السبت، 30 يوليو 2016

مفاهيم نيتشوية: العود الأبدي، العدميّة



#‏مدفل‬ ‫#‏مد_نيتشه‬
العدمية عند نيتشه
كما يراها لوك فيري:

إن فرض المبادئ والقيم كأوهام خفية، عن طريق الأوثان، التي لا تتقبل النقد أو النقاش، وتؤخذ كمسلمات لا يغدو إلا نوعًا من بيع الوهم للناس:...
إن هذا النفي للحياة، باسم قيم يُفترض بأنها تتجاوز الحياة، هو بالضبط ما يحكم (نيتشه) بأنه وهمي وخطر وشاذ:
فهو وهمي إذ يستحيل علينا، في واقع الأمر ونحن في الحياة، أن نحكم بشأنها “من الخارج”؛ وهو خطر لأنه يؤدي إلى إضعافنا، إلى إخماد قوانا الحية؛ وهو شاذ لأن هذا الكبت لغرائزنا يحملنا على إعادة إيجادها خفية لإشباعها من خلال المظاهر الخادعة التي تبدو عليها أكثر الأخلاقيات نبلًا.
ومن هذا المنظور، فكل مثالي متعالٍ، إنما هو في رأي (نيتشه) نفي للحياة وطريقةٌ لتشويهها. وهذا ما يسميه “العدمية”، وهو لفظ يعطيه معنى مختلف عن المعنى المتعارف عليه.
ففي اللغة المتداولة اليوم، العدمي هو شخص لا يعتقد في شيء، بينما هو عكس ذلك تمامًا عن (نيتشه): فالعدمي في رأيه هو شخص يعتقد اعتقادًا أعمى في “قيم عليا“.

فالعدمية عند نيتشه ليست تلك المعروفة بأنها الحياة بلا هدف، وإنما الحياة المعمية عن مناقشة أفكارها، والمبنية على بعض الأوثان. يقول (لوك فيري) بعد ذلك:
إن أعمق قيمة في الحياة، “ما وراء الخير والشر“، هي إذًا في نظر (نيتشه) قوّتها. لذلك تسعى فلسفته كلها إلى هدف أقصى: هو البحث عن توافق متناغم بين القوى الحيوية فينا، توافق لابد أن يسمح لها بأن تنمو بأكثر ما يمكن من “الفعالية“، دون قمع بعضها أو تشويهها لمنح الأحقية للبعض الآخر.
..
إن الحياة الطيّبة تقوم على تناغم كامل بين قوانا الحيوية (ما يسميه (نيتشه) “الأسلوب الرائع“)، بينما الحياة القبيحة تستنفد في الصراع الفوضوي بين تلك القوى، وفي التمزق الناتج عن الأهواء، والذي يجد نموذجًا له في الرومانسية (إذ يتلذذ البطل الرومانسي بالانسياق وراء مشاعره المتناقضة، بحبه المستحيل الذي تبعث تواتراته المترددة في نفسه اليأس وتزهقه بلا طائل).


29/7/2016

#‏مدفل‬ ‫#‏مد_نيتشه‬
"العود الأبدي" عند نيتشه
كما يراه لوك فيري:

إن “العَوْد الأبدي” هو الفكرة القائلة بأن الرغبة في أن نحيا من جديد، وبلا نهاية، ما عشناه من قبل، هي المقياس الأقصى للحكم بشأن لحظات حياتنا التي تستحق العناء من أجل أن تعاش. إن في هذه اللحظات بعدًا من أبعاد الأبدية ينقذها ويجعلها “أقوى من الموت”.
...
إن الأصل في المبدأ الجديد للحياة الطيبة يستقي قوته من خاصية اللذة، التي يلخصها (نيتشه) في العبارة الجميلة التالية:
“كل لذة تطلب الأبدية“.
فعندما نعرف لحظات قوة وحرية قصوى، عندما يكون المرء محبًا إلى حد الجنون على أساس حب متبادل، أو حين يتوصل إلى إبداع عمل يكشف لنا عن جانب مجهول من العالم أو من التجربة الإنسانية، فإنه يحس ما يسميه (نيتشه) “خفّة الراقص“، يحس شعورًا بالتصالح مع الواقع يبلغ من القوة ما يجعله لا يتمالك عن رجاء استمرار تلك اللحظات إلى الأبد.
إنها لحظاتُ توافُقٍ كامل مع الحاضر الذي يُقيم فيه المرء آنذاك بلا احتراز ودون التفكير في الماضي ولا في المستقبل، بحيث لم تعد اللحظة الراهنة نسبية بالنظر إلى الذكريات أو المشاريع، بل تصبح وكأنها بذرة من الأبدية. ذاك هو العَوْد الأبدي.
وهنا ننجو من الحيرة أمام الموت. ونلامس الأبدية وتزول الحيرة، في تلك اللحظات من التصالح مع الحاضر.

 
‫#‏مدفل‬ ‫#‏مد_نيتشه‬
بين ديونزوس وأبولون.
 
في كتابه مولد التراجيديا "يجعل نيتشه "للتراجيديا قطبين مختلفين وقد عبر عن هذا الازدواج باسم ديونيسوس وأبولون، وهو ازدواج يفيد التعارض بين الصوفي والذوقي، والعقلي البرهاني، بين الإرادي والمنطقي، بين المقيد المجدد، والمتحرر الطليق".
الديونيزوسي، يعبر عن اللذة والألم، الفرح والرهبة، ويعبر عن ذوبان الإنسان في الطبيعة، أما الأبولوني، فهو يحرر الإنسان من كل اندفاعاته المتوحشة، ويجعله متوازناً ومنسجماً، ومن هذا التقابل، يلاحظ التناقض بين نوعين من المنطق أو صورتين من التفكير، هما: النمط الغريزي القائم على المخاطرة والإقدام والذي يتجسد في الرقص والموسيقى والمسرحية، والنمط الثاني هو النمط التأملي الهادئ والتفكير العقلي القائم على الحوار المنطقي والتريث الفلسفي ابولون، بمزيد من التحديد "رمز غريزة فن التشكيل، وهو إله الوضوح والنور والقياس والتشكل والتأليف المتناسق، أما ديونيزوس فهو على العكس، إله الفوضى المفرطة، واللا شكل، وتيار الحياة الصاخب والهذيان الجنسي، انه إله الليل، وهو بعكس ابولون إله الموسيقى، الموسيقى التي تغوي وتثير وتطلق عنان الأهواء جميعاً""
(عادل عبدالله)


(عن فيسبوك)

 

الجمعة، 29 يوليو 2016

نيتشه: مولد المأساة من روح الموسيقى/ عادل عبدالله.




نيتشه : مولد المأساة من روح الموسيقى



 

مولد المأساة من روح الموسيقى
بداية تاريخ انتصار العقل على الغرائز

عادل عبدالله

- (لقد كان "مولد التراجيديا" أول عملية قلب لكل القيم قمت بها)

- (إن سقراط اعتاد أن يساعد يوربيدس في كتاباته، ثم ما لبث أن تحول سقراط المتحضر إلى قديس جديد لدى الشباب من النبلاء اليونانيين، وفي المقدمة كان منهم الهيليني النموذجي أفلاطون.. الذي احرق ما كتبه لكي يكون احد تلامذة سقراط)

- نيتشه -

مولد المأساة من روح الموسيقى، أو مولد التراجيديا، كما يحلو للنقاد تسميته ، هو أول كتاب مهم صدر لنيتشه، وهو كتاب عبّر فيه "عن تصوره الأساسي للفن والفكر والتاريخ" وللكتاب هذا اهمية بالغة جدا تتمثل بالقول : إن جميع الافكار الجديدة التي طرحها نيتشه في كتابه المبكر هذا ستبقى هي ذاتها مبثوثة ومعضدة بالتفصيل والإفاضة في مؤلفاته اللاحقة كلها. فماذا يقول نيتشه في هذا الكتاب وماهي الأفكار التي ظل نيتشه محتفظا بها في مساره الفكري كله ؟

