الجمعة، 10 سبتمبر 2021

الجدارة السياسية وِفقاً للنموذج السنغافوري؛ دانييل بيل. (فصل من كتاب عالم المعرفة "نموذج الصين")

 



 

بديل للديموقراطية الانتخابية:

الجدارة السياسية وفقاً للنموذج السنغافوري: 

كتاب "نموذج الصين، الجدارة السياسية وحدود الديموقراطية"

تأليف دانييل بيل

ترجمة عماد عوّاد

عالم المعرفة عدد 485 أغسطس 2021

على الرغم من وجود انتخابات ديموقراطية في سنغافورة، فإنها مقيَّدة بشدة: فأوراق الاقتراع تحمل أرقاماً (ومن ثَمّ قد يخشى الناخب من أن يُتعرَّف عليه بعد إدلائه بصوته)، وفيما يتعلّق بالإعلام فإنه أبعد ما يكون عن الحرية والانفتاح والتوازن، وهناك قيود صارمة على حرية التجمع، كما أنّ الناخبين يُهَدَّدون بالانتقام (على سبيل المثال من خلال تحديثاتٍ أبطأ للإسكان الحكومي في مقاطعات المعارضة)، وكان مرشَّحو المعاضرة عرضةً لانتقامات شديدة. وعلى الرغم من أنّ سنغافورة قد تحسّنت (من وجهة نظر ديموقراطية) على مدار العقد الماضي أو ما يقارب ذلك، فإن الانتخابات ما زالت بعيدة عن أن تكون حرّةً وعادلة، ومن ثَمّ فإنه ليست هناك مفاجأة في أن الحزب ذاته ـ حزب العمل الشعبي ـ يحكم البلاد منذ الاستقلال في العام 1965.

وإذا كان الغربيون يميلون إلى تقسيم العالم إلى ديموقراطيات "جيدة" ونظم سلطوية "سيّئة"، فإن قادة سنغافورة يرفضون هذه الثنائية. بدلاً من ذلك يذهبون إلى أنّ مفهوم الجدارة يصف النظام السياسي في بلادهم على نحوٍ أفضل: فنظراً إلى عدد سكانها الصغير ومواردها الرئيسة المحدودة، يحتاج الشعب إلى أن يقوده أشخاصٌ هم الأفضل من حيث الموهبةُ والخصائص، على أن يُختاروا وفقاً للجدارة. وفي هذا الخصوص أوضح الأب المؤسس للبلاد لي كوان يو:

يقوم مجتمع سنغافورة على الجهد والجدارة، وليس الثروة والمزايا التي تأتي من خلال الميراث. [تقدم النخبة] الاتجاه، والتخطيط، والسيطرة على سلطة الدولة لمصلحة الشعب... ونحن ننفق على هذه النخبة مواردَنا المحدودة لكي توفر لنا الخميرة، ذلك التخمّر، ذلك العامل المحفِّز في مجتمعنا والذي وحدَه سوف يضمن أن تحافظ سنغافورة... على التنظيم الاجتماعي الذي يمكننا، من دون مواردَ طبيعية، من تحقيق ثاني أعلى مستوى معيشة في آسيا... وتقع مسؤولية التخطيط في الوقت الحاضر على أكتاف 300 شخصية رئيسة... يأتي الناس من عائلات فقيرة ومن الطبقة المتوسطة، ومن مدارس لغات مختلفة. سنغافورة تقوم على نظام الجدارة، وهؤلاء الرجال وصلوا إلى وضعهم الحالي نتيجةً لجدارتهم وعملهم الشاق وأدائهم الرفيع. تتمثل الفكرة الأساسية في نظام الجدارة في أن كل شخص يجب أن يحظى بفرصةٍ متساويةٍ في التعليم ليشارك في السياسة، ولكن ليس كل شخصٍ سينهي هذه العملية بالقدر نفسه من السعة التي تمكّنه من إصدار أحكام سياسية مستنيرة وأخلاقية. ومن ثَمّ فإن مهمة السياسة أن تحدد الأشخاص ذوي القدرات فوق المتوسطة وتوظيفهم في خدمة الجماعة السياسية. وإذا ما أدى السياسيون مهماتهم بنجاح فإن الشعب سيسير معهم.

