الجمعة، 30 أغسطس 2019

أين أخطأ ديكارت؛ الفاهم محمد




خطأ ديكارت: العاطفة والعقل والدماغ البشري؛ أنطونيو داماسو؛ ترجمة أحمد الغفيلي.
رابط المقالة على مجلة "حكمة"



عالم الأعصاب البرتغالي أنطونيو داماسيو ينقض الكوجيتو... أين أخطأ ديكارت؟
25 أكتوبر 2018 - 12:13 AM
الفاهم محمد

ديكارت الرجل الذي افتتح عصر الحداثة الفلسفية، والذي وضع القواعد الضرورية لقيادة استعمال العقل بطريقة سليمة. ألا يمكن أن تكون فلسفته قد تضمنت عناصر لا عقلانية؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة العقلانية قد افتتحت ميلادها بخطأ كبير سيتردد صداه في مجمل الفلسفة الحديثة؟ 
هذا ما يراه أنطونيو داماسيو، طبيب علم الأعصاب والأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا، في كتابه الذي أثار ضجة كبيرة: «خطأ ديكارت». نعلم جميعا أن الفلسفة الديكارتية تعرضت لنقد شديد داخل تاريخ الفلسفة سواء من طرف كانط أو هيجل أو هوسرل فيما بعد، غير أن الانتقادات المقدمة من طرف داماسيو هي من طبيعة أخرى تماماً، فهي تستثمر نتائج علم الأعصاب من أجل تفنيد الأطروحات الديكارتية حول الأنا والوعي الذاتي، ولكن في ماذا أخطأ أبو العقلانية؟
ثورة علم الأعصاب
قبل الإجابة على السؤال السابق لا بد من الإشارة إلى واحدة من أكبر الثورات التي نعيشها في الألفية الثالثة، وهي ثورة علم الأعصاب والتي مكنتنا من التصوير الداخلي لما يجري في أعماق الدماغ البشري. لم تعد العمليات الذهنية شيئا سريا محاطا بالألغاز، بل إن علم الأعصاب قادر اليوم على فك شفرتها، بواسطة الخوذة العجيبة، أو بواسطة التصوير المغناطيسي الذي يعرف أيضا بتصوير الدماغ عبر الرنين المغناطيسي. ورغم أن داماسيو لم يقتنع تماما بما قدمته هذه التقنيات ويأمل في أن تتطور في المستقبل، إلا أنها، وفي الوضع الذي توجد عليه اليوم، قد مكنت من تثوير نظرتنا إلى الوظائف التي يؤديها الدماغ البشري.
لكن من هو أنطونيو داماسيو؟
طبيب أعصاب وعالم معروف عالمياً في ميدان الطب النفسي وعلم الأعصاب. برتغالي الأصل لكنه يعيش حاليا في الولايات المتحدة الأميركية، ويعمل أستاذا في جامعة جنوب كاليفورنيا منذ 2005. تتركز أعماله حول البحث عن الأساس العصبي للإدراك البشري وتسليط الضوء على الدور الذي تلعبه العواطف في تشكيل القرارات المعرفية التي يقوم بها الإنسان. كتاب «خطأ ديكارت» الصادر سنة 1994 أول عمل له، وقدمه للمجتمع العلمي والمعرفي، كواحد من أهم الباحثين في مجال علم الأعصاب. في هذا الكتاب يبحث داماسيو عن الدور الكبير الذي تلعبه العواطف والمشاعر في تشكيل إدراكاتنا المعرفية.
حالة فينياس جيج
يتناول أنطونيو داماسيو في كتابه هذا مثالاً شهيراً في كتب الطب وهو حالة (فينياس جيج -phineas gage)، هذا العامل الأميركي البسيط في السكك الحديدية خلال القرن التاسع عشر الذي تعرض لحادث غريب، وذلك عندما دخل قضيب معدني مخترقا رأسه من أعلاه إلى أسفله، مما أدى إلى تلف الفص الجبهي الأمامي للمخ. الغريب في هذا الحادث ليس فقط كون فينياس ظل على قيد الحياة، ولكن الأغرب هو أن شخصيته تغيرت بالكامل - كما يقول أصدقاؤه - من رجل انطوائي ورصين في سلوكاته، إلى شخص منطلق عديم المسؤولية غارق في التهتك اللاأخلاقي
فينياس جيج مثال ملموس عن دور الدماغ في تحديد طبيعة الشخصية. يتساءل داماسيو: ترى ماذا حدث حتى تتغير القدرات العقلية وكذا السلوك الشخصي لفينياس؟ في نظره، لقد فقد هذا الرجل العواطف التي تمكننا من التكيف مع محيطنا الاجتماعي. إن هذا في نظره دليل على أن العواطف تقع في أساس عملياتنا الإدراكية والمنطقية. وهذا بطبيعة الحال عكس ما كان يدعي ديكارت. حالة فينياس جيج تثبت في نظر الباحث - بشكل قاطع - الدور الذي يلعبه الفص الجبهي الأمامي préfrontale في التخطيط لأفعالنا المستقبلية، والتصرف في انسجام مع القواعد الأخلاقية الاجتماعية، وكذا اتخاذ القرارات الضرورية للحفاظ على البقاء. أما في حالة تلفه فإننا نفقد كل هذه الإمكانات وتتشوش هذه الوظائف. إن واحدة من المهام الأساسية التي يقوم بها الدماغ البشري هي استشراف المستقبل وتشكيل خطط للعمل، غير أن كل هذه الأمور يتمكن من القيام بها فقط بالتزامن مع ما نشعر ونحس به. صحيح أن فينياس جيج نجا بجسده من الحادث، غير أنه فقد تماما شخصيته وقدراته العقلية والنفسية.
إن حالة فينياس جيج تدل - في نظر الكاتب - على الدور الكبير الذي تلعبه العواطف في تكيف الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه. هذا يعني أن العواطف ضرورية جدا من أجل الإدراك السليم، على العكس تماما مما كان يعتقد ديكارت، الذي نظر دوما إليها كشيء مناقض تماما للعقل. بل أكثر من هذا يؤكد داماسيو في الجزء الثالث من الكتاب أن الجسد الذي احتقره ديكارت، واعتبره مجرد جوهر ممتد يمكن أن يلعب دورا كبيرا في تمثلاننا العقلية، نظرا لأنه وهو يمارس أنشطته في العالم، يشكل إطارا مكانيا وزمنيا ثابتا يمكن أن تستند إليه باقي التمثلات الإدراكية.
أطروحة ثورية
نحن أمام أطروحة ثورية جدا تقلب رأسا على عقب كل ما كنا نعرفه عن الوعي بالذات. نعلم جميعا أن ديكارت وضع العقل في ضفة والعواطف في ضفة ثانية، مؤكدا أنهما لا يعملان معا، لأن العقل هو سيد ذاته ولا يمكنه أن يتأثر بأي شيء آخر. والحال أن أنطونيو داماسيو يربط بينهما لأن العواطف تلعب دورا أساسيا في اتخاذ القرارات العقلية. فعندما تتضرر المناطق من الدماغ المسؤولة عن العواطف كما في حالة بعض الأمراض العصبية، فإن الإنسان يصبح غير قادر على التحكم في إدراكاته العقلية واتخاذ قراراته بشكل سليم. وهكذا، فإن الكوجيتو الديكارتي مناقض تماما للحقيقة، ما دام أن الوعي لا ينفصل بتاتا عن الجسد. وبكلام آخر، إذا كان ديكارت ينطلق من فعل التفكير لكي يثبت فعل الوجود، فإن داماسيو يقلب الكوجيتو الديكارتي، مؤكدا أن فعل الوجود في العالم ذاته هو ما يسمح بقيام التفكير.
إن الوعي الذي اعتبر منذ قديم الزمان خصيصة الإنسان ومقصور عليه وحده، الجوهر الذاتي و«اللطف الإلهي» كما كان يسميه ديكارت، ها هو ذا يتم إنزاله من عليائه. فالوعي ما هو إلا الكيفية التي تحدد العملية التي تجري داخل الدماغ عبر الدوائر الخلوية العصبية. ثمة شبكة معقدة من التفاعلات بين العصبونات والإشارات الدماغية. ورغم أن داماسيو يعترف أن هذا التفسير البيولوجي غير كاف ولا يقدم حلا لكل الثغرات، إلا أنه يعتقد - مع ذلك - بأنه يشكل الطريق الصحيح لتأسيس تفسير شامل لمعضلة الوعي. فداماسيو لا يوضح لنا، بشكل تام، كيف تستطيع هذه العواطف التي ساهمت في بناء التمثلات العقلية، أن تتمكن في ما بعد من بناء وعي الإنسان بذاته. لقد حاول الكاتب معالجة هذه النقطة التي ظلت معلقة في كتبه اللاحقة خصوصاً في كتاب: «الشعور بما يحدث» موضحاً أن هذه الذات الفطرية أو ما يسميه بنواة الوعي المتجذّرة بشكل لاشعوري داخل الإنسان بفضل الجهاز العصبي، هي ما يساعد على تأسيس وعي مركزي للإنسان بذاته أو ما يطلق عليه «الوعي الممتد». لكن في جل الأحوال أن يكون المرء عقلانيا هذا لا يعني بتاتا الانفصال عن عواطفه.
رهانات علم الأعصاب
بشكل عام نقول بأن الأطروحة الضمنية التي يدافع عنها دامسيو محاولا تطويرها في كل كتبه، هي أن كل ما بحثه الفكر الفلسفي حول الوعي وجوهر الأنا والتي اعتبرت مواضيع ميتافيزيقية خالصة، يمكن معالجتها وحل إشكالاتها بالاعتماد على البيولوجيا وبالخصوص علم الأعصاب. وأن الوعي يمكن اختزاله إلى علاقات صورية وخوارزميات شكلية ما دام أن كل ما يحدث داخل الدماغ يمكن اختزاله إلى العمليات الميكانيكية البيولوجية أو ما أطلق عليه في كتابه: «الشعور بما يحدث» الأسس البيولوجية للعقل. في هذا السياق ألا يمكن أن تكون النظرة الاختزالية الميكانيكية هروبا من التعقيد الأساسي الذي يكتنف الذات البشرية ووعيها بذاتها وامتلاكها لإرادتها الحرة؟. لنتذكر هنا التجارب التي قام بها بنجمان ليبت benjamin libet  والتي رفض من خلالها الاعتراف بوجود «مركز عصبي للوعي»، في نظره، صحيح أن الدماغ ينتج نبضات عصبية حيث يكون الوعي خاصية منبثقة عن هذا النشاط، غير أن الوعي مع ذلك لا يتموقع في مجموعة محددة من النبضات الدماغية، فهو ينبثق عنها ولكنه لا يختزل فيها تحديدا، وهذه هي دلالة عنوان كتابه: «الوعي ما وراء الخلايا العصبية» الصادر سنة 2012.
باختصار، لقد ابتعدنا كثيرا عن ذلك الموقف الذي كان ينظر إلى الوعي ككيان لا مادي. نحن اليوم نعتبره مجرد إشارات دماغية يمكن رصدها وتصويرها بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، وبالتالي فهو ظاهرة مادية خاضعة لقوانين الطبيعة. هذه الأطروحة لا يختص بها فقط داماسيو، بل نحن نجد لها اليوم الكثير من الأنصار منهم مثلا ستانيسلاس دوهين صاحب كتاب «شفرة الوعي»، وجيرالد إدلمان صاحب كتاب «بيولوجيا الوعي» وكذلك دانييل دانيت بكتابه «الوعي مفسرا». كل هذه المشاريع تفتح مجالا واسعا للنظر إلى الوعي معتبرة إياه مجرد إشارات دماغية، يمكن حوسبتها وبالتالي فتح المجال لمحاكاتها عبر الذكاء الاصطناعي.
نحن اليوم أمام منعطف حضاري كبير يدفعنا إلى إعادة النظر في جل المفاهيم التليدة حول الوعي والذات الإنسانية. كانت الفلسفة الكلاسيكية سواء في صيغتها اليونانية أو في صيغتها الحديثة تعتبر أن الكينونة البشرية محاطة بالغموض والإبهام، وأن الوعي والأنا لا سبيل إلى سبر أغواره. يقول أرسطوفان: «ثمة عجائب كثيرة في هذا العالم لكن الإنسان هو أعجب العجائب». أما كانط فقد ذكر مرة أن: «معرفة الذات سقوط في مهاوي جهنم»، غير أن كل هذا بات مع ثورة علم الأعصاب من الماضي.
أصبح الوعي ظاهرة قابلة للقياس والإحصاء والتكميم، فهل سيتمكن علم الأعصاب من فك شفرة هذا «النور الفطري» - كما كان يسميه ديكارت - تبديد كامل الغموض الذي يكتنف الذات البشرية؟ تلكم على أي حال هي رهانات علم الأعصاب المستقبلية.

الاثنين، 19 أغسطس 2019

فلسفة الذهن والظاهريات؛ شاون غالاغر؛ ترجمة بدر الدين أحمد.




فلسفة الذهن، العلوم المعرفية، والظاهريات


شاون غالاغر:
فيلسوف أمريكي متخصص في الإدراك الاجتماعي. له مجموعة من المؤلفات، من بينها: "ميرلوبونتي ، التأويليات، وما بعد الحداثة" و "التأويليات والتربية".

ترجمة: بدر الدين مصطفى أحمد
باحث وأكاديمي مصري، أستاذ فلسفة الجمال والفلسفة المعاصرة بقسم الفلسفة، كليّة الآداب، جامعة القاهرة، مصر. درّس في أكاديمية الفنون وفي جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا. نشر العديد من الأبحاث والمؤلفات في الفلسفة والنقد الأدبي والبلاغة والجغرافيا والثقافة البصرية، منها: حالة ما بعد الحداثة: الفلسفة والفن (2013)، و"الثقافة البصرية" (2016).


فلسفة الذهن، العلوم المعرفية، والظاهريات(1)

ملخّص:
لقد أضحى الذّهن وآليات عمله موضوع الساعة في العديد من المناقشات المتداولة عبر العديد من الحقول المعرفية: علم النفس، علوم المخ، الذكاء الاصطناعي، وفلسفة الذهن - وجميعها حقول تنتمي إلى ما اصطلح على تسميته بالعلوم المعرفية cognitive sciences. ولم يكن هذا التداخل في تلك النقاشات وتشابكها من قبيل المصادفة، بل هو ضرورة استدعتها حقيقة عدم وجود فرع علمي قادر على الإحاطة بتعقيدات المسائل المتناولة. وتشير الظاهريات إلى اتجاه فلسفي أوروبي النشأة. ويشتمل على أعمال كل من هوسرل، هيدجر، ميرلو- بونتي، سارتر، ومفكرون معاصرون آخرون.
عرض موجز لمائة عام مضت:
لو ألقينا نظرةً سريعةً على المناقشات الفلسفية والسيكولوجية حول الذهن في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، لوجدنا أحاديث معقّدة عن طبيعة الوعي (كما نجد مثلاً في كتابات الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس، والفيلسوف الألماني إدموند هوسرل)، والبنية القصدية للحالات الذهنية (أعمال الفيلسوف وعالم النفس النمساوي فرانتز برنتانو، وكذلك برتراند راسل، بالإضافة إلى هوسرل)، علاوةً على مناقشاتٍ حول المنهجية المطلوبة لدراسة الذهن بصورةٍ دقيقة (فلهلم فونت)، جوستاف ثيودور فخنر، وبالطبع جيمس وهوسرل). ونلاحظ أنّ كل هؤلاء قد أثّروا في بعضهم البعض، أحياناً بصورةٍ مباشرة (الخطابات المتبادلة بطريقة هذا العصر) أو غير مباشرة (قراءة أعمال بعضهم البعض). وهكذا نجد مثلاً أن جيمس تأثر بالمنظّرين والعلماء الأوروبيين، وهو في كتابه الصادر في عام 1890 بعنوان مبادئ علم النفس يذكر أعمال برنتانو وعددٍ من تلامذته، ومنهم كارل ستمف. ورغم أن جيمس لم يتحدث عن هوسرل، وهو تلميذ كل من برنتانو وستمف، إلا أن هذا الأخير كان قد أوصى هوسرل بقراءة مبدئ جيمس. وقد نفّذ هوسرل الوصية، وتأثر بجيمس بصورةٍ واضحة. كما كان هوسرل معاصراً لعالم المنطق الألماني جوتلوب فريجه. وانتقد كلاهما النزعة النفسانية، التي تتبنى القول بإمكانية رد قوانين المنطق لعلم النفس. (*) وكان لكليهما اهتمام قوي بفلسفة الرياضيات والمنطق، وهما المجالان اللذان كانا مناط اهتمام راسل، الذي قرأ كتاب المباحث المنطقية لهوسرل أثناء وجوده في السجن (بعد معاقبته على المشاركة في العصيان المدني).

(* هامش): لم تندحر النفسانية تماماً، بل تم إحياؤها مجدداً في هيئة ما يسمى بالنزعة العصبية neurologisme وقد كتب عالم الأعصاب المشهور سمير زكي في مقال له: "أساس مقاربتي حقيقة أعتقد أنها بدهية ـ أن انتظام وقوانين المخ هي التي تملي كافة الأنشطة الإنسانية؛ وبالتالي لا يمكن أن تكون ثمة نظرية في الفن أو استطيقا حقيقية ما لم يكن أساسُها عصبيّاً". ولكن الطبيعة القاصرة والمضلة لهذا الطرح تتضح لحظة أن نقوم باستبدال الأنشطة الإنسانية الأخرى مثل الفيزياء الفلكية، أو الآثار بهذا الزعم حول الفن والاستطيقا. (ص 3)

مع حلول القرن العشرين، حدث انفصال بين هؤلاء المفكرين ومقارباتهم الفلسفية. وتضاءل اهتمام جيمس بعلم النفس بعد انشغاله بتطور الفلسفة البراغماتية الأمريكية. وصار التحليل المنطقي من النوعية التي نجدها في أعمال فريجه وراسل أساس ما صار يعرف بالفلسفة التحليلية. وطوّر هوسرل مقاربةً للوعي والخبرة أطلق عليها الظاهريات (الفينومينولوجيا). وبحلول منتصف القرن، وخلال ما تبقى من القرن العشرين، اتسمت المناقشات حول الذهن (وموضوعاتٍ أخرى أيضاً) بانعدام التواصل تقريباً بين الفلسفة التحليلية للعقل والظاهريات. والواقع أن العلاقة بينهما قد تراوحت ما بين التجاهل التام والعدائية الصريحة. وكان من المعتاد، حتى العقد التاسع من القرن، أن نجد حواراً بين فيلسوفين من هاتين المدرستين. فنجد مثلاً جان لوك ماريون (1998) يؤكد أن الظاهريات قد نجحت في السيطرة على المشهد الفلسفي في القرن العشرين، وهو بذلك يتجاهل أيّ إسهام للفلسفة التحليلية. وعلى الجانب الآخر، زعم توماس ميتنجر أن الظاهريات "ليست سوى برنامج بحثي لا وجاهة له.. وتعاني إفلاساً فكرياً يمتد قرابة الخمسين عاماً على الأقل". وحتى عندما يُدار نقاشٌ بين مفكري الظاهريات والفلاسفة التحليليين، نجد ردوداً من قبيل زعم جون سيرل، في رده على دراسةٍ نقدية لدرايفوس، المتمثل في أن الظاهريات تعاني قصوراً، أو كما قال: "كدت أقول.. إفلاس ـ وهي لا تجد ما تقدمه لموضوعات البنية المنطقية للقصدية أو البنية المنطقية للواقع الاجتماعي والتأسيسي". (سيرل).
إن شرح الكيفية التي غدت بها تلك الاتجاهات الفلسفية المختلفة متعارضة، أو ربما ما هو أسوأ من ذلك؛ أي غير مبالية تجاه بعضها البعض، ينطوي على حكاية تتجاوز أغراضنا من هذا الكتاب. ونحن هنا نؤيد ملاحظة ديفيد وودروف سميث: "يجب أن يكون واضحاً أنّ لدى الظاهريات الكثير لتقوله في مجال فلسفة الذهن. ومع ذلك، فإننا لا نجد أي ارتباط بين الفكر الظاهرياتي والفلسفة التحليلية لهذا المجال، على الرغم من مناطق الاهتمام المتداخلة بينهما" (سميث 2003). ولكنك في هذا الكتاب ستكون قادراً على تمييز بعض الاختلافات المهمة بين مقاربتي الفلسفة التحليلية للعقل والظاهريات، وكذلك بعض من تلك الاهتمامات المتداخلة بينهما.
إن جزءاً آخر من التاريخ ذي الصلة يشير إلى المسار الذي اتخذه علم النفس في هذا المجال. وإليك النسخة المتفق عليها، والتي هي في اعتقادنا تاريخ غير دقيق إلى حدٍ ما لما حدث في الواقع، على الرغم من أنها النسخة التي تجدها تقريباً في كل كتاب متخصص. ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، (ص 4)
كان هناك اهتمام كبير بشرح الخبرة الواعية والعمليات المعرفية الفاعلة في الانتباه والذاكرة. واعتمد علماء النفس التجريبي في وقت مبكر على الاستبطان كطريقةٍ تهدف إلى التوصل إلى بياناتٍ قابلة للقياس حول الذهن. ولكن مع حلول عام 1913، تحول التركيز إلى مفهوم السلوك باعتباره الموضوع الملائم للدراسات النفسية. وحظيت السلوكية، كنهج لدراسة سيكولوجية الإنسان والحيوان، بمناصرة الطبيب النفسي الأمريكي جون واطسون (1913) ودفاعه، وهيمنت على دراسة علم النفس، وخاصةً في أمريكا، حتى السبعينيات من القرن العشرين، بعد أن بلغت ذروتها في الخمسينيات. وكانت هذه النقلة إلى السلوك وتركيزها على الفعل في الوقت ذاته قد أخذت علم النفس بعيداً عن شواغل الذهن ونهج الاستبطان. على أن المقاربات المعرفية حلّت بالتدريج محل التصوّر السلوكي، وعادت تلك المقاربات إلى الاهتمام السابق بالعمليات الداخلية للعقل، ولكنها مسلحة هذه المرة بنماذج تمّ تطويرها عبر علوم الحاسب الآلي، إضافةً إلى المستجدات العلمية في مجال أبحاث المخ. ونهايةً، وخلال آخر عقدين في القرن العشرين، عاد الباحثون إلى التركيز على محاولات فهم الوعي وتفسيره.
إن هذه القصة التي نبالغ في تبسيطها عبر تلك الخطوط العريضة، كانت عرضةً دائماً للتشويه. وبوسع المرء أن يشير بسهولةٍ إلى أدلةٍ تاريخية، على النقيض تماماً من هذه القصة، تبرهن على أن النهج السلوكي ومحاولات الحصول على مقاييس موضوعية كان معروفاً في مختبرات علم النفس في القرن التاسع عشر. وأنهم آنذاك، حتى من قبل ظهور ما يعرف بالمدرسة الاستبطانية، كانوا ينظرون إلى الاستبطان بوصفه معضلةً شديدة التعقيد، رغم أنه واصل دوره الفعال في التجريب النفسي طوال القرن العشرين. وعلاوةً على ذلك، يمكن تتبع جذور المفاهيم الحاسوبية للعقل وصولاً إلى القرن الثامن عشر؛ كما كان الوعي محل اهتمام مستمر منذ جون لوك، في نهاية القرن السابع عشر، وربما منذ زمن الإغريق. ويمكن للمرء أن يدعي أيضاً أن تلك القصة تفتقر إلى الحياد، وأنها تعكس توجهات من يدعمونها. وكما يقول آلان كوستال، فإن فهم التاريخ المبكر لعلم النفس من وجهة النظر الاستبطانية هو من بنات أفكار جون واطسون، الذي أرىد أن يضع علم النفس السلوكي في دائرة الضوء. ومع ذلك، فإن عالم النفس الذي قام واطسون بالربط بينه وبين الاستبطان، فيلهلم فونت، يعبر عن عدم ثقته في الاستبطان: "يعتمد أسلوب الاستبطان إما على الملاحظات التعسفية التي تضل طريقها أو على الدخول في حالة من العزلة، حيث يتوه في الاستغراق في الذات. وهناك شبه إجماع على عدم جدارة هذه الطريقة". وعلاوة على ذلك، على الرغم من زعم أنصار العلوم المعرفية congnitivistes قيامهم بثورة في علم النفس، كما يشير كوستال، (2004)، إلا أن "المدرسة المعرفية تعد إلى حدٍّ كبير امتداداً للمدرسة السلوكية الميكانيكية التي ادعت أنها قامت بتقويضها".
القصة إذاً أكثر تعقيداً من التفسيرات الشائعة، حيث إننا نجد تأثيراً واضحاً للفكر السلوكي على ظهور "الثورة المعرفية"، والعلوم المعرفية بعد العام 1950، إضافةً إلى فلسفة الذهن التحليلية في منتصف القرن. فعلى سبيل المثال، كتب جيلبرت رايل في كتابه "مفهوم الذهن"، أن ما نسميه الذهن هو ببساطة "الأداء العلني الذكي" (1949)، وهو يعترف بأهمية السلوكية لهذا النوع من الفهم. وفي المقابل، يسود اعتقاد بأن الظاهريات فرع استبطاني في المقام الأول. وكما سنرى، فإن هذا بدوره اعتقاد خاطئ. ولكن، من حيث فهمُ العلاقة بين الظاهريات وفلسفة الذهن، فإن من المؤكد أن فلاسفة الذهن التحليليين نظروا إلى الظاهريات على أنها نهج استبطاني، وهم يعتقدون أن الاستبطان وسيلةٌ ميتة لا نفع منها لفهم الذهن.
إذا ما نحّينا مسألة الاستبطان مؤقتاً، فإن من سبل التمييز بين فلسفة الذهن التحليلية المعاصرة والظاهريات ملاحظةُ أنه في حين يعتمد غالبية الفلاسفة التحليليين اليوم بعضاً من أشكال النزعة الطبيعية، إلا أن الظاهرياتيين يميلون إلى تبني مقاربةٍ غير طبيعية أو مناقضةٍ لها. على أن المسألة تصير أكثر تعقيداً من خلال حقيقة أن النزعة الطبيعية مصطلح جليّ لا لبس فيه. وسوف نتناول هذه النقطة بمزيد من التفصيل في الفصل الثاني. وبصورة مؤقتة ربما يكون كافياً الآن، أن نشير إلى أن العلم يميل إلى تبني نظرة طبيعية، لذلك حينما اندلعت الثورة المعرفية؛ أي عندما بدأ علم النفس يقع تحت تأثير النظريات الحاسوبية للعقل في الخمسينيات والستينيات، وعندما بدأت الدراسة البينية للعقل والمعروفة باسم العلوم المعرفية في الظهور، كان النهج الفلسفي الذي بدأ أكثر انسجاماً مع العلم يتمثل في فلسفة الذهن النحليلية. وعلاوةً على ذلك، كان ثمّة مجهود ضخم ينتظر فلاسفة الذهن، عندما صار النموذج الحاسوبي هو السائد. على أن الأهم هو أن فلسفة الذهن أسهمت بأسس نظرية وتحليلات مفاهيمية ضرورية خلال التأسيس لعلوم الذهن. فنجد مثلاً أن التعريف الفلسفي للوظائفية fonctinalisme يلعب دوراً مهماً في توضيح النموذج الحاسوبي، حتى يتسنى تطبيقه على الذكاء الطبيعي والاصطناعي.
في ظل هذا التنظيم للحقول البينية المعرفية، تم تنحية الظاهريات بدعوى أنها لا محل لها هنا، لأنها وفقاً لتعريفها مقاربة فلسفية لها خصوصيتها. وظل الصوت الأوحد الذي يلح على أهميتها للقضايا ذات الصلة بمجال الذكاء الاصطناعي والعلوم العرفية هو صوت هربرت درايفوس (1967)، (ص 6)
غير أن هذا الوضع قد تغير مؤخراً، وكان هذا التغير من دوافع وضع هذا الكتاب. إذ لم تعد الحوسبة ممهيمنة على العلوم المعرفية على النحو الذي كانت عليه في السنوات الثلاثين الأولى. وثمة ثلاثة تطورات أزاحتها عن عرشها؛ الأول تجدد الاهتمام بالوعي الظاهراتي. فابتداءً من أواخر الثمانينيات، بدأ علماء النفس والفلاسفة في الحديث عن الوعي في سياق العلوم المعرفية. وخلال التسعينيات، دار نقاش واسع حول إشكالية الوعي قاده ديفيد تشالمرز (1995) في أعقاب كتابات مهمة لكل من توماس ناجل (1974)، سيرل (1992)، دانيال دينيت (1991)، وأوين فلاناغان (1992). فعندما ظهرت مسائل منهجية حول كيفية دراسة البعد التجريبي علمياً؛ أي من دون اللجوء إلى الاستبطان بالطريقة القديمة، بدأت مناقشات جديدة حول الظاهريات؛ بمعنى أن دوائر أخرى نظرت إلى الظاهريات، باعتبارها مقاربة فلسفية ذات أهمية قائمة عندما تم النظر إلى الوعي بوصفه مسألةً علمية.
ثاني ما حدث ليستدعي إعادة النظر إلى الظاهريات، باعتبارها مقاربة علمية فلسفية هو تقديم مقاربات للإدراك متعلقة بالجسد. وقد اكتسبت تلك المقاربات، في العلوم المعرفية، زخماً في التسعينيات، ومازال تومبسون، واليانور روش (1991)، وأنطونيو داماسيو (1994)، وأدي كلارك (1997) على لاثنائية الديكارتية (الذهن/ الجسد) التي، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها فلاسفة، مثل رايل ودينيت وغيرهما، ظلت تمارس تأثيرها على العلوم المعرفية. لقد قادتنا النزعة الوظيفية إلى الاعتقاد بأن المعرفة الإدراكية يمكن إيجاد شبيه لها من خلال برنامج كمبيوتر دون الحاجة إلى جسد، أو ما سمي "مخ – في – وعاء، وزعمت بأن الجسد لا يضيف شيئاً للعقل. وقد أشار فاريلا وطومسون وروش، وكذلك كلارك وغيرهم، إلى جهود الفيلسوف الظاهرياتي الفرنسي موريس ميرلو بونتي (1962) بوصفها داعماً مهماً يمكن الاستفادة منه في تطوير موقفهم النقدي من الإدراك غير المتجسد. وسوف نرى لاحقاً كيف أن أفكار ميرلوبونتي تقدم نموذجاً من أفضل النماذج على الدور المهم الذي لعبته الظاهريات داخل العلوم المعرفية.
كان التطور الثالث الذي جعل مقاربة الظاهريات للإدراك ذات صلة بالعلوم التجريبية هو ما تحقق من تقدم مذهل في علم الأعصاب؛ ففي السنوات العشرين الماضية، تمكنا من تعلم قدر هائل من المعارف حول كيفية عمل الدماغ. وقدمت لنا تقنيات مثل تصوير الدماغ (الرنين المغناطيسي الوظيفي، التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني) نماذج تجريبية جديدة. وعلم تصوير الدماغ ليس بالعلم البسيط،وهو بالتأكيد ليس مجرد مسألة أخذ لقطة لما يجري داخل الرأس. ولكن توليد صور العمليات العصبية (ص 7)
باستخدام تقنية غير جراحية هو ما ساعد على تنفيذ مجموعة متنوعة من التجارب التي تعتمد على تقارير حول الأشخاص الخاضعين للتجربة. فلكي يصير من الممكن تصميم التجارب بشكلٍ صحيح وكذلك تفسير نتائجها، يرغب المجربون في كثير من الأحيان في التعرف على ماهية الخبرة الخاصة بالموضوع. ونقول مرةً أخرى، إن مسألة المنهجية تستدعي النظر في سبل يمكن الاعتماد عليها في توصيف الخبرة الواعية، والظاهريات تقدم لنا ذلك.
فيبدو واضحاً إذاً أن الوقت قد حان لتقديم عرضٍ دقيق لكيفية إسهام الفلسفة والمنهج الظاهرياتي في العلوم المعرفية. وهذا الكتاب محاولة للقيام بذلك، وما يميّز مجال هذا الكتاب، على عكسٍ من الكتب الأخرى في فلسفة الذهن، هو أنه يتصدى لمحاولة تطوير مقاربةٍ ظاهرياتية لفلسفة الذهن، غير أن تلك المحاولة لا تهدف إلى ساتبعاد المقاربة التحليلية للعقل أو رفضها، بل إن جزءاً مما نسعى لاستكشافه هو كيفية عودة الظاهريات مرة أخرى إلى التواصل مع النهج التحليلي الذي يتجاوز التعميمات. ونحن نرى أن التطور الأكثر إثارةً للانتباه في السنوات القليلة الماضية هو ذلك الاهتمام المتزايد من قبل كل من الفلاسفة التحليليين والظاهرياتيين بالعلوم التجريبية. فلو أن كلا الفرعين، ولمجموعةٍ متنوعة من الأسباب التاريخية والمواقف النظرية، تجاهلا بعضَهما البعض لفترةمن الزمن، فإن تنامي مجال بحوث الوعي هو بالتأكيد أحد فرص إعادة التواصل بينهما
ما الظاهريات؟
للظاهريات، بوصفها منهجاً فلسفياً انتهجه إدموند هوسرل في السنوات الأولى من القرن العشرين، تاريخ مركّب. فهي الأساس لما أصبح يُعرَف باسم الفلسفة القارّية، حيث "القارّية" هنا تعني القارة الأوروبية، على الرغم من أن كثيراً من تلك الفلسفة القارّية ومنذ العام 1960 تحقق في أمريكا. وفي إطار هذه التسمية، نجد عدداً من التوجهات الفلسفية، اعتمد بعضها على مفاهيم ظاهراتية، مثل الوجودية والهرمنيوطيقا (فلسفة التأويل)، في حين جاء بعضها الآخر كردّ فعلٍ قويٍّ ضدها، بما في ذلك بعض الأفكار التي تنتمي لما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة. على أن هناك خطّاً من الفلاسفة الكبار، من أمثال هيدغر وسارتر وميرلوبونتي، استطاعوا أن يطوّروا الظاهريات وفقاً لأصولها الأولى لدى هوسّرل. وبتتبّع هذا الخط نجد أننا أمام ظاهريات عدةّ، فتصبح الظاهريات وفقاً لهذا المعنى مجموعةً متنوّعةً من المقاربات. وحتى نقدّم فكرةً أساسية للظاهريات، سوف ينصبّ تركيزنا هنا على القاسم المشترك بين تلك المقاربات. وسوف تتاح لنا في فصول لاحقة فرصة استكشاف الأفكار التث قدّمها بعضُ فلاسفة الظاهريات. (ص 8)
تبدأ معظم الكتب التمهيدية عن فلسفة الذهن أو عن العلوم المعرفية بتأطير مجمل المناقشات عبر توصيف مختلف المواقف الميتافيزيقية: الثنائية والمادية ونظرية الهوية والنزعة الوظيفية والإقصائية، إلخ (انظ على سبيل المثال، برادون ميتشل وجاكسزن 2006؛ تشالمرز 2002؛ هايل 2004؛ كيم 2005). ومن قبل أن نعرف على وجه اليقين طبيعة الموضوع الذي نتحدث عنه، يتوجب علينا أن نلزم أنفسنا ميتافيزيقياً ونوضح انحيازَنا لموقفٍ بعينه من تلك المواقف، غير أن الظاهريات على خلاف ذلك؛ إذ إنها تنحّي مسائل من هذا النوع جانباً، وتميّزها، وتستبعدها، وتطلب منا بدلاً من ذلك أن نولي اهتماماً بالظاهرة قيد الدراسة. ومن بين الأفكار التي تؤكد عليها الظاهريات أن الانشغال بتلك المسائل الميتافيزيقية يميل إلى التحول إلى مناقشات فنيّة ومجرّدة، ما يفقدها التواصل مع الموضوع الحقيقي؛ أي الخبرة. وليس من قبيل المصادفة أن تكون القاعدة الرئيسة للظاهريات كما أعلنها إدموند هوسرل "العودة إلى الأشياء ذاتها!" (هوسرل 1964/1950، ص 6)، وهو بذلك يقصد أن على الظاهريات أن تؤسس طريقة مقاربتها للأشياء بالعودة إلى الأشياء ذاتِها مع التخلص من الآراء المسبقة التي قد تطمس أو تشوّه ما ينبغي أن نفهمه. إنّ أحد الاعتبارات المهمة لفلسفة الذهن والعلوم المعرفية تقديم تفسير ظاهرياتي ذي وجاهة لمختلف بُنى الخبرة.
ولكن ما هو الموضوع الذي نخضعه لدراستنا؟ ألا يجب علينا أن نعرف ما إذا كنا ندرس الذهن أم الدماغ، أو ما إذا كان ذلك الشيء الذي ندرسه مادياً أم غير ماديّ؟ هل يتولّد الوعي عن عمليات محددة في الدماغ أم لا؟ وكيف يمكن للظاهرياتيين تنحية تلك الأسئلة جانباً، وفي الوقت ذاته يحدوهم الأمل في إحراز أيّ تقدم؟ أو ربما يعترض شخصٌ، "كيف يمكن للظاهرياتي أن ينكر أن الدماغ هو المسبب للوعي؟" والرد المناسب على هذا هو أن الظاهرياتي لا ينكر ذلك؛ كما أنه لا يؤكده؛ فهو يعلق الحكم على قضايا هذا النوع من الأسئلة، ويبدأ بالخبرة.
لنأخذ الإدراك الحسي مثالاً على ذلك. فعندما أنظر من النافذة وأرى سيارتي متوقفة في الشارع، يتولّد لديّ إدراكٌ بصري. ومن شأن عالم النفس التجريبي إذا رغب في تقديم شرحٍ سببيّ لكيفية عمل الإدراك البصري، أن يرجع ذلك ربما إلى آلية عمل الشبكية، وتفعيل الخلايا العصبية لمناطق القشرة البصرية في الدماغ، والتي تمكّنني من التعرّف على أن السيارة هي سيارتي. ويمكنه أن يتوصّل إلى تفسير وظيفي يفسّر الآليات الفاعلة، أو نوع المعلومات (اللون، الشكل، المسافة، إلخ) التي يجب أن تتم معالجتها من أجل أن يتولّد لديّ إدراكٌ بصريٌّ بسيارتي. تلك هي التفسيرات المهمة التي ينبغي للعلوم تطويرها. ولكن على الظاهريات القيام بمهمة مختلفة؛ فهي تبدأ بالخبرة نفسها ومن خلال وصفٍ دقيق لتلك الخبرة تحاول أن تبيّن ماهية الخبرة الحسّية، وما الذي يميّز الإدراك الحسّي عن ملَكتيّ الخيال والتذكر على سبيل المثال، وكيف (ص 9)
يتأسس الإدراك الحسي، حيث يقدّم خبرة بالعالم ذات معنى. ودون أن ننكر أن عمليات الدماغ تساهم سببياً في الإدراك الحسي، فإن هذه العمليات لا يمكن النظر إليها ببساطة على أنها تعدّ جزءاً من خبرة المدرك.
هناك علاقةٌ بالطبع بين ما تقوم به الظاهريات وما يقوم به علم النفس؛ فمن الواضح أنهما يحاولان تقديم تفسير للخبرة ذاتها، ولكنهما يتبعان مقاربتين مختلفتين، ويطرحان أسئلةً مختلفة، ويبحثان عن أنواعٍ مختلفة من الأجوبة. وبقدر ما تظل الظاهريات داخل حدود عالم الخبرة، فإنها تتبنّى مقاربة الشخص الأول للموضوع (الذات)؛ أيّ إن الظاهرياتي مهتم بفهم الإدراك الحسي من حيث معناه للذات. فمثلاً، خبرتي الإدراكية برؤية سيارتي في الشارع لا تتضمّن شيئاً عن العمليات التي تحدث في مخي. أما عالم الإدراك النمطي، من ناحيةٍ أخرى، فيتبنّى مقاربة الشخص الثالث (المراقب)؛ أي نهج منظور العالم، باعتباره مراقباً خارجياً وليس من وجهة نظر الذات التي تمارس [تعيش] الخبرة. إنه يسعى إلى تحليل الإدراك الحسي وشرحه من خلال شيءٍ مغايرٍ للخبرة، ومن ذلك على سبيل المثال عمليات موضوعية معيّنة (وهي عادةً ما تكون شبه شخصية) مثل حالات المخ أو الآليات الوظيفية.
قد نتصوّر أنه لا يوجد الكثير لنقوله عن الخبرة ذاتِها؛ فنحن نمارس الخبرة عند حدوث الخبرة. ولكن الظاهرياتي لديه الكثير ليقولَه في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال، فهو يلاحظ بدايةً أن لإدراكي البصري للسيارة بنية معيّنة تميّز جميع الأفعال الواعية، وهي تحديداً بنيةٌ قصديّة. والقصدية صفةٌ شاملة للوعي. ووفقاً للظاهريات، فإن كل وعيٍ هو وعيٌ بشيءٍ ما (كل إدراكٍ حسّي، كل ذكرى، وكل تصوّر، وكل حكم، وما إلى ذلك). وبهذا المعنى، لا تكون الخبرة أبداً عمليةً معزولة، أو يمكن تحديد عناصرِها. فهي تنطوي دائماً على إحالةٍ إلى العالم، مع مدّ نطاق هذا المسمّى (العالم) ليشمل ما هو أكثر من البيئة المادية، بل كذلك العالم الاجتماعي والثقافي، والذي يقد يشمل أشياءَ لا تكون موجودةً بطريقةٍ مادّية (على سبيل المثال÷ هاملت، الأمير الدنماركي). ويقودنا التحليل الظاهرياتي للقصد إلى عددٍ من الأفكار. فعلى سبيل المثال، تتضمّن قصديّة الإدراك الحسّي التفاصيل الآتية: فعندما أرى شيئاً معيّناً في الشارع، تخبرني رؤيتي أنّ هذا الشيء هو سيّارتي. فالإدراك الحسّي ليس مجرّد استقبال بسيط للمعلومات؛ بل ينطوي على تأويل، يتغيّر بشكلٍ متكرّر وفقاً للسياق. فرؤية سيارتي على أنها سيارتي تشير بالفعل إلى أنّ الإدراك الحسّي يستفيد من الخبرة السابقة، وبهذا المعنى، يكون لوك والانطباعيون على صواب في قولهم بأن الإدراك الحسّي يستفيد من الخبرة. وينبغي لنا أن نقول إن الإدراك الحسي يكتسب ثراءه من الخبرة وطرق معتادة متعارفٍ عليها للخبرة بالأشياء، وهي ليست حالة إدراك يمكن تعزيزه بالتفكير. فليس الأمر أنني أدرك (س)، ومن ثم أضيف شيئاً مختلفاً تماماً وجديداً عليه، وهو تحديداً فكرة أنّ ما أراه هو سيارتي. ويحمل الإدراك الحسّي معنىً بالفعل، ويمكن أن يزداد ثراءً من خلال ظروف واحتمالات وجودي المتجسّد. ويقد يقول الظاهرياتي إن الخبرة الحسّية (ص 10)
 متضمّنة في السياقات البراغماتية والاجتماعية والثقافية، وإن العمل الدلالي في مجمله (تشكيل محتوى الإدراك الحسي) يستفيد من الموضوعات، والترتيبات، والأحداث التي أوا جهها ففي حالةٍ بعينها، ربما أرى الموضوع على أنه مركبة تأخذني إلى حيث أريد. وفي حالةٍ أخرى، قد أرى نفس الموضوع باعتباره شيئاً لا بدّ أن أنظّفه، أو أرغب في بيعه، أو أنّ به شيئاً لا يعمل بالشكل الصحيح. وتعتمد طريقة رؤيتي لسيارتي على خلفيةٍ سياقية معينّنة يمكن استكشافها ظاهرياتياً. فمواجهتي لسيارتي كشيءٍ أقوده هي ذاتها مواجهتي لها كشيءٍ يمكنني أن أستقلّه، أو كشيءٍ يقع في مكان يتيح هذا النوع من الحركة التي صنعت السيارة لأجلها. وبالتالي تستفيد خبرتي الحسّية من قدراتي ومهاراتي الجسدية. وقد جرت العادة أن نقول إنّ للإدراك الحسي محتوىً تمثيلياً أو تصورياً. ولكن ربما تعجز هذه الصياغة عن الإحاطة بطبيعة الخبرة الحسية. وبدلاً من القول بأنني أتمثّل سيارتي بكونها قابلةً للقيادة، فمن الأفضل أن أقول: نظراً لتصميم السيارة، وشكل جسدي وإمكانيات فعله، وحالة البيئة، تكون السيارة قابلةً للقيادة، وأنني أدركها على هذا النحو.
كما تنطوي البنية القصدية للإدراك الحسي على جوانبَ مكانيةٍ يمكن استكشافها ظاهراتياً. فموقفي المتجسد يفرض قيوداً محددة على ما أستطيع أن أراه وما لا أستطيعه. فمن حيث أقف أستطيع أن أرى المكان المخصص للسائق في السيارة. فالسيارة تظهر من ذلك الجانب بطريقةٍ تجعل الجوانب الأخرى لها خارج مجال رؤيتي. فلا أستطيع بالفعل رؤية المكان المخصص للركاب داخل السيارة ـ فهو لا يقع داخل مجالي البصري. ومع ذلك، أرى السيارة وأنا مدركٌ أنّ لها جانباً آخر، وسأكون مصدوماً إذا درتُ حول السيارة فوجدت أن هذا الجانب غير موجود. وتكشف تلك الصدمة المفترضة الحدوث عن أنّ لديّ توقعاً ضمنياً ومحدداً لما سوف يحققه إدراكي المفترض فعلياً في المستقبل القريب. لذا، فإنني سأصدم إذا خاب توقعي. وقد وصفت الظاهريات تلك البنية الزمنية للخبرة بقدرٍ كبير من التفصيل، وهو ملمح سنعود إليه مراراً في الفصول القادمة.
عند أيّ إدراك لموضوع مادي، لا يكون إدراكي للموضوع مكتملاً دائماً ـ فأنا لا أرى أبداً موضوعاً كاملاً مرةً واحدة. ودعنا نسمي هذا "لاشمولية المنظور" [المنظور اللامكتمل]. فرؤيتنا لا تستطيع الإحاطة بكافة جوانب الموضوع، حتى في إدراك أبسط الأشياء. فإذا درتَ حول شجرةٍ من أجل تكوين تمثّل أكثر شمولاً لها، فإن الجوانب المختلفة للشجرة، مقدمتها، جوانبها، خلفيتها، لا تظهر في وعيي كأجزاء منفصلة،ولكنها تدرك كلحظات متآلفة متكاملة. فهذه العملية المركّبة زمانية بطبيعتها.
ومن الناحية الظاهرياتية، يمكنني أيضاً اكتشاف السمات الكلّية gestalt للإدراك الحسي، حيث تصاحب الإدراك البصري بنية مميّزة، حيث يكون هناك دائماً شيءٌ ما يمثل محور التركيز، في حين تغيب (11)
باقي الأشياء الأخرى. فبعض الموضوعات تكون محور تركيزي، وبعضها الآخر في الخلفية، أو في الأفق، أو على الهامش. وبوسعي أن أحوّل تركيزي، فأنقل موضوعاً آخر إلى المقدمة، ولكن على حساب نقل الموضوع الأول إلى خارج التركيز ووضعه في الأفق.
لاحظ أنّ في هذه الأنواع من التفسيرات الظاهرياتية يكون الاهتمام منصبّاً على البنى الانطباعية للإدراك الحسّي، وعلى وجه التحديد من حيث صلتها بالعالم الذي يقف فيه المدرك؛ أيّ إن الظاهرياتي حتى وهو يهتم بالخبرة لا يسجن نفسه في خبرةٍ ذاتية خالصة، أو بمعزل عن العالم. فيدرس الظاهرياتي الإدراك الحسي، ليس كظاهرة ذاتية محضة، ولكن كما يعيشها المدرِك الذي هو موجود في العالم، والذي هو أيضاً كائنٌ متجسد له دوافعه وأغراضه.
وبالإضافة إلى هذا النوع من التحليل القصدي للكيفية التي تحدث بها خبرتنا بالعالم، أو كيف يبدو العالمُ لنا، فبوسع الظاهريات أيضاً أن تسأل عن الحالة الظاهرياتية للمدرك. ويشار إلى ذلك أحياناً في أدبيات فلسفة الذهن بالسمات الكيفية أو الظاهرياتية للخبرة ـ أو، وفقاً للعبارة الشهيرة التي كتبها ناجل (1974)، "ماهية الخبرة بالأشياء". ولا تنفصل السمات الظاهرياتية للخبرة عن السمات القصدية. فماهية وقوفي وتأملي لسيارتي الجديدة مختلفة تماماً عن ماهية وقوفي وتأملي لسيارتي الجديدة لحظة أن تحطمها سيارة أخرى اصطدمت بها.
حددنا من خلال هذا العرض الموجز بعضاً من جوانب الإدراك الحسي وسماته: فصديته، خاصيته الكلية، قصور منظوره، وصفته الظاهرياتية والزمنية. وهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الصفة الزمنية (انظر الفصل الرابع)، والإدراك الحسي (الفصل الخامس)، والقصدية (الفصل السادس)، والطبيعة الظاهرياتية (الفصل الثالث). ولكن لاحظ أن ما نبرزه هنا يركز على محاولة توصيف الخبرة، أو بالأخص توصيف بنى الخبرة، وأننا باعتبارنا ظاهرياتيين لم نذكر، ولو لمرةٍ واحدة، المخ الذي يقبع وراء تلك الخبرة؛ إي إننا لم نحاول الشرح على أساس الآليات العصبية التي قد تدفعنها إلى إدراك السيارة بالطريقة التي ندركها بها. وبالتالي، يكون التفسير الظاهرياتي للإدراك الحسي شيء مختلفٌ تماماً عن التفسير النفسي [؟] أو العلمي العصبي، حيث تهتم الظاهريات بتحقيق فهم مناسب لبنية الخبرة الخاصة بحياتنا الذهنية/ المتجسدة (12)
وتوصيفها؛ فهي لا تحاول تقديم تفسيرٍ طبيعي للوعي، ولا تسعى للكشف عن جذوره البيولوجية، وأساسه العصبي، ودافعه النفسي، أو ما شابه ذلك.
يتسق هذا الفهم الظاهرياتي مع التصوّر الرئيس لهوسّرل عن الظاهريات. ففي رأيه، لا تهتم الظاهريات بتحليل التكوين النفسي والبدني للإنسان، ولا بالدراسة التجريبية للوعي، ولكنها تركز على فهم الخصائص الجوهرية للإدراك الحسي والأحكام والمشاعر، إلخ. ومع ذلك، وهذه نقطة مهمة تتوافق وأهدافِنا في هذا الكتاب، يمكننا أن نرى أيضاً أن هذا الفهم الظاهرياتي على عرقة وثيقةٍ بعلوم الإدراك الحسي. وثمّة الآن إدراكٌ متزايد لحقيقة أن أيّة محاولة لتقديم تفسير علمي للعلاقة بين الوعي والدماغ ليس بمقدورها أن تمضي بعيداً ما لم تمتلك تصوراً واضحاً لماهية ما تربط بينهما. وبعبارةٍ أخرى، فإن أيّ تقييم لإمكانية ردّ الوعي إلى بنى عصبية وأيّ تقييم لإمكانية إضفاء الصفة الطبيعية للوعي يتطلب تحليلاً مفصلاً ووصفاً للجوانب التجريبية للوعي. وكما أشار ناجل ذات مرة، فهناك شرط ضروري لأية عملية ردّية متماسكة، وهو أن يكون موضوع الرد مفهوماً على نحو سليم. ودون إقرارٍ بحتمية تبني استراتيجيةٍ ردّية، فإن من الواضح أنه إذا سعينا، بطريقةٍ منهجية، لتحليلٍ ظاهرياتي مفصّل، يستكشف الجوانب القصدية والمكانية والزمنية الدقيقة، فضلاً عن الجوانب الظاهرياتية للخبرة، فإننا سوف ننتهي إلى وصفٍ لما يحاول علماء النفس والأعصاب شرحه عند تناول النماذج العصبية، أو نماذج معالجة المعلومات، أو النماذج الدينامية.
وفي الواقع، يزعم الظاهرياتيون أن هذا النوع من التحليل المنهجي يقدم نموذجاً أكثر ملاءمةً للإدراك الحسي، وبمقدور العالِم أن ينتهجه إذا ما أراد ببساطة أن يبدأ تحليله بالموقف الطبيعي للحس المشترك. ولنقارن بين الموقفين؛ ففي الموقف الأول، لا يمتلك العلماء الذي يرغبون في شرح الإدراك الحسي وصفاً ظاهرياتياً للخبرة الحسية. كيف يمكننا إذاً أن نبدأ في وضع تفسيرنا وفقاً لهذا الموقف؟ سيكون علينا أن نبدأ من نقطةٍ ما. فربما نبدأ مع نظريةٍ محددة سلفاً للإدراك الحسي، ونبدأ باختبار مختلف الاستنتاجات التي تضعها هذه النظرية. وهذه هي الطريقة التي تتحقق بها العلوم في كثيرٍ من الأحيان. وربما نتساءل عن مصدر تلك النظرية المسبقة، فنجد أنها مبنية في جزءٍ منها على بعض الملاحظات أو الافتراضات حول الإدراك الحسي. وربما ناقشنا تلك الملاحظات أو الافتراضات، ومن ثم، وعلى أساس نظرتنا لآلية الإدراك الحسي، نصيغ الحجج المضادة أو الفرضيات البديلة تمهيداً لاختبارها. ويبدو هذا النهج قائماً أكثر على المصادفة، على الرغم من أنّ التقدم العلمي يسير في كثيرٍ من الأحيان وفق هذا النحو أما في الحالة الثانية، فيكون لدينا وصفٌ ظاهرياتي متطوّر للخبرة الحسّية باعتبارها قصدية ومكانية وزمنية، وظاهراتية.
(* هامش): الرد الماهوي هو ذلك الإجراء الذي فيه ننتقل من واقعة الوجود إلى الماهية، بهدف الوصول إلى الطابع المميّز للظاهرة المعطاة لنا، بعد تنقيتها مما هو فردي وعرضي. ومع إجراء هذا الرد، الذي يضع جانباً تفرّد الظاهرة ووجودَها، يتم تنحية كل العلوم الطبيعية والعلوم العقلية جانباً، بتجارب هذه وفروض تلك على السواء. فالظاهريات لا تدرس إلا الماهية الخالصة.
وقد أضاف هوسّرل، في كتاباته الأخيرة، إلى الرد الماهوي نوعاً آخر من الرد يسمّيه "الردّ الترانسندنتالي"، ويقوم هذا الرد الجديد ليس بوضع الوجود وحده بين أقواس، بل وكذلك كل ما لا يمت إلى الوعي الخالص بصلة. ونتيجة هذا الرد الترانسندنتالي هو أنه لا يبقى من الظاهرة إلا ما هو معطى للذات وحسب. (المترجم). (13)

نقترح أننا مع هذا الوصف نتحصّل على فكرة جيدة عما نحن بحاجة إلى شرحه. فإذا علمنا أن الإدراك الحسي لا يشكل منظوراً مكتملاً للأشياء، فحيث ندرك الأشياء في كتلتها، ثمة جوانبُ أخرى تغيب عنا لحظة إدراكنا الحسي لها، فمن ثمّ نحن نعرف ما علينا شرحه، ونمتلك أدلّةً جيدة حول كيفية تصميم التجارب للوصول إلى هذه الخاصية في الإدراك. وإذا كان الوصف الظاهرياتي نسقياً وملماً بكافة جوانب الموضوع، فسوف يكون هذا الوصف الثريّ منذ البداية ذا دقّةٍ أكبر. وعليه، فربما يكون هناك اختلاف بالفعل بين الظاهريات والعلوم من حيث غاياتُهم التفسيرية، ولكن يبدو واضحاً أن للظاهريات فائدَتها وأهمّيتَها للعمل العلمي.
في الوقت الراهن يستخدم فلاسفة الذهن وعلماء العلوم المعرفية مصطلح "ظاهريات" على نحوٍ متزايد للدلالة على وصف الذات لماهية الخبرة. وسوف نعرض ف الفصل القادم السببَ الذي يجعل هذا الاستخدام غير المنهجي للمصطلح، على اعتبار أنه معادل للاستبطان، مضلِّلاً، وأنه يعتمد على الطبيعة المنهجية للظاهريات.
كما أشرنا، فإن العديد من المؤلفات التي خصصت لتناول فلسفة الذهن تبدأ باستعراض النظريات المختلفة حول الذهن ـ الثنائية، ونظرية الهوية، والوظيفية، وما إلى ذلك. كما أن الحال هو أنّ علم النفس والعلوم المعرفية استفادت بالفعل من نظرياتٍ بعينها حول الذهن. ومع ذلك، فإن الظاهريات لا تبدأ بنظرية، أو بتناول نظريات. فهي تسعى إلى أن تكون نقدية وغير عقائدية، وتبتعد عن الأحكام الميتافيزيقية والنظرية المسبقة، قدر الإمكان، وهي تسعى إلى أن تسترشد بما نخبره، وليس ما نتوقع أن نجده بالنظر إلى التزاماتنا النظرية. وهي تطلب منا ألا نسمحَ للافتراضات المسبقة أن تشكّل تجربتنا، ولكن أن نترك خبرتنا تحدد نظرياتنا وتوجهها. وكما أن الظاهريات لا تتعارض مع العلوم (على الرغم من أن مهمتها مختلفة بعض الشيء عن العلوم التجريبية)، فإنها لا تتعارض أيضاً مع النظرية. وسيكون من التبسيط المفرط أن نعتبر الظاهريات مجرد مجموعة من الطرق الرامية إلى توصيفٍ خالص للخبرة. على أنّ الظاهرياتي يستخدم هذه الأساليب ليصل إلى رؤى حول الخبرة، وهو مهتم أيضاً بتطوير تلك الرؤى إلى نظريات في الإدراك الحسي، والقصدية، والظواهر، وما إلى ذلك. فنحن من هذا الكتاب نزعم أن هذه التأويلات والأوصاف النظرية القائمة على الظاهريات يمكن أن تكون تتمة لعمل العلوم المعرفية. ونحن في الواقع نعتقد أنها قادرة على ذلك بطريقة بنّاءة أكثر من المناقشات الميتافيزيقية حول إشكالية الذهن والجسد في فلسفة الذهن.
المنهج الظاهريّاتي:
هل من الممكن الخروج بمنهج أكثر انضباطاً لخبرة المراقِب؟ وهل من الممكن أن نقترب من الوعي علمياً؟ أجاب علماء الظاهريات على هذين السؤالين بالإيجاب، إذ قال إيفان تومبسون (14)
إن "الظاهريات تعد مهمةً في هذا المقام؛ ذلك أنه من شأن أية محاولة لفهم العقل الإنساني فهماً متكاملاً أن تواجه في مرحلةٍ ما الوعيَ والذاتية ـ كيف تتم عملية التفكير، والإدراك الحسي، والتصرّف، والشعور؛ فالأحداث العقلية لا تحدث في فراغ، إنما يعيشها الفرد. وترتكز الظاهريات على الوصف، والتحليل، والتفسير الدقيق للخبرة التي يعيشها الفرد". وحتى نفهم ما يمكن أن تحققه الظاهريات، وأن نستخدمَها في العلم التجريبي، يجب أن نفهم المنهجية التي تحدد موقف الظاهريات أو اتجاهها. وبعدئذٍ، نرى كيف يمكن أن ندمج هذا الموقف في الممارسة العلمية.
والآن، دعونا نلقي نظرةً فاحصةً على المنهج الظاهرياتي. إن المنهج الظاهرياتي شأنه شأن أيّ نهج علمي آخر يهدف إلى تفادي الحسابات المنحازة والذاتية الخالصة. ويعيب بعض الناس على الظاهريات التقييم غير الموضوعي للخبرة، غير أن التقييم غير الموضوعي للخبرة يختلف عن تقييم الخبرة الذاتية. وكذلك، يخلط بعض الناس بين الحساب غير الموضوعي للخبرة وفكرة أنه يمكننا أن نفهم خبرة غير موضوعية من خلال تحويلها إلى كائنٍ يمكن فحصه باستخدام منهج الشخص الثالث. وتكمن المشكلة في أنّ مصطلحات مثل "الذاتية" و"الموضوعية" تبدو غامضة، إذ إنه يمكن أن يتغيّر معناها كلما تغير السياق. وتشكل الموضوعية ـ التي يُقصَد بها تلاشي الحكم المسبق أو التحيّز ـ في المجال العلمي أهمّيةً كبيرة. وتعدّ الموضوعية أحد الأسباب التي تدعو إلى استخدام الضوابط في التجارب. وتوجد العديد من الخطوات المنهجية التي يتخذها الفرد للحفاظ على الموضوعية. وتهتم الظاهريات أيضاً بالحفاظ على الموضوعية بهذا المعنى. وتقوم بذلك من خلال طريقةٍ مخططة بعناية.
الظاهريات والاستبطان:
في البداية، دعونا نرجع إلى مسألة قد تجعلنا نخلط بين الأمور. هل الظاهريات هي ذاتها الاستبطان؟
أثار "هوسرل" في إحدى المرات السؤال التالي: لماذا نُدخِل علماً جديداص يُطلق عليه الظاهريات، إذا كان هناك بالفعل علم توضيحي متأصّل يعنى بالحياة النفسية للإنسان والحيوان يُطلَق عليه بالتحديد علم النفس؟
هل يمكن ألا يقالَ إن الوصف المجرّد للخبرة ـ الذي يفترض أنه كل ما يمكن أن تقدمه الظاهريات ـ لا يشكل بديلاً علمياً قابلاً للتطبيق لعلم النفس، ولكنه مجرد تمهيد وصفي ـ وربما لا غنىً عنه ـ للدراسة العلمية الحقيقية للعقل؟ وكما أوضح هوسرل في هذه المحاضرات التي ألقاها في بدايات القرن العشرين، كان هذا التفكير مقنعاً جداً لدرجة أن مصطلح "فينومينولوجي" كان يستخدم في جميع أنواع الكتابات الفلسفية والنفسية للدلالة على الوصف المباشر للوعي القائم على الاستبطان. (هوسرل). وقد كان تشابه ذلك الاستخدام مع الاستخدام المعاصر لافتاً جداً للنظر إذ يستخدم علماء (15)
علم النفس المعرفي في هذه الآونة مصطلح "فينومينولوجيا" على نحوٍ متزايد للدلالة على وصف المراقِب لماهية الخبرة حقاً. وإذا أخذنا هذه الخلفية بعين الاعتبار، قد يكون من الصعوبة بمكان أن نفهم لماذا لا ينبغي ببساطة أن يُنظَر إلى الظاهرياتية على أنها فرعٌ من فروع علم النفس أو حتى على أنها ضربٌ من ضروب الاستبطان.
وينتقد دينيت على سبيل المثال في كتابه "شرح الوعي" الظاهريات، لأنها توظف منهجيةً استبطانيةً لا يمكن الاعتماد عليها، ويقول بأنها فشلت في إيجاد طريقةٍ واحدة مترسّخة يمكن أن يتفق عليها الجميع. ويمكن الاطلاع على وجهة النظر القابلة للمقارنة الخاصة بـ "متسينجر" الذي توصل مؤخراً إلى أن "الظاهريات مستحيلة". ويدفعنا ذلك للتساؤل: أيّ نوع من الحجج يحتج به هؤلاء المنظّرون؟ يبدو أن الحجة الأساسية تتعلق بالصعوبات المعرفية المرتبطة بمنهج أيّ متكلم في توليد البيانات، إذ إنه إذا ظهرت أيّ تناقضات في مجموعتين من البيانات الفردية، لن تكون هناك أية وسيلة لتسوية هذا الخلاف. وبشكلٍ أكثر تحديداً، يرى "مِتسينجر" أن البيانات هي تلك الأشياء التي تُستخلَص من العالم المادي بواسطة أجهزة القياس التقنية. وينطوي هذا الاستخلاص للبيانات على إجراء غير موضوعي مشترك واضح المعالم، ويحدث هذا الاستخلاص داخل المجتمع العلمي، وهو قابل للانتقاد، ويسعى باستمرار إلى إيجاد وسائلَ مستقلةٍ للتحقق. وتكمن المشكلة في الظاهريات، من منظور "مِتسينجر"، في أنّ وصول المراقِب إلى المحتوى المدرَك بالحواس للحالة العقلية للفرد لا يستوفي المعايير المحددة لمفهوم البيانات. في الواقع، تبدو الفكرة الأساسية للبيانات المستجدة متناقضة في حد ذاتها. (متسينجر).
ولكن، هل من الصحيح بالفعل الزعم بأن الظاهريات الكلاسيكية كانت تقوم على الاستبطان؟
لنأخذ كتاب بحوث منطقية الذي كتبه هوسرل بعين الاعتبار؛ ذلك الكتاب الذي يعدّ معلماً بارزاً من معالم فلسفة القرن العشرين وأحد أعمال الفلسفة الظاهرياتية التي لا خلاف عليها. وقد اتخذ هوسرل في واقع الأمر هذا الكتاب لليكون "انطلاقته" إلى الظاهريات. والآن، أي نوعٍ من التحليلات يجده المرء في هذا الكتاب؟
يجد المرء في هذا الكتاب ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ هجوم "هوسرل" الشهير على النزعة النفسية ورفضه لها، ودفاعه عن عدم قابلية اختزال المنطق ومثالية المعنى. ويجد المرء أيضاً في هذا الكتاب تحليلاً للتمثيلات التصويرية، ونظريةً لعلاقة الجزء بالكل، وتوضيحاً مفصلً للقصدية، وتفصيلاً معرفياً للعلاقة بين المفاهيم والبديهيات. وهذا يدعونا للتساؤل: هل استخدم هوسّرل طريقة الاستبطان، وهل يمكن أن نصنّف هذا العمل على أنه من أعمال علم النفس الاستبطاني؟ سوف يجيب كل من يقرأ كتاب بحوث منطقية عن هذا السؤال بالنفي، إذ إن ما نجده في هذا الكتاب بشكلٍ واضح عبارة عن حجج فلسفية وتحليلات. وبدلاً (16)
من أن يخلص الفرد إلى أن هذا العمل لا يندرج تحت الظاهريات، ينبغي أن يعيد النظر في التطابق الشديد بين الظاهريات وعلم النفس الاستبطاني.
وتعد الاختلافات الظاهرياتية بل والاختلافات القائمة بين الظاهرياتيين اختلافات فلسفية، وليست اختلافات حول الاستبطان. وعلى الرغم من أنه قد يكون من المبالغة القول بأن التحليلات التي أوردها هوسرل في بحوث منطقية قد وجدت قبولاً عاماً بين الأجيال اللاحقة من الظاهرياتيين، فإننا لا نعرف على الإطلاق أيّ مثال رُفض فيه موقف هوسرل بسبب الدعوة إلى دليل استبطاني "أفضل". وعلى طرف النقيض من ذلك، أدت تحليلات هوسرل إلى إثارة مناقشات مكثفة بين الفلاسفة الظاهرياتيين. وقد طوّر مفكرون من أمثال سارتر وهايدغر وليفيناس ودريدا العديد من التحليلات بعد ذلك وصقلوها (راجع: زاهاوي وستيانفيلت 2002). ويتعارض ذلك بشكلٍ واضح مع حجة "مِتسينجر" بأنه لا يمكن للمقاربة الظاهرياتية أن تقدم طريقة لتوليد أيّ تطور في المعرفة، إذ إنه لا توجد طريقة واحدة يمكن أن يصل من خلالها أي فرد إلى توافق غير موضوعي مشترك بشأن حجج مثل "هذا هو أكثر شخص أزرق يمكن أن يدرَك" مقابل "لا، ليس كذلك إذ إن لديه مسحة خضراء بعض الشيء" (متسينجر 2003). ولا تعدّ ببساطة هذه الأنواع من الحجج من ذلك النوع الذي يمكن أن تجده في أعمال الفلاسفة الظاهرياتيين، بل إن الإشارة إلى ذلك تكشف عدم إلمام الفرد بالأسلوب محل البحث.
وعلى الرغم من أن عالم الظواهر هو المجال الرئيس للظاهراتية (كيف تتم الخبرة بالأشياء، أو كما يقول فلاسفة الظاهراتية: كيف "تُعطى" أو تقدَّم الأشياء إلى الذات في شكل خبرةٍ ما)، ووفقاً للشروط الممكنة، إلا أن فلاسفة الظاهراتية يرون أن تحديد عالم مدرك بالحواس داخل العقل، وكذلك اعتبار أن طريق الوصول إليه ووصفه يكون من خلال التأمل فيه (الاستبطان) ينطوي على مغالطةٍ ميتافيزيقية. وقد أشار هوسرل بالفعل في "بحوث منطقية" إلى أن الفجوة الظاهرة بين الداخل والخارج لها أصول في الميتافيزيقيا البديهية الساذجة، ومشكوك في صحتها وغير مناسبة من الناحية الظاهرياتية، عندما يتعلق الأمر بفهم طبيعة الوعي. على أن تلك الفجوة هي من الأمور التي يقرها مصطلح الاستبطان ويعضدها. ويعد الحديث عن الاستبطان موافقة (ضمنية) على الفكرة القائلة بأن الوعي يكون متضمنا داخل الرأس والعالم الخارجي. ويمكن أن نجد الانتقاد نفسه أيضاً عند هايدغر، الذي ينكر أن العلاقة بين وجود الإنسان (الكينونة) والعالم يمكن اقتناصها بسماعدة المفهومين "الداخل" و"الخارج" (هايدغر)، ونجدها أيضاً عند ميرلوبونتي الذي يشير في هذا الصدد إلى أنه من المستحيل التقاء الداخل بالخارج. في الواقع، أنكرت كل (17)
الشخصيات الرئيسة التي انتهجت الظاهريات علناً، وبشكلٍ لا لبس فيه انخراطهم في أيّ نوعٍ من أنواع علم النفس الاستبطاني كما أكدوا أيضاً أن المقاربة التي يتبنّونها لا تعد إحدى طرق الاستبطان (راجع جورفيتش، هايدغر، هوسرل، ميرلوبونتي). ويرى هوسرل، الذي يرفض رفضاً قاطعاً أية إشارة إلى أن مفهوم الحدس الظاهرياتي يعد أحد أشكال الخبرة الداخلية أو الاستبطان، أن الإشارة إلى أن الظاهريات هي محاولة للرجوع إلى طريقة الاستبطان أو المراقبة الداخلية يعد منافياً للعقل وغير صحيح. وهذا يدفعنا للتساؤل: ما الذي يكمن وراء هذا الرفض القاطع؟ يبدو أن ثمّة العديد من الأسباب المختلفة. وحتى نفهم بعض هذه الأسباب، يجب أن نعود مرةً أخرى إلى موضوع المنهج الظاهرياتي.
الرد الظاهرياتي:
من المفترض أن تُعنى الظاهريات بالظواهر والماظاهر وشروط تحققها، لكن ما هي الظاهرة على وجه التحديد؟ بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة، تفهم الظاهرة باعتبارها "الإعطاء" الآني للموضوع، أي كيف يظهر لنا، والطريقة التي بها يبدو. وكان الافتراض في كثير من الأحيان هو أن هذه الظاهرة شيء ذاتي بحت، حاب أو ستار يخفي الواقع القائم بموضوعية. ووفقاً لهذا الرأي، إذا رغبت في اكتشاف ماهية الموضوع، فلا بدّ أن تتجاوز الجانب الظاهراتي الخالص. فإذا وظفت الظاهريات مفهوم الظاهرة هذا فإنها ستكون علماً مهتماً بما هو ذاتي، أو ظاهر أو سطحي. ولكن ليس من المستغرَب أن يؤيد الظاهرياتي فهماً مختلفاً نوعاً ما لما يمكن أن تبلغه الظاهرة. فمن وجهة نظره، لا تقبع حقيقة الموضوع وراء مظهره، وكأن الظهور يخفي بطريقةٍ أو بأخرى الموضوع الحقيقي. وعلى الرغم من وجوب التمييز بين المظهر والواقع (حيث إن بعض المظاهر خدّاعة)، إلا أن الظاهرياتي لا يفهم هذا على أنه تمييز بين عالمين منفصلين (واقعين في الظاهريات والعلوم، على الترتيب)، ولكنه تمييز متأصّل في الظاهرة ـ متأصل في العالم الذي نعيش فيه، وهو تمييز يبيّن كيف يمكن أن يظهر الموضوع للمحة سطحية، أو لمنظور أقل من النموذجي، وكيف يمكن أن يظهر في أفضل الظروف، سواءٌ كان ذلك في استخدام عملي أو في ضوء فحصٍ علمي واسع النطاق. وفي الواقع، لا يكتسب الموضوع أيّ معنى لنا إلا بقدر ما يظهر لنا بطريقةٍ أو أخرى. وبدلاً من تناول مسائل تتعلق ببنى وأطوار الظهور واعتبارها شيئاً مهملاً أو ذاتياً خالصاً، يصرّ الظاهرياتي على أن لهذا المبحث أهمية فلسفية كبيرة. (18)
يتضح من صياغات هوسرل الأولى لبرنامج البحث الظاهرياتي أنه ينظر إلى مهمة الظهاريات على أنها تتمثل في تقديم قاعدةٍ إبستيمولوجية جديدة للعلوم، إلا أنه سرعان ما أدرك أن تلك المهمة تستدعي تغييراً "غير طبيعي" في دائرة الاهتمام. فبدلاً من التركيز فقط على موضوعات المعرفة، ينبغي لنا وصف وتحليل البعد التجريبي تفصيلاً من أجل الكشف عن المساهمة المعرفية للذات العارفة (هوسرل)؛ وهي مساهمة يرى أن العلوم العادية تهملها.
فالعلوم لعادية، بطبيعة الحال، مستغرقة تماماً في فحص العالم الطبيعي (أو الاجتماعي/ الثقافي) لدرجة أنها لا تتوقف للتفكير في افتراضاتها وشروط ممكناتها. فالعلوم العادية تعمل على أساس سذاجة طبيعية (وضرورية)، وهي تعمل على أساس اعتقاد ضمني في وجود واقع يعتمد على العقل، والخبرة ، والنظرية. فالواقع موجود، ينتظر من يكتشفه ويبحث فيه. وهدف العلم هو حيازة معرفةٍ دقيقة وسليمة موضوعياً بهذا المجال. وهذا الافتراض الواقعي أساسي ومتجذر لدرجة أنه محل قبول من العلوم الوضعية، وكذلك يتخلل حياتنا اليومية ما قبل النظرية، ولهذا لاسبب يسميه هوسرل "الموقف الطبيعي". ولكن يجب مقارنة هذا الموقف مع الموقف الفلسفي الصحيح، والذي يشكك نقدياً في أسس الخبرة والفكر العلمي (هوسرل). فالنزعة الطبيعية الصارمة تنفي وجود منهجٍ فلسفي مستقل، وتنادي بضرورة أن تكون أعمال الفلاسفة على تواصل مع العلوم الطبيعية ومتفاعلة معها. وعلى النقيض من ذلك، يعتبر الظاهرياتي أن للفلسفة دوراً يختلف عن البحث العلمي الطبيعي، حيث إن الفلسفة فرعٌ علمي لا يكتفي بمجرد المساهمة في نطاق معرفتنا الوضعية، ولكنه بدلاً من ذلك يحقق في أساس تلك المعرفة ويتساءل عن ممكناتها. وكما يقول هايدغر، فإن على الفلاسفة "أن يولوا اهتمامهم ويوجهوا انتباههم إلى الصفة الغامضة تماماً في كل ما يبدو للحس السليم بديهياً مستغلقاً على التفسير". إي إن هذا النطاق، الذي هو بالضبط نطاق البداهة المتجاهَلة، هو الذي تسعى الظاهريات إليه.
ولكن كيف يتسنى للظاهرياتية أن تحقق ذلك؟ كيف ينبغي لها أن تمضي في طريقها؟ نحن في البدء بحاجة إلى التوقف أو تعليق قبولنا للموقف الطبيعي من أجل تجنب السذاجة البديهية (فضلاً عن العديد من الفرضيات حول الوضع الميتافيزيقي للواقع). ولا يعد هذا التعليق شكلاً من أشكال تبني النزعة الشكية. فلا يوج أي شك في وجود العالم، كما يكتب هوسرل. لكن المهمة الكبرى هي أن نفهم حقاً هذا الثابت الذي لا يقبل المناقشة (الذي يعزز الحياة والعلوم الوضعية) وأن نوضح شرعيته، ونحن لا نستطيع القيام بذلك مادمنا (19)
نسلّم به بكل بساطة (هوسرل). ولدى هوسرل مصطلح تقني يصف به تلك العملية. فهو يطلق عليه تعليق الحكم/ إبوخيه. (19)
(* هامش): بطبيعة الحال، أدت التطورات المتلاحقة في علم الفيزياء، وخصوصاً ظهور نظرية النسبية وفيزياء الكم، إلى مساءلة هذا الافتراض الأساسي. غير أنه من المشكوك فيه ما إذا كانت الآثار النظرية الكاملة لأينشتاين وأفكار بور ـ والتي ما زلنا نتجادل بشأن التفسير الدقيق لها ـ قد تم استيعابها في العلوم الأساسية، حيث ينعكس ذلك في فهمها للواقع. وعلى الجانب الآخر، فمن الجدير بالذكر أن عالم الرياضيات الفذ هيرمان ويل، والذي كان زميلاً لأينشتاين في زيورخ، وساهم بشكلٍ رئيس في تفسير كلٍ من نظرية النسبية العامة ومجال ميكانيكا الكم وتطويرهما، قد أخذ عن هوسرل انتقادات المذهب الطبيعي، وكذلك تأثر بشدة بالمثالية الترانسندنتالية لهوسرل (انظر ريكمان 2005).
ليس الغرض من تعليق الحكم الشك في الواقع أو إهماله أو التخلي عنه واستبعاده؛ بل وقف أو تحييد أيّ موقف اعتقادي تجاه الواقع، وبالتالي نتيح لأنفسنا التركيز أكثر وبشكلٍ مباشر على الواقع تماماً كما هو معطى ـ على نحو ما يظهر لنا في الخبرة. وباختصار، فإن تعليق الحكم (الإبوخيه) ينطوي على تغيير موقفنا من الواقع، وليس استبعاده. فالشيء الوحيد الذي يتم استبعاده نتيجةً لتعليق الحكم هو سذاجة معيّنة؛ سذاجة التسليم بالعالم، وبالتالي تجاهل مساهمة الوعي فيه.
وكثيراً ما تبدو توصيفات الطريقة الظاهرياتية موحية بأنه ما إن نتبنى تعليق الحكم، فإننا نحقق تماماً موقفاً معيّناً، ويمكننا أن نشرع ببساطة في تطوير الوصف الظاهرياتي. ولكن لا ينبغي لنا أن ننظر إلى تعليق الحكم كشيء يتم إنجازه للأبد وفي خطوة أولى واحدة، تعقبها العديد من الإجراءات الأخرى؛ فتعليق الحكم موقف على المرء أن يستمر في تحقيقه.
ومن الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أن تعليق الحكم لا يعني التحول بشكل كامل إلى الداخل، بل هو على العكس من ذلك، فهو يسمح لنا بالبحث في العالم الذي نعيش فيه من منطلق تأملي جديد، وتحديداً من حيث دلالتُه والطريقةُ التي يفصح بها عن ذاته للوعي. وعلى الرغم من أن هذا البحث التأملي يختلف عن الطريقة المباشرة في فحص للعالم، إلا أنه ما يزال بحثاً في الواقع؛ فهو ليس بحثاً في مجال عقلي أخروي. وبالتالي يجب علينا ألا نرتكب خطأ تفسير مفهوم الخبرة على أساس عقلي بحت، كما لو كانت شيئاً يحدث في حيّز عقلي بحت، ويشكل جزءاً من المخزون العقلي.
وعلى سبيل المثال، كيف لنا أن نصف الفارق التجريبي بين تذوق النبيذ وتذوق الماء، وبين سماع صافرة الضباب ورؤية القمر بدراً، أو بين تأكيد ونفي أن برج إيفل أطول من مبنى أمباير ستيت؟ هل نفعل ذلك عن طريق قطع رابطنا القصدي بالعالم، والتحول بالنظر طيفياً إلى داخلنا؟ كلا، نحن بالأحرى نكتشف تلك الاختلافات ونحللها وصفياً بإيلاء اهتمام خاص لكيفية ظهور الأشياء الدنيوية والحالات التي تظهر لنا؟ أي إن منطلق التوصيفات الظاهرياتية هو العالم الذي نعيش فيه. إن الظاهريات، وكما يبيّن دون ولتون 2000، ترى أن أفعال العقل "لا تنتمي إلى تخم منغلق لا يفتحه سوى الاستبطان، بل لها كينوننتها بحكم علاقتها بما يتعالى عليها". (20)
لهذا السبب قرر ميرلوبونتي، في فينومينولوجيا الإدراك الحسي، أن الظاهريات متميّزة في جميع خصائصها عن علم النفس الاستبطاني، وأن الفارق هو فارق من حيث المبدأ. ففي حين يرى عالم النفس الاستبطاني الوعي مجرد قطاع في الكينونة، ويحاول البحث في هذا القطاع تماماً كما يحاول الفيزيائي البحث في العالم المادي، فإن الظاهرياتي يدرك أن الوعي يستدعي توضيحاً متعالياً يتجاوز المسلمات ويضعنا وجهاً لوجه مع إشكالية صياغة العالم (ميرلوبونتي)
يستدعي مفهوم المتعالي مزيداً من التوضيح. إن أبسط طريقةٍ لهم آراء ميرلوبونتي هي من خلال الاعتراف بأن الظاهريات ـ وعلى الرغم من كل أنواع الاختلافات الأخرى ـ واقعة إطار كانطي أو مابعد كانطي. ومن بين طرائق تأويل دور كانط الثوري في نظرية المعرفة هي أن نعتبره تحقيقاً لفكرة أن مخاوفنا المعرفية من الواقع هي أكثر من مجرد نسخ لعالم موجود مسبقاً. فبدلاً من ذلك، فإن التحليل الفلسفي للواقع، أي التفكير في الاشتراطات التي على أيّ شيءٍ أن يستوفيها من أجل اعتباره "حقيقياً"، لا ينبغي أن يتجاهل مساهمة الوعي. وهكذا، وفي هذا إبراز للفارق الرئيس عن جزءٍ كبير من انشغال الفلسفة التحليلية الحديثة بالوعي، نجد أن اهتمام الظاهريات بمنظور الشخص الأول ليس مدفوعاً في المقام الأول بالتبصّر البسيط نسبياً في أننا بحاجة إلى تضمين منظور الشخص الأول، إذا أردنا أن نفهم الظواهر العقلية. بل إن تركيز الظاهرياتي على منظور الشخص الأول دافعه محاولة فهم طبيعة الموضوعية، وكذلك الاهتمام بذاتية الوعي. وبدلاً من أن تتخذ الظاهريات من العالم الموضوعي نقطة انطلاق، فإنها تتساءل عن كيف تكون الموضوعية ممكنة في المقام الأول. وما هي أطوار الفهم الأولية التي تسبق اعتقادنا في الموضوعية؟ وكيف تشكلت الموضوعية؟
في النصوص الظاهرياتية يستخدم مصطلح "التأسيس" constitution بطريقة تقنية. ومن ثمّ لا ينبغي أن نفهم هذا الاصطلاح على أنه ينطوي على أي نوع من الخلق أو الصنع (هايدغر 1979)، بل يجب أن نفهم التأسيس بوصفه تلك العملية التي تسمح بظهور الأشياء ومغزاها؛ أي إنه عمليةٌ تسمح لكل ما هو متشكّل أو مؤسَّس بالظهور، ليقدم نفسه وفق ماهيته (هوسرل). وهذه العملية تنطوي علىمساهمة الوعي. فليس ثمّة ظهورٌ من دون وعي. وهذا الأمر يكشف أن الظاهريات، على الرغم من تركيزها على كيفية وجود الأشياء في الخبرة، لا تقر بما يسميه الفلاسفة "أسطورة المعنى"، والتي تستند على الفكرة القائلة بأن الخبرة هي التلقي البحت للعالَم، وأن الإدراك المعرفي هو محض نوعٍ من التلقي. (21)
وهكذا، فإن الدافع وراء اهتمام الظاهريات بمنظور الشخص الأول هو الاعتبارات الفلسفية الترانسندنتالية. فهي تستخدم على سبيل المثال الاختلاف الكائن بين الذات المتصورة بوصفها شيئاً في العالم والذات المتصورة وجوداً للعالم؛ أي تعتبر الذات اشتراطاً ضرورياً (وإن لم يكن كافياً) لإمكانية الإدراك والمعنى (كار 1999). وهكذا تتأسس الموضوعات، أي نخبرها وتفصح عن نفسها بطرق ماهيتها، بفضل بنية الوعي. وكما يكتب هوسرل، "إن الأشياء التي نعيها ليست ببساطة في الوعي، مثلما يكون الشيء في صندوق، حيث نعثر عليها ونلتقطها؛ .. بل هي متشكلة في البداية كموضوع، ماهية بالنسبة إلينا، وما تمثله لنا، في أشكال متنوّعة من القصدية الموضوعية". وبالتالي يرفض الظاهرياتي الافتراض القائل بأن الوعي هو مجرد موضوع من بين موضوعات أخرى في العالم، وأنه على قدم المساواة مع ـ على الرغم من كونه أكثر تعقيداً ـ البراكين والشلالات وبلورات الثلج، وشذرات الذهب، والثقوب السوداء، حيث ينظرون للوعي على أنه من الاشتراطات الضرورية (وإن لم تكن كافية) لظهور أي موضوع بالطريقة التي يظهر بها والمعنى الذي يمثله. فيقول الظاهرياتي بأن المشاهدة من اللامكان أمرٌ بعيد المنال، كما أنه ينكر أن من الممكن أن ننظر في خبراتنا، لنتأكد مما إذا كانت تطابق الواقع أم لا. وهذا هو الحال، ليس لأن وجهات النظر هذه من الصعب للغاية التوصل إليها، ولكن لأن الفكرة الجوهرية لمثل هذه الآراء لا معنى لها.
عند هذه النقطة، يكون من الضروري تقديم مصطلح تقني آخر، وهي فكرة الرد الظاهرياتي. فيمكن أن نعتبر "تعليق الحكم" والاختزال عنصرين على ارتباط وثيق بالتفكير الفلسفي، والغرض منهما تحريرنا من الدوغمائية الطبيعية، وجعلنا على وعي بإسهامنا التأسيسي (أي المعرفة، والافصاح عن المعنى) في ما نعايشه. وفي حين أن الغرض من تعليق الحكم هو تعليق أو تخصيص موقف طبيعي معيّن تجاه العالم، مما يتيح لنا التركيز على وسائلِ أو طرائقِ ظهور الأشياء لنا، فإن غاية الاختزال الظاهرياتي هي تحليل الترابط التلازمي بين هياكل محدّدة من الذاتية وأطوار معيّنة من الظهور. وعندما يتحدث هوسرل عن الاختزال، فهو بالتالي يحيلنا إلى خطوةٍ تأملية تنطلق من انغماس غير تأملي وغير مختبر في العالم و"يعود بنا إلى الوراء" حيث الطريقة التي يتبدى بها العالم لنا. وهكذا، فإن الأمور اليومية المتاحة لإدراكنا الحسي ليست موضع شك أو اعتبارها أوهاماً عندما "تختزل فينومينولوجياً"، ولكننا بدلاً من ذلك نفحصها ببساطة وعلى وجه التحديد باعتبارها مدركاً حسياً (وعلى نحوٍ مماثل لأجل الأشياء التي نتذكرها كما نتذكرها، ونتخيلها كما نتخيلها، وهكذا). وبعبارة أخرى، ما إن نتبنّى الموقف الظاهرياتي، فإننا لن نكون مهتمين في القام الأول بماهية الأِشياء ـ وزنها، حجمها، تكوينها الكيميائي، إلخ ـ بل في كيفية ظهورها، وبالتالي تكون مرتبطة بخبرتنا. (22)
(* هامش): يجب أن يدرك الفهم الصحيح للتحليلات الفينومينولوجي [ـة] للوعي طابعها الفلسفي المتعالي. فلا يزال البعض يجد هذا الزعم مثيراً للجدل عندما يتعلق الأمر بأعمال هايدغر وميرلوبونتي. وللدفاع عن هذا التأويل، الذي يؤكد على القواسم المشتركة بين الفينومينولوجيين الثلاثة.
عندما ندرك حسّياً، أو نحكم، أو نقيم أشياء، فإن الفحص الظاهرياتي الشامل يقودنا إلى بنى الخبرة وأطوار الفهم التي ترتبط بها هذه الأنواع من الظهور. وننقاد إلى فعل العرض ـ الإدراك الحسي، أو الحكم، أو التقييم ـ وبالتالي يتوجب بالضرورة فهم هذه الذات "المجربة" التي بالارتباط بها يظهر الكائن. ومن خلال تبني الموقف الظاهرياتي، فإننا نولي اهتماماً بكيفية ظهور الأشياء العامة (الأشجار والكواكب واللوحات والسمفونيات والأرقام والشؤون والعلاقات الاجتماعية، وما إلى ذلك) للوعي. ولكننا ببساطة لا نركز على الأشياء بالضبط كما تظهر؛ بل نركز أيضاً على الجانب الذاتي للوعي، وبذلك نصبح على بيّنة من إنجازاتنا الذاتية ومن القصدية الحاضرة. وإذا أردنا أن نفهم كيفية ظهور الأشياء المادية، والنماذج الرياضية، والعمليات الكيميائية، والعلاقات الاجتماعية، أو المصنوعات الثقافية، مع معناها، فإننا بحاجةٍ إلى دراسة الذات المعايشة، والتي تظهر لها هذه الكائنات.
ليس دافع البحث الظاهرياتي في الوعي الرغبة في إيجاد مكان للوعي ضمن إطارٍ مادي أو طبيعي متأصل. فالحقيقة أن محاولة القيام بذلك، وعلى افتراض أن الوعي ليس سوى مجرد كائن آخر في العالم، من شأنها أن تمنعنا من اكتشاف وتوضيح بعض الجوانب الأكثر إثارةً للاهتمام في الوعي، بما في ذلك الدلالة الإبستيمولوجية والأنطولوجية الحقيقية لمنظور الشخص الأول. فلا ينبغي أن نتناول إشكالية الوعي على خلفية من الموضوعانية التي لا جدال فيها. كثيراً ما كان الافتراض هو أن التوصل إلى فهمٍ أفضل للعالم المادي يسمح لنا بفهم أفضل للوعي؛ ونادراً ما كان الافتراض هو أن التوصل إلى فهمٍ أفضل للوعي قد يسمح بفهم أفضل لمعنى أن يكون الشيء حقيقياً. إن أمراً مثل أن شيئاً مثل التخصيص الواعي للعالم وكونه ممكناً لا يخبرنا بأشياء عن الوعي فحسب، ولكنه أيضاً يخبرنا عن العالم. ولكن، بطبيعة الحال، هذه الطريقة لمناقشة الوعي، باعتباره البعد التأسيسي، وكونه (المكان) الذي يتبدّى فيه العالم ويعبّر عن نفسه، تختلف تماماً. عن أية محاولة للتعامل معه بشكلٍ طبيعي، واعتباره مجرد كائنٍ آخر (روحاني أو مادي) في العالم.
والآن ينبغي أن يكون واضحاً لنا لماذا لا تعتبر الظاهريات مجرد مجموعةٍ من أوصاف الوعي الظاهراتي، والتي يمكن أن نتحصّل عليها إذا بدأنا في استبطان خبراتنا. وفي بعض النواحي، تشارك الظاهريات في عملية تأمل من نوعٍ ما. على أن الظاهريات تتعلق أيضاً بتوصيف العالم وكيفية تجليه في تلك الخبرة. وهي تشتمل على فحصٍ للعالم من منظور الشخص الأول. ولذلك، وعلى الرغم من أن هذا يتطلب تعليقاً لموقفنا الطبيعي اليومي، فإنها تتخذ كذلك هذا الموقف، الكينونة في العالم، ليكون جزءاً من الموضوع (23)
محل البحث. وبهذا المعنى، لا تقتصر الظاهريات على الوعي، كما لو أن من الممكن أن نتناول الوعي بمعزل عن كل شيء آخر في حياتنا. ولكنها معنية بكيفية انغماسنا في مواقفنا ومشاريعنا الحياتية، وكيف نخبر العالم ونعايشه، ونتواصل مع الآخرين، وننخرط في شتى الأفعال والممارسات التي تحدد شكل حياتنا.
إن الوصف الظاهرياتي وفقاً للظاهراتية ليس وصفاً لخبرةٍ ذاتية الشعور ـ "هنا والآن، وهذا هو بالضبط ما أشعر به" ـ بل هي في الأساس تسعى للإحاطة ببنى الخبرة الثابتة. وبهذا المعنى، تكون أقرب إلى العلم منها إلى العلاج النفسي، حيث يركز العلاج النفسي على الذات بوصفها شخصاً بعينه، وربما يلجأ إلى الاستبطان في بحثه عن طريقة خبرة الشخص بالعالم والسبب وراء ذلك، في المكان والزمان. وعلى النقيض من ذلك، لا تهتم الظاهريات بفهم العالم وفق تعريف جالاجر له، أو العلم وفق تعريف زاهاوي، أو حتى العالم وفقاً لك أنت؛ فهي مهتمة بفهم الكيفية التي يتسنى لك بها أن تُخبر (تعايش) العالم. ومن هنا لا يدخل في دائرة اهتمام البحث الظاهرياتي دراسة حالات الخبرة الذاتية الواعية qualia من حيث كونُها مستعصيةً على التقويم، فائقة الوصف، ولا تضاهى بغيرها. فلا تهتم الظاهريات بالعمليات السيكولوجية (على النقيض من العمليات السلوكية أو العمليات الفيزيقية). شاغلها هو إمكانية الظواهر وبنيتها. فهي تسعى لاستكشاف البنى الممكنة والاشتراطات الضرورية لتلك الإمكانية. وتهدف إلى الكشف عن البنى المشتركة بين الذوات، وبالتالي تحليلاتها قابلة للتصويب والضبط من قبل أي ذات (مهيّئة فينومينولوجياً).
من بين الأسباب التي تدفع أي تفسير للمقاربة الظاهرياتية معنى بدراسة الوعي إلى أن يأتي على ذكر "تعليق الحكم" والرد reduction هو أن تلك الإحالة تضفي على البحث في تلك المسألة سياقه المنهجي. فكل من تعليق الحكم والرد عنصران في هذه الخطوة الفكرية التي تجعل من الظاهريات فرعاً فلسفياً متعالياً. وأية محاولة للتهوين من أهمية هذين العنصرين المنهجيين تخاطر بالخلط بين التحليل الظاهرياتي والتوصيف السيكولوجي أو الأنثروبولوجي. ويمكننا أن نضع هذا الرأي المتالي بطريقةٍ متناقضة إلى حدٍّ ما: فلا يعنى الظاهرياتي بالوعي في حد ذاته؛ فاهتمامه بالوعي لأنه يعتبر الوعي مدخلنا إلى العالم، فهو مهتم بالوعي لأنه من يكشف العالم. ولذلك ينبغي أن نفهم أن الفينومينولوجيا تحليل فلسفي لأنواعٍ مختلفة من الإفصاح عن العالم (إدراكاً حسياً، تخيلاً، تذكراً، وما إلى ذلك)، ويرتبط بهذا البحث التأملي في بنى الخبرة والفهم التي تسمح لأنواع مختلفة من الكائنات بإظهار نفسها على ما هي عليه.
ومن الأسباب الأخرى لأهمية مناقشة هذه المفاهيم المنهجية أننا بذلك ندرأ سوء فهم واسع النطاق يحول مراراً وتكراراً دون التقدير الحقيقي لدور الظاهريات وأهميتها، خاصة تلك التي صاغها هوسرل. (24)
وبالتالي، ووفقاً لإحدى القراءات، فقد استخدم هوسرل إجراءً منهجياً يفصل بين العقل والعالم (دريفوس 1991). ونتيجة لذلك، غاب عنها العالم، وظل غير قادر على تقديم معالجة وافية لتلك القضايا الرئيسة، ومنها المعرفة المشتركة بين الذوات والتجسيد. وفي ضوء تلك المعالجة التي تركز على الهدف الذي ابتغاه هوسرل من منهجه، يمكننا أن ندرك لماذا تعد هذه القراءة إشكالية. وسوف يتضح هذا أكثر في بعض الفصول اللاحقة.
الاختلاف العياني والمعرفة ما بين الذاتية:
ولكن، ما الذي يحققه الرد الظاهرياتي، لا سيما إذا كنا مهتمين بالعلوم المعرفية؟ تذكر أن الظاهريات، على النقيض من العلوم الموضوعية أو الوضعية، ليست مهتمةً بصفةٍ خاصة بالطبيعة السببية أو الجوهرية للأشياء، أي من قبيل الوزن، الندرة، أو التركيب الكيميائي، ولكن بالطريقة التي تتبدى بها في الخبرة. وهناك اختلافات جوهرية في الطرائق التي تتبدى بها الأشياء المادية، مثل إناء، أو عمل فني، أو لحن، أو حالة، أو عدد، أو حيوان، أو علاقةٍ اجتماعية ما. وعلاوةً على ذلك، فمن الممكن للشيء ذاته أن يظهر عبر مجموعةٍ متنوّعة من الطرائق: من هذا المنظور أو ذاك، تحت إضاءةٍ قويّة أو ضعيفة، مدركاً حسياً، متخيلاً، يتمناه المرء، يخشاه، يتوقعه، يتذكّره. وبدلاً من تناول مسائلَ تتعلق بطريقة ظهور الأشياء في الخبرة كشيء ضئيل أو ذاتي بحت، فإن تلك المسائل تتناول أمراً أساسياً جداً؛ أمر تستلزمه كل العلوم العادية. فحتى يتسنى لعالم أن يكون مؤهلاً للتساؤل حول (س)، ودراسة كيفية عمل (س)، وما هي أسبابه، عليه أولاً أن يكون واعياً بـ (س). هكذا تبحث الظاهريات في كيفية حدوث ذلك. وفي فصولٍ لاحقة، نناقش بعضاً مما توصلت إليه الظاهريات مما له صلةٌ مباشرة بدراسة الوعي والعلوم المعرفية ـ أنّ الإدراك الحسي دائماً في حال تجسّد، وأنه دائماً من جهة ما يقدم الشيء المدرَك في سلسلة غير مكتملة من الصور، وأن له دائماً بنية قصدية، وأنه ليس لحظياً، وما إلى ذلك ـ فضلاً عن الجوانب المختلفة مثل الذاكرة والخيال والحكم، إلخ.
ولكن كيف يتمكن الظاهرياتي من تحقيق كل هذا؟ بالإضافة إلى تعليق الحكم والرد الظاهرياتي، فإن الظاهريات تضيف أداتين مهمتين لصندوق أدواتها. الأولى، يطلق عليها الاختلاف العياني. فقد كان الفلاسفة في بحثٍ دائم عما يسميه أفلاطون الإيدوس eidos أو جوهر الأشياء. وفي معرض تطوير طريقته الظاهرياتية، اقترح هوسرل طريقةً من شأنها استخلاص الخصائص الأساسية والثابتة للأشياء التي نخبرها، وهي تنطوي ببساطة على استخدام خيالنا في تجريد الأشياء من خصائصها غير الأساسية. فإذا كان الشيء الذي أفحصه كتاباً، فما هي سماتُه التي يمكنني أن أقوم بالتنويع عليها تخيلاً من دون تبديد حقيقة أنه كتاب. إذاً، يمكنني تغيير لون وتصميم غلافه؛ ويمكنني تخيلاً أن أختصر عدد (25)
صفحاته، أو أن أزيدها؛ ويمكنني تغيير حجم الكتاب ووزنه. وأنا في كل هذا أستعين بخبرتي السابقة عن الكتب، ويمكنني تخيّل الكثير من الاختلافات. وتكون النتيجة هي أن مجموعةَ الخصائص الأساسية التي تستعصي على التغيير ـ أي تلك الخصائص التي تضفي على الكتاب معنى اسمه، والتي إن تغيّرت لا يصير الكتابُ كتاباً ـ تشكل الجوهر، "ما يجعل الكتاب كتاباً".
تقول لي هنا: "مهلاً، كل هذا جميل، ولكن العالم الإدراكي غير معنيّ بدراسة الكتب ـ بهذا المعنى على الأقل". معك حق، ولكن يمكننا أيضاً أن نقوم بنفس هذا النوع من التحليل التخيلي للفعل الإدراكي الذي من خلاله أخبر الكتاب. فعلى سبيل المثال، إذا كنت أتذكر الكتاب، فما الذي يمكنني تغييره في عملة التذكر من دون المساس بالذكرى؛ ما الذي لا أستطيع تغييره ويبقى ضرورياً للنشاط المعرفي المتمثّل في التذكر؟ تفعل الظاهريات الشيء نفسه مع الإدراك الحسي، التعرف على الأوجه المختلفة للشيء الواحد، اتخذا القرارات، الإدراك الاجتماعي، وهلم جرا. وهذا بالتأكيد مثير لاهتمام العالم الإدراكي واستخدامه. بل ستزوده بفكرة جيدة عن أنواع الأشياء ـ الأفعال المعرفية ـ التي يرغب في دراستها.
من المهم ألا يحدثَ التباسٌ هنا بخصوص ماهية الاختلاف العِياني. فليس الأمر مجرد أننا نقوم بالتحديق السلبي في الشيء، لنتحصل على أفكار صحيحة عن بنيته الثابتة. ففي الواقع، وحينما يتعلق الأمر بالظواهر الإدراكية، كان هوسرل واضحاً جداً بشأن أنها تتميّز جميعاً بغموضٍ أساسي، وبالتالي قال بأن أية محاولة لتصنيفها وتحديدها وفق نفس الدقة التي نستخدمها في الهندسة مثلاً، فإننا بذلك نلحق الضرر بها. "إن غموض هذه المفاهيم، والظروف التي جعلت مجالات تطبيقها غيرَ محددة، لا يجعلها معيبة في حد ذاته؛ حيث إن لا غنى عنها إطلاقاً في مجالات المعرفة التي تستخدم فيها، وهي في تلك المجالات تعتبر المفاهيم المشروعة الوحيدة" (هوسرل). وهكذا، عندما حدد هوسرل الاختلاف العياني بوصفه أحد أدوات الظاهريات، فلا ينبغي علينا أن نفهم هذا على أنه أي ادعاء مفاده أن بوسع الظاهرياتي أن يستشعر الجوهر الأبدي غير قابل للتغيير للذاكرة أو الخيال. فينطوي البحث الظاهرياتي في هذه المواضيع المعقدة للغاية على طلب تحليلات تكون قابلةً للإبطال في كثير من الحالات ـ وهو ما يعني أن الظاهرياتي ليس منزّها عن الخطأ. وهذه الحقيقة تجعل أداةً أخرى، تحت تصرّف الظاهرياتي، في غاية الأهمية.
تتمثل هذه الأداة الأخرى في حقيقةٍ مفادها أن الظاهرياتي ليس عليه أن يقوم بالتحليل وحده، حيث تتيح التوصيفات تأكيداً ما بين ذاتي. ومرةً أخرى، نقول إن السعي وراء بنى خبرةٍ أساسية ثابتة ليس مرتبطاً بخصوصيات خبرة المرء. فيمكننا بل وينبغي علينا مقارنة توصيفاتنا الظاهرياتية بتوصيفات الآخرين. (26)
وهذه بالطبع ليست عملية بسيطة. ولكنها ليست أكثر فوضوية من العلم، ونحن في هذه العملية نسترشد بالخطوات المنهجية التي نتبعها.
ويمكن للمقاربة الظاهرياتية أن تكتسب تخصصاً أكبر، تبعاً لنوع الخبرة موضوع الدراسة. ولكن هذه الخطوات الأربع هي الأساسية:
ـ الإبوخيه أو تعليق التوجه الطبيعي.
ـ الرد الظاهرياتي، الذي يعنى بالارتباط بين موضوع الخبرة والخبرة ذاتها.
ـ الاختلاف العياني، المهتم بالجوانب الضرورية أو الثابتة لهذا الارتباط.
ـ التأكيد ما بين الذاتي، المعني بالتكرار ودرجة تعميم البنى المكتشفة أو على الأقل مشاركتها.
تطبيع الظاهريات:
تتركز واحدةٌ من القضايا الخلافية حول ما إذا كان من الممكن استخدام الطريقة الظاهرياتية في العلوم الطبيعية التجريبية المعنية بالعقل (العلوم الإدراكية) أم لا حول حقيقة أن هوسرل أكد باستمرار على قصور التأويل طبيعي النزعة للوعي. فقد تم تقديم طريقته الظاهرياتية الخاصة كبديل غير طبيعي تحديداً. فهو قصد أن تكون الظاهريات مبحثاً متعالياً. وبشكلٍ عام، فإن الدراسة المتعالية هي المعنية بالاشتراطات الضرورية القبلية للخبرة. ويمكننا أن نفكر فيها من المنطلق الذي ناقشناه بالفعل: القدرة علىممارسة العلوم تستلزم الوعي (الإدراك المعرفي، والعقل). فالوعي شرطٌ لا غنى عنه، وهو شرط بدهي لممارسة العلم. وبالتالي فإن أية دراسة علمية طبيعية للوعي تستلزم وجود ذات الشيء الذي تدرسه. فعلينا أن نكون واعين (بطريقة المراقب الذاتية) حتى ندرس الوعي كموضوع. وتركز الدراسة المتعالية على الوعي، ليس كموضوع، ولكن كذاتية ويمكنها أن تسأل، "ما هي القيود التي يفرضها الوعي، ببنيته الذاتية وبالطريقة التي يكون فاعلاً بها، على ممارسة العلم"" ف الواقع، وكما لاحنا، كان هذا دافعَ هوسرل إلى تطوير الظاهريات ـ وفي هذا الصدد كان مدفوعاً ببعضٍ من نفس دوافع ديكارت وكانط في محاولتهما تقديم أساسٍ أبستيمولوجي لممارسةٍ سليمةٍ للعلوم.
ولكن هل من الممكن تقديم هذا النوع من الأساس؟ هناك مناقشات حول هذا حتى في الظاهريات، ولكن هذه ليست مسألة تعنينا هنا. ولكن المسألة التي نريد أن نتطرق إليها هي ببساطة ما إذا كان من الممكن (27)
استخدام الظاهريات في العلوم التجريبة أم لا. ففي الفصول التالية، سوف نقدم الكثير من الأدلة على أن هذا هو الحال. وسوف نبيّن إلى أيّ مدىً تتعامل الظاهريات مع القضايا وتقدم تحليلاتٍ تُعتبر حاسمةً لفهم التعقيد الحقيقي للوعي والإدراك المعرفي، والتي هي مع ذلك كثيراً ما تغيب عن الجدل الدائر حالياً، وإظهار كيف يمكن لها أن توفر إطاراً مفاهيمياً لفهم العقل الذي قد يكون أكثر قيمةً بكثير من بعض النماذج الرائجة حالياً في العلوم الإدراكية. ولكن دعنا نختتم هذا الفصل باستعراضٍ سريع لثلاثة مقترحات حديثة وعامة فيما يتعلق بكيفية تعاون الظاهريات مع العلم بدلاً من معارضته.
إن الظاهريات فرعٌ فلسفي؛ وهي ليست مجالاً تجريبياً. ولكن هذا لا يستبعد، بطبيعة الحال، أنّ لتحليلاتها تداعياتٍ على أية دراسة تجريبية للوعي والعلوم الإدراكية، حتى لو لم يكن هذا هو الهدف الأساسي لهوسرل وأتباعه. فلا يمكننا أن نعتبر هوسرل والظاهريات معاديان للعلم، حتى لو كانا يزعمان ذلك. ففي الواقع، وحيث إن أحد اهتمامات هوسرل الأساسية في وضع الظاهريات هو قلقه حول ممارسة العلم بشكلٍ صحيح، يمكن للمرء أن يفهم أن الظاهريات مصممةٌ لدعم العلم. ومن حيث ما إذا كنا نستطيع تطبيق الخبرات المكتسبة في الظاهريات المتعالية لاستخدامها في العلوم، فقد صاغ هوسرل ذلك على هذا النحو: "كل تحليل أو نظرية لاظاهرياتياً المتعالية ـ بما في ذلك.. نظرية التكوين المتعالي لعالمٍ موضوعي ـ يمكن تطويره في المجال الطبيعي، عن طريق التخلي عن الموقف المتعالي". بمعنى أننا ونحن نتحرك بخطوات منهجية نحو موقفٍ فينومينولوجي، فيمكننا أيضاً أن نأخذ الأفكار التي طوّرناها في ذلك الموقف ونعيدها مرةً أخرى إلى العلم.
وفيما يتعلق بقضية تطبيع الظاهريات، فمن المهم أن ندرك أن هذا الشعار اتخذ عدة معانٍ مختلفة؛ فهو تطور لا علاقة له بحقيقة أن كلا المصطلحين في هذا الشعار ملتبسين. ففي بعض القراءات، يصل الالتزام بالطبيعة إلى أن يكون المنطلق هو الطبيعي (وليس فوق الطبيعي). ولكن من الإنصاف أن نقول إن استخدام هذا المصطلح في الخطاب الحالي يشير أساساً إلى التوجه نحو العلوم الطبعية، وكذلك إن كثيراً من المعنيين المعاصرين بالطبيعة يؤيد شكلاً من أشكال العلموية التي تنص على أن العلم الطبيعي هو مقياس كل شيء. وبعبارة أخرى، تكون الطبيعة ملتزمة بفكرة أن الطريقة الشرعية الوحيدة لدراسة العقل هي طريق العلوم الطبيعية الموضوعية.
أما بالنسبة إلى مصطلح "الظاهريات"، فقد استخدم كذلك بعدة طرق مختلفة. وكما نوّهنا في الفصل الأول، فيمكننا أن نميّز بين الاستخدام غير التقني والاستخدام التقني لهذا المصطلح. فوفقاً للاستخدام الأول لا تكون الظاهريات سوى كلمةٍ أخرى مرادفةٍ للخبرة. ولمناقشة ما إذا كان من الممكن تطبيع الظاهريات أم لا (28)
هو بالتالي مناقشة المسألة الميتافيزيقية المتعلقة بإذا ما كان ممكناً تطبيع الخبرات أم لا. فهل من الممكن، على سبيل المثال، الربط بين الخبرة والعمليات الحيوية (العصبية) التي تحدث في الكائين الحي (الدماغ)؟ وهذه هي بالضبط نوعية الأسئلة التي لن تكون شاغلاً كبيراً للنهج المبيّن في هذا الكتاب. ووفقاً للاستخدام الأكثر تقنية للمصطلح، تشير الظاهريات إلى التقليد الفلسفي والمنهجية التي ناقشناها. وبالتالي، قد يُقصَد من التساؤل عما إذا كان منم الممكن تطبيع هذا النوع من الظاهريات عدداً من الأشياء المختلفة، كما سنرى. ولكن الفكرة الأبسط هي أن الظاهريات المتطبعة، بهذا المعنى، تدرك أن الظواهر التي تدرسها جزءٌ من الطبيعة، وبالتالي فهي أيضاً متاحةٌ للبحث التجريبي. وبقدر انشغال الظاهريات بتلك الظوتاهر، بقدر ما ينبغي عليها الاستفادة بأفضلِ معرفةٍ علمية متاحة، والعكس بالعكس، وبالتالي سوف ينطوي أفضل تأويل للخبرة على تكامل بين الظاهريات والعلوم. أما أفضل طريقةٍ لتحقيق هذا التكامل وإلى أي مدى يجب أن يصل، فيبقى مجالاً خلافياً. (29)