الاثنين، 8 أغسطس 2016

مذنبة! / فرح الدهني.



مذنبة !

 *******************************************
كان الليلُ -على غير عادته-حالكَ السّواد ،متجهّماً، متذمّراً من خلافٍ نَشبَ بينه وبين القمر حول أحَقيّته في تسلُّم السلطة وسيادة السماء...ما أدّى إلى قطعِ صداقتهما العتيقة !
ولا غرابةَ في الأمر...فجنونُ العظمة يحرق حتى أسمى العلاقات الإنسانية!
...

بدا لي الوضعُ مناسباً لتنفيذ ما تعبتُ من تذكُّره لكي لا أنساه...وأقصد بكلامي هذا "الهروب بوطني بعيداً".
انتظرتُ لبضع ساعاتٍ قبل التنفيذ ...وعند منتصف الليل، اخترق الهدوءَ سيمفونيةٌ من "شخير" الناس ، محبوكةُ النغمات، موزونةٌ على نوتَتيّ "خ خ خ خ " ..."ش ش ش ش "،حينها أدركت أن الجميعَ نِيامٌ...
فكانت ساعة الصفر!

وقفتُ عند الحدود الفاصلة بين لبنان والبلد الشقيق، أمسكتُ بأطراف الوطن...تنفّستُ الصعداء..وبعزيمةِ المناضل،نفَضتُه نفضةً واحدةً قويةً جبّارةً ، تخلّصتُ فيها من عبءِ ساكِنيه وثقلهم...تاركةً إيّاهم مُعلَّقين بين الأرض والسماء متأرجحين....منهم مَن حمَلَته أفعالُه الحسنة على سواعدها...منهم مَن حملَه كرسيُّ السلطة الملتصق بها لثوانٍ معدودات ومن ثمّ تهاوت به إلى المجهول.... ومنهم مَن ظلّ معلّقاً بحبال خطاياه التي التفَّت حول عنقه وكبّلَت يديه ورجليه حتى أضحى على شكل مومياء حيّة...

وبحركةٍ خفيفةٍ وسريعة، وضعتُ الوطنَ في حقيبةٍ محبوكةٍ من خيطان العناكب ، حملتُها على ظهري على نحوٍ قريبٍ إلى قلبي ...ليطمئنَّ وطني إليَّ ويشعر بحبي وعشقي له.
...أيام مضت وأنا أبحث عن بقعةٍ آمنةٍ لكلينا ... ما تعبتُ لحظةً ولا مللت.

وفي يومٍ، ومن دون سابق إنذار، فاجأني شرطيٌّ مُسَمَّرٌ على قارعة الطريق...أوقفني طالباً مني تسليمَه محمولاتي لتفتيشها ...
حينها عرفتُ أنّ كارثةً كبيرةً ستلحق بي !
فتحَ الحقيبةَ. وحين انتزَعَ منها وطناً...تفاجأ ! جحظَت عيناه وبدأ العرقُ يتصبّبُ من جبينه وكأنه هو الفاعل!!
نظَرَ إليّ نظرةً حادّةً جارحةً ثمّ نهرَني بصوتٍ أقرب إلى زئير الأسد قائلاً :ما هذا ؟
-قلتُ: وطنٌ
قال:ما اسمه ؟
قلت: لبنان
قال: أهو وطنك ؟
قلت: نعم
قال: ولِمَ سرقتِه ؟...أتريدين بيعَه للأعداء ؟ ...هل أنت عميلة لهم ؟...خائنة ؟....جاسوسة ؟
قلت: ويحَك ! ...إلى أين ذهبتَ بأفكارِك ؟
أنا مواطنة لبنانية منذ ثلاثة عقود ... أحببتُ هذا الوطن بكل جوارحي وأخلصتُ له ...هو عائلتي وبيتي والحضن الدافئ... والابن والحفيد والثروة والتاريخ والماضي والحاضر والمستقبل...
كثُرَ مصّاصو الدّماء فيه... واستفحل بغيُهم في كلِّ بقاعه... قطَعوا أوصالَه... شوّهوا ملامحه... فرّقوا مواطنيه إلى أحزاب ومذاهب...
أنظر إلى وجهه... إبحث عن ابتسامةٍ واحدةٍ وسط هذي الشقوق المُفسِّخة لكيانه... لن تجدَ سوى حُرقة تبدأ من جنوبه وتنتهي في شماله مروراً بعرسال الأبيّة وما قبل وبعد عرسال!
نظر إليَّ من جديد نظرةً غامضةَ الملامح... لا تعرف من خلالها مدى اقتناعه باعترافي أو عدمه...مستأنفاً كلامَه قائلاً :
-وهل تعتقدينني ساذجاً حتى أصدّق ما قلتِ ؟!!....
أنت مذنبة وتهمتُك واضحة وضوحَ الشّمس..ستقضين ربيعَ عمرك وخريفه وشتاءه في صندوقٍ من فولاذٍ يليقُ بجرأتك...أنتِ مقبوضٌ عليكِ يا سيّدة ...لكن سأكون رحيماً معك في أمرٍ واحدٍ وهو سماحي لك باستدعاء محامٍ ليدافعَ عنكِ.
أجبتُه: هههه لا داعيَ لذلك..معظمهم مُعلَّقٌ بين السماء والأرض كالمومياء!

...وحُكم عليَّ بالسّجن المؤبّد في تهمةٍ أدمَتني وجريمةٍ لم أفعلها على نحو ما يدّعون!
أما الوطن فأعادوه إلى مكانه وسلّموه الى أولئك المعلَّقين بحبال الذنوب والملتصقين بالكراسي الفارهة...وقدَّموا لهم الورود والياسمين والماء البارد،مُتمَنّين لهم الشفاءَ العاجل من الخضّة!
4/8/2014
 
 

ليست هناك تعليقات: