطريق الآمنة للعلم". ومنذئذٍ، لم تعد مهمة الفلسفة تتمثل في استخدامها كأرضية للنظريات المتضاربة، العقيمة والاعتباطية، بل أصبحت تتمثّل في مصاحبة العمل العلمي من خلال تسليط الضوء على المفاهيم العلمية. وبعبارة أخرى، أصبحت مهمة الفلسفة هي التحقق مما إذا كان العمل العلمي يتمّ في الإطار الذي وضعه كتاب النقد.
إن النسق الكانطي، المتمثل في فلسفة العلم كفلسفة حذرة، يشكل بصورةٍ ما أوجَ الفكر الأنواري. فعندما نتفحص عن قرب نظريته في المعرفة، نلاحظ أنها تتضمن بعض الصعوبات. لكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن العقلانية الكانطية ستجسّد أنموذجاً سيتبنّاه، لأزيد من مائة سنة، كل من سيعتقد، مثل كانط، أن مهمة الفلسفة هي التأسيس للعلم، وأن هذه المهمة نفسها يمكنها أن تتم بطريقة علمية.
يعرف الجميع اليوم أن هذين المعتقدين وهميّان، لكن فتغنشتاين (1921) وهايدغر (1927) هما أول فيلسوفين سيؤكدان ذلك على نحوٍ جليّ. ذلك أن الحركة المناهضة للكانطية التي تفجرت انطلاقاً من سنة 1880 لم تكن موجة ضد هذه الأفكار العظيمة أكثر مما كانت موجهة ضد الدور الذي تسنده نظرية الرياضيات إلى الحدس. كان أكبر المناهضين لهذا التصور الكانطي بين العامين 1880 و1914 هما فريجة وهوسرل. فالأول رفض الحدس جملة وتفصيلاً، بينما احتفظ به الثاني ومنحه معنى ودوراً مختلفين. لكن الحقيقة أن الاعتراض ظهر قبلهما بشكل خفي، ذلك سنة 1810، أي بعد وفاة كانط بست سنوات..
(تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ص 19)
كان [كانط] .. يعُدّ المنطق عموماً مجرد تخصص معرفي لا جدوى منه، ولم يحقق أيَّ تقدم منذ أرسطو. وهذا هو السبب الذي دفع بولزانو اللايبنتسي [نسبةً إلى لايبنتز] إلى رفض كانط.
أما السبب الثاني، حسب بولزانو المؤمن بفضائل المنطق، فيتمثل في أن الاستعمال الجيد لهذا الأخير يمكنه أن يقدم لمشكلة أساس الرياضيات حلاً مرضياً أفضل من الحل الذي اقترحه كانط. هذه هي الأطروحة التي يناقشها بولزانو بتفصيل في كتابه "مساهمة في تأسيس الرياضيات على أفضل الأسس" (1810). وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مرّ خفية في عصره، فإنه أول كتاب عارض مدلول الحدس الخالص، الذي يعدّه بولزانو "صعباً" ومتناقضاً. فالحدس دوماً تجريبي، سواءٌ أكان مكانياً أم زمنياً. ويمكنه أن يقوم بدور تكميلي ذي سمة تربوية، شأنه شأن اللجوء إلى الشكل في البرهنات الهندسية. لكن لا يمكن المرءَ أن يستخرج منه أيّ نظرية جديرة بهذا الاسم. فإذا أراد الباحث، كما يريد كانط، أن يؤسس الرياضيات على أسس صلبة، فإنه يتغين عليه أن يدرك تلك الأسس بطريقة منطقية خالصة بعد تطهيرها من كل عنصر حدسي. (21)
كان تأثير بولزانو أكثر وضوحاً في النمسا وبولونيا. فقد ظهر هذا التأثير مثلاً لدى فراتنس برينتانو (1883ـ 1917) الذي ولد في ألمانيا ودرس في فيينا.. (22)




هوسّرل بين كانط وفريجه؛ كريستيان دو لا كامبانيْ.




[هوسرل بين كانط وفريجة]
(عن كريستيان دو لا كامبانيْ: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ترجمة حسن أحجيج)


من المنطق إلى الفينومينولوجيا:
شرع هوسرل في الاشتغال على مسألة أسس الرياضيات التي كانت موضوع نقاش مهم منذ مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر. وفي سنة 1887، حصل على الأهلية بفضل مقال حول مفهوم العدد، استخلص منه سنة 1891 الجزء الأول من كتابه "فلسفة علم الحساب".