يُذكر أن هذا المقترب يعكس بقوّةٍ المُثل الكونفوشية للجالية الصينية في سنغافورة. وكما يوضح رئيس الوزراء السنغافوبي لي هسين لونغ: "العديد من المثل الكونفوشية لا تزال وثيقة الصلة بنا. ومثال ذلك مفهوم الحكم من قبل رجال شرفاء الذين عليهم واجب العمل لخير الشعب، والذين يحظَون بثقة واحترام الشعب. وهذا الأمر يناسبنا أكثر من المفهوم الغربي القاضي بضرورة منح الحكومة سلطات محدودةٍ قدر الإمكان، وما عملتها دائماً بالشك ما لم يثبت غير ذلك".

طوّرت سنغافورة على مدار العقود القليلة الماضية أسلوباً صارماً ومعقّداً لتوظيف وترقية القادة السياسيين. يبدأ البحث عن الموهوبين في النظام المدرسي، حيث يُنتقى الطلبة الواعدون ويُدرَّبون على الاضطلاع في المستقبل بأدوار القيادة في الحكومة، كما تُجرى امتحانات وطنية كبيرة في مراحل رئيسة من حياة الطالب الدراسية، ويعقب ذلك اختبار أفضل الطلبة أداءً لتحديد قدراتهم العقلية ومدى استقامتهم والتزامهم وتوافر مهارات القيادة والذكاء العاطفي لديهم. تخصَّص منحٌ حكومية لأولئك الحاصلين على المراتب العليا للدراسة في جامعات مرموقةٍ بالخارج (مع توقيعهم على عَقد يلزمهم بالعودة إلى البلاد). وفي أعقاب التخرّج تُختار قلّةٌ من الدارسين للالتحاق بالخدمة الإدارية المتميّزة. كذلك فإن عملية اختيار الوزراء هي أيضاً منهجية بل وأكثر صرامة، وعندما يُحدَّد الأشخاصُ الذين يصلحون للمنصب فإنه يتوقع مهم أن يبقوا فيه ما بين ثلاث إلى خمس فترات (وفقاً لما يذكره لي كوان يو)، حيث إن الوزير يحتاج على الأقل إلى ما يقرب من فترتين في منصبه ليصبح جيداً في عمله. ونتيجةً لذلك، فإنه لدى سنغافورة نسبةً عاليةً من القادة السياسيين المدرّبين ولديهم خبرةٌ في الاقتصاد والعلوم، ويمكن توظيفهم في التخطيط الاجتماعي والاقتصادي بعيد المدى. (55)

إنّ ما يجعل نموذج سنغافورة القائم على الجدارة جذاباً هو ما حققه من نجاح اقتصاديٍّ مذهل: فلقد قاد حزب العمل الشعبي البلاد ونقلها "من العالم الثالث إلى العالم الأول"، كما يوضح لي كوان يو، ومن ثَمّ حصل الحزب على الأغلبية العظمى من الأصوات منذ بداية الستينيات، وحتى النقاد الاجتماعيون يقرّون بأن أغلب المواطنين راضون نسبياً ويؤيدون النظام لأسباب جيدة. وهنا يُثار التساؤل: لماذا لا تصبح سنغافورة ديموقراطية انتخابيةً "حقيقية"، بنظام انتخابات حرّة ونزيهة؟ يتمثل السبب الرئيس وراء ذلك في التناقض بين نظم الجدارة السياسية والديموقراطية. فنموذج سنغافورة للجدارة ينطلق من افتراض أن القادة السياسيين لديهم حسٌّ أفضل بمصالح الجماعة على المدى الطويل بالمقارنة بالمواطنين. على سبيل المثال، سعى حزب العمل الشعبي إلى محاربة جميع أشكال ضيق الأفق الإثني من خلال تشجيع نموّ هويّة سنغافورية جديدة يمكنها دعم الأمن والرفاهية. فلقد فككت الحكومة الجيوب الإثنية عن طريق نقل الأشخاص إلى كتل سكنيةٍ مختلطةِ الإثنيات ومملوكةٍ للحكومة، كما أنها همّشت الجمعيات الإثنية الصينية. وفضلاً عن ذلك، شجعت الحكومة استخدام اللغة الإنكليزية بما ينطوي عليه ذلك من تجاهلِ رغبات جميع الفئات، بما في ذلك الأغلبية الصينية. ولقد كان "لي" واضحاً في أنّ عملية بناء الأمة في سنغافورة كانت لا تتماشى مع حكم الأغلبية:

لنفترض أننا خاترنا اللغة الصينية أو ساندنا ذلك، كيف كان يمكننا أن نكسب عيشَنا ونجد مكاناً لنا في الإقليم والعالم؟ لم نكن لنستطيع أن نكسب عيشَنا، ولكن الصينيين كانوا سيريدون ذلك في تلك الحالة. وإذا ما أحصينا الأصوات آنذاك لكان علينا أن نتبع تلك السياسة. وهكذا عندما يقولون: "فلتسألوا الشعب!" فإن هذا عبثٌ طفولي. فنحن القادة، ونحن نعرف التبعات.. ويقولن إن الناس يعرفون التفكير لأنفسهم؟ هل نعتقد بأمانة أن الصبي الذي لا يمكنه النجاح في الصف السادس الابتدائي يعرف تبعة اختياره عندما يجيب عن الأسئلة بشكل عميق في اللغة والثقافة والدين؟ لكننا نعرف العواقب، كنا سنتضوّر جوعاً، ولكانت البلاد عندنا أعمال شغبٍ عنصرية. كنا سنتفكّك. (56)

اليوم، اللغة الإنكليزية هي اللغة المشتركة في سنغافورة، وأعمال الشغب العنصرية أضحت من الماضي منذ بداية العصر الديموقراطي في الستينيات.

وفضلاً عن ذلك فإن الحاجة إلى استمرار قادةٍ مدرَّبين عدة دورات ديموقراطية يعني أن الجدارة لا تتفق مع الحكم القائم على تعدد الأحزاب بما يتضمّنه من إمكانية أن يقود إلى التناوب في السلطة السياسية. وأخذاً في الاعتبار أن عدد الأشخاص ذوي الموهبة في سنغافورة صغير (فهي دولة ـ مدينة بالغة الصغر، عدد سكانها خمسة ملايين مواطن)، فإن أصحاب المواهب العالية في البلاد لن يقبلوا بالخضوع لعقود من التدريب إذا ما شعروا بأن النجاح لن يكافَأ بالسلطة السياسية، كما أنهم سيتوقفون عن الانخراط في نظام متعدد الأحزاب لا يضمن النجاح. وحتى إذا ما اختير القادة ذوو المواهب فإنهم سيفتقرون إلى الحافز لتنفيذ عملية تخطيط بعيدة المدى إذا ما كان عليهم أن يقلقوا من خسارة السلطة كل أربعة أو خمسة أعوام.

على الرغم مما تقدم، قد يكون مزيد من الديموقراطية ضرورياً لجعل الحكومة أكثر استجابةً وحساسية لاحتياجات المواطنين العاديين. لقد خدم نظام الجدارة باعتباره مصدراً أيديولوجياً ذا قوةٍ فائقة لإبقاء هيمنة حزب العمل الشعبي، خاة خلال عقود البقاء الوطني على قيد الحياة والتنمية السريعة. غير أنه في الأعوام الأخيرة بدأت تلك الهيمنة الأيديولوجية للدولة في التصدع. ظهرت تجمعات اجتماعية جديدة تطرح آفاقاً بديلة من خلال الإعلام الجديد تستمع إليها شريحة واسعة من السنغافوريين. ونظراً إلى أن المشلات التي تحيط التزام البلاد بالعولمة الاقتصادية تؤثر في الجوانب اليومية لتجربة المواطن، فقد ضعف الإيمان الشعبي بالجدارة وحل محلَّه شعور قوي بأنها قد استُبدِلت بنخبوية منالنوع الذي يركز على الفوز وتعظيم مكاسب الفائز في الوقت الذي تتزايد فيه العوامل التي تقلل من الفرص أمام الأقل حظاً. وكما ذكر كينيث بول تان، لقد اصبحت الجدارة كلمةً كريهةً في سنغافورة.

مع فقدان الجدارة قوتها الأخلاقية، بدأت قيادات مناهضةٌ للهيمنة وتشكيلات أيديولوجية بديلة تكتسب طاقةً في مناخٍ جديد من الإعلام الموسَّع والمسيَّس. ولقد كانت الانتخابات البرلمانية العام 2011 نقطة تحوّلٍ في تاريخ البلاد السياسي: فاز حزب العمل الشعبي بنسبة 60% في المائة "فقط" من الأصوات، وخسر ستة مقاعد في البرلمان. وإزاء ذلك الوضع اتخذت مؤسسة الحزب خطواتٍ لمواكبة البيئة الإعلامية الجديدة، وأصبحت سنغافورة الآن أكثر انفتاحاً سياسياً.

وبشكلٍ عام فإن حزب العمل الشعبي بحاجةٍ إلى توسيع مفهومه الأكاديمي والعملي الضيّق للجدارة، بشكلٍ جزئي ليعترف بأهمية النجاح السياسي في انتخابات تنافسية من خلال استخدام القدرات التواصلية والذكاء العاطفي. ويتمثل السؤال في ما إذا كان الحزب يستطيع تنفيذ ذلك قبل أن تتمكن قوى المعارضة النشطة وغير المقيّدة نسبياً من تهديد حكمه. ماذا سيكون عليه الحال إذا ما فشل الحزب في الحصول على أغلبية (أو كثرة) من الأصوات في انتخابات مقبلة؟ هل سيتخلى الحزب عن (أو حتى يتشارك) السلطة؟ يمكن القول إنه عند هذه النقطة سيظهر التناقض بين الجدارة، وفقاً للنموذج السنغافوري، والديموقراطية. ربما يثبت أنه كان من الخطأ محاولة إقامة نظام جدارة قائم على حزب واحد واستناداً إلى أساس (أو شكل) نظام انتخابي ديموقراطي موروث من حكام بريطانيين مستعمرين.

في ما يتعلق بالصين فإنها لا تتظاهر بأنها تختار قادتها في القمة على أساس نظام "شخص واحد، صوت واحد"، وكانت تتطلع إلى النموذج السنغافوري باعتباره مصدراً للإلهام. فمنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي توجه مسؤولون صينيون إلى سنغافورة للتدريب والاستفادة من خبرتها. وإذا كان من المؤكد عدم إمكانية استنساخ القيم والمؤسسات السياسية في سنغافورة ونقلها كما هي إلى بلدٍ ضخمٍ مثل اصين، فإن بعض جوانب نظامها السياسي يمكن نقلها، فمنذ دينغ شياو بينغ إلى شي جين بينغ[i] أكّد قادة الصين بشكل متكرر الحاجة إلى دراسة جوانب النموذج السياسي في سنغافورة. ونتيجة تأثرها الجزئي بسنغافورة طوّرت الصين نظاماً تنافسياً معقداً لاختيار وترقية ذوي المواهب السياسية (انظر الفصل الثاني)، ومن ثم أصبحت لدى الحكومة الصينية نسبة كبيرة من الاقتصاديين والعلماء مستعدون لممارسة عملية التجربة والخطأ (وأغلبهم ما كان ليُنتَخب في سياقٍ ديموقراطي)، وأُنقِذ مئات الملايين من براثن الفقر على مدار العقود الثلاثة الماضية. إن النموذج المثالي للجدارة السياسية ـ فكرة أن موظفي الحكومة يُختارون ويُرقَّون على أساس القدرة والأخلاق وليس من خلال الصلات السياسية، والجاه، والخلفية العائلية ـ لا يزال بعيداً عن الواقع السياسي الحالي في الصين. غير أنه إذا ما استمرت الصين في "إضفاء طابع الجدارة" وتجنبت عملية صنع السياسات السيئة الناجمة عن جهل الناخبين في الدول الديموقراطية (خاصة في الولايات المتحدة، أقوى وأكبر الدول الديموقراطية التي تقارن بها عادةً) فإنها ستضع نموذجاً للآخرين. في الوقت الحالي ليست الصين جيدة بدرجة كافية، حتى تتمكن الجدارة في الصين من ممارسة قوتها الناعمة في الخارج. غير أن الأشياء يمكن أن تتغيّر والصين يمكنها أن تمثّل تحدّياً معيارياً للديموقراطيات الانتخابية في المستقبل. (59)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[i] (الرئيس السابع لجمهورية الصين الشعبية، ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، والأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، تولى الرئاسة منذا 14 مارس 2013. (المترجم))