الجمعة، 17 مارس 2017

"استئناف": إعاة محاكمة بعد الموت؛ هشام. م (عن فيسبوك)



" استئناف "

 إعادة محاكمة بعد الموت
"هلال مصلوب" نال اجازة في الحقوق وبدأ يتدرج عند احد المحامين ولسوء حظّه انتهى كل شيء عندما وافته المنيّة وحكم عليه بدخول النار، ولكن هلال لم يستسلم لهذا الحكم بل قدّم طلب استئناف امام المحكمة معتبرا أنّ الحكم جائر ومطالبا بإعادة المحاكمة، وبالفعل إعيدت المحاكمة وقرر هلال ان يترافع هو عن نفسه، وبدأت جلسة الاستئناف.

 محامي الإدعاء: سيدي القاضي، ارجو في بداية الجلسة تسجيل اعتراضي على السبب الذي تقدم به السيد هلال لإعادة المحاكمة ألا وهو "إمّا الكل في الجنّة وإما الكل في النار" ، لما يتضمنه هذا السبب من سخرية وتطاول على السلطة والقوانين القضائية.
 القاضي: حقيقةً، هذا العذر الذي تقدّم به السيد هلال هو الذي استفزّني ودفعني إلى قبول طلب الإستئناف، لأرى ما المقصود من ذلك، وإذا تبين انه التطاول او السخرية كما تقول ايها المدعي فليحضّر السيد هلال نفسه لحكم اقسى من الذي سبق.


 هلال مصلوب: سيدي القاضي، حاشا ان يكون القصد كذلك، ولكن المدعي حكم عليّ سلفاً قبل ان يسمع ايَّ تفسير للموضوع.


القاضي: إذا أسمِعنا


هلال مصلوب: سيدي لِم خلقنا الله في الدنيا، ولم يخلقنا مباشرة في الجنة او في النار؟
 القاضي: ليرى اللهُ أيَّكم أحسنَ عملا، فالدنيا دارُ امتحان واختبار وابتلاء، ومن أحسنَ فله الجنة، ومن أساء فله النار، والقاعدة واضحة: "من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره".


هلال مصلوب: ألا يعلم الله كل شيء ؟


القاضي: طبعا


هلال مصلوب: ألا يعرف مصير الإنسان قبل أن يخلق إذا كان للجنة ام للنار؟


القاضي: نعم يعلم.


هلال: إذا طالما انه يعلم، لِمَ الدنيا؟، فليرسلنا مباشرة إلى الجنة او النار.


 القاضي: هذا ليس عدلا يا بنيّ، فالله رغم علمه بخواتم الامور، لا يمكنه أن يحرم الناس الاختبار، فالحكم عليهم دون ذلك سيكون جائراً، وتخيّل معي مدرِّسا لديه تلاميذ، وهو على علم بمستوى كل واحد فيهم ويعرف امكانياتهم وكذلك من سيرسب ومن سينجح منهم، لكنه رغم ذلك يجب ان يجري اختبارات وامتحانات لهم لكي يوثّق حقيقة وضعهم ولا يُبقي حجة لأحد منهم، لأنه في حال لم يُجرِ تلك الاختبارات لجاء أحد التلاميذ وقال أنا أستحق أن أنجح. لم حكمت عليّ بالرسوب؟


هلال: هذا تماما ما أريد أن أسمعه أيها القاضي، أرجو من المحكمة استدعاء الشاهد 

الاول: طير الجنة.
وتم استدعاء الشاهد


القاضي: اسمك، وسنّك عند موتك وشهادتك.


 الشاهد: اسمي طيرُ الجنة، عمري لحظة موتي ست سنوات، وقد أُدخِلت الجنةَ نظراً لصغر سني وعدم تكليفي بعد.


 هلال: إسمح لي سيدي القاضي أن أسأل: "أين الاختبار هنا، فقد أُدخل طيرُ الجنة للجنة دون اي مشقة أو امتحان". بينما كان عليّ أن أخضع أنا وغيري للاختبار، فأيُّ عدلٍ هذا؟
 لِمَ لَمْ يمتني الله في سنِّه، حينها سيكون مصيري الجنة بدلا من النار أو لمَ لمْ يبقه الله ليصبح في مثل سني ولْنرَ حينها هل سيبقى مصيره الجنة حين يخضع للاختبار؟
وأضاف: إذاً سيدي نلاحظ في هذه الحالة عدم وجود اختبار اصلا.
أرجو من المحكمة استدعاء الشاهد الثاني


القاضي: اسمك وسنك عند موتك وشهادتك


 الشاهد الثاني: محظوظ فقط، عمري ستون عاما، انا صديق هلال منذ الطفولة، وكنا نسير على نفس النهج، فلم نكن نصلي او نصوم ولم نكن نؤمن بالدين واليوم الآخر حتى. وبعد وفاة هلال استمريت على ذلك الحال خمسا وعشرين عاما حتى تاب الله عليّ وأنا في سنّ الخمسين فكانت توبتي نصوحة وكفّرت عن ذنوبي والحمد الله أُدخِلتُ الجنّة.


 هلال: إذاً سيدي القاضي لقد عاش صديقي محظوظ حياةً مليئة بالمعاصي توازي ضعفي ما عشت، ثم تاب بعد ذلك، وانا أسأل" لم لم تتسنّ لي نفس الفرصة، ألا يجب أن تكون مدة الاختبار متساوية؟ ألم يكن من المحتمل أن يحدث معي نفس الشيء لو أنني مكانه في حين نرى من المؤكد دخوله النار لو كان هو مكاني؟
 ويمكننا أيضا أن نأتي بمثلٍ متعاكسٍ. ماذا لو كنا إما اثنين مؤمنين توفي الأول فأُدخِل الجنة في حين بقي الثاني وبعد مدة جرفه تيار المعاصي وفسق ثم توفي وأدخل النار، ألا يأتي السؤال هنا ماذا لو كان الثاني محل الأول والعكس صحيح؟
 هل يمكن للمدرس أن لا يكون عادلا في مدة الاختبار فيعطي أحدهم نصف ساعة والآخر ساعتين مثلا، إذا نلاحظ في الحالة الثانية ان مدة الاختبار ليست متساوية بالنسبة للجميع..
 والآن فلندخل إلى مضمون الإختبار، لنأخذ مثلا الملك وفرداً من المملكة، ولنقل أن مصير الاول كان النار والثاني الجنة، ألا يمكن للملك أن يعترض ويقول: "لقد وُضِعتُ أمام اختبار صعب، فالسلطة تغري بالمعاصي وتجعل المرء عرضة للشيطان بشكل دائم ولو كنت انسانا عادياً لما تمكنت من أن أرتكب كل تلك الذنوب. ولو كان أيُّ فرد من المملكة مكاني لفعل نفس الشيء".
ويمكننا أن نقول نفس الكلام عن الغني والفقير، والصحيح والمريض، والمتعلم والجاهل إلخ....
ولكي أؤكد حقيقة كلامي أطلب من المحكمة استدعاء الشاهد الثالث
ويحضر الشاهد الثالث.


القاضي: اسمك وسنك عند موتك وشهادتك


 الشاهد: اسمي مجنون مجنون، توفيت في الخمسين من العمر وقد قضيت كامل حياتي مجنونا ثم توفيت وأُدخِلت الجنة بعد أن أعاد الله الي نعمة العقل.


 هلال: سيدي ألا يمكن لكل منا أن يتساءل: "كم هو الفرق شاسع ما بين عاقل تنهش المعاصي والغرائزُ وعيَه ومجنونٍ لا يدري ما يجري في هذه الدنيا؟ " وعلى هذا أنا أعترض لمَ لم يجعلني الله مجنونا لأضمن جواز العبور للجنة سلفا أم إن الجنون للمحظيين فقط؟
إذاً نلاحظ هنا أن مضمون الاختبار ليس متكافئا بالنسبة للجميع ايضا، ولو تبدل المضمون لربما تغير المصير
لإختصار وقت المحكمة اطلب إحضار الشهود الثلاثة المتبقين سويا


القاضي: أحضروا الشهود


 شاهد من بني اسرائيل: أنا اسمي مؤمن العصا، لقد كنت كافراً ولكن حين رأيت معجزات موسى وكيف أن عصاه تصبح أفعى آمنت برب العالمين.


 شاهد ثمود: انا اسمي مؤمن الناقة، لقد كنت عدواً لله حتى أخرج لنا صالح من الصخرة ناقة فسلمت لرب السماء والارض.
شاهد من فلسطين: انا اسمي مؤمن الناصري، لقد أحيى عيسى أخي بعد موته فآمنت حينها بالله واليوم الآخر.


 هلال: وانا اقسم لو تسنّى لي أن أرى إحدى هذه المعجزات لآمنت مثلما آمن هؤلاء الثلاثة، ولكن اين العدل؟ فانا لم يتيسر لي نفس الظرف، ففي زمني لا أنبياء ولا معجزات.


 المدعي: سيدي القاضي أنا أعترض على شهادة هؤلاء إذ لا ينقصنا بعد إلا ان يأتينا السيد هلال بشاهد من قوم لوط!


 هلال: سيدي القاضي انا لن أخيّب ظن المدعي لذا أرجو من المحكمة استدعاء لولو المقطّع وهو شاهد من قوم لوط.


القاضي: الاعتراض مرفوض وليحضر الشاهد


الشاهد: اسمي لولو المقطع، من قوم لوط، الذين قضى الله عليهم لارتكابهم فاحشة اللواط.


 هلال: أيعرف سيادة القاضي عدد الدول التي شرعت زواج المثليين في الوقت الحاضر؟ فرنسا، بلجيكا، إسبانيا، البرتغال، جنوب إفريقيا واللائحة تطول، والسؤال هنا لمَ لمْ ينزل الله عذابه على هؤلاء مثلما فعل مع قوم لوط؟ فلو إنه فعل لكنت تيقنت وقلت "فعلا ان قصة لوط وقومه ليست خرافة وهذه الحقيقة أمامي ولكنت آمنت حينها" ثم ألا يحق للولو ان يعترض ويقول: "لو أن الله أمهلني كما أمهلهم لعلني كنت تراجعت عن تلك الفعلة الشنيعة ولكنّه عذبني وقضى عليّ باكراً بينما تركهم وشأنهم يسرحون في امان..
 وهناك أسئلة أخرى سيدي القاضي تدور في نفس الفلك: "أيغضب الله على فعل اللواط فيقضي على قوم لوط بينما قتل الاطفال والابرياء المستمر من قبل الطغاة والمستعمرين هو امر يستحق ان يمهل مرتكبيه ليوم الدين؟؟ لمَ لمْ ارَ الله يقضي على جورج بوش وجيشه بعد أن أمعنوا في قتل النساء والاطفال وكذلك بني صهيون ومن لفّ لفّهم؟
 لو أن الله قضى على ترومان ومن عاونه في إلقاء القنابل النووّية على هيروشيما وناكازاكي والتي قضت على ما يتجاوز المائتين والعشرين ألف إنسان دفعةً واحدة، لكنتُ قلتُ حينها إن الله حق، ولَمَا شتّت إيماني السؤال المحير: "كيف يُنظر هؤلاء المجرمون إلى يوم الدين ولا تأخذهم الصاعقة على الفور بينما يحل غضب الله على لولو وامثاله..
 سيدي القاضي فكما ترى، حتى ظروف الاختبار ليست متكافئة أيضاً، فمن عاصر الأنبياء ورأى المعجزات ليس كمن لم ير شيئاً. ولا يمكن أن يكون الاختبار عادلا إذا أُجري للبعض تحت المطر وللبعض الآخر في الشمس الحارقة ولكلا الفريقين حق الاعتراض حينها..
 هذا غيض من فيض، وليس كل ما لديّ بل ما سمح به الوقت المتاح لي من قبل المحكمة الكريمة، اشكركم على سعة الصدر واتمنى أن يكون الحكم عادلا


القاضي: ترفع القضية على ان يصدر الحكم بعد شهر.


 ومر شهر وسنة وقرن وقضية هلال عالقة لم يصدر فيها اي حكم بعد.
(عن صفحة هشام. م)

الاثنين، 13 مارس 2017

برغسون في مناطق الالتباس؛ محمد الحجيري.




برغسون في مناطق الالتباس
محمد الحجيري.


الكثير من آراء برغسون يمكن القبول بها دون تحفّظ، لكنه في بعض محاضراته يدخل إلى طرح بعض الاحتمالات دون مسوّغ مقنع.
 الإشكاليّة التي يدخلنا برغسون في دوّامتها هي نظريّة الفكر المفارق، والتي هي إشكالية قديمة في تاريخ الفلسفة (والدين)، أعاد طرحها قبله ديكارت في القرن السابع عشر حين قال بأن المادة ممتدة وتوجد في المكان، بينما من خصائص الفكر أنه لا يوجد في مكان.. وهنا ندخل في متاهة طبيعة العلاقة بين هذا الذي لا يوجد في مكان وبين المادّة..

برغسون يرى بأن الذكريات كأفكار هي من طبيعة روحيّة ولا توجد في مكان.
هي لا توجد في الدماغ، لكن الدماغ يكلَّف بتنظيم استدعائها بحسب الحاجة..

 الوعي يقوم بتمرينه من خلال المادة ـ كما يرى برغسون ـ وبالتالي بإمكان هذا الوعي أن يستمر بعد مغادرة الحياة لهذا الجسد (لأن القول بفناء الجسد غير دقيق)..
 ربما يكون الرأي الأسهل إلى الفهم هو رأي المدرسة الظاهراتية التي ترفض الحديث عن وعي مفارق، وتقول بأن ما هو موجود في الواقع هو فعل وعي: لا توجد ذكريات جاهزة، هناك أفراد يتذكرون. لا توجد حركة، هناك جسم يتحرك.

الفقرة الواردة أدناه تنقل موقف برغسون بحرفيته، الذي لا يغيب عنه الطابع الأدبي
"إن النشاط العقلي عند الإنسان يتجاوز نشاطه الدماغي، وإن الدماغ يختزن عاداتٍ محرّكةً ولكنه لا يختزن الذكريات، وإن الوظائف الأخرى الفكريّة هي أيضاً أكثر استقلالاً، عن الدماغ، [من الذاكرة]، وإن الاحتفاظ بالشخصية، وحتى تزخيمَها، يصبحان بعد ذلك ممكنَين أو حتى محتملَين، بعد تفكّك الجسد، ألا نظن عندئذٍ أن الوعي، من خلال مروره عبر المادة الموجودة في هذه الدنيا، يُصقَلُ كما الفولاذ، وأنه يستعدّ ويتحضّر لعملٍ أكثر فعاليّة، ولحياةٍ أكثر زخماً؟"

(من محاضرة لـ برغسون تعود لعام 1911)

محمد الحجيري 
13 آذار 2016 

 روحانية برغسون
لا يعتبر برغسون بأن الدماغَ منتِجٌ للفكر وللوعي، إنما هو نقطة الاتصال بين الفكر والحياة، فهو "يستخرج من حياة الفكر كل ما هو قابل للتحوّل إلى حركة وكل ما يمكن تجسيده مادّياً".
 إنه (أي الدماغ) "يؤمّن في كلِّ لحظةٍ توافقَ الفكرِ مع الظروف، ويجعل الفكرَ على اتصال دائم بالوقائع.. إذاً ليس هو .. عضو التفكير ولا أداةَ الشعور ولا أداة الوعي؛ ولكنه يعمل على جعل الوعي والشعور والتفكير ممتدّة لتغطي الحياة الواقعية، وبالتالي لتكون قادرة على العمل الفعّال."
 لكن، هل من علاقة سببيّة بين هذا التواقت أو "الاقتران" في عمل الدماغ وبين الوعي. أم هي تشبه علاقة "الحاصل عنده" التي يتحدّث عنها الغزالي، الذي يعتبر بأن النار ليس هي من يتسبب بإحراق القطن: فقط عند حصول اقتراب القطن من النار يحترق القطن؟؟
هل نشاط الدماغ سببٌ لحصول الوعي، أم أنه نتيجة له؟ أم مجرد تواقت؟؟
 لا يبدو أن نشاط الدماغ نتيجةٌ للوعي، لأن برغسون يعتبر بأن الدماغ يساعد على تنظيم عمليات الوعي. "فالنشاط الدماغي يشكّل بالنسبة للنشاط الفكري ما تشكّله حركات العصا بيد رئس الأوركسترا، بالنسبة إلى السمفونيّة."
 لكنّ "السمفونيّة تتجاوز من كلّ الجوانب الحركات التي توجّهها وتضبطها، وحياة الفكر تتجاوز كذلك الحياة الدماغيّة".
الدماغُ إذاً، منظم لعمليات الوعي، لكنه ليس منتجاً لها، ولا هو نتيجةً لها أيضاً!!
وهذا يطرح إشكالياتٍ إضافيّة: من المسؤول عن إنتاج الوعي؟ وكيف؟
وكيف بإمكان الدماغ أن يتحكم في تنظيم عمليات الوعي الغامضة هذه؟؟
ما طبيعة العلاقة بين المادّة وبين هذا الوعي المفارق؟..
هذا الوعي الذي سيبقى بعد أن يفنى الدماغ أو المادة.
 كل ما في الأمر أننا لن نستطيع بعد ذلك التحكم في تنظيم عمليات الوعي الغامض الذي يتحدث عنه برغسون..
وعي لم تنتجه المادة، وسيبقى بعد فناء المادة.. ما علاقته بحياتنا المادّية إذاً؟؟
 للتفكر ومحاولة الفهم ليس إلا.
محمد الحجيري؛ 19/3/2015 

كرش أبي؛ نور دكرلي.





كرش أبي
 نور دكرلي.

"صديقتي تلك تزوجت كرشا له قدمين ووجه، وأنجبت أربعة أولاد..."
 .
أتحسس بطني كل يوم، وأردد: لم يحن وقت الأولاد بعد، لم يظهر لي كرش إلى الآن.
 
لا أريد أولادا قبل أن ينبت لي كرشٌ، الكرش عند الأب بمثابة صدر الأم، أطفال بأب دون كرش أطفال ناقصو الحنان.
 
أبي كان له كرش منفوخ بالحنان، كنّا نربّت عليه كل مساء، نلعب فوقه، ننام عليه ..لذا كبرت و أنا أشعر بعاطفة متساوية تجاه أمي و أبي.
أتخيل لو أن لدي أبن الآن، كيف ستكون حياته، كيف سيذهب إلى المدرسة ليراقب أصدقاءه وهم يتحدثون بمرح عن كروش أبائهم و يتفاخرون بها، أحدهم يصف كرش والده المغطى بقليل من الشعر، وآخر يحكي كيف غفا الليلة السابقة وخده على كرش والده.. بينما ابني يستمع إليهم بحسرة والكروش تتقافز من أعين أصدقائه... ثم سينزوي وحيداً في المقعد الأخير، شارد الذهن طيلة الدرس، يرسم على دفتره كروشا بأحجام مختلفة.
سيعود إلى البيت ليتلمس بطني المنكمش، فينكمش قلبه خيبةً وحزناً، سيرى في منامه أطفالاً سعداء يتلمسون كروشاً ويربّتون عليها بمرح.. أباء بكروش كبيرة، كروش ترقص... كرش عملاق يتجه نحوه ليبتلعه..
 
سيكبر وسترافقه عقدة الكرش المفقود طيلة حياته.. سيشعر بنقص في الحنان ولن يعوضه عن ذلك حنان ألف أم ولا كرشه مهما كبر.
منذ سنوات.. قالت لي صديقة بينما تتلمس بطني بحثا عن كرش ما:
كان أبي بلا كرش، لم يتواجد أي كرش في منزلنا، ثم تتابع بحزن بينما أحاول أنا نفخ بطني:
 
تخيل أنني دائما أبحث عن رجل بكرش لأحبه.. أبحث عن أب كامل في كل رجل... عن الكرش الذي افتقدته..
 
لو أن لك كرشاً لنجحنا معاً.. لكني أخاف على بناتي في المستقبل.. أن يعمي الكرش أعينهم.
كان لي صديق عاش طفولته ولم يلعب مرة بكرش.. والده كان بلا كرش.. كنت أحدثه دائماً عن كرش أبي لأغيظه، واسترسل في حديثي لساعات، أرسل له صوراً من طفولتي برفقة كرش أبي، أرسل له صور أطفال مع أباء بكروش..
 
صديقي هذا صار يهذي بالكروش، صار مدمنا على الكحول وكلّما ثمل بكى وصار يحكي عن الحنان الذي افتقده في طفولته. عن الكرش المفقود..
 
مؤخرا سمعت بأنه تم سجنه بتهمة طعنه لرجال في بطونهم، لطعنه بعض الكروش..
صديقتي تلك تزوجت كرشا له قدمين ووجه، وأنجبت أربعة أولاد...
 
تراقب لعبهم كل ليلة مع كرش زوجها، تضحك مع ضحكهم... يقفز قلبها سعادة مع قفزاتهم فوق الكرش.
 
وحين تستلقي على السرير لتنام، تضع يدها فوق الكرش، وتبكي.


الجمعة، 10 مارس 2017

المنهج التفهمي في علم الاجتماع؛ إعداد محمد الحجيري.



أوغست كونت: 1798ـ 1857
فلهلم دلتاي: 1833ـ 1911
دوركايم (1858ـ1917)
ماكس فيبر: 1864ـ 1920
المنهج التفهمي في علم الاجتماع
(إعداد محمد الحجيري)


مقدمة:

تُعتبر دراسة الظاهرة دراسةً موضوعيةً مطلباً وشرطاً أساسياً في المعرفة العلمية. وينبغي على العالم مراقبة هذه الظاهرة والانصات إليها بعيداً عن العامل الذاتي والأفكار المسبقة والاعتقادات الدينية والفلسفية والإيديولوجية وغيرها، وذلك من أجل تقديم تفسيرٍ دقيقٍ لهذه الظاهرة والوقوف على الأسباب المتحكّمة فيها.

   حضر هذا المطلب بقوة لدى المؤسسين الأوائل للعلوم الإنسانية. فقد سمى أوغست كونت علم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعية اقتداء بالفيزياء من أجل دراسة وضعية موضوعية للظواهر الاجتماعية والخروج بها من دائرة التأمل الفلسفي والمعرفة العامية العفوية، حيث تطغى أحكام الذات، إلى المعرفة العلمية حيث الموضوعية. وهو ما سعى إليه أيضا إميل دوركايم الذي وضع أسس علم الاجتماع في كتابه "قواعد المنهج السوسيولوجي"، إذ دعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية كأشياء مستقلة عن ذات الباحث وتُمْكِن ملاحظتُها من الخارج. ويلحّ دوركايم على ضرورة التخلي عن الأحكام المسبقة عند الملاحظة وأن يكتفي الباحث بتحديد الخواص الخارجية المستقلة للموضوع بتخليصه من مظاهره الفردية الذاتية ما دامت الظاهرة تتميز بالإكراه الخارجي المفروض على الأفراد.

ـ لكن العلوم الانسانية في سعيها المتواصل إلى التحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي ظلت على الرغم من ذلك عاجزةً عن استيفاء شرط ما يسمى بالموضوعية والحتمية والقدرة على التنبؤ، ويمكن إرجاع ذلك  لأسبابٍ مبدئيةٍ تتصل بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتِها، لأن الظاهرة الانسانية ظاهرةٌ مركبة أو معقدة إن صح القول، حيث إن الظواهر والأفعال الانسانية هي ظواهر واعية إرادية لا تتكرر ولا تخضع للإطراد أو التكرار.
 وهذا ما أدى إلى انتقاد استعمال المنهج التفسيري في علوم الإنسان لأنه لا يلائم خصوصية الظاهرة الواعية الحرة المتغيرة...
 نجد هذا النقد بشكل جليّ في تصور الفيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي الذي يقيم تمييزاً بين علوم الطبيعة من جهة، وما يسميه علوم الروح من جهة أخرى: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الواعية الحية. واختلاف الموضوع يفرض اختلاف المنهج. لذلك يقول دلتاي: "إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الإنسان". أي إن منهج التفسير إذا كان مناسباً لدراسة الظاهرة الطبيعية، فهو ليس مناسباً لدراسة الظاهرة الإنسانية التي ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل.
يقوم المنهج التفهمي-التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل والتي تتحدد بالقيم التي توجهه. ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في نفس الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها.
ماكس فيبر:
هو ماكسيميليان كارل إميل فيبر (1864 ـ 1920)
ماكس فيبر هو واحد من أشهر علماء علم الاجتماع الألمان  وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.
كان ماكس فيبر يحب تجاوز حدود التخصص العلمي الواحد. وقد شملت أبحاثه مجالات التاريخ والثقافة والاقتصاد وعلم الاجتماع.. 
 وهو من أتى بتعريف البيروقراطية، وعمله الأكثر شهرة هو كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية  فهو من أعماله المؤسسة في علم الاجتماع الديني، وقد أشار فيه إلى أن الدين هو عامل غير حصري في تطوّر الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقية.
ويُجمِع المؤرخون على أن دراسات عالم الاجتماع الألماني تتمحور حول نشوء المجتمعات الصناعية وظهور الرأسمالية كأسلوب إنتاج جديد. ففي حين ركّز مواطنُه كارل ماركس على العوامل الاقتصادية في ظهور الرأسمالية، أعطى فيبر أهمية كبيرة للمعتقدات الدينية والقيم في نشوء وظهور هذا النظام الاقتصادي.
وكان فيبر يرى أن الأخلاق البروستنتانتية أخلاقٌ مثالية ومنها استقى النموذج المثالي للبيروقراطية والذي يتميز بالعقلانية والرشادة

يُعتَبر ماكس فيبر من أكبر العلماء الألمان الذين أسهموا في إنشاء علم الاجتماع من خلال دراسته للأفعال والسلوكات الإنسانية بشكل يختلف عن دراسة الظواهر الطبيعية، وهنا يأخذ فيبر بعين الاعتبار موقع الذات العارفة في دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها ظواهر غائية ومحدودة بهدف مقصود وبحوافز ممكنة وتقبل أن تكون موضوع تأويل تفهمي. وماكس فيبر في هذه السوسيولوجيا التفهمية يفترض أنه بإمكاننا أن نجد في ذواتنا دوافعَ كلِ فردٍ إنسانيّ، وبالتالي فمهمّة السوسيولوجيا هي الفهم بواسطة تأويل الفعل الاجتماعي لتتمكن بعد ذلك من تفسير وتفهم المعنى الذي يعطيه الإنسان لسلوكه.
إن موقف الفهم الذاتي التأويلي الذي يقر به ماكس فيبر، يعتبر أن الظاهرة الانسانية ظاهرةٌ جدُّ معقدة وبالتالي فتطبيق المنهج التجريبي إزاء هذه الظاهرة صعب المنال.
وإذا كانت الظاهرة الفيزيائية تعتمد في دراستها على التفسير والتنبؤ فإن الفعل الإنساني عكس ذلك، يخضع للتأويل والفهم الذي يساعدنا على فهم مقاصد ودلالات وغايات الفعل الإنساني التي تحددها الذات..
ويطرح لوسيان غولدمان إشكالية الفهم الموضوعي للواقع في العلوم الانسانية، حيث يقر بعجز العلوم الانسانية عن التحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي نظراً لعدم استيفائها شرط الموضوعية. ومرد هذا أن الباحث في مجال العلوم الانسانية أثناء معالجته لظاهرة إنسانية يعجز عن التخلص من مواقفه المضمرة وأحكامه القبلية، أي المسبقة ثم نوازعه اللاواعية، أي استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية من املاءات اللاوعي، والانحيازات المسبقة للبيئة الثقافية التي ينتمي إليها.
كذلك فإن فيلسوف العلم كارل بوبر يرى بأن النظريات العلمية لا يمكن التحقق من صحتها تجريبياً، وينتقد الحتمية التاريخية كما تتجلى في العلوم الاجتماعية.
إن الظاهرة الاجتماعية تختلف عن الظاهرة الطبيعية التي تتميّز بالثبات وبالوجود الخارجي المستقل عن الإنسان، فالظاهرة الاجتماعية ظاهرةٌ معقدة يتداخل أكثرُ من عامل في تحديدها، كما أنها ظاهرةٌ واعيةٌ يتدخّل فيها عنصر الوعي البشري ويؤثر فيها، وهذا ما يراه أيضاً كارل بوبر ويعتبره سبباً إضافياً يحُول دون الحتمية والقدرة على التنبؤ الذي تدعيه العلموية والمنهج التفسيري.

الفعل الاجتماعي:
وفقاً لمنظور فيبر وتعريفه للفعل الاجتماعي، لا بدّ من فهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين، المستوى الأول أن نفهم الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم، أما المستوى الثاني فهو أن نفهم هذا الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي.
 ولكي نفهم عمل الفرد وأفعالَه أو سلوكَه الاجتماعي على مستوى المعنى لابد من النظر إلى دوافعِ الفرد ونواياهُ واهتماماتِه والمعاني الذاتية التي يعطيها لأفعاله والتي تكمن خلف سلوكه، أي أنه لابد من فهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي ومن وجهة نظر الفرد نفسه صاحب هذا السلوك وبنفس الطريقة لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة التي يعتبر الفرد عضواً فيها. أي أنه لابد من فهم الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة. إذاً لابد لنا من أخذ هذين المستويين في الاعتبار عند دراستنا وتحليلنا لفهم وتفسير الفعل الاجتماعي الإنساني للفرد سواءٌ من خلال مواجهته للظواهر الاجتماعية بنفسه أو من خلال مشاركته للجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها.
إن الفعل لا يصبح اجتماعيا إلا إذا ارتبط المعنى الذاتي الذي يعطيه الفرد للفعل بسلوك الأفراد الآخرين. وهنا تركز نظرية الفعل الاجتماعي على الأسلوب الذي يتفاعل به الأفراد فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى وعلى الدور الذي يلعبه الفعل الاجتماعي في تكوين البنى الاجتماعية
إن فيبر يسلم أولاً وصراحة بمدخل ذاتي لنظرية علم الاجتماع وذلك بتركيزه على أن المفهومات النظرية في علم الاجتماع يتعين صوغها في ضوء نموذج محدد للدافعية التي تحرك (الفاعل الفرضى) والذي يمثل بدوره تصوراً مفترضاً، أما الخاصية الثانية فتتعلق بمدلول مصطلح " فيبر" عن " المعنى"

 وهو عندما استخدم هذا المصطلح (أي "المعنى") كان يعني به الإشارة إلى السلوك في ضوء الغرض والمرمى الذي يسعى إلى تحقيقه الفاعل.
تسعى النظرية التفهمية مع ماكس فيبر إلى فهم الظاهرة المجتمعية باستخلاص دلالات أفعال الأفراد ، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. والدليل على ذلك كتابه عن الراسمالية حيث بيّن بأن الأخلاق الكالفينية البروتستانتية هي التي ساهمت في نشأة الرأسمالية، والدليل على ذلك، الأفعال السلوكية: كحب العمل، وحسن التدبير، والادخار، والاهتمام بتراكم الثروات، والابتعاد عن الزهد والتقشف والانطواء السلبي الذي نجده في الديانة الكاثوليكية.

الموقف التوفيقي:
يقول الفيلسوف البلجيكي جان لادريير (Jean Ladrière) باستحالة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية علمية؛ لأن هذه الدراسة تغفل الجوانب الذاتية، ولا تعنى بدراسة المقاصد والقيم والغايات التي ترتبط بتصرفات الفاعلين وسلوكياتهم داخل المجتمع. ومن ثم، يكون التركيز - هنا- على التفسير في ضوء الحتمية أو الجبرية الاجتماعية، وتهميش دور الفهم في رصد دلالات الفعل الإنساني.
وفي المقابل إذا اعتمدنا التوجه الثاني (المنهج التفهمي) في دراسة السلوك الإنساني، يكون الموقف الذاتي سبباً لفقدان الموضوعية التي تسعى كل دراسة علمية إلى تحقيقها.
 ومن هنا، يصعب على الباحث السوسيولوجي أن يكتفي بمنهج واحد ويستغني عن الآخر. وبالتالي، يستحيل تطبيق التجريب العلمي على الظاهرة الإنسانية. لذا، لابد من البحث عن بديل جديد أو علمية أخرى تتجاوز نطاق العلمية التجريبية، كأن تكون علمية مرنة تتلاءم مع مرونة العلوم الإنسانية. وبالتالي فإن جان لادريير يدعو إلى تدشين صورة مغايرة وبديلة للعلمية، والسعي نحو إيجاد أداة أصيلة جديدة لمقاربة العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة.
 لكن لايمكن تبني هذا الطرح حتى يتم استكشاف هذا العلم البديل، والتحقق من هذه العلمية المغايرة، وتبيان خطواتها النظرية والتطبيقية، وإلا سنكون عدميين. ويعني هذا أنه لابد من التوفيق بين المنهجين: التفسيري والتفهمي لدراسة الظواهر الاجتماعية حتى يتحقق لنا بديل علمي إنساني جديد.



محمد الحجيري
10 آذار 2017 

الأحد، 5 مارس 2017

الشيء في ذاته؛ محمد الحجيري.





الشيء في ذاته.



الشيء في ذاته.

قبل ديكارت، كان العالم موجوداً ومن البديهيات.
وهذا العالم يساهم في تشكيل وعيِنا عنه.
مع  ديكارت، أصبح الوعي موجوداً. وهو الذي يسعى للبرهان على وجود العالم وعلى فهمه.

مع كانط، استمرت الأولوية لوجود الوعي، أو لوجودِ قوالبِ العقل الأولية، التي تساهم في تشكيل الوعي بالعالم.
الوعي بالعالم إذاً يتشكل بناءً على شكل العقل وشروطِه أو الطريقةِ التي يستطيع من خلالها فهمَ العالم.
بدايةً، كان العالم يأتي إلى العقل ليحدِثَ وعياً يشبه العالمَ ذاتَه.
مع كانط، أصبح العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً يشبه العقل ذاتَه. أو وعياً لم يعد يشبه العالم ذاته، بل يرتبط بقدرة العقل وطريقته في الفهم.
كان العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً مطابقاً للعالم أو يمكن له أن يكون مطابقاً.
مع كانط، أصبح العقل يذهب إلى العالم ليفهمَه، أو يذهبُ إليه ليستحضرَه بطريقته هو وبناء على شروطه هو، أي بناءً على شروط العقل ذاته.
لم يعد الوعيُ المطابقُ للعالم ممكناً أو في متناوَل الوعي. أصبح عالماً مقفلاً على كل وعيٍ موضوعيّ: أصبح "شيئاً في ذاته".
أصبحنا لا نملك إلا وعيَنا عن العالم، أما وعيُ العالم كما هو فلم يعد ممكناً. لم يعد من الممكن فصل فهم العالم عن الأداة التي تقوم بهذا الفهم.
مع هوسرل، لم يعد بإمكان العقل أن يذهبَ إلى "اللامكان" كما كان الأمر عند ديكارت. (الأناوحدية، أو اكتفاء العقل بذاته حتى لو لم يكن العالَمُ موجوداً).
العقل الذي لا يجد مكاناً يذهب إليه أو موضوعاً يعقله، لن يكونَ عقلاً.

هوسرل هنا يشبه كانط أكثر مما يشبه ديكارت. رغم أنه انطلق بتأملات "ديكارتية".
كان كانط يعتبر بأن عقلاً بدون موضوع للتعقل هو عقل فارغ. وبأن موضوعاً بدون "تعقيل"، أو بدون أن تُفرض عليه قوالب العقل أو قوانينُه، هو نوعٌ من الفوضى.
لكن هوسرل يذهب بجيوش العقل محاولاً هدم جدران "الشيء في ذاته" التي أقامها كانط.

يعتبِر هوسرل بأن معرفة هذا الشيء في ذاته ممكنة، بل يذهب إلى القول بأن لا وجود لهذا "الشيء في ذاته"، ولا وجود إلا لما يظهر للوعي، أو للظواهر.. وبأن معرفة ماهية هذه الظواهر هي معرفة ممكنة.
يبحث هوسرل عن حدس الماهيات، أي عن وعيها مباشرةً.

نحن حين نرى طاولةً حمراء، فإننا نعي اللون الأحمر بشكل مباشر.. ونتحدث عنه، حتى لو لم نرَ إلا هذا الشيء الأحمر.
لسنا بحاجة إلى التجريد الذهني: أي لسنا بحاجة إلى أن نرى الدجاجة الحمراء والوردة الحمراء والطاولة الحمراء وغيرها من الأشياء ذات اللون الأحمر حتى نستخلص مفهوم اللون الأحمر كما كان يذهب إلى ذلك أرسطو في رده على أستاذه أفلاطون.
أفلاطون الذي كان يرى أن مثال أو فكرة اللون الأحمر سابقة في الوجود على وجود الأشياء الحمراء.

نحن نحدس اللون الأحمر مباشرة وليس كنوع من التجريد الذهني الناتج عن الصفة المشتركة للأشياء المتعددة الحمراء.
وكذلك نحن نحدس ماهيات بقية الأشياء مثل هذه الطاولة أو الكرسي أو غير ذلك.
الحواس لا تقدم لنا كل معطيات الكرسي في آن واحد.
حدس ماهية الكرسي هو حدس عقلي مباشر. لا هو ناتج عن التجربة الحسية وحدَها، ولا هو تجريد ذهني ناتج عن المشترك بين التجارب الحسية الكثيرة.
والتجربة الحسية لا تقدم لنا إلا الجزئيات ولا يمكن أن تكون سبباً للماهيات أو الكليات. 
الماهيات ناتجةٌ عن الحدس الماهوي المباشر.
يحاول هوسرل المصالحة بين الذات والموضوع في تشكيل الوعي.. وهذا ما قال به كانط.
لقد حاول هدم جدار "الشيء في ذاته" لولوج ماهية الأشياء.. محاولاً تخطي حواجز كانط التي وضعها بين الوعي بالعالم وحقيقة ذلك العالم أو "الشيء في ذاته" المقفل والممتنع عن الكشف عن ذاته كما هو.
لكن إذا كان فهمي لهوسرل صحيحاً، فأظنه قد بقي أمام تلك الأسوار ولم يستطع تجاوزها.
أظن أن نقده ربما نجح في زحزحة التجريدات التي قال بها أرسطو: يمكن لنا حدس الكليات لا كنوع من التجريد الذي تقدمه التجربة الحسية بل كنوع من الحدس المباشر.
لكن أظن أنه ما زال بيننا وبين ماهية الشيء في ذاته جدران كانطية عالية ربما يستحيل تجاوزها.
يبدو أن هوسرل بتصويبه على كانط لم يصب إلا بعضاً من الإرث الأرسطي..
والله أعلم..

محمد الحجيري (عن الفيسبوك)
5 آذار 2017
تعليقات على المنشور:


Jamal Naim
 لقد خضت يا صديقي في موضوعاتٍ شائكة، في الحقل الذي افتتحه ديكارت، أعني به حقل الذاتيّة الذي ميّز الفلسفة الحديثة والذي حقّق قممه العاليه مع كنط ومن ثمّ مع هوسيرل الذي أسّس على ديكارت، لكن كمنطلقات وتوجّهات وليس كمضمون للمذهب الديكارتي، وقام بنقد لكنط، محاولًا تجاوزه، فلم يكتفِ بالحدس الحسي، فقال بالحدس المقولي أيضًا، أو بالأحرى بالحدس الحسي- المقوليّ. حاول هوسيرل تجاوز البنية الذهنية المجاوزة الكنطية، لكنّه، في رأيي، تابع طريقه، فقال بالأنا المحض المطلق الذي بإمكانه أن يؤسس كل موضوعيّة، متابعًا الثورة الكوبرنيقوسيّة الكنطيّة التي جعلت الأشياء تدور حول الذات لا العكس، أي دوران الذات حول الموضوع. الكوجيتو أو الأنا أفكّر، حقل الذاتيّة، الثورة الكوبرنيقوسيّة، البنية الذهنيّة المجاوزة، القوالب الذهنيّة النشطة أو الأفاهيم الفاهميّة المحضة، نشاطيّة الفاهمة، الأنا المحض المطلق... كلّها مصطلحات مفتاحيّة لإمكان السير في الطريق الوعر الذي سلكته يا صديقي. وأنا أرى أنّك كنت موفّقًا الى حدٍ كبير. فهنيئًا لك، فأنت محاربٌ من طرازٍ رفيع وتطرق موضوعات هي أشبه ما تكون بحجارة كبيرة تُرمى في المياه العقلية الراكدة ، مياهنا نحن.

محمد الحجيري
 شكراً لك يا دكتور جمال. شهادتك أعتز بها كثيراً.
وإن كنت أعرف أني ما زلت في طور التمرين، وربما كان سابقاً لأوانه أن أتحدث عن هوسرل.. لكن في كل الأحوال سأتراجع عن كل فهم سيتبين لي أنه غير دقيق.



Khalil El-Saghir
 تساؤل (دون ادعاء بخبرة فلسفية!)، ألا يجوز أن يكون الحدس الماهي للأشياء (الكرسي الأحمر مثالاً) هو حدس مباشر وآنيّ فقط فيما التجريد الذهني، المفهومي الأرسطي، هو تراكم وتفاعل الحدس الذهني للأشياء عبر الزمن؟
بطبيعة الحال، إن فهمي للكرسي الأحمر الآن هو غيره بعد حين. حتى الفوضى تصبح أكثر اتساقاً وانتظاماً في وعينا مع الوقت.



محمد الحجيري
 أرسطو كان يقول بأن مفهوم "الأحمر" قد جاء كتجريد ناتج عن رؤيتي لهذا الشيء الأحمر ولذاك الشيء الأحمر ولشيء ثالث وهكذا..
وحين أتحدث عن اللون الأحمر بشكل مطلق دون أن يرتبط بموضوعٍ محدد، فإنما جاء فهمي لذلك بسبب تجريدي السابق لمفهوم الأحمر من خلال الأشياء الجزئية الحمراء.
وهو بذلك كان يرد على أستاذه أفلاطون الذي كان يقول بأن اللون الأحمر كمفهوم سابق في وجوده لوجود الأشياء الحمراء.. هناك مثال الأحمر السابق لوجود الأشياء المادية.
لنأخذ مثالاً آخر.
أفلاطون يعتبر بأن القول بأن زيداً إنسان ما كان ممكناً لولا وجود مثال الإنسان في عالم المثل. زيد إنسان لأنه يشترك أو يشبه مثال الإنسان أو الفكرة الثابتة الموجودة بشكل واقعي في عالم المثل.
أرسطو يرى بأن لا وجود لمثال الإنسان السابق لوجود الأفراد.
"إنسان" ما هي إلا كلمة. لا وجود واقعياً لها قبل وجود الأشخاص.
ما يوجد في الواقع هو زيد وعمر وفلان وغيرهم.. ثم جاءت كلمة إنسان كتجريد للصفات المشتركة بين كل الأفراد..
الإنسان كمفهوم ليس سابقاً على وجود الأفراد. هو تجريد تم استخلاصه من الحالات الجزئية المتعددة.
هوسرل لا يرى ضرورة لهذا التعدد ثم التجريد من الخبرات المتشابهة المتعددة. لسنا بحاجة إلى أشياء متعددة حمراء لنستخلص منها فكرة اللون الأحمر. يمكن حدس ذلك مرة واحدة حتى لو لم تتعدد التجارب.
هذا إذا كان فهمي صحيحاً للمسألة المطروحة.


الجمعة، 3 مارس 2017

عندما بكى نيتشه؛ ترجمة خالد الجبيلي.



عندما بكى نيتشه.


ترجمة : خالد الجبيلي
دقّات ساعة سان سالفاتور أيقظت جوزف بريوير من أحلام يقظته. أخرج ساعته الذهبية الثقيلة من جيب سترته. كانت الساعة التاسعة. للمرة الثانية، قرأ البطاقة الصغيرة ذات الإطار الفضي التي تلقاها البارحة.
21 تشرين الأول 1882
دكتور بريوير،
يجب أن أراك لمناقشة مسألة بالغة الأهمية وعاجلة. إن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك. أرجو أن ألتقي بك في الساعة التاسعة من صباح الغد في مقهى سورينتو.
لو سالومي
يا لها من رسالة وقحة! فلم يسبق لأحد أن خاطبه بهذه الصفاقة. وهو لا يعرف أحداً باسم لو سالومي. لا يوجد عنوان على المغلف. لا توجد لديه وسيلة لإخبار مرسل هذه الرسالة بأن الساعة التاسعة ليست مناسبة، وبأن السيدة بريوير لن تكون سعيدة لتناول الفطور وحدها، وبأن الدكتور بريوير يمضي حالياً إجازته، وبأنه لا يبدي أي اهتمام بـ”المسائل البالغة الأهمية” – فقد جاء الدكتور بريوير إلى فينيسيا للابتعاد عن المسائل العاجلة تلك.
لكن ها هو يجلس هنا، في مقهى سورينتو، في الساعة التاسعة، يتصفح الوجوه حوله، متسائلاً أيّ منهم قد يكون لو سالومي الوقح.
أتريد المزيد من القهوة يا سيدي؟”.
أومأ بريوير للنادل، وهو فتى في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره، شعره أسود ناعم رطب ممشط إلى الوراء. منذ متى استغرق في حلم اليقظة هذا؟ ألقى نظرة أخرى على ساعته. عشر دقائق أخرى أُهدرت من حياته. وأُهدرت على ماذا؟ كالعادة كان يحلم ببيرثا، بيرثا الجميلة، مريضته التي يعالجها منذ سنتين. لا يكفّ عن تذكّر صوتها المثير: “دكتور بريوير، لماذا تخشاني؟ تذكّر كلماتها عندما أخبرها بأنه سيتوقف عن معالجتها: “سأنتظر. ستظل دائماً الرجل الوحيد في حياتي”.
قال موبّخاً نفسه: “بحق الله، أرجوكِ توقّفي! توقّفي عن التفكير! افتحي عينيك! انظري! دعي العالم يدخل”.
رفع بريوير فنجان القهوة وتنشق رائحة القهوة القوية وغبّ نفساً عميقاً من هواء تشرين الأول الفينيسي المائل إلى البرودة. تلفّت حوله. كانت جميع الطاولات في مقهى سورينتو قد امتلأت بالرجال والنساء الذين راحوا يحتسون القهوة ويتناولون فطورهم، والذين كان معظمهم من السيّاح والمتقدمين في السن. كان عدد منهم يحمل صحيفة بيد وكوب القهوة باليد الأخرى. خلف الطاولات، كانت غيوم زرق فولاذية من الحمام تحوم في السماء ثم تنقضّ فجأة. لم تكن تلك الحمامات تعكّر صفو المياه الراكدة في قناة غراند كانال التي تنعكس على صفحتها صورة القصور الفخمة الممتدة على ضفتيها بجمال أخّاذ، سوى مويجات يوقظها من سباتها جندول يعبر فوقها. أما الجنادل الأخرى، فكانت لا تزال نائمة، مقيّدة بأوتاد مثبّتة على أطراف القناة، مثل رماح ألقت بها يد عملاقة كيفما اتفق.
نعم، صحيح – أنظر حولك أيها الغبي!”، قال بريوير لنفسه، “فالناس يتقاطرون من جميع أنحاء العالم لمشاهدة فينيسيا. أناس يرفضون أن يموتوا قبل أن يباركهم هذا الجمال”.
تساءل كم ضاعت أمور في هذه الحياة؟ هل لأنه لم يكن ينظر حوله؟ أم لأنه كان ينظر ولا يرى؟ فقد تمشّى البارحة وحده حول جزيرة مورانو، لكنه بعد ساعة من التجوال لم ير شيئاً، ولم يسجّل في عقله شيئاً. لم تنقل شبكيّة عينه تلك المشاهد الجميلة إلى البؤبؤ. لقد أضاع وقته كله بالتفكير في بيرثا: ابتسامتها الخادعة، عيناها الساحرتان، نعومة بشرتها الدافئة، وأنفاسها المتسارعة، عندما كان يفحصها أو يدلك جسمها. هذه المشاهد تنطوي على قوّة معينة – تنبض بالحياة. كانت هذه الصور تدهم عقله وتغزو مخيلته. تساءل هل سيكون هذا قدري إلى الأبد؟ هل قُدِّر لي أن أكون مجرد خشبة مسرح تؤدّي فيه ذكرياتي عن بيرثا مسرحيتها طوال الوقت؟
نهض أحد الجالسين إلى الطاولة المجاورة. أيقظه صوت احتكاك الكرسي المعدني على الأرض. مرةً أخرى راح يبحث عن لو سالومي.
ها هي! المرأة التي تسير في شارع ريفا ديل كاربون، ثم تدخل المقهى. لا بد أنها هي التي كتبت تلك الرسالة – تلك المرأة الأنيقة، الطويلة، الممشوقة، الملفّعة بالفراء، التي تسير الآن نحوه بخطى وئيدة تشي بغطرسة عبر متاهة الطاولات التي تكاد تلتصق إحداها بالأخرى. عندما اقتربت، تبيّن بريوير أنها فتاة شابة، أصغر من بيرثا. لعلها لا تزال تلميذة مدرسة. لكن هذا الحضور الطاغي ليس عادياً.
اتجهت لو سالومي نحوه بثقة تامة. كيف يمكنها أن تكون واثقة تماماً من أنه هو الشخص المطلوب؟ بيده اليسرى مسّد الشعيرات الخشنة المائلة إلى اللون الأحمر في لحيته خشية أن تكون قد علقت فيها بقايا من طعام الفطور. شدّ طرف سترته السوداء إلى الأسفل بيده اليمنى لكي لا تتجمع حول رقبته. عندما أصبحت على مسافة بضع أقدام منه، توقّفت قليلاً، وحدّقت في عينيه بجرأة.
فجأةً توقف عقل بريوير عن التفكير. لم يعد النظر الآن يحتاج إلى تركيز. فقد تعاونت شبكيّة وبؤبؤ عينيه تماماً، وتركتا صورة لو سالومي تتدفق بقوة إلى عقله. يا لها من امرأة فائقة الجمال: جبهة عريضة، ذقن قوية منحوتة بروعة، عينان زرقاوان برّاقتان، شفتان شهوانيتان ممتلئتان، وشعر أشقر فضّي ممشط بإهمال جمعته بتكاسل في شكل كعكة عالية، مظهراً أذنيها وعنقها الطويل الجميل. بمتعة خاصة لاحظ خصلات شعرها التي أفلتت من كعكة شعرها وتدلت في جميع الاتجاهات.
بثلاث خطوات واسعة أخرى، أصبحت تقف أمام طاولته. “دكتور بريوير، أنا لو سالومي، هل لي أن…؟”، وأمأت برأسها نحو الكرسي. جلست بسرعة بحيث لم يتسنَّ لبريوير أن يحييها كما يجب – أن ينهض، وأن ينحني ويقبّل يدها، ويسحب كرسياً لتجلس عليه.
أيها النادل! أيها النادل”. طقطق بريوير أصابعه، “قهوة للسيدة. قهوة بالحليب؟” نظر نحو السيدة سالومي. أومأت برأسها. ثم خلعت معطفها الفرو، بالرغم من برودة الصباح.
نعم، قهوة بالحليب”.
لم ينبس بريوير وضيفته بكلمة واحدة للحظات. ثمّ نظرت لو سالومي في عينيه مباشرة، وقالت: “لديّ صديق ينتابه شعور باليأس، وأخشى أن ينتحر. وإذا انتحر فذلك سيكون خسارة كبيرة لي، ومأساة شخصية عظيمة لأنني أتحمّل قدراً من المسؤولية. مع أنني أستطيع تحمّل ذلك. لكن” – مالت نحوه، وقالت بصوت أوطأ – “لكن قد تتجاوزني هذه الخسارة أنا شخصياً: فقد ينطوي موت هذا الرجل على نتائج بالغة الأهمية – لك وللثقافة الأوروبية ولنا جميعاً. صدّقني”.
أراد بريوير أن يقول: “لا بد أنك تبالغين يا آنسة”، لكنه لم يستطع نطق هذه الكلمات. فما قد يبدو غلواً في المراهقة لدى أيّ شابّة في سنّها، قد يبدو مختلفاً هنا. أمر يجب أخذه بجدية. لم يكن صدقها وتدفقها يقاومان.
ومن هو هذا الرجل، صديقك؟ هل أعرف عنه شيئاً؟”.
لم يحن الوقت بعد لأخبرك من هو! لكن مع الوقت ستعرفه. يدعى فريدريك نيتشه. ربما تساعدك هذه الرسالة التي أرسلها ريتشارد فاغنر إلى البروفسور نيتشه على التعريف به”. وأخرجت رسالة من حقيبتها. فتحتها وأعطتها إلى بريوير، وقالت: “يجب أن أقول لك في البداية إن نيتشه لا يعرف أنني جئت لأراك ولا يعرف أن في حوزتي هذه الرسالة”.
الجملة الأخيرة التي نطقتها الآنسة سالومي جعلت بريوير يتوقف. هل عليّ أن أقرأ هذا الرسالة؟ فالبروفسور نيتشه هذا لا يعرف أنها تطلعني عليها، بل إنه لا يعرف أنها توجد في حوزتها! كيف حصلت عليها؟ استعارتها؟ سرقتها؟
كان بريوير يتفاخر بخصاله العديدة. فقد كان مخلصاً وسخياً، وكانت عبقريته في التشخيص أسطورية: ففي فيينا، كان الطبيب الشخصي لعدد من كبار العلماء والفنانين والفلاسفة مثل برامز وبروك وبرينتانو. وعلى الرغم من أنه في الأربعين من العمر، فقد كان ذائع الصيت في أنحاء أوروبا، وكانت شخصيات بارزة من جميع أنحاء الغرب تقطع مسافات طويلة وتأتي لاستشارته. الأهم من ذلك كله، يتفاخر بنزاهته – فلم يرتكب عملاً شائناً في حياته. إلا إذا كان عليه أن يتحمّل المسؤولية عن أفكاره الشهوانية المتعلقة ببيرثا التي كان يجب أن تتركز على زوجته، ماتيلد.
تردّد في أخذ الرسالة من يد لو سالومي الممدودة أمامه. لكن ذلك لم يدم سوى لحظات. مرةً أخرى ألقى نظرة على عينيها الزرقاوين البلّوريتين، ثمّ فضّ الرسالة المؤرخة 10 كانون الثاني 1882 التي بدأت بعبارة: “صديقي، فريدريك”، وأحيطت فقرات تلك بدوائر.
لقد قدمتَ إلى العالم عملاً لا يوازيه عمل آخر. إن كتابك يتسم بأصالة عميقة. لقد أدركت أنا وزوجتي أن هذا العمل هو الأمنية التي كنا نتوق إليها في حياتنا، الأمنية التي كنا نعرف أنها ستأتينا ذات يوم من الخارج وتأسر قلبينا وروحينا! لقد قرأنا كتابك مرّتين – مرة كل واحد منا على حدة أثناء النهار، ثم معاً بصوت مرتفع في المساء. وكدنا نتشاجر على قراءة النسخة الوحيدة المتوفرة لدينا، ونأسف كثيراً لعدم وصول النسخة الثانية الموعودة حتى الآن.
لكنّك مريض! هل عزيمتك مثبطة أيضا؟ إذا كان الأمر كذلك، كم يسرّني أن أفعل شيئاً لتبديد شعورك بالاكتئاب! كيف أبدأ؟ لا يمكنني أن أفعل شيئاً آخر سوى أن أغدق عليك مديحي.
اقبله، على الأقل، بروح ودية، مع أنك لست مقتنعاً بذلك.
تحياتي القلبية،
ريتشارد فاغنر
ريتشارد فاغنر! دهش بريوير لدماثته وألفته وتبسّطه مع الرجال العظماء في عصره. رسالة، ويا لها من رسالة، كُتبت بيد السيد نفسه! لكنّه سرعان ما تمالك نفسه بسرعة.
هذا أمر مثير للغاية يا آنستي العزيزة، لكن أرجو أن تقولي لي الآن ماذا يمكنني أن أفعل لك بدقة”.
مالت لو سالومي إلى الأمام مرةً أخرى، وأرخت يدها المكسوة بقفاز قليلاً على يد بريوير، وقالت: “إن نيتشه مريض، مريض جداً وبحاجة إلى مساعدتك”.
لكن ما طبيعة مرضه؟ ما هي الأعراض التي تنتابه؟”، سأل بريوير الذي أثارته لمسة يدها، وبدا سعيداً الآن لأن يخوض في مياه مألوفة.
قبل كل شيء هو مصاب بالصداع. صداع شديد معذّب؛ ونوبات متواصلة من الغثيان، وعمى وشيك – فقد بدأت قدرته على الرؤية تتدهور شيئاً فشيئاً؛ وتلبّك في المعدة – أحياناً لا يستطيع تناول الطعام لأيام عدة – والأرق. فلا يمنحه أيّ دواء النوم فيضطر إلى تناول جرعات كبيرة من المورفين؛ وشعور بالدوار – ينتابه أحياناً دوار البحر وهو على اليابسة لأيام عديدة”.
لم تكن قائمة الأعراض الطويلة جديدة بالنسبة إلى بريوير الذي يرى عادة من خمسة وعشرين إلى ثلاثين مريضاً كل يوم، وقد جاء الآن إلى فينيسيا لينال قسطاً من الراحة. لكن قوة تأثير حضور لو سالومي أرغمته على إبداء مزيد من الاهتمام.
إن الجواب عن سؤالك، يا سيدتي العزيزة، هو نعم. طبعاً سأرى صديقك. هذا أمر مؤكد. فأنا طبيب. لكن أرجو أن تسمحي لي بأن أسألك سؤالاً. لماذا لا تسلكين أنتِ وصديقك طريقاً مباشراً إليّ؟ لماذا لا تكتبان إلى عيادتي في فيينا وتحصلان على موعد؟”. هنا، راح بريوير يتطلع حوله بحثاً عن النادل ليُحضر له الحساب، وقال لنفسه كم ستكون ماتيلد مسرورة لو عاد إلى الفندق مبكراً.
لكن لم يكن ثمة شيء يمكن أن يثني هذه المرأة الجريئة، فقالت: “دكتور بريوير، أرجو أن تمنحني بضع دقائق أخرى. إني لا أبالغ في خطورة حال نيتشه. إن شعوره بالاكتئاب شديد جداً”.
لا أشكّ في ذلك. لكني أريد أن أسألك مرةً أخرى يا آنسة سالومي، لماذا لم يأتِ السيد نيتشه لاستشارتي في عيادتي في فيينا؟ أو لماذا لم يستشر طبيباً في إيطاليا؟ أين يقيم؟ هل تريدين أن أعطيك إحالة على أحد الأطباء في المدينة التي يعيش فيها؟ ولماذا أنا بالذات؟ في المناسبة، كيف عرفتِ أنني في فينيسيا؟ أو أنني من رواد الأوبرا ومعجب بفاغنر؟”.
صمتت لو سالومي وابتسمت بينما راح بريوير يمطرها بوابل من الأسئلة، وبدأت ابتسامتها تزداد مكراً مع استمرار سيل الأسئلة.
آنسة، إنكِ تبتسمين كما لو كنتِ تخبئين سرّاً. يخيَّل إليَّ أنكِ شابّة تستمتع بالاحتفاظ بالأسرار!”.
أسئلة كثيرة يا دكتور بريوير. هذا رائع – فلم نتحدث إلا لبضع دقائق، وهناك الكثير من الأسئلة المحيّرة. لا شكّ أن هذا يبشّر بالخير في أحاديثنا المقبلة. اسمح لي بأن أخبرك المزيد عن مريضنا”.
مريضنا! أُعجب بريوير ثانيةً بجرأتها. تابعت لو سالومي كلامها وقالت، “فقد رأى نيتشه جميع الأطباء في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، لكن أياً منهم لم يفهم حقيقة مرضه أو حتى يتمكن من التخفيف من حدة الأعراض التي يعاني منها. فقد أخبرني أنه رأى خلال الأربعة وعشرين شهراً الأخيرة أربعة وعشرين طبيباً من كبار الأطباء في أوروبا. لقد هجر بيته وأصدقاءه، وتخلّى عن أستاذيته في الجامعة وراح يبحث عن منطقة يتحمّل مناخها للتخفيف من شدة الألم الذي يعاني منه”.
صمتت الشابّة ورفعت كوبها لترشف منه وهي لا تزال تنظر إلى بريوير.
آنسة، إني أرى في عيادتي عادة مرضى يعانون من حالات غير عادية. لكن دعيني أحدّثكِ بصدق: لا يمكنني أن أفعل معجزات. وفي هذه الحال – عمى وصداع ودوار والتهاب معوي ووهن وأرق – وقد استشار عدداً من كبار الأطباء ولم يعثروا على علاج مناسب له، لا أظن أنني أستطيع أن أفعل أكثر مما فعله كبار الأطباء الخمسة والعشرين الذين استشارهم خلال تلك الأشهر”.
استند بريوير إلى كرسيّه، وأخرج سيجاراً، وأشعله. نفث سحابة رقيقة زرقاء من الدخان وانتظر حتى تبددت، ثمّ تابع: “للمرة الثانية أقول لكِ إنني مستعد لرؤية السيد البروفسور نيتشه في عيادتي، لكن يبدو أن علاج حال معقدة كحاله لا يزال خارج قدرة العلم الذي وصلنا إليه في عام ألف وثمانمئة واثنين وثمانين. لعل صديقك ولد في جيل قبل جيله”.
ولد في جيل قبل جيله!”، قالت ضاحكة، “إنها ملاحظة تنبّوئية يا دكتور بريوير. كم مرة سمعت نيتشه يردد هذه العبارة بالذات! الآن أصبحت متأكدة من أنك الطبيب المناسب له”.
على الرغم من استعداده للمغادرة لأنه يعرف أن ماتيلد تنتظره في الفندق مرتدية ثيابها وتذرع الغرفة جيئةً وذهاباً متململة، أبدى بريوير اهتمامه على الفور، وقال: “كيف ذلك؟”.
إنه يردد إنه “فيلسوف سبق عصره” – فيلسوف لم يفهمه العالم بعد. في الواقع، يبدأ الكتاب الجديد الذي ينوي كتابته بهذا الموضوع – النبي، زرادشت، الممتلئ حكمة، ويقرّر تنوير الناس. لكن لا أحد يفهم ما يقوله. فلم يتهيأ الناس بعد لاستقباله، النبي، ويدرك أنه أتى في زمن قبل زمانه، لذلك ينكفئ إلى عزلته”.
آنستي، إن كلماتكِ تأسرني – فأنا شغوف بالفلسفة، لكن ليس لديّ وقت كافٍ اليوم، ويجب أن أسمع رداً مباشراً على السؤال الذي طرحته وهو لماذا لا يستشيرني صديقكِ في فيينا”.
دكتور بريوير”، قالت لو سالومي مثبتة عينيها في عينيه مباشرة، “اعذرني لأنني لم أكن دقيقة. لعلي لم أكن صريحة. فأنا أجد متعة كبيرة عندما أكون في حضرة عقول عظيمة – ربما لأنني بحاجة إلى قدوة كي أطوّر ذاتي، ولعلي أحبّ ببساطة أن أجمع هذه العقول. لكني أعرف أني فتاة محظوظة لأنني أتحدّث مع رجل بعمقك وسعة أفقك”.
تدفق الدم إلى وجه بريوير الذي لم يعد يحتمل نظرتها إليه فأشاح بوجهه عنها بينما واصلت كلامها.
ما أقصد قوله هو أنني ربما كنت مذنبة لأنني لم أكن صريحة معك لكي أطيل فترة وجودنا معاً”.
هل ترغبين في المزيد من القهوة يا آنسة؟”، قال بريوير وأشار إلى النادل، “وفي المزيد من شرائح الخبز اللذيذة. هل تعرفين الفرق بين طريقة خبز الخبز الألماني والإيطالي؟ اسمحي لي بأن أصف لكِ نظريتي عن التوافق بين الخبز والشخصية الوطنية”.
لم يعد بريوير مستعجلاً للعودة إلى ماتيلد في الفندق، وراح يتناول طعامه ببطء مع لو سالومي، مستغرقاً في التفكير في حالته. فمن الغرابة أنه جاء إلى فينيسيا لكي يزيل الضرر الذي أحدثته امرأة جميلة، وها هو الآن يجلس مع شابة أكثر جمالاً يتجاذب معها أطراف الحديث! ولاحظ للمرة الأولى بعد أشهر عديدة، بأنه لم يشعر بالقلق تجاه بيرثا.
قال لنفسه ربما يوجد عندي أمل. ربما أستطيع أن أستخدم هذه المرأة لأتمكن من إخراج بيرثا من مسرح عقلي. هل سأتمكن من اكتشاف علاج نفسي يصبح بديلاً من الأدوية؟ فمن الممكن الاستعاضة عن المورفين الأكثر خطورة بدواء حميد مثل حشيشة الناردين. وكذلك، ربما استعاض عن بيرثا بلو سالومي- سيكون ذلك تقدماً سعيداً! فهذه المرأة على درجة أكبر من الذكاء والحنكة. إن بيرثا- كيف يمكنني أن أقول ذلك؟ – امرأة لم تنضج جنسياً، امرأة غير مكتملة، طفلة في جسد امرأة على نحو سيئ.
لكن بريوير كان يعرف أن براءة بيرثا وعدم نضجها جنسياً هما اللذان جذباه إليها حقاً. إن المرأتين كلتيهما تثيرانه جنسياً، وأحدث التفكير فيهما رعشات خفيفة أسفل بطنه. كما أثارت كلتا المرأتين خوفه: فهما امرأتان خطيرتان، لكن خطورة إحداهما تختلف عن الأخرى. إن لو سالومي هذه تخيفه بسبب قوة شخصيتها – بما يمكن أن تفعله له، أما بيرثا فتخيفه بسبب ضعفها واستسلامها – بما يمكن أن يفعله لها. سرت في جسده رعشة عندما طرأت الأخطار التي يجازف بها مع بيرثا – فكم مرة أوشك على انتهاك القاعدة الأخلاقية للطب، ويدمر نفسه وأسرته، وحياته برمتها.
في الوقت نفسه كان مستغرقاً في الحديث مع رفيقته الشابة المفتون بها وهو يتناول طعام فطوره، التي عادت هي، لا هو، إلى موضوع مرض صديقها – خاصة إلى تعليق بريوير عن المعجزات الطبية.
لقد بلغتُ الحادية والعشرين من العمر يا دكتور بريوير ولم أعد أومن بالمعجزات. وأدرك أن عدم تمكن أربعة وعشرين طبيباً من كبار الأطباء يعني أننا بلغنا حدود المعرفة الطبية المعاصرة. لكن أرجو ألاّ تسيء فهمي! فلا توجد لديَّ أوهام بأنك ستتمكن من معالجة نيتشه. ليس هذا هو السبب الذي جعلني أطلب مساعدتك”.
وضع بريوير فنجان قهوته على الطاولة ومسح شاربه ولحيته بمنديله، وقال: “سامحيني يا آنسة، إني مشوّش الآن حقاً. ألم تبدئي بالقول بأنكِ تطلبين مساعدتي لأن صديقكِ مريض جداً؟”.
لا، يا دكتور بريوير. لقد قلت إن لديَّ صديقاً في حالة يأس، وهو معرّض لخطر أن يضع حداً لحياته. إني أطلب منك أن تعالج اكتئاب البروفسور نيتشه، لا جسده”.
لكن يا آنسة، إذا كان صديقك مصاباً باليأس ولا يتوفر لديّ علاج له، فماذا في إمكاني أن أفعل؟ فليس في وسعي معالجة عقل مريض”.
فهم بريوير إيماءة لو سالومي بأنها تعني أنها عرفت أن هذه كلمات طبيب ماكبث، وتابع: “آنسة سالومي، لا يوجد دواء لحالات اليأس، ولا يوجد طبيب للروح. لا يمكنني أن أفعل أكثر من أن أوصي بأحد الحمّامات المعدنية العلاجية الممتازة في النمسا أو في إيطاليا، أو ربما يمكنه التحدث إلى كاهن أو مستشار ديني آخر، أو إلى أحد أفراد الأسرة – أو ربما إلى صديق جيد”.
دكتور بريوير، أعرف أنكَ تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك. لديَّ جاسوس. فقد حضر أخي جينيا، الطالب في كلية الطبّ، إلى عيادتكَ في مطلع هذه السنة في فيينا”.
جينيا سالومي! حاول بريوير أن يتذكر الاسم. هناك عدد كبير من الطلاب.
عرفتُ منه أنكَ تحبّ فاغنر، وأنكَ ستمضي عطلة نهاية هذا الأسبوع في فندق أمالفي في فينيسيا. لكن كيف يمكنني أن أتعرّف عليك. لكن الأهم من ذلك كلّه، عرفتُ منه أنكَ، في الحقيقة، طبيب يعالج حالات اليأس. فقد حضر في الصيف الماضي ندوة شرحتَ فيها الطريقة التي اتبعتَها في علاج شابّة تدعى آنا و. – كانت مصابة باليأس، وأنكَ استخدمتَ طريقة جديدة في علاجها، “العلاج بالكلام” – وهو علاج يستند إلى الإدراك، إلى تفكيك تداعي الأفكار المتشابكة، ويقول جينيا إنكَ الطبيب الوحيد في أوروبا الذي يستطيع أن يقدّم العلاج النفسي الصحيح”.
آنا و. أجفل بريوير عندما سمع الاسم، وانسكبت بضع قطرات من القهوة عليه عندما وصل الفنجان إلى شفتيه. جفّف يده بمنديله، راجياً ألاّ تكون الآنسة قد لاحظت ما حدث. آنا و.! آنا و.! أمر لا يصدَّق! فحيثما التفتَ، كان يصادف آنا أو. – الاسم السرّي لبيرثا بابينهيم. فقد دأب بريوير على الحفاظ على السرية التامة، ولم يكن يفصح عن أسماء مرضاه الحقيقيين أثناء مناقشة حالاتهم مع طلابه، بل كان يطلق اسماً مستعاراً على كل مريض بقلب الحرف الأول من اسمه: هكذا فإن الحرفينB. P. (بيرثا بابينهيم) يتحولان إلى A. O. أو آنا و.
إن جينيا معجب بكَ كثيراً يا دكتور بريوير. فعندما أخبرني عن تلك الندوة التعليمية التي تحدثتَ فيها عن معالجتكَ لآنا أو.، قال لي إنه يعتبر نفسه محظوظاً لأنه رأى نور عبقري، مع أن جينيا فتى لا يمكن أن يؤثر فيه شيء بسرعة. لم أسمعه قط وهو يتحدث هكذا. لذلك قررتُ أن أراكَ ذات يوم وأتعرف عليكَ، بل ربما أدرس على يدكَ. لكن ‘ذات اليوم’ اقترب كثيراً بعدما ساءت حال نيتشه في الشهرين الماضيين”.
تطلع بريوير حوله. كان العديد من روّاد المقهى الآخرين قد أنهوا طعامهم وغادروا، بينما لا يزال هو جالساً هنا، ناسياً بيرثا تماماً، بصحبة شابة رائعة الجمال اقتحمت حياته منذ لحظات. سرت في جسده قشعريرة، برودة. ألا يوجد مهرب من بيرثا؟
آنسة” – تنحنح بريوير وتابع كلامه بصعوبة -“إن الحال التي وصفها شقيقكِ كانت مجرد – حال منفردة جرّبتُ فيها طريقة في العلاج، ولا يوجد ثمة سبب يدعونا للاعتقاد بأن هذه الطريقة بالذات ستفيد صديقكِ. في الحقيقة، توجد جميع الأسباب التي تجعلنا نعتقد بأنها لن تكون مفيدة له”.
لماذا يا دكتور بريوير؟”.
أظن أن الوقت لا يسمح لي بأن أجيبك باستفاضة. يمكنني أن أقول ببساطة إن مرض آنا و. يختلف عن مرض صديقكِ اختلافاً تاماً. فقد كانت تعاني من الهستيريا ومن بضعة أعراض جعلتها امرأة عاجزة، كما يمكن أن يكون قد شرح لكِ شقيقكِ. وتضمن النهج الذي اتبعتُه علاجاً منتظماً للتخلص من الأعراض التي تعانيها بمساعدة مريضتي على التذكر، وبمساعدة التنويم المغناطيسي، ومن خلال الصدمة النفسية المنسية التي نشأت فيها. وعندما يتم الكشف عن المصدر المعيّن، تزول الأعراض”.
أظن أن الشعور باليأس هو أحد الأعراض المرضية. ألا تستطيع علاجه بالطريقة نفسها يا دكتور بريوير؟”.
يا آنسة، إن اليأس ليس عرضاً طبياً. إنه شيء غامض، غير دقيق. في حين أصاب كلّ عرض من أعراض آنا جزءاً منفصلاً من جسمها، وأطلق كلّ عرض منها إشارة تنبيه داخل الدماغ من خلال ممرّ عصبي. وكما قلت فإن الشعور باليأس الذي يعتري صديقكِ ما هو إلا وهم. للأسف لا توجد بعد طريقة لعلاج مثل هذه الحالات”.
للمرة الأولى تردّدت لو سالومي، وقالت: “لكن دكتور بريوير”، ووضعت مرة أخرى يدها على يده، “قبل أن تعالج آنا، لم يكن هناك علاج نفسي للهستيريا. وحسب علمي، كان الأطباء يستخدمون الحمّامات أو العلاج بالكهرباء المريع فقط. إني على اقتناع تام بأنكَ أنتَ، وربما أنتَ فقط، مَن يستطيع ابتكار علاج جديد لمعالجة نيتشه”.
نظر بريوير فجأةً إلى الساعة. يجب أن يعود بسرعة إلى ماتيلد، فقال: “آنسة، سأفعل كلّ ما في وسعي لمساعدة صديقكِ. اسمحي لي بأن أعطيك بطاقتي. سأرى صديقك في فيينا”.
ألقت نظرة سريعة على البطاقة قبل أن تدسّها في محفظتها.
دكتور بريوير، أخشى ألاّ يكون الأمر بهذه البساطة، لأنني أستطيع القول إن نيتشه ليس مريضاً متعاوناً. في الحقيقة، هو لا يعرف أنني أكلمكَ هنا عنه. إنه شخص منغلق تماماً وذو كبرياء، ولن يقرّ أبداً بأنه في حاجة إلى مساعدة”.
لكنكِ تقولين إنه يتحدث علناً عن الانتحار”.
في جميع أحاديثه ورسائله، لكنه لا يطلب مساعدة من أحد. وإذا عرف بحديثنا هذا، فلن يغفر لي، وإني واثقة من أنه سيرفض زيارتكَ. وحتى لو تمكنت، بطريقة ما، من إقناعه بزيارتك، فسيقصر استشارته لكَ على أمراضه الجسدية. مطلقاً – ولا بعد ألف سنة – لن يطلب منكَ معالجته للتخفيف من حدة شعوره باليأس. إن لديه آراء قوية عن الضعف والقوّة”.
بدأ يتملك بريوير شعور بالإحباط ونفاد الصبر، ثم قال: “هكذا إذاً يا آنسة. ازدادت المسرحية تعقيداً. تريدين أن أرى بروفسوراً يدعى نيتشه تقولين إنه واحد من كبار الفلاسفة في عصرنا لأقنعه بأن الحياة – أو على الأقل حياته – جديرة بالحياة. ويجب أن أفعل ذلك من دون أن يعرف فيلسوفنا”.
أومأت لو سالومي، وأخذت نَفَسَاً عميقاً، وتراخت في كرسيّها.
ثم تابع: “لكن كيف يمكنني عمل ذلك؟ ببساطة إن تحقيق الهدف الأول – لا يزال علاج اليأس في حد ذاته خارج متناول العلوم الطبية، أما الثاني – وهو معالجة المريض سراً – فينقل عملنا إلى عالم الخيال. هل توجد عقبات أخرى لم تخبريني بها؟ ربما كان البروفسور نيتشه لا يتحدث إلا باللغة السنسكريتية – أو أنه يرفض أن يغادر صومعته في التيبت؟”.
أحسّ بريوير بالدوار عندما رأى قسمات لو سالومي المرتبكة، لكنه تمالك نفسه بسرعة، وقال: “بجد، يا آنسة سالومي، كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟”.
ترى الآن يا دكتور بريوير! الآن ترى لماذا أتيتُ إليكَ ولم أتوجه إلى شخص أقل شأناً”.
قرعت أجراس سان سالفاتور معلنةً الساعة العاشرة. لا بد أن ماتيلد بدأت تقلق الآن… أشار بريوير إلى النادل مرةً أخرى، وخلال انتظارهما وصول الحساب، وجّهت إليه لو سالومي دعوة غير عادية.
دكتور بريوير، أوّد أن أدعوكَ لتكون ضيفي على الفطور غداً؟ وكما قلت فإني أتحمّل جزءاً من المسؤولية الشخصية لإصابة البروفسور نيتشه باليأس. ثمة أشياء كثيرة أوّد أن أحدّثكَ عنها”.
غداً، آسف، مستحيل. صحيح أن امرأة جميلة لا تدعوني كلّ يوم إلى الفطور يا آنسة، لكني لست حراً لقبول الدعوة، لأن زيارتي إلى فينيسيا مع زوجتي تجعلني لا أستطيع أن أتركها وحدها مرة أخرى”.
إذاً اسمح لي بأن أقترح عليكَ خطة أخرى. لقد وعدتُ أن أزور أخي هذا الشهر. في واقع الحال، قررتُ أن أسافر إلى هناك مع البروفسور نيتشه. عندما أذهب إلى فيينا سأزودك معلومات أخرى. في غضون ذلك، سأحاول إقناع البروفسور نيتشه بزيارتكَ لمعالجة حاله الصحية المتدهورة”.
خرجا معاً من المقهى. لم يبق سوى عدد قليل من الزبائن، وانهمك الندل في تنظيف الطاولات. عندما همّ بريوير باستئذانها ليغادر، شبكت لو سالومي ذراعها بذراعه، وسارت معه.
دكتور بريوير، كانت هذه الساعة قصيرة جداً. إني أطمع بفترة أطول من وقتك. هل يمكنني أن أرافقك إلى الفندق الذي تنزل فيه؟”.
رأى بريوير أن طلبها هذا ينمّ عن جرأة، جرأة ذكورية، لكن ما نطقته شفتاها يجب أن يكون أمراً طبيعياً. فمن الطبيعي أن يتكلّم المرء بهذه الطريقة. فإذا وجدت امرأة متعةً في صحبة رجل ما، فما الضير في أن تشبك ذراعها في ذراعه وتطلب أن تسير معه؟ لكن هل توجد امرأة أخرى يعرفها، يمكنها أن تقول مثل هذه الكلمات؟ هذه المرأة تنتمي إلى نوع آخر من النساء. إنها امرأة حرّة.
لا يمكنني رفض دعوة كهذه”، قال بريوير، ضاغطاً على ذراعها، مقرّباً إياها منه، “لكن عليَّ أن أعود إلى الفندق، ويجب أن أعود وحدي، لأنه لا بد أن زوجتي الحبيبة قلقة الآن وتنتظرني عند النافذة، ومن واجبي مراعاة مشاعرها”.
طبعاً، لكن” – وسحبت ذراعها من ذراعه، ووقفت أمامه، كرجل منكفئ على نفسه، وأضافت – “إن كلمة “واجب” كلمة ثقيلة ومرهقة بالنسبة لي. فهي تختزل جميع واجباتي إلى واجب واحد فقط – وهو إدامة حريتي. إن الزواج وما يرافقه من امتلاك وغيرة يستعبد الروح. لن أدع ذلك يهيمن عليّ. آمل، يا دكتور بريوير، أن يأتي ذلك الوقت الذي لا يظلم فيه الرجال والنساء أحدهم الآخر”. استدارت بالثقة نفسها التي أبدتها عندما وصلت، وقالت: “أوف ويدرسيهين. إلى اللقاء في فيينا”.
*************************
المصدر : جريدة النهار