الجمعة، 20 ديسمبر 2019

هايدغر وكارناب [التأويل والوضعية المنطقية]؛ سايمون كريتشلي، ترجمة أحمد شكل.




دراسة حالة في سوء الفهم: هايدجر وكارناب:
اختلاف النظرة إلى العالم بين الوجودية التأويلية والاتجاه العلمي

سايمون كريتشلي
ترجمة: أحمد شكل _ مراجعة: مصطفى محمد فؤاد

إن أفضل طريقة لتوضيح سوء الفهم بين التقليدين الفلسفيين المتعارضين هي في سياق نموذج «الثقافتين». ووفقًا لهذا النموذج، يمكن النظر للفلسفة التحليلية والفلسفة القارية بوصفهما تعبيرين عن عادات فكرية متعارضة بعضُها معادٍ لبعض؛ نفعية بنثام التجريبية ورومانسية كولريدج التأويلية، اللتين تشكِّلان الفهم الذاتي الفلسفي لثقافة معينة. ورأينا في حالة مِل وسنو كيف يمكن أن يُفهَم شيء مثل «الإنجليزية» في سياق هذا العداء، وفي الواقع، ربما يَثبُت أن هذا العداء مفيدٌ، شريطة أن يوافِق كلا جانبَي الصراع على الأقل على الحديث أحدهما مع الآخر.
أريد الآن استكشافَ طريقة التفكير تلك أكثر من خلال تناوُل دراسة حالة معينة في سوء الفهم بين التقليدَيْن الفلسفيَّيْن: حالة هايدجر وَكارناب. وهذا الخلاف على نحو أساسي هو خلاف بين التصوُّر العلمي للعالَم، الذي قدَّمه كارناب وحلقة فيينا، والتجربة الوجودية أو «التأويلية» للعالَم في فكر هايدجر. هذا الخلاف مهم للغاية للتطوُّرات اللاحقة في الفلسفة، لدرجة أن آراء كارناب حيال فكر هايدجر توفر خلفيةً لمحاولة آير المنطقية الوضعية للقضاء على الميتافيزيقا في السياق البريطاني، وكان لِكارناب تأثير كبير على التطور الأكاديمي للفلسفة التحليلية في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما من خلال تلميذه الأكثر شهرةً، دبليو في أوه كواين؛ على سبيل المثال: في مقدمة قصيرة عن فلسفة القرن العشرين، تفيد في جوانب أخرى، يتَّهِم آير هايدجر «بما يمكن إلى حدٍّ ما وصفه بأنه احتيال»، استنادًا إلى قراءة سريعة لمحاضرته التي ألقاها في عام ١٩٢٩. وفي تأبين كواين لِكارناب في عام ١٩٧٠، يصف الفلسفةَ في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بصفة «ما بعد كارناب»، بدلًا من «ما بعد فيتجنشتاين»، وهو الوصف الذي يشير على نحوٍ مثير للجدل للفترة المقابلة في بريطانيا. وعلى الجانب القاري، يُعَدُّ هايدجر بلا شكٍّ مصدرَ إلهام رئيسي لأعمال طلَّابه الألمان، مثل هانس-جورج جادامير وَحنا آرنت، وجيلين من المفكرين الفرنسيين مثل سارتر وَلاكان وَفوكو وَدريدا. وبما أن قدرًا كبيرًا من سوء الفهم الحديث بين فلاسفة التقليدَيْن التحليلي والقاري، يمكن إرجاعه إلى هذه المواجَهة المهمة بين هايدجر وَكارناب، فإنها تستحِقُّ التناوُلَ ببعض التفصيل.
(١) لا شيء ينتج من العدم
في ٢٤ يوليو عام ١٩٢٩ ألقى مارتن هايدجر أولى محاضراته كأستاذ في الفلسفة في جامعة فرايبورج في بريسجاو، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، وفي أوج نضجه الفكري. كان عائدًا إلى جامعته الأم بعد عدة سنوات حافلة بالإنجاز في جامعة ماربورج لتولِّي كرسي أستاذه إدموند هوسرل (الذي سينفصل عنه في نهاية المطاف). وكانت هذه لحظة انتصار شخصي واضحة بالنسبة إلى هايدجر. كانت المحاضرة بعنوان بسيط على نحو خادع، وهو: «ما هي الميتافيزيقا؟»، ولكنها لم تكن بسيطة على الإطلاق. توجد قصة — مشكوك في صحتها بلا ريب — مفادها أنه في نهاية ما يجب أن يكون تجربة فكرية شاقة بالنسبة إلى غير العالمين بفكر هايدجر، كان الصمت يعمُّ القاعة، ثم تخلَّله سؤال: «سيد هايدجر، ما هي الميتافيزيقا؟» فأجاب هايدجر: «هذا سؤال جيد
ولكن ما هي الميتافيزيقا؟ يعرِّف نيتشه الميتافيزيقا على نحو شهير بأنها تقسيم العالَم الواحد إلى قسمين؛ وهذا يعني تمزيق وحدة التجربة الميثولوجية قبل الفلسفية للعالَم، مع أفلاطون، إلى عالمَي الكينونة والظاهر، الواقع والمظهر، العالَم المدرَك والعالَم الذي يتخطَّى الإدراك. هذا ليس خطأً، ولكن هايدجر يريد صراحةً العودةَ إلى فهم أرسطي أكثر للميتافيزيقا. لم تُستخدَم كلمة «الميتافيزيقا» نفسها من قِبَل أرسطو، ولكنها مصطلح له جذورٌ في تصنيف أعماله في مكتبة الإسكندرية الذي أجراه أندرونيقوس الرودسي في القرن الثاني؛ ففي تصنيف أعمال أرسطو، عندما رُتِّبت أعماله على رفِّ المكتبة، كما كانت، كان يوجد الأعمال الشعرية، ودستور أثينا، والنصوص السياسية، والنصوص الأخلاقية، والنصوص المنطقية والبلاغية، وما إلى ذلك. ثم كان يوجد العديد من كتب الفيزياء أو الطبيعة، وبعد ذلك كانت توجد سلسلة من الكتب الموقَّعة من قِبَل أرسطو، والتي تناولتْ أمورًا يتعذَّر تصنيفها ضمن المخطط المحدد، وأُطلِق على هذه الكتب «ما وراء الطبيعة».
ولكن ما حل آخِرًا بالنسبة إلى أرسطو جاءه أولًا؛ بمعنى أن ما تناولته هذه الكتب كان المبادئ الأولى التي قامت عليها جميع مجالات البحث الأخرى. ولم يكن مصطلح أرسطو لهذا المجال الأساسي للفلسفة هو الميتافيزيقا، ولكن كان «الفلسفة الأولى». بالنسبة إلى أرسطو، يوجد علم أو عالَم خاص بالمعرفة (الإبسمتية) الذي يتعامل مع الكينونة في حد ذاتها؛ وهذا يعني أنه لا يهتم بكينونة عالَم معين من الأشياء، مثل الكائنات الحية (البيولوجيا) أو المجتمع البشري (السياسة)، ولكن بالكينونة في حدِّ ذاتها في عموميتها. والاهتمام الرئيسي لفكر هايدجر من البداية إلى النهاية هو مسألة الكينونة؛ وهي المسألة التي أثارَتْها الدراسات الميتافيزيقية. ويهتم هايدجر بالكينونة في حد ذاتها قبل مرجعيتها إلى أي عالم معين من الكائنات أو الأشياء. والحفاظ على هذا الفارق بين الكينونة في حد ذاتها وكينونات عوالم كائنات معينة هو ما يسمِّيه هايدجر «الفرق الأنطولوجي».
إذن، هل هايدجر ميتافيزيقي؟ نعم ولا؛ فبالتأكيد يبدو كذلك بالنسبة إلى كارناب وحلقة فيينا، وكانا محقَّيْن ومخطئَيْن على حد سواء في هذا الحكم. إن هايدجر مقتنع بأن المسائل الفلسفية — وأهمُّها بالنسبة إليه مسألةُ الكينونة — لا يمكن إخضاعها للبحث العلمي؛ لذلك لا يمكن تبرير الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي: يمكن النظر إلى هايدجر على أنه يسترجع المسألة الأساسية للفلسفة اليونانية القديمة؛ مسألة الكينونة. ومع ذلك، هايدجر «ليس» ميتافيزيقيًّا؛ لأنه يعتقد أن كل نظامٍ فلسفيٍّ، من أفلاطون وحتى الوقت الحاضر، خلال سعيه لتحديد معنى الكينونة في حد ذاتها، قد مرَّ براديكالية «مسألة» الكينونة والارتباط الجوهري بين هذه المسألة وموضوع الزمان؛ ومن ثَمَّ كان عنوان أهم أعماله هو «الكينونة والزمان». فبالنسبة إلى هايدجر، «التساؤل هو تَقْوى التفكير». يعجُّ تاريخ الميتافيزيقا السابق بمحاولات مختلفة لكشف النقاب عن مسألة الكينونة؛ فبالنسبة إلى أفلاطون، تناولها من خلال مفهوم «الشكل» [مثال]، أيْ إن معرفة شيء هي معرفة شكل الشيء؛ وبالنسبة إلى أرسطو، يعبر عنها بمفهوم «المادة»؛ وبالنسبة إلى توما الأكويني، يتناولها بالإشارة إلى «السبب الذي هو سبب ذاته» أي الإله؛ وبالنسبة إلى هيجل، الكينونة هي «الروح». وعند نيتشه، هي «إرادة القوة»، وما إلى ذلك. بالنسبة إلى هايدجر، تاريخ الميتافيزيقا هو «تاريخ الكينونة»؛ سلسلة من الإجابات على المسألة الأساسية للفلسفة التي تمتد من أفلاطون إلى قلب الأفلاطونية عند نيتشه؛ ومن ثَمَّ، فإن طرح مسألة الكينونة على نحو راديكالي يعني وضْعَ الميتافيزيقا موضعَ التساؤل وتجاهل مسألة «تجاوُزها». ومع ذلك، على الرغم من استخدام هايدجر وَكارناب عبارةَ «تجاوُز الميتافيزيقا»، فإنها تعني عند كلَيْهما معنًى مختلفًا على نحوٍ بارز.
يمكن التعبير عن التوجُّه الأساسي لحلقة فيينا في عبارة أوتو نيورات، وهو عضو بارز في الحلقة: «علم خالٍ من الميتافيزيقا»؛ فالفلسفة عامل مساعد للعلم، تهتمُّ فحسب بالتوضيح المنطقي لأطروحات ومنهج العلم التجريبي. وفي الواقع، يمكن للمرء أن يتمادى أكثر من ذلك ويدَّعِي أن حلقة فيينا لم تمارِس الفلسفة مطلقًا، فيما يتعلَّق بتقديم أطروحات فلسفية، ولكنها ببساطة تركِّز على التحليل المنطقي الذي يوضِّح أطروحات العلم التجريبي وتنتقد مزاعم الميتافيزيقا التقليدية. وكتب نيورات يقول: «لا يوجد شيء اسمه الفلسفة كعلم أساسي أو عام بإزاء المجالات المختلفة للعلم التجريبي أو أعلى منها.» والإشارة إلى «العلم التجريبي» تلمح للهدف الصريح بتحديد تصوُّر علمي للعالَم، وهو ما سمَّاه نيورات «العلم الموحد». وهذا يُذكِّرنا بتعريف نيتشه للميتافيزيقا؛ حيث يستعيد التصوُّرُ العلمي للعالَم وحدةَ التجربة الموجودة في وجهات النظر الميثولوجية للعالَم. ويفترض نيورات قائلًا:
يعتمد ممثِّلو التصوُّر العلمي للعالَم على فكرة التجربة الإنسانية البسيطة. وينخرطون بثقة في مهمةِ إزالةِ الأنقاض الميتافيزيقية واللاهوتية؛ أو كما يصيغ البعض ذلك، مهمةُ العودة — بعد فاصل ميتافيزيقي — إلى صورة موحدة لهذا العالَم كانت، بطريقةٍ ما، أساسًا للتفكير السحري الخالي من اللاهوت في العصور الأولى.
فيما يتعلَّق بهذا التصور العلمي للعالم، فإن الأطروحات الميتافيزيقية ليست كاذبة بقدرِ ما هي ببساطة لا معنى لها؛ فهي لا تمتلك أي محتوًى معرفي. وعلى هذا النحو، فإنها تعبير عن مشاعر مشروعة، ولكن يجب أن يكون لمثل هذه المشاعر الوسط المناسب لها، المتمثِّل في الفن أو الموسيقى أو الشعر، بدلًا من الفلسفة؛ ومن ثَمَّ ظهر حكم كارناب القاطع بأن «الميتافيزيقيين موسيقيون دون قدرات موسيقية».
والآن، في تعارُض صارخ مع هذا التصوُّر للفلسفة، سيقدِّم هايدجر دفاعًا عن الميتافيزيقا ضد العلم. إن سؤال هايدجر في المحاضرة بسيط وقوي: «ماذا يحدث لنا، فيما يتعلَّق بوجودنا، عندما يصبح العلم شغفنا؟» يتمثَّل جوابه في أنه عندما يصبح العلم شغفنا، فإنه يوجد تفتيت وتقسيم لمجالات المعرفة المختلفة؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى ضمور في الأساس الميتافيزيقي للنشاط العلمي. يقول هايدجر على نحوٍ قاطع ودون أدنى تحذلُق في نهاية المحاضرة:
فقط في حالة وجود العلم على أساسٍ ميتافيزيقيٍّ يمكن أن يقوم على نحو متجدد باستمرار بمهمته الأساسية، والتي هي ليست جمع وتصنيف أجزاء المعرفة، ولكن الكشف في نحوٍ متجدد باستمرار عن النطاق الكامل للحقيقة في الطبيعة والتاريخ.
يجب أن يكون للعلم أساس ميتافيزيقي، وهذا أمر واضح. ولكن ما هو بالضبط هذا الأساس؟ حسنًا، هو «العدم». ولكن لا شيء ينتج من العدم. إذن، ماذا يمكن أن يعني هذا؟ هذا يقودنا إلى لبِّ تأمُّلات هايدجر المثير للجدل؛ مسألة «العدم»، والتي سيسخر منها كارناب على نحو خبيث. اسمحْ لي أن أحاوِل استخلاصَ الفكرة الرئيسية من تعقيد الأسلوب النثري المزخرف بإفراط لِهايدجر. في الجزء الأول من المحاضرة، يبدأ هايدجر بزعمه — على نحو غير مثير للجدل بنحو كافٍ — أن العلوم المحددة تتعامَل مع عالَم الأشياء المحدد الخاص بها، ولا تهتم بأي شيء آخَر إلى جانب ذلك؛ ومن ثَمَّ فإن العلم يريد أن يعرف كل شيء عن الأشياء أو الكائنات ولا شيء آخَر إلى جانب ذلك. ثم يسأل هايدجر على نحو خبيث: «ماذا عن هذا اللاشيء أو العدم؟» ويتمثَّل زعمه في أن العلم لا يريد أن يعرف شيئًا عن هذا العدم، في حين أنه يمكن إثبات أن الميتافيزيقا تهتم على نحو رئيسي بهذا العدم، وهذا أمر مفهوم. يمكن للمرء أن يتخيَّل كارناب وهو يضحك من هذا الكلام ضحكةً مكبوتة، مثل طالب جالس في الصف الخلفي في قاعة المحاضرات، والنقطة الرئيسية لديه ضد هايدجر هي أن السؤال — «ماذا عن هذا العدم؟» — لا يمكن حتى صياغته بلغة متسقة منطقيًّا؛ لأنه يُحوِّل نفيًا إلى اسم مختلق. وتُعَدُّ حقيقة إمكانية صياغة مثل هذا السؤال دليلًا على أن الميتافيزيقا تُغذِّي بعض الالتباسات الكامنة في اللغة العادية التي يمكن — ويجب — القضاء عليها من خلال الإصلاح المنطقي. وكان هذا الإصلاح المنطقي للُّغة جزءًا من البرنامج المبكر لحلقة فيينا.
خطوة هايدجر القادمة هي إلقاء نظرة على كيفية فهم مسألة العدم تلك عن طريق المنطق التقليدي. القانون الأساسي للمنطق هو مبدأ عدم التناقض؛ أي إنه من التناقض أن نقول إن شيئًا ما يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في الوقت نفسه. ووفقًا لهذا المبدأ، يتصوَّر المنطق «العدم» على أنه نفي الكينونة في حد ذاتها أو كينونات عوالم كائنات معينة: «لا س» هو نفي «س». على هذا النحو، فإن المسألة الميتافيزيقية للعدم تصبح مسألة نفي. ودون ترك مساحة للنقاش، يشير هايدجر إلى أن «العدم أكثر أصالة من اﻟ «لا» و«النفي»». ربما سيعترض كارناب، ولكن ما يبدو أن هايدجر يعنيه هنا هو أن الفهم المنطقي «للعدم» باعتباره نفي يفكر في النفي نظريًّا بالعقل. ويتمثَّل هدف هايدجر في المحاضرة (الذي عُرِض بتفاصيل مذهلة في كتاب «الكينونة والزمان») في أنه توجد طرق لفهم الأشياء غير الطريقة العقلية. فيدَّعِي أنه قبل الكشف النظري للأشياء، يحدث كشف وجداني أو عاطفي فيما سمَّاه هايدجر «الحالات المزاجية»؛ وهي ترجمته لمفهوم «العاطفة» عند أرسطو. وهكذا، يكون الشخص دائمًا في نوع من الحالات المزاجية، سواء أكان مكتئبًا أم مبتهجًا أم ببساطة غير مبالٍ، وتتحدد طريقة رؤيته للأشياء من خلال هذه الحالة المزاجية. وبالنسبة إلى هايدجر، هذه الحالات المزاجية لا يمكن أن تُفهَم على أنها مجرد مشاعر، كنوع من التلوين النفسي في حياتنا العقلية الأحادية اللون على نحو عقلاني؛ فالحالات المزاجية تحدد طريقة اختبار البشر للحياة في العالَم.
يصبح السؤال إذن: هل توجد حالة مزاجية تكشف العدم؟ إجابة هايدجر هي نعم، ويدَّعِي أن هذه هي وظيفة «القلق». ولكن بالتأكيد دائمًا ما يشعر المرء بالقلق حيال هذا الأمر أو ذاك: الامتحانات، أو خوف مرضي من العناكب، أو الفئران، أو أيًّا ما كان. يصرُّ هايدجر على أنه لا يقصد ذلك؛ فمن الأفضل تسمية هذا القلق المعين باسم «الخوف»؛ فعندما يزول السبب — العناكب أو الفئران أو الامتحانات — يختفي الخوف. يتمثَّل قصد هايدجر من فكرة القلق هذه في أنه يظل ويستمر قبل كل المخاوف، مثل بعض الضوضاء الغريبة في خلفية وجود الفرد؛ فالقلق هنا ليس قلقًا حيال هذا الأمر أو ذاك، بل هو قلق حيال كينونة المرء بأكملها. ما يحدث في القلق — ويستخدم هايدجر هنا أسلوبًا وصفيًّا رائعًا — هو أن كل الأشياء المحددة تفلت من قبضة المرء ويُترَك المرء وحيدًا، شاعرًا بأنه غريب ودخيل. وفي تجربة الغربة الناتجة، وفي السكون وحتى الهدوء الذي تنتجه، يشعر المرء بعدمية كل شيء ويبدأ في طرح السؤال الميتافيزيقي، الذي كان لايبنيتس هو أول مَن طرحه: «لماذا توجد كينونات أساسًا، ولماذا لا يوجد بدلًا من ذلك عدم؟»
إذن، بالنسبة إلى هايدجر، العدم الذي ينكشف للمرء في تجربة القلق يؤدِّي به إلى طرح السؤال الميتافيزيقي المتعلِّق بمعنى الكينونة. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو غريبًا، فإن مسألة العدم تدفع هايدجر مباشَرةً إلى قلب الميتافيزيقا، وهذا البحث لا يمكن إخضاعه للتصوُّر العلمي للعالَم الذي تطرحه حلقة فيينا. الفلسفة هي أساسًا ميتافيزيقية، و«الفلسفة لا يمكن أن تُقاس بمعيار فكرة العلم». ويخلص هايدجر إلى أن «الوجود الإنساني يمكن أن يوائم نفسه مع الكينونات فقط إذا وضع نفسه في العدم. والتجاوز يحدث في جوهر الوجود، ولكن هذا التجاوز نفسه ميتافيزيقي.» يجب أن يستند العلم إلى الميتافيزيقا.
(٢) المطوية الصفراء
كان عام ١٩٢٩ عامًا حافلًا في مجال الفلسفة؛ ففي الفترة بين ١٥–١٧ سبتمبر من عام ١٩٢٩، وبعد أقل من شهرين على محاضرة هايدجر، كان هناك اجتماع لجمعية إرنست ماخ في براغ. كان قد تقرَّرَ تقديم هدية لِموريتس شليك (١٨٨٢–١٩٣٦)؛ الرمز الكبير لما سيُسمَّى بعد ذلك — بسبب هذه الهدية — حلقة فيينا. كان شليك يعمل بعيدًا في ستانفورد كأستاذ زائر، وكان قد رفض للتوِّ كرسيَّ الأستاذية في جامعة بون. كانت الهدية نصًّا قصيرًا — في واقع الأمر بيانًا — كان بعنوان «التصور العلمي للعالَم. حلقة فيينا». كان واضع النص الرئيسي غير معروف، ولكن كانت المقدمة موقَّعة من قِبَل ثلاثة من أعضاء الحلقة — هانس هان، وَأوتو نيورات، وَرودولف كارناب — على الرغم من أن راديكالية مضمونها والنبرة الجدلية لعباراتها كانت تعكس آراء نيورات، الأكثر توجُّهًا نحو السياسة من الوضعيين المنطقيين. وسيُعرَف هذا النص القصير منذ ذلك الحين للمنضمين الجدد للحلقة باسم «المطوية الصفراء».
أكثر ما يلفت النظر — وبالنظر إلى الاتجاه المحافِظ لجزء كبير من الفلسفة التحليلية التي ستدَّعِي بعد ذلك أنها مستوحاة من فكر حلقة فيينا — هو الطابع السياسي الراديكالي الحاد لنص المطوية. والتصور العلمي للعالَم يقف في صراع مع النزعات الميتافيزيقية واللاهوتية الرجعية في الفلسفة والسياسة؛ فبالنسبة إلى مؤلفي المطوية، حلقة فيينا «تواجه العصر الحديث» من خلال رفض الميتافيزيقا واعتناق العلم التجريبي. ويرتبط هذا التطوُّر جوهريًّا — على نحوٍ يذكِّرنا بماركس — بالإمكانية التحررية لعملية الإنتاج الحديثة. وتتفق حلقة فيينا مع العامة ما دامت «تميل مواقفُهم الاشتراكية إلى أن تؤدي إلى وجهة نظر تجريبية عملية». وتروي المطوية الصفراء قصة مقنعة على الرغم من قِصَرها، تُرجِع آراء حلقة فيينا إلى حالات التقدُّم المختلفة التي حدثت في العلوم، وتشارك في الهجمات الجدلية على الميول الميتافيزيقية المناهضة للنزعة العلمية. وتنص عبارتها الأخيرة على ما يلي: «التصور العلمي للعالَم يخدم الحياة، والحياة تتقبله.» توضِّح مثل هذه العبارات التنويرية الخطرَ الذي يمثِّله مفكِّر مثل هايدجر بالنسبة إلى حلقة فيينا. وكما أشار آير على نحو مختصر في خطاب حماسي أُرسِل من فيينا إلى أشعيا برلين في عام ١٩٣٣: «كل الفلاسفة المعاصرين في ألمانيا ضالُّون أو حمقى؛ فحتى مجرد التفكير في فلسفة هايدجر يجعلهم يشعرون بالغثيان.» بالنسبة إلى فلاسفة حلقة فيينا الوضعيين، تمثِّل أعمالُ هايدجر العودةَ إلى الميتافيزيقا الرجعية المناهِضة للنزعة العلمية، التي تتوافق سياسيًّا مع تطلُّعات الشعوب الجرمانية، وسيثبت العقد التالي صحةَ شكوك كارناب على نحوٍ مأساوي؛ حيث سيغادر جميع الأعضاء البارزين في الحلقة فيينا — الذين كان كثير منهم من اليهود — بعد فترة قصيرة من ضمِّ النمسا إلى ألمانيا النازية في عام ١٩٣٦. وكما أشار برتراند راسل: «يبدو أن التدريب المنطقي الشديد الذي أخضع هؤلاء الرجال أنفسهم له، جعلهم في مأمن من الإصابة بعدوى الدوجما العاطفية …» وفي مقابل التزام هايدجر العاطفي السياسي بالاشتراكية القومية في عام ١٩٣٣، التي أعقبها التصوف العميق الذي يرى أن دور الفلسفة علاجي، والذي أربك أتباعه أيضًا؛ اعتنق كارناب وجهات نظر يسارية طوال حياته، وكان بالفعل في ستينيات القرن العشرين ناشطًا في الحركة المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية. قد تبدو السياسة في صراع كارناب وَهايدجر محتفِّظةً بأكثر من صدًى لخلاف بنثام وَكولريدج الذي سبق تحليله.
(٣) المنطق والتجريبية والشعر الجيد والسيئ
بوضع هذا في الاعتبار، دَعْنا نلقِ نظرة أكثر تمعُّنًا على مقال كارناب في عام ١٩٣٢، الذي كان عنوانه «تجاوُز الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي لِلُّغة»؛ حيث اختار محاضرة هايدجر في عام ١٩٢٩ كمثال أساسي على الهراء الميتافيزيقي. لم تكن حجة كارناب ضد الميتافيزيقا أن أفكارها ليست صحيحة، بل إنها ببساطة لا معنى لها؛ فبالنسبة إلى الوضعيين المنطقيين مثل كارناب، المعنى متأصِّل في مبدأ التحقُّق؛ أيْ إن الكلمة أو الجملة تكون ذات معنًى فقط إذا كان يمكن التحقُّق منها مبدئيًّا. ولكن ما شروط التحقُّق؟ إنها تنقسم إلى شقين: منطقي وتجريبي.
بالنسبة إلى حلقة فيينا، وبدءًا من راسل وأعمال فيتجنشتاين المبكرة، «المنطق» نظام إحالة ذاتية يسمح باختزال جميع العبارات إلى عبارات طوطولوجية أو متناقضة. دَعْنا نلقِ نظرة على المثال الكلاسيكي في هذا الشأن: عبارةُ «كل العزاب رجال غير متزوجين» طوطولجيةٌ؛ فالمحمول («رجال غير متزوجين») مساوٍ أو متضمَّن في الموضوع («العزاب»). ويطلق على أمثال هذه العبارات ما يسمِّيه الفلاسفة «الأحكام التحليلية»، وهذه الأحكام صحيحة ببساطة بمقتضى صيغتها، ولكنها لا تخبرنا شيئًا على الإطلاق عمَّا يحدث، عن الحقائق. عكس هذا هو التناقض، مثل «كل العزاب رجال متزوجون»، وهي بطبيعتها عبارة خاطئة، كما أنها لا تخبرنا شيئًا أيضًا. إذن، كلُّ العبارات المنطقية تكون إما طوطولجيةً وإما متناقِضةً، والتي تكون إما صحيحة بالضرورة وإما خاطئة بالضرورة، ولكن كل هذه العبارات يمكن التحقُّق منها؛ ومن ثَمَّ لها معنًى. العالَم الوحيد ذو الكلمات أو الجمل ذات المعنى هو عالَم «الحقيقة التجريبية». وآمَن فيتجنشتاين في أعماله المبكرة بأن كافة الحوادث التجريبية أو الحالات المعقَّدة، يمكن اختزالها إلى عبارات بسيطة تعكس الحقائق أو «المعلوم»؛ وإذا عكست هذه العبارات البسيطة أو الأولية الحقائقَ، فيمكن حينها التحقُّق منها في مقابل الحقائق؛ فعبارتِي: «هذه شجرة جاكاراندا» يمكن التحقُّق منها بمجرد النظر إلى الشيء الأخضر الضخم الجميل الموجود أمامي. العبارات التجريبية قابلة للتحقُّق منها؛ ومن ثَمَّ لها معنًى.
ويتمثَّل الادِّعاء الرئيسي لِكارناب في مقال عام ١٩٣٢ في أن العبارات الميتافيزيقية ليست منطقيةً ولا يمكن التحقُّق منها تجريبيًّا؛ على سبيل المثال: إذا قلت إن «القلق يكشف كينونة أن تكون إنسانًا»، فحينها سوف يسأل الوضعيون المنطقيون: هل يمكن التحقُّق من هذه العبارة منطقيًّا؟ لا؛ لأنها ليست طوطولجية ولا متناقضة. إذن، هل يمكن التحقُّق منها تجريبيًّا؟ لا؛ لأن «الكينونة» ليست حقيقة محدَّدة مثل شجرة الجاكاراندا. ومن ثَمَّ فإن العبارة لا معنى لها. وما ينطبق على هذه العبارة ينطبق على كل العبارات الميتافيزيقية؛ فإذا لم تكن قابلة للتحقُّق منها، فإنها لا معنى لها ويمكن تجاوزها ببساطة من خلال التحليل المنطقي.
ولكن، ربما يطرح سؤال: إذا ما تمَّ تجاوُز الميتافيزيقا، وإذا أحرقنا كل الكتب التي تحتوي على عبارات لا يمكن التحقُّق منها — على غرار ما نصحَنا به هيوم — فما هو الدور المتبقي للفلسفة؟ يصرُّ كارناب على أن ما تبقى هو أسلوب التحليل المنطقي، وفي مقال جدلي يرجع لعام ١٩٣٤ ذكر أن «حلقة فيينا لا تمارس الفلسفة». ولكن لو كان كارناب مُحِقًّا (وهذا أمر مُستبعَد)، فكيف إذن نفسِّر حقيقة أن الفلاسفة وغير الفلاسفة كانوا منشغلين بالمسائل الميتافيزيقية منذ آلاف السنين؟ هل يمكن أن يكون الكثير من الناس بهذه الدرجة من الغباء لفترة طويلة جدًّا كهذه؟ في الصفحات الختامية الرائعة من مقالته، يُجيب كارناب عن هذا السؤال مستنِدًا إلى آراء فلهلم دلتاي بالقول إن الميتافيزيقا تعبير عن شعور تجاه الحياة. في هذا الصدد، تشبه الميتافيزيقا الفن، الذي يقدِّم أيضًا تعبيرًا عن شعورٍ أو موقفٍ حيال الحياة. ولكن — وهنا تكمن المشكلة — الميتافيزيقا أدنى منزلة من الفن؛ لأن الشاعر أو الموسيقي لا يتصوَّر أن كلامه أو صُوَره له محتوًى نظري أو معرفي؛ ومن ثَمَّ، فإن الميتافيزيقا فن سيئ، والميتافيزيقيون شعراء دون قدرات شعرية، وموسيقيون دون قدرات موسيقية. والغريب أنه بالنسبة إلى كارناب، كان المفكِّر الوحيد الذي فهم هذه المشكلة على أفضل نحوٍ هو نيتشه، الذي كانت أعماله إما متضمِّنة بعضَ المحتوى التجريبي، مثل تحليلاته لتاريخ الأخلاق، وإما لا تختار التعبير عن نفسها في شكل نظرية، مثل أعمال هايدجر، ولكن في شكل شعر. من الواضح أن كارناب يفكِّر في كتاب نيتشه «هكذا تحدَّث زرادشت»، الذي يسعى إلى التصدي لمشكلة العدمية الفلسفية باتخاذ أسلوبٍ غير ميتافيزيقي، ميثولوجي، وحتى سحري.
(٤) لبُّ الصراع الفلسفي الذي ما زال خفيًّا
يقول آرني نيس على نحوٍ بارع: «من المعقول أن نقول إن كارناب يقرأ أعمال هايدجر تمامًا مثلما قد يقرأ الشيطانُ الكتابَ المقدس.» وهذا بلا شك صحيح، ولكن كما حاولتُ التوضيحَ من قبلُ، لدى كارناب وحلقة فيينا أسبابٌ مفهومة لانتقاد هايدجر؛ فالصراع بين التصور العلمي للعالَم وما يراه كارناب على أنه ميتافيزيقا هايدجر، ليس مجرد خلاف نظري فحسب، ولكنه أيضًا تعبير عن الصراعات الاجتماعية والسياسية التي شَوَّهتْ بشدة القرنَ الماضي. وبقدرٍ علمي، لم يَعُدْ كارناب قطُّ إلى صراعه مع هايدجر في أعماله اللاحقة. ولكن ماذا قال هايدجر؟
في رأيي، ليس من خصال هايدجر أنه يميل لمعاملة منتقديه بازدراء متغطرس، متجاهلًا مواجهتهم على نحوٍ مباشِر؛ ومن ثَمَّ، لا توجد سوى إشارة «واحدة» اعتراضية فقط لِكارناب في أعمال هايدجر المنشورة. ومع ذلك، توجد مواجَهة غير مباشِرة أكثر مع التحدي الفلسفي الذي يقدِّمه كارناب في جميع أعماله. يميل هايدجر لتسمية هذا باسم «المنطق الرمزي» بدلًا من تسميته التحليل المنطقي أو الفلسفة التحليلية. وفي رأيي، يمكن للمرء أن يتخيَّل نقاشًا مع كارناب بين سطور أعمال هايدجر ربما يثير النقاط الأربع التالية:
(١) التحليل المنطقي هو التعبير الأكثر تطرُّفًا عن تجربة مجسدة للُّغة؛ أيْ تحوُّل النسيج الحي للُّغة اليومية إلى سلسلة تقنية شكلية من الخطوات. إن محاولة الإصلاح المنطقي للُّغة تخاطر بتحويلها إلى شيء لا يمكن التعرف عليه من قِبَل مستخدمي اللغة؛ ففي أعمال هايدجر عن اللغة بدايةً من خمسينيات القرن العشرين، يشجِّعنا على الخضوع ﻟ «تجربة مع اللغة» لا يمكن خوضها في أي لغة فوقية أو ما ورائية شكلية. وتبعد لغة كارناب الفوقية المنطقية عن تلك التجربة كلَّ ما يمكن للمرء أن يتصوَّره من البُعْد.
(٢) إضفاء الطابع الشكلي على اللغة في التحليل المنطقي يحوِّل اللغة إلى أداة تقنية. ووجهة النظر اللغوية التي اعتمدها التحليل المنطقي الكارنابي أطلق عليها هايدجر في خمسينيات القرن العشرين «اللغويات الفوقية أو الماورائية»، وهي وجهة نظر يربطها بآرائه في مجال التقنية؛ بمعنى أن التحليل المنطقي الكارنابي ينتمي إلى تلك اللحظة التاريخية عندما اختزلت الفلسفة إلى التفكير التقني. ويضيف هايدجر على نحوٍ لا يُنسَى: «اللغة الفوقية وسبوتنيك، واللغويات الفوقية وعلم الصواريخ أمرٌ واحد.» والتحليل المنطقي متوافِق مع إرادة القوة والسيطرة على الطبيعة التي تميِّز عصر التقنية.
(٣) من وجهة نظر هايدجر، محاولة كارناب تجاوُز الميتافيزيقا ببساطة عن طريق القضاء على كلماتٍ مثل «الكينونة» و«العدم»؛ هي تعبير عن وجهة نظر ميتافيزيقية غير متأملة للعالَم. وكما ذُكِر سابقًا، يتمثَّل رأي هايدجر في أن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ نسيان الكينونة. والاعتقادُ بأن كلمة «الكينونة» ينبغي أن تُحذَف من سجل المعاني يعود إلى التعبير الأكثر تطرُّفًا لهذا النسيان؛ ولذلك، فإن تجاوُزَ كارناب للميتافيزيقا ميتافيزيقيٌّ تمامًا مثل الميتافيزيقا التي يسعى إلى تجاوُزها.
(٤) وهكذا، فإن ثناء كارناب على نيتشه كاشف إلى حد كبير؛ فقد يدَّعِي أحد أنصار هايدجر أن التحليل المنطقي ينتمي إلى لحظةٍ نيتشويةٍ في تاريخ الميتافيزيقا. ربما نتذكَّر أن نيتشه كتب في كتاب «أفول الأصنام»: «ولكن سيظل هرقليطس مُحِقًّا دائمًا في ذلك؛ أن الكينونة خيال فارغ.» وهذا على الرغم من أن نيتشه كان سيرى الوضعية المنطقية مجرد تمهيد لانقلابه على الفكر الأفلاطوني.
على الأقل، هذه هي الكيفية التي يمكن للمرء من خلالها تخيُّل استجابة هايدجر للوضعية المنطقية. ولكن دَعْنا نَعُدْ إلى الذِّكْر الوحيد لِكارناب في أعمال هايدجر المنشورة؛ لأن ما يقوله يثير الدهشة بالفعل إلى حدٍّ ما. ظهر هذا الذِّكْر في رسالة نُشِرت في عام ١٩٦٤ كمقدمة لكتابٍ كُتِب في عشرينيات القرن العشرين، فيتحدَّث هايدجر ممارسًا ضبطَ نفسٍ شديدًا عن:
لب الصراع فيما بين هذين الاتجاهين — الموقفين المتضادين الأكثر تطرُّفًا (كارناب في مقابل هايدجر) — اللذين تميل «فلسفة» اليوم نحوهما؛ ما زال خفِيًّا. وندعو هذين الموقفين اليوم: وجهة النظر العلموية التقنية للُّغة والتجربة التأمُّلية التأويلية للُّغة.
والآن، أود أن أعتبر هذا الاقتباس هو تعبير هايدجر عن مشكلة الثقافتين في الفلسفة. وهذا يعني أن الفلسفة المعاصرة تتفق على أن اللغة هي العالَم الذي يحدث فيه التفكير، ولكنها تختلف تمامًا حول أفضل السُّبُل لفهم ووصف هذا العالَم. بالنسبة إلى كارناب، هي مسألة إصلاح جوانب الغموض والتناقُضات في لغة الحياة اليومية من أجل الحصول على رؤية واضحة لما يمكن وما لا يمكن أن يقال. وبالنسبة إلى هايدجر، هي مسألة الخضوع لتجربةٍ مع اللغة حساسةٍ لما يحدث في الحياة اليومية.
(٥) آراء كارناب
يجب ألَّا يُتصوَّر لِلَحظة أن آراء كارناب وحلقة فيينا تمتعت بقبول عالمي بين الفلاسفة التحليليين؛ فالأمر بعيد عن ذلك كل البُعْد؛ ففي مناقشة حول المزايا النسبية للوضعية المنطقية مع بريان ماجي في عام ١٩٨٢، قال آير متهكِّمًا: «حسنًا، أعتقد أن العيب الأكثر أهميةً كان أن جميعها تقريبًا كان خاطئًا.» وفيما يلي ذِكْر ثلاث نقاط إشكالية في هذا الصدد على نحو وجيز:
(١) معيار كارناب لتمييز العلم عن الميتافيزيقا هو نظريتُه التي ترى أن المعنى يقوم على مبدأ القابلية للتحقُّق. يشير كارل بوبر على نحو مقنع إلى أن فكرة المعنى تلك معيارٌ محدودٌ للغاية بحيث لا يستطيع عمل هذا التمييز؛ لأن العديد من النظريات العلمية يتسم بطابع تأمُّلي على نحو كبير، وكدليل على ذلك قدَّم مثالًا بنظرية أينشتاين؛ فنظرية النسبية هي تخمين تأملي ببساطة لا يمكن اختزاله إلى مجموعةٍ من عباراتِ الملاحظة التجريبية. في الواقع، يمكن قول الأمر نفسه أيضًا عن الديناميكيات النيوتونية، والتي قُبِلت كنظرية ليس لأنها كان يمكن التحقق منها تجريبيًّا، ولكن لأنها كانت الفرضية ذات القوة التفسيرية العظمى. وإذا تأكدت نظريات نيوتن أو أينشتاين في وقت لاحق عن طريق الملاحظة، فذلك أفضل بكثير. وإن لم تُؤكَّد، فسيكون قد تمَّ دحضها؛ فصِدق التخمين يعتمد على قدرته على الصمود أمام التفنيد. وهكذا، فإن معيار بوبر لتمييز العلم عن الميتافيزيقا هو القدرة على الدحض. إذا كانت النظرية قابلة للدحض، فإنها نظرية علمية، وإذا لم تكن قابلة للدحض، فإنها نظرية ميتافيزيقية.
(٢) ثمة مجموعة ثانية من المشاكل تظهر حيال مبدأ التحُّقق؛ بدايةً، في مواجهة الهجوم النقدي، اختزل كارناب وجهةَ نظره من التحقُّق التجريبي الكامل إلى «مبدأ القابلية للتأكيد». في وجهة النظر تلك، تكون الجُمَل والكلمات ذات معنًى إذا كانت «مبدئيًّا» قابلةً للتأكيد من خلال ملاحظة «ممكنة». لا يزال هذا معيارًا تجريبيًّا للمعنى، على الرغم من أنه أقل تشدُّدًا من النسخة السابقة. ومع ذلك، فإن المشكلة الحقيقية هنا هي حالة مبدأ القابلية للتحقُّق نفسه: إذا كان يجب التحقُّق من كافة المسائل من خلال مبدأ القابلية للتحقُّق، فكيف إذن نتحقَّق من هذا المبدأ نفسه؟ بمعنى، ماذا يعني التحقُّق من القابلية للتحقُّق؟ تَذَكَّرْ أنه وفقًا لمبدأ القابلية للتحقق، تكون الكلمات والجُمَل ذات معنًى فقط إذا كانت قابلةً للاختزال إلى كلمات أو جمل طوطولوجية، أو يمكن ملاحظتها تجريبيًّا. ومبدأ القابلية للتحقق لا يمكن أن يكون عبارة تجريبية؛ لأنه هو الذي يُكسِب مثل هذه العبارات معنى: فلا يمكن ملاحظة المبدأ نفسه. مع ذلك، لا يمكن أيضًا أن يكون طوطولوجيًّا؛ لأنه على الرغم من عدم كونه حقيقة في حد ذاته، فإنه يتعلَّق بالحقائق لأنه هو المعيار الذي يُحكم بموجبه عليها. ولا يمكن أن تكون للعبارات الطوطولوجية المنطقية بطبيعتها علاقةٌ بالحقائق؛ ومن ثَمَّ إذا لم يكن عبارةً طوطولوجية ولا حقيقة، فكيف يمكن للمرء إذن أن يتحقَّق منه؟ الخيار الوحيد هو أنه يجب أن يكون بطريقة أو بأخرى ذاتي التحقق؛ مما يعني أنه يجب أن يكون قادرًا على تقديم عبارات حول نفسه وتقديم حجته الخاصة. يبدأ كل هذا في أن يبدو إلى حد ما شبيهًا بالميتافيزيقا القديمة التي أراد كارناب وحلقة فيينا تجاوُزها. يمكن صياغة المشكلة على نحوٍ أكثر تبسيطًا؛ مبدأ القابلية للتحقق هو نسخة حديثة من مبدأ شفرة أوكام، الذي يزيل الكيانات الميتافيزيقية الزائدة من عالم الحقائق التجريبية. والسؤال هو: كيف يمكن لهذه الشفرة إزالة نفسها؟ إذا لم تكن هذه الشفرة قادرة على إزالة نفسها، فلا يمكننا بالأحرى التحقُّق من القابلية للتحقق. إن مبدأ التحقق هو تناقُض ذاتي أدائي.
(٣) ولكن كانت الاعتراضات الأكثر شراسةً على كارناب هي التي قدَّمَها تلميذه كواين في بحثه الشهير بعنوان «عقيدتا التجريبية» (١٩٥١). تتمثَّل عقيدة التجريبية الأولى في إمكانية التمييز بين العبارات الطوطولوجية المنطقية وعبارات الملاحظة التجريبية؛ ما يُعرَف تقنيًّا باسم التمييز التحليلي الاصطناعي. والعقيدة الثانية هي ما يسمِّيه كواين «الاختزال الراديكالي»؛ أيْ إن كل عبارة تجريبية يمكن اختزالها إلى عبارة عن الحقائق أو المعلوم. يدَّعِي كواين أن العقيدة الثانية لا يمكن إثباتها، وإذا كانت هذه هي الحال، فإن العقيدة الأولى تسقط أيضًا؛ ومن ثَمَّ، تنهار صورة كارناب حول المعنى بأكملها. وبكلمات ويلفيرد سيلرز، انخدع كارناب وحلقة فيينا ﺑ «أسطورة المعلوم»؛ بفكرة أن الكلمات والجمل لها علاقة مباشِرة بواقع موجود في اللحظة الراهنة. يقدِّم كواين صورة بديلة عن علاقة المعتقدات بالتجربة، مشبِّهًا مجموع معرفتنا «بنسيج من صنع الإنسان يمسُّ التجربةَ فقط عند الحواف». ونتيجة هذا الرأي هي صورة أكثر شموليةً بكثير للعلاقة بين المعتقدات والتجربة، أو المفهوم والحدس، والتي وصفها كواين بأنها «البراجماتية الشاملة». وعلى الرغم من مضي كواين في أعماله اللاحقة بوصف وجهات نظره الأولى بمصطلحات طبيعية أقوى بكثير، فإنه من خلال هذا النقد البراجماتي للتجريبية صنع ريتشارد رورتي صِلاتٍ رائعةً بالتقليد الفلسفي القاري.
(٦) فيتجنشتاين يعتقد أنه يعرف ما يعنيه هايدجر
كما رأينا، فإن جانبًا كبيرًا من هذا الجدل ينصبُّ على مسألة الميتافيزيقا، مع اتهام كارناب لِهايدجر بأنه ميتافيزيقي، وتلميح هايدجر إلى أن تصوُّر كارناب العلمي للعالم يستلزم وجود ميتافيزيقيا غير مفحوصة؛ ومن ثَمَّ، يتهم كلٌّ منهما الآخَر بالخطأ الميتافيزيقي نفسه. وليس هذا الأسلوبُ السيئ الواضح شيئًا جديدًا في تاريخ الفلسفة. ولكن كوسيلة لتوفيق هذين الموقفين المتعارضين، اسمحْ لي أن أنتقل إلى مقتطف صغير كتبه فيتجنشتاين أيضًا في عام ١٩٢٩؛ حيث يقول ردًّا على محاضرة هايدجر:
أستطيع بلا ريب أن أعرف بسهولة ما يعنيه هايدجر بالكينونة والقلق؛ فالرجل يشعر بالحاجة للتعامُل مع حدود اللغة. فكِّرْ، على سبيل المثال، في الدهشة الناجمة عن عدم وجود أي شيء على الإطلاق. لا يمكن التعبير عن هذه الدهشة في شكل سؤال، ولا يوجد جواب على الإطلاق؛ فبديهي أن أي شيء قد نقوله لا بد أن يكون مجرد هراء، ومع ذلك فإننا نحاول التعامل مع حدود اللغة.
لعل من المفيد هنا أن ننظر لِفيتجنشتاين كطرف ثالث وسيط في النزاع بين هايدجر وَكارناب. وعلى الرغم من أن برنامج حلقة فيينا للتحليل المنطقي استُلهِم إلى حدٍّ كبير من كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية»، فإن العلاقات بين فيتجنشتاين وحلقة فيينا لم تكن قطُّ على ما يرام، وقَطَعَ فيتجنشتاين فجأةً ولسبب غير مفهوم علاقتَه بِكارناب في عام ١٩٢٩. وكذلك بعد عودة فيتجنشتاين للفلسفة في أواخر عشرينيات القرن العشرين، خضعت وجهات نظره لتغيير سريع نأى به على نحو متزايد عن حلقة فيينا. واستباقًا لِكواين، رأى فيتجنشتاين أن آراءه في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» دوجماتية. ومن ثَمَّ، إذا اعتبرنا أن فيتجنشتاين الشاب كان مأخوذًا بصورة لِلُّغة تُختزَل إلى منطق تمكِّن المرءَ من قولِ ما يمكن أن يقال بينما يتجاهل باقي الأمور في صمت، فإن فيتجنشتاين الأكبر سنًّا سعى للهروب من هذه الصورة من خلال تحليل استخدام اللغة العادية. وكما يقول في كتاب «تحقيقات فلسفية»: «لا تبحث عن المعنى، ابحث عن الاستخدام.» هذا يعني أن الاهتمام الفلسفي الرئيسي يصبح فهم اللغة في استخدامها البراجماتي اليومي. نحن لسنا بحاجة لابتكار لغة جديدة لأن اللغة التي لدينا كافية تمامًا.
اعتاد فيتجنشتاين رواية حكاية من حواراته مع جي إي مور في كامبريدج؛ حيث تَركَّز حوارهما حول المشكلة التالية: هل يجب أن نفهم التحليل المنطقي لكي نفهم ما نعنيه بعبارات اللغة العادية؟ رد فيتجنشتاين على مور بهذه الكلمات: «يا لها من فكرة جهنمية!» بهذا المعنى، مع وضع فلسفة هايدجر في الاعتبار، ربما نرى فيتجنشتاين الأكبر سنًّا يسعى إلى الانتقال بعيدًا عن اللغة الفوقية الشكلية ونحو تجربة اللغة ذاتها. لذلك، إذا كانت محاولة كارناب لتجاوز الميتافيزيقا تستند إلى وجهات نظر فيتجنشتاين الشاب، فإن فيتجنشتاين الأكبر سنًّا يمثِّل ما يمكن تسميته ﺑ «تجاوُز التجاوُز»؛ حيث نضع جانبًا عقائدَ التحليل المنطقي ونعود إلى اللغة العادية والحياة الاجتماعية البشرية، المعبَّر عنها بتلك اللغة بكل استخداماتها اليومية الغنية على الرغم من فوضويتها.
ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نتصوَّر أن فيتجنشتاين كان بنحوٍ ما من معتنقي فكر هايدجر السعداء؛ فهذا أمر بعيد كل البُعْد عن الحقيقة. من الواضح أن تعليقه ينطوي على نقد كبير لِهايدجر؛ فَفيتجنشتاين يعتقد أنه يعرف ما يعنيه هايدجر بالكينونة والقلق، ولكن يشير ضمنًا إلى أن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تقال دون الوقوع في الهراء. ما يحاول هايدجر القيام به في محاضرة ١٩٢٩ من وجهة نظر فيتجنشتاين، هو قول ما لا يمكن قوله عن طريق محاولة التعامُل مع حدود اللغة. وبالنسبة إلى فيتجنشتاين، يُعَدُّ الهراء الآن عملًا جادًّا ويشهد لرغبات عميقة لدى البشر، وهو ما قد يصفه بأنه أمر أخلاقي. ولكن على الرغم من ذلك ما يقوله هايدجر هراء، وهو ما يمثِّل رأي كارناب على الرغم من كل شيء. تُعَدُّ محاضرة «ما هي الميتافيزيقا؟» مثالًا كلاسيكيًّا لسوء استخدام اللغة؛ لذلك، فإن حقيقة أن فيتجنشتاين يعرف ماذا يعني هايدجر بالكينونة والقلق لا تعني بالضرورة أن هذين المصطلحين يعنيان ما يعتقد هايدجر أنهما يعنيانه.
في رأيي، لا يكمن الاهتمام بصراع هايدجر وَكارناب في تحديد مَن مُحِقٌّ ومَن مُخطِئ، ولكن في النظر إلى هذا الصراع باعتباره تعبيرًا واضحًا عن إشكالية فلسفية ومرض ثقافي لا يزالان معنا إلى حد كبير. إذا لم يكن هذا مُدرَكًا، فإننا أمام خطر جمود فلسفي عقيم؛ وهو المواجهة بين العلموية من ناحية، والظلامية من ناحية أخرى.


الجمعة، 13 ديسمبر 2019

بين كانط وديكارت، مفارقات؛ محمد الحجيري.



بين كانط وديكارت؛ مفارقات..
 محمد الحجيري
منشور حول ديكارت وكانط وتعليقات عليه.

كانط، فيلسوف النقد، وإن كان يحاور الأمبيريين والفلاسفة العقلانيين ليصل إلى توليفة ما، إلا أنه يعتبر أقربَ إلى الفلسفة العقلانية..
بعض ملاحظات يمكن أن تلفت قارئ كانط:
إنّ ديكارت، الذي انطلق من يقينه الأول، الذي هو وجود الفكر المختلف بشكل مطلق عن المادة، من خلال الكوجيتو الشهير: "أنا أفكر إذاً أنا موجود".
هذه الأنا/ الفكر لا توجد في مكان؛ بينما من صفات الجسم أو المادة الامتداد والانوجاد في مكان.
إشكالية العلاقة بين الفكر والمادة، وهما من طبيعتين مختلفتين، لم تكن الإشكالية الأولى التي يواجهها ديكارت. الإشكالية الأولى بعد برهانه على وجود الفكر كانت في محاولته إثبات وجود المادة نفسها.
وببساطة لم يستطع برهان ذلك.
لقد ذهب إلى السماء، فبرهن على وجود الله (كونه من طبيعة أقرب إلى النفس من المادة)، ثم اعتمد على ضمانة هذا الإله ليثبت وجود المادة.
كل هذا ليس جديداً.
الملاحظة الأولى أن كانط لم يلتفت إلى الإشكالية التي نغّصت هناء ديكارت بالكامل.
لقد انطلق كانط من وجود المادة كبديهية ولم يكلّف نفسه (على حد ما أعلم) عناء البحث في حقيقة وجودها.
نقاشه الأساسي كان مع لوك وهيوم.
وكان لديكارت أن يشعر بالمهانة لو أنه كان حياً، أو لو كانت نفسه خالدةً كما يظن، وتعْلمُ هذا التجاهل الكانطي له.
الأنكى من ذلك، ومن حسن حظ ديكارت أو ربما لسوء حظه أن يأتي قبل كانط بحوالي قرن ونصف القرن.. إذا لو جاء ديكارت بعد كانط أو لو كان معاصراً له لخاض معه حرب وجود لا هوادة فيها.
السبب أن كانط يرى بأن الإنسان أو العقل الإنساني بفطرته يطرح مسائل ولا يمكن إلا أن يهتم بها، وهي مسائل الميتافيزيقا: مثل الله والنفس والعالم. لكن هذا العقل الذي لا يستطيع إلا أن يهتم بهذه الموضوعات ليس أداةً صالحة للبحث فيها ولن يصل إلى مكان..

هو يستطيع أن يثبت الأمر ونقيضه. وكل تاريخ جهد العقل البشري في هذا المجال هو خبط عشواء وعبث لا طائل منه.
ما يهمنا هنا، أو ما يهم صاحبنا ديكارت هو أن ما يعتبره طريقاً وحيدة ضرورية لإثبات وجود المادة: أعني بها الارتكاز على وجود الله للبرهان على وجود المادة، تصبح غير قابلة للبرهان وهي جهد عبثي وحرث في الماء: أقصد البرهان على وجود الله.
إذا كان البرهان على وجود الله مستحيلاً، وديكارت قد جعل منه الطريق إلى البرهان على وجود المادة، فهذا يعني أن ديكارت سيخسر الله، أو القدرة على البرهان على وجوده، ومن ثم فقدان المتكأ الذي اعتمده للبرهان على وجود المادة.
وسيكون ديكارت، مؤسس الفلسفة الحديثة، وحيداً.. مع ذاته المقفلة على ذاتها والتي كان يرى أنها موجودة حتى لو كان العالم كله غير موجود.
لكن، يبقى أن نتساءل: ولماذا تجاهل كانط محاولة إثبات وجود المادة؟
هل يحق له كفيلسوف ناقد أن يعتبرها بديهية، بخاصة بعد أن نبّه ديكارت إلى هذه الإشكالية؟ أم أن الاعتراف بها كان سيقضي على إمكانية إقامة مشروعه النقدي بكامله؟

(محمد الحجيري؛ 13 ديسمبر 2018)

تعليقات على المنشور:
الدكتور جمال نعيم:
ديكارت أبو الفلسفة الحديثة، لكنّه، في الواقع، ليس أكثر من لاهوتيّ مستنير. ومع ذلك فإنّ اكتشافه للأنا أفكر ولحقل الذاتيّة، قد أثّرا أيّما تأثير في فيلسوف القرن العشرين بلا منازع، أعني به إدموند هوسرل، وإن رفض هذا الأخير الضمانة الميتافيزيقية.
إنّ المشكلة الديكارتيّة يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: كيف يمكن لما هو ذاتيّ أن يقوّم ما هو موضوعي؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن لي أن أصل الى الحقيقة، أن أصل الى اليقين، انطلاقًا من النّور الفطري، انطلاقًا من النور الطبيعي، الموجود في كلّ واحد فينا بما يكفي؟
من هنا كان عليه أن يشك في الحقائق المنزلة وعلوم عصره وما ورثه من آبائه وما يأتيه عن طريق الحواس...الخ حتى يتمكن من الوصول الى الحقيقة كيقين ذاتي. وكان من همّه إصلاح العلوم والفلسفة.
أمّا كنط فلم تكن لديه هذه المشكلة، وكان يؤمن بفيزياء عصره، لكنّه كان يتفكّر في علوم عصره: كيف يمكن تأسيس الموضوعيّة التي نؤمن بها من خلال فيزياء نيوتن؟ والمشكلة هي:
كيف يمكن للأحكام التأليفية التي نؤمن ونصدق بوجودها في العلوم، قبليًّا، أن تكون؟
نعم، هو انطلق من مسلّمات موضوعيّة، كإيمانه بالمادة وبالأحكام التأليفية القبليّة. لم يطرح الشّك فيها. بما أنّها موجودة في العلوم، هو حاول أن يدرس أو أن يحدد شروط إمكانها.
ديكارت كان دغمائيًّا في نظر كنط لأنّه انطلق من قدرة العقل على الوصول الى اليقين والى الحقيقة من دون أن يفحص الأداة التي يدعي أنّ لديها القدرة على ذلك، ألا وهي العقل.
وكنط، في نظر ديكارت، انطلق من مسلّمة وجود المادة ومن مسلّمة وجود الأحكام التأليفية القبليّة في علوم عصره، مع أنّ لا شيء يثبت ذلك. فالأنا البشري هي ما يتمتع بالثبات وهي ما يمكن إثباته لا المادة التي افترضها كنط بديهيّة، وإن قال بعدم إمكانية معرفة الأشياء في ذاتها، بل كما تبدو لنا.
هل الانطلاق من مفترضات ذاتيّة أفضل من الانطلاق من مفترضات موضوعيّة؟ لا شيء يثبت ذلك. ولا يهتمّ الفيلسوف بما هو أفضل، وإن كان يعتبر أنّه يشتغل من أجل الأفضل.
جمال نعيم:
هذا تعليق أوّل، لكن بالإمكان إجراء تعليقات أخرى.
أفضل النظر الى كل فيلسوف بوصفه يرسم مشهدًا فكريًّا مختلفًا، بوصفه يخلق فضاءً فكريًّا جديدًا، فيضيء على أشياء كنّا نجهلها. ونحكم، على إنجازاته بعبارات اللافت والمثير للإنتباه والهام. بهذا، يبقى الفلاسفة خالدين وينيرون بعد موتهم أكثر ممّا هو في حياتهم.

حسين عبّود:  تساؤل:
ديكارت بشكه المنهجي استطاع ان يثبت الانا بواسطة التفكير، ولكن الا يمكننا القول ان الانا قد تكون احدى معطيات هذا التفكير وهذا الوعي ؟ لكن ديكارت اهتم باثبات الانا التي تشابه واسطة الاثبات(التفكير)
وذلك لتجردها ، ثم بعد ذلك اتجه الى ما هو اكثر تجرداً اي الله ليثبت به المادة وليجد بذلك طريقاً بين الفكر و المادة و هو الخلق؟
بينما كنط انزل المادة منزلة الانا في كوجيتو ديكارت كون المادة كما الانا هي احدى معطيات وعينا و تفكيرنا و بذلك كانت المادة كما الانا بديهية؟

محمد الحجيري:
لا أعرف أن ديكارت قد ميز بوضوح بين الفكر وفعل التفكير. هو يقول بأني "شيء" يفكر. مع أن فعل التفكير كحركة في الزمان، لا أعرف إن كان يمكن أن ينطبق عليه عزله عن المادة. هل يمكن أن ينوجد أي شيء بإطلاق بشكل مستقل عن المادة. هل يمكن الحديث عن حركة الفكر في الزمن (الذي هو فعل التفكير) بمعزل عن المادة. ألا يجب أن يكون ما هو مستقل عن المادة ساكناً ثابتاً غير متغير، وبالتالي يستحيل أن يكون فعلاً أصلاً.. هو سكون مطلق وهو يشبه إله أرسطو (الذي أظنه الأكثر تماسكاً منطقياً)
لكن يبقى هذا الموضوع مستغلقاً ربما على الفهم. وهذا ما ذهب إليه كانط.
لكن حول خلق المادة، فلا علم لي بأن ديكارت قال بذلك. هو استدل على وجود المادة فقط.
ملاحظة أخيرة وهي أن هناك فرقاً كبيراً بين تعامل ديكارت مع الكوجيتو أو وجود الفكر، وهو نوع من الحدس اليقيني أي المعرفة المباشرة التي لا يمكن أن يخالطها الشك. لأن الشك بحد ذاته فكر.
بينما موقف كانط من وجود المادة فمختلف كلياً. هو لم يناقش الموضوع، تعامل معه كمعطى واقعي وحقيقي.

حسين عبّود: احسنتم التوضيح
بالنسبة لخلق المادة ما افهمه من اثبات وجودها من خلال البرهنة على على وجود الله هو ان العلاقة بين الاثنين ستكون اما خلق و اما ايجاد و الا فلن تثبت المادة بالبرهنة على الله

محمد الحجيري:
قد يكون ذلك. وهذه وجهة نظر قابلة للنقاش. وهي على ما فهمت نوعٌ من الاستنتاج. أنا لم أقل أن ديكارت لم يبرهن على خلق المادة، بل لا علم لي أنه قد فعل. وأرجح أنه لم يبرهن على ذلك (دون أن أجزم).
أرسطو انطلق من المادة ليصل إلى السبب الأول. ومع ذلك لم يقل بالخلق، بل قال بقدم العالم.
والأديان أيضاً تدعو إلى التأمل في العالم ونظامه للوصول إلى القول بإله (لكنه خالق، على عكس أرسطو، وإن كانت مسألة الخلق كمفردة قابلة لأكثر من فهم، فهي قد تعني نقل الموجود من حالة إلى حالة جديدة، دون أن تكون إيجاداً من عدم: مثل الخلق من تراب أو من نار..)
ديكارت ينطلق من نقطة معاكسة: ينطلق من وجود الله ليجعله ضمانة لعدم وقوعي في الوهم حول حقيقة وجود المادة.
لم أفهم تمييزك بين الخلق والإيجاد. إذا كنت تقصد أن القول بوجود إله ينتج عنه منطقياً خلقه العالم من عدم.. كانط يرى بأن العقل لا يمكن أن يبت في هذه المسألة. وأنا أتبنى هذا الموقف.

محمد الحجيري:  يمكن مراجعة السياق الذي جاءت فيه كلمة "خلق" في القرآن.

حسين عبّود:
قصدت بالايجاد ان تستمد هذه المادة وجودها من الاله لا ماهيتها وهكذا يمكن ان يكون العالم قديماً قدم الاله و لكن لا يقوم بذاته

جمال نعيم:
يتمثّل الكوجيتو الديكارتي دائمًا بأفعال:
أتخيّل، أشك، أفكر، أكون...الخ.
لا يهمّ ديكارت وجود المادة أوّلًا. هو يؤمن بوجودها عمليًّا، ويتصرّف على هذا الأساس، لكنّها لا تفيد اليقين.
الكوجيتو الديكارتي لا يتضمّن مكوّن الزمان كما هو الحال لدى كنط. فالأفكار الفطريّة موجودة في النّفس ما إن تعيها النّفس، وليست بحاجة الى الزمان. وهي ليست تذكرًا على الطريقة الأفلاطونية
صحيح الكوجيتو هو بمثابة حدس أصليّ وليس ناتجًا عن استدلال.
وصحيح أيضًا أنّ كنط انطلق من معطيات العلوم القائمة وحاول التفكر فيها .

Bottom of Form
جمال نعيم:
علينا أن لا ننسى أنّ شك ديكارت هو شك منهجي مؤقّت، وأنّ شخصيته كانت شخصيّة قلقة، وأرادت أن تبحث عن اليقين في جوانيّتها، في ذاتها، لا في بطون الكتب المقدسة، ولا في ما يقوله علماء عصره... وهذا مختلف تمامًا عمّا نجده في الفضاء الفكري للقرون الوسطى، حيث كان التشديد عند علماء اللاهوت على أنّ الحقيقة موجودة في الكتاب المقدس، وأنّ النّاس العاديين عليهم الوصول اليها عن طريق رجال الدين.
وإنّ ديكارت وافقهم على أنّ الحقائق المنزلة هي حقائق لكنّها تحتمل الشك. والحقيقة التي لا تحتمل الشك هي الحقيقة التي يصل اليها الانسان عن طريق النّور الطبيعي الموجود بالضرورة في كل واحد فينا. وهذا إن دل على شيء فإنّه يدل على ثقة كبيرة بالانسان وبالعقل البشري. لذا، استحق ديكارت أن يكون رائد العقلانية في العصور الحديثة، لا سيّما اذا تذكرنا مسلّمته التي تقول إنّ ملكة تمييز الصواب من الخطأ هي الأعدل قسمةً بين النّاس.

جمال نعيم:
علينا أن لا ننسى التمييز الأساسي الذي أقامه كنط بين الأشياء فيَّاها، أي الأشياء في ذاتها، والأشياء كما تبدو لنا، أي الأشياء كظاهرات. هذا يعني أنّه ليس بعيدًا، في رأيي، عن إيمان ديكارت بالعالم الخارجي والجسد قبل أن يبرهن على وجودهما، بشكل قاطع، بوجود الضمانة الإلهية. يعني لو سألنا ديكارت قبل استدلاله عبر الضمانة الإلهيّة على وجود العالم الخارجي: هل تؤمن بوجود المادة؟ لأجاب نعم، لكن ليس بشكلٍ قاطع. وأنا أسعى الى اليقين.
أليس هذا قريبًا من إيمان كنط بالمادة كظاهرات؟ يعني، في النهاية، ومن دون الضمانة الإلهيّة، يبقى وجود المادة كظاهرات، وحتى كوهم. تفكّر أوّلي


الأربعاء، 11 ديسمبر 2019

نيتشه متحدثاً عن الأحلام




نيتشه متحدثاً عن الأحلام

ثلاثة نصوص لنيتشه عن الأحلام في كتابه "إنسان مُفرِط في إنسانيته"، ترجمة كنان القرحالي، الطبعة الخامسة (2019)، الصادر عن "دار كلمات للنشر والتوزيع" في دولة الكويت.