ربما تكون الإجابة الفضلى عن هذا السؤال , هي الإجابة التي يحررها نيتشه نفسه باتجاه الكشف عن أهمية هذا المؤلف , يقول نيتشه , متحدثا عن كتابه, بعد أكثر من عقد من الزمان على تاريخ تأليفه : " كثيرا ما رأيت هذا المؤلف يُذكر بالاسم – المولد الجديد للتراجيديا من خلال روح الموسيقى- ولم يكن يصغى إلاّ لما يتعلق بصيغة جديدة للفن وبنوايا مهمة فاغنر "( 1)
ومعنى هذا أن نيتشه يشير هنا إلى موضوعات ثانوية تضمنها كتابه , ولذا فهو يشير, كمقابل لذلك إلى الموضوعات الأساسية فيه ,إذ يقول مكمّلا جملته الأولى " في حين وقع إهمال ما كان يختفي داخل هذا المؤّلف في الواقع من أشياء ثمينة "( 2).
وأول هذه الأشياء الثمينة هو : أن عبارة " الهيلينية والتشاؤم , ذلك ما كان من الممكن أن يكون عنوانا لا شبهة فيه, ذلك أنه أوّل من وضّح الطريقة التي مكّنت الإغريق من الانتصار على التشاؤم, كيف تجاوزوه... فالتراجيديا بالذات هي الدليل على أن الإغريق لم يكونوا متشائمين "( 3)
أما الشيء الثمين الآخر في الكتاب نفسه فهو, ما يعبّر عنه نيتشه بقوله، " التحديدان الحاسمان في هذا الكتاب هما: أولاّ, فهم الظاهرة الديونيزية لدى الإغريق: حيث يكشف للمرة الأولى سيكولوجية هذه الظاهرة, ويرى فيها المنبت الأصلي لمجمل الفن الإغريقي, وثانيا, فهم الظاهرة السقراطية: لأوّل مرة يتم التعرف على سقراط كآلةٍ للتفكك الإغريقي وكنموذج للانحطاط : ," العقل" ضد الغريزة,"العقل" بأي ثمن كسلطة خطيرة تنخر وتخرّب الحياة "( 4).
أما الشيء المهم الثالث في الكتاب فهو" في كامل الكتاب صمت عميق وعدواني تجاه المسيحية, فلا هي بالأبولونية ولا هي بالديونيزية, إنها تنفي كل القيم الجمالية, القيم الوحيدة التي يثبتها "مولد التراجيديا" ،( 5) باسم الديونيزية.
وفي أداء يشبه الاحتفال بلحظة الانتصار, من جهة, ويخبرنا بالمزيد عن طبيعة ما تمّ لنيتشه اكتشافه, في كتابه: يقول " كنت بذلك أول من تمكّن من استيعاب الظاهرة البديعة للديونيزية . كما أنني عبر اكتشاف الوجه الحقيقي لسقراط كمنحط, أقمت الدليل بما لا يدع مجالا للالتباس, على أن براعتي كخبير نفساني, في مأمن من مخاطر أية حساسية أخلاقانية, وكان اعتبار الأخلاق نفسها, كعرض انحطاط, ابتكارا وحدثا فريدا من الدرجة الأولى في تاريخ المعرفة. ولكم هي عالية في كلتا الحالتين تلك القفزة التي أنجزتها متخطيا الهراء السخيف البائس حول التضاد القائم بين التفاؤل والتشاؤم."( 6)
ومن هنا يعدّ نيتشه كتابه "مولد التراجيديا" أوّل عملية قلبٍ لكل القيم قمت بها" ( 7) ، كما يقول.
أما من وجهة نظرنا بوصفنا باحثين, فإن الأهمية الكبرى لهذا الكتاب, مع أخذنا بالحسبان مضامين تثمين نيتشه لكتابه, تكمن وتتضح في القول: إن هذه الموضوعات التي ثمّنها نيتشه في كتابه تؤلف على وجه الدقة عددا من الموضوعات الأساسية في فلسفة نيتشه كلها, وسيظل محتفظا في مؤلفاته الأخرى بماهيتها, مع بعض الإضافات والتطوير لها, وربما تكون نبرة الفخر التي يتحدث فيها هنا نيتشه, أي بعد أكثر من عقد من الزمان , عن تلك الموضوعات نفسها, بوصفها كشوفا معرفية خاصة به وحده، هو الدليل على صدق ما نذهب إليه .
يقول نيتشه : " كنت أول من رأى التضاد الحقيقي : الغرائز المنحلّة التي تعمل بحقدها السري الدفين على محاربة الحياة ( المسيحية, فلسفة شوبنهاور, وحتى فلسفة أفلاطون بمعنى محدد ما, المثالية في مجملها, جميعها كأشكال نموذجية) من جهة, وصيغة الإثبات الأرقى, المتولّدة عن الوفرة والامتلاء بالحياة, الاستجابة الاثباتية للحياة دون تحفظ، للألم أيضا, وللذنب أيضا, ولكل ما هو إشكالي وغريب في الوجود، "( 8) من جهة أخرى.
وربما يكون في إعادة نيتشه نشر كتابه هذا، مرة أخرى في العام 1886 تحت العنوان الذي فضّل أن يكون لكتابه أي "مولد التراجيدي أو الإغريقوية في طبعة جديدة مع محاولة في النقد الذاتي".
أقول ربما يكون في هذا الإجراء، دليلاً مضافا إلى اعتزاز نيتشه واحتفاظه بالمضامين الثمينة التي تحدث عنها في كتابه الأول، ولذا فانه يقول"لقد كان "مولد التراجيديا" أول عملية قلب لكل القيم قمت بها"( 9).
ثمة موضوعات أخرى عرضها نيتشه في كتابه، أجد من المفيد التعرف عليها بإيجاز، عبر نصوصها نفسها،كونها تمثّل هي الأخرى, بذورا لمواقف فلسفية, سعى إلى تطويرها فيما بعد، منها: موقفه من العلم، كقوله: كم هو غريب أن أرى العلم من خلال عدسة الفنان، بل الفن من منظور الحياة"( 10).
ومنها موقفه الأخلاقي من صراع العبيد والسادة، المقام على أسس جينالوجية, كقوله: وكانت "طبقة العبيد أصبحت معروفة كطبقة مستقلة في هذه الفترة"( 11).وهذه العبارة تؤلف نواة الفكرة الأساسية لكتابه" أصل الأخلاق وفصلها"
ومنها مهاجمته للسياسة الديمقراطية "التي عاصرت سيادة العقل"( 12).وجميعها موضوعات بقيت أساسية في فلسفته.
ولأن الموقف من الفن هو الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب- بل وللفكر النيتشوي كلّه فيما بعد- أجد من المفيد جدا، إيجاز بعض مضامين هذا الكتاب وعلى النحو الآتي:
"إن الفن يستمد مقومات نموه المستمر من الثنائية المتمثلة في أبولو وديونيس.. نحن مدينون بالنسبة لألهي الفن أبولو وديونيسوس، بمعرفتنا أن هناك تعارضا هائلا في العالم الإغريقي، فيما يتعلق بالجذور والأهداف، بين الفن الأبولي في النحت وبين فن الموسيقى الديونيسي اللابصري، هذان الاتجاهان المتعارضان جدا "النحت والموسيقى" يتماشيان جنبا إلى جنب، في جفاء شديد عادة بينهما، متسابقين نحو استدراك جذور أكثر قوة، ما يعطي لصراعهما المتعارض طبيعة أبدية مفارقة فلا يلتقيان إلا عند عبارة الفن فقط"( 13).
وأبولو عند الإغريق هو "إله كل القوى المبدعة
all plastic energies" وهو في الوقت نفسه إله العرافة the soothsaying god، انه المشرق، إله النور، وهو المهيمن على الظهور الجميل للعالم الداخلي للفنطازيا، إن الحقيقة السامية، التكامل بين هذه الحالات في تعارضها مع الواقع اليومي غير المفهوم جيداً، هذا الوعي العميق بدور الطبيعة، في توفير الشفاء والمساعدة على النوم والحلم هي في الوقت ذاته، النظير الرمزي لملكة العرافة وللفن على نحو عام يجعل الحياة ممكنة وجديرة بان نحيا فيها"( 14).
أما أبولو "فيمثل في نظري تجسيداً للفكرة العبقرية، مبدأ الفردانية، كسبيل وحيد للبحث عن الخلاص الحقيقي عبر الوهم".
وعن صلة الحياة اليونانية بالفن، من حيث كون الأخير وسيلة وملاذا يتم اللجوء إليه، هربا من قساوتها، يقول نيتشه، لقد أصبح كل ما يمكن أن يراه الإنسان الآن، هو الرعب فقط أو عبث الوجود"( 15).
وعن هذه اللحظة المتحدية التي تهدد الإرادة، يظهر ذلك، المنقذ, الفن، "الفن،وحدة القادر على تحويل هذه الأفكار المروعة عن الرعب وعبث الوجود إلى تمثلات يمكن للإنسان أن يعيش معها"(16 ).
أنها حالة "ترويض الرعب بواسطة الفن، الانعتاق الفني من فرض العبثية، لقد كان كورس السايتر المنشد لاغاني الدايثرمب،
the satyric chorus of the dithyramb هو وسيلة الخلاص في الفن الإغريقي"( 17).
غير أن الحال هذا لم يدم طويلاً هكذا، فلقد "واجهت التراجيديا الإغريقية نهاياتها، بطريقة مختلفة عن موت أخواتها الكبار في الفن، إذ أنها ماتت منتحرة، كنتيجة لصراع لا سبيل لحله، في حين أن أخواتها الكبريات متن بهدوء موتا طبيعيا بسبب تقادم العمر"( 18).
أما عن سبب موت التراجيديا، فهو على نحو عام انفصام ذلك التوازن الفريد الذي كان بين الإلهين ديونيزوس وأبولو، أو بعبارة أخرى محاولة بعض الشخصيات اليونانية الشعرية المسرحية في البدء, والفلسفية، فيما بعد, تغليبَ الجانب الأبولوني على الجانب الديونيسي، بعبارة أكثر دقة، تغليب الجانب العقلي الابولوني، على الجانب الحسي الغريزي الذي كان يمثله الإله، ديونيسوس.
ومثل هذا الإجراء، كان قد تم على يدي الشاعر يوربيدس، كما يخبرنا نيتشه، في مجموعة النصوص هذه "لقد ماتت التراجيديا، وبموتها مات الشعر أيضا, ولقد كان يوربيدس، هو الذي خاض معركة موت الدراما( 19)، إذ تبين لنا بجلاء أن استئصال العنصر الديونيسي القديم والقوي من التراجيديا، وإعادة بناء التراجيديا على أسس فنية وأخلاقية وفلسفية غير ديونيسية, كان هدفا سعى له يوربيدس
( 20). غير أن يوربيدس لم يكن في حقيقته سوى قناع لروح حارسة مولودة حديثا يدعى سقراط. وكان هذا الأخير يمثل تناقضا جديدا، قطباه ديونيس وسقراط، وفي خضم هذا النزاع بينهما حدث سقوط التراجيديا( 21).
ولذلك فان "يوربيدس، بوصفه شاعرا هو على نحو جوهري صدى لمعرفته الواعية الخاصة, وبرجوعه إلى فاعليته النقدية المنتجة، بدا له أن من واجبه أن يطلع الناس على نوعه المعرفي,أي أن يدخل موضوعيا إلى الدراما الكلمات التي استهل بها انكساغورس بحثه في الطبيعة: " في البدء كانت الأشياء كلها مختلطة مع بعضها، ثم جاء العقل وخلق النظام" .(22)
إن انكساغوراس في فكرته عن العقل ظهر بين الفلاسفة – كما قيل – الصاحي الوحيد بين جمع من السكارى
the only sober person amid a crowd of drunken ones.(23) وكان مبدأ يوربيدس الجمالي, أو لكي يكون أي شيء جمالياً، ينبغي أن يكون معروفا"( 24).
وهذا المبدأ كما سبق منا القول، مساويا لقول سقراط، "لكي يكون أي شيء خيراً، ينبغي أن يكون معقولا أولاً"( 25).
"ولذا يمكن أن يُعدّ يوربيدس، شاعر الجمالية السقراطية"( 26).
وفي حقيقة الأمر أن يوربيدس يتفق مع سقراط على جملة من القضايا منها، أنهما متفقان على : "أن الكون مرتّب في أحسن نظام، ووصل التفاهم والتناغم بينهما، إلى درجة أن سقراط – كما يقال- كان يساهم في كتابة المسرحيات اليوربيدية، ويساعده في تحديد مضمونها وأهدافها"( 27) كما أنهما يتفقان على " تحررهما من الأسطورة، بل الأكثر من ذلك قتلهما وتدميرهما لها، وهذا بسبب نزعتهما العلمية، فقد كان يوربيدس- مدفوعا بنزعته الواقعية والعقلانية – يعمل على تمحيص الأسطورة، والتشكيك فيها"( 28)
وهكذا يكتشف ويكشف نيتشه، أن سقراط اعتاد أن يساعد يوربيدس في كتاباته، ثم ما لبث أن تحول سقراط المتحضر إلى قديس جديد لدى الشباب من النبلاء اليونانيين، وفي المقدمة كان منهم الهيليني النموذجي أفلاطون.. الذي احرق ما كتبه لكي يكون احد تلامذة سقراط( 29).
وفي معرض الإجابة عن السؤال نفسه, بصورة تفصيلية, بغية إضاءة معنى الرجوع إلى الإغريق، نقول: في هذا المؤلف، يجعل نيتشه "للتراجيديا قطبين مختلفين وقد عبر عن هذا الازدواج باسم ديونيسوس وأبولون، وهو ازدواج يفيد التعارض بين الصوفي والذوقي، والعقلي البرهاني، بين الإرادي والمنطقي، بين المقيد المجدد، والمتحرر الطليق"( 30).
الديونيزوسي، يعبر عن اللذة والألم، الفرح والرهبة، ويعبر عن ذوبان الإنسان في الطبيعة، أما الأبولوني، فهو يحرر الإنسان من كل اندفاعاته المتوحشة، ويجعله متوازناً ومنسجماً، ومن هذا التقابل، يلاحظ التناقض بين نوعين من المنطق أو صورتين من التفكير، هما: النمط الغريزي القائم على المخاطرة والإقدام والذي يتجسد في الرقص والموسيقى والمسرحية، والنمط الثاني هو النمط التأملي الهادئ والتفكير العقلي القائم على الحوار المنطقي والتريث الفلسفي( 31) ابولون، بمزيد من التحديد "رمز غريزة فن التشكيل، وهو إله الوضوح والنور والقياس والتشكل والتأليف المتناسق، أما ديونيزوس فهو على العكس، إله الفوضى المفرطة، واللا شكل، وتيار الحياة الصاخب والهذيان الجنسي، انه إله الليل، وهو بعكس ابولون إله الموسيقى، الموسيقى التي تغوي وتثير وتطلق عنان الأهواء جميعاً"( 32).

الهوامش

( 1) نيتشه : هذا هو الإنسان , ترجمة علي مصباح , منشورات الجمل , ألمانيا, ط2, 2006, ص 79.
( 2) المصدر نفسه: ص 79.
( 3) المصدر نفسه : ص 79-80.
(4 ) نيتشه : هذا هو الإنسان, ص 80-81.
( 5) المصدر نفسه: ص 81.
( 6) المصدر نفسه: ص 81 .
( 7) نيتشه: غسق الأوثان، ترجمة علي مصباح, منشورات الجمل, بيروت- بغداد,2010,ص 179.
( 8) نيتشه: هذا هو الإنسان : ص 81- 82.
( 9) ينظر نيتشه، فريدريك، مولد التراجيديا، ترجمة ماهر حسن عبيد، دار الحوار، ب ت ، ص 5، المقدمة.
( 10) المصدر نفسه: ص 61.
( 11) المصدر نفسه: ص 65.
( 12) المصدر نفسه : ص 66.
( 13) المصدر نفسه: ص 79.
( 14)
Nietzsche: the birth of tragedy from the sprit of music, translated by clifton p. Fadman, from "the philosophy of Nietzsche, the modern library, new york.p.170
(15)
Nietzsche: the birth of tragedy: p 259
(16 )
Ibid: p 210
(17 )
Ibid: p 210
(18 )
Ibid: p 234
( 19) نيتشه: مولد التراجيديا، ص 152
( 20) المصدر نفسه: ص 161
( 21) المصدر نفسه: ص 162
Nietzsche: the birth of tragedy 250. (22 )
(23 )
Nietzsche: the birth of tragedy 250
(24 )
Ibid: 250
(25 )
ibid: P250
(26 )
Ibid: 250
( 27) عنيات، عبد الكريم : نيتشه والإغريق، ص 106.
( 28) نيتشه : مولد المأساة ص170، وكذلك كيسيدس سقراط مسألة الجدل، ترجمة طلال السهيل، نقلا عن المصدر نفسه، ص 107.
( 29)
See ibid: 257
( 30) حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، المؤسسة الجامعية ، ص 217 نقلا عن عنيات، عبد الكريم، نيتشه والإغريق ص 59،
( 31) ينظر، عويضة، كامل محمد، فريدريك نيتشه نبي فلسفة القوة، دار الكاتب العلمية، 1993، ص 13
( 32) فنك، اويغن: فلسفة نيتشه, ص 22.



روابط مقالات إضافيّة:

عادل عبدالله: زرادشت نيتشه
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=426830

عادل عبدالله: نيتشه/هيغل؛ الصراع على هيراقليطس.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=426978


 

لوك فيري: الفلسفة خلاص علماني




 

 

الفيلسوف الفرنسي لوك فيري: الفلسفة خلاص علماني
http://www.alarab.co.uk/?id=75284
 
لوك فيري هو واحد من الفلاسفة الجدد الذين حاولوا إحداث القطيعة مع الاتجاهات الفلسفية 
التي كانت سائدة مع جيل الرموز والأسماء اللامعة التي سطعت في سماء الفكر الفرنسي
سنوات الستينيات والسبعينات أمثال سارتر، جاك ديريدا، جيل دولوز وميشال فوكو وغيرهم.
وكغيره من هؤلاء الفلاسفة الجدد أمثال ميشال أونفري وأندري سبونفييل وفريديريك شيفتر
 وباسكال بروكنر  على اختلاف مشاربهم، أراد أن يخرج الفلسفة من سجن التأمل النظري
وينزل بها إلى أرض الواقع لتنشغل بقضايا الحياة العملية والمشاركة في الصراع السياسي
والثقافي، وقد شغل منصب وزير التربية قبل بضع سنوات. تخرج من السوربون ومن
هيدلبرغ  بألمانيا ودرَّس الفلسفة والعلوم السياسية بجامعات فرنسية كثيرة قبل أن يبدأ بنشر
 إنتاجه الفكري ابتداء من سنة 1984 والذي استهله بكتاب “الفلسفة السياسية” في 3 أجزاء.

 

العرب http://www.alarab.co.uk/emicons/feather.pngحميد زناز [نُشر في 13/03/2016، العدد: 10213، ص(12)]

باريس ـ عرف لوك فيري وبدأ يسطع نجمه إثر إصداره بمعية ألان رونو سنة 1985 الكتاب الذي أثار ضجة كبرى في فرنسا تحت عنوان “فكر 1968″ الذي وجه نقدا لاذعا للأيديولوجيا السائدة قبل وبعد أحداث 68 بفرنسا. ثم توالت إصدارات غزيرة لاقى بعضها نجاحا كبيرا في المكتبات كــ”النظام الإيكولوجي الجديد” و”الإنسان-الإله أو معنى الحياة” و”ثورة الحب، من أجل روحانية علمانية” وغيرها.. وآخر ما صدر له “الابتكار المدمر” (2014). بالإضافة إلى مجموعة من التسجيلات في شكل أقراص مضغوطة حاول أن يبسط عبرها تاريخ الفلسفة وأهم قضاياها.

◄الجديد: “لا تهتم الفلسفة بشيء غير محاولة إيجاد معنى للحياة، وقد أمضيت قرابة الأربعين عاما وأنا أبحث عن هذا التعريف، تقول، ولهذا السبب، فهو التعريف الأقرب إلى قلبي”. هل تفضلت بشرح هذا الاكتشاف؟

* لوك فيري: يلتقي التلاميذ في فرنسا بالفلسفة في نهاية المرحلة الثانوية، في السنة النهائية تحديدا، كما تعلم. وحينما ندقق النظر في الكتب المدرسية والمقررات البيداغوجية المخصصة لهذه المادة نجدها تقدم أساسا عن طريق كلمات مفتاحية ثلاث: التفكير، البرهنة، النقد. والفكرة المركزية التي يدور حولها تعليم هذه المادة هي عرض الفلسفة على أنها ضرب من التفكير أو طريقة في التفكير موجهة لمساعدة الشبان والشابات على الوصول إلى نوع من الاستقلال الفكري وتمكينهم من الوصول إلى التفكير بأنفسهم.

وإن كانت هذه النظرة جديرة بالتقدير وقد تكون حتى مفيدة من زاوية “التربية المدنية”، فإن هذا التصور لا علاقة له إطلاقا بالفلسفة كما كانت في القديم وكما لا زالت في الحاضر. وأنا أعي ما أقول. ولا يختلف اثنان في أن كل فيلسوف بأتمّ معنى الكلمة يفكر ويبرهن ويستعمل العقل النقدي. ولكن من لا يفعل ذلك؟ كثيرون..

هل تعتقد، عن جد، أن عالم بيولوجيا أو فنانا، أبا أو أما لعائلة، لا يفكرون ولا يقدمون أدنى حجج؟ الكل يفكر ويملك عقلا نقديا ويحاول البرهنة على ما يقدم من أطروحات، حتى رجال السياسة والإعلام. ومع ذلك، وهذا أقل ما يمكن قوله، فهم ليسوا بفلاسفة! وهذا هو السبب الذي جعلني أقترح تعريفا آخر للفلسفة، كتعريفها بأنها “مذهب خلاص” علماني، يدخل في تنافس مع الديانات الكبرى. فكل الفلسفات الكبرى، دون استثناء، هي مذاهب خلاص دون إله.

◄ الجديد: هل تصبح الفلسفة عقيدة بدورها؟

* لوك فيري: في والواقع وعلى عكس الديانات الكبرى، تعِدُ الفلسفة أولئك الذين يريدون تكريس حياتهم لها بأنهم سيتمكنون من إنقاذ أنفسهم بأنفسهم وعن طريق العقل في حين أن الأديان الكبرى تعد الإنسان بإمكانية الوصول إلى الخلاص ولكن عن طريق الآخر، الله (وليس بنفسه) وعن طريق الإيمان (وليس العقل). وهنا يكمن في رأيي الفرق الحقيقي الوحيد بين الفلسفة والدين.

◄الجديد: ولكن السؤال الذي يطرح رأسا هو المتعلق بمعنى ذلك الخلاص.. نتخلص من ماذا؟

* لوك فيري: “الخلاص، تقول المعاجم، هو فعل النجاة من خطر كبير أو مصيبة كبيرة”. وجاءت كلمة “خلاص” في اللغة اللاتينية واليونانية من فعل “أنقذ”. ولكي نذكر فيلسوفين يونانيين أساسين إبيكتيت وأبيقور، فمن أيّ خطر أو من أيّ مصيبة أراد المفكران إنقاذ تلامذتهما وأتباعهما وهما المختلفان جذريا؟ أولا من الخوف الذي يهدد وجودنا ويحاصره، وربما نحسن القول إذا قلنا من ذلك الخوف الذي يعكّر صفو حياتنا ويمنعنا من الحركة.

فالرغبة في الحكمة، ونشدان السكينة، تلك هي الترجمة الأحسن والأقرب لكلمة فيلو-صوفيا. هي القناعة بأننا ما دمنا مطوّقين بالخوف فمن المستحيل أن نصل إلى “الحياة الطيبة” ومن المستحيل بلوغ السكينة ومن هنا فمن المستحيل أن نكون أحرارا في نفوسنا وأن ننفتح على الآخر وأن نتمتع بأريحية ما: حينما نخاف نكون مضطربين، متلعثمين، بمعنى نكون غير أحرار ومتقوقعين على ذواتنا في آن. لكي نصل إلى السكينة، من الضروري التغلب على خوفنا وهواجسنا، وخلافا للديانات التوحيدية الكبرى، تعدنا الفلسفة بأننا نستطيع وبأنفسنا وعن طريق العقل بلوغ تلك السكينة، وليس عن طريق الغير أو الإيمان.

 

الجديد: من أين يمكن أن يستمد المرء الطاقات لبلوغ “حياة طيبة” وهو يعيش في قارة عجوز لم تعد تؤمن بنفسها؟ “أنا أورو- مركزي”، هكذا تقول، فهل شرحت لنا أكثر؟

* لوك فيري: كثيرا ما أسمع وعلى الخصوص على لسان رجال الدين والمتدينين عموما أن مجتمعاتنا الأوروبية العلمانية وبما أنها بعيدة بل محرومة كثيرا من البعد الروحي، فهي قد استسلمت إلى وهم “أنا بدون النحن” الغارق في أنانية مفرطة. ولأنها مجتمعات تعيش قطيعة شبه كلية مع المطلق، فستسقط في نسبية يائسة. ولئن كان العالم الإسلامي يعيش فائضا في مجال المقدس، فمن المؤكد أن الغرب يعاني نقصا فادحا في الأمر. فالأول عامر أكثر من اللزوم والثاني فارغ إلى أقصى حد. وتحليل كهذا يجد صدى كبيرا لدى كل الذين، سواء كانوا مؤمنين وغير مؤمنين، من اليسار أو من اليمين، والذين لم تفلح مجتمعاتنا الليبرالية في إرضائهم. وشخصيا لا أتفق مع هذا التحليل فحسب بل أذهب مذهبا مضادا له تماما.

◄الجديد: كيف ولماذا؟

* لوك فيري: أولا، نحن لا يمكن أن نطلب من الديمقراطيات العلمانية والتي هي من اختراع الحضارة الأوروبية، الشيء ونقيضه، فلا يمكن أن تكون هذه الديمقراطيات عامرة وخاوية في نفس الوقت، فبطبيعة تكوينها وبنائها هي تشكل إطارا ليس من مهمته إعطاء معنى وفرضه كأيديولوجية رسمية، وإنما هي بناء من أجل تنظيم التعايش السلمي بين الأفراد فقط.

فأن نطالب من مجتمعاتنا أكثر من ذلك فهذا لعمري التناقض بعينه. وقليل من الناس – وعلى الخصوص أولئك الذين استبدلوا الروحانيات التقليدية بديانات الخلاص الأرضي والذين لا يزالون ينتظرون من الدولة يائسين أن تحدد غايات جليلة للجميع – هم قادرون على فهم وهضم الفكرة الأساسية التالية: بما أن بنية الدولة الليبرالية علمانية في جوهرها، بمعنى محايدة، فلكل منا والحال هذه أن يعطي معنى لحياته بطريقة فردية. والفردية لا تعني هنا أن يكون الفرد منعزلا عن الآخرين، “دون الآخرين” وإنما “دون الدولة”.

إذ يمكن بناء علاقات لا متناهية مع الآخرين، عاطفية وثقافية وعائلية وجمعوية أو سياسية، سُمح بها في مجتمع مدني مسالم وضعت فيه العلمانية حدا للحروب الدينية وباتت تحترم فيه حقوق الإنسان ويحترم فيه الغير. وعلى أيّ حال، فالدولة الليبرالية لا تهمل أبدا أو تتجاهل الجانب الجماعي، وإنما فقط يعود للأفراد أنفسِهم نسج علاقات خصبة، وإعطاء معنى لوجودهم وبناء ذواتهم بذواتهم، وهو أمر أصعب بكثير من ترك الأمر لأيديولوجية دينية رسمية. يجوز للدولة أن تحدد المبادئ العامة للقانون وضمان السلام الاجتماعي ولكن لا يمكن أن تذهب إلى أبعد من ذلك، فما بعد ذلك لا يخص سوى الإفراد وحدهم.

الجديد: لنعد إلى مسألة المقدس في أوروبا إذا سمحت، أنت تعتقد بأنه لم يختف، كيف؟

* لوك فيري: من يزعم بأن المقدس قد اختفى من المجتمعات الأوروبية الحديثة يرتكب خطأ مزدوجا: فأولا تبقى الديانات في هذه المجتمعات حاضرة بالمقدار الذي يحبذه الأفراد، وثانيا توجد رموز غير دينية فيما يخص العلاقة بالمطلق إذ المطلق ليس هو المقابل للدنيوي فقط بل هو أيضا ما يمكن أن نضحي بحياتنا من أجله، ولا نحتاج أن نكون مؤمنين لنقدس أوطاننا أو ببساطة الأشخاص الذين نحب مثلا. وبعيدا عن السقوط في خواء روحي بسبب عدم وجود ما فيه الكفاية من الدين، فعلى العكس تماما، فمجتمعاتنا الأوروبية هي أول المجتمعات المعروفة التي أصبحت حرة وأكثر أخلاقية في نفس الوقت من كل المجتمعات المعروفة حتى الآن في التاريخ كما في الجغرافيا. يريد البعض أن يوهمنا بأن أوروبا هي الاستعمار وتجارة الرقيق والإبادات الجماعية فقط!

◄الجديد: ولكن تلك حقائق لا ينبغي نكرانها..

* لوك فيري: الحقيقة أن قارتنا هي بالأحرى من ألغى العبودية ولم يكن ذلك الإلغاء مفروضا بالقوة وإنما جاء نتيجة الأنوار الأوروبية. ويقال أيضا إن شعوب الجنوب لم يعد يغريها النموذج الغربي الذي هو في سقوط حر! وألاحظ العكس تماما وخير شاهد على ذلك الآلاف من المهاجرين الذين يقصدون قارتنا اليوم مضحّين بحياتهم أحيانا. وعلاوة على ذلك، لقد مال كل شيء في العالم لصالح القيم الديمقراطية في السنوات الخمسين الماضية، في الشرق كما في أميركا اللاتينية بل حتى في الصين التي تسير بخطى سريعة نحو التغريب. ويبقى العالم الإسلامي الاستثناء الوحيد.

◄ الجديد: وبالنسبة إلى أوروبا لا انحطاط ولا شيء من هذا القبيل في رأيك؟

* لوك فيري: إذا كان هناك انحدار ما في أوروبا اليوم فهو على المستويين الاقتصادي والاجتماعي فقط. ولكن لا يعود ذلك أبدا إلى انعدام المبادئ الأخلاقية وإنما على العكس من ذلك، إذ قيمنا الإنسانية، الأخوة والتضامن والحماية الاجتماعية.. هي التي خلقت دول العناية والرفاه وهذا لعب دورا سلبيا ضدنا في إطار المنافسة المعولمة إلى درجة أصبح وضعنا صعبا أمام عدد الوافدين الجدد. ولهذا ينبغي أن نحافظ على نموذجنا الاجتماعي أكثر من أي وقت مضى.

◄الجديد: في كتابك ” الإنسان المؤله أو معنى الحياة “، تتابع تطور الأفكار التي انبثقت عن علمنة المجتمع الأوروبي، ونفهم انطلاقا من تحليلك أن القيم الأخلاقية تحل محل الدين أكثر فأكثر، وأن دليل الإنسان غدا مع مرور الوقت أخلاقية مؤسسة في جزء كبير منها على مبادئ حقوق الإنسان.. فهل هذه السيرورة قابلة للتعميم على العالم كله؟ وهل يمكن أن تحدثنا عن خصوصية الحضارة الأوروبية وتأليهها للكائن البشري؟

* لوك فيري: مثل الفيلسوف هيجل الذي وصف الوعي الشقي وصفا جيدا، لا يريد عدد كبير من المثقفين والنقاد في أوروبا الليبرالية والديمقراطية إدراك سوى ما ينهار ويموت في التاريخ، وتقريبا لا يرون أبدا ما ينبثق ويبدأ في الحياة. ومن هنا تلك النزعة التشاؤمية التي كانت قوية إلى درجة أطلقت العنان للفكر السلبي. ومن هنا أصبح التفاؤل يبدو سذاجة والتشاؤم ذكاء. وفي حقيقة الأمر أصبح هذا التشاؤم مرض العصر. ولم تعد تحصى الكتب التي تعلن انحطاط أوروبا، انهزام الغرب وسقوطه، اضمحلال المجتمع المدني، فشل الليبرالية المؤكد وغير ذلك من التكهنات التي نقرأ على طول صفحات تلك الكتب التي لا ترى مصير القارة العجوز سوى مأساويا. أحسن إجابة ربما على هذا الزعم مقولة جورج برنانوس الشهيرة “إذا كان المتفائل غبيا سعيدا، فليس المتشائم سوى غبي شقي”.

الجديد: كلمة جميلة وعميقة ولكن ماذا تقصد من ورائها هنا؟

* لوك فيري: يجب أن نعترف ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين أن الأنماط التقليدية للتضحية الجماعية، العنيفة وواسعة النطاق قد تم تجاوزها تماما. فمن يرغب اليوم، على الأقل في أوروبا، أن يموت في سبيل الله، أو من أجل الوطن أو الثورة؟ لا أحد أو تقريبا لا أحد. وعلى عكس الكآبة السائدة، أعتقد بأن أهم خبر سار ليس بالنسبة إلى القرن العشرين فقط وإنما بالنسبة لألفية كاملة هو انتهاء الحروب الوطنية. كيف يمكن أن لا أعتز وأبتهج بهذا السلم، أنا الفرنسي الذي درس الفلسفة بألمانيا التي كان أبي في حرب معها في الميدان؟ أما في ما يخص هراءات الماوية القاتلة التي خلّفت عشرات الملايين من الضحايا في ظروف فظيعة، فاستثناء بعض المثقفين الطاعنين في السن المسكونين بحب الظهور، فلا مثقف لا يسره تصفية هذه الماوية وذهابها إلى غير رجعة.

◄الجديد: وفي ما يخص الحروب اليوم؟

* لوك فيري: هي مقرفة تلك الحروب الدينية التي تلطخ العالم بالدماء اليوم! ولكن هل هذا يعني ويكفي للقول بأننا نعيش في عصر الخواء، إزاحة السحر عن العالم، والهروب المدني؟ لا أرى ذلك إطلاقا. بل ذلك هو وهم الوعي الشقي النموذجي الذي لا يحبّ أن يحبّ. ما نعيشه ليس إجهازا بأيّ حال من الأحوال على المقدس أو كسوفا للقيم وإنما هو تجسيد جديد لها في وجه جديد، وجه الإنسانية. اطرح على نفسك بكل أمانة السؤال التالي: من أجل من أو ماذا أنت مستعد للتضحية بحياتك؟ بكلمات أخرى، ما هو الشيء الذي تعتبره كمقدس، كجدير بالتضحية؟

◄الجديد: سأعيد توجيه السؤال ذاته إليك..

* لوك فيري: سيكون الجواب بالنسبة إلى أغلبيتنا الساحقة في أوروبا: الإنسان هو المقدس القريب والبعيد وليس التجريدات الفارغة للدين والسياسة التقليديتين. وبفضل هذه الليبرالية المفترى عليها كثيرا، نحن نعيش ولادة وجه إنساني جديد مغاير لإنسية فولتير وكانط وحقوق الإنسان والعقل وتلك الأنوار التي كانت حقا حاملة لمشروع تحرر واسع بيد أنه قاد أيضا إلى الامبريالية وإلى الاستعمار. ما نعيشه هو على النقيض من ذلك: إنسية ما بعد كولونيالية وما بعد ميتافيزيقا، إنسية تعال وحبّ وغيرية. ينبغي علينا ابتداع مقولات فلسفية جديدة من أجل التفكير في إشكاليات هذه الإنسية الجديدة والآمال المعلقة عليها. وأقل ما نقول هو إنّ هذا الرهان يستحق كل اهتمامنا.

◄الجديد: هل لديك فكرة عن الفلسفة العربية اليوم وهل تعتقد أن هناك فلسفة غير غربية؟

* لوك فيري: يبدو من تعريف الفلسفة الذي اقترحت منذ قليل أنها لا بد أن تكون علمانية أو لا تكون. وبطبيعة الحال يوجد علماء لاهوت ومفكرون كبار في مجال الدين كالقديس توما الإكويني وباسكال لدى المسيحيين وابن سينا وابن رشد في العالم العربي الإسلامي. فكتاب “فصل المقال” لابن رشد هو عمل رائع حقيقة ومؤلفه شارح عظيم لأرسطو وكان له تأثير كبير جدا على العالم المسيحي وآدابه. ولكن مهما كان الفكر عميقا، فإن ذلك لا يجعل منه فلسفة إذ لا يمكن التفلسف دون التحرر نهائيا من قبضة الدين.

◄الجديد: يقدم أندري كومت سبونفييل نفسه على أنه فيلسوف مادي مأساوي بينما يرى ميشال أونفري نفسه فيلسوفا متعويا.. فكيف يصنف السيد لوك فيري نفسه؟

* لوك فيري: كإنسي (هومانيست)، بطبيعة الحال، بالمعنى الثاني للكلمة الذي حدثتك عنه سابقا، إنسية الحب التي أحاول تشييدها منذ مدة من كتاب إلى آخر.


مقالات إضافية:

ساقية:
 http://www.saqya.com/tag/%D9%84%D9%88%D9%83-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%8A/

http://www.saqya.com/%d9%85%d8%a7-%d9%87%d9%88-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d9%87%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%81%d9%83%d9%8a%d9%83%d9%8a%d8%9f-%d9%84%d9%88%d9%83-%d9%81%d9%8a%d8%b1%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d8%a7%d9%88/

الشرق الأوسط:
 http://aawsat.com/home/article/365181/%D9%84%D9%88%D9%83-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D8%B5
 

غريزة الحرّية: تشومسكي والفوضويّة والطبيعة البشريّة/ عديّ الزعبي




 


غريزة الحرية: تشومسكي والفوضوية والطبيعة البشرية
عُدي الزعبي
الجمعة، 29 تموز 2016


هذا مقالٌ في الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية، كما يراها الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي.

في الزمن الراهن، أرى أننا بحاجة إلى إحياء مذهب يساري تحرري، يستطيع مواجهة التحديات الفكرية والعملية لعالمنا المعاصر، ويفتح المجال لمشاركة أوسع قطاعات من الناس في بناء حياتهم وتقرير مصيرهم. لذا، أقترحُ أن نعيد قراءة مفاهيم الاشتراكية التحررية، كما نجدها عند أقطابها: كروزا لوكسمبورغ، جورج أورويل، باكونين، كروبوتكين، برتراند راسل، نعوم تشومسكي، وغيرهم. لا نريد أن نقدّس نصوص هؤلاء المفكرين، بل أن نستفيد من أعمالهم لحلِّ الأسئلة المعاصرة والآنية. هناك اختلافاتٌ بين هؤلاء المفكرين، وهناك تقاطعات. اختياري لتشومسكي يأتي من الأهمية الاستثنائية لعمله الفلسفي، كما سنوضّح في متن المقال. مفهوم تشومسكي عن الطبيعة البشرية يتيح لنا بناء تيار فكري فوضوي اشتراكي تحرري عابر للثقافات1، وهذا جوهر حاجتنا اليوم في عالم تتقدم فيه النسبوية والتعصب والانغلاق، يداً بيد مع الرأسمالية والطغيان.

يتميز عمل تشومسكي بغناه الاستثنائي على صعيدين مختلفين تماماً: اللسانيات والنشاط السياسي. يُروى أن طلاباً من اليابان لم يصدّقوا أن الناشط السياسي تشومسكي هو اللغوي نفسه، تشومسكي صاحب القواعد التوليدية. أعمال تشومسكي تتوزع بين هذين القطبين، وتكاد تخلو من أي عمل متكامل يجمعهما معاً. باستثناء بعض المحاضرات والمقالات التي يتطرّق فيها إلى العلاقة بين النشاطين عرضاً، لا نجد شرحاً وافياً للعلاقة الملتبسة بين الحقلين2. من جهة، يعارض تشومسكي سياسة الولايات المتحدة بشدة، من منطلق الاشتراكية التحررية. من جهة أخرى، قاد تشومسكي الثورة الإدراكية في الفلسفة، أي الثورة في كيفية محاولة فهم الكائن البشري: يرى تشومسكي أننا يجب أن ننظر، أولاً، إلى البنى الفطرية العقلية، وليس إلى البيئة المحيطة بهذا الكائن، لتأسيس فهمنا للبشر؛ أي البحث في الطبيعة البشرية والبنى الإدراكية المشتركة بين البشر والمعطاة بيولوجياً، قبل البحث في البيئة المحيطة والثقافات المختلفة. سنشرح في هذا المقال أن ما يجمع النشاطين هو مفهوم الطبيعة البشرية، الذي يراه تشومسكي المحور الرئيس في علوم الإنسان: من اللغة إلى علم النفس إلى العلوم الاجتماعية، وصولاً إلى علم الجمال، وانتهاءً بالأخلاق والسياسة. هذه الثورة ستجعل تشومسكي، بنظر البعض، الفيلسوف الأهم في القرن العشرين، بلا منازع.

ينقسم مقالي إلى ثلاثة أقسام. الأول يناقش أسس العمل السياسي عند تشومسكي، والثاني الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية كما يراها فيلسوفنا، أما القسم الأخير فهو محاولةٌ للاستفادة من عمله في تطوير تيار عريض كوني لليسار التحرري، عابر للثقافات، في عالم اليوم.

النشاط السياسي: خطوط عامة للعمل التحرري

لا نريد هنا أن نستعرض عمل تشومسكي السياسي ونشاطه في فضح سياسات الولايات المتحدة وحلفائها. هذا الأمر أُشبع بحثاً وتحليلاً وتبجيلاً من قبل فئات يسارية تعادي إمبريالية أمريكا. لا يعنينا هذا الجانب من عمل تشومسكي، ولا نرى بأننا نستفيد منه كثيراً؛ بل على العكس، نرى أنه استُخدم من قبل منظّري السلطات عندنا للدفاع عن مواقفهم المنحازة لأنظمة قمعية تبرر وجودها بمواجهتها المفترضة مع إسرائيل وأمريكا. يحتاج هذا الأمر، أي توظيف تشومسكي وغيره من اليساريين، سواء بموافقتهم أو بالرغم عنهم، في الدفاع عن ديكتاتوريات العالم الثالث، مقالاً منفصلاً. ما يعنينا هو التنظير لاشتراكية تحررية تساعدنا على التخلص من أنظمة الطغيان القائمة عندنا. في هذا المجال، هناك كثيرٌ مما يمكننا الاستفادة منه في عمله، ومما يتجاهله منظّرو السلطات القمعية عامدين.

سنعمل، إذاً، على عرض الأسس التي يقوم عليها فكر تشومسكي السياسي، على أن نربط بينها وبين مفهوم الطبيعة البشرية في القسم التالي.

الملاحظة الأولى المثيرة في عمل تشومسكي، هي أن نشاطه السياسي المباشر لا يرتبط بعمله اللغوي والفلسفي. أكثر من ذلك، يرى تشومسكي أننا يجب ألا نربط بين العمل السياسي والفلسفي، بل يجب التمييز بين هذين العملين، قدر الإمكان3.

ثلاثة أسباب، متداخلة، تدعوه لتبني هذا الموقف.

أولاً، يعتقد تشومسكي أن معرفتنا بالإنسان ما زالت قاصرة وبدائية. لا يوجد معرفة علمية حقيقية في مجالات علم النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا4. أكثر من ذلك، يعتقد تشومسكي أن بعض الأسئلة لن نستطيع الإجابة عنها نهائياً، لأنها تقع خارج متناول المعرفة البشرية، ويطلق عليها اسم الألغاز أو الأسرار، في مقابل المشكلات التي يبدو أنها في متناول الحل. يميل تشومسكي إلى القول إن معظم الأسئلة حول حرية الإرادة وفهم الفعل البشري هي ألغازٌ لا سبيل للوصول إليها5.

على أي حال، الفعل السياسي ليس مرتبطاً بهذه الأسئلة النظرية. يعتقد تشومسكي أن علينا العمل لمواجهة الظلم وتحكم السلطات بالناس العاديين مباشرةً. من الخطأ الاعتقاد بأن العمل السياسي والدفاع عن المظلومين، يجب أن يؤجّل إلى أن نجد أجوبة شافية لأسئلة فكرية معقدة حول ماهية الإنسان وطبيعته 6.

في ظل هذا الجهل بطبيعة الإنسان، ما الذي يمكننا فعله؟

يرى تشومسكي أن الحسّ الإنساني السليم والفطرة البشرية الأخلاقية تستطيع أن تخبرنا ببساطة بالأحكام الصحيحة أخلاقياً، وهذه هي النقطة الثانية. يؤمن تشومكسي بأن الناس يعرفون الصواب والخطأ مباشرةً، وأن العمل على كشف الأكاذيب الحكومية يحقق نتيجة مباشرة: أن يرى الناس الواقع كما هو، وبالتالي سيعمل البشر على تغيير الواقع. لسنا بحاجة إلى نظريات أخلاقية معقدة وعميقة، بل بحاجة إلى كشف الزيف الحكومي. ما الذي نحتاجه لإدانة قصف غزة أكثر من الوقائع؟ أو لإدانة تدمير فيتنام على يد الولايات المتحدة او اجتياح الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان؟ ما الذي نحتاجه لإدانة النظام السوري أكثر من وقائع مفصلة حول تدمير المدن السورية بالبراميل؟ هذا يفسر لنا لماذا يعمل تشومسكي على سرد وقائع حرب فيتنام والقضية الفلسطينية بالتفصيل. عرض الحقائق، وحده، يكفي للوصول إلى حكم أخلاقي حول الصواب والخطأ7.

النقطة الثالثة في وجوب التمييز بين العمل النظري الفلسفي وبين النشاط السياسي والإيديولوجي. ليست السياسة والمقدرة على الحكم الأخلاقي حكراً على الخبراء، من سياسيين ومثقفين وإعلاميين وأساتذة جامعة وكتّاب وصحفيين وفنانين. أحد أهم وأقوى أسلحة السلطة هو الادعاء بأنها، أي السلطة، أو الدولة، أو حتى معارضتها الرسمية، أي الأحزاب التي تشكل بنية إيديولوجيّة تعكس بنية السلطة، أو تكون جزءاً منها، هو القول بأن الخبراء فقط يستطيعون اتخاذ القرارات السياسية الهامة. هذا سلاح يجب تحديه وإسقاطه. كما قلنا أعلاه، معرفتنا العلمية بالإنسان شبه معدومة، لذا فالقول إن الخبراء يستطيعون قيادة المجتمع قول فارغ مبني على كذبة تافهة: في الحقيقة، كل الناس يتمتعون بالمقدار نفسه من المعرفة في الشؤون السياسية والأخلاقية؛ وكلنا نجهل ما هو الإنسان، تقريباً8.

تحاولُ الحكومات أن تقنع مواطنيها بأنهم في أيدٍ أمينة، أيدٍ خبيرة تعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ، وتوجههم في الدروب الصحيحة. تتحكم السلطات بنا عن طريق هذه الكذبة. منذ الستينيات، رأى تشومسكي أن الاتحاد السوفييتي وطليعته الثورية وقيادته الشيوعية، والديموقراطيات الغربية، بتشويهها للديموقراطية، تحولت إلى ديكتاتوريات تتحكم بالناس عن طريق الإعلام، وجهاز كامل من الأكاذيب: المدرسة والجامعة والصحف وغيرها من وسائل التحكم. هذا التحكم يجب مواجهته وفضحه، عن طريق فضح كذبة الخبراء: لا خبراء في السياسة والأخلاق 9.

يصرّ تشومسكي على أن كافة الدراسات السياسية يجب أن تُكتب بسلاسة ووضوح وصدق. من هنا ينبع احتجاجه على التذاكي والشطارة والغموض الذي يطبع كتابات فلاسفة القارة، ككتابات لاكان وديريدا وجيجيك وغيرهم. يتبع تشومسكي هنا تراثاً أصيلاً في الفلسفة يُعلي من الوضوح والدقة ويحتقر الغموض والتذاكي، من أقطابه ديكارت وجون لوك وديفيد هيوم وجون ستيوارت مل. على أن هذا الأمر أصبح أكثر أهمية في القرن العشرين، حيث انفصلت الفلسفة التحليلية عن فلسفة القارة. برتراند راسل وكارل بوبر وجون سيرل و ج. ل. أوستن وغيرهم أشاروا إلى أهمية الوضوح والدقة في الكتابات الفلسفية والفكرية أيضاً. يوافق تشومسكي على أن بعض الكتابات العلمية قد تتسم بالصعوبة، ولكن لا يوجد أي صعوبة في السياسة والأخلاق والكتابات الاجتماعية. يسعى بعض الكتاب قاصدين إلى إحاطة أنفسهم بهالة من القدسية عن طريق نصوص سخيفة وغامضة، علّهم يكسبون بعض الأتباع. لا شيء أكثر إساءة للفعل السياسي من هذه النصوص10.

من هنا، كان تشومسكي يقول بوجود مسؤولية أخلاقية على المثقفين والأكاديميين؛ يتمتع هؤلاء بفرصة أكبر لرؤية الحقائق كما هي، ويتمتعون أيضاً بمكانة وحصانة نسبية في الدول الديموقراطية تتيح لهم أن يجدوا جمهوراً يصغي إليهم. المسؤولية تقتصر على عرض الحقائق وقول الحقيقة للناس. لا يوجد عمق نظري حقيقي، ولكن هناك شجاعة في عرض الحقائق وحاجة ماسة إلى وضوح ذهني لفضح وكشف شبكة الأكاذيب السلطوية. الإيديولوجيا تتحكم بوسائل الإعلام وبالتعليم وبالخطابات الرسمية؛ المسؤولية الرئيسية للمثقفين تكمن في فضح هذه الإيديولوجيا.

على أن تشومسكي يرى أن دور المثقف ينحصر بشكل شبه كامل في المجتمع الذي يعيش فيه المرء. على سبيل المثال، تشومسكي المثقف اليهودي الأمريكي يخصص نصف أعماله لانتقاد الولايات المتحدة وإسرائيل. يقدّر تشومسكي عالياً المنشقين اللذين ينتقدون مجتمعاتهم ودولهم. لا يوجد أي معنى ثقافي نقدي حقيقي في المثقف الأمريكي الذي ينتقد غياب الديموقراطية في المشرق، أو قمع الأقليات أو المثليين أو المرأة في دول العالم الثالث، ولكنه يصمت، بل ويشجع، تدخل الولايات المتحدة ودعمها لطغاة مصر والسعودية، على سبيل المثال. الأمر نفسه ينطبق على مثقفين عرب ينتقدون إسرائيل والولايات المتحدة ليل نهار، ولا يجرؤون على الإشارة إلى قصف حلب بالبراميل أو إلى اعتقال مئات الشباب في مصر السيسي أو الإعدامات في المملكة السعودية. الدور النقدي، من وجهة نظر أخلاقية، ينحصر في القدرة على التأثير على الناس، وعلى تغيير مجرى الأحداث، والتأثيرُ يكون أعمق وأبعد مدى عندما ينبع من الداخل. لا يستطيع المثقف الأمريكي التأثير علينا، كما لا يستطيع مثقفنا العتيد التأثير على الجمهور الأمريكي. حقيقةً، انتقاد الطرف الآخر يصبّ في توكيد ودعم المنظومة الإيديولوجية القائمة في الأصل على شيطنة الآخر، وعلى كوننا نحن الأخيار. لذا، هؤلاء اللذين يتخلون عن دورهم النقدي، متنكرين بشكل أعداء الإمبريالية هم في الحقيقة أصدقاء للطغيان، وللإمبريالية أيضاً، في العمق؛ والمثقفون الأمريكيون اللذين يريدون لنا الديموقراطية، وينتقدون الثقافة الإسلامية باستمرار، صامتين عن جرائم أمريكا، هم أعداء للديموقراطية في العمق11.

لا بأس من الإطالة هنا قليلاً. يُخطئ من يبحث عند تشومسكي على إجابات ومواقف واضحة لتحدياته الآنية. تشومسكي، أدان ديكتاتورية القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وابنه، وسمّاهم بالاسم. أيضاً، أدان وبشدة الاتحاد السوفييتي واستعباده للبشر، من لينين وتروتسكي، إلى ستالين وخروتشوف وبقية الرفاق، وأدان الخمير الحمر وديكتاتوريات العالم الثالث. إلا أن موقفه من الأحداث التي تقتضي مواجهة طغاة لا يتبعون مباشرة لأمريكا معقّد وغير مريح، برأيي.

لا يلتزم تشومسكي بالدور الذي رسمه لنفسه، غالباً ما يعلّق على الصراعات التي لا تتعلّق بالضحايا المباشرين للسياسة الخارجية الأمريكية من وجهة نظر الناصح الذي يحذّر من الدور الأمريكي المخرّب، متجاهلاً بعض الحقائق والأرقام، التي يبرزها بوضوح في حالات العداء لأمريكا. يبدو في مثل هذ الصراعات كأنه يطلب من الناس أن تلتفت إلى خطر مفترض بعيد بدلاً من مواجهة طغاة مفسدين مباشرين، ويكاد يتماهى أحياناً مع أولئك اللذين ينتقدهم باستمرار: من يبررون الطغيان باسم اليسار. هكذا، تكاد تمّحي الفوارق بينه وبين مناصري اليسار التسلطي الذي يعاديه تشومسكي نفسه12.

في التحذير من حكم الخبراء، ينطلق تشومسكي من أفكار فوضوية معروفة تتجه إلى الناس لا إلى السلطات. يرافق ذلك شكٌّ عميق بفعالية الديموقراطية التمثيلية؛ ويطالب بتنظيمٍ اجتماعيٍ يعتمد على المشاركة المباشرة للناس في تسيير شؤون حياتهم. يكرر تشومسكي أن لا شيء أصيلاً لديه ليضيفه إلى التراث الفوضوي، ينطبق الأمر ذاته على انتقاداته للرأسمالية.

تُشكّلُ الأفكار السابقة أسس عمل تشومسكي السياسي، وتتلخص في النقاط التالية: يجب التمييز بين العمل النظري الفلسفي والعمل السياسي؛ كل الناس يشتركون في الملكة الأخلاقية التي تتيح لهم الحكم على الوقائع السياسية الأخلاقية بسهولة ويسر، ولا يوجد أي سبب للادعاء بأننا نملك نظريات علمية اجتماعية أو نفسية عميقة. على المثقف والأكاديمي مسؤولية فكرية لكونه يملك منابر عامة ويستطيع الوصول إلى الحقائق، وعليه أن يستغل هذه المنابر لفضح السلطات وإيديولوجيتها التي تسعى إلى السيطرة على البشر. الناس هم من سيغيرون الواقع: الناس العاديون اللذين يجب أن يحصلوا على حقهم في تقرير حياتهم وإدارتها، كما قال الفوضويون.

القسم التالي سيناقش صلة الوصل بين العمل الفلسفي النظري والنشاط السياسي الفوضوي.

الأصول الفلسفية للاشتراكية التحررية: الطبيعة البشرية

قلنا إن تشومسكي يميز بين عمله السياسي وعمله الفلسفي/اللغوي؛ وأحد أسباب هذا التمييز أن العمل السياسي لا يحتاج إلى نظريات علمية ولا إلى فكرٍ عميق، بل يحتاج فقط إلى شجاعة ووضوح، على العكس من العمل اللغوي الذي يدخل ضمن النطاق العلمي. على الرغم من ذلك، هناك صلة وصل بين العملين. في هذا القسم سنشرح هذه الصلة، ألا وهي مفهوم الطبيعة البشرية، وكيف تربط بين العمل السياسي والفلسفي.

سنبدأ بعرض مفهوم الطبيعة البشرية كما يراه تشومسكي، من خلال تقديم رؤيته للصراع بين التجريبيين والعقلانيين، ثم سننتقل إلى الجانب السياسي من صراع التجريبيين والعقلانيين، وفي النهاية إلى تأصيل الاشتراكية التحررية في مفهوم الطبيعة البشرية، أي الصلة المباشرة بين الفلسفة والسياسة.

يشكل الصراع بين التجريبيين والعقلانيين أحد أهم أوجه الصراع الفكري في تاريخ الفكر الغربي، وفي مقال سابق (تشومسكي قارئاً راسل) عرضتُ بعض جوانب هذا الصراع بتبسيط. سأكرر هنا العرض الرئيس للتيارين المذكورين كما ورد في المقال السابق، متعمّقاً في التفاصيل، قبل أن نبحث في النتائج السياسية لكل منهما.

يتمحور تاريخ الفلسفة الغربية، منذ القرن السابع عشر، حول صراع التجريبيين والعقلانيين الذي يدور حول السؤال التالي: هل المعرفة البشرية مكتسبة من خلال التجربة أم فطرية؟ قال التجريبيون إن المعرفة تأتي عن طريق الخبرة والتجربة؛ في حين قال العقلانيون إن جزءً رئيساً من المعرفة فطريٌ غير مكتسب، وإن جميع الناس يشتركون، بالولادة، بمجموعة معارف ثابتة13.

منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، سيطرت التجريبية بشكل شبه كامل. أتت ثورة تشومسكي في اللسانيات لتبعث العقلانية من جديد. لأكثر من خمسين سنة، دافع تشومسكي عن أطروحته البسيطة القائلة بأن قواعد اللغة معطاة بيولوجياً، فطرياً، لجميع البشر، وأن هذه القواعد التوليدية العامة تشترك فيها جميع اللغات البشرية. اليوم، في علم اللغة، يرى الباحثون أن تشومسكي وخلفاءه قد ربحوا المعركة. لم يعد أحد تقريباً يؤمن بأن معرفة اللغة مكتسبة فقط عن طريق التجربة والبيئة، في العالم الأنكلو-ساكسوني على الأقل.

لنسجل بدايةً أن العقلانيين يؤكدون بالطبع أن جزءاً كبيراً من المعرفة يُكتسب عن طريق الخبرة والتجربة، ولكنّهم يُصرّون على أن بعض المعرفة يجب أن تكون فطرية. حجم وطبيعة هذه المعرفة الفطرية، وماهيّتها بالضبط، هو السؤال الذي تحاول الفلسفة، وبقية علوم العقل، الإجابة عليه اليوم. ولنسجل أيضاً أن هناك فارقاً بين فطرية القرن السابع عشر وفطرية القرن العشرين14. كان فطريو القرن السابع عشر يبحثون عن معرفة بالقضايا والمفاهيم، كمعرفة الله على سبيل المثال. في القرن العشرين، اتجه البحث نحو بُنىً تسمح بتلقي الخبرة، وليس معرفةً بالمعنى التقليدي. هناك نقاش عميق حول استخدام كلمة «معرفة» هنا، وتشومسكي نفسه لم يكن متّسقاً دائماً، كما يبدو. أياً يكن الإشكال حول «المعرفة»، وحول العلاقة بين فطرية القرن السابع عشر وفطرية القرن العشرين، الحجة الفلسفية هي ذاتها: لا يمكن تلقي الخبرة دون بنية أو معرفة أصيلة داخلية فطرية، سواء كانت معرفة بقضايا أم بنى تحدد قواعد اللغة، وغيرها من الخبرات المكتسبة.

أحد أبرز إنجازات تشومسكي الفلسفية تكمن في إعادة قراءة الصراع بطريقة جديدة ومختلفة. ما هو الجديد في قراءة تشومسكي، بالضبط؟

يرى تشومسكي أنه لا يوجد تجريبيون راديكاليون، بمعنى أنه لا يوجد شخص عاقل يُنكر وجود بنية فطرية في الدماغ تسمح لنا بتلقّي المعلومات والخبرة من البيئة المحيطة بنا. لو لم تكن مثل هذه البنية موجودة ومحددة بيولوجياً منذ الولادة، لما استطعنا تلقي أي معلومات من البيئة. لا يوجد أي خيار آخر، ولا يوجد أدنى احتمال بعدم وجود مثل هذه البنية: عدم وجود بنية تسمح بتلقي الخبرة، يعني عدم القدرة على تلقي الخبرة. إنكار هذه البنية هو لغو فارغ غير معقول على الإطلاق. بهذا المعنى، يعيد تشومسكي قراءة الصراع على أرضية مختلفة تماماً: هناك بنية تسمح بتلقي المعلومات، والصراع بين العقلانيين والتجريبيين يدور حول ماهية هذه البنية.

تشومسكي يقرأ بطريقة مختلفة أقطاب التجريبية، لم يكن معظمهم تجريبيين راديكاليين، لأن هذ الموقف غير معقول. هيوم، الذي يؤخذ عادةً على أنه أبو التجريبية، يقول بوجود بنية سطحية بسيطة. ولكن تشومسكي يجادل بأن البنية الفطرية معقدة وشديدة الغنى، وتختلف بعمق بحسب الأنواع البيولوجية، وتختلف أيضاً بحسب القدرات المختلفة لكل نوع، وتختلف، أيضاً، بدرجات مختلفة وتبعاً للقدرات المدروسة، بحسب أفراد كل نوع. أي أن الخلاف بين التجريبيين والعقلانيين تحول إلى الأسئلة التالية: هل البنى الفطرية، تحديداً العقلية، تختلف بين الأنواع، وإلى أي درجة؟ هل البنى الفطرية، تختلف بحسب القدرات المدروسة، أي هل هناك بنى فطرية مختلفة عند الإنسان مثلاً، لكل من اللغة وحل المشاكل العلمية والتفاعل الاجتماعي والموسيقا وغيرها، أم أن هناك بينة واحدة لكل هذه القدرات؟ وهل البنى متقاربة أم مختلفة بين الأفراد؟ يجيب تشومسكي، والعقلانيون عموماً، بالإيجاب على كل من هذه الأسئلة، باستثناء الأخير، حيث الاختلافات، التي يُفترض وجودها، تتغير تبعاً للقدرات المدروسة، ولكنها قليلة الأهمية من وجهة نظر علمية وعملية. في حين ينحو التجريبيون إلى الإجابة بالنفي. المقصود أن الخلاف التجريبي العقلاني ما زال قائماً، ولكن على أرضية مختلفة: هل يتشكل الإنسان بشكل رئيس تبعاً لبيئته، أم تبعاً لبنية داخلية؟ يُعلي العقلانيون من شأن البنية الداخلية، في حين يُعلي التجريبيون من شأن البيئة المحيطة. لا ينكر أي منهما وجود بنية فطرية أو دور رئيس للبيئة؛ الخلاف حول درجة وطبيعة كلٍّ من هذين العاملين15.

هذه البنية الداخلية هي الطبيعة البشرية، التي نولد بها، وتميزنا عن الأنواع الحية الأخرى. لا ينكرها أحدٌ من الفلاسفة تقريباً16، وعليها سيبني تشومسكي ثورته اللغوية، ورؤاه السياسية اليسارية الفوضوية17.

ننتقل الآن إلى الوجه السياسي للصراع التجريبي/العقلاني، كما يراه تشومسكي.

يرى تشومسكي أن انتصار التجريبية الراديكالية وإنكار الطبيعة البشرية، أو التجريبية على العموم بنسختها الأكثر اعتدالاً، يشكل أحد أعمدة حكم الخبراء الديكتاتوري، كما تجلى في القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. انتشرت التجريبية وسادت بشكل غير مسبوق في العلوم الإنسانية والاجتماعية في بدايات القرن العشرين، وترافقَ ذلك مع صعود اللينينية والستالينية من جهة، ومشروع السيطرة والتحكم بآراء الناس وتوجهاتهم في الولايات المتحدة منذ العشرينيات. يستند كلا المشروعين على تجريبية راديكالية عميقة تؤمن بإمكانية إخضاع البشر وتكوينهم بحسب رغبة الحكام والمدرسيّن والإعلام، أي بحسب رغبة السلطات، طالما أنه لا يوجد طبيعة بشرية، وطالما أن البشر يتشكلون بشكل كامل بحسب البيئة المحيطة بهم. تجسَّدَ انتصار التجريبية في سيادة المذهب السلوكي في تلك الفترة18.

يرى تشومسكي أن الجانب السياسي للعقلانية هو في العمق أقرب إلى التحرر منه إلى الطغيان، وحجته هي التالية: إن كان البشر يتشكلون بشكل كامل من خلال البيئة المحيطة، أي العادات والتقاليد والثقافة والتربية، سيتمكن أي طاغية يتحكم بالإعلام والتعليم والرقابة من إخضاع الناس لرغباته وسلطاته. هذه النتيجة بسيطة وتنبع مباشرة من الراديكالية التجريبية التي تنكر الطبيعة البشرية وترى أن الإنسان يتشكل بشكل كامل من خلال البيئة المحيطة. في المقابل، الفطرية تجعل البشر مقاومين لمحاولات تشكيلهم من قبل السلطات. للبشر طبيعة أصيلة، تجعلهم يقاومون محاولات قولبتهم وخلقهم بالشكل الذي تريده السلطات. الفطرية، في جوهرها، معادية للطغيان.

الحجة السابقة هي جوهر تفكير تشومسكي السياسي الفلسفي.

ثلاث نقاط بحاجة إلى شرح وتوضيح.

أولاً، لا يوجد علاقة ضرورية منطقية، ولا حتى تاريخية، بين التجريبية والطغيان أو بين العقلانية والحرية. أي أن العقلانية، أو التجريبية، من الممكن أن تخدم الحرية أو الطغيان. قد يرى القائل بالطبيعة البشرية أنها خلقتنا بشكل محدد وبمراتب معطاة لكل فرد، أو أن الرجل أذكى من المرأة، أو أن المثلية الجنسية انحراف عن الطبيعة البشرية، أو أن البيض أرقى من الملونين؛ كل هذا الكلام الفارغ قدمه دعاة الطغيان باسم الطبيعة البشرية. ولكن لم يقدّم أحد دليلاً علمياً على أن هذه الادعاءات تنتمي إلى الطبيعة البشرية.

من جهة أخرى، يبدو أن بعض التجريبيين، أي من ينكرون وجود طبيعة بشرية، يقفون إلى جانب الحرية. ألّا يكون للإنسان قدرٌ مسبقٌ مكتوبٌ عليه، يفتح كافة إمكانيات المستقبل للبشرية. لا يوجد طبيعة بشرية ثابتة غير قابلة للتغيير. هذه الطبيعة الثابتة، تبعاً للتجريبيين الراديكاليين، أسطورة تنتمي إلى عصور متخلفة، مرتبطة بأديان وثقافات تحاول السيطرة على الإنسان وكبحه باسم الطبيعة البشرية. تأتي التجريبية الراديكالية لتحرير الإنسان من كل هذا القمع الممارس باسم الطبيعة البشرية.

تاريخياً، ارتبطت أسماء اقطاب التجريبيين بالحرية، من الإنكليز لوك وهيوم ومل وبرتراند راسل في مرحلته التجريبية المبكرة، إلى فولتير والموسوعيين الفرنسيين من أتباع لوك19، إلى الاشتراكيين أتباع ماركس الكهل، وغيرهم.

بالنتيجة، يستطيع المرء أن ينكر أو يؤكد الطبيعة البشرية، ويبقى مناصراً للطغيان أو داعياً للحرية.

نعوم تشومسكي يجادل بأن إنكار الطبيعة البشرية، في القرن العشرين، زوّدَ منظّري الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بإيديولوجيا تدعم محاولتهم التحكم في رقاب الناس. هناك حالة تاريخية أخرى يشير إليها تشومسكي، ربطت بين التجريبية والطغيان: لوك وعنصريته تجاه الملونين. حتى في عصر العقل (أي القرن السابع عشر)، وعند أقطاب التنوير، استندت العنصرية إلى راديكالية تجريبية: السود وأبناء المستعمرات ليسوا بشراً كالأوروبيين، لأنهم أبناء ثقافة مختلفة لا تحترم العقل أو الحرية. هنا، بعض أصوات العقلانيين رفضت العنصرية: كل البشر يولدون متساوين في العقل، وكلهم يسعون إلى الحرية ويستحقونها.

ثانياً، المفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية. يصرُّ تشومسكي على أن كل ما يُقال عن الطبيعة البشرية هو تخمينات. من هنا، عمله الفلسفي يثبت نقطة واحدة بسيطة: لا بد من وجود بينية فطرية، طبيعة بشرية، تسمح بتنظيم الخبرة الخارجية. حجم وطبيعة هذه الطبيعة، وعلاقتها بالبيئة، وتفاعلها مع الأنظمة الإدراكية المختلفة، هو أمر نجهله اليوم. يقتبس تشومسكي من أعمال باكونين وهمبولت وبرتراند راسل. دافع هؤلاء عن مفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية، حيث يولد الناس بقدرات خلاقة متنوعة، وعلى الفلسفة السياسية أن تسعى إلى خلق عالم حر، يسمح لهذه القدرات بأن تنمو وتزدهر وتثمر. كي تكون العقلانية الفطرية قريبة من مذهب سياسي تحرري، يجب أن تدافع عن مفهوم إنسانوي للطبيعة البشرية الخلّاقة. المزيد عن هذا المفهوم الإنسانوي سنعرضه أدناه في النقطة الثالثة التي سنناقشها.

ثالثاً، الفوضوية. يرى تشومسكي أن الفوضوية هي الوريث الشرعي لليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية معاً. تحرير قدرات الناس كان في صلب اهتمامات الليبراليين الأوائل، على أنهم لم يدركوا أن رأس المال سيتحكم بالناس بطريقة مشابهة لما تفعله الدولة أو الكنيسة في زمنهم. هذا ما رآه ماركس والاشتراكيون بوضوح في القرن التاسع عشر.

تكمن أحد أبرز إنجازات تشومسكي في الفلسفة السياسية فيما يلي: يربط تشومسكي بين دراسته للغة وبين أعمال أقطاب الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية والفوضوية. ما قال به ديكارت، وما أثبتته اللسانيات التوليدية، يُضاف إلى أعمالٍ تتراكم منذ الخمسينيات عن البنى الرئيسة الإدراكية، تربط الطبيعة البشرية الخلّاقة التي قال بها باكونين وكروبوتكين وآخرون، مع الاستخدام الخلّاق للّغة عند ديكارت: ربطُ تراثِ ديكارت بتراثِ باكونين هو إنجازُ تشومسكي الرئيس في الفلسفة السياسية.

أقطاب الفوضوية، كباكونين وكروبوتكين، بالإضافة إلى راسل وهمبولت، دافعوا عن الطبيعة البشرية ولم يكونوا تجريبيين. تقوم فكرتهم على ما يلي: هناك طبيعة خلاٌقة، فطرية، حرة وغنية، يجب إطلاقها كي يعيش البشر بسعادة. باكونين، أشهر الفوضويين، آمن بوجود غريزة أصيلة في كل البشر، هي غريزة الحرية. يجد تشومسكي أن الملكة اللغوية فطرية، وخلّاقة أيضاً، وهو أمرٌ قال به ديكارت. ويجادلُ بأن معظم قدرات البشر الإدراكية فطرية وخلّاقة معاً. يتيح هذا لتشومسكي أن يربط عقلانية ديكارت، التي تقوم على فكرة أن القدرات اللغوية للإنسان فطرية وغير محدودة، بغريزة الحرية التي نادى بها باكونين.

إطلاق الطاقات الخلّاقة الفطرية هو جوهر الليبرالية الكلاسيكية كما نجدها عند همبولت وروسو، وجوهر الاشتراكية أيضاً التي تعادي تشييء الإنسان واغترابه. ماركس الشاب آمن بطبيعة بشرية جعلته يدافع عن العمال ويرفض تحويلهم إلى آلات: منطقياً، يجب القول بطبيعة بشرية كي يستقيم هذا الدفاع. لو استطعنا تكييف وتغيير العمال كي يقوموا بما تريده السلطات، لانتفى مفهوم الاغتراب.

في المحصلة، تقسيمات اليمين واليسار لا تطابق مع تقسيمات من ينكر أو من يعترف بالطبيعة البشرية:

يشير تشومسكي إلى أن منظّري الإيديولوجيا اليمينية والمؤمنين بالرأسمالية يرتكزون، أحياناً، على مفهوم أناني للطبيعة البشرية. آدم سميث وأتباعه، مثلاً، يرون أن الإنسان أناني وطمّاع، مما يسوّغ بناء مفهوم حول سعيه الدائم للربح20. في المقابل، أيضاً، تبنى كواين وغودمان وسكينر، أشهر منكري الطبيعة البشرية وأتباع التجريبية بنسختها المعتدلة، مواقف يمينية عموماً.

على الضفة الأخرى، يميل اليسار عموماً إلى إنكار الطبيعة البشرية21: يستشهد تشومسكي بغرامشي ولينين وماركس الكهل22، كأمثلة. في المقابل، بعض أقطاب اليسار، كباكونين وكروبوتكين وراسل، يرون أن الإنسان يسعى إلى التعاون مع الآخرين بشكلٍ فطري، كجزءٍ رئيسٍ من الطبيعة البشرية المشتركة. أكثر من ذلك، يرى باكونين وراسل وتشومسكي أن الطبيعة البشرية معقدة وفيها اتجاهات مختلفة ومتناقضة. على النظام السياسي أن يشجع نزعات التعاون، لا أن يشجع على الطمع والأنانية، كما هو الحال في الرأسمالية. أرى في هذا الرأي معقوليةً أكبر من أيٍ من الآراء الأخرى.

ختاماً، يرى تشومسكي أنه لا مجال لإنكار الطبيعة البشرية، إلا أننا نجهل ماهية هذه الطبيعة. إنكار الطبيعة البشرية مذهبٌ فكريٌ فاسدٌ تماماً، إلا أن له أتباعاً؛ تبعاته الأخلاقية متنوّعة ومختلفة. ولكن، بحسب تشومسكي، الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية، بالرغم من أننا لا نستطيع اليوم أن نتوثق منه، وربما لن نستطيع أبداً التوثق منه، يتيح لنا الدفاع عن الحرية في كل مكان وزمان، ولكل الناس.

في القسم الأخير، سنشرح أهمية عمل تشومسكي في فهم مشاكلنا، اليوم، في أزمة الربيع العربي.

الطبيعة البشرية ومستقبل الربيع العربي

يبدو لي أن عمل تشومسكي مفيد في الدفاع عن الربيع العربي، وقيمِه التي حملها في تحرير الناس من العبودية. يرى تشومسكي في الفوضوية محاولة لتحرير الناس وإطلاق طاقاتهم الكامنة. ينطبق هذا التحليل على كل الناس. كل أفراد الجنس البشري يتمتعون بغريزة الحرية، وبطاقاتٍ كامنة، مختلفة ومتعددة وغنية، وعلينا أن نسعى إلى نظام اجتماعي يتيح لهم تطوير قدراتهم هذه. لا فارق بين العرب والصينيين، بين المسلمين واليهود، بين النساء والرجال؛ كل البشر يحق لهم التعبير عن أنفسهم بالأسلوب الذي يرونه مناسباً. إطلاق الطاقات الكامنة في الفرد البشري قيمة كونية مشتركة23.

منذ بدايات النهضة العربية، أي في القرن الثامن عشر، طُرِحَ السؤال حول القيم المشتركة بيننا وبين الأوربيين الغزاة. لم يكن الجواب سهلاً: من جهة، جلبَ الغزاة معهم مفاهيم التنوير: الديموقراطية والانتخابات وحقوق الإنسان24؛ وفي الوقت ذاته، عاث هؤلاء الغزاة فساداً في بلداننا، ضاربين عرض الحائط بكل مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة. إلى اليوم، ما زالت العلاقة مع الغزاة ذاتها: يحاضر علينا قادتهم في حقوق الإنسان، ويتعاونون مع أعتى طغاتنا بوقاحة منقطعة النظير.

السؤال الذي طُرِحَ وما زال يُطرح: هل هناك قيمٌ مشتركة لجميع الناس، بغض النظر عن ثقافتهم وزمنهم وبيئتهم؟ الجواب الذي أقدمه هو نعم بالطبع.

قيم التنوير عامة مشتركة. تنوير تشومسكي مستمدٌ من تنوير كنط، من الإيمان بأن تحرير الناس ليستخدموا عقلهم في الحكم، وفي إدارة حياتهم كما يريدون، هو جوهر إنسانيتنا. بعيداً عن تفاصيل ملحّة وخاصة في كل مكان بعملية تحرير الناس من السلطات القامعة، يشكل دفاع تشومسكي عن تنوير حقيقي وعن فوضوية تبدأ من الناس ولا تُفرض عليهم من أعلى، ليحرروا قواهم الخلاقة ويستخدموا إمكانياتهم إلى أبعد مدى، قاعدة نستطيع البناء عليها جميعاً في معركتنا ضد الاستبداد: قاعدة لكافة البشر دن استثناء.

يبقى السؤال اليوم، مع انسداد أفق الربيع العربي، هو: هل نتخلى عن قيم التنوير أم نعممها؟ جواب جزء من القوميين والإسلاميين، من جهة، وجزء من الغربيين، من جهة أخرى، هو أن التنوير لا يصلح لنا: العرب، أو المسلمون، أو الشرقيون، أو غير الغربيين بشكل عام، لهم قيمهم الخاصة. أما قيم التنوير: رفض القدرية التي تقول بوجود مراتب ثابتة للبشر: حكّامٌ أزليون ومحكومون أزليون؛ إعطاء دور رئيس للمواطن العادي في إدارة الشؤون العامة والسياسية؛ تحرير المرأة وإلغاء الرق؛ كل هذه القيم لا تصلح إلا للغربيين25.

ينطلق كلا الطرفين، أصحابُ الخصوصية عندنا من إسلاميين وقوميين، والغربيون ممن ينكرون علينا التنوير، سواءً العنصريون الذين يرون فينا تخلفاً وهمجية، أو ما بعد-الحداثيين ممن يعتقدون أنهم تقدميون بإنكارهم حقنا في التنوير، من فرضية واحدة: لا يوجد طبيعة مشتركة بين البشر، أي من تجريبية راديكالية تنكر الطبيعة البشرية. قلنا أعلاه أن هذا الإنكار خاطئ تماماً وبشكل كامل ومطلق. السؤال هنا، لماذا يتبناه البعض، بالرغم من خطأه الفاقع؟ الجواب يكمن في رغبة عميقة عند المنكرين في تبني سياسات محددة: معاداة التنوير والحرية باسم خصوصيات ثابتة ونهائية ومطلقة، خصوصيات تصنعها الثقافات والبيئات بشكل كامل. ينطبق هذا على المذكورين أعلاه: الأصوليون القوميون والغربيون العنصريون والغربيون ما بعد-الحداثيون. لكل من هذه الأطراف الثلاثة أسبابها التي لن نخوض فيها هنا. كلهم، من وجهة نظر بحثنا في الطبيعة البشرية، كما يوضّح النقاش أعلاه حول التجريبية الراديكالية، مخطئون.

إذاً، يبقى لنا هنا أن نوضّح كيف أن الإيمان بالمفهوم الإنسانوي للطبيعة البشرية سيساعدنا في الدفاع عن الربيع العربي.

الإيمان بأن كل الناس يتمتعون بغريزة الحرية، وبأنهم يستحقون حياة أفضل من استعبادهم من قبل مجموعة طغاة مخبولين وعملاء، وأن كل البشر يملكون طاقات خلاقة حرة وغنية، يحق لهم استخدامها بالشكل الذي يرونه مناسباً لهم؛ فقط هذا الإيمان يسوّغ لنا الدفاع عن الملايين التي سعت إلى حريتها، وما زالت تسعى إليها.

بكلماتٍ أخرى، يجب تعميم التنوير ليشمل كل البشر. على القارئ أن يفكر ملياً، في حال لم يُرِد التنوير، في منظومة القيم البديلة التي يريدها. أنا أدافع عن التنوير العقلاني وأدعو إليه؛ البديل هو ظلام الخرافات. بديل قيم التنوير المشتركة هو النسبوية والخصوصيات. على سبيل المثال، تحرير المرأة والمساواة مع الرجل جزءٌ من التنوير، رفض استعباد البشر والاتجار بهم جزءٌ من التنوير، الدفاع عن حرية التعبير وميثاق حقوق الإنسان جزءٌ من التنوير؛ لا يستطيع المرء ألّا يجزع حين يجد من يرفض التنوير باسم الخصوصيات الثقافية.

أضف إلى ذلك، لا يستطيع المؤمن بنسبية القيم الدفاع عن آخرين في ثقافات مختلفة، في حين تتيح لنا القيم المشتركة توحيد جهودنا في مواجهة عدوٍ مشترك: إمبريالية توسعية غربية وشرقية، وحلفاؤها من صغار الطغاة، بالإضافة إلى مجموعات من العصابيين اللذين ينكرون الحرية باسم الخصوصيات: ينتشر هؤلاء في كل مكان، من اليابان إلى الهند إلى الدنمارك وأمريكا، وعندنا بالطبع. يتشابه دعاة الخصوصية كثيراً: معظمهم يرفض مساواة الرجل بالمرأة، ويضطهدون الأقليات الدينية والعرقية، ويصبون جام غضبهم على المثليين والمتحوّلين جنسياً، وعلى كل ما هو مختلف عن السائد، ويرفضون شرعة حقوق الإنسان العالمية باسم قيم بالية ووحشية ومتخلفة وخصوصيات ثقافية مغلقة.

ولكن الدفاع المشترك عن قيم مشتركة يقدّم لنا مخرجاً من فخّ الأصوليات: لا يوجد لنا أعداء في الثقافات الأخرى، بل يوجد حلفاء حقيقيون ممن يقع على عاتقهم تحرير أنفسهم من قوى الطغيان. هذه هي الرسالة الحقيقة لنا اليوم: البحث عن حلفائنا في كل مكان، والصراع مع قوى الطغيان في كل مكان.

لا يعني ذلك تخلينا عن مفهوم الاختلاف: على العكس، بل يعني إغناء الاختلاف من خلال التعاون. إن كان لمفهوم الخصوصية أهميةٌ ما، بعيداً عن الأصوليين القوميين والدينيين وغيرهم، فهو يكمن في محاولة رفع الظلم عن الناس في كل مكان، وقبول وسائل تعبيرهم عن أنفسهم: من موسيقا وشعر ورسم، وحرف ورياضة وغيرها، في كل مكان بكافة الاختلافات الموجودة. ويعني، أيضاً، إدانة أي قمع في أي مكان، يصدر باسم الخصوصيات.

عالم اليوم بشعٌ وقذر: وحده الإيمان بالقيم المشتركة، والعمل مع المخلصين في كل بقعة من بقاع العالم، سيحررنا من هذا العالم. البديل هو الصراع بين البشر لمصلحة طغاة وحمقى، كبار وصغار، باسم نسبوية وخصوصيات ثقافية مهترئة.

للقارئ والقارئة أن يختاروا أي مستقبل يريدونه لأنفسهم وأولادهم.

*****

المراجع الرئيسية

أولاً، المراجع العربية

الزعبي، عدي. 2014. تشومسكي قارئاً راسل. مجموعة الجمهورية.

الزعبي، عدي. 2015. أخلاق مشتركة لعالم متناثر: قراءة في النسبوية والاستشراق. مجموعة الجمهورية.

تشومسكي، نعوم. 1990. اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان القزيني. دار توبقال: الدار البيضاء.

_ 2015. اللغة والحرية، ترجمة عدي الزعبي. مجموعة الجمهورية.

كوتنغهام، جون. 1997. العقلانية: فلسفة متجددة. ترجمة: محمود منقذ الهاشمي. مركز الإنماء الحضاري: حلب.

ثانياً، المراجع الإنكليزية.

وضعتُ اسم المرجع بالعربية في الثبت أدناه.

Chomsky, Noam. 1965. Cartesian Linguistics. New York: Harper and Row.

«اللسانيات الديكارتية»

_ 1968. Philosophers and Public Philosophy. http://www.ditext.com/chomsky/ppp.html

«الفلاسفة والفلسفة العامة».

_ 1972. Problems of Knowledge and Freedom: The Russell Lectures. New York: Pantheon.

«مشكلات المعرفة والحرية: محاضرات راسل».

_ 1979. Language and Responsibility. New York: Pantheon.

«اللغة والمسؤولية».

_ 1987. The Chomsky Reader. Ed. James Peck. Serpent’s Tail.

«قارئ تشومسكي»، ويحوي مقالتي «علم النفس والإيديولوجيا» و«المساواة»، المشار إليهما في الهوامش.

_1991. Force and opinion. https://chomsky.info/199107__/

«القوة والرأي».

_ 1996. Powers and Prospects: Reflections on Human Nature and the Social Order. Boston: South End Press.

«قوى وآفاق».

_2000. New Horizons in the Study of Language and Mind. Cambridge, England: Cambridge University Press, 2000.

«آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل».

_ (2005) Chomsky on Anarchism . Ed. Barry Pateman. AK Press.

«تشومسكي والفوضوية»، ويحوي مقال «احتواء خطر الديموقراطية» المشار إليه في الهوامش.

_ (2006). The Chomsky-Foucault Debate: On Human Nature (with Michel Foucault). New York: The New Press, distributed by W.W. Norton.

«حوار تشومسكي وفوكو».

Collins, John. 2008. Chomsky: A Guide for the Perplexed. London: Continuum.

«تشومسكي: دليل الحائرين».