يحمل هذا الكتاب عنواناً فرعياً هو "بحوث سيكولوجية ومنطقية"، وأهداه صاحبه إلى أستاذه برنتانو. وعلى الرغم من أن الكتاب يسهب في الاستشهاد بكتاب "الأسس" لفريجه، إلا إنه يعترض على طموح هذا الأخير إلى اختزال علم الحساب برمّته في المنطق. إذا يعتقد هوسرل بالفعل أن لا جدوى من ادعاء القدرة على تفسير المدلولات الأساسية للرياضيات (التكافؤ، التماثل، الكمية، الوحدة) بمدلولات منطقية بسيطة. ويستنتج أن يستحيل ألا نَعُدّ الحدسَ [الحسي] أحد أسس الرياضيات. [تأثراً بكانط].
كذلك نشر هوسرل سنة 1891 تقريراً عن كتاب "دروس في جبر المنطق" لشرودر. وبعد أن عبّر فيه هوسرل عن إعجابه المبدئي بالمنطق الصوري، عاب على شرودر أنه لا ينظر إلى المفاهيم إلا من زاوية الامتداد [الماصدق] وليس من زاوية الفهم [المفهوم]، أي اختزاله قوانين الفكر في قوانين الحساب الخالص.
لم يكن لتلك الأطروحات إلا أن تثير استياء فريجه لأن قطيعتها مع التقليد التجريبي لم تكن واضحة. فقد كان فريجة يعتقد آنذاك أن من الممكن، بل ومن الضروري، إعادة بناء مفهوم العدد الأصلي انطلاقاً من المنطق فقط. وبدت له المحاولة الهوسرلية، التي تهدف إلى أن تجعل من العدد نتاجاً لعملية تجريد ذهني، [انطلاقاً من الحدس الحسي]، مشوبه بنوعٍ من النفسانوية عديمة الجدوى. كان ذلك هو الاعتراض الذي ناقشه بتفصيل في مقال خصصه سنة 1894 لكتاب هوسرل الأول.
لذلك قرر هوسرل مراجعة مواقفه. مما لا شك فيه أن تطوره جاء نتييجةً لتضافر عدة عوامل وليس فقط لانتقادات فريجه التي ادعى هوسرل بعد عدة سنوات عدم تأثره بها. ومع ذلك، فإن تلك الانتقادات هي التي دفعته إلى التخلي عن إصدار الجزء الثاني من فلسفة علم الحساب، وإلى استئناف دراسة المنطق. وكان هذا "التحوّل" هو ما أدى العامين 1900 و 1901 إلى ظهور "بحوث منطقية" بجزأيه الذي يعُدّه بعض تلامذته أفضل كتبه. وقد أعلن هذا الكتاب عن ميلاد فرع معرفي جديد هو "الفينومينولوجيا" التي عرّفها هوسرل بأنها "أنطولوجيا خالصة للمعيش"، وهو تعريف سيتخلى عنه صاحبه في ما بعد.
يحمل الجزء الأول عنواناً فرعياً هو "مقدمات للمنطق الخالص". ويبدو أنه كُتِبَ لتوضيح كلمة غوته التي يستشهد بها هويرل في نهاية المقدمة: "ليس هناك ما يمكن إدانته بقسوة أكثر من الأخطاء التي تخلصنا منها". وبالفعل، ليس هناك أكثر قسوةً من الإدانة الموجهة إلى علم النفس القائم على التداعي الذي ينحدر من جون لوك ويجسدة كتاب "المنطق" لستيوارت مِلّ (1843).
ترتبط شهرة مِل، نصير المذهب التجريبي الدقيق، بكونه حاول إرجاع مبدأ عدم التناقض (المبدأ الرئيسي في المنطق) إلى مجرد "تعميم" يستخلصه عقلُ الملاحظ من تجربته. ولدحض مثل هذا التأكيد الذي لم يوافق عليه هوسرل أبداً، ولدحض كل أشكال المذهب التجريبي والمذهب النفسي، بما فيها تلك التي دافع عنها علماء مرموقون معاصرون له أمثال إرنست ماخ، حذا هوسرل حذو بولزانو وفريجه في المحافظة على الطبيعة الموضوعية للمفاهيم المنطقية، وهي الطبيعة التي تضمن وحدَها المصداقية الكونية للرياضيات والعلم برمّته. فضلاً عن ذلك، وجّه هوسرل في إحدى صفحات كتابه الرائعة تحية حارّة لأعمال بولزانو وأعلن فيها بصراحة عن أهميتها الفلسفية. (34)
أما بخصوص الجزء الثاني من كتاب "بحوث منطقية"، الذي خصصه أساساً لمبادئ نظرية المعرفة، فقد طوّر تصوراً للمنطق كان ما يزال يردد تصور فريجه، دون أن يذكر اسمه، لكنه يكشف أيضاً عن التأثيرات المتناقضة التي مارسها عليه كل من كانط وبولزانو. إذ سار هوسرل على خطى بولزانو في محاولة تأسيس المنطق ونظرية المعرفة على قواعد مستقلة. ويرى هوسرل وجوب استخدام هذين الفرعين المعرفيين كقاعدة لفلسفة جديدة صارمة "علمياً". لكنه، مثل كانط، جعل موضوعية المفاهيم المنطقية تابعة لما يسميه "تجربة" الوعي.
يتعلق الأمر، دون شك، بتجربة "متعالية" وبـ "بداهة" منزوعة من صورنا الذهنية المبعثرة. وموضوع هذه "الرؤية" الفكرية هو ولا شك الدلالات المثالية المستقلة عن المعيش الذاتي [ربما الأصح: الدلالت المثالية المستقلة للمعيش الذاتي]، وتدين هذه الرؤية لديكارت أكثر مما تدين لكانط (الذي كان يرفض إمكانية تحققها) وأكثر مما تدين للأطروحات التي عرضها هنري برغسون (1859ـ 1941) في كتابيه "مقال في معطيات الوعي المباشرة (1889) و"مواد وذاكرة" (1896) اللذين كان هوسرل يجهلهما في تلك الفترة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان برغسون يسند إلى الحدس مهمة إرباك الواقع في جوهره الأساسي، الذي لا يشكل في رأيه مع "الديمومة" الخالصة إلا شيئاً واحداً، فإن جعلَه قيمةَ الحدس فوق قيمة الذكاء (أو ملَكة المفاهيم)، الذي يضعه في مرتبة المعرفة "الدنيا"، لا يتطابق مع المطلب العلمي الذي يتحكم في المنهج الفينومينولوجي وأمام هذا المطلب والمواقف المناهضة للمذهب النفسي المعلَن عنها في البداية، يبدو من المفارق رؤية هوسرل وهو يعلق بناءه برمّته على مدلول "حدس الجواهر".
وبما أن مؤلّف بحوث منطقية بتموقع في إطار "البحث" المتبصّر، فإنه واعٍ بهذه التناقضات المرتبطة بطموح المشروع الذي يثيرها. لذلك كان لزاماً عليه محاولة حل تلك التناقضات. وللقيام بذلك، وبالتالي تحقيق رغبته في بلوغ وضوح الأصول وبداهتها التي ظلت تسكنه منذ مدة بعيدة، قرر تكريس عدة سنوات لتنقيح منهجه.
إن المنعطف الحاسم لوجهة النظر هذه يوجد في "الدروس" الخمسة التي ألقاها خلال شهريّ نيسان وأيار عام 1907 أمام طلابه في جامعة غوتنغن التي سيغادرها سنة 1916 ليلتحق بجامعة فريبورغ. وستنشر هذه الدروس بعد وفاته تحت عنوان: فكرة الفينومينولوجيا. اتخذ هوسرل في تلك الدروس الطريقة الديكارتية كأنموذج تفسيري، وأكد أن تأسيس الفلسفة على أرضية ثابتة مشروط بضرورة الشك في كل مصدر آخر للمعرفة. فالواقع الوحيد الذي يفرض نفسه بطريقة مطلقة هو واقع أفكارنا، أي "الظواهر" التي تظهر لعقلنا ـ شريطة أن يكون عقلنا محدداً ليس كـ "أنا" تجريب، وإنما كوعي "خالص" مزوّد بالقدرة على "رؤية" الجواهر في ذاتها وبمعزل عن كل رجوع إلى عالم "موضوع بين قوسين". سيلاحظ هايدغر بعد ذلك أن الانتقال من "الحياد" الميتافيزيقي لكتاب بحوث منطقية إلى فلسفة جديدة للذات سيتم في هذا النص الصعب. وبعبارة أخرى، سيتم الانتقال إلى مثالية متعالة جديدة.
سيحدد هوسرل لنفسه كهدف رئيسي تطوير الخطوط العريضة لهذا المشروع. إذ سيقدم له عرضاً منظماً في كتاب "الأفكار الموجّهة نحو فينومينولوجيا وفلسفة فينومينولوجية خالصتين" (1913). أما كتابه المنطق الصوري والمنطق المتعالي (1929)، فإنه يستأنف انتقاداته للمنطق الامتدادي الموروث من فريجه. وأخيراً، ينتهي هوسرل بكتابه "التأملات الديكارتية"، وهو مجموع المحاضرات التي ألقاها في باريس سنة 1929، إلى بيان الطرق التي عاد بها من كانط إلى الفيلسوف الفرنسي.
هل يمكن أن نستخلص الخطوط الأساسية للفينومينولوجيا الهوسرلية من مجموع هذه النصوص؟ من الواضح أولاً أن هذه الفينومينولوجيا لا علاقة لها بالمشروع الذي عرضه هيغل في فينومينولوجيا الروح (1807). بل إنها تقترب من الفانيروسكوبيا ـ أو "وصف بنية المظاهر" ـ التي تصورها بيرس، والتي، مع ذلك، لم يكن هوسرل على علم بها. (الفانيروسكوبيا تعني دراسة الظواهر، أي دراسة ما هو حاضر في الذهن، في هذه اللحظة وهذا المكان، سواءٌ تعلق الأمر بشيء واقعي أو غير واقعي. ويرجع المصطلح إلى تشارلز بيرس).
لكن يصعب جداً إرجاعها إلى خطاطة عامة لفرط ما تبدو متوقفة على ما يسميه هوسرل "بداهات" الوعي. يمكن القول في سبيل التبسيط إن من الممكن التمييز فيها بين ثلاث لحظات مرتبطة في ما بينها ارتباطاً وثيقاً.
اللحظة الأولى هي لحظة "الإيبوخي"، أي الشك المنهجي وتعليق الحكم وتعليق العالم التجريبي الذي يظل فيه الوعي الساذج مغموراً، بما في ذلك الوعي العلمي. عندما تنزعنا هذه الحركة الفكرية من السلبية التي تميز الحياة النفسية، فإنها تمكننا في الوقت ذاته من أن نلاحظ، ليس الوقائع الخام، وإنما "الظواهر" المكونة للوعي (هذا الأحمر)، ومن خلالها الجواهر المثالية (الأحمر) التي تجسدها هذه الظواهر. هكذا يفتح الإيبوخي الطريق أمام نوع من "الاختزال الجوهري" الذي يسمح بإجراء وصف ملموس لبنيات الكائن العامة (وصف يريد أن يكون أكثر من الوصف الذي تقدمع علوم الطبيعة عن هذا الكائن). كذلك يفتح الطريق أمام نوع من الاختزال "المتعالي" الذي يعرض أمامنا أنماط "الظهور" بما هي كذلك. إن الإيبوخي هو لحظة "العودة إلى الأشياء ذاته" (أي الظواهر)؛ هذه اللحظة ستكون السبب في نجاح المنهج الفينومينولوجي لدى بعض الفلاسفة (هايدغر، سارتر) الذين أضجرتهم التجريدات التي يحملها الكانطيون الجدد الألمان (كوهن) أو الفرنسيون (برانشفيغ).
اللحظة الثانية هي لحظة البناء ـ أي الفعل الذي تتحول به الذات المفكرة إلى عالم مدرك كـ "أفق للمعنى"، ذلك حتى تفلت من الأناوحدية. تأخذ الوظيفة "القصدية" كل مداها على هذا المستوى عندما نعيد خلق علاقة بين وعي وموضوعه. يستلهم هوسرل أفكاره هنا من كتاب "علم النفس من الزاوية التجريبية" (1847) لبرينتانو الذي يعترف له بكونه انتزع مدلول القصدية القديم منم التيار المدرسي القروسطوي وجعل منه مفهوماً مركزياً من مفاهيم علم النفس الحدث: وبالفعل، إن كل وعي هو وعي بـ "شيء ما"؛ لكن مع فارق أن علم النفس يظل بالنسبة إلى برنتانو وكانط علماً طبيعياً، بينما يضع هوسرل القصدية في منطقة "متعالية"، مستقلة وسابقة عن كل وصف سيكولوجي. يفسر هوسرل موقفه هذا بإسهاب في كتابه "الأفكار الموجهة" الذي أقحم فيه مفهوم "النوويم"، الوسيط الضروري بين الفعل الذهني (النوويز) وموضوعه الواقعي.
وفي اللحظة الأخيرة يكتشف الوعي بداخل ذاته، فضلاً عن المثاليات الثقافية التي أنتجها الفكر العلمي، "العالم العنش" الذي تشترك فيه بالضرورة الذوات، والذي يشكل شيئاً واحداً مع "الأرضية" الأصلية التي تتجذر فيها المثاليات. بل إن هذه الأخيرة نفسها تنبثق من الوعي، مدام أنها كانت عبارة عن حدوس قبل أن تتحول إلى مفاهيم: هذا ما يفسره أحد نصوص هوسرل الأخيرة الذي كتبه سنة 1936 حول أصل الهندسة، وهو نص يحمل ربما الآثار التي خلفتها الوجودية الهايدغرية على هوسرل. هذا النص الذي أعاد ربط صلته رمزياً بهوَس الأسس الذي ميّز ثمانينيات القرن التاسع عشر، أعلن عن التألق النهائي للمشروع الفينومينولوجي وعما سيعرفه هذا الأخير من انغلاق على ذاته.