[حفريات]
منطق الحلم:
يكون الجهاز العصبي أثناء النوم في تهيّجٍ مستمرٍّ من خلال مختلف المحفّزات الداخلية، وتعمل جميعُ الأعضاء تقريباً بشكلٍ مستقلٍّ وبحيويّةٍ كبيرة، حيث تتسارع الدورةُ الدمويّةُ، وتضغط وضعيةُ النائم على بعض أجزاء الجسد، حتى الأغطيةُ تؤثر على الأحاسيس بأشكالٍ مختلفة، وتُدير المعدةُ الجهازَ الهضميَّ وتتصرّف بانسجامٍ مع أعضاءٍ أخرى، كما تكون الأمعاء في حالة عملٍ وتقدّي وضعيةُ الرأسِ إلى عملٍ غير معتاد، أما القدمان فتكونان بلا أحذيةٍ ولا تضغطُ على الأرض، وهما مصدرُ أحاسيسَ جديدةٍ أخرى، وينطبق الأمرُ ذاتُه على ملابس كامل الجسد؛ تؤدي جميع هذه الأمور مع صخبِ ساعاتِ اليوم ومن خلال المشاعر الجديدة إلى حركةٍ في جميع أنحاء منظومة الجسد، والتي تشمل وظائف الدماغ، وهكذا تحفّز مئات الظروف التشوّشَ في العقل وهذا ما يدفعه للبحث عن سببِ هذه الاستثارة.
إنّ الحلمَ ما هو سوى بحثٍ وتمثيلٍ لأسباب استثاراتِ الشعور هذه، أي الأسباب المفترَضة لها، مثلاً قد يحلم من كانت قدماه مقيّدتين بحبلين بزوجٍ من الثعابين الملتفّة حول قدمية، هذه مجرّد فرضيّة، لكن حلماً كهذا قد يترافق مع صورةٍ متخيَّلةٍ مصاحبةٍ وحجةٍ لدى صاحب الحلم تقول بأنّ "تلك الثعابين هي سبب هذه الأحاسيس التي أشعر بها وأنا نائم"، هكذا يحلل عقلُ النائم الأمور، وتصبح أحاسيسُه وقائعَ بالنسبة له نتيجة هذه الاستثارة الكبيرة.
نعرفُ جميعاً من تجربتنا كيف سيحوّل الحالم صوتاً حاداً إلى آخر من طبيعةٍ مختلفةٍ تماماً، مثلاً يتحوّل صوتُ جرسٍ إلى دويّ مدفع، وفي الحلم يدرك الحالم التأثيرات أولاً، والتي يفسّرها لاحقاً بفرضيةٍ معيّنة تنطوي على قناعته بالطبيعة الحدسية البحتة للصوت، لكن كيف لعقل الحالِم أن يتمادى في تيهه عندما يكون نفس العقل المستيقظ حذراً دقيقاً جداّ في تعامله مع الفرضيات؟ لماذا تُنال الفرضيةُ الأولى اللاحقة لإحساس الحالِم هذه المصداقية؟ (إذ ننظر إلى ما يجري في الحلم كما لو أنه واقعٌ، وهكذا تقبل فرضياتُنابشأنها على أنها مثبتةٌ تماماً).
لا شكّ لديّ في تفكير البشرية بأحلامها عبر آلاف السنوات كما يفكر الناس في أحلامهم اليوم حتى في لحظات اليقظة، إذ يتمّ التعامل مع أوّل سببٍ يتبادر إلى العقل عندما يبحث المرء عن تفسير حلمٍ ما على أنّه تفسيرٌ صحيحٌ (يُظهر البشر البدائيون نفس النزعة كما تذكر تقارير الرحّالة)؛ يُظهِر هذا الأثر الرجعي للإنسانية نفسَه في دواخلنا، فهو الأساس الذي طوّرت به الملَكة العقليّةُ نفسَها، وما زالت تطوّر نفسَها في داخل كلِّ فرد. تعيدنا الأحلام إلى المراحل الأولى للثقافة الإنسانية، بل وتتيحُ لنا سبلَ فهمِها بشكلٍ أوضح.
نفكّر في الحلم بسهولةٍ فائقة، فهذا ما تدرّبنا عليه جيداً عبر مراحلَ لانهائية من التطوّر، والتي ساد فيها الشكلُ الخياليُّ والمبسَّط من النظريات المعلّقة به؛ إن الحلم منشّطٌ للدماغ نوعاً ما، إذ يلبّي الدماغُ الحاجاتِ الكثيرة للفكر المدرَّب الذي كوّنته ظروف الحضارة الأسمى، وإن شئنا نكون حسّاسين حتى في لحظات يقظتنا للحالة التي تكون بمثابةِ بابٍ ومدخلٍ للحلم، وإذا أغلقنا أعينَنا يستحضر الدماغُ على الفور باقةً من الانطباعات الضوئية واللونية، وهو نوعٌ من التمثيل والانطباعات التي فُرِضَت على الدماغ خلال لحظات اليقظة، وبالتعاون مع الخيال يقوم العقل بتحويل هذه الأحاسيس إلى أشكالٍ محدّدةٍ متحرّكة ومناظرَ طبيعيةٍ، فما يحدث لا يخرج عن كونه نوعاً من المنطق بدءاً من التأثير وصولاً إلى السبب، ويتساءل الدماغ حائراً: من أين جاءت هذه الانطباعات الضوئية واللونية؟ ويأخذ بافتراض الأسباب المحفّزة لهذه الأضواء والألوان ولتلك الأشكال والمظاهر، أيّ إنه يسخّرها لخدمةِ أسبابه المفترَضة، وهو ما اعتاده الدماغ عندما تكون العينان مفتوحتين والحواسّث متيقّظة، إذ يُرّدُّ كلُّ ضوءٍ ولونٍ إلى سببٍ وضعه بنفسه.
أما المخيّلة فتدخل عبر صورِها المتزايدة يوماً تلوَ آخر لتشاركَ في إنتاج الانطباعات الناجمة عن الأحاسيس، وهو ما يقوم به خيالُ الحالم بالضبط، وهكذا يتمُّ تحديد السببِ المفترَض اعتماداً على أثر الحلم، ويحدث هذا بسرعةٍ مدهشة، وهذا يعني أنّ الأمر مشابه لما تنطوي عليه الشعوذة وألعاب الخفّة من تشويشٍ للعقل فيخرج ما بعد أثر الحلم ليظهر على شكل فعلٍ متزامنٍ، فعلٍ فيه تعاقبٌ معكوسٌ للأحداث.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات يمكننا رؤية كيفية تطوّر الفكر المنطقي الصارم مؤخراً، وما نتج عنها من تمييز بين السبب والأثر في الحلم، خاصةً وأنّ ملَكتنا الفكرية والعقلانية الحالية تعود إلى عملياتِ الاستنتاج البدائية، حيث يمضي نصفَ العمرِ عملياً في ظروفٍ تحريضيةٍ شديدة، حتى إن الشاعر والفنّان ينسبُ لحالاته الوجدانية والعاطفيّةِ أسباباً بعيدةً عن الصِحة،وهذا تذكيرٌ للبشرية بماضيها البدائيِّ نوعاً ما ويمكن لهذا أن يساعدَنا في فهمها بشكلٍ أفضل.

سوء فهمِ الأحلام:
اعتقدت البشريّةُ خلال عصورِ الحضارةِ البدائيّةِ الأولى أنّها تدخل عالماً حقيقياً ثانياً في الحلُم، ويكمن هنا مصدر كلِّ ما هو ميتافيزيقي، فبدون الحلُمِ لم يكن للبشرِ أن يمتلكوا دافعاً يحرّضهم على تحليل العالم، حتى إنّ التمييز بين الروح والجسد يرجع كلّياً إلى التصوّر البدائي للحلُم، كذلك الأمر مع فرضيّةِ الروح المجسّدة، والتي تطوّرت منها جميع الخرافات، فما وجدَه البشرُ في هذا السياق كان على شاكلةِ أنّ "الأمواتَ لا يزالون على قيد الحياة، لأنهم يظهرون للأحياء في أحلامِهم"، هذا ما استنتجَه البشرُ ذاتَ مرّةٍ واستمرَّ لآلاف السنوات. (17)

الحلم والحضارة:
إن الذاكرةَ هي الوظيفة الدماغيّةُ الوحيدة التي يؤثّر النومُ عليها سلباً، فهي لا تُعلّق بالكامل، إنما تنحسرُ إلى حدٍّ كبيرٍ كما كان عليه الحال في العصورِ البشريّةِ البدائيّة، إذ كانت تلك حالةُ الجميع سواءٌ أكانوا نياماً أم مستيقظين، كانوا خارج السيطرة ومشوّشين، فهي تخلطُ الأشياءَ دوماً عند أدنى تشابه فيما بينها، على أنّ الأمم تخرج بأساطيرِها من بين ركام هذا التشوّش العقليّ وانعدام السيطرة، وهذا ما يلحظه رحّالةُ اليوم عندما يرَوْنَ الإنسانَ البدائيَّ في بعض البقاع النائية، فهو عرضةً للنسيان، وكيف يتوه عقلُه إثر أقلِّ جهدٍ تتكبّده الذاكرةُ حيث يتفوّه بالخزعبلات والهراء من فرط الإنهاك، وهكذا فإننا جميعاً مشابِهون لهذا الإنسان البدائيِّ في الأحلام.
إنّ عدم كفاية التمييز والخطأ في المقارنة هما أساس الأمور العجيبة التي نفعلها ونقولُها في الأحلام، حتى إنّ الدهشةَ تغمرنا من الغباء الذي يُقطّر منها عندما نستذكرُها، إنّ التمييز المطلَق لجميع صوَرِ الأحلامِ والمصاحبَ للإيمان بحقيقتِهم الجوهريّة يذكّرنا بالظروف التي عاشتها البشريّةُ في وقتٍ سابق، حيث كان للهلوسةِ حيويّةٌ استثنائيةٌ سيطرَت على مجتمعاتٍ كاملةٍ وحتى أممٍ بأكملها، وهكذا فإننا نحج إلى البشريّة الأولى مجدّداً عبر النوم والحلم. (18)