الثلاثاء، 29 نوفمبر 2016

أدونيس؛ مقابلة مع جريدة السفير بتاريخ 19 حزيران 2014


أدونيس: لا تتحقق الديموقراطية ما دام الدين هو مرجع القيم


نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-06-19 على الصفحة رقم 11 – السفير الثقافي


شاركت أسرة وأصدقاء "السفير" في حوار مع الشاعر الكبير أدونيس، أعدت نصه سارة ضاهر، وراجعه وحرره صقر أبو فخر.
وفي ما يلي نص الحوار:
^ كيف تبدو لك اليوم صورة ما يحدث في البلدان العربية؟
} لا أعتقد أن أحداً تردد في الدفاع عن التحولات العربية والوقوف إلى جانبها. وهذا الانفجار كان محموداً ومطلوباً في تونس أو في القاهرة أو في البلدان العربية الأخرى. والجميع يعرف هذه التطورات، ولا أودّ الدخول في تفصيلاتها. لكن المأخذ الأولي عليها هو خلوّها من أي مشروع يشكّل خطوة نحو التغيير. ليس تغيير السلطة، بل تغيير المجتمع، وتغيير الأفكار، وتغيير الثقافة. ولاحظنا أن وراء هذا الانفجار لم يكن هناك خطاب ثقافي تغييري، وأنّ الطابع العام لهذا الانفجار كان دينيا. ولاحظنا أيضاً أنّ المشروع السياسي لهذا الانفجار هو مشروع عودة إلى أصول خانها الناس ويجب العودة إليها، وهي أصول دينية بشكل أو بآخر.
إذا استثنينا القاهرة وتونس، لم يحدث تحرّك شعبي حقيقي وعضوي، بمعنى الانفجار لأسباب داخلية. فقد كانت الانفجارات اللاحقة خارجية أكثر منها داخلية. كنت أود أن أشاهد تظاهرة كبيرة تخرج من دمشق أو حلب، أي أن يخرج الناس إلى الشارع في تظاهرة لتغيير مجتمعهم، على غرار ما حدث نسبيا في تونس أو في القاهرة. الملاحظة الأخرى، هي تحوّل هذه التحرّكات إلى حركات عنفية مسلحة، ما أفسح في المجال لدخول عناصر من الخارج، مرتزقة، يمارسون القتال على الأرض. هذا الدخول في التفصيلات مهم إذا ما ربطناه بالتاريخ العربي. باختصار، إنّ غاية الانفجار كانت تدور حول السلطة بهدف تغيير النظام، ولم يكن وراءها أي مشروع شامل على الإطلاق، فلم نشهد طوال تاريخ الثورات مشروعاً للتحرر يأتي من الخارج، لذلك فإنّ هذه التحرّكات قائمة على التبعيّة بشكل أو بآخر. واليوم، تبدو البلدان العربية أكثر تبعية للخارج من أي وقت مضى. فكيف يمكن أن نعيش حالة ثورية، في حين أن هذه الجماعات السياسية المسلحة تابعة لقوى الخارج ومرتهنة لها، وهو ما لم يحدث في تاريخ البلدان العربية، حيث باتت السياسة الأجنبية قادرة على احتلال العرب من داخلهم، وهذا الأمر يجب أن يرتبط بتاريخ معين وثقافة معينة.
^ ورد في كلامك عبارة: «مشروع عودة إلى أصول خانها الناس»، ما يطرح علينا سؤالا جوهريا: هل النهضة التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، لم تقدّم شيئا، بل كانت نهضة فاشلة؟
} من دون شك، فحتى هذه النهضة نفسها كانت شكلا من أشكال العودة إلى الماضي.
^ إذاً، ما هي الرؤية التي نرتبط بها دينيا، ثقافيا واجتماعيا؟ بمعنى ما هي هذه الرؤية التي أسست ما نسميه المجتمع العربي؟
} إذا قرأنا التاريخ العربي والنصوص الدينية، والنص القرآني خاصة، نرى أن الرؤية الإسلامية إلى الإنسان والعالم، كما سادت وكما تمأسست، تقوم على العناصر التالية: أولا، محمد خاتم الأنبياء، أي لا نبي بعده. ثانيا، الحقائق التي نقلتها النبوة المحمدية في كل ما يتعلق بالدين وبالغيب وبالقيم الناتجة من هذه العلاقة، أي الأخلاق والمعاملات، هي حقائق نهائيّة، ولا حقائق بعدها. ثالثاً، أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، فهو إذاً يجبُّ ما بعده بالضرورة. إذاً الفرد لا حقّ له في أن يعدّل، أو أن يغيّر، أو أن يضيف، أو أن يحذف، بل تقتصر حريته على أن يطيع وينفذ. ما يعني أنه يعيش في عالم مغلق لا تقدّم فيه. ولا معنى للتقدّم هنا، لأن التقدّم الأقصى قد أنجز في الوحي الذي لا حقائق بعده. والزمن هو فرصة كي نعيش هذا الأصل الأول. فالزمن، هنا، لا يحمل المستقبل، بل هو ممارسة لا نهائية لتأصيل الأصول التي نشأنا عليها فكريا وروحيا. لذلك، نحن لا نقرأ أيّ مفهوم للتقدّم في التاريخ الإسلامي كله. ولا توجد حرية، ولا معنى للحرية في هذه الرؤية. حرية الفرد في هذه الرؤية، هي حريته في أن يكون مسلما وأن يمارس الإسلام، وبالتحديد الإسلام الذي ساد.
الإسلام نشأ عنفياً
^ كيف ساد الإسلام؟
} الإسلام لم ينشأ كتبشير غير عنفي، بل نشأ، منذ البداية عنفياً. فالسيدة خديجة على سبيل المثال كانت تاجرة، ونبينا بدأ حياته في التجارة، والخليفة الأول كان تاجراً، والخليفة الثاني كان تاجراً أيضاً، وكذلك الخليفة الثالث... ونشأ الدين كتجارة ومال، أي سلطة. ويجب أن نتساءل: كيف أنّ هذه النشأة قسّمت فوراً العرب. فقد كان العرب المسلمون قسمين: قريش والأنصار. والأنصار هم من ناصر النبي ودافع عنه ضدّ قبيلة قريش. وكيف أُقصي الأنصار حينما أفصح سعد بن عبادة الأنصاري عن طموحه في السلطة حين قال: منكم أمير ومنّا أمير، وكان القصد إحداث نوع من الشراكة مع القرشيين. وعلى هذا الغرار بقيت قريش نفسها مقسومة، فحتى داخل قريش، صرّح الخليفة الثاني أنّه لا يحق لبني هاشم أن تكون النبوة والخلافة فيهم. بل إذا كانت النبوة فيهم فإن الخلافة يجب أن تكون في غيرهم. والخمسون سنة الأولى من تأسيس الإسلام كانت كلها قتالا قرشيا ـ قرشيا، أمويا ـ هاشميا. إذاً نشأ الإسلام في مناخ تجاري سلطوي عنفي. أي أن العنف كان جزءاً أساسياً من البنية الثقافيّة التي عشنا فيها طوال هذه الحقب.
طبعا لا يتفرّد الإسلام بذلك. جميع الرؤى الوحدانيّة الدينيّة تشترك في مثل هذا الأمر بشكل أو بآخر، لكن مع بعض الفروقات. والفارق الأساس هو فارق ثقافي. فالديانة المسيحيّة لم تبدأ عنفيّة، بل جوبِهَت هي نفسها بالعنف. كما أنّها تطوّرت في أحوال مختلفة كليّاً عن الوضع الإسلامي. وكذلك الديانة اليهودية ذات النشأة الغربيّة ثقافيّاً. فقد تطوّرت هذه الديانة، بعد أن تعرّضت لانفجارات عدة، من نوع آخر، أدّت بالتفاعل إلى فصل الدين عن الدولة.
^ أنت تعتبر أنّ المشكلة تكمن في الجذور، وهذه المسألة تحتاج إلى نقاش. إذ إنّ الشعوب العربيّة مرّت بأطوار عديدة منها الطور التأسيسي الأوّل وصولاً إلى الطور الكولونيالي وبالتالي يتراءى كأنّ المسألة هي مسألة أديان، مسألة الإسلام واليهودية والمسيحية.
} أنا لا أقول إنّ المشكلة تكمن في الأصول. إن المشكلة تكمن في قراءة الأصول. المشكلة ليست في المسيح، بل كيف تمّ فهم المسيح. المشكلة هي كيف نقرأ النص. فالأصول تمأسست في ظلّ قراءات سلطويّة وسياسيّة. ومع ذلك لا أقول إنّ الخطأ فيها وحدها إنما أقول إننا لا نستطيع أن نفهم ما يجري اليوم. ولا نستطيع أن نفهم حتى داعش أو النصرة أو التيار الديني السائد ما لم نفهم هذه الأصول ونصوصها التأسيسية، لأن داعش لم تأتِ من فراغ. داعش جزء أساسي من التاريخ الإسلامي.
^ وهي أيضا جزء أساسي من الحاضر.
} هذا يثبت وجهة نظري أكثر. هذه حجة إضافية على أنّ هذا الماضي لا يزال حاضرا.
الأصول
^ لماذا تهيمن الدعوة الدينية ولا تهيمن الدعوة الليبرالية أو الدعوة الاشتراكيّة مثلاً؟
} أزعم أننا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال إلا إذا فهمنا الأصول: كيف تطوّرت وكيف لا تزال تحيا حتى اليوم. في الشارع نحن نعيش أصول عمر وأبي بكر وعثمان، وأتباعهم هم الذين يطلقون النار ويستولون على السلطة... لماذا غابت القوى الأخرى المناوئة للقوى الدينية. هذا سؤال استطرادي.
^ تمّ إقصاؤها وإلغاؤها.
} لا أحد يستطيع أن يقصي إنساناً فاعلاً مستعداً للموت. لا أحد.
^ ألا يوجد أثر ما للعولمة التي تجاوز عمرها اليوم الأربعين سنة؟ بمعنى أننا شهدنا في سياق هذه العولمة الجديدة انهيارا للدول، وانهيارا للأفكار، وتهميشاً لفئات كبيرة جدا من المهاجرين إلى أوروبا، ومنهم المسلمون بالتحديد. ما الذي يدفع شبانا مسلمين من أوروبا وإنكلترا وألمانيا والشيشان... إلى أن يأتوا ويقاتلوا في سوريا والعراق؟. هل تجد أن هناك رابطاً بين هذه العوامل وإطلاق هذه «القومة» الإسلاميّة؟
} جوابي هو سؤال آخر: لماذا انفجرت في العولمة هذه القوى الدينية ولم تنفجر القوى الأخرى المناوئة؟ لماذا احتضنت العولمة هذه القوى الدينية ولم تحتضن القوى الأخرى الحية في المجتمع والتي تمتلك مشروعا للمستقبل؟ ما يعني أنّ ثمة شيئاً آخر وهو أن الشعوب، مع الأسف، ليست هي التي انطلقت بنفسها وثارت، بل ثارت قوى أخرى.
^ تقصد هنا انطلاقة الثورات لا مصيرها؟
} المهم النتائج وليس البدايات. طبعا هناك استثناءات. ولكن في سوريا مثلا، فإن ثلث الشعب هاجر. لا يوجد شعب في العالم يهاجر ونستمر في تسميته بأنه شعب ثوري.
^ الجماهير المدنية التي شاركت في الثورة أصبحت خارج الفعل. اليوم من يقاتل في سوريا؟ معظم المقاتلين جاء من الخارج. مَن يقاتل في الأرياف ليس الشعب. فقد حصل تحوّل هائل حتى ما عاد بإمكاننا تسميتها لا ثورة ولا انتفاضة. هناك حرب حقيقية الآن تجري في سوريا ذات طابع أهلي وطائفي.
} ليس الشعب الذي نتحدث عنه ونتمنى أن يثور هو الذي ثار. والدليل سوريا. ونحن جميعنا، وأنا أوّلهم أقف إلى جانب تغيير الأنظمة. لكن نحن بحاجة إلى أن إلى نفهم ما يجري. باختصار، أستطيع أن أقول إنّ الأنظمة لم تكن هي الهدف على الإطلاق. كانت الأنظمة مجرّد أداة، لأنّ الهدف الأساسي هو تدمير البلاد.
القوى الأجنبية
^ من الذي يريد أن يدمّر هذه البلاد؟
} القوى الأجنبيّة. كما حصل مع تدمير النظام العراقي، أو النظام الليبي، وكما يحصل في سوريا الآن. كيف تقود القوى الرجعية والقوى الأجنبية الثورة؟ في العالم كله وفي جميع مراحل التاريخ، هل من ثورة قادها رجعيون ومرتهنون للخارج؟
^ في تاريخنا الحديث، الإخوان المسلمون الذين ظهروا في مصر سنة 1928 كانوا رداً على الدولة الديموقراطية الحديثة، أو الصعود الديموقراطي الليبرالي الحديث. برأيك هذه الموجة الهائلة التي نشهدها الآن هي رد على ماذا؟ خاصّة أنه لم يكن لدينا أي مشروع للديموقراطيّة، ولم تسمح القوى الأجنبية بتأسيس دول علمانيّة في المنطقة قائمة على الديموقراطية.
} صحيح، لنتخذ أميركا مثلا. أعطني مثلا واحدا على أنّ السياسة الأميركية وقفت إلى جانب الشعوب المستضعفة أو المرتهنة وحرّرتها أو ساعدتها في التحرر. أميركا هي أول دولة استخدمت القنبلة الذريّة ضد البشر. والنظام الأميركي نفسه قام على إبادة شعب بكامله أي الهنود الحمر. ومع ذلك فـ «الثوار» العرب مغرمون بأميركا. ما يحدث في العالم العربي غير معقول. في ليبيا مثلاً، ونحن جميعا كنا ضد القذافي، هل يعقَل أن تدمّر البلاد بهذه الطريقة؟ والأمر نفسه في سوريا ينطبق على العراق. أي ثورة عدوّها تمثال أو متحف أو جماعة مثل الايزيديين حتى تتم إبادتهم؟
^ إذاً ما هي الرؤية التي يمكن أن نرتبط بها كمجتمع عربي؟
} المشاريع والأفكار والمستقبل تولد على نار التحليل. لا توجد رؤية جاهزة سلفاً. إذا لم نفهم حالنا فلا يمكن أن نخرج إلى أيّ أفق، بل سنبقى غارقين في مشكلاتنا. الآن في معمعان الثورة، التي هي ميدان الحرية والتحرّر، نجد أنّ المفكّر بات معرضاً للخطر أكثر مما كان في أيام الطغيان. هل هذا معقول؟ إذا كان الإنسان المفكر غير حرّ في جسده، وغير حرّ في رأيه أو تفكيره، وغير حرّ في تنقلّه في زمن الثورة، فكيف نفكّر؟ أين الثورة؟ هناك خلل، ونحن نعمل على حجبه مع الأسف لسبب أو لآخر.
لذلك أقول إن في ضوء فهم الاصول والجذور نستطيع أن نفهم ما يحدث الآن في شكل أدقّ. فلا يمكن النظر إلى ما يحدث في الدول العربية الآن، كأنه شيء منفصل عن التاريخ، أو كأنه مفاجئ، بل كجزء متأصل. طوال أربعة عشر قرناً لم يستطع العرب تحقيق المواطنة. بينما حقق الرومان ذلك في جميع أنحاء الامبراطورية، ومنحوا الجنسيّة الرومانيّة لجميع الرعايا. العرب لم يستطيعوا أن يفكّكوا بنية القبيلة ولا بنية العشيرة، ولا البنية المذهبية. لم نقم بأي شيء جذري.
^ إذاً لا تزال المفاهيم ثابتة، ولم تتحوّل بالمعنى الجوهري للرؤية.
} طبعاً، من دون شك. المشكلة في تطبيق النظرية والرؤية. وإلا فكيف نشأ المأمون إذاً؟ كيف أنّ خليفة كالمأمون قرّر أن يترجم الآخر المرفوض كليا؟ كيف نشأ شاعر مثل أبو العلاء المعري أو الراوندي؟ لماذا لم يكن الخلفاء الأمويون مثل عبد الملك بن مروان الذي كان يستقبل شاعرا مسيحيا اسمه الأخطل وهو سكران ويقول له:
إذا ما نديمي علّني ثمّ علّني
ثلاث زجاجات لهنّ هديرُ
خرجتُ أجرّ الذيل مني كأنني
عليك أميرَ المؤمنين أميرُ
وفي الوقت نفسه قتلوا عمر بن عبد العزيز لأنه كان منفتحاً! ومقابل ذلك كيف لا نجد شاعرا عربيا واحدا كان مؤمناً؟ إن ذلك يشير إلى أن الإسلام سلطة ومال وليس ثقافة. أي لم يكن هناك سياق تاريخي لمشروع حقيقي تغييري. كان هناك مشروع سلطة وخلافة، كما يقول التراث الإسلامي: المُلك لمَن تغلّب. الخلافة لمن غَلَب. ليست هناك رؤية ثقافية على الإطلاق، بل تناقضات غريبة.
^ هل من الممكن تكوين جبهة مدنية عربية علمانية؟
} هذا مشروع، ويجب أن يتحقق. أنا أعتقد أنه بدلاً من الدعوات القومية الواحدية العربية على طريقة القرن التاسع عشر والقرن العشرين، يجب العمل على أساس مدني علماني.
^ ألم تفشل ثورة الليبراليين وثورة عبد الناصر، واعتُبر ذلك الزمن زمن الخيبة؟
} ماذا فعل الليبراليون؟ وماذا فعل عبد الناصر؟ إذا أردنا أن نقارن ثورة عبد الناصر بثورة ماو في الصين. فالزمن هو نفسه، أي سنة 1958. لنتأمل منجزات ماو، ونقارن كيف أنّ عبد الناصر لم يستطع تأسيس جامعة واحدة ذات مستوى عالمي. أعود وأقول إن من دون تحويل قراءة الدين إلى قراءة جديدة، بحيث لا أحد يحارب أحداً، وتصبح جميع الأديان عبارة عن إيمان شخصي فردي حرّ، ويكون دين المجتمع هو الإنسان وحريته وحقوقه، فإن من دون ذلك لا يمكن إنجاز أي تقدّم.
^ والديموقراطية؟
} أول شروط الديموقراطية هي الاعتراف بالآخر، وأن تعترف بالآخر ليس على سبيل التسامح، بل على سبيل المساواة. وهذا مستحيل أن يتحقّق ما دام الدين هو مرجع القيم. إذا أردت أن تتحدّث عن الحرية أنت بحاجة إلى إنسان فرد يكون مسؤولاً فعلا، ولديه ذاتية مستقلة، ويكون سيّد نفسه ومصيره. لا يمكن أن تتحدّث عن الحرية في حين أن أي مواطن لا يستطيع مهما علا شأنه وثقافته، ولو كان عبقري زمانه، أن يتسلم منصباً إلا على أساس طائفي كما يحدث في لبنان مثلاً. لذلك، فإنّ لبنان، وجميع العرب، يدورون في حلقة مفرغة. أمضينا العمر لا نسعى إلا إلى تغيير السلطة، واستبدال وزير بآخر ألطف منه، أو أكثر معرفة منه، ولكن ليس بإمكانه تغيير أي شيء أو القيام بأي شيء. نحن العرب، على مدى قرن، لم نقم بأيّ شيء سوى تغيير السلطة وتغيير الأنظمة. مئة مرّة غيّرنا الأنظمة، ولكن ماذا غيّرنا مع الأنظمة؟ لم نغيّر شيئا، لا التربية ولا المدرسة... هذه القوى التي أطلقتم عليها صفة «الخيبة» ليست خيبة، هي نفسها كانت الخيبة، لأنه لم يكن لديها أي مشروع.
^ كان هذا المشروع مشروع نخب. ماذا قدّمت هذه النخب، وأين هي الآن؟
} هُزمت، وحلّ محلها، في هذا الفراغ، القوى الإرهابية الحالية التي لها جذور تقوم عليها وتنادي بالعودة إليها وتحكم وتقتل باسم الدين.
^ ماذا نفعل؟ هل نستسلم لذلك؟
} ما عاد في إمكان النخب تكرار ما قامت به سابقاً. خطابها الماضوي انتهى. يجب البحث عن خطاب آخر. قلت وأكرّر، لا يمكن هذه القوى الحيّة الجديدة اليوم أن تشتغل إلا على أساس مدني علماني. وإلا لا معنى لعملها كله. وإذا لم تعمل على هذا الأساس الواضح والمباشر، ستقع في المطب نفسه الذي وقعت فيه الحركات القومية والحركات الوحدويّة السابقة. وأنا قلت ذات مرة أن علينا تأسيس جبهة مدنية على امتداد العالم العربي.
^ إلى أي مدى يمكن تطبيق هذا الحل على أرض الواقع؟
} لا أعرف إلى أي مدى يمكن تطبيقه. إنها أفكار نتداولها. المهم كيف نستبصر ونستكشف ونغيّر أساليب العمل السابقة التي فشلت في التغيير. هذا هو المهم. لا توجد حلول جاهزة إلا في الدين والإيديولوجيات. ونحن جرّبنا الدين فقتلنا، وجرّبنا الإيديولوجيات فقتلتنا.
^ في ظل هذا الانهيار هل إن من الممكن إعادة صوغ هذا الخطاب بطريقة ما؟
} نعم طبعاً، لأن من غير الممكن الحكم على الشعوب بالنفي أو السلب.
^ ولكن هل النخب العربية هي علمانية؟
} هناك سياق تاريخي عربي انكسر نهائياً هو السياق الذي عشنا فيه، وهو استمرار لعصر النهضة. إنه السياق الوحدوي والقومي العربي الذي وجد تجسيده الفعلي في جامعة الدول العربية. لا يوجد أي شيء آخر. نحن، على الرغم من ثرواتنا الطائلة الهائلة لم نتمكّن من إنشاء جامعة واحدة ذات قيمة في العالم. لم نتمكّن من إنشاء مركز للأبحاث في أي ميدان. لم نتمكّن من إنشاء متحف حديث له قيمة. جميع المنجزات التاريخية التي هي علامة النمو والتقدّم، لم نحقق منها شيئاً. وإذا قارنّا ذلك، في عصر الانقلابات المعرفيّة في القرن العشرين، وجدنا أنّ هناك دولاً أفريقية، ليس لها تاريخ كتاريخ الدول العربية، وليست عريقة كالعرب، لكنها أنجزت خطوة إلى الأمام لم يستطع العرب أن يقوموا بمثلها. نيجيريا مثلا. العرب ليس لهم حضور خلاق كأمم وشعوب، بل هم، في نظر الخارج، مجرّد فضاء إستراتيجي، ومجرد ثروات.
نحن العرب أفراد كسالى، يجب أن ننتقد أنفسنا دائماً. كما تقول الآية: إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. خذ مثلا الشعر العربي، وهو من أهم ما كتب في العالم. وحتى الآن لم تتم كتابة أي بحث عن جمالية اللغة الشعرية.
^ وماذا عن الجرجاني مثلاً؟
} الجرجاني تحدّث عن لغة القرآن واستشهد ببعض الأبيات الشعرية فحسب. إن ما قام به المأمون، وهو خطوة هائلة على صعيد الترجمة التي ربطت العرب بالغرب. لكنّ هذه الخطوة ماتت. إذاً، الأفراد هم من كانوا يقومون بتلك الأمور، وليس النظام أو الرؤيا أو المنهاج.
^ هل المواطن العربي لا يستطيع القيام بأيّ حراك لأنه مكبّل بالدين؟ أي أن سبب العجز يعود إلى الدين وحده؟
} ليس هذا السبب الوحيد طبعاً، ولكن هذا يشبه السكنى في منزل مقفل. كيف سنخرج؟ علينا أن نفتح الباب، أي فصل

الدين عن الدولة، أي أنّ مدنية المجتمع هي الخطوة الأولى. ولكنها ليست كافية طبعاً. الديموقراطية في أوروبا نشأت منذ عدّة قرون. وحتى الآن ما زال الأوروبيون يواجهون المشكلات. هذه مشروعات منفتحة، ليست لديها حد تقف عنده، بل هي في تطوّر دائم. ولكن من دون علمنة المجتمع ومدنيته لا نستطيع أن نقوم بأيّ شيء. ولدينا مئتا سنة تجربة يجب أن نختبرها. كان هناك مفكرون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، مفكرون كبار، أبدعوا أفكاراً مهمة. حتى أنّ بعضهم كان أكثر جرأة منا نحن اليوم. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ يجب أن نتأكد أن المجتمع لا يتغير إلا إذا تغيّرت المؤسسة.
÷ هل استطعنا، طوال تلك الفترة، أن نبني مجتمعا؟
السلطة وحدها
} كلا، لأننا لم نهتم بذلك، اهتممنا بالسلطة وحدها. الإسلام سلطة. وثقافة السلطة كانت دائماً هي المهيمنة. السلطة العنفية لمَن غلب. وإذاً، كلامنا عن الديمقراطية، وعن حقوق الإنسان وحرياته لا معنى له إلا إذا غيرنا هذه النظرة.
^ ماذا عن محاولة إصلاح الدين؟
} الدين لا يتم إصلاحه. الدين إما أن تؤمن به أو لا تؤمن.
^ هذا ما يدفعنا إلى الانتقال إلى نقطة تتحدّث عنها دائما، وهي نظرتك إلى الثقافة العربيّة الآن. وهي غير قادرة أن تتخذ لها مكاناً في خضم ما يجري الآن، بل تبدو على هامش الصراع الدائر حالياً.
} قبل الإجابة عن هذا السؤال، أعطني مثقفاً عربياً واحداً، من المحيط إلى الخليج، طرح سؤالاً أساسياً واحداً على الإسلام. أعطني كتاباً طرح سؤالاً عن قيمة الوحي معرفياً اليوم. كيف ستنتج معرفة في نظام ثقافي يهيمن عليه الوحي. مَن ساءل الوحي؟ مَن طرح سؤالا عن كينونة المرأة في الإسلام ككائن حر مستقل سيّد نفسه وسيّد مصيره؟ ليس هناك مفكّر عربي واحد طرح مثل هذه الأسئلة على الإسلام. الماركسيون وضعوا الدين بين هلالين واعتبروه توفي. أقصى ما وصل إليه المفكّرون العرب أنهم اعتبروا أن من الضروري قراءة النص الديني بصفته نصاً تاريخياً. بمعنى أنّ النص القرآني نشأ في ظروف معينة، هذه الظروف تغيّرت، لذلك يجب النظر إليه كنص تاريخي. ولكن لا يكفي أن نقول إنه يجب النظر إلى النص الديني كنص تاريخي. يجب أن نسأل ما هذا النص؟
لم أطرح الأسئلة الأساسية
^ تقول إنّ الثقافة الحالية لم تطرح أي سؤال، ماذا طرحت أنت كمفكّر عربي؟
} على الرغم من جميع الاتهامات التي وُجّهت إلي، لم أطرح أي من هذه الأسئلة الأساسية. أنا لم أسأل ما القيمة المعرفية للوحي، ولم أعالجها. صحيح أنني أشرت إليها، ودرت حولها لكنني لم أجابهها. أنا لم أجابه السؤال الأساسي الآخر، وهو المرأة. اليوم يتم وضع النساء في الأقفاص وبيعهنّ بقروش، ولم يصدر بيان رسمي واحد يدين هذا الموضوع! أين نعيش؟ يجب أن نجابه هذه الأمور كلها بصراحة كاملة وإلا لن نستطيع أن نخرج من هذا المستنقع.
^ هل فضحت «داعش» صراحةً هذه الأفكار والخلفيات الدينية السائدة؟
} لو قرأنا التاريخ جيداً لما كنا بحاجة إلى «داعش». وإلى شناعة مثل هذه. وما يزيد الوضع سوءاً هو أنّ بعض المناهج العربية لا تسمح بالاطلاع على كتب مهمة وضرورية، حتى أنّ بعض المكتبات الأساسية تحجب عن الطلاب كتب ابن رشد!
^ بالانتقال إلى الثقافة والأدب، ترد في قصيدة «الوقت» العبارة التالية: «قل لنا يا لهب الحاضر». أنتَ ماذا ستقول؟
} لا أدري، «يا ريت أعرف». هذا يعكس أزمتنا. يجب ألا نقارن أنفسنا بالغرب. أي هل كان الغرب سيئاً أو عظيماً. ولكن، مع ذلك، حقق الغرب خطوات أساسية في صراعه ضد الدين خصوصاً، وفي ثورته الصناعيّة. والمثقف في الغرب، أصبح جزءاً عضوياً من بنية المجتمع، يعبّر بحرية عن أفكاره، ولا أحد يسيء إليه أو يعاقبه. بهذا المعنى، لدى المثقف قدرة على التأثير، لأنّ المجتمع، في الجامعة والمدرسة والحياة العامة، يعترف بالمثقف ككائن مستقل موجود. أما في ثقافتنا العربية، وهي ثقافة وظيفية، والمثقف موظف، فلا تتم قراءة النص كنص، بل يُقرَأ كاتبه. مَن هو؟ ما هي انتماءاته؟ في أي حزب هو؟ أما النص فلا يُقرَأ. والمثقف العربي إجمالا تابع أو موظف ليست لديه حرية كاملة. إذا كنت لا أمتلك حرية جسدية كاملة، والجسد جزء من هذه الحرية، مثل العلاقة بالله والمرأة، وإذا لم أكن قادراً على التعبير بحرية كاملة عن هذه الأمور المرتبطة بي، عما سأعبّر؟ عن أفكار عامّة؟ في آدابنا، نجد، في الرواية مثلا، نساء جريئات يتحدّثن عن علاقة جنسيّة كاملة. لكن العلاقة الجنسية جزء بسيط من ثقافة متكاملة. أي لا تستطيع، عبر هذا الأمر الذي تتحدّث عنه، أن تزلزل قيماً، وأن تزلزل مجتمعاً وثقافة اجتماعيّة أو تاريخيّة... دائما تأتي الكتابة في الإطار الفردي الخاص، وهي خطوة جيّدة في أي حال ولكن إذا تناولناها على مستوى الجرأة، نجد أنهم كانوا في الماضي أكثر جرأة. الكاتب اليوم، إذا لم يزلزل التاريخ بكامله، لا يستطيع أن يفعل شيئاً. وحتى يزلزل التاريخ بكامله يجب أن يكون حراً. وهذا ما نفتقده في عالمنا العربي اليوم.
الشعر
^ في ما يتعلق بالشعر، لديك موقف سلبي مما صار إليه الشعر العربي.
} أولا، أود أن أذكّر، أنه إذا ما كان هناك أي شخص في العصر الحديث نشر للشعراء الحديثين وشجّعهم، فهو أنا. لذلك كان موقفي دائما مع كل ما هو جديد. والذي قمت به من أجل الشعر، قمت به من أجل الفنون الأخرى كالرواية والفنون. لكن حتى تكتب قصيدة جميلة وعميقة عن «وردة» مثلا، عليك أن تعرف بيولوجيا وتاريخ وعلم البيئة. نحن العرب نكتب قصيدة عن وردة قد تكون جميلة، لكن فكرنا محصور في هذه الوردة نفسها. لا يوجد أي خلفيّة إنسانية أو ثقافية خلفها. القصيدة يجب أن تكون شريحة كبيرة، ضمن حدودها. يجب أن يشعر القارئ أن هذه القصيدة مفتوحة على جميع الاتجاهات، كالرواية التي يجب أن تكون شعراً وفلسفة وتاريخاً. هناك بعض الشعراء يكتبون قصائدهم ويطبعونها، وعندما يصعدون المنبر يجهلون كيفية قراءتها! هذا لا يطاق. ثمّ تسأل أحدهم هل قرأت المتنبي؟ أبي نواس؟ يضحك! إن من لا يقرأ اللغة التي يكتب بها، ولا يعرف جماليتها، كيف سينتج جمالا جديدا؟
^ ما هو أهم نتاج عربي الآن؟
} أهم نتاج عربي هو الفن التشكيلي. صار أهم من الشعر. أصبحت لغة الشعر مسوّرة، هناك كلمات، إذا ما دخلت القصيدة أو الرواية، تمنع سلطات الرقابة الديوان والرواية! الفهم الديني السائد دمّر اللغة العربية لأنه حدّدها، إما بحجة دينية وإما بحجة تشويه اللغة من خلال استخدام بعض المفردات، في حين أن العرب القدامى لم يكن لديهم أي حاجز على الإطلاق. كانوا يستخدمون كلمات يونانية أو فارسية ويعرّبونها. اللغة العربية مليئة بكلمات أجنبية. لذلك فإن اللغة العربية تختنق اليوم. أنا أفضل كاتبا يكتب رواية باللغة العامية على كاتب يكتب لغة عربية «كرشونية».
^ لكن اللغة تمرّ بمسار طويل فيه منعطفات وتحولات.
} هذا مؤكّد، ولكن على الإنسان أن يحترم أدواته.
^ هل ستموت اللغة العربية؟
} لا أحد يعلم. إذا كانت اللغة اليونانية التي كتب بها أرسطو وأفلاطون ماتت، علاوة على لغات أخرى ماتت... فلا يوجد أي مانع يحول دون موت اللغة العربية. المأساة الكبرى، هي أن هذا الإسلام الذي جاء بهذه الثورة اليوم، يتحوّل إلى الهرب من كل تجربة روحيّة كبرى، ليصبح مجرّد سلطة. لدينا مليار ونصف المليار مسلم في الكرة الأرضية، ليس فيهم مفكر إسلامي واحد.
اللغة العربية تعيش أزمة كبرى، ومَن لديه أولاد يعي هذه الأزمة ويعيشها جيداً. والمشكلة ليست في اللغة العربية، فهي لغة عظيمة، بل تكمن مشكلتها في طرق تدريسها. مشكلتها ثقافية، أي أنّ مشكلة اللغة العربية تأتي هي من خارجها، وأول أسباب ذلك الدين الإسلامي، واعتبارها لغة مقدّسة.
^ لكنها سبق أن عاشت عصور نهضة وانحطاط.
} عصر النهضة أحيا اللغة التقليدية. التي كانت فقدت حيويّتها، وفقدت شعريّتها. من أحمد شوقي إلى حافظ ابراهيم، هؤلاء أحيوا النماذج التقليدية القديمة، ولم يحيوا اللغة التي نشأت في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حين تمرّد الشعراء، أول مرة، على النموذج العربي. لم يتكلّموا على الأفكار والآراء والقضايا، بل تحوّلوا إلى الحديث عن القنديل والكرسي، أي خلقوا لغة يوميّة شعريّة بديعة جداً. وصار الشعر يتكلّم على الأشياء وليس على الأفكار. وبدلاً من أن يكملوا بهذه الطريقة اعتبروه انحطاطاً، في حين أنني أراه من أجمل عصور الشعر العربي. وهؤلاء أحيوا القصائد التقليدية كالتي ظهرت على أيدي البحتري وأبو تمام والمتنبي، والتي كانت جميلة في زمانها، لكنها استُنفِدَت كلغة شعرية. لذلك أنا أرى أنّ عصر النهضة هو عصر انحطاط على مستوى اللغة. وكأن هناك في البنية العقلية السائدة ما هو ضد كل ما هو حديث. حتى قصيدة النثر، لم تدخل الذائقة الأدبية العربية، ولا تزال بعض الجامعات ترفضها.
^ هذا يقودنا إلى مستقبل الشعر.
} ما دام الحب موجوداً فالشعر موجود.
^ جيل اليوم يعود إلى الكلاسيك. يكتب قصيدة موزونة على غرار التفعيلة. كيف تفسّر ذلك؟
} أعظم شيء في الشعر أنه لا يُحدّد. متى حدّدت الشعر قتلته. وهو قابل لأن يتخذ جميع الأشكال. المهم اللهب داخل الموجود في اللغة التي يكتب بها الشاعر.
المسكوت عنه
^ ما هي أسوأ الفنون اليوم؟
} الكلمة العربية «تعبانة» من جميع النواحي. ما هو الفن إجمالاً؟ أن تعطي أسماء جديدة للأشياء، وأن تسمّي الكون من جديد. الكلمة اليوم قاصرة عن ذلك، إما بسبب منها، أو منا، أو بسبب الوضع الثقافي العام والوضع السياسي. هناك انهيار هائل بحيث أن الكلمة باتت مقصوصة الأجنحة، ما عاد في إمكانها أن تقدّم مشروعاً. وهي ظاهرة موجودة في أوروبا أيضاً. يمكن أن تترجم في الخارج بسبب طغيان العصر الصناعي والانترنت. جميع ذلك يضعف النتاج الشعري. الأمر نفسه ينطبق على العالم كله حيث هناك عناصر تفسّر هذه الظاهرة. ولكن في العالم العربي كيف يمكن تفسير ذلك؟ ليست لدينا تقنيات أو صناعات، ولا نزال مجتمعاً رعوياً طائفياً وقبلياً... حياتنا كلها مشكلة. وأعتقد أن ما يعذبنا أكثر أن في تاريخنا الثقافي المعاصر لم نجابه المشكلات بصراحة، ولم نحلّلها ونفكّكها كي نعرفها. وأنا أستغرب يا عرب كيف أنّ بلداً مثل تركيا، حيث ظل العثمانيون على مدى أربعمئة سنة يدمّرون العرب لغة وثقافة وتاريخاً وها هم قادة العرب يتوسلونهم. لا يوجد أسوأ من تاريخ كهذا، أي أن تكون تركيا قائداً من قادة الثورة العربية. يجب أن نتعاون جميعنا كي نكشف الخلل ونسعى إلى القضاء عليه. المسكوت عنه في المجتمع العربي هو ميدان الكتابة والشعر. ونحن نطوّق المسكوت عنه أكثر فأكثر ونتحاشاه أكثر فأكثر.
^ لكن هناك كشف للمسكوت عنه.
} في إطار واحد. المرأة تتحدّث عن جسدها بحريّة، لكن هذا لا يكفي. خاصة أن الجسد المحكي عنه هو جسد ثقافي، في حين أنّ الجسد الذي يجب أن ينفجر هو الجسد الخاص، الحميم، الأنثوي، جسد الهواجس والأحلام والحريات... بحيث أنك إذا قرأت رواية لسيّدة أو رجل، لا تقرأ ما يشبهها عند آخر. أقرأ جسداً معيّناً بمشكلات محدّدة، لأنه بذلك سوف يضطر كاتبه إلى أن يخرج من الثقافة العامة إلى ذاته. لا يوجد أي إنسان يحلم الحلم ذاته الذي يحلمه آخر، حتى لو كان شقيقه. نحن نشترك في العموميات فحسب. لذلك لا تزال ثقافتنا وكتاباتنا في إطار المشترك العام، الذي هو نقيض كامل للإبداع الخاص.

الاثنين، 28 نوفمبر 2016

المنهج البنيوي: جذوره ومفاهيمه.

جان بياجيه

المنهج البنيوي: جذوره ومفاهيمه.

ستارتايمز 30/8/2013 


قبل الشروع في الحديث عن المنهج البنيوي كتيار فكري ظهر ليتجاوز النزعة التاريخية والفلسفات التي تعتمد الذات كخلفية مثل الوجودية أو الظاهراتية ، لا بد من تحديد مصطلح البنية لغة واصطلاحا. 
أ- الدلالة الاشتقاقية لكلمة بنية :
تشتق كلمة بنية من الفعل الثلاثي " بنى " الذي يدل على معنى التشييد والعمارة والكيفية التي يكون عليها البناء. وفي النحو العربي تتأسس ثنائية المعنى والمبنى على الطريقة التي تبنى بها وحدات اللغة العربية ، والتحولات التي تحدث فيها، ولذلك فالزيادة في المبنى زيادة في المعنى ، فكل تحول في البنية يؤدي إلى تحول في الدلالة. 
وفي اللغة الفرنسية تشتق كلمة structure من الفعل اللاتيني struere ويعني بنى وشيد أيضا والبنية موضوع منتظم ، له صورته الخاصة ووحدته الذاتية، لأن كلمة بنية في أصلها تحمل معنى المجموع والكل المؤلف من ظواهر متماسكة ، يتوقف كل منها على ما عداه ، ويتحدد من خلال علاقة بما عداه 
ب- الدلالة الاصطلاحية :
سبق لنا الذكر بأن مصطلح البنية قد تبلور لدى لسانيي حلقة براغ حيث تم " تأكيد مبدأ البنية " كموضوع للبحث قبل سنة 1930على يد مجموعة صغيرة من اللسانيين الذين تطوعوا للوقوف ضد التصور التاريخي الصرف للسان، وضد لسانيات كانت تفكك اللسان إلى عناصر معزولة ، وتنشغل بتتبع التغيرات الطارئة. لقد أطلقنا على سوسور ، وبحق رائد البنيوية المعاصرة وهو كذلك بالتأكيد إلى حد ما ، ويجمل بنا أن نشير إلى أن سوسور لم يستعمل أبدا ، وبأي معنى من المعاني كلمة " بنية " إذ المفهوم الجوهري في نظره هو مفهوم النسق.
لقد عرف تحديد مصطلح البنية مجموعة من الاختلافات ناجمة عن تمظهرها وتجليها في أشكال متنوعة لا تسمح بتقديم قاسم مشترك ، لذا فإن بياجيه ارتأى في كتابه " البنيوية " أن إعطاء تعريف موحد للبنية رهين بالتمييز " بين الفكرة المثالية الإيجابية التي تغطي مفهوم البنية في الصراعات أو في آفاق مختلف أنواع البنيات ، والنوايا النقدية التي رافقت نشوء وتطور كل واحدة منها مقابل التيارات القائمة في مختلف التعاليم " إذ ينفي الاعتراف " بوجود مثال مشترك من الوضوح يصل إليه أو يحاول إيجاده جميع البنيويين . فيما تختلف نواياهم النقدية إلى ما لا نهاية فيرى البعض أن البنيوية كما في الرياضيات 
تتعارض مع تجزئة الفصول غير المتجانسة محاولين إيجاد الوحدة بواسطة التشاكلات. أما اللغويين فيرون أن البنيوية تجاوزت الأبحاث التطورية التي تتناول ظواهر منعزلة لذلك أخذوا بطريقة المجموعات للنظام اللغوي المتزامن . أما في علم النفس فقد زادت البنيوية من معاركها ضد ميول النزعة الذرية atomistique التي كانت تسعى لجعل المجموعات مقتصرة على روابط بين عناصر مسبقة. 
إن جان بياجيه يسعى من وراء هذه الإشارات إلى التمييز بين تجليات التطبيق البنيوي في ميادين معرفية مختلفة وبين المثل الأعلى الذي تنشده البنيوية ، فهو يميز في تعريفه للبنية بين ما تنتقده البنيوية وما تهدف إليه. ولذا فهو لا يعرف البنيوية بالسلب أي بما تنتقده البنيوية لأنه يختلف من فرع إلى فرع في العلوم الحقة والإنسانية. إنه يركز بالأساس في تعريفه البنية على الهدف الأمثل الذي يوحد مختلف فروع المعرفة في تحديد البنية باعتبارها سعيا وراء تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى العناصر الخارجية. 
وبذلك يقدم جان بياجيه تعريفا شاملا للبنية باعتبارها نسقا من التحولات : " يحتوي على قوانينه الخاصة ، علما بأن من شأن هذا النسق أن يظل قائما ويزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به هذه التحويلات نفسها ، دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو أن تستعين بعناصر خارجية ، وبإيجاز فالبنية تتألف من ثلاث خصائص هـــــــــي : الكـــــــلية totalité و التحولات transformations وبالضبط الذاتي auto-reglage . " 
يتضمن هذا التعريف جملة من السمات المميزة ، فالبنية أولا نسق من التحولات الداخلية ، ثانيا لا يحتاج هذا النسق لأي عنصر خارجي فهو يتطور ويتوسع من الداخل ، مما يضمن للبنية استقلالا ويسمح للباحث بتعقل هذه البنية. 
إن خاصية الكلية تبرز أن البنية لا تتألف من عناصر خارجية تراكمية مستقلة عن الكل بل هي تتكون من عناصر خارجية خاضعة للقوانين المتميزة للنسق وليس المهم في النسق العنصر أو الكل بل العلاقات القائمة بين العناصر. 
بينما خاصية التحولات فإنها توضح القانون الداخلي للتغيرات داخل البنية التي لا يمكن أن تظل في حالة ثبات لأنها دائمة التحول. 
أما خاصية التنظيم الذاتي فإنها تمكن البنية من تنظيم نفسها بنفسها كي تحافظ على وحدتها واستمراريتها. وذلك بخضوعها لقوانين الكل. 
أماالانتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوش فإنه يحدد البنية بأنها نسق يتألف من عناصر يكون من شان أي تحول يعرض للواحد منها أن يحدث تحولا في باقي العناصر الأخرى " ومن خلال هذا التعريف يتجلى أن وراء الظواهر المختلفة يكمن شيء مشترك يجمع بينها ، وهو تلك العلاقات الثابتة التجريبية ، لذلك ينبغي تبسيط هذه الظواهر من خلال إدراك العلاقات لأن هذا الأخير أبسط من الأشياء نفسها في تعقدها وتشتتها. ومعنى هذا " أن المهمة الأساسية التي تقع على عاتق الباحث في العلوم الإنسانية إنما هو التصدي لأكثر الظواهر البشرية تعقدا وتعسفا واضطرابا من أجل محاولة الكـــشف عن " نظام " يكمن فيما وراء تلك الفوضى وبالتالي من أجل الوصول إلى " البنية " التي تتحكم في صميم " العلاقات" الباطنية للأشياء ، ولكن المهم في نظر ليفي ستراوش هو أننا لا ندرك البنية إدراكا تجريبيا على مستوى العلاقات الظاهرية السطحية المباشرة القائمة بين الأشياء ، بل نحن ننشئها إنشاء بفضل " النماذج التي نعمد عن طريقها إلى تبسيط الواقع وإحداث التغيرات التي تسمع لنا بإدراك البيئة ". 
إن أهم ما نستشفه من هذا التصور هو النقد الشديد للنزعة التجريبية التي تقوم على أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع ، واستبدال ذلك بالتفسير العقلي للظواهر التجريبية. فالبنيويون يؤمنون بأسبقية العقل عن الواقع الخارجي ، فكلود ليفي ستراوش في أبحاثه البنيوية لا يهدف إلى الوصول إلى " عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنتروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة ، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يهتدى إليه بوضوح على مستوى الملاحظة ، وإنما على مستوى البناء العقلي، فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية وهذا البناء الخفي لا يوجد على السطح الخارجي ، وإنما يكتشف عقليا . 
من خلال تعريف بياجيه وليفي ستراوش يتضح بجلاء أن الاتجاه البنيوي اعتمد خلفية عملية وفلسفية هي التي أكسبته نسقية منهجية وشمولية ميدانية. فما هي هذه الخلفيات الأيبستيمولوجية لظهور المنهج البنيوي خاصة في فرنسا. 
خلفيات ومسوغات المنهج البنيوي :
إن المنهج بصفة عامة هو حصيلة لمجموعة من التحولات والتغيرات تقع في الأنساق المعرفية ، وتكون نتاجا لسيرورة جدلية وحوارية مع المفاهيم السابقة المعرفية ، ولا بد والأمر كذلك أن يستند المنهج إلى منظومة فكرية وبعد فلسفي وعلمي. وللإجابة عن السؤال الذي طرحناه أعلاه لا بد من استحضار المناخ الثقافي والعلمي التطورات الحاصلة في بداية القرن العشرين الذي تبلور فيه المنهج ورست معالمه وخطته. 
في البداية يجدر بنا أن نفصل في الحديث عن المنهج بين مستويين : 
الأول يتعلق بالبعد المعرفي والثاني بالجانب الأيديولوجي ، فلا ينبغي أن نخلط بين هذين المستويين حتى نتمكن من تقويم المنهج من خلال كفايته الوصفية والتفسيرية. 
1- النزوع اللامادي وتبعثر المعرفة :
إن السياق التاريخي والمعرفي الذي تبلورت فيه المفاهيم اللغوية عند سوسير باعتباره الممهد الرئيسي لظهور البنيوية - عرف أزمة عامة في العلوم بشكل عام ، ففي الفيزياء بدأ الشك يثار حول مفهوم الذرة بوصفها مادة. وقد انتقل هذا النزوع اللامادي إلى مفهوم النسق عند سوسير الذي أصبح فيه الشكل هو المضمون وأضحت العلاقة بين الدال والمدلول تدرس في بنيتها الداخلية ، واستبعد المرجع الخارجي المادي. لأن الحقل الإبستيمولوجي تغير من مقولة الكينونة والوجود إلى مقولة العلاقة. 
إن إلغاء الواقع المادي يستجيب لتصور يعتبر أن معيار الصدق في المعرفة هو البنية الداخلية ، وقد كان النموذج الرياضي هو المثال الذي احتذته البنيوية حيث أن الرياضيات لا تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها. 
إن طبيعة الفكر العلمي والفلسفي تحيل إلى البحث عن نموذج شامل يعمم على مختلف أنواع المعرفة من أجل توحيدها ، وقد بدا هذا الطموح جليا في المراحل التي قطعها التفكير الإنساني ، بحيث أن كل مرحلة يهيمن فيها نموذج خاص ، " فالمثالية اختارت نموذج " المطلق " والنزعة الرومانسية اختارت نموذج " العضوي " ، في حين أن القرن 18 اختار كلمة " الميكانيك " و في النصف الثاني من القرن 19 وبداية القرن العشرين بدأ النموذج اللغوي يتسرب لجميع فروع المعرفة. " 2. 
إن نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين مرحلة كانت في حاجة ماسة لظهور حركة فكرية تلم شعت المعرفة المبعثرة في ثقافات منعزلة لأن السمة التي ميزت هذه المرحلة هو التبعثر المعرفي الموغل في التخصص " ففلاسفة اللغة يؤكدون أنه ليس بالإمكان خلق تطابق بين لغتنا والعالم الذي وراءها. 
نظرية التــلقي : أسسها ، سياقها ، مفاهيمها 
إن الحديث عن نظرية التلقي كقصدية و كوعي منهجي ، يقتضي تناول محدودية الممارسات النقدية والإجراءات المنهجية السابقة، فتاريخ المنهج خاصة في أوربا عرف مسارا تطوريا، بحيث أن المنهج اللاحق يتجاوز السابق محدثا شبه قطيعة مع أسسه النظرية وأدواته الإجرائية. 
فقد رأينا في الفصول السابقة أن منهج تاريخ الأدب منذ مدام دوستايل في كتابها " النظر للأدب في علاقاته بالمؤسسات الاجتماعية " المنشور عام 1800، ومرورا بسانت بوف وهيبوليت تين ، ووصولا إلى غوستاف لانسون ، كان يعتمد خلفية له الفلسفة الوضعية التي تهتم بدراسة الأسباب والعلل التي تنتج الظواهر ، ومن تم راح المنهج التاريخي للأدب يدرس ويحلل علاقات الأدب بالمكونات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية ، ويعلي من شأن المؤلف ، فسانت يوف يعتبره الوسيط بين العمل الأدبي والمجتمع ، ولهذا السبب يذهب رولان بارت إلى أن المؤلف شخصية حديثة إذ " يمكننا القول أنها ابتدعت من طرف منهج تاريخ الأدب من طرف سانت بـــوف ولانسون ، لأنه وإن وجد دائما شخص يكتب لم يكن دائما مهما أن نعرفه: فهو ميروس لا يعرف هل وجد فعلا ، وأناشيد البطولة في العصر الوسيط كانت مجهولة المؤلف ، فلم يصبح المؤلف صورة مركزية إلا ابتداء من القرن 19 بحيث يرى فيه النقد التاريخي مكان التقاء الأدب بالمجتمع ، وفي الوقت نفسه فالعصر كله قد رقى الفرد المبدع إلى مصاف الإله . 
لقد وجهت انتقادات لأسس المنهج التاريخي ، ولمحدوديته التأويلية ، وقد كانت أبرز هذه الانتقادات هي تلك التي وجهها رولان بارت في مقالاته الثلاثة 1 المنشورة بين 1960-1963 . 
فقد أبطل ادعاء تاريخ قول الحقيقة حول أعمال راسين بفرضه عليها معنى واحدا ، أي مقصدية المؤلف ، فهو يرى أن العمل الأدبي ماض وحاضر في الآن نفسه ، إذ يستمر ويبقى وإن اختلف الحدث التاريخي الذي أنجزه ، وإن هذه الاستمرارية لهي حجة تثبت أن العمل لم يستنفد كل عطائه في لحظة ظهوره. فليس هناك " راسين في جد ذاته أو " راسين حقيقي " ، عرف بطريقة نهائية من طرف تاريخ الأدب ، وإنما هناك فقط فراءات لراسين لها نفس القيمة شريطة أن تكون منسجمة وشاملة. 
وفي مستوى آخر يوجه نقده لغوستاف لانـسون ، مطورا تثريب المؤرخ لوسيان لوفيفر الذي اتهم تاريخ الأدب اللانسوني بأنه لم يكن بتاتا " تاريخا بحق " لأنه كان يؤمن " بجوهر زمني للأدب " ، وهو مع ذلك تاريخ نسبي ويتغير حسب العصور. 
وأخيرا ، يبين بارت ، عجز لانسون ، عن فهم العمل الأدبي ضمن سلسلة من الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية ، لأن نموذج التفسير لديه قديم فهو موصوم بوصمة الوضعية ، الموصومة بإيديولوجية وبمفهوم للإبداع عفى عنهما الزمن اليوم. 
وحينما تحول النموذج من سلطة المؤلف إلى سلطة النص عرفت الدراسات الأدبية نقلة نوعية ، ساهم فيها التطور الذي عرفته اللسانيات والدراسات الانتربولوجية البنيوية. وقد كان للفلسفة الكانطية والحبشطلتية وللرياضيات دور كبير في تغيير الرؤية للأدب ، وفي إعادة تحديد المفاهيم ؛ كمفهوم الأدب والأجناس الأدبية والنص والتركيز على مفهوم العلاقة بدل المرجع ، والاهتمام بالكشف عن أسرار العمل الأدبي من داخله متلافية كل بحث عن التكون المرتبط بالعالم الخارجي أو التاريخ. 
وبالموازاة مع هذا التأثير الفلسفي والعلمي في تحويل وجهة النظر اتجاه الأدب واستقلاليته عن العالم الخارجي ، كانت هناك بعض الحركات الإبداعية كالمستقبليين على سبيل المثال. تذلل الطريق أمام المنظرين وتوفر لهم مجالا خصبا للتطبيق، إضافة أن بعض الأدباء النقاد 1 قد سبقوا إلى التأكيد على استقلالية النص واعتباره تمرينا لغويا صرفيا. 
إن تركيز البنيوية على النص بدل المؤلف سيقود إلى فرضيات أولية حول القراءة في علاقتها بالكتابة، وهذا ما حدا برولان بارت إلى أن يذهب إلى أن موت المؤلف إيذان بميلاد القارئ.

الأحد، 27 نوفمبر 2016

الهرمينوطيقا بوصفها يقظة العيش في العالم؛ رسول محمد رسول.


الهرمينوطيقا بوصفها يقظة العيش في العالم

رسول محمد رسول فرج الله
(مؤمنون بلا حدود، نوفمبر 2016)


رسول محمد رسول: باحث  وأكاديمي عراقي، متخصص في الفلسفة الألمانية الحديثة. من أعماله المنشورة: "الحضور والتمركز: قراءة في العقل الميتافيزيائي الحديث" (2000)، و "الغرب والإسلام: قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق" (2001)، و"نقد العقل الإصلاحي: قراءات في جدلية الفكر العراقي الحديث" (2008)، و"يحدث في بغداد" (2014)، وغيرها من المؤلفات والأبحاث. 
الملخص:
منذ مطالع القرن العشرين، حسم الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (1889 - 1976) أمره مع (الهرمينوطيقا) عندما سعى إلى بناء رؤيته الفلسفية الجديدة بشأنها مُحدِثاً قطيعة معرفية جذرية مع تراثها وهو يستأنف قولها التجديدي على نحو فلسفي رائق جعله ينأى عن جُملة النظريات السابقة عليه بإيقاظ دلالاتها الأصلية لا بوصفها معرفة إنّما كتعرُّف وجودي أنطولوجي على العالَم؛ فالهرمينوطيقا ليست مذهباً ولا مهارة منهجية بعديَّة يمكن الذهاب إليها، بل هي سمة للوجود والموجود، وما الكائن البشري سوى كائن هرمينوطيقي بطبعه الذي له. ولذلك لا يتحدَّث هيدغر في محاضراته لعام 1923 عن الهرمينوطيقا على غرار أسلافه بوصفها نظرية للقراءة والتحليل والفهم، بل كأساس أنطولوجي وجودي يجد الكائن البشري منخرطاً فيه بالعالَم بوصفه مؤوَّلاً، ما يعني أنّ الهرمينوطيقا هي سلوك الكائن الذي يريد أن يكون ويوجد ويحضر، سلوكها كقدر أصلي له.

المقاربة الفينومينولوجية للتاريخ.


المقاربة الفينومينولوجية للتاريخ.
بقلم عبد الرحمن تيمحري
(مؤمنون بلا حدود، يونيو 2013)


لايمكن أن نرص الوقائع والأحداث والأفكار والنظريات والمناهج المتعلقة بعلم النفس رصا، وندعي مع ذلك أننا قدمنا تاريخا لها، دون وعي مسبق بهذا التاريخ، وبما ينفتح عليه من إمكانات وإشكالات. أحد أسس هذا الوعي هو تحديد نوع المقاربة التي بها ستتم معالجة ذلك التاريخ. يحدد لاروسLarousse المقاربة بأنها"الكيفية التي بها يتم الاقتراب من موضوع للمعرفة من جهة وجهة النظر ـ التي ينظر بها الدارس ـ ومن جهة المنهج المتبع". (وبهذا المعنى يتم نعت مقاربة لدراسة أدبية بالسوسيولوجية مثلا).

"إن وجهة النظر هي التي تخلق الموضوع" ـ هكذا قيل دائما ـ ووجهات النظر تتباين بتباين مستويات الوعي لدى الناظر. ومن العجيب أن تتزامن وجهات نظر متناقضة، بل ومتناحرة في الزمان نفسه والمكان نفسه وداخل الوسط المجتمعي نفسه. إذ نجد في القرن الواحد والعشرين وجهات نظر لنفس الأفراد المعاصرين لبعضهم بعضاً، تتراوح بين الحسية والواقعية الساذجة والخرافية والدينية المتزمتة (الحرفية والنصية) والميتافيزيقية والعلمية والإيديولوجية والفلسفية والمتفتحة. ولكل منها"نسقه الخاص" الذي "يعالج" داخله المعطيات والأحداث. وفي حالة علم النفس، سنجد من يعتبر النفس "شيئا محايثا". ومن يعتبرها "شيئا مفارقا"، ومن يعتبرها "أساسا مخيا". ومن يعتبرها "أمرا إلهيا روحيا"، ومن يعتبرها "مبدأ الحركة والغذاء والتنفس والنطق أي الحياة"...إلخ. وعندما يتعلق الأمر "بالمرض النفسي" فسيزداد تباين وجهات نظر الأفراد بخصوصه إلى حد لايمكن تصديقه، إذ قد يكفر بعضهم بعضا بسبب وجهة نظره، فالذي يؤمن بالعلم ليس كالذي يؤمن بالأرواح الشريرة. وداخل العلم بذاته تختلف وجهات النظر التي ترجمها اختلاف المدارس والاتجاهات السيكولوجية.

وبما أن كل واحد منا هو"خصوصية"Singularité – في حد ذاته - ويحمل في ذاته الدلالة العميقة لهويته الفريدة، وبما أنه مثال لنمط مجرد ولنوع معين، فإن كل موضوع يتمظهر لإحساساتنا في العالم، وكل ظاهرة، يمكن أن ينظر إليهما كحاملين لمعنى في وجودنا الخاص أو كنموذج Exemplaire، أو كتجسيد أو كمفهوم علمي.[1] وبهذا المعنى، "فالتعريف الذي نعطيه لموضوع علم ما، يكون تابعا بشكل كلي للرؤية التي نحملها لهذا الموضوع"[2]، ولا تغير هذه الرؤية في شيء حقيقة الموضوع السابقة عليه - غير أن ما نعرفه عن هذه الحقيقة والخطابات - التي نقيمها حولها عادة ما يكون مختلفا وغير متجانس ولايخضع لنفس الإكراهات المنطقية. تحضر الأنانية بمثل ما يحضر المستوى الذي وصل إليه العلم أو الفلسفة في عدم تجانس تلك الرؤى. "فكل واحدة منها - أي تلك الرؤى - تعتبر ذاتها أنها الأنفذ والأعلم، وبحسب ما ينتظره الناس من العالم ومن بعضهم بعضاً، وبحسب ما علمتهم إياه الفلسفة أو العلم - الخاص بعصرهم -، فإنهم حملوا هذه الرؤية أو تلك عن الظواهر"[3]، سواء كانت ظواهر مادية فيزيائية كشكل الأرض وحركة الشمس، أو ظواهر علمية وفكرية وروحية كموضوعات علم النفس والرياضيات والدين وغيرها. وبتعبير آخر، فوجهة النظر هي دائما تاريخية ووعيية وابستمولوجية. ووجهة نظرنا منفتحة على الإنسان وعلى ما هو صميم فيه؛ على هويته وعلاقته وغايته. أما المنهج فنريده فينومينولوجيا، فما المقصود بالمنهج الفينومينولوجي؟

إنه"محاولة للوصف المباشر بتجربتنا كماهي، ومن دون أية مراعاة لنشأتها[4]السيكولوجية أو للتفسيرات السببية التي يمكن أن يوفرها العالم أو المؤرخ السوسيولوجي".[5] ليس الوصف هنا على طريقة العلماء، والذي به يتم بلوغ سبب الأشياء، أو تطور نشأة المفاهيم، بل الوصف وليس التفسير أو التحليل."وبالضبط فهذه التعليمة التي أصدرها هوسرل Husserl للفينومينولوجيا المبتدئة، وهي أن تكون"سيكولوجيا وصفية" أو تعود" إلى الأشياء ذاتها"، هو ما يتبرأ منه العلم"[6]. يعني الرجوع إلى الأشياء ذاتها، الرجوع إلى العالم قبل المعرفة التي تتحدث عنها المعرفة دائما، والتي لن يكون كل تحديد علمي حيالها إلا مجردا وتابعا، كالجغرافيا حيال المشهد الطبيعي الذي تعلمنا فيه أولا ما هي الغابة، وما هو المرج وما هو النهر. وهذا هو الفرق بين أن يكون الإنسان في العالم، وأن يستمد معرفته منه عن طريق التجربة المباشرة، كوعي مدرك للعالم والأشياء بالتجربة الشخصية للوعي الخاص به، وبين المعرفة التي يقدمها العلم باستخدام العقل الذي يجزئ الأشياء ويصنفها ويقيسها بغرض الانتفاع بها كما يرى برجسون Bergsonوالتي لا تتجاوز كونها تحديدات وتفسيرات مصطنعة لن تبلغ حقيقة الإدراك الإنساني، لأنها لم تفهم أولا من هو هذا الإنسان ولا ما هو وضعه في العالم.

يوضح ميرلوبونتي Merleau-Ponty ذاك الفرق المشار إليه بالقول: "ليس للعلم، ولن يكون له أبدا نفس معنى الوجود في العالم المدرك، لسبب بسيط هو أن العلم تحديد أو تفسير"[7]ويستدل على هذا الفرق قائلا: "لست مجرد كائن حي"أو حتى "إنسان" أو حتى "وعي"، بكل الخصائص التي يقر بها علم الحيوان وعلم التشريح الاجتماعي وعلم النفس الاستقرائي لهذه المنتوجات الطبيعية أو التاريخية"[8]. وكما هو واضح، فهذه المنتوجات المفاهيمية تنتمي إلى العلم. لذلك عرَّفها ميرلوبونتي بالنفي ليثبت ماينتمي إلى الفينومينولوجيا: "إنني أنا المنبع المطلق، ولاينشأ وجودي عن أسلافي، ولا عن محيطي الفيزيائي والاجتماعي، بل إن وجودي هو الذي يتجه نحوهما(أي المحيط والأسلاف) ويدعمهما، لأنني أنا الذي أجعل ملكا لي تلك التقاليد التي أختار استرجاعها وذلك الأفق الذي قد تنهار المسافة التي تفصلني عنه، لو لم أكن موجودا لأعبرها بنظرتي لأنها- أي المسافة - لا تنتمي إليه– أي إلى الأفق - كخاصية".[9]

لهذه الاعتبارات، يصف ميرلوبونتي الرؤى العلمية التي تجزئ الإنسان وتشيؤه بالساذجة والمرائية، ولكونها أيضا تعتبر الذات لحظة فقط من العالم. فهي يفهم منها، ودون أن تشير إلى ذلك، أن هناك رؤية أخرى، رؤية الوعي والتي بموجبها يتهيأ عالم من حولي ويشرع في الوجود بالنسبة لي. فالعالم موجود هنا قبل أي تحليل يمكنني أن أقوم به. وسيكون من المصطنع أن أستخرج سلسلة من التركيبات التي تربط الإحساسات ثم المظاهر البصرية للموضوع، في حين أن الأولى والثانية هي في الحقيقة منتوجات للتحليل، ولايمكن أن تتحقق قبل هذا "التحليل".[10] يسمي ميرلوبونتي العالم أحيانا بالواقع، ويعتبره "نسيجا صلبا، لا ينتظر أحكامنا لكي يلحق بذاته كل الظواهر المثيرة للدهشة، وللتخلي عن كل خيالاتنا المحتملة".[11] وبناء على هذا، تصبح المهمة التي يحددها ميرلوبونتي- وقبله هوسرل-للفينومينولوجيا هي وصف الواقع لا بناؤه أو تشكيله، مما يعني أنه لايمكن للذات أن تدمج الإدراك في التركيبات التي هي من صنف الحكم أو الأفعال أو التنبؤ.[12] لأنها أساسا دراسة الماهيات، وكل المشكلات تؤوب إلى تحديد الماهيات: ماهو الإدراك، ماهو الوعي ؟... وتعيد الماهيات إلى مكانها في الوجود، ولا ترى أن بالإمكان فهم الإنسان والعالم من خلال وضعهما المزيف والمصطنع Facticité. إنها فلسفة ترنسندنتالية تعلق كل إثباتات الاتجاه الطبيعي، من أجل فهم الإنسان والعالم. فالعالم هو دائما بالنسبة لها"موجود قبلا" قبل أي تفكير، كحضور غير مستلب، وكل الجهد- بالنسبة لها- هو إيجاد هذا اللقاء العضوي مع العالم وإعطاؤه وضعا فلسفيا. وهي طموح هذه الفلسفة لكي تصير "علما دقيقا".[13] ليس هنا مقام الوقوف على أهم العناصر المنهجية للفينومينولوجيا من اختزال فينومينولوجي، وقصدية...إلخ، إذ سنفرغ لها عندما نعالج الفينومينولوجيا كمدرسة أو اتجاه في علم النفس، وأيضا عند دراسة الوعي، وسنعود إلى بيان بعض أوجه العلاقة بين الفينومينولوجيا والتاريخ، مادمنا سنسعى إلى محاولة إنجاز مقاربة فينومينولوجية لتاريخ علم النفس الحديث:

- العلاقة بين الفينومينولوجيا والتاريخ قوية وإن كانت تتعرض أحيانا إلى الإهمال من لدن الباحثين: مؤرخين وسيكولوجيين، وأحيانا أخرى إلى النقد غير المبرر من لدن المثقفين[14] كالعروي صاحب النزعة التاريخانية الذي يحمل على الفينومينولوجيا، على حساب تحليل الأعمال الفكرية والتاريخية ورصد الوقائع... والحال أنه يمكننا تحليل خصائص فكرنا القومي بتحليل الأعمال الفكرية والأدبية والاستشهاد بالنصوص، ورصد الوقائع وإعطاء البيانات والإحصائيات وتأييد هذه بالأرقام. ولكن في الحقيقة لايمكن الانتقال من الوقائع إلى الماهيات أو من الأشياء إلى المعاني. هذه الاستحالة هي إحدى حدود النزعة التاريخية. لكن يمكن تحليل تجاربنا الفكرية ومحاولة تعرف ماهيات مستقلة لها، يدركها كل من يشارك فيها، ومن ثم تتحول إلى حقائق موضوعية. ولا تعني الموضوعية هنا خروج الماهيات من الوقائع المادية، بل تعني عموم الماهيات وتطابقها في التجارب المشتركة. وبالتالي فالمنهج الفينومينولوجي هو أقرب المناهج لتحقيق هذا الغرض. إنه يساعد على تحليل التجارب الشعورية التي يعيشها المفكر في العصر الراهن، ويحاول إدراك ماهياتها المستقلة، ويكون مقياس صدقها هو مدى اشتراك المفكرين الآخرين في هذه التجارب المعيشة وفي الماهيات المدركة. إذ يمكن الاختلاف في درجة عيش التجربة بين الحدة والبرودة، وفي تعليل الظاهرة، ولكن لايمكن الاختلاف في وجود الظاهرة ووصف الماهية، لأن المنهج الفينومينولوجي يعنى بسؤال الماهية لابسؤال النشأة، ويهمه الفهم لا التفسير، لأن الذي يحدد الظاهرة ويفسر نشأتها ليس هو البناء التحتي أو البناء الفوقي، وأيهما علة وأيهما معلول، بل هو البناء الشعوري الناتج عن تجربة المعيش[15]؛ أي أن الأمر يتطلب القيام بمجهود تأويلي، تأويل فينومينولوجي: "إذ يتعين على الإنسان أن يجد الحقيقة في التطبيق (لا في التنظير). أي في الواقع والقوة، أي ما دون تفكيره"[16]، حتى يتجلى معنى ما كتبه ماركس سنة1845:"لم يعمل الفلاسفة إلا على تأويل العالم بمختلف الكيفيات، في حين أن المطلوب هو تغييره"[17]. والحق أن التغيير يبدأ أولا في النفس، في الشعور، في الوعي؛ "لأن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

تأتي قوة العلاقة بين الفينومينولوجيا والتاريخ من روافد كثيرة، يستحسن تركيزها في أهمها:
o الغموض الذي يلف مصطلح التاريخ والتأريخ، الواقعة التاريخية والعلم التاريخي. يعبر هذا الغموض كما يلاحظ ليوطار Lyotard عن لبس وجودي مضمونه أن موضوعSujet العلم التاريخي هو ذاته كائن تاريخي. من هنا الأسئلة الابستمولوجية الشائكة: كيف يكون علم للتاريخ ممكنا؟ هل يجب على الكائن التاريخي أن يتعالى على طبيعته التاريخية ليمسك بالواقعة التاريخية كموضوع للعلم، وهل يمكنه ذلك؟ وهل يمكن لتاريخية المؤرخ أن تتلاءم مع إمساك بالتاريخ يستجيب لشروط العلوم؟ [18]
o حضور الزمنية والماضي في الوقائع والأحداث التاريخية، حضورا غير آني وغير متصل وغير مستمر وغير منسجم. كوقائع، يطرح الزمن الماضي إشكالا يتعلق بإعادة البناء الذي يتم بمحاولة الفهم، سواء تم ذلك من الجزئيات إلى الكل، أو تم ذلك بمنظور غالب: سياسي أو اقتصادي أو حربي أو مصلحي شخصي أو نفسي، أو إغرائي ( دور الحب والنساء في بعض الأحداث التاريخية المهمة في مصر مع كليوباترا، وفي روسيا ودور راسبوتين في إفساد نساء البلاط...).
- إن الوعي الذي يطمح إلى إدراك الواقعة التاريخية اللامحدودة ومتعددة الجوانب يكون عليه أن يدرك أن وعيه قصدي بالأساس، وأن نية ما وغرضا معينا يحركانه، وأنهما ليسا دائما موضوعيين أو موعى بهما، سواء تعلق الأمر بالواقعة المادية أو الواقعة الفكرية ( تاريخ علم ما، كعلم النفس مثلا). ولعل أهم عناصر ذلك الإدراك هو القطيعة مع وهم التسلسل والاستمرارية. ولقد نبه باشلار Bachelard إلى ذلك بالقول:" يعود واحد من الاعتراضات الأكثر طبيعية من القائلين بالاستمرارية في الثقافة ليطرح من جديد فكرة الاستمرارية في التاريخ. وما دمنا نقوم بهذا السرد المستمر للأحداث، فإن الاعتقاد يسود بإمكانية عيش هذه الأحداث ثانية في استمرارية الزمن، وبالتالي يعطي للتاريخ كل هذه الوحدة والاستمرارية التي نعطيها للكتاب."[19]
- أهمية الوعي الفردي والجمعي في التأريخ : كما أن"العلم التاريخي شكل من أشكال وعي جماعة ما بذاتها"[20] كما يقول ريمون آرون R.Aron، فإن الوعي الصحيح يكون تاريخيا، بإدراك الزمن ونوعه وشروطه، والمكان ونوعه وظروفه، وأيضا الناس والأحداث والعلاقات فيما بينها. ولأن الوعي دائما وعي بشيء ما، وإيضاح سيكولوجي وفينومينولوجي لما سيقوم به هذا الوعي من استيفاء( إتمام ) لسلسلة لانهائية من القصديات؛ أي من الوعييات، وتدفق للمعيشات[21] يتم في الحاضر، فإن التساؤلات التي تطرح بهذا الصدد هي:

إذا اتضح أن لا ضمان للاستمرارية التاريخية على المستوى الموضوعي، فما هي شروط إمكان هذا الدفق الوحدوي للمعيشات على المستوى الذاتي؟
كيف يمكننا المرور من المعيشات المتعددة للأنا؟ علما بأن لاشيء يوجد داخل هذا الأنا باستثناء تلك المعيشات؟[22]

- القيمة الكبرى للمعنى: إن الفينومينولوجيا ليست فلسفة مغلقة نهائية، منتهية مكتملة داخل نسق ما، يعود إليها المهتمون لفهمها وقراءتها بموضوعية، بل هي حركة فكرية خاصة بكل واحد ليستعمل وعيه في إدراك وفهم ذاته والعالم والعلاقة مع الأغيار وإعطاء كل ذلك معنى خاصا به، تأسيسا على مجموعة من العناصر المنهجية كالاختزال الفينومينولوجي، والقصدية..إلخ". إن مهمة الفينومينولوجيا هي الكشف عن لغز العالم ولغز العقل...(مستعملة) نفس مقتضيات الوعي ونفس إرادة الإمساك بمعنى العالم أو التاريخ وهو في حالة الميلاد".[23] لندع العالم جانبا، ولنهتم بالتاريخ ونطرح السؤال مع ميرلوبونتي ذاته: كيف نمسك بمعنى التاريخ، وهو في حالة الميلاد؟ هل يتوجب علينا فهم التاريخ انطلاقا من الإيديولوجيا، أم انطلاقا من السياسة، أم انطلاقا من الدين أم انطلاقا من الاقتصاد؟ هل ينبغي أن نفهم مذهبا معينا من خلال محتواه الظاهر أم من خلال سيكولوجية مؤلفه والأحداث التي مرت عليه في حياته؟

يجيب ميرلوبونتي: "ينبغي أن نفهم بكل هذه الأساليب. فلكل شيء معنى، وسنجد خلف كل تلك الإبلاغات نفس بنية الكائن. فكل تلك الرؤى حقيقية بشرط ألا نعزلها، وأن نذهب إلى عمق التاريخ وأن نعود إلى الانضمام بالنواة الوحيدة للدلالة الوجودية Existentielle التي تتمظهر في كل منظور"[24]. وانطلاقا من تعليقه الدال على قولة ماركسMarxبأن التاريخ لايمشي على رأسه، يبين ميرولوبونتي رؤيته التكاملية داخل المقاربة الفينومينولوجية للتاريخ بالقول إن التاريخ أيضا لايفكر برجليه. والأحرى أن لا ننشغل برأسه أو رجليه، وإنما بجسده ككل. وهذه إحدى ميزات المقاربة الفينومينولوجية التي يود البعض أن يعتبرها مغرقة في الذاتية والمثالية بتركيزها على المعنى الذي يضفيه وعي الذات على العالم والتاريخ والعلاقات. إن هذا الوعي ليس معزولا ولا صوفيا ولا غفلا، بل هو يستحضر داخله كل العوامل والشروط والظروف والروافد التي تضافرت، فأعطت الوقائع موضوع الدراسة، فيعمل على تجلية معناها والكشف عن أسرارها. وهذا جهد ذاتي للعامل أو الباحث الفينومينولوجي، ذلك أن "المفكر لا يفكر أبدا إلا انطلاقا مما هو ce qui’il est".[25] وبتعبير آخر، بكيفية وجودية. هنا أيضا ينبغي التنبيه إلى بضعة إشكالات يمكن أن تبرز بشكل ملح بسبب إثارة تساؤلات المعنى والذات والموضوع والتأويل في التاريخ وإعادة البناء والتركيب...إلخ، وسنركز في هذا المدخل على المعنى مع الذات والموضوع. وإذا كان يخدع فلأنه يقصد غرضا ما، ولأنه يدل على شيء ما".[26] ولكن التاريخ ليس تاريخا مجردا، إنه تاريخ للإنسان يصنعه الإنسان، ولولا الإنسان لما كان التاريخ، أي تاريخ، سواء تاريخ الطبيعة أو تاريخ المؤسسات أو تاريخ العلوم. ولهذا يستدل ليوطار على قوله السابق بأن هناك دلالة متوسطةMoyenne وإحصائية لمشاريع الناس الملتزمين داخل وضعية ما، وبالتالي فالتاريخ لايتحدد إلا بهذه المشاريع ويعتبر حاصلا لها. والمعنى الخاص بتلك الوضعية، إنما يضفيه الناس. وهم يقدمون ذلك المعنى لمختلف جوانب الوضعيات التي وجدوا فيها أو عاشوا أحداثا داخلها؛ فللتاريخ معنى هو ذلك الذي يعطيه الناس له وفقا لشروط موضوعية وأيضا وفقا لمستوى وعي المؤرخ، مما يطرح العلاقة بين الذاتي والموضوعي في بناء معنى الوقائع التاريخية. فلا معنى إذن للمعنى الوحيد والمطلق والقبلي للتاريخ على الطريقة الهيجيلية التي تعتبر أن المعنى الذي يحمله التاريخ وحيد وضروري وقدري وحتمي، وأن الناس ما هم إلا أدوات وأغراض في يده، يسخرهم لغرضه المعلوم مسبقا داخل فلسفته المطلقة[27]. ولهذا بالذات، لا يوجد فهم كلي ونهائي ووحيد للتاريخ. إن التاريخ مفتوح باستمرار على أبواب فهم الناس له، معناه معروض باستمرار للاكتشاف من طرف الذوات.

- عن الذات والموضوع: كيف يمكن فهم التاريخ إذن؟
كيف يمكن الإمساك بمعنى التاريخ إذن إذا كان هذا المعنى غير مجسد وغير قبلي وغير نهائي يكمن في الماضي؟ كيف تلعب الذات دورها في فهم الموضوع وإضفاء المعنى على وقائعه؟
إذا كان المعنى الذي يضفى على التاريخ متعددا وليس أحاديا، جماعيا وليس فرديا خالصا، مشكلا من الدلالات الجمعية التي تنتجها الذوات التاريخية في محاولة إعادة تملك المعنى الكامن وراء الدلالات دون ادعاء بلوغ مستوى موضعةObjectivation معنى التاريخ، وبالتالي ادعاء إغلاق باب البحث عن دلالات أخرى من لدن ذوات أخرى تصقل المعنى أو تبلوره أو توضحه أو تعدله؛ فكيف تتحدد العلاقة بين الذاتي والموضوعي؟ كيف يتداخل الذاتي مع الموضوعي ويتفاعلان في الإمساك بمعنى التاريخ؟

يقدم ليوطار إحدى الإضاءات على هذه الأسئلة بالقول: "ليس هناك"موضوعي" Objectif من جهة، و"ذاتي" Subjectif من جهة أخرى غير مجانس له ويعمل في أحسن الأحوال على التطابق معه(...) ولايمكن إعادة الإمساك بالتاريخ عبر النزعة الموضوعية Objectivisme، ولا عبر النزعة المثاليةIdéalisme، ولا- أيضا -عبر اتحاد إشكالي للاثنتين، بل عبر تعميق للأولى والثانية يؤدي بنا إلى الوجود الفعلي للذوات التاريخية في "عالمها"؛ حيث تظهر النزعة الموضوعية والنزعة المثالية كإمكانيتين غير كافيتين كل واحدة من جهتها، حتى تعول عليهما الذوات في فهم ذاتها في التاريخ"[28]. بنقده للنزعة الموضوعية وللنزعة الذاتية( المثالية )، يبقى الفهم الوجودي Compéhension existentielle هو البديل،[29] فما هو الفهم الوجودي؟ يعتبره ميرلوبونتي في إطار أشمل هو"التصور الوجودي للتاريخ"، ويجدد التأكيد على تعدد الدلالات والمعاني فيقول: " لا توجد دلالة واحدة للتاريخ. وما نقوم به، له دائما عدة معان، وبهذا يتميز التصور الوجودي للتاريخ عن الاتجاه المادي وعن الاتجاه المثالي ".[30] ويتجلى تداخل الذاتي مع الموضوعي في هذا التصور في التكامل الجدلي بين قوى التاريخ وقوى الذوات. فكما أن تصورات القانون والأخلاق والدين والبنية الاقتصادية تتداخل دلاليا في وحدة Unité الحدث الاجتماعي، تنخرط أجزاء الجسد مع بعضها بعضاً في وحدة الحركة مثلما تترابط البواعث الفيزيولوجية والسيكولوجية والأخلاقية في وحدة فعل ما. ولهذا، يستحيل اختزال الحياة بين الإنسانية إلى مجرد العلاقات الاقتصادية، أو مجرد الصلات القانونية والأخلاقية التي فكر فيها الناس، أو إلى مجرد المعرفة التي لنا عن هذه الحياة. بل ينبغي فتح هذه الحياة على كل تلك البواعث الموضوعية المذكورة في علاقتها بوعي الذوات ومقاصدها.

ماذا يعني التكامل الجدلي بين الموضوعي والذاتي؟
يتعلق الأمر "باسترجاع إرادي، وبمرور من الموضوعي إلى الذاتي، يستحيل القطع فيه أين تنتهي قوى التاريخ وأين تبدأ قوانا الخاصة. ولايتعلق الأمر بمسألة الصرامة، مادام لا وجود لتاريخ إلا بالنسبة لذات تعيشه، ولا وجود لذات إلا متموقعة تاريخيا"[31]. يتمتع الفهم الوجودي للتاريخ بالخصائص نفسها التي تتمتع بها الفينومينولوجيا. فكما أنها تفكير جذري وحوار لانهائي وحركة مستمرة وغير نهائية، واشتغال دؤوب يتطلب الحضور الصارم للوعي، ويسعى للإمساك بمعنى العالم والتاريخ، فإن الفهم الوجودي للتاريخ لايكون كاملا ولانهائيا ولامطابقا، لأن التاريخ ليس كاملا ولانهائيا. إنه يصنع باستمرار، والذين يصنعونه هم الناس، والناس يصنعونه وفقا لظروفهم وشروطهم وقواهم المختلفة موضوعيا وذاتيا. وبالتالي لاتوجد دلالة وحيدة للتاريخ، ومعنى قبليا ونهائيا له. وسيبقى معناه مفتوحا على الدوام مادام هناك كائن إنساني واع في الوجود، مما يعني أن التاريخ كالفلسفة، كلاهما سعي مستمر لإعطاء المعنى الأول للأحداث، والثاني للوجود ككل. على أن مساواة التاريخ بالفلسفة في سعيهما، لاتحصر التاريخ أبدا في سجن مثالي وذاتي؛ فلقد بينا خطأ هذه النزعة. كما أشرنا إلى أن الفلسفة ذاتها تسعى إلى أن تصير "علما دقيقا"، وهذه هي المهمة التي تحملها الفينومينولوجيا على عاتقها، والتي عمل هوسرل Husserl طوال حياته العلمية من أجلها. إن التاريخ واقعي، ينطلق من وقائع تسمى أحداثا، إنها موضوع العلم التاريخي. هذا الموضوع الذي يقدم ذاته للمؤرخ على هيئة علامات ومخلفات وآثار وروايات وأدوات ممكنة، يحتاج إلى قراءة وإلى صياغة علمية وإلى إعادة بناء تضفي عليه المعنى وتجعله "علما"، إن المعنى مزدوج وموزع بين طرفين وضفتين هما: علامات الموضوع التاريخي، والمعنى الذي تفك به ذات المؤرخ تلك العلامات. وقد عبر ليوطار عن هذا بدقةلما قال: "هناك طريق مفتوح نحو الماضي، سابق على عمل العمل التاريخي، إنها العلامات التي تفتح لنا هذا المسلك، فنَنسَلُّ منها مباشرة إلى معانيها. ولا يعني هذا أننا نملك معرفة صريحة بمعاني هذه العلامات وأن الموضعة العلمية Thématisation[32] لا تضيف شيئا إلى فهمنا، بل وحدها هذه الموضعة وهذا البناء للماضي، هو ما يعتبر إعادة بناء"[33]. ولأجل ذلك، ينبغي على العلامات التي تنطلق منها الموضعة أن تحمل في ذاتها معنى الماضي، وإلا فلا سبيل إلى تمييز الخطاب التاريخي عن التخريف، وبالتالي العلم عن الأساطير، والخطاب العلمي عن الخطاب العامي المتخيل. ويمكن أن نعبر عن العلامات بكونها المادة التي يشتغل عليها المؤرخ في مختبره، بالجمع والفرز والفحص والتحقيق والتدقيق والنقد والتعديل والموازنة واستخراج المعنى بعد بلوغ الدلالات، وربما طمحنا إلى الإمساك بمعنى المعنى، وهو ما يميز التأويل الإنساني للوقائع والأحداث.

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش
[1]- Parot, Françoise et Richelle, Marc. 1992, Paris, PUF, Introduction à la psychologie-histoire et méthodes, P8.
[2]- Ibidem
[3]- Ibidem
[4]- مع ملاحظة أن هوسرلHusserl أشار في آخر أعماله إلى"فينومينولوجيا تكوينية" و"فينومينولوجيا بنائية". انظر: "تأملات ديكارتية"، ص:120 وما بعدها، والتأمل السادس. وأيضا: إسماعيل المصدق في دراسته المعنونة بـ: المحطات الأساسية لفينومينولوجيا هوسرل، مجلة مدارات فلسفية، المحمدية، مطبعة فضالة، العدد الرابع، يونيو2000، ص ص:29-47، وخاصة، ص41 وما بعدها.
[5]- Paris, PUF, Maurice Merleau-Ponty, 1945,Phénoménologie de la perception, Gallimard, Paris, P:I.
[6]- Ibid, PII.
[7]- Ibid, PIII.
[8]- Ibidem
[9]- Ibidem
[10]- Ibid, P IV.
[11]- Ibid,P V.
[12]- Ibid,P IV.
[13]- Ibid,P I.
[14]- كمثال على النقد غير المبرر ما كتبه عبد الله العروي عن الطريق الفينومينولوجية في: الإيديولوجيا العربية المعاصرة،ترجمة: محمد عيتاني، بيروت، دار الحقيقة1979(ط3)، ص ص:21-23، وسنعود إلى هذا النقد لاحقا.
[15]- د. حنفي حسن ،1988، الدين والثقافة الوطنية، القاهرة، مكتبة مدبولي، ص ص62-63.
[16]- Marx, Karl, Thèses sur Feurbach, p84, Annexe in : Engels , Feurbach et la fin de la philosophie classique allemande, Moscou, Editions du progrès, 1979, P :84.
[17]- Ibid, p86.
[18]- Lyotard, Jean François La phénoménologie, Paris, PUF(que sais je ?)1995,(12éd) ;P :91.
[19]- Bachelard, Gaston, 1980, épistémologie, Paris, PUF, P :185.
[20]- Aron, Raymond, 1938,Introduction à la philosophie de l’histoire, Paris, Gallimard, P :88.
[21]- Vécusالمعيشات.
[22]- Lyotard,Jean François ,La phénoménologie,pp 92-93.
[23]- Merleau-Ponty,Maurice ,Phénoménologie de la perception,P : XVI.
[24]- Ibid,P :XIV
[25]- Merleau-Ponty, Maurice ,phénoménologie de la perception, même page.
وفي نفس السياق يقول جان جوريس Jean Jaures"إننا لا نعلم ما نملكce qu’on a ولكن ما نحن إياهCe qu’on est".
[26]- Lyotard,ibid p116.
[27]- Ibid, P :118.
[28]- Ibid, P.119.
[29]- الوجوديExistentiel يعني ما ينتمي إلى الإحساس بالوجود. والفلسفة الوجوديةExistentielleهي وصف سيكولوجي أو معنويMorale لهذا الإحساس بالوجود كما يقول ياسبرزJaspers، ويتمظهر هذا الإحساس في الوضعيات الأشد اختلافا(الألم، القتال، الخطيئة أو الحدود القصوى كالموت) إنها تهتم بوصف الحالات الخاصة. وهي تتميز عن الفلسفة الوجودية Existentiale التي تهتم بالتحليل الميتافيزيقي للعناصر الأساسية المكونة للوجود كما يقول هايدجر Heidegger، مثال هذه العناصر:الحرية والتيه وحدوث وجودنا. أي أنها تهتم بتحليل الخصائص العامة لكل وجود إنساني.
Cf : Didier Julia, 1984, Dictionnaire de la philosophie, Paris, Larousse, matière : Existentiel.
[30]- Maurice Merleau-Ponty.ibid.P :202.
[31]- Ibid, P :202.
[32]- نضع الموضعة العلمية كمقابل لـ thématisation والوضعنة العلمية كمقابل Objectivation .
[33]- Lyotard, ibid,p100