***
(38)
سيتم الاحتراز من إصدار حكم متسرع حول ذلك المشروع. فلما كانت النظرية والممارسة الفينومينولوجيتان مرتبطتين في ما بينهما ارتباطاً وثيقاً، فإن نتائجهما تتوقف في جزء كبير منها على المهارة التي يطبقان بها في التحليل الملموس لـ"ظاهرة" معطاة. علاوة على ذلك، غالباً ما تعود أفضل التحاليل الفينومينولوجية إلى مفكرين ذوي فكر أصيل، أمثال سارتر. فهل يتعلق الأمر ـ كما أكد هوسرل عدة مرات ـ بمشروع ذي إصالة مطلقة، ربما سيأتي تحققه الموضوعي ليضع حداً نهائياً للتيهان النظري للفلسفة الغربية؟
إذا أنعمنا النظر جيداً في المشروع الفينومينولوجي، سيصعب علينا بالفعل إنكار كونه يتموضع في خط الكانطية والديكارتية على الرغم من الفرادة التي يتمتع بها. ألم يكن ديكارت أول من وضع أساس العلم في تجربة الوعي كفكر "خالص"؟ وماذا صنع كانط غير أنه أدخل شروط إمكان تحقق كل معرفة، أي أشكال الحساسية ومقولات الإدراك، في بنيات الذات المتعالية؟
لكن أصالة هوسرل تكمن آخر الأمر في إضفاء الطابع الجذري على هذه الخطاطة المزدوجة. لقد قرر تجذير المعرفة في الذات، مثلما فعل كانط وديكارت تماماً.
 كذلك حذا حذو ديكارت، لكن ضد كانط هذه المرة، ومنح سلطة قول الحقيقة للبداهة التي أطلق عليها صيغة "حدس الجواهر". وأخيراً، لم يرَ هوسرل طريقة لتأسيس العلوم أفضل من جعلها تابعة لفلسفة أكثر "علمية" من العلوم نفسها، مكملاً بذلك على طريقته الخاصة البرنامج الموجِّه للمثالية الألمانية. وحدث الأمرُ كما لو أن هذا البرنامج لم يلاقِ اعتراضاً أبداً من ماركس إلى نيتشه أو من بولزانو إلى فريجه.
إنها طريقة كلاسيكية جداً. بل سيقول هوسرل سنة 1927 إنها مفرطة في الكلاسيكية، لكنه يعدّها الطريقة الممكنة الوحيدة. ولفهم رهانات مثل هذا التأكيد، يتعيّن العودة إلى النص الذي يعرضه أفضل من أي نصٍ آخر، وهو "الفلسفة كعلمٍ صارم" (1911). إنه نصٌ مركزي، ولا سيما أن الأمر لا يتعلق بمجرد مقال بسيط، بل ببيانٍ حقيقي لفينومينولوجيا شعرت، إلى حدود الحرب العالمية الأولى على الأقل، أنها تحمل أعلام النصر.
أعلن هذا النص على الفور أن "الفلسفة كانت تطمح منذ بداياتها الأولى إلى أن تكون علماً صارماً" وأنها لن تتخلى أبداً عن رغبتها في تحقيق هذا المثل الأعلى مهما تكن العراقيل التي تعترض هذه الرغبة، ويسلّم هوسرل بأن هذه العراقيل خطيرة. فمن جهة، يبدو أن تقدم المعرفة الأكثر حداثة يرجع إلى التقدم الذي حققه التجريب أكثر مما يرجع إلى جدل الفلاسفة الفارغ. ومن جهة أخرى، إن الأهمية التي أسندت منذ هيغل إلى مدلول التاريخ أدت إلى تنسيب [نسبنة] (إضفاء الطابع النسبي] قيمة المعرفة وإلى اعتبارها مجرد واحدة من نتائج التطور. ففي سنة 1911، أصبحت علوم الطبيعة (المذهب الطبيعي) التي حظيت بالأولوية والتاريخ (التاريخانية) الذي حظي بالتفوق الشكللين المهيمنين لنوع من "المذهب الوضعي" الذي أدى إلى إفراغ فكرة الحقيقة من مضمونها، وبالتالي إلغاء كل دور خاص بالفلسفة.
لهذه الأسباب وقف هوسرل ضد ذلك "المذهب الوضعي". إذ كرّس الجزء الأول من بيانه لدحض المذهب الطبيعي، وخصص جزأه الثاني لدحض التاريخانية. وبذل جهده في الجزأين معاً لتوضيح الفكرة التالية: عندما تحقق مواقف الخصم تطوراً كبيراً إلى حدها المنطقي، فإنها تنتهي إلى عدم التماسك.
إن المذهب الطبيعي، الذي يمثّله عالِم الأحياء "هايكل" (1834ـ 1919) المدافع عن نوع من المادية الجذرية، عاد إلى "إضفاء السمة الطبيعية" على الأفكار ووقائع الوعي، بمعنى عاد إلى التعامل مع هذه الأخيرة كأشياء، وهو ما يخالف جوهرها. فعندما يُرجِع المذهب الطبيعي القوانين المنطقية إلى مجرد انتظامات نفسية، وعندما يرجِع هذه الأخيرة إلى عمليات فيزيائية وكيمياوية، فإنه يدمر بدون وعي منه قاعدة العرفة العلمية نفسها التي يدعي أنه يمنحها قيمة سامية. فليس المذهب الطبيعي إذاً هو الخطاب الموضوعي الذي يعتقد أنه يجسده. إنه مجرد فلسفة، بل وفلسفة مائعة.
أما في ما يخص التاريخانية، التي يمثلها هنا فيلهيلم دلتاي (1833ـ 1911)، نبي "علوم الروح" أو العلوم الاجتماعية التي يشغل فيها البعد التاريخي مكانة مركزية، فإنها تقوم أيضاً على مسلّمة ضمنية: وهي تأكيد أن لا وجود لحقيقة في ذاتها ومستقلة عن التطور، بل توجد فقط أفكار يعترف اجتماعياً بمصداقيتها في لحظة ومكان محدّدين. إن التناقض صارخ جداً هنا: إذا لم تكن توجد أي حقيقة في ذاتها، فإن حقيقة التاريخانية ليست أكثر يقينية من المذهب المعارض. وعموماً، إذا كان كل شيء نسبياً، فإن إمكانية قيام المعرفة تنهار. لنسجل في معرض حديثنا أن هذا البرهان نفسه سيكرره باستمرار بعد هوسرل خصوم النسبية، مثلاً: هابرماس وبتنام (هيلاري بتنام) في سجالهما مع رورتي.
وباختصار، إن "المذهب الوضعي" بشكليه يتسم بالخطورة. فقد أكد هوسرل مجدداً المكانة الرفيعة للفلسفة بهدف مكافحة ذلك الخطر (المذهب الوضعي) الذي عدّه السبب الحقيقي لـ "الضيق" الروحي لعصره، وهي كلمة ستعرف نجاحاً كبيراً، لكن على يد الهايدغريين هذهالمرة. ولإنقاذ المعرفة وتمكين العقل من الانفتاح في فعل المعرفة، يتعيّن تأصيل هذا الفعل في تربة ثابتة. والحال إن هذه التربة لا يمكن أن يوفرها غير الفلسفة الفينومينولوجية المدركة كـ "علم الجواهر" المترسخ بدوره في ذات متعالية.
لكن هوسرل، وفي اللحظة التي كان يدين فيها عجز أسلافه، بمن فيهم كانط، عن إقحام الفلسفة نهائياً [كلياً] في "الطريق الآمنة للعلم"، نجده يتبنى مشروعهم ويؤكد أنه الوحيد القادر على إنجازه. إذ ستصبح الفلسفة معه، ومعه وحدَه، "علماً صارماً. فضلاً عن ذلك، لن تكون علماً من بين علومٍ أخرى فقط، بل أول العلوم وأكثرها صرامةً ما دامت ستصبح "النظرية العلمية للعقل". يعلن نصّ 1911 عموماً انطلاقةً جديدة للفلسفة، ولكن أيضاً لكل الثقافة التي ليست الفلسفة سوى التعبير الروحي عنها. (40)
عندما كان هوسرل يحدس نهضة الفلسفة على أنقاضها، فإنه ولا شك لم يكن يفعل غير محاكاة مبادرة ديكارت وكانط التي قام بواسطتها الفكر المؤسس برمّته. وإذا انتمت هذه المحاكاة إلى تقليد الميتافيزيقا الكلاسيكية، فإنها ستساهم ولا شك في سجن الفينومينولوجيا في الأنموذج الذي أرادت تجاوزه. لكن التشبه بالقدامى الذي التزمته الفينومينولوجيا لم يظهر فوراً لهوسرل وتلامذته الأوائل. وسيفعل الشيء نفسه كل من سينضم إلى الفينومينولوجيا انطلاقاً من 1910، باستثناء هايدغر، معتقدين أنهم يساهمون بذلك في تقدم العقل، وبالتالي في التقدم بشكل عام. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف هوسرل أبداً عن السير قدماً في الطريق التي رسمها لنفسه، مقتنعاً بأن المستقبل، وليس الحاضر، هو ما سيثبت صواب مشروعه.
ويشهد على استمراره في الإيمان بهذه الفكرة تلك المحاضرة التي ألقاها في فيينا يوم 7 مايو أيار 1935، أي بعد مرور أربعة وعشرين عاماً على صدور نص 1911 الذي رددت صداه تلك المحاضرة التي تحمل عنوان أزمة البشرية الأوروبية والفلسفة تنطلق المحاضرة من فكرة أن البشر الأوروبيين يكوّنون "أسرة" من الأمم التي يوحد بينها رباط "أختوي" (نسبة إلى الأخت)، أي نوع من "الوطن" الروحي الذي يتميز، حسب هوسرل، بتفوق واضح على كل الثقافات الأخرى، سواءٌ تعلق الأمر بالهند أو بالصين أو بشعب "البابو" (كذا) الذي لا يفصله عن الحياة الحيوانية سوى أشياء قليلة.
على أي شيء يرتكز تفوق أوروبا؟ إنه يرتكز على ابتكاره العقل والفلسفة. بيد إن هذا الابتكار الرائع يعيش اليوم نوعاً من الأفول، إذ يعاني أكثر من أي وقت مضى سرطان "المذهب الوضعي" الذي يؤدي تدميرُه للمثاليات إلى مادية فكرية وأخلاقية. هذا السرطان الذي يؤدي إلى رفض الفلسفة يفتح الباب أمام كل الانحرافات اللاعقلانية. وباختصار، إن المذهب الوضعي هو المسؤول الأول عن "الضيق" الذي يعانيه العصر. ولن يتغير التحليل الذي خضعت له هذه النقطة منذ سنة 1911.
زد على ذلك أن التحليل الذي تم به البحث في طريقة العلاج لم يتغير بدوره. إذ يرى هوسرل أنه لا يوجد إلا دواءٌ واحد لهذا السرطان: أن نعيد للفلسفة مكانتها الأساسية باعتبارها أساساً للمعرفة، وأن تمكّن الفيلسوف من أن يصبح "الحاكم الأول" للبشرية. كذلك يجب في الوقت ذاته إرجاع الفلسفة إلى الطريق الصحيح، وهو طريق العلم الصارم، أي طريق العلم الفينومينولوجي للجواهر.
على الرغم من أن المحاضرة ألقيت بعد سنتين من وصول هتلر إلى الحكم، يمكن المرءَ أن يستغرب من كون هوسرل لم ينتقد بشدة مركزيته العرقية ولا كلمة "الحاكم الأول" ـ للهم إذا لم يكن يسعى عمداً إلى معارضة فوهرر خيّر بآخر سيّء، بحيث تصبح الكلمتان مترادفتين عملياً. ومن المثير للاستغراب أيضاً أن على الرغم من خطورة موقفه، فإنه لم ينجح في صياغته صياغة سياسية تكون أكثر إقناعاً. فهو يعتقد أن أصل كل همجية يكمن في "المذهب الوضعي"، وهو مفهوم يتصف على الأقل بالغموض؛ وللقضاء عليه يكفي إعادة كل الحقوق لـ "علم الجواهر". لكن يوجد في هذه النزعة العقلية شيء غامض.
هل كان بمقدور هوسرل أن يقلل من قيمة الطبيعة الحقيقية للخطر الذي كان يهدد العالم سنة 1935؟ لم يكن يستطيع ذلك بالطبع، لأن الخطاب حول أزمة القيم الأوروبية، الذي أذاعه منذ سنة ض9ض8 كل من فاليري وروزينتسفايغ وهايدغر وآخرون، لم يكن يأتي على لسان هوسرل لمجرد التدريب على الأسلوب. وللتأكد من هذا المعطى، يكفي أن نتذكر أنه فقد أحد أبنائه في معارك الحرب العالمية الأولى، وأن النازيين أقصَوْه سنة 1933 عن كل نشاط عمومي في ألمانيا بسبب أصوله اليهودية، مع أنه اعتنق المسيحية منذ عام 1886. ولم يكن هوسرل يعيش تمزقاته العميقة إلا بسبب هذين العاملين.
لكن إذا كان الفرد مجروحاً، فإن الفيلسوف، الذي يتصور مهمته كـ "موظف للبشرية"، ملزم الارتفاع فوق معاناته وفوق عوارض التاريخ، فلا شيء يمكن أن يلزمه أن يضع نفسه محط تساؤل، لا الحوادث الخارجية ولا اللامبالاة المتزايدة التي يعامله بها العلماء في الوسط الجامعي.
ذلك أن طموح الفينومينولوجيا إلى أن تصبح علم العلوم عرف فشلاً ذريعاً في أواسط الثلاثينيات. علماً أن هوسرل كان يعرف ذلك جيداً، بحيث كان يرى أن العلوم، الرياضية أو التجريبية، تتطور حوله بدون مراعاة "الاختزال الفينومينولوجي" الشهير. بل سيذهب إلى حد أن يسجل، بنوع من السوداوية، فقدان الأمل، كما يكشف عن ذلك نص استشهد به كثيراً، لكنه غالباً ما كان يتعرض لسوء الفهم، وهو التذييل xxviii للفقرة 73 من كتاب أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية. يقول هوسرل في ذلك النص الذي حرره في صيف 1935: "تعد فكرة الفلسفة كعلم جدي وصارم، بل وصارم قطعاً، حلماً قد انتهي".
إلا أنه يجب ألا نخطئ فهم معنى هذه الملاحظة. أن ينتهي الحلم، فكرة كان يؤمن بها سنة 1935 العديد ممن آمنوا أولاً بالفينومينولوجيا. وإن كان هوسرل يسجل خيبة الأمل هذه، فهذا لا يعني أنه يقتسمها معهم. وإن كان يشكو التخلي عنه وهو ما يزال في منتصف الطريق، فإنه لا ينوي مع ذلك التخلي عن هذه الطريق، إذ ينبغي أن تستمر الفينومينولوجيا في الوجود.
وستستمر فعلاً، فهي ستعاود الظهور غداة الحرب العالمية الثانية بفضل أعمالٍ متنوعة. لكنها سوف تكون حاضرةًفي هذه الأعمال كمرجعية بعيدة إلى هذا الحد أو ذاك، مرجعية ستحجبها تدريجياً تيارات فكرية أخرى: الوجودية (كارل ياسبرز)، والهرمينوطيقا (غادامر، فاتيمو)، والماركسية (سارتر)، وعلم نفس الأشكال (مرلوـ بونتي). وستمتزج بها انشغالات دينية، أو روحية على الأقل، ذات أصل يهودي (مارتين بوبير، إمانويل ليفيناس) أو أصل مسيحي (بول ريكور). وعلى العموم، لن تستمر الفينومينولوجيا في شكلها الخالص بقدر ما ستعيش بداخل الخليط الذي ستميل فيه فرادتها وطموحاتها الأولى إلى التلاشي.
إن أسباب ذلك التلاشي واضحة للعيان: قدّم هوسرل خدمة كبيرة للفلسفة الأوروبية في كتابه "بحوث منطقية". فقد جاء هوسرل بعد فريجه وقبل راسل ليساعد الفلسفة الأوروبية في استشعار ضرورة إعادة التفكير بشكل عميق في علاقتها بالعلم وبنظرية المعرفة. فجنّبها بذلك السقوط في بحر المذهب النفسي، ووضعها مجدداً في طريقها الخاصة؛ طريق "التفكير بواسطة المفاهيم"، مع انتزاعها من فضاء التجريدات الكانطية الجديدة وتذكيرها بضرورة أخذ "العالم المعيش" من قبل الذات بعين الاعتبار.
لكن هوسرل قاد الفلسفة في الوقت نفسه إلى الطريق المسدود عندما سجنها تدريجياً منذ 1907 داخل إشكالية الكوجيتو الضيقة (ولو أن الأمر كان يتعلق بكوجيتو أكثر شمولية من كوجيتو ديكارت)، وعندما أشاح بوجهه عن تطور العلم، وخصوصاً عندما قر أن يتجاهل بمهارة الإكراه الذي يمارسه كل ما يمكن أن يلغم السيادة الوهمية للذات المتعالية، كالتاريخ واللغة والرغبة.
هكذا وجدت الفينومينولوجيا "الخالصة"، كما يتصورها هوسرل الشيخ، نفسها تنقاد تدريجياً إلى التخلي عن العالم الواقعي على الرغم من رغبتها الصائبة في "العودة إلى الأشياء ذتها". وهو الوجهة التي لم يكن بإمكان مؤيديه الشباب تجنبها إلا بإعلان تحررهم من الأرثوذوكسية الهوسرلية.
لنذهب أبعد من ذلك؛ إذا كانت الفينومينولوجيا عاجزةً عن تأمل الواقع في تعقد محدداته، ألا يكمن هذا العجز منذ البداية في "الحلم"، الكبير والطوباوي، لفلسفة مدركة في آن واحد كـ "علم صارم" وكـ "علم مؤسس لكل العلوم الأخرى"؟ ألم يكن محكوماً على هذا الحلم بالفشل منذ البداية؟
ليس مثال هوسرل هو الوحيد الذي أوحى بهذا الحلم. بل إن برتراند راسل، الذي عاش الحلم نفسه في تلك السنوات نفسها وبلغة مغايرة (منطق فريجه)، قاد مبدأ "ما كان يجب تغييره قد تم يغييره" إلى النتيجة نفسها. (44)

3ـ من المنطق إلى السياسة: