الأحد، 21 أبريل 2019

جورج زيناتي؛ عن كتاب "انفعالات النفس" لـ رينيه ديكارت.




رينيه ديكارت: انفعالات النفس
ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي
دار المنتخب العربي. بيروت. 1993.

تقديم المترجم:
إن مكانة رينيه ديكارت العلمية والفلسفية داخل الحضارة الغربية لا تحتاج بعدُ إلى شرحٍ طويل، فهو أحد أهم علماء الغرب قاطبةً، استنبط الهندسة التحليلية، وكان من أوائل واضعي الفيزياء الرياضية، وهو رائد العقلانية الغربية الحديثة، ومكتشف الكوجيتو ويقين الذاتية على الصعيد الفلسفي، عاش في العصر الكلاسيكي بين سنة 1596م. وسنة 1650م. وطبع القرن السابع عشر بفكره، فعُدّ معظم كبار فلاسفة ذلك القرن مثل سبينوزا وليبنز من تلامذته. حاول أن يطبق الشك المنهجي على شتى ميادين المعرفة فاصطدم بكل الظلاميين الذين يخيفهم نور العقل الإنساني، وقوةُ المعرفة العلمية والتقدم التقني.
وجدَت فيه فرنسا فيلسوفَها الأول بمطالبته بالوضوح الفكري والتمييز الدقيق للأمور، وفصلها عن بعضها البعض لئلا يلج التشويش إلى الفكر. وفي هذا الصدد يذهب الفيلسوف الشاب أندريه جلوكسمان بعيداً جداً، حين يساوي بين ديكارت وفرنسا، في كتاب عنوانه مثير لم يعجب كل الناس. صدر الكتاب في باريس سنة 1987م يحمل عنوان "ديكارت هو فرنسا". وفرنسا التي يقصدها الباحث هنا ليست بالطبع بموقع جغرافي مميّز، ولا هي بروح شعبٍ وقد تجسّدت في فلسفة معيّنة كما ظن الكثيرون، وحاولوا أن يقيموا البراهين على صدق ما ذهبوا إليه. فرنسا هي في داخل أوروبا موقف معيّن متميّز، وهذا الموقف الفكري الروحي بالمعنى الأوسع والأشمل للكلمة هو الذي عبّر عنه ديكارت أفضل تعبير، فكان هناك تطابق بين الفيلسوف وبلده.
ديكارت هو الشك، النقد الممنهجي المستمر لا النقد الذي يحاول أن يصل إلى اليقين، كما حاول مفسروه أن يصوروه. الشك عند ديكارت ليس بتكتيك مؤقت للوصول إلى هدفٍ أبعد، الشك عنده هو استراتيجية دائمة تُلقى على كل المعتقدات والظواهر، على كل إيديولوجية وكل حقيقة. (ص 5)
ديكارت هو إذاً، في نظر جلوكسمان، النفي المطلق، السلبي المطلق، إنه المفكر الذي يلقي بنار الشك على كل مسلّمات محيطه فيزعزع القيم الثابتة واليقين. وفرنسا أيضاً تتلاقى هنا مع كبير فلاسفتها، فمن وراء كل تكتيك كانت تقوم به، كانت في الواقع تدافع عن استراتيجية فكريّةٍ داخل أوروبا (إنّ ما يقوله جلوكسمان حول فرنسا يذكّرنا ولو من بعيد، بما قاله الفيلسوف الألماني الشهير إدموند هوسرل في آخر كتبه حول أزمة العلوم، عن الصورة الروحية لأوروبا). فرنسا كانت دوماً تطبق الشك بأن تحوله إلى نقدٍ منهجي، وحين كانت تزرع الشك كانت في الوقت عينه تزعزع اليقين الإيديولوجي، ومثل هذه الجرعة من الموقف الشكاك كانت تكفي لتمنع الثورة من تكملة مسيرتها لتنتصر في الدكتاتورية والفاشية والتوتاليتارية. وفي عصر غربيٍّ حديث طغت عليه موجة انهيار يقين الإيديولوجيات والأحلام الكبرى والقيم يبقى الموقف الديكارتي الفرنسي المنطلِقَ من سلبية الشك والنقد هو السر المنيع في وجه الاستسلام للدكتاتورية، والضمان الوحيد لئلاّ تذهب الجمهورية إلى الفاشية.
لقد ثار ديكارت ضد عصره، وهاجم الفلسفة النظرية التأملية التي كانت تعلَّم في المدارس لعقمها وعدم نفعها في فهم أية ظاهرةٍ تعترضنا، ونادى باللجوء إلى فلسفة أخرى عملية أنفع للحياة تستمد مثلَها من الفيزياء الحديثة المرتبِطة بالرياضيات، كما يتجلى ذلك في القسم الأخير من كتابه "خطاب المنهج".
واليوم يبدو لي أننا نستطيع أن نقول بأن هناك فلسفةً ديارتية نظرية تنتمي إلى ما يسمى "الفلسفة الدائمة" تعلّم في الجامعات حول براهينه عن وجود الله، وخلود النفس، وعلاقة النفس بالجسد، واكتشاف الكوجيتو، ويقينية الذات، ونظرية المعرفة، أي إن الديكارتية أصبحت كالسكولائية في أيامه، فلسفةً نظريّة تأملية وتعلم في المدارس. غير أننا نستطيع أن نقول بأنه إلى جانب ديكارت منظّر الذاتية هناك ديكارت آخر أُبقِيَ في الظل هو ديكارت المنظّر للتقدم التقني، المؤمن بأن هذا التقدم هو بلا حدود، والمنادي بمعاملة الطبيعة كالكتاب المفتوح الذي لا يملك سراً ولا لغزاً إلا ويستطيع العقل أن يقرأه، ويحل رموزه ويجد له صيغه العلمية، وبذا يستطيع العالم أن يخضِع الطبيعةَ بكل ظواهرها لمشيئة الفرد ومنفعته المادية الآنية، من أجل حياةٍ أفضل يحسّنها العلم كلما تقدّم.
إن اكتشاف الكوجيتو وتنظير الذاتية ويقينية الأنا تظل كلّها ناقصةً دون هذا الفرد الذي يتمتّع بثمرات الأرض وخيراتِها، وينعم بالصحة والعافية لأنه أصبح المالكَ الحقيقيَّ للطبيعة عن طريق معرفة قوانينها وأوالياته يسخّرها من أجل خدمته ورفاهيته ومنفعته اليومية.
إن هذا الفرد الذي تريد كل الفلسفة الديكارتية أن تخدمه لتجعله يعيش سعيداً هو الذي يعطي للديكارتية كل بعدِها الحضاري الغربي، لأنّ أفكارَه الميتافيزيقية أي الفلسفية النظرية التأملية المحضة يمكن إرجاعُ الكثير منها إلى فلاسفة العصر الوسيط، أي أنه ليس من الصعب تفكيك العديد منها، وهذا ما فعله بالضبط بعض الباحثين، وعلى سبيل المثال فالقديس أوغسطين كان منذ القرن الخامس الميلادي قد كتب في مدينة الله: "إن أخطئ فأنا موجود". والصلة هنا مع الكوجيتو الديكارتي واضحة. هذا الفرد ومنفعته الحياتية المادية ومصلحته الصحية الجسدية هو الذي يجعل كل الديكارتية تنتمي إلى الحضارة الغربية وتشكل جزءتً هاماً منها. وخدمةُ هذا الفرد تتجلى في الكتاب الذي ننقله اليوم إلى العربية، فمعالجة موضوع الانفعالات همُّه الأخير فرح الفرد وتمتّعه بحياةٍ عاطفية هانئة، لذا فليس من قبيل الصدفة أن تننتهي الجملة الأخيرة فيه بإعلان انتصار الفرح على كلّ ما يقف في وجهه.
لقد عرف العالم العربي ديكارت، ومنذ مطلع هذا القرن حاول العديد من أنصار التيار الليبرالي المتحرر أن يتخذوا منه مفكرَّهم الأول ورائدَهم. ومنذ الثلاثينيات قام محمود محمد الخضيري بترجمة كتابه "خطاب المنهج" إلى العربية تحت عنوان "مقال عن المنهج"، ثمّ أعيدَ طبع هذا الكتاب سنة 1966م وسنة 1985م. وفي عام 1953 صدرت في منشورات الندوة اللبنانية لروائع اليونسكو ترجمةٌ جديدة لهذا الكتاب، قام بها الدكتور جميل صليبا تحمل عنوان "مقالة الطريقة" وصدرت للكتاب طبعةٌ ثانية سنة 1970 عن المكتبة الشرقية في بيروت. وكان الكتاب قد صدر بأصله الفرنسي سنة 1637م.
ولقد قام عثمان أمين بترجمة كتاب آخر لديكارت صدرت ترجمتُه في القاهرة عام 1960م، وهو كتاب "مبادئ الفلسفة"، وكان هذا الكتاب قد نُشِر باللاتينية، لغة العلم في أوروبا في ذلك الحين، عام 1644م.
أما كتاب ديكارت الأهم وهو كتاب "تأملات ميتافيزيقية، في الفلسفة الأولى" فلقد قام بتعريبه الدكتور كمال الحاج، وصدر في طبعته الأولى عام 1961م، وكان الكتاب قد صدر بالأصل اللاتيني سنة 1641م، وترجِم إلى الفرنسية ومؤلِّفه ما يزال على قيد الحياة.
***
كتاب ديكارت "رسالة في انفعالات النفس" أو بعنوانه المختصر "انفعالات النفس"  الذي ننقله اليوم إلى قرّاء العربية، هو آخر كتاب حرّرته يد الفيلسوف الفرنسسي، وقد كتبه بالفرنسية لا اللاتينية لأنه لا يريد حصر قراءته على فئةٍ قليلة من الناس، بل يريده للجمهرة التي تستطيع بسهولة أن تطّلع عليه بلغتِها، وتم نشر الكتاب أواخر عام 1649م. وقبل توزيعه كان مؤلفُه قد سافر إلى استوكهولم، عاصمة السويد في شهر أيلول (سبتمبر) تلبيةً لدعوة الملِكة كريستين التي دعته ليعلّمها الفلسفة، وليؤسس معهداً من أجل تقدم العلوم، غير أنّ المناخ هناك كان أقسى بكثير من صحة الفيلسوف البالغ الرابعة والخمسين من العمر، فتوفّيَ بعد خمسة أشهر فقط، في الحادي عشر من شهر شباط (فبراير) سنة 1650.
هذا الكتاب بقي في الظل فترةً طويلة ولكن الباحثين يكتشفون اليوم أنه من أهم وأعظم ما كتب ديكارت، وهو يلاقي رواجاً لم يعرفه في السابق وتنشره العديد من دور النشر الباريسية..
"انفعالات النفس" هو قبل كل شيء كتاب في علم النفس يحاول ديكارت فيه أن يحلل شتى الانفعالات والأهواء والعواطف ليلمّ بها ويفسّر آليتها، ليسمح بعد ذلك للعقل أن يسيطر عليها ويسخّرها لخدمة سعادة الفرد في حياته العاطفية. وهو كذلك كتاب في الأخلاق يكمل ما كان مؤلفه قد وضعه في علم الأخلاق المؤقت [؟]، ففي هذا الكتاب تلعب الإرادة دوراً هاماً لا من أجل اجتثاث الأهواء والانفعالات بل من أجل ترويضها وقيادتها نحو هذا النصر العظيم في حياة الفرد الاجتماعية، انتصار نبل القلب على كل بخلِ الخوف والتردد والجبن والحقارة. (8)
وهو كتابٌ حول علاقة النفس بالجسد وما لكلٍ منهما من انفعالات وملذات، النفس لها ملذاتُها العقلية والجسد له أيضاً ملذاتُه ومتعُه التي يجب ألاّ تُهمَل لصالح الأولى بحجة أولوية الروحي على الجسدي. فديكارت لا ينسى على الإطلاق هذا الإنسان الذي يحمل آلة الجسد، ويجب التمتع بما يبيحه له  هذا الجسد من خيرات ونِعَم. (9)
يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، والقسم الأول يتناول الانفعالات والعواطف في مظهرها العام، وهذا ما يقوده إلى مفهومٍ خاص لطبيعة الإنسان: الانفعالات تأتي إلى النفس بقوّة الجسد وما فيه من حركةٍ وديناميّة تحمل معها كل عنف الطبيعة والمفاجأة، وقد تبدو النفس ضعيفةً في مواجهتها، لذا كان لا بد لها من التزود بالمعرفة، غير أنّ النفس تخرج منتصرةً من خضمّ هذه المعركة. وهنا يتجلّى كل تفاؤلِ ديكارت وإيمانه بالإنسان، إذ يؤكد بأنه ليست هناك من نفسٍ ضعيفة إلى درجة أنها لا تستطيع أن تقف في وجه عواصف العواطف. وكأني به يقول لكل فرد: في داخلك قوةٌ ضخمة كامنة تنتظر أمرَ إرادتِك لتحلّق بك فوق كل ضعف؛ في آخر إنسان وفي أضعف واحدٍ منا، تكمن قوةٌ قادرة على الوقوف في وجه كل أنواء الانفعالات.
أما القسم الثاني فإنه يعالج النظام الذي تتبعه هذه الانفعالات والأحاسيس، ويميّز ستة انفعالات بدائية أصلية هي التعجب والحب والكره والرغبة والفرح والحزن، وعنها تنبثق شتى الانفعالات والمشاعر والأهواء الأخرى. وبعد أن يحلّل بالتفصيل كل هذه الانفعالات والرغبات التي يتوقف تحقيقها علينا وعلى الحظ وعلى إرادة غيرنا يؤكد بأن الخطر لا يدهم النفس من هياج الجسد فقط بل يأتيها أيضاً من داخلها، من عواطفها الخاصة بها. غير أنّ الإنسان يستطيع هنا أيضاً أن يخرج منتصراً من المعركة داخل النفس عن طريق ممارسة الفضيلة التي هي عمل الأشياء التي يحكم العقل بأنها الأفضل. إنّ هذه الممارسة الدائمة للفضيلة تجعل الإنسان في حالٍ من السعادة والكمال تصبح معها أعنفُ العواطفِ والأهواء أضعف من أن تنال من هذا الهدوء النفسي الذي يميّزه.
أما القسم الثالث وهو الأخير فقد أضافه ديكارت أثناء طبع الكتاب، وهو يتناول الانفعالات الخاصّة المنبثقة من الانفعالات الأساسية وهي عديدة تزيد على الثلاثين، إذ تناولت مختلف المشاعر التي يعرفها الإنسان في فترة أو أخرى من حياته، فقد انطلق التحليل من شعور الاحترام إلى الاحتقار، من التواضع الاحترام إلى الاحتقار، من التواضع لى التعجرف، من الرجاء إلى التخوّف، ومن الخوف إلى الجبن، ومن التردد إلى الشجاعة والإقدام، ومن الغيرة والحسَد إلى التأسف والندم وتأنيب الضمير، ومن الرأفة إلى الاعتراف بالجميل، ومن الامتعاض إلى الغضب، ومن المجد إلى العار إلى الابتهاج الذي يصاحب الشعور لدى الفرد بأنه كان أقوى من كل الصعاب التي عايشها، إلى ذلك الشعور الرائع الذي يعطي للإنسان كل معناه ويمده بكل كرامته، شعور النبل الحقيقي الذي يمنعنا من أن نحتقر أيَّ إنسان لأن آخر واحدٍ فينا يملك باستمرار هذا الخير الأعظم في الحياة، ألا وهو حرية الاختيار التي تُسبِغ معنى إلهياً على كل التجربة البشرية، لأنها تُدخِل بُعدَ اللامتناهي على كل الوضع الإنساني المحدود [في] الزمان والمكان. إن احترام الذات واحترام الآخر يصبحان الشرط الأساسيَ لكل عمل إنساني وبداية النبلِ المنفتح على الأفق اللامحدود لعمل الخير.
إن استعمال الحرّية الموضوعة تحت تصرّف الإرادة هي مفتاح الحل لكلّ الانفعالات، لا للسيطرة عليها من أجل إلغائها، بل لمعرفة قوانينِها وتحليل أوالياتها من أجل وضعها في تصرّف الفرد من أجل حياةٍ رغيدةٍ سعيدة ممتعة، فالحكمة تجاه الجسد وانفعالاته وعواطفه وأهوائه ليست بالكبح بل بالموقف العقلاني الذي عن طريق المعرفة يصل إلى القدرة والسيطرة. الانفعالات كلُّها جيدة وليس فيها من سيّء سوى طريقة استعمالنا، ومتعة الحياة الدنيا تتوقف على هذه الانفعالات والعواطف واللذات الحسّية، فليس في الحياة من عذوبةٍ بدونها، وكلما كان الإنسان أقدرَ على الانفعال والإحساس كلما زادت مقدرته على تذوّق السعادة اليومية المتحضّرة المرهَفة لأنّ البربريَّ وحدَه يدير ظهرَه للّذات الحسّية.
 إن موقفَ ديكارت الأخير من الانفعالات ومن الجسد بكل رغباتِه وأهوائه شبيه بموقفه من الطبيعة، فالعلم الفيزيائي يعلّمنا كيف نصبح أسياد الطبيعة والمالكين الحقيقيين لها نتمتّع بها كما يتمتّع المالكُ بما يملك. ليس في الطبيعة من عيبٍ سوى جهل قوانينها، وكذلك ليس في رغبات الجسد وانفعالات النفس أيُّ سوء، على العكس من ذلك، إنها رأسمال ضخم موضوع تحت تصرّف حرّية إرادتِنا، وتحليل كلِّ رغبةٍ وعاطفةٍ ومعرفةُ أدقِّ تفاصيلها وعلاقتِها بالنفس هو الطريق لوضعها في خدمة منفعتنا وحياتنا العذبة الهانئة، إذ ليس من سعادةٍ أرضيّة يوميّة بدون حسن استعمال عواطفنا ورغباتِنا. والحكمة لا تتوقّف عند عذوبة الحياة وصفائها بل تتعدّاها إلى تحدّي الصعاب والآلام والمشاقّ لتجعل من هذه حطباً لوقود فرحها.
في بدء العلاقة بين النفس والجسد، حسب ديكارت كان هناك فرح، وفي نهاية مطاف علاقتنا بانفعالاتنا ورغباتِنا وآمالِنا ومطامحِنا يعود الفرح الذي طرده جهلُنا لأنفسنا، وجهلُنا لقوانين حياتنا العاطفية، وبخلُ قلبِنا، ويصبح اللقاء الدائم مع هذا الفرح، عن طريق الذهاب إلى أقصى ما نستطيع في نبل القلب والعطاء والكرم واحترام الشخص الإنساني في ذاتِنا وعند الآخر هو المعنى الأخير لكل الوجود البشري.
وأخيراً، فإنه من غير الممكن أن ننهي هذا التقديم الموجز دون كلمة شكر تكون بمثابة اعترافٍ بالجميل لأستاذَتِنا جنفياف روديس ـ لويس التي عملَت في مدينة "رين" و"ليون" قبل أن تصبح أستاذةً في السوربون، فلقد استفدنا من طبعتها الفرنسية لـ "انفعالات النفس" المنشورة عند فران في باريس، لما فيها من ملاحظات وتعليقات، ومن معجمٍ للمفردات يتعلّق بخصوصيات لغةِ ديكارت، فالعديد من الكلمات والتعابير التي استعملها في زمانه لم يعد لها المعنى نفسُه في الفرنسية الحديثة. ولقد حاولنا نحن أنفسُنا عند التعريب أن نظل أمينين للتراث العلمي الفلسفي العربي، فلغةُ ديكارت، في كثيرٍ من الأحيان، ليست بعيدةً عن هذا التراث. (ص 11)







الاثنين، 15 أبريل 2019

عن هايدغر؛ كريستيان دولاكامبانيْ؛ ترجمة حسن أحجيج.



4ـ بعد النهاية [بعد نهاية الميتافيزيقا]:
(عن كتاب "تاريخ الفلسفة في القرن العشرين"؛ ص 141)

هكذا، فإن أربعة تيارات فلسفية، ترمز إليها أسماء روزنتسفايغ وهايدغر ولينين وكارناب، وضعت "تجاوزَ" الميتافيزيقا كهدف أولي لها.
إلا أن أي تيار منها لم يستطع أن يحقق برنامجه بالكامل. فإذا كانت فلسفة روزنتسفايغ قد فوضت أمرها إلى الإيمان الديني، فإن فلسفة هايدغر تورطت (ابتداءً من سنة 1933) في الأيديولوجيا القومية الاشتراكية؛ وإذا كانت فلسفة لينين قد تجمدت (مدة خمسين عاماً) في عقيدة ستالينية، فإن القدر المثير للدهشة يبقى بالتأكيد هو قدَر الوضعية المنطقية.
لم تحقق هذه الأخيرة طموحها بالقضاء على الميتافيزيقا، ولا على فكرة فلسفة مفصولةٍ عن العلم، لكنها ستقوم على نحوٍ مفاجئ ببعث الروح في المشروع الكانطي (أو الراسلي) المتمثل في إغناء فلسفةٍ "علمية" مقتنعةٍ بالتقدم في "الطريق الآمنة للعلم". لكنها ظلت على الرغم من كل شيء منفصلة عن حقل العلم، ذلك بالخصوص في إنكلترا والولايات المتحدة اللتين سيتم فيهما تصور الفلسفة ابتداءً من نهاية الثلاثينيات، كتخصص علمي من بين تخصصات أخرى، مخصص لبعض التقنيين المتخصصين وموعود بتقدم بطيء لكنه حتمي.
هذه النهضة التي عرفها النشاط الفلسفي المستقل والخالي من العقيدات، والتي لم تكن تمتثل كثيراً لأفكار دائرة فيينا أو لأفكار فتغنشتاين "الثاني"، ليست وليدة المصادفة. بل تفسرها واقعةُ أن المذهب الوضعي، المنحدر من تقليد يعود إلى فريجه، وجد في إنكلترا والولايات المتحدة مجالاً ملائماً لازدهارها، وأن التقاليد المحلية التي استطاع المذهب الوضعي أن ينضاف إليها، منحته نفساً جديداً، مكننته من الازدهار بفضل عدد كبير من البحوث الجديدة. إن التعود على الإشارة إلى هذه البحوث بكلمة عامة، الفلسفة "التحليلية"، يخاطر بتضليلنا عندما يوهمنا بأن لها مصدرَ إلهام واحداً. ذلك أنه إذا كان الفلاسفة الأنغلوسكسونيون خلال السنوات الخمسين الأخيرة قد انحدروا فعلاً من "المنعطف اللغوي" الذي تحقق في بداية القرن، وإذا كانوا يشتركون في الاعتقاد بإمكان توضيح أهم مشكلاتهم بواسطة تحليل الكلمات التي تعبّر عنها، فإنهم يختلفون في اختيار اللغة التي يستحسن "إعادة ترجمة" تلك المشكلات فيها من أجل حلّها. بل يمكن تأكيد أن المدرسة المهيمنة في إنكلترا تضع ثقتها بالعودة إلى اللغة "العادية"، وفقاً لروح فتغنشتاين "الثاني"، بينما نلاحظ أن معظم الفلاسفة الأميركيين، الذين يتقوى تموقعهم ضمن سلالة الرسالة وكارناب، استمروا في الحفاظ على مطلب اللغة "المثالية" تحت أشكال متنوعة، وهو المطلب الذي يخلطونه بمطلب العلم.

ـ صفحة 145، هامش: تنبغي الإشارة إلى أن التداولية la pragmatique ليست هي البراغماتية le pragmatism التي هي مذهب فلسفي نشأ في الولايات المتحدة ويقوم على فكرة أن صدق أيّ قضية أو فكرة يقاس بمدى تحقيقها منفعة الناس. والتداولية هي مصطلح استعمله أول مرّة الفيلسوف تشارلز موريس سنة 1938 عندما ميّز في السيميائيات (علم العلامات) بين ثلاثة فروع: 1ـ النحو أو التركيب syntaxe الذي يدرس العلاقات الصورية بين العلامات؛ 2ـ علم الدلالة semantique التي تعنى بعلاقة العلامات بالأشياء التي تدل عليها؛ 3ـ التداولية pragmatique التي تدرس علاقة العلامات بالأشخاص الذين يستعملونها والسياقات الاجتماعية والنفسية التي تؤوَّل فيها.
.. إن إحدى المميزات الرئيسية للفلسفة البريطانية منذ نصف قرن تظل هي لامبالاتها النسبية بباقي الفكر الأوروبي الذي تنعته بالفكر "القارّي"، وخصوصاً بالفكر الفرنسي الذي لم يحظَ أيٌّ من ممثليه تقريباً باهتمامها.
هذا الموقف المتصلّب من الجهتين، والذي قوّته لامبالاة معظم الفلاسفة الفرنسيين بزملائهم "قاطني الجزيرة"، انتهى بأن حُفِر بين البلدين "هوّةٌ" فلسفية حقيقية. ويشهد على ذلك حوار الصمّ الذي ساد اللقاء المشهود الذي انعقد عام 1958 في روايومون بين الفلاسفة "التحليليين" والفلاسفة الفينومينولوجيين، كما يشهد عليه الاعتراض الصاخب لبعض الجامعيين في كامبردج على منح جاك دريدا دكتوراه فخرية.
إن وجود هذه الهوّة ليس أمراً مؤسفاً فقط، وإنما هو مفارق للغاية باعتبار أن فريجه، كما أشار إلى ذلك دوميت، يعدّ سلفاً للفلسفة "التحليلية" الأنغلوسكسونية وللوضعية الجديدة "القارّية"، كما يعدّ، بفضل تأثيره في تصور كتاب "بحوث منطقية"، ملهماً للفينومينولوجيا الهوسرلية التي يوجد كثير من أتباعها في فرنسا والبلدان اللاتينية. لكن كان من اللازم مرور بعض الوقت قبل أن تقبل ضفتا المانش هذا "الربط" التاريخي بين أهم تيارات الفلسفة المعاصرة. (148)

انتشرت الوضعية المنطقية في الولايات المتحدة، التي تسمى فيها بـ "التجريبية المنطقية" تبعاً لاقتراح كارناب في كتابه "قابلية الإثبات والدلالة"، بفضل توجه معظم الفلسفة الأمبيرية إلى النزعة البراغماتية في بداية القرن العشرين. (148)
جون ديوي:
كان ديوي (1859ـ 1952) يعد! المعرفةَ كأداة يستطيع بفضلها الإنسان أن يتكيّف مع العالم وأن يغيّره في آن واحد. لذلك كان يفضّل أن يُنعَت مذهبه بـ "النزعة الذاتية". أسس ديوي في شيكاغو، التي اشتغل فيها بين العامين 1905 و 1930، مدرسة "تجريبية" مكّنته في الوق تنفسه من وضع بيداغوجيا جديدة والشروع في إجراء بحوث  أصيلة، منطقية ونفسية، على طبيعة العقل. وعلى الرغم من أن تلك البحوث ركزت منذ البداية على علاقات الفكر بالتجربة، فإنها لم تكن منفصلة عن تيارات المثالية الأوروبية الكبرى. فقد تأثر ديوي في شبابه بقراءته لكانط وهيغل، لذلك كان يطح، مثل هيغل، إلى تحقيق رؤية "كلية" للواقع. سنلمس آثار هذا الطموح النظري في كتابه "الفن كتجربة" (1934) وخصوصاً في كتابه العظيم "المنطق: نظرية البحث" (1939)، وهي "كمية" إبستيمولوجية هائلة تُجهِد نفسها لصياغة أعم قواعد الاكتشاف العلمي.
كواين:  فان أورمان كواين(1908ـ ..) 151
يرى كواين بأن هناك عقيدتين لكارناب يتعيّن التخلي عنهما من أجل إنقاذ المذهب التجريبي، أي من أجل تجنيبهما كل نقد. تتمثل العقيدة الأولى في الإيمان بوجود انفساخ عميق بين اللغة والوقائع، بين الحقائق التحليلية والحقائق التركيبية. يعتقد كواين أن لا وجود للحقائق التحيلية "الخالصة": بل إن كل حقيقة تتوقف في الوقت نفسه على اللغة والواقع. إن المنطق والرياضيات نفسَها تعدّ، في الأخير وعبر مختلف الوساطات، علوماً ذات أصل تجريبي. فبعض المكتشفات التجريبية يمكنها أن تلزمنا إعادة النظر في بعض القوانين المنطقية التي ظلت "بديهية" مدةً طويلة: هكذا فإن الميكانيكا الكوانطية مثلاً تبرهن على هشاشة قانون الثالث المرفوع الذي سبق وأن اعترض عليه بروور. وبصفةٍ عامة، ليست المعرفةُ سوى عملية سيكولوجية تتم داخل بنية تجريبية، وهو الدماغ البشري الذي يبني، انطلاقاً من المعلومات المحسوسة التي يتلقاها من الخارج، نظرياتٍ تمكنه من تعليق الواقع، وبالتالي الفعل فيه. ذلك هو السبب الذي جعل كواين يقترح "تطبيع" الأبيستيمولوجيا، أي عدّها كفرع من علم النفس، وبالتالي كفرع من "علوم الطبيعة" عموماً.
والعقيدة الثانية، الضارة بالمذهب التجريبي الجذري، هي عقيدة "الاختزالية". فمن الوهم أن يأمل المرء، كما فعل كارناب في كتابه "البناء"، إرجاع كل منطوق علمي إلى تجربة فورية يمكن أن تتحقق منه. فإذا درسنا منطوقاتنا واحداً بعد الآخر، سوف نلاحظ أنه لا يمكن التحقق منها: فالعلم في كلّيته هو ما يمكن مواجهتُه بتجربتنا في كلّيتها، التجربة التي يحاول العلم إعادةَ بنائها في لغةٍ تتحدد نفسها ببنياتنا الذهنية. هذا المذهب الكوايني، المعروف تحت اسم "النزعة الكلّية"، يرجع نفسه علانيةً إلى أعمال بيار دوهيم وإميل مييرسون. بل سيذهب أبعد من ذلك عندما سينطبق ليس على الفيزياء فقط (كما كان يريد دوهيم)، وإنما على مجموع العلوم، بما فيها المنطق والرياضيات.
وأخيراً، يؤدي ذلك المذهب إلى نتيجتين مهمتين. الأولى هي أطروحة التحديد الفرعي للنظريات بالتجربة. إذ يمكن العديد من النظريات المختلفة أن تقدم عن الوقائع التجريبية نفسِها تقاريرَ مُرضِيةً بالقدر نفسه: هذه الملاحظة تسلبنا الحق في الاعتقاد بأن التقدم العلمي يقرّبنا من الحقيقة الوحيدة والنهائية. والنتيجة الثانية تتمثل في مبدأ التحديد التضافري للترجمة. إن أي منطوق لغوي، علمياً كان أم لا، لا يقدر على ترجمة ثابتة في لغة أخرى. فالترجمة ممكنة جداً، لكنها لا تتم إلا من لغة إلى أخلى معتبَرةٍ في كلّيتها، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالنسبة إلى "متنٍ" من قواعد الترجمة يختارها عالم اللغة، وتكون دوماً قابلة للمراجعة. لهذا فلا وجود لدلالة "في ذاتها"، لأن الدلالة نفسها تخضع لمجموع القواعد التي اختيرت لفهمها. (152)
لا تفلت "النزعة الكلية" لكواين من المذهب الاتفاقي (الذي دانه شليك) ولا من بعض أشكال المذهب النفسي (الذي رفضه فريجه وراسل) [وهوسرل]. إنها في الواقع تعادل إعادة توجيه حقيقي للتجريبية المنطقية نحو الحس البراغماتي. (152)
تنصبّ أعمال كواين أساساً.. على المنطق ونظرية المعرفة..
فإذا كان كواين، على غرار كارناب، يميل إلى إزالة الحدود بين العلم والفلسفة، وإذا كان يعتقد أن على الفلسفة "الجيدة" أن تكون ممارسةً متخصصة ذات نمطٍ علمي وتجريبي، وإذا كان يعد تاريخ الفلسفة أقل أهميةً من نتائجها الموضوعية، أو إذا كان يعدّ أخطاء الفلسفة الماضية أقل إثارة للاهتمام من الأطروحات التي تعدّ اليوم صحيحة كما يقول نفسه، فإنه مع ذلك لا يعتقد أن الفلسفة بما هي كذلك قد انتهت. وهو لا يطمح كثيراً إلى جعلها تقتصر على تحليل اللغة المنطقية ـ الرياضية، حتى وإن ظلت هذه الأخيرة هي حقل الفلسفة المفضّل. إن اقتناع كواين بأن مهمة الفلسفة تتمثل في الكشف عن الخصائص العميقة للواقع تدفعه إلى الاعتقاد بإمكانية المعالجة الصارمة للأنطولوجيا التي كان الوضعيون الجدد يترفعون عنها، وإلى قبول فكرة إمكان تقدم الأخلاق بفضل التحليل المنطقي. وبالمقابل، ترك كواين لعلم النفس مهمة حلّ القضايا الجمالية، ولعلم الاجتماع مهمة تسوية المسائل السياسية. (153)
ومع ذلك، كان يتعيّن انتظار أن يصل إلى الساحة الجامعية باحثون "منشقّون" عن التجريبية المنطقية حتى يستعيد الحوار الأوروبي ـ الأميركي المدى الذي عرفه ما بين 1880 و 1939 (الفترة التي كان فيها جيمس يقيم روابط وثيقة مع ماخ وبرغسون، وكواين مع دائرة فيينا، إلخ). يتكون تاريخ هذا الانشقاق نفسه من مرحلتين: تتميز المرحلة الأولى بأعمال توماس كون الذي أعا دربط فلسفة العلوم بالتوجه ضد التجريبي لدى كل من باشلار وكواري، متجاوزاً بذلك بوبر وكارناب، وكذا بأعمال عالم اللسانيات نعوم تشومسكي (ولد عام 1928). إن هذا الأخير فيلسوف عقلاني بالمعنى الديكارتي للكلمة، وبالتالي فهو أيضاً ضد تجريبي، لذلك فهو مقتنع بأن تعلّم الطفل اللغةَ لا يمكن تفسيره انطلاقاً من المنظور السلوكي لدى كواين والفلسفة "التحليلية" فقط. ولذلك فهو يحاول أن يبني، مستلهماً مدلول "النحو العام" الذي صاغه لُغَوِيّو بور رويّال في القرن السابع عشر، أنموذجاً رياضياً للبنيات "الفطرية" القادرة على تسليط الضوء على الكيفية التي تظهر بها كفاءة الكلام لدى الإنسان. فحققت أعمالُه (اللسانيات الديكارتية، 1966) فوراً نجاحاً باهراً في أوروبا التي لا تجهل سمعة المثقف "الملتزم"، بل و"اليساري"، التي اكتسبها بفضل مواقفه السياسية المتعددة.
أما المرحلة الثانية للانشقاق المناهض للمذهب التجريبي، فقد تطورت انطلاقاً من السبعينيات على يد مفكرين مختلفين، ريتشارد رورتي وهيلاري بوتنام وجون رااولس وستانلي كافيل، تكوّنوا في حقل الفلسفة "التحليلية"، لكنهم يعدّونه حقلاً ضيّقاً جداً. وبالتالي حاولوا الخروج منه من أجل صياغة نظرتهم الخاصة إلى العالم بكل حرية. هؤلاء الفلاسفة، الذين سنتحدث عنهم لاحقاً، تطرقوا إلى موضوعات كانت مهملة من قبل تلامذة كواين (وخصوصاً الأخلاق والسياسة)، ولم يترددوا في مناقشتها مع نظرائهم الأوروبيين (هابرماس، فوكو، دريدا). لكنهم ظلوا مع ذلك حذرين من كل أشكال فلسفة التاريخ والنقد الاجتماعي. ويستحيل ألا نرى هنا آثار التأثير الذي مارسته التجريبية المنطقية منذ نصف قرن من خلال احتقارها كل شكل من أشكال الفكر "الجدلي" المنحدر من هيغل، وكذا من خلال إرادتها الجامحة في تفضيل "الوقائع" على "القيم".
هذه الكوابح ستزول ولا شك تدريجياً، كما يشهد على ذلك الاهتمام الجديد الذي ظهر مؤخراً لدى الجامعيين الأميركيين بفينومينولوجيا هوسرل. إذ بدا لهم أن أح دطموحاتها، أي وصفً بنيات الروح، قريبٌ جداً منم الطموح الذي يلهم "العلوم المعرفية" والبحوث في "الذكاء الاصطناعي". لكنّ الماركسية والوجودية ما والتا لا تُعدّان في الولايات المتحدة إلى اليوم مذاهب فلسفية كاملة. أما في ما يخص نظريات فوكو أو مدرسة فرانكفورت، فإنها غالباً ما تصنَّف في خانة "علم الاجتماع". وما زالت هنا هوّة يتعيّن ردمها بين القارتين. (156)

إريك فروم:
كان إريك فروم (1900ـ 1980)، المنحدر من أسرةٍ متديّنة أرثوذوكسية، على شوليم في بداية العشرينيات في مؤسسة تعليم اليهود الحر التي أسسها روزنتسفايغ في فرانكفورت. وفي سنة 1924، اكتشف التحليل النفسي الذي بدأ يمارسه بدءاً من عام 1927، وأسس بمعية زوجته (1929) معهداً للتحليل النفسي رحّب هوركهايمر ترحيباً حماسياً بضمّه إلى معهد البحوث الاجتماعية. ويعدّ ذلك حدثاً تاريخياً لأنه يؤرخ لدخول التحليل النفسي إلى الجامعة للمرة الأولى! وسيجمع منظّرو فرانكفورت منذ ذلك الوقت في بحوثهم بين الماركسية والتحليل النفسي. (162)

عن هايدغر:
إن كتاب "الوجود والزمن" كتابٌ غير مكتمل. (174)
إن كتاب "الوجود والزمن" كتابٌ غير مكتمل. وككل كتب الفلسفة، يرجع عدم الاكتمال هذا إلى أسبابٍ عميقة، أسبابٌ يعرضها هايدغر نفسه في رسالة وجهها في شهر أبريل 1962 إلى فيلسوف أمريكي، الأب وليام ريتشاردسون.
كانت مسألة الوجود التي تشغل قلب الكتاب تطرح نفسها على هايدغر، كما يقول، منذ أن اكتشف سنة 1907 مقال برينتانو حول أرسطو. وأوحت له بعد ذلك قراءتًه لكتاب "البحوث المنطقية" لهوسرل بطريقة جديدة لمناقشة المسألة الشهيرة: المنهج الفينومينولوجي الذي يريد العودة إلى جوهر الأشياء ذاتها. لكن سرعان ما انحرفت الفينومينولوجيا في اتجاه نزعة مثالية متعالية جديدة، كان هايدغر يرفضها لأنه كان ينوي التفكير في الوجود في زمانيته وفي "تجذره التاريخي". والحال أن هوسرل أدار ظهره للتاريخ والتاريخانية في كتاب "الفلسفة كعلم صارم". هكذا فجأة وجد الفكر الهايدغري، كما ترسخ للمرة الأولى في "الوجود والزمن"، نفسه يدخل نزاعاً.
ولحل هذا النزاع وعرض مسألة الوجود بكل أبعادها، يتعيّن نزع إشكالية كتاب 1927 مما يمكن أن يكون ما زال عالقاً بها من "ميتافيزيقا". ويتعيّن التخلص من التأمل الذي أبرز في الكتاب معنى المشروع الميتافيزيقي نفسه ووسائل "تجاوزه": وستشغل هذه المحاولة بال هايدغر إلى وفاته. لهذا لا وجود لقطيعة في كتابه، بل قدّم منذ عام 1927 تأويلاً أكثر شخصيةً، وضد هوسرلي، لكلمة "فينومينولوجيا".
إن أفضل طريقةٍ للإمساك ثانية بمعنى ذلك التأويل هي إعادته إلى الحدْس العادي الذي يصدر عنه، والذي عدّه هايدغر دوماً المبدأ الذي كان يدور حوله كلُ فكرِه. هذا الحدس، الذي يصوغه في بعض النصوص بمساعدة كلمة "طيّ" pli، هو حدس اختلاف: الاختلاف، غير المحسوس ولكن المطلق، الذي يفصل الوجود عن الموجود، بينما يبدو هذان الأخيران مرتبطين أحدهما بالاخر ارتباطاً وثيقاً، مادام يستحيل أن يكون هناك موجود بلا وجود، ولا وجود بلا موجود.
ليست كلمة "موجود" هي التي تطرح المشكلة. فمجال الموجودات ليس سوى العالم الذي نعيش فيه. الإنسان موجود. ويمكن اعتبار الله نفسه "الموجود الأسمى". فاللاهوت ليس إلا فرعاً من الأنطولوجيا، أو علم الموجود. وبالمقابل، في ما يتعلق بمسألة معرفة بماذا يتميّز وجود الموجود عن الموجود، وخصوصاً لماذا يجب اعتبار هذا التمييز تمييزاً جوهرياً، فإنها تظل مسألةً غامضة.
ما هو الوجود إذاً؟ إن إحباطاً ينتظر القارئ ذا النية الحسنة على الرغم من الأهمية التي يحظى بها الرهان، ذلك أن أعمال هايدغر كلِّها تؤكد أنه من حيث المبدأ لا يمكن الإجابة عن ذلك السؤال. فالوجود ليس هو ما يدعوه الميتافيزيقيون بالجوهر أو الروح أو المادة. لا يمكن أن نقول عنه شيئاً لأنه بدون محمولات. بل إن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بشأنه لن يكون سوى حشو: "الوجود هو ما يوجد". وبعبارة أخرى، لا يمكن إرجاع الوجود إلى مفهوم، ولا يمكن إدراكه بواسطة اللوغوس. (176)
هذا هو الدافع الذي جعله [أي الوجود] يفلت من الفلسفة الغربية برمّتها. إن "الفلسفة" و"الميتافيزيقا" و"الأنطوـ تيوـ لوجيا" كلماتٌ مختلفة تعني الفشل نفسه، "النسيان" نفسه، "الانتهاك" نفسه للوجود. ذلك أن جميع الفلاسفة فشلوا بالطريقة ذاتها. ربما وحدَهم ماقبل السقراطيين، الذين يشغلون طرف السلسلة، ونيتشه في طرفها الآخر، استطاعوا في لحظة خاطفة أن يستشفوا الوجود. لكنهم أضاعوه في اللحظة نفسها التي استشفّوه فيها، نظراً إلى أن ما قبل السقراطيين سرعان ما وجدوا أنفسهم أسرى اللوغوس مجدداً، ولأن نيتشه عندما جعل من الحياة أسمى "قيمة"، سجن نفسه في ما أطلق عليها هايدغر "ميتافيزيقا" القيم، حتى وإن كان نيتشه يرفض ذلك المصطلح.
يتعيّن هنا أن نأخذ شيئاً بعين الاعتبار: يتبيّن أن اللوغوس، أي نمط التفكير المفهومي والبرهاني الضروري لفهم الموجودات، يكون غير وافٍ بالغرض عندما يتعلق الأمر بالتفكير في ما "يتجاوز" الموجودات (هذا النقد ينضم إلى نقد "مركزية اللوغوس" التي طوّرها في الثلاثينيات فيلسوف آخر مناصر للنازية، لودفيغ كلاغس (1872ـ 1956). والحال أن هذا اللوغوس، الذي ساهم ما قبل السقراطيين في إرساء دعائمه، نجح أفلاطون في إعطائه السيادة المطلقة على الفكر. وباكتشاف "خطأ" أفلاطون تمّ اكتشاف "خطأ" الفلسفة كلها. ذلك أن كل فلسفة هي أفلاطونية، بما فيها فلسفات ماركس ونيتشه وكارناب التي تمثّل "عمليات قلبٍ لها" ما دام أن "قلب" الأفلاطونية يعني عكسها رأساً على عقب ولا يعني الإفلات منها. (176)
إن مثل هذه النظرة إلى تاريخ الفلسفة، التي تمكّن من إخفاء المادّية باختزالها في مجرد متغيرة للمثالية، تتسم على الأقل بالتسرّع. لكنها تتميّز بالوضوح، وبأنها تستتبع نتائج لا تقل وضوحاً.
لكن ماذا يتعيّن على المرء القيام به إن أراد ألا يسقط بدوره في الخطأ الفلسفي بامتياز؟ يتعين عليه بكل بساطة التخلي عن الفلسفة.
هكذا يظل كتاب "الوجود والزمن" ناقصاً بما أن الأمر، كما يشير إلى ذلك تكريم هوسرل، ما زال يتعلق بكتاب فلسفي.
ولن يكتب هايدغر منذ ذلك الحين كتباً بالمعنى الحقيقي للكلمة. وسوف يبيّن عن نخوة طفولية عندما سيرفض لقب "فيلسوف" ويطالب بلقب "مفكر".
***
لكن لا يكفي المرءَ أن يعلن "موت" الفلسفة للبرهنة على أنه وجد بالفعل مخرجاً. فلكي يصبح هذا "المخرج" واضحاً، ينبغي على "الفكر" نفسِه أن يبتعد بجرأة عن الإشكالية، العقلانية والإنسانوية، التي ظلت منذ أصولها الإغريقية تميز الخطاب الفلسفي. والحال أن الأشكال الثلاثة المهيمنة لهذه العقلانية الإنسانوية ستتجسد غداة الحرب العالمية الأولى في الشكل المسيحي والشكل الماركسي والشكل الليبرالي والعلماني (الذي هزّه النزاع الذي اجتاح أوروبا مدة أربعين عاماً) والذي يمثّه من بين آخرين هوسرل وراسل وكاسيرر وفاليري. يبدو الأمر وكأنه حدث مصادفةً، بيد أن هذه التيارات الفكرية الثلاثة هي التي لن ينفك هايدغر يصارعها منذ عام 1927. [أي عام صدور كتابه "الوجود والزمن"]
لقد بدا له أن الماركسية تجسد أخطر تهديد. لذلك مقتها إلى درجة أنه اعتمد بعد الحرب العالمية الثانية على انقسام بلده وعلى وجود الجيوش الروسية في برلين ليوحي بأن حرب هتلر لم تكن في العمق سوى حرب ضد الشيوعية. وبعبارةٍ أخرى، يجب القول إن تلك الحرب تبدو بعد مرور الوقت حرباً "خيّرة". ابتعد هايدغر عن الكاثوليكية، التي كانت "عقيدته الأصلية"، منذ عام 1918. ولن يترك أي فرصة تتاح بدون أن يحارب المسيحية عموماً، كما حدث مثلاً في دروسه الصيفية لعام 1935 التي تحمل عنوان "مدخل إلى الميتافيزيقا"، أو في نصّ 1936 الذي خصصه لتوضيح عبارة نيتشه "موت الإله". إذ لم يضف هايدغر سوى القول بأن ما يفرّق بين المسيحية واليهودية أقل أهمية مما يجمع بينهما، وأنه يرفضهما معاً باسم "وثنية جديدة" جرمانية منحدرة أصلاً من حركة "العاصفة والعاطفة".
("العاصفة والعاطفة" حركة سياسية وأدبية ألمانية سادت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ويأتي اسم الحركة من عنوان مسرحية لفريريش ماكسيميليان كلينغز. وقد أراد تقليد تاريخي قومي أو متأثر بالقومية الألمانية أن يجعل من هذه الحركة ثورة الإحساس ضد الطابع المصطنع المجرد لفلسفة الأنوار.)
أما في ما يخص العقلانية الليبرالية، تلك الخاصة بالأنوار والفينومينولوجيا، فقد قطع هايدغر صلته بها نهائياً غداة ظهور "الوجود والزمن". وسيخصص منذئذٍ جزءاً مهماً من أعماله لإدانة ما عدّه الأمبراطورية الشريرة التي تجسدها هذه الأصنام الثلاثة للعقل الحديث التي تتجسد في العلم والتقنية وفكرة التقدم.
يعتقد هوسرل أن أساس العلم هو الفلسفة التي يعدّها كعلم صارم. أما هايدغر، فقد نقل الوظيفة التأسيسية للفلسفة التأسيسية إلى "الفكر"، مع تأكيد عدم قابلية هذا الأخير للقياس مع العلم. ألم يُشِر في عدة مناسبات إلى أن "العلم لا يفكر"؟ هذه العبارة ضد كانطية وضد هوسرلية المستفزة تذكرنا بالأطروحة 6.21 في كتاب "رسالة في المنطق والفلسفة". لكن نيّات المؤلفين مختلفة جداً.
فعندما صرّح فتغنشتاين بأن القضية الرياضية "لا تعبّر عن أي فكر"، كان يقصد فقط فصل الرياضيات عن القاعدة الأفلاطونية التي أقامها عليها فريجه. بينما كان هايدغر يريد أن يكون "مدمّراً". فعندما اتهم العلم بعدم التفكير، كان لا يقصد شيئاً آخر غير سلبه كرامته الفكرية. وللقضاء على التقنية، طابق هايدغر جوهرها وجوهر الميتافيزيقا المتهمة بكونها تجد لذةً في تبعيتها للوغوس أو "المنطق الرياضي" (عبارة قدحية يصف بها هايدغر كل الأبحاث المتحدّرة من فريجه وراسل) دون أدنى انشغال بالبرهان، أي بكل الأشياء التي لا تسير على ما يرام في العالم. كتب هايدغر في سلسلة من الملاحظات حرّرها ردأً على هجومات كارناب: "ليس دمار الأرض سوى نتيجة للميتافيزيقا" التي يظل كارناب سجيناً لها حسب رأيه. وبالنبرة القاطعة نفسها، يقول هايدغر عام 1935 إن "روسيا [كذا] وأميركا تعدّان معاً من الزاوية الميتافيزيقية شيئاً واحداً، أي الجنون الرهيب نفسه للتقنية الجامحة"، الشيء الذي سيسمح له بعد سنة 1945 بألا يحكم لمصلحة أيٍ منم خصمي الرايخ الثالث الذي كان بوسعه وحده أن يوقف "الانحطاط" الروحي لأوروبا.
أما في ما يتعلق بفكرة التقدم، التي تحملها الشيوعية وأسلوب العيش الأميركي معاً، فإن الكثيرين يعتقدون أن لها مكانة صغيرة في أعمال هايدغر. فلما كان من مريدي "الثورة" المحافظة، فإنه يتوقع الخلاص منم الماضي السحيق وليس من المستقبل. ويتصور هذا الأخير كـ "عودة إلى"، عودة إلى أصول الفلسفة (ما قبل السقراطيين) من جهة، وعودة أيضاً إلى الأصول الجرمانية، إلى "نقاء" الأصول التي لم تُمسَسْ والسابقة على عمليات الاختلاط المريبة. وهي عودةٌ أيضاً إلى الأساطير المؤسسة للأرض وللدم. إنها عودة إلى "وطن الوجود" الذي ليس سوى الوطن Heimat بلا زيادة ولا نقصان، عودة إلى الشعب Volk المدرك كحميمية دافئة ومطمئنة، وكأسرة قروية وحامية، وكمخرج في الغابة، وكمسلك في البادية، وككوخ جبلي. وباختصار، إنها عودة إلى الأنموذجات البدائية التي لم تفتأ منذ الرومانسية والإصلاح اللوثري تؤثّث النشيد الجنائزي للروح الألمانية وحنينها إلى الوحدة الضائعة، أو على وجه الدقة، التي لم يتم بلوغها أبداً. هذا دون الحديث عن كراهيته لليهودي الذي يسكنه وهمُ نمط الحياة "الزائفة"، "الشاردة"، وباختصار "المعادية لألمانيا".
يرتبط بكراهيته للعلم والتقنية والتقدم حذرُه المعروف من الأخلاق واقتناعُه بأن الأخلاق ليس لها مكان في "فكر الوجود". ههنا أيضاً تقاطع غير مقصود مع فكرة فتغنشتاين التي مؤداها أن "الأخلاق مستحيلة". لكن نيّات الرجلين تختلف في ما بينهما هذه المرّة أيضاً. فبينما يكتفي فتغنشتاين بملاحظة عدم إمكان ترجمة أحكام "قيمة" في لغة "الوقائع"، ينكر هايدغر أهمية وضع تراتبية للقيم ما دام لا يمكن إنجاز تلك التراتبية إلا داخل خطاب عقلاني، وبالتالي ميتافيزيقي، حسب رأيه. إن رهان هذه الاستراتيجية واضحٌ جداً: فبدون الانشغال بالقيم، لا تعود هناك حاجة لتقديم تبرير للاختيارات الأخلاقية. أية طريقة أفضل من هذه لإخلاء المكان بهدف بناء نظام قائم على القوة بدل القانون؟
إن هذا اللجوء إلى القوّة يحيل بدوره إلى نوع من النزعة المحافظة الأصيلة. يكون الأقوى على حق طالما ظلّ قوياً، فالمهم هو أن يظل الأقوى أطول مدةٍ ممكنة. وهذا مصدر "خطاب السلطة" لدى هايدغر الذي ظل متمسكاً به حتى بعد أن تخلى عن رئاسة الجامعة. إنه خطاب حاسم، إذ يكفي أنه صادر عن الأستاذ لكي يكون محط تصديق ("قال ذلك، إذاً فهو صحيح"). وهو خطابٌ سحريٌّ لأنه يَسنِدُ للاستشهاد، شريطة أن يكون مقتطفاً من "دليلٍ" لا نزاع فيه: هتلر عام 1933، وهيراقليطس في الأربعينيات، وخيراً هولدرلين، دوراً عادةً ما يقوم به الحِجاحُ في الفلسفة. ولا يهم إن لم يجد العقل البرهاني مكاناً له في ذلك الخطاب. فذلك العقل طبعاً هو المخطئ.
هل يجب في نهاية هذا الكلام أن نُدهَش إذا علمنا أن واحداً من أوائل النصوص التي نشرها هايدغر بعد الحرب يحمل عنوان "رسالة في النزعة الإنسانية" (وقد وجّه هذه الرسالة إلى جون بوفري في شهر ديسمبر 1946)؟ يدين هايدغر في هذا النص بشراسة "شرور" هذه النزعة الإنسانية الأوروبية التي كان يجسدها سارتر آنذاك؟ ألن ندهش من أن حوار 1966، الذي يظهر بوضوح أنه مخصص للأجيال القادمة يتبرأ بفظاظة من المثل العليا الديموقراطية، ثمرة عقلانية الأنوار؟ (180)
***
إن فكراً موجّهاً بهذا القدر من العزم نحو الأصل لا يمكن إلا أن يُنكِر التاريخ الحقيقي ويفرغه من كل محتوى، بل يمكنه أن يعيد كتابتَه وِفق مصالحه الخاصة. ولم يكن لهايدغر أن يقاوم هذه الإغراءات الثلاثة.
هل يقال لنا أن إشكالية التاريخية historicite تحتل مكانةً مركزية في كتاب "الوجود والزمن"، وهي التي جعلت سارتر ينجذب إلى هايدغر ابتداءً من عام 1938؟ لكن قراءة سارتر، الذي لا يتقن اللغة الألمانية، لهايدغر بين العامين 1938 و 1943 تقوم في الواقع على سوء فهم. ويكشف عن سوء الفهم هذا العداءُ الذي يحمله هايدغر لسارتر. ذلك أن "تاريخية" الدازاين، كما يدركها أستاذ فريبورغ، يجب تناولها بمعنى "لا غور له" ولا علاقة له بما يعنيه الناس الآخرون بكلمة "تاريخ".
ولقياس مدى حجم التفاوت الذي يفصل لدى هايدغر بين الواقع والخطاب، تكفي العودة إلى التأويل الذي اقترحه لتاريخ الفلسفة الغربية بدءاً من عام 1935.
يبدو للوهلة الأولى أن ذلك التأويل يمكن تفسيره، كما بيّن ذلك جان ـ بيار فاي Fay في فرنسا، بالسياق السياسي الذي أنتجه. بدأ كل شيء سنة 1934 بنقاش داخلي في الفلسفة القومية الاشتراكية. ففي شهر أبريل من السنة نفسها عمد رئيس جامعة فرانكفورت، إرنست كريك الذ يعدّ أهم ممثل للأنتروبولوجيا "العرقية" والمرشح لتأدية دورِ الأيديولوجي الرسمي للنظام، إلى شن حملة تشهيرية ضد زميله رئيس جامعة فريبورغ، إذ نشر في المجلة النازية (الشعب في صيرورة) مقالاً نعت فيه الفلسفة الهايدغرية بـ "العدمية الميتافيزيقية" (نظراً ولا شك إلى أن الأمر يتعلق بـ "العدم" في كتاب "ما هي الميتافيزيقا"؟) وآخذ فيه "الأدباء اليهود" على "مماحكاتهم" (هل يقصد هوسرل؟).
كان ردّ هايدغر على هذا الاتهام الأخطر بقلبٍ ماهرٍ للمعادلة. فقد أكد منذ العام التالي في دروس الدورة الصيفية "مدخل إلى الميتافيزيقا" أن العدمية تتمثل في "بقاء المرء ملتصقاً" بالموجود بدل أن يستهدف الوجود، وبالتالي فإنها تمثل جوهر الميتافيزيقا، بينما يظل فكر الوجود بما هو وجود (الذي يشمل فكر العدم) الوسيلة الوحيدة للتحرر من العدمة. بعبارة أخرى، ليس هايدغر هو "العدمي"، وإنما "العدميون" الحقيقيون هم خصوم الوجود (كريك والنازيون المناهضون لهايدغر).
لا يتعلق الأمر هنا بـ "منعطف" في فكر هايدر، ما دامت نصوص 1927ـ 1929 قد أعلنت من قبل عن ضرورة "تدمير" الميتافيزيقا، بل يتعلق باستراتيجية جديدة ستُلزِم "المفكرَ" إعادة كتابة تاريخ الميتافيزيقا كتاريخ لـ "العدمية". إنها استراتيجية مثمرة مع ذلك: فإن سمحت له بين العامين 1935 و 1945 برد الاتهامات الموجهة إليه من داخل الحزب، فإنها ستساعده أيضاً بعد الحرب في ترسيخ سمعته، الاستعادية والمغتصَبة، كـ "معارض" للنازية.
يتأكد هذا المشروع الشاق لإعادة الكتابة من خلال ثلاثة نصوص دالة للغاية. إذ أضاف هايدغر سنة 1943 إلى مؤلفه "ما هي الميتافيزيقا" ملحقاً ليستحضر، بدون ذكر كريك، الاتهامات التي وجهها إليه هذا الأخير سنة 1934 (وأعادها في مقال ثانٍ نشره في مجلة .. عام 1940). وشرح هايدغر في الملحق أن المحاضرة الشهيرة كان هدفُها غيرُ المعلن هو "تجاوز" العدمية. وتؤكد المقدمة التي أضافها إلى النص نفسه عام 1949 أن العدمية تمتزج بتاريخ الميتافيزيقا برمّته، من "أنكسمندر" إلى نيتشه. وأخيراً، حرّر هايدغر سنة 1955 نصاً تكريماً للكاتب القومي إرنست يونغر، الذي أوحى كتابُه "التعبئة الشاملة" (1930) لعالِم السياسة كارل شميت بمفهوم "الدولة الشاملة الذي أصبح المرجع الإلزامي لجميع الأيديولوجيين النازيين. وأكد فيه هايدغر الأطروحة التي مؤداها عدم إمكان "تجاوز" العدمية (التي تطابق الميتافيزيقا) إلا بواسطة "الإقرار" بها، أو على وجه الدقة، بواسطة "تفكيك" تمثلاتها الجوهرية.
هذه التصريحات المتولدة عن متطلبات السجال، يمكن أن تبدوَ اليوم مبهمة. ولفهم الرهان جيداً، سنتوقف قليلاً عند أحد أشد أبعادها غموضاً: التأويل القابل للنقاش الذي جهد هايدغر في تقديمه لفكر نيتشه، إذ قدم هذا الفكر في دروس 1936 ـ 1940 على أنه أسمى أشكال الغربية. لنذكّر أولاً بأن النقد النيتشوي لـ "القيم" الموجه إلى أفلاطون والمسيحية والاشتراكية والحماقة البورجوازية ومناهضة السامية، وكل الأشياء التي كانت تلخصها في رأيه "الروح الألمانية" التي يجسدها فاغنر، كان يستند بدوره إلى إدانة شاملة للفلسفة الأوروبية. فقد كان نيتشه يصف هذه الأخيرة بـ "الميتافيزيقا" بمعنى قدحي من جهة. ومن جهة أخرى، كان يعيب عليها أنها انتهت إلى "العدمية" وهو اللفظ الذي استعاره نيتشه من كتاب "مقالات في علم النفس المعاصر (1883) للكاتب الفرنسي بور بورجيه Bourget.
يرى بورجيه أن ما يفسر العدمية، مرضَ أوروبا الحديثة، هو "عياؤها الفكري" الذي تبرهن عليه "إنسانية مفرطة في العقلانية"، ويترجمه التخلي عن الفعل وإرادة التدمير الذاتي. ولم يكن لنيتشه سوى أن يكره هذه العدمية ما دامت "الحياة" هي "القيمة" الحقيقية الوحيدة في رأيه. وبالمقابل، كان يرى في عدميته الخاصة "الفعالة"، أي في مشروعه الخاص المتمثل في تدمير القيم المضادة للحياة، الشرط الضروري لـ "التحول" المجيد الذي أعلنه زرادشت.
لكن لسوء حظ نيتشه، سيتم تشويه هذه الأطروحات تباعاً بعد وفاته، أولاً على يد أخته، التي تزوجت من مناهض شهير للسامية كان يكنّ الاحتقار لنيتشه، ثم على يد اليمين القومي المتطرف الألماني (خلال حرب 1914)، وعلى يد النازيين في الثلاثينيات. فقد اجتهد هؤلاء في أن يستعيدوا لمصلحتهم موضوع "إرادة القوة"، ذلك بإخفائه في خطاب "بيولوجي" قائم على تمجيد "العرق" أو القوة الخام. لذا كان من السهل على هايدغر سنة 1935 أن يوضح أن هذه القراءة تتسم بالاختزالية. لكن ما يهم أكثر من الناحية السياسية، ليس هو تصحيح هذا التفسير الخاطئ، وبالتالي الفاحش، وإنما إضفاء الطابع الميتافيزيقي على الفلسفة "البيولوجية" لـ كريك الذي ظل، بفعل تمجيده "الحياة"، يتحرك بدون أن يشعر بذلك في اللغة "العدمية" لفلسفة "القيم"..
وباختصار، لكي يظهر أكثر "ثورية" من الأيديولوجيين الرسميين للحزب، سيسعى هايدغر إلى أن يوضح أشكال القصور التي تعتري فلسفة نيتشه. يتحدث نيتشه بالفعل عن قلب مسلمّات الميتافيزيقا من خلال رد الاعتبار للمحسوس على حساب المعقول. لكنّ قلب نظامٍ ما، مهما يكن، يؤدي إلى تغيير معناه، وليس إلى الخروج منه. وبالتالي فقد ظل نيتشه على الرغم منه سجين العدمية. فهو ليس سوى الممثل الأسمى لتلك "الفترة" المشؤومة لتاريخ بدأ مع أنكسمندر. ويُعدّ أيضاً أول من أظهر أن الخروج من هذه الفترة يتطلب بالضرورة ابتكار طريق جديدة، طريق أكثر جرأة من طريق "تحول" القيم، طريق ادعى هايدغر، في وجه النازيين أولاً، ثم في وجه المنتصرين عليهم بعد عام 1945، أنها الوحيدة التي تفضي إلى "فكر الوجود" :ـ "وطن حقيقي للإنسان".
هذه الأطروحات، المبهمة بقدر ما هي اعتباطية، ستكون لها فائدة على الأقل: تمكين هايدغر من ألا يشعر بالقلق قبل سنة 1945 ولا بعدها. فقد عرف الفيلسوف كيف يتجنب انتقادات النازيين "البيولوجيين" وانتقادات خصوم النازية. إنها لعبة مزدوجة مثيرة للقلق. أما في ما يخص الحقيقة البسيطة (التي مؤداها أن تأويل نيتشه شكّل رهاناً حاسماً في الصراعات القائمة بين الفصائل داخل الحزب القومي الاشتراكي)، فلم تكن لأسباب متعددة تُجمِع عليها الطائفةُ الهايدغرية برمّتها.
فضلاً عن ذلك، سيتخذ هايدغر منذ عام 1945 فيضاً متزايداً من الاحتياطات ليحبط كل بحث دقيق في حقيقة معاركه السابقة. ويشهد مؤلفه رسالة في النزعة الإنسانية مثلاً على محاولاته الأولى شرح كيف أن مناهضته للنزعة الإنسانية تقوم على نزعة إنسانية من درجةٍ أعلى (!)، ذلك لكي يبرر استعماله لكلمتيّ "وطن" و"غرب"، ولكي لا يُتَّهم بأنه شجع على الهمجية بمطالبته بتدمير "القيم".
نشر هايدغر بالموازاة مع "الرسالة" محاضرة تحمل عنوان "لماذا الشعراء"، وصف فيها عصره، الذي تميّز بالانتصار الأميركي ـ السوفياتي، بـ "زمن الشدة" وبـ "ليل العالم". وفي الخمسينيات، نجح في الاعتصام بفضاء تأملي خالص، كما لو أن "تأملاته" ستصبح منذئذٍ عميقةً إلى درجة يصعب معها إقامة أي علاقة مع التاريخ الحقيقي للبشر ومع تقلبات هذا العالم المنحط. فقد تخلى عن البشرية وتركها تعاني تحت نير التقنية الخبيثة، وقضى ما تبقى من عمره ينحت للأجيال القادمة شخصيةَ "مفكرٍ" أسيء فهمُه ومحكومٌ عليه بالمنفى الداخلي، ليس له عملياً أيُّ محاورٍ ذو قيمة غير هيراقليطس أو هولدرلين.
إن الحوار هايدغر/هولدرلين بالخصوص الذي يتميز بتحول "مسألة الوجود" نهائياً إلى بحثٍ شعري ـ صوفي عن "مقدس" أصلي، أو "حشوي" أو "فائق الوصف"، سيصبح "شيئاً"، ثقافياً غامضاً وفاتناً. صحيحٌ أن الفتنة ستظل محدودةً في ألمانيا نفسها. وبالمقابل، ستفتك بالبلدان اللاتينية، وأولها فرنسا. (184)
***
توجد في تارخ الأفكار الحديثة العهد صفحةٌ لافتة للنظر يمكن عنونتها بما يلي: كيف عمل اليسار الفرنسي على إنقاذ هايدغر من النسيان عندما أراد الإفلات من قبضة ماركس؟
بدأت الموضة مبكّراً جداً ما دام الفكر الهايدغري كان قد حظي باستقبالٍ جيد في فرنسا في مطلع الثلاثنيات. إذ خصص له جورج غوفيتش جزءاً من كتابه حول "التيارات الحديثة في الفلسفة الألمانية" (1930). أما الشاب ليفيناس، الذي تحمّس عام 1927 لكتاب "الوجود والزمن"، فقد نشر سنة 1932 مقالاً حول "مارتن هايدغر والأنطولوجيا". وحتى وإن كان انخراط هايدغر في الحزب القومي الاشتراكي معروفاً منذ سنة 1933، وقد حدّث ألكسندر كواري زميلَه ليفيناس عن ذلك، فإنه لم يكن بعدُ قد بدأ يتحدث عن التقزز الذي ستثيره الحرب، ثم الكشف عن محارق اليهود. هكذا فقد استسلم سارتر، بدون كثير ترددات، لإغراء جدلية "الوجود" و"العدم" التي اكتشفها في الترجمة الفرنسية (1938) لكتاب "ما هي الميتافيزيقا"؟ التي أنجزها هنري كوربان، مساعد كواري في المدرسة التطبيقية للدرسات العليا، قبل أن يتخصص لاحقاً بالمذهب الشيعي الإيراني.
أسهم نجاح وجودية سارتر بعد التحرير في إعاد أعمال هايدغر إلى الواجهة، وبدأت في الوقت نفسه المواقف السياسية لرئيس جامعة فريبورغ السابق تثقل على سمعته. إذ لما توضحت طبيعته النازية الحقيقية، بدأ سارتر يبتعد عنها، إذ نشر في مجلته "الأزمنة الحديثة" (1946ـ 1947) خمسَ مقالات زودت الملف معظم العناصر الضرورية، قدمت ثلاثُ مقالاتٍ منها (موريس دوغاندياك، وكارل لوفيت، وإريك فايل) عن الفيلسوف حكماً سلبياً. بينما جاهد ألفونس دووالينس وفريدريك دوطوارنيكي من أجل تبرئته. ففُتِح بابُ النقاش منذ ذلك الحين: هل يمكن الفصل بين الفلسفة والسياسة؟ هل يمكن رسم حدود بين الإدانة النظرية للنزعة الإنسانية من جهة، والإعجاب بـ "الثورة" القومية الاشتراكية من جهةٍ أخرى؟ أجاب سارتر بالنفي. فعلى الرغم من أنه قام بزيارة قصيرة لهايدغر عام 1952، تميزت بعدم فهم متبادل، فإنه لم يعد يرجع إلى فكره. كذلك إن رفض الماركسيين فكرَ هايدغر واضح جداً. ولم يبقَ إلا الآخرون، أولئك الذي يرفضون في آن واحد ماركس وسارتر "المتمركس" لسنوات الخمسينيات، والذين ستتطور لديهم تدريجياً مجموعة من المواقف المختلفة والغامضة إلى هذا الحد أو ذاك. (185)
أولى هذه المواقف تنتمي إلى نوعٍ من الفتنة الدينية. وكان أهم ممثليها، جون بوفري (1907ـ 1982)، واحداً من رجال المقاومة. لم يفهم الناس جيداً الدوافع التي جعلته يوجه قبيل وفاته رسائل تعاطفٍ إلى روبير فوريسون، الذي يعتقد أنه بدّد "أسطورة" غرف الغاز. لكن في الحقيقة، لا يفهم المرء جيداً السبب الذي جعل بوفري، الذي زار هايدغر منذ سبتمبر 1946، يسارع إلى تبرئته، مدعياً أن السياسة لا تهم "المفكر"، وإلى أن يحيط هذا الأخير بقدسية كبيرة سيصبح رجلَ الدين المكلّف بها.
تتمثل إحدى روايات هذا الموقف الورع في القبول، كما فعل مثلاً فرانسوا فيديي، أحد أهم مترجمي هايدغر إلى الفرنسية، بأن الفيلسوف سقط في بعض "الحماقات" عام 1933، لكن ثقل هذه "الأخطاء" يظل ضئيلاً مقارنة بثقف الجزء "السليم" من أعماله. لكنّ العقبة تتمثل في ضرورة كسر تماسك هذه الأخيرة ما دام ينبغي تخليصها من عدد من النصوص لإبعادها عن كل مؤاخذة، ذلك ضد إرادة هايدغر نفسِه الذي ظل يرفض طوال حياته القيام بكل نقد ذاتي.
إن ما يثير الاستغراب أيضاً هو سلوك العائلة الفكرية التي تنوي منح الحوار الفرنسي ـ الألماني الأولوية المطلقة على الرغم من التقلبات التاريخية. لقد ساهمت تلك العائلة حوالي عام 1880 في نجاح شوبنهاور، وفي نجاح هيغل حوالي سنة 1930. وفي الخمسينيات، شملت العائلة كلاً من ألكسندر كواري وجون هيبوليت وجون فال، الذين كانوا في آن واحد مناهضين للنازية وللشيوعية (لم يكن كوجيف يقول عن نفسه إنه ستاليني إلا "ليحمّل ماركس أكثر مما يحتمل"). وبما أن هؤلاء الثلاثة كانوا مفسرين لهيغل، إذ ترجم هيبوليت سنة 1941 "فينومينولوجيا الروح"، فقد اهتموا بنيتشه وهوسرل وهايدغر. وعلى الرغم من انحرافات هذا الأخير، فقد قرروا إدماجه في التقليد الجرماني العظيم الذي احتفظ بكل حظوته على الرغم من أنه عاش ثلاثة حروب في أقلَّ من قرن.
لماذا هذا الاختيار؟ إن الدافع إليه هو رغبةٌ في التوفيق وفي إنهاء الخصومات الفرنسية ـ الألمانية، وربما هو الرغبة في التعزيم على الصدمة التي عاشها هؤلاء المشايعون للألمان بسبب الكشف عن المحارق اليهودية. لكنّ الدافع الرئيسي له هو أن الإنتلجنسيا الفرنسية في الخمسينيات، عندما كانت قد رفضت سارتر وماركس، لم تكن تعلم أيّ قديس فلسفي يجب عليها أن تبجّل. فبدا لها هايدغر كمنقذ محتمل، ولا سيما أن فكره، الذي قدّمه متملقوه كفكر لاسياسي، يستجيب تماماً لأماني تلك الأنتلجنسيا التي انتهت بعد أوشفيتس وهيروشيما بأن أضاعت آخر أوهامِها في تأجج النزاعات الاستعمارية.
كانت الانطلاقة الفعلية لنجاح هايدغر في فرنسا سنة 1955 مع "الندوة العشرية" التي نُظمت على شرفه في سيريزي ـ لا ـ سال، والتي أشرف عليها كل من جون بوفري وكوستاس أكسيلوس (ولِد عام 1924)، ولم يحضرها جان ـ بول سارتر وميرلوـ بونتي. لكن هايدغر التقى فيها الشاعر روني شار، وقضى على هامش "الندوة" بضعة أيام بمعية المحلل النفسي جاك لاكان. وقد تعرف شار ولاكان إلى هايدغر بفضل جان بوفري الذي قدمه لهما. كان لاكان يرى في الوجودية الهايدغرية البعد المأسوي الذي ينقص سارتر والذي يمكنه أن يضيف إلى مذاهب فرويد "الوضعية" نوعاً من "الروح" الفلسفية. أما شار، الذي كان مقاوماً شأنه شأن بوفري، فقد أغراه الاهتمام الذي أولاه إياه الفيلسوف الألماني. فقد كان الرجلان متعاطفين أحدهما مع الآخر. ومن جهته، ساهم كاتبٌ مهم آخر، هو موريس بلانشو الذي عاشر اليمين المتطرف في الثلاثينيات والذي غاب عن "الندوة"، في نشر فكر هايدغر "الثاني" الذي انطلق مسارَه المهني مجدداً عام 1946 بين الأوساط الطليعية. ولم يتردد الفيلسوف المبتهج في أن يشارك أصدقاءه الجدد رأيهم. ذلك أن له في ذلك فوائد كثيرة. ففي الوقت الذي كان فيه المفكرون الشباب (هابرماس) يبتعدون عنه في ألمانيا، تكفلت فرنسا بضمان شهرةٍ جديدة له.
قدّم هايدغر ثلاث محاضرات في تور (قرب أفينيون) بدعوةٍ من روني شار (1966، 1968، 1969)، وساهمت هذه المحاضرات في رفع شهرته إلى أوجها. وبدأت دائرة الهايدغريين تتسع شيئاً فشيئاً. فأضيف إلى الأسماء المذكورة سابقاً كل من بول ريكور، وميشيل فوكو، وجاك دريدا. وقد طوّر ريكور، بالموازاة مع غادامير، تصوراً "هرمينوطيقياً" للفينومينولوجيا يحمل لون المسيحية والوجودية والتحليل النفسي. واستخدم فوكو هايدغر في إعادة قراءة نيتشه. أما دريدا المتأثر ببلانشو، فقد أدرج أخيراً مشروعه ("تفكيك" الميتافيزيقا) ضمن التوجه الهايدغري. وسيتأثر بهذه الموضة أيضاً، ولو وقتاً قصيراً، الماركسي لوي ألتوسير.
ما الذي يفسر هذا الانتشار السريع لتلك الموضة في الأوساط الفكرية؟ فبالإضافة إلى تسامح بعضهم، وتشيع بعضهم الآخر للجرمان، ومناهضة آخرين للشيوعية، هناك عامل جديد ظهر في نهاية الستينيات: إنه رواج البنيوية في العلوم الإنسانية. لم تكن هذه العلوم تشغل بال هايدغر طبعاً. لكنّ نزعتها ضد إنسيّة، التي تبناها كل من ليفي ـ ستروسّ ولاكان وألتوسير وفوكو، لم تكن إلا لتتساوق مع ما ميّز الفكر الهايدغري منذ عام 1927. ومن جهةٍ أخرى، أحيت البنيوية مجدداً الاهتمام باللغة وبالعلامات بصفةٍ عامة: لذلك فمن الطبيعي أن ينجذب بلانشور وفوكو ودريدا، المنشغلون بقضايا الكتابة، إلى اللغة الجسورة لمعلّم فريبورغ وإلى طريقته في خرقه المقصود حدود التعبير الفلسفي المتعارف عليه.
لذلك كانت كتابتُهم "الجمالية" مستعدة لنسيان التضمينات السياسية للمشروع الهايدغري.
كان الصوت النشاز الوحيد هو صوت جان ـ بيار فاي الذي عبّرت عنه مقالات مختلفة ابتداءً من سنة 1961، لكن بدون أن ينجح في قلب تيار الموضة السائد، شأنه شأن التحليل الرائع لبيار بورديو الذي تضمنه كتابه "الأنطولوجيا السياسية لمارتن هايدغر" (1988). أما في ما يخص السيرة التي أعدّها هوغو أوتو عن هايدغر (1988؛ الترجمة الفرنسية، 1990)، والتي تؤكد بطريقة مقنعة ما كان يعرفه الجميع، بما أن أهم عناصر الملف كانت معروفة منذ البداية، فقد أثارت في فرنسا ردود أفعال عدوانية تستحق وحدها دراسة مستقلة.
جاءت دراسة أوتو متأخرة جداً ولا شك، إذ سرعان ما دخل هايدغر إلى اللائحة الرسمية للمؤلفين الذين قررت وزارة التربية الوطنية الفرنسية دراستهم في البكالوريا، والتي لم تشمل راسل ولا فتغنشتاين ولا كارناب ولا ماركوز..
***
يؤكد هايدغر في حوار 1966 أن بعض أصدقائه (هل يقصد بوفي؟) أقروا له بأنهم عندما كانوا يريدون التفكير أو "التفلسف بجدية"، فإنهم كانوا يجدون أنفسهم ملزمين التخلي عن لغتهم والانتقال إلى اللغة الألمانية؛ إلى هذا الحد كان يبدو لهم تفوّق هايدغر الفكري..
لن نقف عند سذاجة هذا الرأي. لكن يجب بالمقابل الانكباب على اللغة الهايدغرية كما فعل هنري ميشونيك. إنها مليئة بالمجازات واللعب بالكلمات والتعابير المبتكرة التي تسمح بها اللغة الألمانية الأليَن من مثيلتها الفرنسية. فلو أن هايدغر، الذي استخدم تلك التسهيلات اللغوية وأفرط في استغلالها، لم يطمح إلا إلى لقب الشاعر النبيل لما كان في الأمر من سوء. لكن عندما ادعى أنه يحمل خطاباً حقيقياً، خطاب الوجود، فإن بهلوانياته اللفظية ارتقت إلى درجة نواقل "فكرية"، على حساب اللغة المفهومية والإجراءات البرهانية التي تتطلبها الفلسفة عادةً.
يصعب الحديث في جمل قليلة عن التأثير الخبيث الذي مارسته هذه الممارسة على أجيال من الطلبة، وخصوصاً في فرنسا، حيث لم يتردد المترجمون والمعلقون في إضافة تأثيراتٍ ضارة أخرى، ملصقين رطانتهم الخاصة إلى هراء المعلم ومهددين بالانتقام من كل من رأى فيه عيباً. لكن لماذا الشكوى ما دام هايدغر نفسه قد حذرنا؟ ألم يقل عام 1943 إن العقل "أعنَدُ خصمٍ للفكر"؟.
ههنا جهرٌ بعقيدة ضد عقلانية لا غبار عليها. وإذا أخذنا تلك العقيدة حرفياً، فيجب أن نستنتج منها أن الفكر الهايدغري يفلت من كل نقد فلسفي ما دام يتموضع خارج الحقل الفلسفي القائم. ولن يبقى إذاً سوى أن نتبنى بشأنه أحد المواقف الثلاثة التالية:
فإما أننا سنكون ملزمين بالموافقة على أن هذا الفكر "حقيقي"، وبالتالي التخلي عن كل فلسفة.
وإما سنكون ملزمين ربطه بـ "جنسٍ" أدبي لا تربطه رابطةٌ بالفلسفة، ذلك حتى نستطيع الاستمرار في ممارسة هذه الأخيرة "كما لو أن شيئاً لم يحدث". (189)
وإما سنضطر، كما يقترح ريتشارد رورتي، إلى إعادة تعريف الممارسة الفلسفية بطريقة أوسع لكي تشمل الفكر الهايدغري. وفي هذه الحالة، سنساند الفكرة القائلة إن الفلسفة ليست منهجاً في التحليل المفهومي يمكّن من أن نحدد بواسطة الحجاج الصدق الكبير إلى [هذا] الحد أو ذاك لبعض الخيارات الفلسفية، وإنما هي تعبير عن الذاتية المزوّدة باستقلال كلّي في تعريف قوانينها الخاصة، وباختصار، إنها لغةٌ "شبه خاصة" تقتصر غايتُها على مباركةِ مبدعها وقارئها المحتمل.
في الواقع، ليس أيٌّ من هذه الحلول مرضياً. فالحلُّ الأول دينيٌّ للغاية (الإيمان بدون فهم). والحلّ الثاني لا يفسر التأثير النوعي الذي لا يمكن إغفاله والذي استطاع هايدغر ممارستَه على الكثير من الفلاسفة المحترفين. والحلّ الثالث يسلب الفلسفة كل خصوصية، وبالتالي، وهو الأمر الأخطر، يهدم أسس المطلب العقلاني نفسها.
ومع ذلك، فإن هناك مخرجاً؛ ذلك أنه إذا تأملنا جيداً السؤال الذي أثار تلك الإجابات الثلاث (ماذا ينبغي أن نفعل بالفكر الهايدغري إذا كان مموضَعاً خارج مجال العقل؟)، ألن نلاحظ أنه ليس هو السؤال الملائم بما أنه صادر عن مقدمة منطقية خاطئة. وبالفعل، خلافاً لما ادّعاه هايدغر، فإنه لم يتخلّ أبداً عن هذه النزعة العقلية التي ما فتئ يدينها. أولاً، نظراً إلى أنه قضى جزءاً كبيراً من حياته التعليمية يقرأ ويشرح، أحياناً ببراعة، نصوصاً فلسفية. ثانياً، نظراً إلى أنه التجأ على الرغم منه، وحتى في أكثر كتاباته غموضاً، إلى مجموعةٍ من المفاهيم والبراهين، وإن لم يكن لجوؤه إليها واضحاً على الدوام. وهل كان بوسعه أن يفعل غير ذلك بدون أن يخاطر بألا يكون مقروءاً تماماً؟
أخيراً، بما أن فكرَه فكرٌ سياسيٌ أيضاً، أي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإيديولوجيا معيّنة هي الأيديولوجيا القومية الاشتراكية، فإنه وجد نفسه مرتبطاً بصورة أخرى من العقلانية: تلك التي سمحت لتلك الأيديولوجيا مدة اثني عشر عاماً بممارسة هيمنتها الكلّية على المجتمع الألماني، بما في ذلك تنظيم الحرب و"الحل النهائي".
لكن المشكل الحقيقي يتجسد بشكل مفارق في ما يلي: لو لم يكن الفكر الهايدغري فكراً خالصاً لما كان أكثر إثارةً للحيرة مما لو كان شعراً خالصاً. لكنه للأسف لم يكن لا هذا ولا ذاك. فهو ليس في آخر المطاف سوى فلسفة. لكنها فلسفة من أكثر الأنواع قابلية للنقاش ما دامت تقوم من حيق المبدأ على نزعة ضد عقلية، وتتوصل مع ذلك إلى التحدث بلغة "عقلانية" بما فيه الكفاية لتقنع بعض القرّاء.
وباختصار، إذا كان الفكر الهايدغري إشكالياً وخطيراً معاً، فذلك لأن العقل والجنون يمتزجان فيه بطريقة فريدة ومثيرة للقلق. تماماً مثلما أن الرعب الخاص بأوشفيتس يرجع بدوره إلى مزيج لا سابق له من الحمق (من حيث الغايات) والعقلانية (من حيث الوسائل المستعملة لبلوغ تلك الأهداف).
كان من الضروري بعد الحرب العالمية الثانية الشروع في التساؤل حول نشأة هذا المزيج. وكان ضرورياً لتحقيق ذلك إجراءُ محاكمةٍ للعقل نفسه بهدف التوصل إلى فهم جيد للأسباب التي جعلت الأنوار تُضِلُّ طريقها بعد قرنين فقط من ظهورها.
ـ تحقيقات أولية: