الأحد، 5 أغسطس 2018

فلسفة الحق في الفكر الغربي والشريعة؛ الدكتور أشرف منصور.



فلسفة الحق في الفكر الغربي([1])
ومقارنتها بفلسفة التشريع عند دعاة الإسلام السياسي

يوسف هريمة: انطلاقاً من إيماننا بأنّ المفاهيم مفاتيح لكلّ مستغلق، ماذا نقصد بفلسفة الحق؟ أَكانت الانطلاقة مع هيغل أم مع منظّري العقد الاجتماعي أمْ منهما معاً؟ حبذا لو تضعنا أمام السياق الإبستمولوجي لهذا المفهوم.
أشرف منصور: «فلسفة الحق» هي الاسم الذي ساد في الفكر الألماني بوجه خاص، للتعبير عن الأصول العامة للسياسة، والقانون، والأسس النظرية والفلسفية للدولة. فقد كان كانط هو الذي استخدم هذا الاسم عنواناً لفلسفته السياسية، واستخدمه للغرض نفسه، من بعده كلٌّ من فيشته وهيغل. ولم يكن الفلاسفة الألمان أوّل من فكّر فلسفياً في الأسس النظرية العامة للسياسة؛ إذ سبقهم الإنجليز من روّاد نظريات الحق الطبيعي، والعقد الاجتماعي: توماس هوبز، وجون لوك، وديفيد هيوم. لكن، في حين انحصرت إسهامات الإنجليز في تأسيس النظرية السياسية على نظرية العقد الاجتماعي، وجعل القانون الطبيعي جزءاً مدمجاً في العقد الأصلي، الذي تنشأ على أساسه الدولة والقانون، فإنّ الإسهام الألماني تمثل في تحويل مبحث فلسفة السياسة إلى علم تصوّري استنباطي متكامل. فمن مبادئ أولى بسيطة واضحة بذاتها عن الحقوق الأصلية الطبيعية، وحول طبيعة الاجتماع البشري، وأسسه، يستنبط الفلاسفة الألمان النظام الشرعي، السياسي والقانوني، الذي يمكن أن تؤسّس عليه الدولة الحديثة. كلّ الفرق بين تراث نظريات العقد الاجتماعي الإنجليزية، وتراث نظريات فلسفة الحق الألمانية، أنّ التراث الإنجليزي كان يتأسّس على الرؤية الليبرالية للحقوق الفردية، التي يجب أن تتجسّد في أيّ دستور ونظام سياسي حتى يكتسب الشرعية من وجهة نظر هذه النظريات. أما التراث الألماني، ولاسيما لدى فيشته وهيغل، فقد ابتعد عن هذه الرؤية الليبرالية الفردية نحو تأسيس القانون والدولة على الحق الاجتماعي، وعلى مفهوم الشعب (Volk)، باعتبار الدولة التعبير السياسي عنه وعن وحدته وهويته.
يوسف هريمة: سبق أن كتبتم حول الموضوع، من خلال قراءة جديدة لفلسفة هيغل. هل ما نظّر إليه هيغل كان، بالفعل، مثالياً إلى الحدّ الذي سيَعدّه بعض رواد مدرسة فرانكفورت غير واقعيّ على أساس أنّ ما قدّمه ماركس هو أكثر التصاقاً بالواقع من هيغل؟
أشرف منصور: لقد سبق لماركس أن قدّم نقده لفلسفة هيغل في الدولة من منطلق أنّها مثالية وتصوّرية، تعتمد على التناقض الأصلي بين المجتمع المدني والدولة، وذلك بتقديمها الدولة على أنّها تعالج صراعات وتناقضات المجتمع البورجوازي، أو ترفعها في وحدة سياسية عليا. كما حكم ماركس على الدولة، عند هيغل، بأنها تنوب عن المجتمع في كلّ شيء، ومن ثمّ تلغيه بالفعل. ففي منظور ماركس، قدّم هيغل الدولة على أنّها قادرة على القضاء على تناقضات الرأسمالية، وعلى علاج سلبياتها وأزماتها. هذه الرؤية للدولة هي، في نظر ماركس، إيديولوجية تماماً، وليست علمية. لكن الحقيقة أنّ هذا الدور الذي حدّده هيغل للدولة، وهو تجاوز سلبيات، وتناقضات، وأزمات الرأسمالية، أو المجتمع المدني البورجوازي، بتعبيره، هو الدور الذي قامت به الدولة بالفعل منذ عصر هيغل حتى الآن. وبذلك، يكون توصيف هيغل للدولة صحيحاً؛ لأنّه أمسك بجوهرها، لكنّه، في الوقت نفسه، أمسك بالجوهر الإيديولوجي للدولة. ولمّا كانت الدولة مؤسسة إيديولوجية، فإنّ نقد ماركس لهيغل صحيح هو الآخر. فلا يجب أن ننسى أنّ الدراسات الماركسية الحديثة للدولة أثبتت طبيعتها الإيديولوجية المتمثلة في إعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية، وحمايتها، وإضفاء الشرعية عليها، والتعامل مع سلبياتها، وهي كلّها وظائف إيديولوجية جعلت ألتوسير يتحدّث عنها على أنّها جهاز إيديولوجي. وإلى مثل هذا الرأي، ذهب غرامشي من قبله، وبولانتزاس من بعده، وأخيراً بورديو، الذي كشف عن تبنّيه هذه النظرة نفسها، على الرغم من أنّه لا ينتمي إلى الماركسيّة رسمياً. ولمّا كان دور الدولة الحديثة إيديولوجياً، في الأساس، في علاقتها بالرأسمالية، فإنّ نظرية هيغل في الدولة، التي تنظر فلسفياً لهذا الدور، ونقد ماركس لها، متكاملان وليسا في تناقض، كما اعتقد بعض الدارسين لفكرهما، وأهمهم أعضاء مدرسة فرانكفورت (أدورنو، هوركهايمر، ماركيوز).
يوسف هريمة: استوقفتني عبارات لهيغل، في دراستكم السابقة حول الدولة التي هي الروح، وقد تموضعت، وأنّها اكتمال للمشروع الإلهي على الأرض. هذا يشبه، إلى حد كبير، في اعتقادي، التصور الإسلامي، الذي رأى أن الإنسان خليفة الله، وأنّ الحاكم هو ظلّه على هذه الأرض. كيف استطعتم أن تزيلوا مثاليّة هيغل من خلال أقواله. وما وجه صحّة المقارنة بين كلام هيغل والتصوّر الإسلامي للدولة؟
أشرف منصور: الحقيقة أنّ فلسفة هيغل كلّها تُعدّ محاولة لأنسنة اللاهوت، ولتأويل علمانيّ للدين. ولذلك، عندما يقول هيغل إنّ الدولة هي الروح، وقد تموضعت، فقد كان يعني بذلك أنّ الدولة أصبحت في العصر الحديث بديلاً للكنيسة، التي كانت التموضع القديم للروح القدس؛ أي أنّ الدولة أصبحت، في ترجمة هيغل العلمانية للاهوت المسيحي، التعبير الواعي بذاته عن إرادة الشعب، وكيانه المشترك، وهويته الواحدة، تلك الأشياء التي يلخّصها مصطلح الروح. فما كان يقصده هيغل بالروح هو الإرادة والكيان الأنطولوجي الموضوعي والمستقلّ للشعب، وهويته المشتركة. وبذلك عمل هيغل على تأويل «الروح القدس»، في العقيدة المسيحية، تأويلاً اجتماعياً وسياسياً؛ بل ثورياً أيضاً، بالكشف عن أن القصد الحقيقي للروح القدس هو ذلك الكيان الجمعي المشترك، الذي لم تستطع العصور القديمة التعبير عنه إلا في لغتها اللاهوتية. والدولة، حسب هذا التأويل الهيغلي، هي البديل الحديث للكنيسة، التي كانت التجسيد القديم للروح القدس.
هذا التأويل العلماني السوسيو-سياسي لا يتفق، أبداً، مع تصور الإسلام السياسي عن الدولة، الذي يظلّ يدور في فلك الرؤية اللاهوتية القديمة، والذي يربط وجود وكيان الإسلام نفسه بدولة تحتضنه، وتدافع عنه، ولا يمكن تصوّر وجوده في العالم دونها. وبذلك، تكون فلسفة هيغل هي التي تجاوزت التراث اللاهوتي القروسطي للدولة، في حين يظلّ تصوّر الإسلام السياسي منغلقاً داخل هذا التراث نفسه.
يوسف هريمة: يستخدم دعاة الإسلام السياسي مجموعة من الدلالات ذات الحمولات الفلسفية، من قبيل الديمقراطية، فصل السلطات، العقد الاجتماعي. كيف تقرؤون استخدام هذه التيارات لهذه المفاهيم؟ هل مَن كان يدعو، ولا يزال، إلى تجهيل العالم المادي، قادر، بالفعل، على أن يستوعب طبيعة هذه المفاهيم، أو هي براغماتية سياسيّة تستخدم أدوات فلسفية من أجل نظرية التمكين؟. ما وجهة نظركم في هذا التباين مع مراعاة السياقات المعرفية لإنتاج هذه المفاهيم؟
أشرف منصور: بدأ دعاة الإسلام السياسي، منذ الثمانينيات، في توظيف بعض المفاهيم الليبرالية، التي رأوها نافعة في خدمة مشروعهم، مثل الحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي، والفصل بين السلطات، وذلك بعد تأويلها إسلامياً. فقد تمّ الربط بين الحق الطبيعي من جهة ومقاصد الشريعة الإسلامية من جهة أخرى: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وقالوا إنّ هذه المقاصد هي الحقوق الطبيعية، وذلك كي يمهّدوا الطريق أمام القول إنّ النظام الشرعي (أي الإسلامي) هو الذي يوفّر ويضمن هذه الحقوق الشرعية. وكان هذا التأويل محاولة للتقريب بين مشروع الإسلام السياسي وتراث الليبرالية الغربية، كي يلقى ذلك المشروع القبول، ويتمّ تسريبه للنخب المثقفة.
أمّا عن مبدأ الفصل بين السلطات، فقد تبنّاه الإسلام السياسي في اللحظة التي وصلت فيها الجماعات الإسلامية إلى البرلمانات العربية. وكان الهدف أنّ هذه البرلمانات المسيطر عليها إسلامياً يجب أن تتمتع بالاستقلال والحصانة ضدّ سلطة الدولة، التي لم يكن الإسلام السياسي قد سيطر عليها. فلمّا كانت الدولة وأجهزتها لا تزال بعيدة عن تأثير الإسلام السياسي، ومنيعة في وجه الجماعات الإسلامية، ولمّا كان البرلمان مسيطراً عليه إسلامياً، فقد ظهر مبدأ الفصل بين السلطات، الليبرالي في أساسه وفي نشأته الأولى، مفيداً للإسلام السياسي للغاية في ظلّ هذا الوضع. ومن ثَمَّ تعامل الإسلام السياسي مع هذا المبدأ براغماتياً، بل انتهازياً. هذا بالإضافة إلى أن البعض من دعاة الإسلام السياسي قد أصرّوا على نقل الدور نفسه الذي يقوم به البرلمان في الأنظمة الغربية، وهو دور كبير يصل إلى حدّ تشكيل الحكومات وعزلها، واختيار مرشحي الرئاسة؛ بل انتخابهم من البرلمان أيضاً في بعض الأنظمة، وذلك كي يتمكنوا من السيطرة الكاملة على الدولة من البرلمان. لكن الملاحظ أنّ ذلك البرلمان الذي يملك حق تعيين وعزل الحكومات، ومحاسبتها، واختيار وعزل الرئيس، يجمع السلطات التنفيذية مع السلطة التشريعية التي يمتلكها من الأصل، في ديكتاتورية واضحة. إنّها هذه الديكتاتورية البرلمانية تلك التي تمنّاها الإسلام السياسي. وظهر هذا واضحاً في تفضيل جماعة الإخوان المسلمين النظام البرلماني في الأشهر التي تلت (25 كانون الثاني/يناير 2011م)، لكن لم يتمكّنوا من تحويل الدولة إلى هذا النظام. ولذلك أتفق، تماماً، معك، عندما وصفت هذا التوظيف الإسلامي لليبرالية بأنّه كان من أجل التمكين.
وبذلك، نرى كيف أنّ المبادئ والآليات السياسية الليبرالية هي من الحياد التام واللاتمايز المطلق حيث تسمح باستغلالها فاشياً من قبل الإسلام السياسي، المفترض فيه أنّه مختلف إيديولوجياً مع الليبرالية. لكن لما كانت المبادئ والآليات السياسية الليبرالية بهذا الضعف أمام توظيف الإسلام السياسي لها، فهذا يعني ضرورة البحث عن بديل لها. إنّ هذه الليبرالية لا تشكّل أيّ حماية للدولة من أن تقع فريسة لجماعات الإسلام السياسي؛ بل ثبت أنّها كانت وسيلة هذه الجماعات للوصول إلى السلطة في كثير من البلدان العربية. والبديل لا يمكن إلا أن يكون مبدأ المواطنة، ومبدأ السيادة الشعبية الكاملة، ومبدأ سيادة الدولة، ضد محاولات إضعافها، أو تفكيكها إسلامياً، ومبدأ حياد الدولة تجاه الأديان، وتجاه أيّ إيديولوجيا، إسلامية أو غيرها.
[للنقاش: أليس من حق الإسلام السياسي الوصول إلى الحكم؟]
يوسف هريمة: نظرية الإسلام السياسي تقوم على أساس أنّ الحاكمية لله وحده في عملية التشريع. هل يستقيم، من خلال اطلاعكم الكبير على فلسفة الدولة وكيفيات تشكلها، أن يكون هذا قابلاً للتطبيق؟ ما هي خطورة أن يكون التشريع لله كما نظّر إليه المودودي، ومن بعده سيد قطب، وصولاً إلى التيارات الراديكالية في الإسلام السياسي؟
أشرف منصور: إنني أنظر إلى فكر الحاكمية على أنه خطابي وشعري يعبّر عن الحالة النفسية لصاحبه أكثر من تعبيره عن مبادئ تشريعية وقانونية معيّنة، أو عن نظرية سياسية وقانونية متماسكة ومنضبطة؛ ذلك أنّ أصحاب فكر الحاكمية يعبّرون عن الحالة القصوى من الانغلاق الفكري، والتعصب الديني، ونفي الآخر، والتشرنق حول الذات، وكذلك عن عدم فهم للنص القرآني، وسوء نية في تأويله؛ ذلك أنّ أصحاب فكر الحاكمية يستندون على تفسير خاطئ للآية الكريمة {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]. فالواضح أنّ سياق الآية هو مناقشة يوسف للمسجونين معه، يحاورهم في مسألة الشرك بالله، وعبادة الأصنام، ويقول لهم إنّها ليست آلهة حقيقية؛ بل هي مجرد أسماء سميتموها، وأنّ الإله الحق واحد وهو الله، وهو الأحق بالعبادة. فالحكم هنا تعني أنّ الله وحده الإله، وهو وحده الحاكم على الكون، وصاحب السلطة العليا في هذا الكون، وليس لأحد سلطة كونية بجانبه؛ أي أنّ الحكم في هذه الآية هو بالمعنى الديني الخاص جداً لا بالمعنى السياسي أو الدنيوي؛ إذ تريد الآية القول إن الله هو الإله الأوحد في هذا الكون، ولا شيء غير ذلك.
وفي السورة نفسها تتكرر هذه الصيغة: {وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. والحكم، هنا، بمعنى قضاء الله وقدره. فبعد أن حذر يعقوب أبناءه من أن يدخلوا من باب واحد، ونصحهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، خشية من أن يُعرفوا فيصيبهم مكروه، قال «إن الحكم إلا لله»؛ أي أنه لا يغني حذر من قدر، وأنّه لا يضمن لهم ألا يحدث لهم مكروه؛ لأنّ كلّ شيء بيد الله وبأمره، على الرغم من كلّ الاحتياطات. والواضح في هذه الآية أنّ العبارة المذكورة ليس لها أيّ علاقة بالحكم السياسي أو التشريعي. أمّا تيارات الإسلام السياسي، فقد نزعت الآيات من سياقها، وحرّفتها عن مقصودها، وأخذت عبارة واحدة منها لتنزلها على المجال السياسي، والتشريعي، والقانوني، ليس إلا لخدمة أغراض هذه التيارات في الوصول إلى السلطة. والحقيقة أن تيارات الإسلام السياسي تتصف بسيطرة شهوة السلطة عليها إلى درجة عالية جداً. فالحكم والوصول إلى الحكم هو الهاجس المسيطر على هذه التيارات.
وأبلغ ردٍّ على هذا الفكر توضيح أنّ القرآن ليس نصاً سياسياً، ولا نصاً تشريعياً؛ بل هو نصّ ديني، والأحكام فيه جزئية وخاصة، وهو لا يحتوي إلا مبادئ كلية عامة في صورة نصائح أخلاقية. أمّا مبادئ التشريع ذاتها، فليست موجودة في القرآن؛ بل هي من استنباط الفقهاء وعلماء أصول الفقه، وأنّ هذه المبادئ التشريعية تتصف بالعمومية، والتجريد، والشمول، حيث تجعلها هذه الصفات مشتركة مع كلّ الشرائع الإنسانية، وتجعل التشريع الإسلامي مجرّد نوع من تشريعات إنسانية كثيرة، وأنّه هو نفسه إنسانيّ وبشري.
يوسف هريمة: من ينظر إلى تيارات الإسلام السياسي، في رفعها شعار تطبيق الشريعة، يرى أنّها تختزلها في ما يسمّى القانون الجنائي الإسلامي (قطع يد السارق/الرجم/الحرابة...). ما المحددات التي اعتمدها هؤلاء في تشكيل هذا الواقع الفكري؟ أَنحن إزاء خطر وجودي سببه قصور في فهم الدين ومظاهر التدين أم الأمر لا يعدو أن يكون التباساً سرعان ما ستزول تداعياته؟
أشرف منصور: الحقيقة أنّ تجربة العالم الإسلامي مع مؤسسة الدولة تجربة حديثة جداً؛ فقد عانى العالم الإسلامي من فترة استعمار طويلة، سبقتها فترة أطول من عصر ما قبل الحداثة لم تكن فيها الدولة الحديثة قد ظهرت بعد. فالعالم الإسلامي لم يعرف مؤسسة الدولة إلا في القرن العشرين، حتى بعد أن عرفها، إنّ عدم تجذر هذه المؤسسة في البيئة الإسلامية جعلها تبدو مستوردة من الخارج وغريبة عن المجتمعات الإسلامية. ولذلك نظر الكثير من تيارات الإسلام السياسي للدولة على أنها كيان غريب، لم يعرف وظائفه، ولا استطاع التعامل معه. ولذلك تعبر الدعوة إلى تطبيق الشريعة، مع اختزالها إلى قانون عقوبات، عن حالة من عدم النضج السياسي نتيجة غياب تراث سياسي في العالم الإسلامي، ولغربة هذا العالم عن المؤسسات السياسية الحديثة. فلا يجد الإسلام السياسي أمامه سوى أن يتمسك بما يعتقد بأنّه هوية دينية وسياسية له، يوفرها له شعار تطبيق الشريعة. وهو شعار، كما تعلم، هدفه استمالة العامة، والتلاعب بمشاعرها الدينية، بهدف استخدامها مطيّة للوصول إلى الحكم. وأبرز مثال على ذلك حركة الإخوان المسلمين في مصر. فقد استخدمت شعارات «تطبيق الشريعة والإسلام هو الحل» منذ السبعينيات، لتظهر أمام الناس بمظهر التدين، والإخلاص، والبحث عن الإصلاح، في مقابل الدولة التي اتهموها بالعلمانية والكفر. وكلّما اقترب الإخوان من السلطة، بعد (2002م)، ثم بعد (2005م)، فقد خفّفوا من هذه الشعارات، التي كانوا هم أنفسهم يعلمون أنّها كاذبة، وتوراى موضوع تطبيق الشريعة بالتدريج، في الوقت نفسه الذي التقطه التيار السلفي. أمّا بعد أحداث (25 كانون الثاني/يناير 2011م)، فقد توارى هذا الشعار تماماً. فالإخوان، وكلّ تيارات الإسلام السياسي، تستخدم موضوع تطبيق الشريعة كآلية للسيطرة على العقول، ولاختراق صفوف الشعوب العربية المتديّنة بطبيعتها، لأغراض سياسية نفعية بحتة. وهي تعلي وتخفت من صوت تطبيق الشريعة هذا حسب متطلبات كلّ مرحلة في انتهازية واضحة. وبالمناسبة، إنّ الشريعة الإسلامية مطبقة بالفعل في كثير من الدول العربية، ولاسيما مصر.
لكن الوضع الحالي في مصر يثير الدهشة، فعلى الرغم من أنّ جماعة الإخوان كانت تنادي بتطبيق الشريعة، الذي حدث أنّ قياداتها المتّهمة بالخيانة العظمى، وبالتخابر والعمالة والجاسوسية لصالح دول وجهات أجنبية، وبالتحريض على القتل والتخطيط له، تواجه بعقوبات الإعدام، التي بدأت تصدر الآن. ولأنّ الشريعة الإسلامية تطبّق عقوبة الإعدام، فإنّ إنقاذ قيادات الجماعة بإلغاء هذه العقوبة لا يصلح أن يكون من الجماعة نفسها، ولا من أيّ تيار سياسي إسلامي آخر. فكيف تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام، وأنت تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، التي تقرّ بهذه العقوبة؟ إنّ الذي يحدث، حالياً، أنّ تيارات ليبرالية وجمعيات حقوقية هي التي تطالب بهذا الإلغاء الآن، نيابة عن الإخوان، وسعياً لإنقاذهم من حبل المشنقة.
يوسف هريمة: سبق أن كتبتم حول الشاطبي، وتعلمون أنّه من المنظرين لفكرة المقاصد، إلى جانب غيره، كالعزّ بن عبد السلام، والطاهر بن عاشور. من وجهة نظركم، أَهذِهِ المقاصد مكتملةً تشكل فلسفة الحق في الفكر السياسي الإسلامي، أم أنّ ترتيب المصلحة (ضروريات/حاجيات/تحسينيات) بهذا الشكل، أفرز لنا الإرهاب والعنف في شكله الحالي، ولاسيما حينما قدم الدين على الإنسان؟
أشرف منصور: كلّ الفقه الإسلامي، وكلّ نظريات علم أصول الفقه، ظهرت في عصر ما قبل الدولة، عصر ما قبل الحداثة. والدول القائمة، آنذاك، في العصر الإسلامي، لم تكن مهتمّة إلا بالغزو، والفتوحات، وجمع الضرائب بمختلف أشكالها. وكان المجتمع متروكاً ومهملاً، وكان مجتمعاً غير مسيّس، وغير منظم سياسياً، ومنزوعة منه كلّ الصفات السياسية. في هذا الفراغ السياسي الهائل، ظهر الفقه وأصول الفقه بديلاً لغياب الوظائف الاجتماعية للدولة، ولحالة نزع السياسة عن المجتمع. فكان الفقه الإسلامي وأصوله محاولة لتنظيم مجتمع مهمل ومتروك من دولة كانت كلّ جهودها موجّهه للحروب الخارجية، أو الصراعات السياسية الداخلية مع منافسيها. الفقه الإسلامي، إذاً، كان يصلح في مرحلة غياب الدولة، وفي المرحلة السابقة على ظهور الدولة الحديثة. ولهذا إنّ المنتج الضخم للفقه الإسلامي في حاجة إلى مراجعة شاملة تقيسه على مقياس متطلبات المجتمع الحديث والدولة الحديثة. ولا أقول إنّنا في حاجة إلى إعادة بناء فقه جديد، أو علم أصول جديد؛ بل في حاجة إلى فلسفة سياسية جديدة تتعامل مع المنتج الفقهي القديم على أنّه تراث جدير بالاحترام والتقدير، وبالدراسة المتعمقة، لا بالتطبيق الحرفي.
يوسف هريمة: ما الإشكاليات النظرية لمقولة تطبيق الشريعة؟ وكيف يمكن أن يمرّ المقدّس من قناة بشرية نسبيّة دون أن يصطبغ بها. فكما تعلمون، لا أحد يستطيع أن يؤوّل، أو يفهم نفسية الكاتب وقصديته، بَلْهَ أن يزعم معرفة القصد الإلهي. وهنا صعوبة ما طرحه شلايرماخر أثناء حديثه عن منهج الفهم أو التأويل.
أشرف منصور: القرآن لا يحتوي إلا على أحكام جزئية خاصة بالزواج، والطلاق، والمواريث، والعقوبات، والأوامر والنواهي الدينية، والشعائر، بالإضافة إلى مجموعة من النصائح الأخلاقية، والحِكَم، والمواعظ، والقيم، والفضائل. ولذلك لا يحتوي القرآن على مبادئ تشريعية، ولا على قواعد لاستنباط أحكام، دينية أو غيرها؛ لأنّ المبادئ والقواعد من باب النظريات، والقرآن لا يحتوي على النظريات؛ بل على العمليات فحسب، نظراً لأنّ المخاطب الأول بالنص القرآني هم جمهور الناس الذي لا يهمّه كثيراً المبدأ، والقاعدة، وآليات الاستنباط؛ بل يهمّه معرفة الحكم النهائي في صورة أمر أو نهي. ومن ثَمَّ إنّ ما يسمّى الشريعة الإسلامية لا يوجد في القرآن؛ بل هو من عمل الفقهاء، والفقهاء بشر مثلنا؛ بل إنّ عصرنا يفوق عصرهم في الحضارة، والثقافة، والمدنية، والعلم. وهذا ما يفرض علينا أن نحكم على نتاجهم التشريعي بمعايير عصرنا نحن؛ لأن هذا النتاج التشريعي هو نتاج عصره هو.
يوسف هريمة: يزعم الكثيرون أنّ الدولة في الإسلام دولة مدنيّة بمن فيهم تيارات الإسلام السياسي، وهذا يظهر في البراغماتية، التي يبدونها في تحالفاتهم مع اليساريين والليبراليين. فإذا كانت الدولة في الإسلام دولة مدنية، فما سبب استنكارهم على غيرهم من دعاة مدنية الدولة؟ كيف تقوّمون التناقض والتخبط في مفهوم الدولة لدى هؤلاء؟
أشرف منصور: عندما يقول دعاة الإسلام السياسي إنّ الدولة في الإسلام دولة مدنية، فهم يقصدون بذلك أنّ هذه الدولة لا يحكمها رجال الدين، كما هو حادث، مثلاً، في دولة الفاتيكان، أو في النظام الإيراني، وهم يقولون، في هذا السياق نفسه، إنه لا كهنوت في الإسلام، بمعنى أنّ الإسلام لا يعرف المؤسسة الدينية المسيطرة على السياسة وعلى الدولة، والتي تتكوّن من ترتب وظيفي من رجال الدين، ومن الرتب الدينية المؤسسية. وعلى الرغم من أنّ هذا صحيح جزئياً فقط، إلا أنّ الإسلام السياسي صار هو الكهنوت الديني عن جدارة، فليس شرطاً في الكهنوت الديني أن يكون مؤسسة دينية ذات ترتب وظيفي، ورتب دينية، وذات تأثير سياسي وتشريعي وسلطة سياسية حصرية؛ بل يمكن أن يكون الكهنوت تراثاً دينياً متوارثاً مسيطراً على العقول. وللإسلام السياسي كهنوته الفعلي برجال الدين الخاصين به، وبسيطرته على عقول العامة، تلك السيطرة التي تماثل سيطرة الكهنوت المسيحي الكاثوليكي في العصور الوسطى على العقول، والضمائر، والشعوب، والدول. نحن لدينا كهنوت في الإسلام، لدينا رجال دين مسيطرون، لدينا سعي من تيارات الإسلام السياسي لاحتكار السياسية باسم الدين، ولإقصاء الآخر باسم الدين. والكهنوت الذي يكرّسه الإسلام السياسي أكثر خطورة من الكهنوت الكنسي في العصور الوسطى؛ ذلك أن الأخير كان، على الأقل، منظماً، ومؤسسياً، على الرغم من ظلاميّته وعنفه. أمّا كهنوت الإسلام السياسي، فهو غير مؤسسي، فوضوي، ومنفلت دائماً، وزئبقي، ويهرب من المواجهة، ومراوغ، ويغير مواقعه وموقفه باستمرار، وحربائي يتلون بلون البيئة الموجود فيها، ومسيطر على عقول الجماهير المتدينة. ولذلك، المواجهة معه صعبة وشاقة، وتحتاج إلى جهد طويل. هذه الحربائية هي التي تجعل الإسلام السياسي ينجح في الحصول على أنصار له من التيارات السياسية الأخرى التي ذكرتها، ويظهر هذا واضحاً في مصر، فالمدافعون عن الإخوان، حالياً، هم من الليبراليين واليساريين. ولا ننسى أنّ هؤلاء قد أسهموا في وصول الإخوان إلى السلطة في مصر تحت ادعاء أنّهم فصيل سياسي يعبّر عن قطاع من الشعب، ومن حقه أن يمثّل نفسه سياسياً. لقد تمّ توظيف هذه الخطابة الليبرالية لإيصال الفاشية الدينية إلى الحكم.
ولذلك كلّه، إن الدولة المدنية هي دولة المواطنة المحايدة تجاه الأديان، الدولة التي لا تنتصر لدين على آخر، والتي ليس لها أيّ دخل بأديان مواطنيها، هي الدولة التي لا يسيطر عليها فصيل من الإسلام السياسي، والتي لا تتبنى أيّ شعارات دينية. وعلى الرغم ممّا يبدو على هذا التعريف من بساطة، ومباشرة، ويسر، إلا أنّه غير واضح في أذهان الكثيرين، جماهير ونخباً على السواء. والمطلوب، الآن، هو نشر هذا المفهوم للدولة المدنية في المجتمع.
يوسف هريمة: الأستاذ أشرف حسن منصور...شكراً.
أشرف منصور: أشكرك -عزيزي الأستاذ يوسف هريمة- على هذا الحوار الممتع، المليء بالأسئلة الذكيّة المتعمقة، التي تنمّ عن الانشغال المهموم بقضايانا المصيرية، والتي حمّستني للتفكير فيها مجدداً.

[1] نشر في إطار مشروع بحثي تحت عنوان "مفهوم تطبيق الشريعة في فكر دعاة الإسلام السياسي مقاربة نقديّة"، تقديم أنس الطريقي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.


الأربعاء، 1 أغسطس 2018

جاك دريدا، ماذا يريد؟؛ مايك سوتون.



ماذا يريد جاك دريدا ...
ما الذي يقوله دريدا لنا؟
مايك سوتون
ترجمة: كريم طرابلسي

جاك دريدا (١٩٣٠-٢٠٠٤) هو فيلسوف سمع به الجميع، لكن القليل من غير المتخصصين يستطيعون فك شيفرة كتاباته. وتتراوح الآراء عنه من أولئك الذين يقولون إنه واحد من أعظم فلاسفة القرن العشرين إلى أولئك الذين يقولون إنه كان دجالا! في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، نشب نقاش حاد بشكل غير معتاد بينه وبين الفيلسوف الأميركي البارز في اللغة، جون سيرل. في عام ١٩٩٢ كاد أن يتم رفض منحه درجة فخرية في جامعة كامبريدج بسبب معارضة العديد من الفلاسفة البارزين. باختصار، يعد دريدا شخصية مثيرة للجدل...

إن السؤال الذي يطرح باستمرار حول: لماذا نصوص دريدا صعبة للغاية أمر مثير للاهتمام في حد ذاته. وأحد أسباب طرح السؤال يتمثل في عدم الإلمام بالكثير من مفاهيمه. ومن الأسباب أيضاً، ما يرتبط بالهاجس الدائم لديه من أن الحجج التي تدّعي استدلالا معرفيا تفترض دائما وجود معرفة أخرى وتعتمد على وجودها. وكما يقول هيلاري لوسون في كتابه الصادر عام ١٩٨٥ بعنوان "الرجوع إلى الذات: المعضلة ما بعد الحداثية"، فإن مسائل "اليقين" لدينا يتم التعبير عنها من خلال النصوص، واللغة، وأنظمة الإشارات، لكن هذه ليست محايدة على الإطلاق، فيبدو من حيث المبدأ إذن أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مجال يقيني". أراد دريدا إذن تجنب إصدار إشهارات تعتمد إما على المعاني اللغوية الثابتة وإما على افتراضات تم الوصول إليها في مكان آخر.

ما الذي يحاول دريدا قوله لنا؟
مشكلة اللوغوسنتريسم (مركزية اللوغوس/التعريف اللغوي)

نحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال التركيز على الجزء الأول من كتاب دريدا "عن الغراماتولوجيا" (دراسة أنظمة الكتابة) (١٩٦٧)، الذي نعتقد أنه يعطينا الشيفرة التي نستطيع من خلالها فهم بقيّة كتاباته.

يعتمد دريدا في هذا الكتاب على أفكار اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور (١٨٥٧-١٩١٣)، الذي يقول إن الكلمات تستمد معناها من الكلمات الأخرى، وإن المعاني تنتج من خلال الاختلاف لا التشابه. على سبيل المثال، نلاحظ أن المثلث يختلف عن المربع، لا يرتبط أي منهما في عقولنا بشكل قياسي مطلق، بل إننا بدلا من ذلك نعرّفهم من خلال اختلافهم عن بعضهم بعضا. وبالمثل، لا يمكننا تتبع معاني الكلمات إلى معيار ذهبي معيّن. إذا كنا نريد أن نعرف معنى كلمة ما فنحن نبحث عنها في القاموس، الذي يعرّفها من خلال كلمات أخرى. إذا أردنا أن نعرّف ما الذي تعنيه هذه الكلمات الأخرى، فعلينا أن نبحث عنها هي أيضا في القاموس، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، أو على الأقل حتى نتوصل إلى كلمات نعتقد أننا نفهمها سابقا.

ولكن لا يوجد أي ارتباط طبيعي بين الكلمة (سوسير يطلق عليها مصطلح "الدالة"، على سبيل المثال الكلمة المكتوبة أو المنطوقة "الكلب")، والفكرة أو المفهوم الذي تمثله الكلمة (المدلولة؛ أو المفهوم العام "كلب"). تتألف الدلالات من العلاقة بين الدالات والمدلولات. العلاقة بين الدالات والمدلولات هي ممارسة أو معيار تم بناؤه بمرور الوقت، وهو يستمر في التطور، وهو بالطبع يختلف بين مختلف اللغات. لفهم الروابط، أي لفهم معنى الكلمات، يجب أن نتعلم هذه الممارسة إذن.

إن الكتابة التي تحاول المحاججة بقضية ما، مثل الكتابة الفلسفية، غالبا ما تحاول اختزال المعاني إلى تعاريف محددة. ولكن هذه التعريفات تعتمد بدورها على الدالة وعلاقته مع المدلولة. إن الدافع من وراء ذلك هو الرغبة في الوصول إلى نقطة محورية لفهم المفهوم المعيّن. يصف دريدا هذا النوع من الرغبة بمركزية اللوغوس، وهو ما يعني محاولة الوصول إلى اللوغوس أو التعريف النهائي لمفهوم ما، والذي قد يطلق عليه البعض "المعرفة الحقيقية".

قد يبدو في بادئ الأمر أن مركزية اللوغوس هي مركزية المعاني الشفاهية. ففي الأصل، اعتمدت الفلسفة الغربية على الكلام بدلا من الكتابة. لم يقم سقراط بكتابة أي كتاب، بل كان الفلاسفة في حينه يجادلون الناس في الأسواق. في وقت لاحق، فضّل الفلاسفة، بمن فيهم أرسطو، الكلام على الكتابة. فالكلام بطريقة أو بأخرى أقرب إلى تفكير المتحدث من النصوص التي قد يكتبها. لكن دريدا يجادل ضد هذا التفضيل بإسهاب في كتابه "عن الغراماتولوجيا". لن أركز على هذه الحجة ولكنني أريد التركيز على اقتراحات دريدا حول تفسير النصوص.

تعتمد الفلسفة على اللغة، لكنها تفترض باستمرار مركزية اللوغوس ووجود المعاني الثابتة للمفاهيم -أي التعاريف المحددة- بشكل متاح لنا. ولكن لأن الدالّة (الكلمة) والمدلولة (المعنى المفاهيمي) لها استقلالية أكثر مما قد نريد أن نقرّ بها، لا يوجد دائما معنى واحد ثابت، لذا فإن النصوص لديها أكثر من تأويل واحد.

خذ مثلا كلمة "العدالة". الكلمة تدل على فكرة مجردة. علاوة على ذلك، يرتبط مفهوم العدالة لدينا بمؤسسات العدل الفعلية، مثل المحاكم والشرطة. ويريد صاحب الشكوى الحصول على العدل (بالمعنى المجرد)، ويتوقع من المحاكم تحقيق ذلك، فينظر إلى المفهوم المجرد وعمل المحكمة على أنهما الشيء ذاته. لكن هل هما الشيء ذاته فعليا؟ في الحقيقة، إن المعنى يتطور طوال الوقت، ومفهوم العدالة يتغير، فهو كان له معنى مختلف في أذهان معظم الناس قبل ظهور المحاكم. من ناحية أخرى، من المرجح أن يكون مفهوم واحد للعدالة -في هذه الأيام المفهوم المؤسسي- هو المفهوم المهيمن اليوم.

وتعني هذه المرونة في المعنى أيضا أن النصوص قابلة للتأويل بطرق متعددة. قدم بيتر بنسون مثالا جيدا على ذلك حين كتب: "إن المقاربة المسيحية في القرون الوسطى للكتاب المقدس أعلنت أن هناك أربع طرق لقراءة كل مقطع: حرفي، وعلماني، وتطبعي، وطوبولوجي. وقد تم تحدي هذه التقاليد التفسيرية من قبل الأصوليين، الذين يسعون إلى تحديد معنى ثابت معروف على الفور لكل كلمة... وبالتالي، فإن الأصولية هي أحد مظاهر ميتافيزيقيا الحضور. من وجهة نظر دريدا، ينطوي ذلك على سوء فهم لطبيعة اللغة".

الحضور لدى دريدا
في كتابه "عن الغراماتولوجيا"، يجترح دريدا عبارة مهمة وهي "ميتافيزيقيا الحضور". لكن ماذا تعني هذه العبارة؟

تؤدي مركزية اللوغوس على الفور إلى تفضيل اليقين الحالي الموجود. هذا شيء يقوم به الفلاسفة الغربيون بشكل تلقائي، وخاصة الميتافيزيقيون. في الواقع، نسعى جميعا إلى الوصول إلى اليقين، نريد أن نعرف ماهية الله إذا كان موجودا، وماهية الخير، وطبيعة كينونتنا، ولماذا نحن هنا... علاوة على ذلك، نحن نعتمد على اللغة للوصول إلى هذه الإجابات. يصرّ التقليد الفلسفي الغربي ككل على مطاردة الحقيقة الموضوعية، مطالبا باليقين فورا وفي الحاضر. ولتحقيق ذلك فإنه يعتمد بشكل كامل على العلاقة بين الدالة والمدلولة، وبين الكلمات ومعناها في النص، في حين أن الكلمات ليس لها معنى ذهبي ثابت ولكن يتم تعريفها من خلال كلمات أخرى.

شكّل هذا الاعتماد مشكلة منذ البدء بالنسبة لمعاني النصوص الميتافيزيقية الحمّالة للأوجه، وبالتالي التي ليس لها معانٍ ثابتة. كما أن أطروحة دريدا هي أن الميتافيزيقيا لا تسعى فقط إلى فرض تفسير في الوقت الحاضر، بل تسعى أيضا إلى الحصول على مدلولات مطلقة، أي مفاهيم تتخطى الماضي والمستقبل، والقريب والبعيد، والمتشابهة وغير المتشابهة. بالنسبة له، فإن هذه المفاهيم الميتافيزيقية هي غير متماسكة، وتعطي الأولوية للحاضر وللتشابه على حساب التغيّر والاختلاف. أي إنه قد نود، هنا والآن، أن نعرّف الله، والخير، وكينونتنا، والعديد من الأشياء الأخرى التي لا يمكن تعريفها بشكل يقيني ومبسّط، بأقل عدد ممكن من الكلمات. نوّد ذلك ولكن لا يمكننا ذلك.

لذا فإن الكلمات هي المشكلة في الميتافيزيقيا، لأنها تحتاج إلى إعادة تفسير مستمر. ربما يدرك الفلاسفة ذلك بالفعل. في مقالته "الفلسفة كنوع من الكتابة: مقالة عن دريدا"، يشير الفيلسوف البراغماتي الأميركي ريتشارد رورتي إلى أن العلماء يستخدمون كلمات قليلة لوصف الاستنتاجات في تجاربهم، في حين أن الفلاسفة الذين يسبرون أغوار الأسئلة المستحيل الإجابة عنها هم الذين يحتاجون إلى الكتابة وإعادة الكتابة، وإعادة تفسير المشاكل وإعادة زيارتها بشكل مستمر. وعلى وجه الخصوص، ينطبق ذلك على الميتافيزيقيين. يقول رورتي: "في التقليد الكانطي (نسبة لكانط)، بغض النظر عن كمية الكتابة التي تنخرط بها، لا يتعين على الفلسفة أن تكون مكتوبة بأكثر من الكتابة التي يتطلّبها العلم بالضرورة. أي إن الكتابة هي ضرورة مؤسفة في حين أن ما هو مطلوب حقا هو إظهار، وبرهنة، وإيضاح الأفكار، لجعل القارئ يقف ويتأمل العالم... [في حين] أنه في العلم المكتمل، يجب أن تكون الكلمات التي يكتب من خلالها المحقق نتائج دراسته مقتضبة وشفافة قدر الإمكان".

قد يميل المرء هنا إلى القول "ماذا في ذلك؟"، يعلم الجميع أن العلماء يكتبون التجارب وأن الفلاسفة يكتبون المقالات، وأن الكتابات يمكن أن تفسّر بطرق مختلفة. لكن فكرة دريدا تذهب أبعد من ذلك، إذ لا يقتصر نقد دريدا للميتافيزيقيا على العلاقة الهشة بين الدالة والمدلولة، بل يشتهر دريدا بأنه مخترع التفكيكية.

تفسير التفكيكية
تحتوي النصوص على معانٍ أكثر مما قد يستنبطه أي تفسير بديهي فوري للكلمات والمفاهيم. فبالإضافة إلى التفسيرات البديلة الشعبية لدى جمهور النقاد والمعلقين، هناك معانٍ خفية في النصوص التي قد لا يقصدها المؤلف بالضرورة. التفكيك هو محاولة لاستخراج هذه المعاني الخفية. كما يقول دريدا في كتابه "عن الغراماتولوجيا"، يهدف التفكيك إلى "إيجاد الصدع الذي يمكن من خلاله رؤية بصيص غير مسمى أبعد من الفتحة التي يمكن رؤيتها".

المهم أن نلاحظ أن التفكيك، على الأقل كما تصوره دريدا نفسه، ليس له منهاج أو طريقة عمل واضحة. بل هي طريقة لقراءة النصوص من خلال فتحها على مصراعيها للأسئلة مثل: هل هذا هو الجوهر أو المعنى الوحيد لهذا المفهوم؟

لفهم هذا بشكل أفضل، نحن بحاجة إلى بعض المفاهيم. يحدّد دريدا هذه المفاهيم في كتابه المذكور، فيقول إن الاستعارات والكنايات موجودة دائما في الكتابة، سواء كانت مقصودة أم لا. ويقول إن معنى الكلمات غالبا ما يكون مفهوما فقط من خلال تأثيرها المجازي.

وبما أن الكلمات لا تُعرَّف إلا بفعل اختلافها عن الكلمات الأخرى، يعني ذلك أنه توجد في النصوص تسلسلات هرمية ثنائية، وأزواج من الكلمات التي يتم تحديدها من خلال أضدادها مثل اليسار واليمين، الذكور والإناث، الحضور والغياب. فنأخذ مثلا مفهوم العدالة مجدّدا. عندما تستخدم الكلمة، فإنها تقترح وجود نوع من الظلم. ويقترن مسار تتبع الأثر إلى تعريف الكلمة، يقترن بضدها في التسلسل الهيكلي الثنائي. إذا كان المرء يقول أو يكتب "رجل"، فإن المرء يعني "ليس امرأة". لذا فالكلمة تحتوي على أثر لما لا تعنيه، والأثر موجود وليس موجودا في الوقت عينه، كدلالة على حضور شيء غائب. هناك عنصر فرويدي (أي لا إرادي) هنا أيضا. فجميع الدالات لها تاريخ متسلسل تتأثر به، فيما فهمها يجب أن يحدث في الوقت الحاضر.

للإيضاح، قررت أن أكون أكثر تحديدا في كلماتي من دريدا، الذي يرفض تعريف الأثر كمفهوم بحد ذاته. من الأسهل معرفة السبب وراء إصرار دريدا إذا ما اعتبرنا اللغة نظاماً مرناً ومتغيراً. الكلمات، التي تعرّفها اختلافاتها عن الكلمات الأخرى، وليس أي من المعايير الذهبية للمعنى، لا تحافظ على المعنى، بل يتغير المعنى مع مرور الوقت وفي السياقات المختلفة. هنا يمثل الأثر المذكور آنفا هذا التغيير لكنه بحد ذاته ليس مفهوما ثابتا فاقتضى التنويه.

يرى دريدا أن الثنائيات تمثّل مشكلة للميتافيزيقيا، لأن الميتافيزيقيين يميلون إلى أن يكونوا متحيزين لصالح الكلمة المهيمنة في التسلسل الهرمي الثنائي. هذا التحيّز غير مبرر ومضلل، ولكنه منتشر، وكما يكتب: "جميع الميتافيزيقيين، من أفلاطون إلى روسو، ومن ديكارت إلى هوسيرل، شرعوا بتصور الخير ليكون في مكانة قبل الشر، والإيجابية قبل السلبية، والطهارة قبل النجاسة، والبساطة قبل التعقيد، والضروري قبل العرضي، والأصلي قبل التقليد، وما إلى ذلك. وهذه الظاهرة ليست مجرد عادة ميتافيزيقية واحدة من بين عادات أخرى، بل هي ضرورة ميتافيزيقية، بشكل ثابت وعميق وقوي". ليس من المستغرب إذن أن الكتاب النسويين التقطوا على الفور فكرة التحيز المسيطر هذه في كتاباتهم.

إن تعريف الكلمات من خلال افتراقها عن الكلمات الأخرى يذهب إلى أبعد من ذلك. فالمعنى هو أيضا مرجأ، بحيث لا يكون هناك في الكلمة معنى دائم الحضور. يمكن إرجاء المعنى في الزمان أو في السياق، أو ببساطة لأن المعنى خاضع إلى معنى ذي صلة أو إلى معنى مضاد.

يجمع دريدا عملية الاختلاف والإرجاء في كلمة واحدة هي الاختجاء (تعريف المترجم لكلمة الديفرانس Differance وهي مزج بين difference وdeference).  تشير هذه الكلمة إلى أن الكلمات (الدلالات)، بالإضافة إلى كونها معرّفة عن طريق كلمات أخرى (دلالات) تختلف عنها، لها أيضا معنى مرجأ بحيث يتغير المعنى باستمرار. تستمر هذه العملية من الاختلاف والإرجاء باستمرار عند استخدام لغة أو محاولة فهم لنصوص. [لكن هل نحن في كل حين نقصد المعنى المرجأ والغائب الآن، أم إننا نقصد المعنى الحاضر المفتوح على التحوّل؟]

مثلا النصوص قد تكتسب معانيَ مختلفة لدى القارئ عند إعادة قراءتها. تتغير الكلمات مع تغير السياقات أيضا. من الممكن أن نرى هذه المرونة في التفسير في التشريعات الحكومية والأحكام القانونية، التي تتطلب تفسيراً متجدداً من الخبراء. وتصوري عن هذه المقالة سوف يختلف عن تصورك، وفي أي إعادة قراءة مستقبلية قد تختلف تصوراتنا أيضا، إما أكثر وإما أقل مما هي عليه الآن. لو كنا نقرأ من أداة مثل جهاز قياس الجلفانومتر أو آلة وزن، فإن مفاهيمنا لن تختلف كثيراً. ولكن في الحالات التي يصعب فيها وضع أصبعنا على ما هو المقصود -كما هو الحال في مقالات الفلسفة- قد تختلف تصوراتنا بشكل جذري، وقد يؤدي بعض النقاش بيننا (باستخدام المزيد من الكلمات) إلى المزيد من التنوير لكلّ منا.

يوضح هيلاري لوسون أبعاد مفاهيم ميتافيزيقيا الحضور والأثر والاختجاء بشكل جيد في مثاله عن وصف الشكل في جملة "الكرسي أسود". يكتب: "نحن غير قادرين على إثبات حقيقة هذا الوصف... من خلال الذهاب إلى النظر إلى الكرسي (في عقل الكاتب)، لأنه لا توجد تجربة حالية توفر البيانات التي يمكن أن نتحقق منها لتأكيد صحة الوصف..." بدلا من ذلك، "لا يوجد معنى واحد وراء الجملة "الكرسي أسود"، وليس هناك معنى واحد لتجاربنا في أي وقت. يتحقق معنى الجملة من خلال تفاعل المكونات في شبكة اللغة، والتجربة ليست شيئا مستقلا يقع خارج ذلك التفاعل". بالتالي، فإن الجملة خالية من وسائل التحقق المادي من صحتها، وسوف يقوم كلّ منها بتصور معنى مختلف للبيان فيها.

هذه هي أساسيات التفكيكية
(
لا توجد هناك) خلاصات

هناك، بالطبع، الكثير من الأفكار في كتاب دريدا مما لم أشر إليه هنا. بالإضافة إلى الجدال ضد إعطاء الأولوية للكلمات، حاول دريدا استكشاف ما إذا كانت الغراماتولوجيا، أي دراسة أنظمة الكتابة، ممكنة أم لا، لكنه لم يصل إلى نتيجة محددة. ويبدو أن الصعوبة التي واجهها تمثلت في أن العلم يسعى إلى الحلول الآنية وينجح في الكثير من الأوقات، على عكس الميتافيزيقا. ويقول إنه من المشكوك فيه أن مثل هذه الحلول متاحة أصلا للنصوص. كما أن لديه الكثير ليقوله عن الفلاسفة الآخرين (لا سيما نيتشه وهوسرل وهيدجر) واللغويين (خاصة سوسور وبيريس وجاكبسون). وهو ينتقد الحركتين الفلسفيتين المهيمنتين في عصره، فلسفة الظّواهر والفلسفة البنيوية، باعتبارهما ينغمسان في ميتافيزيقيا الحاضر. أما الجزء الثاني من الكتاب فيقوم بوضع التفكيكية موضع التنفيذ، خاصة بالنسبة لكتابات جان جاك روسو وكلود ليفي ستروس.

قضى دريدا معظم ما تبقى من حياته المهنية، ولا سيما في الفترة المبكرة منها، بتفكيك عمل الفلاسفة وغيرهم من الكتاب، لإظهار أن معانيهم غيرُ واضحة، وأن نصوصهم غالبا ما تقول أكثر مما يقصدون. هناك الكثير للقراءة، فلقد كان دريدا واحداً من أكثر الكتاب غزارة في الإنتاج.

كان القصد من هذه المقالة هو تقديم مقدمة موجزة لطريقة تفكير دريدا. لا شك أنه كان سوف يكره محاولتي لتقديم مثل هذا الملخص المغلق للمعنى ومراجعه. لكن، وأنا هنا أقتبس منه خارج السياق، لم أكن أريد سوى "إيجاد الصدع الذي يمكن من خلاله رؤية بصيص غير مسمى أبعد من الفتحة التي يمكن رؤيتها" في عمله.

رابط المقال الأصلي: