الأحد، 18 سبتمبر 2016

موريس ميرلوبونتي والفينومينولوجيا./ د. عبد العزيز العيادي.



 


موريس مرلو بونتي والفينومينولوجيا

أ.د. عبد العزيز العيادي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ودار المعلمين العليا بتونس

–       قسم الفلسفة –


يتطلب البحث في علاقة مرلو بونتي بالفينومينولوجبا تعاملا موسعا مع الكثيرين من الذين سبقوه أو عاصروه وانخرطت كتاباتهم في هذا الاتجاه تأسيسا أو اتباعا أو تنويعا مثل هوسرل وأوغن فنك وهيدغر في ألمانيا أو باتوشكا في تشيكوسلوفاكيا أو ليفناس وسارتر وبول ريكور وميكل دوفران وميشال هنري في فرنسا أو الرجوع إلى ما قبل هؤلاء جميعا، نعني إلى هيغل بل وحتى إلى كانط ولمبرت من قبله مع ضرورة البحث في مفهوم بالفينومينولوجبا مصدرا وتوجها فلسفيا ومنهجا معتمدا في تناول موضوعات البحث. لكن هذا المطلب عسير خاصة ونحن إزاء تطورات وتطبيقات مختلفة للفينومينولوجبا، وتحديدا منذ هوسرل. ولتفادي هذه الصعوبة اخترنا تحديد مجال العلاقة لنقيم حوارا مقتضبا بين مرلو بونتي وكل من هوسرل وهيدغر. وإذا كان الاختيار يمكن أن يكون اعتباطيا في الكثير من جوانبه فإن التشريع له يظل مع ذلك ممكنا.

كان هوسرل يحسب – صادقا- في العشرينات من القرن الماضي أن واحدا من الفينومينولوجيين الخلص القريبين منه هو هيدغر. لكنه سيكتشف سريعا بعد صدور كينونة وزمان أنه أخطأ الحكم وأن مباحث هيدغر بدأت تبتعد عنه، وهو ابتعاد سيطور الفينومينولوجيا حتى وإن نحا بها منحى انطولوجيا. على نحو مغاير ستكون علاقة مرلو بونتي بالفينومينولوجبا الهوسرلية، علاقة فهم واستيعاب واختلاف أيضا. فالموقفان الهيدغري والمرلو بونتي بالفينومينولوجبا الهوسرلية، علاقة فهم واستيعاب واختلاف أيضا. فالموقفان الهيدغري والمرلو بونتي يخرجان عما يسميه هوسرل بالنقد السطحي الصادر عن هؤلاء المبتدئين في الفلسفة وهو ينقد يفتقر إلى هذا النضج الخاص بكل عملية نقدية جادة[1] . إذا العلاقة الوطيدة بالفلسفة الهوسرلية والخروج عنها في اتجاهين مختلفين هو بعض ما يشرّع لإقامة الحوار بيم مرلو بونتي وكل من هوسرل وهيدغر ولم يتمكن من بلورة فلسفة خاصة به. لكن البحث عن الفروق والاختلافات وحتى الخلافات لا ينفي البحث عن التقاطع وحتى عن الالتقاء دون أن يعني ذلك استنساخا للآخرين أو انحباسا داخل أسئلتهم ورؤاهم وسجلاتهم المفهومية.

يستهل مرلو بونتي كتاب فينومينولوجيا الإدراك الحسي  بسؤال ما هي الفينومينولوجيا؟ وهو سؤال قد يبدو مستغربا خاصة وقد مضى على أعمال هوسرل الأولى نصف قرن. فأية فلسفة هذه تستحق أن نلتفت إليها وهي لم تتوصل إلى حتى إلى تعريف نفسها؟ بل لعل الأمر لا يتعلق إلا بأسطورة أو بدرجة. لكن بالنسبة إلى مرلو بونتي “حتى لو كان الأمر كذلك فانه يقتضي فهم نفوذ هذه الأسطورة وأصل هذه الدرجة. والجدية الفلسفية تترجم هذه الوضعية بقولها إن الفينومينولوجيا تمارس ويقع التعرف عليها كنمط أو كأسلوب. إنها توجد كحركة قبل بلوغها وعيا فلسفيا كاملا. إنها على الطريق منذ زمن بعيد ومتبعوها يجدونها في كل مكان عند هيغل وعند كيركغارد بالطبع ولكن أيضا عند ماركس ونتشه وفرويد”[2]. إذا منذ البدء لم تعد المسألة متعلقة بهوسرل – وإن كان حوار مرلو بونتي معه سيكون مطولا- بل بتاريخ الفلسفة وبكيفية تأويله. وليس في ذلك تنكرا لهوسرل بل التنكر للفينومينولوجيا كلها هو لو لم يكن هو ذا موقف مرلو بونتي. فلم وسع مرلو بونتي دائرة الفينوميينولوجيا؟ وأين نضعه هو ذاته؟

سنؤجل الإجابة على السؤال الأول إلى حين اكتمال شروط إمكانها. أما السؤال الثاني فالإجابات عنه مختلفة. إن ما كتب حول مرلو بونتي يجعل هذا الإسم في خانة الوجودية أو الفينومينولوجيا أو الانطولوجيا. وإذا لم يكن لنا أن نحاور ههنا هذه التصنيفات فإنا نسأل على الأقل بالنسبة إلى الوجودية، هل نحن إزاء الوجودية أو إزاء وجوديات؟ والوجودية التي نعنيها هل هي هذا المفهوم الذي أصبح درجة سارية ومجرد خانة من الخانات التي تصنف الأفكار والمواقف؟ والفينومينولوجيا هل هي هذا الوصف الذي ينتهي بالفلسفة إلى فلسفة للوعي ترمم شروخ “الكوجيتو” وتنهد إلى وحدة مفقودة وأصل ضائع؟ والانطولوجيا هل هي إضاءة بنية الوجود وتحويل الكينونة إلى إسم سحري مجهول نتابعه فلا يزيدنا إلا إغراقا في باطن الذات التي لا تنتهي إلا متصوفة؟

لا أحد ينكر أن مرلوبونتي عاصر أخصب مراحل الفلسفة الوجودية، وشارك مع سارتر في إدارة تحرير مجلة الأزمنة الحديثة، و لا أحد يمكنه تجاهل الدفاع الواضح عن الوجودية في بعض مقالات المعنى واللامعنى حتى أن فيلسوفنا كتب عن “الوجودية عند هيغل”[3]. لكن ما نلحظه في هذه المقالات جميعا هو بحث مرلو بونتي عن تجاوز القسمة الكلاسيكية بين الماهية والواقعة، بين الموجود في ذاته والموجود لذاته. إنه يبحث عن قتل الصورة التقليدية للوعي. إن الوجودية بهذا المعنى هي عود إلى الوجود المعيش في تقلباته ووقائعيته وفي كيفية كشفه واختباره ومعاناتنا وتعنينا له. وحينما نقول إن مرلو بونتي فيلسوف وجودي فإنا نعني أنه فيلسوف التجربة، ولعل الأمر كله يتعلق بمعرفة أية تجربة. إنها التجربة الإدراكية بكل استتباعاتها : العالم والذات والآخرون وما أدخله عليها مرلو بونتي من تنويعات.

أما فينومينولوجيا مرلو بونتي، فليست إعادة أو استنساخا لهوسرل، وكتابه الأساسي الأول،  فينومينولوجيا الإدراك الحسي هو سعي لمفارقة هوسرل بل وإلى اختراق حدود الفينومينولوجيا الهوسرلية التي تقدم ذاتها ك “فلسفة للوعي” أو للكوجيتو وتواصل بشكل خفي الثنائية الديكارتية. بالنسبة إلى هوسرل نحن دائما إزاء ” وحدة تركيبية” هي “وحدة الوعي” التي فيها تتشكل وحدة الموضوع. فالموضوع ناتج في وحدته عن “عملية قصدية يحققها العمل التركيبي للوعي”[4] أيا كان تعدد المنظورات والزوايا التي يتبدى عليها، وحتى إذا حاول هوسرل أن يجد وحدة أعمق وأسبق من الفصل بين الذات والموضوع، فإنها لم تكن -بصفتها بوحدة تركيبية في ما يسميه هوسرل “بالهيبولي”(hylé)، ويمنحها في نفس الآن خصائص الشيء وخصائص الوعي- إلا “موجودا هجينا يرفضه الوعي ولا يمكن أن يكون جزءا من العالم”[5] حسب عبارة سارتر. أما مرلو بونتي فيعتبر أن هذه الوحدات التركيبية لا يمكن أن تكون إلا نتيجة عمل تحليلي وليست أبدا من معطيات التجربة المعيشة، وإذا كان ثمة إمكانية للحديث عن شميلة، فليس الوعي هو الذي يقيمها بل يشكلها الجسد الذي يفترضه كل إدراك واع  وكأنه شرط إمكانه. ذلك أن الجسد الخاص يعمل من حيث هو “نظام تآزري، تستعاد وتترابط كل وظائفه في الحركة العامة للكيان في العالم”[6]. هناك قبل حركة الوعي ما يجعل الوعي الوعي ذاته ممكنا وهو ما يجعل موجودات موجودة بالنسبة إلينا قبل رؤيتها ومعرفتها وتسميتها ف”حياة الوعي    –حياة عارفة، حياة الرغبة أو حياة إدراكية- مسبوقة “بقوس قصدي” ينشر حولنا ماضينا ومستقبلنا ووسطنا الإنساني، ووضعنا الفيزيقي والإيديولوجي والأخلاقي أو هو بالأحرى ما يحدد وضعنا في كل هذه الروابط. هذا القوس القصدي هو الذي يقيم وحدة الحواس ووحدة الحواس والتعقل، ووحدة الحساسية والقوة الحركية”[7] . فمفهوم القوس القصدي (arc intentionnel) مختلف عن القصدية الهوسرلية المعبرة عن نشاط تركيبي يقوم به الوعي، لا فقط بما هو وعي فردي بل من حيث هو الوعيالذي لا ينتمي إلى أي كان ويتضمن الشروط العامة لكل تجربة سيكولوجية أو فيزيائية. بصيغته هذه “يبقى الوعي الهوسرلي قريبا من الذات الكانطية ومن الأنا فيختي أو من الروح الهيغلي”[8]. فهو مهموم بالبحث عن الشمول واليقين النهائي، إنه يبحث عن معنى يوحد شتات المعطى وعن قصد يوجه كل المقاصد. وحتى إذا كانت العملية البنائية أو الإنشائية التي يعمل “الأنا” على تشكيلها دون عزلها عن المعيش هي المطمع الهوسرلي، فذلك بالتحديد هو هاجس أو “مطمع هوسرل الذي أخفق فيه دائما وهو إخفاق دائم لأن الحضور والمعنى لا يتطابقان أبدا بشكل تام”[9]، وهو ما يعني أن الفلسفة تبقى عند هوسرل منطلقا ترنسندنتاليا “يرد ظاهرة الوجود إلى ظاهرة المعنى في صلب عقلانية موسعة”[10] . إن طاغوت اللوغوس الميتافزيقي الذي حاولت فينومينولوجيا هوسرل الخروج عن طوقه استعادته بعد طول الرحلة لزيادة تحصين مواقع الوعي الترنسندنتالي أو على الأقل “لترميم الكوجيتو” الذي لم يخرج سالما مما تلاحق عليه من طعنات ومما حفر تحته من هوات ما عاد بعدها أن نفكر فيه بنفس الشكل الذي كان يقود التفكير قبلها في هذا “الحيوان العاقل” أو “الشيء المفكر”.

إن علاقة مرلو بونتي بهوسرل ليست إذا علاقة سلبية بل هي استحضار “لللامفكر فيه عند هوسرل”[11]. هي تساؤل عن هذه البنية التحتية التي هي سر الأسرار وراء كل الأطروحات والنظريات وهي تساؤل كذلك عن إمكان استناد هذه البنية إلى أفعال الوعي المطلق. هي مساءلة لمجال الأركيولوجيا وللأدوات التي نتسلح بها لاقتحام هذا المجال إذا ما كانت هذه الأدوات هي ذاتها لابد أن تتغير بفعل غوصها في هذا المجال. هي تساؤل عنا يغيره الإقتحام في فهمنا للنواط، (أفعال الوعي القصدي                        (noèseوالنماط ( موضوعات الوعي القصدي، noème  )، عما يغيره في دلالة القصدية كما في معنى الأنطولوجيا. وبالإجمال هي تساؤل عن مشروعية ما يؤسس لحياتنا ولحياة العالم في تحليله أفعال الوعي[12] . هذه بعض الأسئلة التي تبعد مرلو بونتي عن هوسرل. وهو ابتعاد لا يشير إلى تنكر أو استهجان للجهد الهوسرلي وإنما إلى ضرورة التفكير بشكل مختلف عنه. ولنشر فقط وبعجالة إلى قضية اللغة. ففي فنومينولوجيا الإدراك الحسي يضع مرلو بونتي اللغة تحت اسم “التعبير” وهو لفظ يستعمله هوسرل أيضا لتسمية أولى البحوث المنطقيةولكن دلالاته تتغير جذريا من هوسرل إلى مرلو بونتي. فالتعبير لم يعد كما عند هوسرل هذا المضاف الشاحب للنماطات التي يقصدها نواط محض. إن “الكلمة الأصلية مساوية بالتمام للفكر”[13] عند مرلو بونتي وبالتالي ليس هنالك فكر محض كما عند هوسرل ذلك أن وضعية التعالي مستحيلة دون كلمات وهو ما يعني أن هوسرل يبقى في حمى المثالية شاء أم أبى. لكننا نتجاوز هما معا التأملية والتجريبية بهذه الملاحظة البسيطة وهي أن الكلمة لها معنى”[14] .

والمعنى عند مرلو بونتي هو معنى مفلوق أو أفرع يطلع في التمفصلات والتعاريف والطيات والمقاصد والأحكام بل هو يأخذ في تاريخ الفلسفة أسماء شتى. فالأمر يتعلق بمعاني المعنى وبمعنى الأشياء جميعا، تعلقا ليس على جهة التمام بل على جهة عدم الإكتمال الذي هو جرح الفلسفة النازف، عدم اكتمال لعل الصمت المرادف للمعنى الحبيس وللمعنى البري هو أول منابته، فالصمت يعمل بشكل مضاعف على تقويض التمثل والتطابق. والصمت عند مرلو بونتي ليس صمت الكينونة المنسية وإنما هو صمت انتشاب الأشياء في العالم، وهو يقول غضاضتها بانشباك سداه مع نير التعبير. وإذا ليس الصمت حرمانا من المعنى بل هو تجذير امتداده في أقصى أفاقه وتأكيد اقتضائه في الأبعاد الثلاثة للكينونة: الأشياء والكلام والتفكير. إذا بالنسبة إلى مرلو بونتي المعنى هو محجر التهاجن الذي تتضام فيه الأفنان طالعة من العطوبية والعرضية والتناهي. وصيرورة المعنى معنى هي شعريته بالدلالة التي يكون بها الشعر مخاطرة واستقلالا وتأويلا وإبداعا هو المغالبة وليس الإلهام. وحدوثا دون مثال في المؤسسات كما مع الأفراد. وليس أمر الإبداع مقصورا على الفنون كما يظن بل أمر لغة الفلسفة ذاتها، إذ في الحالين جميعا يؤكد مرلو بونتي طلوع المعنى في التصوير قبل التصور وفي الإبصار قبل التبصر، طلوعا يخترق المستتب والمستبد من الأفعال والدلالات، لذلك نجد مرلو بونتي يميز بين الدلالة والمعنى تمييزه بين المستقر والمرتحل وبين الكلمة المتكلمة والكلمة المتكلمة وبين الكلام القائم والكلام الفاتح كما بين التنميط والخصوبة وبين فكر جاهز وفكر حادث[15] . المعنى يباغت الدلالات ويوحدها وإذا ما هجرتها لطاقته التعبيرية تتشتت وابتذلت. فالمعنى شأنه شأن الأسلوب يصاحب اختلاج المرئي وهو يتولد أو هو “داخل الخارج وخارج الداخل”[16] الذي ينسف المحاكاة ولا يكون من الجملة ما تكونه الزبدة على قطعة الخبز. ( أنظر المرئي واللامرئي، ص 203) بل هو تهكمي دوما في انفتاحه للامعنى الذي لا يقوم ضديدا له بل هو يداخله مداخلة الخلاء للملاء ولذلك فإن عدم نسيانه هو عدم الهزء بالفلسفة أما نسيانه فهو تأكيد فضيحتها الأنطولوجية والإتيقية. السياسة من حيث عملها على إنقاذ الظواهر وعلى تبرئة “النومين” واتهام “الفينومين”.

وإذا كان هوسرل شدد حتى النهاية على أن العمليات التصورية هي المؤسسة أو المقومة. دائما بالنسبة إلى غيرها فانا نلاحظ أن هذه العمليات ليس لها ما تؤسس بما أنها ليست قادرة على تسمية ما تؤسس وبما انه ليس في حوزتها هذه التسمية. إن ما يمكن تسميته قلبا للهوسرلية هو إحالتنا من صلب الفلسفة المحض_ و وفقا لضروراتها _ إلى اللغة ذاتها. إلى اللغة والمؤسسة والمجتمع والتاريخ والعالم، مع تحول التفكير من لغة مؤسس/ مؤسس إلى التفكير في التقاطع والمعكوسية. فهوسرل بقي حبيس نظرية التكون الترنسندنتالي للوعي حسب قول دسنتي، ذلك أن هذه النظرية لا توفر فقط للفيلسوف المجال المحض والأساسي لأشكال اليقين التي تقوده في اكتشاف المعنى الأولي لكل معيش يعرض نفسه للتجربة ولا تمكن فقط من إيصال التجربة التي ما تزال خرساء إلى التعبير الخالص عن معناها، بل عليها تامين أساس المسعى الفنومينولوجي ذاته ببيان كيف أن الخفض الفنومينولوجي يمكن الفيلسوف من تملك الأرض الصلبة التي تتبدى فيها في نفس الآن حياة الموضوعات التي يقصدها الوعي كما يقصدها الوعي كما الانبثاق الأصيل لتجربة قادرة على اقتراح مضامينها على هذا الوعي. لكن هوس هوسرل بالبحث عن هذه الأرضية الصلبة والأولية سيبوء بالفشل نتيجة النفوذ والامتياز اللذين منحهما للوعي. وحتى حديثه عن ” فنومينولوجيا تكوينية ” في أعماله المتأخرة[17]  لن يزعزع هذا النفوذ وهذا الامتياز. ولن يتجاوز النزعة اللاتاريخانية لديه. ف »الأساس الأخير للفكر. يظهر عند هوسرل وكأنه غريب عن التاريخ. انه حميمية معنى بالنسبة إلى الفكر وليس حدثا يغمر الفكر أو يفترضه الفكر… فالوعي الذي تدرسه الفنومينولوجيا ليس منخرطا بأي حال في الواقع ولا هو معرض لحرج الأشياء والتاريخ  «[18] .

هذه الموضوعات جميعها وما تثيره من صعوبات في الكتابات الهوسرلية سيستأنف فيها النظر مرلوبونتيا. فبالنسبة إلى مرلوبونتي، مصاحبة تفكير هوسرل أو الإقامة بجواره أو الاستمرار بعده ليس هو بالضرورة الحذو حذوه أو تكرير مقولاته أو الاكتفاء بالترديد الأمين اصطلاحاته بل الأساسي هو أن ” نستأنف جهده ونستعيد، عوضا عن أطروحاته، حركة تفكير”[19]. إذا كان هو ذا- بعجالة- موقف مرلوبونتي من هوسرل فما ذا عن القرابة المفترضة بينه وبين هيدغر؟

يشير مرلوبونتي منذ الصفحة الأولى من توطئة فنومينولوجيا الادراك الحسي إلى أن  »كامل كتاب كينونة وزمان نابع من إشارة لهوسرل، وهو ليس في مجمله إلا توضيحا للعالم الطبيعي للرموز أو العالم المعيش الذي اعتبره هوسرل في أواخر حياته . المبحث الأول للفنومينولوجيا « .

فالأساسي في جهد هيدغر هو إجلاء وبلورة التجربة المعيشة انطلاقا من الفتحة الهوسرلية، وليس  ذلك بالأمر الهين نتيجة ما سيتبع هذا الجهد من إضافات ومن إعادة نظر، وهو جهد يحاول الإفلات من أسر الذاكرة الأفلاطونية وتوابعها التاريخية، أي هو يحاول الخروج عن محاصرة الفكر ليستكشف دروبا ليس لها بعد أسماء أو ليعيد النظر في الجاهز والقائم لنفكر في »ما لم يقع فيه التفكير بعد « ، أي في هذا الأفق الذي ينفتح في لحظتنا الراهنة، في هذه الزمنية التي تخترقنا فتكون بها كينونتنا تجذرا بدئيا وإقبالا لا ينفك لا يغير أفق وجودنا حين يهدد كل استقرار ويزعزع كل تطابق ويخلخل كل تجانس ويعمل على إشاعة السؤال، والسؤال يضطلع بالتوغل في القصي الأقصى يبحث عن كيفية وجود مغايرة تنتهك التماثل الذي يسود عالما أصبحنا فيه بلا وجوه. انه السؤال الباحث عن الكينونة الصدوق، كينونة العالم وكينونة الإنسان، العالم في حركة تجليه وتستره ، والإنسان من حيث هو “إنية” أو”مقام تنفتاح” أو “دزاين” . لكن هذا المفهوم الهيدغيري الأخير يبقى غامضا، وهو »لا يستطيع القيام بوظيفة الأنا الترنسندنتالي عند هوسرل ولا بوظيفة الأساس النهائي والأصيل بإطلاق للتجربة [20]« ، هذه التجربة التي ستأخذ معنى” الإدراك الحسي” عند مرلوبونتي وتوجه بحوثه لاستجلاء كل استتباعاتها. ولعله في هذا الموقع يكمن الفارق الأساسي بين مرلوبونتي وهيدغر. فالأول اشتغل على الإدراك الحسي بينما اهتم الثاني بتاريخ الميتافيزيقا.وبالتالي مختلفين وبدلالات متمايزة. وقد لاحظ دي فالنس هذا الاختلاف الجذري حين ذكر بأنه » لاوجود في كينونة وزمان لثلاثين سطرا حول قضية الإدراك الحسي ولا لعشرة اسطر حول الجسد [21]«  بينما تشكل هذه القضايا محاور اهتمام مركزية في بحوث مرلوبونتي.فالجسد الخاص والتبيانة أو الرسيمة الجسدية هي هذه الشميلة التآزرية التي تفتح على الأجساد الأخرى وعلى تآزر مكونات الأشياء وبها يكون الكيان في العالم بيولوجيا وثقافيا. فالجسد كالمشكال (kaléidoscope) تتراءى فيه كل ألوان العالم. ويكفي أن نشير-بالإيجاز- للتدليل على الاختلاف بين مرلوبونتي وهيدغر  في هذه المسألة إلى موقف كليهما من الأثر الفني. ففي حين كان الأول يبحث عن مصدر الأثر الفني جهة الجسد كان الثاني يبحث عن هذا المصدر جهة الشيء مثلما نتبين ذلك في*أصل الأثر الفني* ضمن كتابالردوب. وإذا كان مرلوبونتي يحدد الأثر النفسي انطلاقا من الجسد ، فان هيدغر يتناول الثر الفني من جهة ما هو شيء أو هو يسائله انطلاقا من حضوره بصفة شيئا، وهو ما يدفعه إلى التساؤل عن شيئية الشيء لينتهي بعد استعراض التعريفات الأرسطية والكانطية إلى رفض هذه التعريفات وإن كان سيمنح امتيازا للتعريف الأرسطي الذي يحدد الشيء كمركب من المادة والصورة أي كمادة متشكلة تنتظم وفق خصوصية استعمالها، أي الشيء كنتاج وصنعة، وهو ما يقربنا من مفهوم التقنية بالإغريقي، وبذلك يمد هيدغر الجسور بين الفن والتقنية وإظهار الوجه المنسي منه أي الوجه الأنطولوجي. وهكذا ينقلب السؤال عن العمل الفني ليصبح سؤالا عن الكينونة. وإذا كان هذا السؤال هو سؤال الفلسفة، فإن البحث في الأثر الفني لا يتنزل هيدغريا في تاريخ الفن فقط بل في تاريخ الفلسفة أيضا.

يبتعد هيدغر بالعمل الفني عن الحساسية أي عن البؤرة التي يجذره فيها مرلوبونتي. فالجسد الذي هو “جسد تعبيري” و “عقدة دلالات حية” هو موطن الإبداع الفني عند مرلوبونتي. لكن العودة إلى الجسد وإلى الحس والإحساس والحساسية لا تعني عند مرلوبونتي عودة إلى كانط ولا حبس الإستيطيقا في مذهب جمالي، بل هي دعوة إلى إعادة بناء مفهوم الاستيطيقا ذاته، وهي إعادة بناء ستعمل على زعزعة تاريخ الفلسفة. ف » الماهية والوجود، والخيالي والواقعي والمرئي واللامرئي، كل هذه المقولات يزعزها فن الرسم«[22].

وهكذا فإن هيدغر ومرلو بونتي وان اختلفا في المنطلقات والمواقف فإنهما يلتقيان على الأقل في عدم التسليم بالبداهة، من حيث عمل الأول على إعادة شحن مفهوم التقنية وعمل الثاني على إعادة شحن مفهوم الحساسية، كما يلتقيان في تنزيل المبحث الفني في تاريخ الفلسفة وليس فقط في تاريخ الفن، ولكنهما يعودان إلى الإختلاف إزاء الفلسفة سواء في موضوعها أو تاريخها أو في روابط الحوار بينها وبين العلوم، وهي روابط يقول مرلو بونتي[23] إن هيدغر لم يهتم بها شأنه في ذلك شأن شيللر، فهما وإن كانا مصممين على الخروج من فلسفة الثبات والأبدية للإنخراط في فلسفة للزمنية، فإنهما يظلان مع ذلك أقل جذرية من هوسرل حينما يتعلق الأمر بربط النشاط الفلسفي بالنشاطات الإنسانية الأخرى. بالنسبة إلى شيللر لا أهمية للخواص الفيزيولوجية أو التاريخية ولا للعوامل البيولوجية والإجتماعية في معرفتنا للماهيات. أما هيدغر فيمنح الفلسفة نفوذا لا مشروطا يجعلها في حل من كله لجوء إلى الإستعانة بغيرها من العلوم، بل ويجعل علوم الإنسان في تبعية كلية عوضا عن بحث علاقة التعالق بينهما. ولعل الذي منع هيدغر من رؤية هذه العلاقة هو انشغاله كليا بسؤال مركزي يبحث عن إجابته في كل الكائنات والظاهر وهو سؤال: ما الكينونة؟

لكن إذا كانت الفلسفة بالنسبة إلى هيدغر في العمل على تفهم الكينونة، فإن هذا التفهم لا يستند إلى ذاته، الكينونة ليست كيانا معزولا بإطلاق عن الكائنات، وذلك يعني عينيا أن تاريخ الإنسان حتى وإن كان يمكن وصفه على أنه تاريخ تفهم الكينونة.فان أسبقية نسبية للبيولوجي أو للاقتصادي ليست مفترضة فقط بل ضرورية. هذه الصيغة في فهم الكينونة تبدو وكأنها تزيح كل مظهر لاستقلاليتها. فعلاقة الإنسان بالكينونة لا يمكن فهما لا كهبة أو أفضل تمنحه الكينونة للإنسان أو تحرمه منه ولا كحوار بينهما إذا كان هذا الحوار يعني منح الكينونة سلطة البدء. لكننا نعرف أن هذه التحليلات مرفوضة هيدغريا كما يقول دي فالنس[24] . فالفرق بين الانطيقي والأنطولوجي ، بين الكائن والكينونة هو بالنسبة إلى هيدغر  فرق جذري حتى وان وقعت متابعة العلاقة وفق جدلية تضايف، ذلك أن هذا الفرق هو ذاته شرط وجوهر كل انطولوجيا من حيث انه لا سند للكينونة في أي كائن. »أما بالنسبة إلى مرلوبونتي فان تاريخ الكينونة مباطن لالتقاء الإنسان بالأشياء دون أن يعني ذلك انصهار الواحد في الأخر. مرلوبونتي لا يرفض التمييز بين الكينونة والكائن ولكنه يحصر هذا الفصل ويقيده، لذلك نجد يتحدث عن »انطولوجيا غير مباشرة [25]«  وعن »كينونة مفتوحة [26]«  ولا نطالها إلا من خلال الكائنات، وعن »تاريخ انطولوجيا [27]«  و »تاريخ شاقولي «  (المرئي واللامرئي، ص 237) و »فلسفة تاريخ تساؤلية « (مغامرات الجدلية، ص 47) قلقة ومنقدرة على فلسفة في الفن واللغة (علامات، ص28، 91،نثر العالم، ص120). هذا التاريخ الأساسي أو الأنطولوجي هو الذي حاول هيدغر الوصول إليه مباشرة مع انه كلن يعلم استحالة ذلك. ولأمر كهذا فان الأنطولوجي التي يبحث عنها مرلو بونتي هي تلك التي تظل لائطة بالكائنات وهي تبحث عن إضاءة جهات الكينونة. هاجسها البحث عن الأساسي الذي به يكون امتياز الفلسفة وبه تتحدد وظيفتها. إنها أنطولوجيا استقرائية تجدر العالم في اللحم واللحم في الأرض التي نعاصر فيها عسر ولادة الأشياء والقيم والمعارف حد أنه »لا وجود لقضية ميتافيزيقية واحدة لا تكون مرتبطة من قريب أو من بعيد بالإدراك الحسي [28]« الذي يتطلب فلسفيا إقامة »طبولوجيا كينونة « (علامات، ص 30) هي قول في الأرض بصفتها »مركزا ميتافيزيقيا [29]«   وأرومة يطلع منها المعنى الذي ليس ملكا لثقافة وليس حكرا على صقع. إشكال الأرض هو إذا في ذات الآن إشكال ابستيمولوجي، ميتافيزيقي واتيقي-سياسي. لذلك حينما يبحث مرلو بونتي في الفعل فأنه يبحث في حاضر الفعل المنغرز في الكينونة والطالع نبتا من غور العالم حتى لا يولد ميتا إذا ما استغرقه الأصل المفقود أو المستقبل الموعود. وعليه، لم يكن مرلو بونتي مهموما بالإرادة والاختبار والمشروع وشفافية الوعي بقدر اهتماته بالمضامين العينية حيث »الحرية تريد الحرية [30]« وبقدر عمله على إيغالها في الأوضاع والبواعث و تعشيقها مع الخارج ومع الوعي المجسد بل ومع اللاوعي، هذا*المفهوم القلب*((notion-protée للالتباس ولطبقات الدلالات ولكثرة التأويلات [31] بل هو الحول la diolopieلا ينفع معه  “مكر العقل” والتحليل السببي الخطي لأنه فضاء تخاريم((dentelles لمعاني لا يحفظها بأس ذات مقومة ولرغبات مأساوية تتغذى “من جوعها” ومن صمتها ومن تأينها الايروسي الذي لا يكون فيه نرسي إلا جمعا.

هذه إشارة موجزة إلى اختلاف مرلوبونتي عن هوسرل وهيدغر- ومن قبل هؤلاء كان هيغل الذي ينقد مرلوبونتي نسقيته وديالكتيقاه. لكن حتى لو افترضنا أن مرلوبونتي يجد مصادره في هذه” الهاءات”الثلاث، فان هذه الأسماء لم تستوقفه، بل استوقفه »ما هو تاريخي جوهريا في مجهودهم الفلسفي، لأن مراجعة تشير إلى تفضيل معين. تفضيل هيغل صاحب الديالكتيقا المفتوحة واللانسقية وتفضيل هوسرل المرحلة الأخيرة على حساب هوسرل المرحلة الأولى، وتفضيل هيدغر الذي لو لم يتخل عن اتصال الكينونة بالوجود [32]« هذه الملاحظة التي أبداها أندريه روبينيه منذ سنة1963 يكاد يعيدها بول ريكور حرفيا بعد عشر سنوات حيث لاحظ أن فلسفة مرلوبونتي فلسفة وجودية قريبة من هوسرل المرحلة الأخيرة الذي يحملنا برنامجه التكويني باتجاه أركيولوجيا المعنى، وهي فلسفة صعود المعنى، فلسفة تحملها “غائيتها”إلى جوار هيغل لكن يمنعها حسها الحاد بالعرضية من الإكتمال في روح كلي، وهي فلسفة الكينونة الأصلية التي تقربه من هيدغر لو لم يبعده عنه بحدة رفضه لكل قفز بين الكينونة والكائن[33] وعلى أية حال فإنه بالإمكان القول إن مرلو بونتي احتفظ بالأساسي من هوسرل حينما بين في فصل ” الفيلسوف وظله” من كتاب علامات ( صص 202-204) أن المهمة الفلسفية كما أدركها هوسرل تنشر دائما ظلا لا يمكن إزاحته وهو ظل لا نكاد نزيحه حتى نراه يظهر من جديد. أما في علاقته بهيدغر فمواقع الإلتقاء والإختلاف بينهما كثيرة نختزلها بإجمال في توجههما معا إلى التأكيد على الطابع التكاملي للوجود الذي تحمله قصديته الفعالة باتجاه العالم لتأسيس ” الوجود – مع”، فضلا عن بحثهما عما يسبق القسمة والفصل بين الذات والموضوع مع كل استتباعات هذا البحث، أما ما يفصلهما جذريا فهو توجه مرلو بونتي إلى الإدراك الحسي وتوجه هيدغر إلى الكينونة وتاريخ الميتافزيقا وما يتبع ذلك من فروق في ما يتفرع عن اختلاف المنطلقين. ولعلنا نقدر أن نقول عن هذه العلاقة ما كان قاله عنها سارتر : لقد   »تمكن ميرلو بونتي من إعادة قراءة هيدغر وفهمه بشكل أفضل دون أن يخضع لسلطان تأثيره : فسبيلاهما تقاطعتا، هو ذا كل شيء [34]«  إن مرلو بونتي ليس هيدغيريا أكثر من كونه هيغليا أوماركسيا أو هوسرليا، فهو هؤلاء جميعا- مع آخرين كثيرين حاورهم كديكارت وكائط ونيتشه وبرغسون- لكن على طريقته. والتحاور مع كتابات هؤلاء لا يضع هذه الكتابات موضع قداسة بل هي معالم طريق فراغها موحش وظلالها كثيفة واللامفكر فيه منها عظيم الثراء، لذلك كان مرلوبونتي وسع خارطة الفنومينولوجيا كما أشرنا إلى ذلك في البداية ليبين أن الفنومينولوجيا ليست صياغة جاهزة أو مذهبا مكتملا وليؤكد إمكانية انفتاحها لقضايا مختلفة. فالفنومينولوجيا وفق عبارته »لا يمكن بلوغها إلا بطريقة فنومينولوجية [35]«  .

هذه الطريقة هي التي تابعها فكر مرلوبونتي في عدم اكتمال جذري لا يعلله عارض الموت بل وعبر”صمت”هو شأن الفكر الذي لا يسوره التصور. وأي شأن للفكر أسمى وأية مسؤولية له أعظم من انشغاله بما هو أساسي و المصيري” كينونة خاما”أو فكرا” بريا “أو هو” اللامرئي”  أو “اللحم” أو “الثمة”  أو “ملح الدار” فانه مغرس الفلسفة التي أسئلتها  في المفارقة وليس في الوضوح، وتوزع هذه الأسئلة يمتد في الحيوزات والمجازات، في العيني والتجريدي، في المنظور والمستور، في الرغبات والمعيقات، في القدرات والعطلات، الكينونة والكائنات، في الانتظامات والصراعات، في الطبيعي والإنساني، في الاغتراب والتحرر، في المعنى واللامعنى، في” الكلمات والأشياء” وبالإيجاز في تضارع حريات الحرية وفي توزع معاني المعنى التي هي ضروب انبساط وليست مكامن تغليق. والذي كنا نسوق من القول ليس مجرد ثنائيات واميّات بل هو إشارة إلى عقم” الفكر الملحق” وإلحاح على الدينامية والتصير الذين يقولهما الالتباس. والالتباس ليس عيبا أو نقيصة لا في الذات ولا في الوجود ولا » في الجوهرة الصقلية للفلسفة [36]« . الالتباس ليس كالعبث سلبا للمعنى وللحرية وإنما هو قول باستحالة ثباتهما في الأمر القاطع والقرار البات والقدم الراسخة والحدود المرسومة نهائيا. وإذا كان لا يعسر الانزلاق من فلسفة الالتباس إلى فلسفة ملتبسة فان مرلوبونتي ما فتىء يذكر ويؤكد أن الالتباس ليس نعتا بل هو اسم الفرق المفجر للتطابق واسم المأساوي الذي تتجاهله أو تتستر عله فلسفات الوضوح السعيد واسم التعالي البدئي الطالع من ثقل الوجود الغليظ. فالتعالي الحقيقي هو »وجود عن بعد [37]« ، هو » هذا البون الذي يصنع المعنى [38]«، هو »الحسي الذي يتجوف [39]«. فلا هو قصدية وعي بأفعال عنيه وحريته كما عند هوسرل ولا هو تعالي اللامشروط المرادف للكينونة كما عند هيدغر وانما هو التجسد أو  »التعالي التكويني [40]« أو »التعالي الصامت [41]«  الذي لا يفارق عمقه سطحه . انه اسم للبينية ولعواصة إشكال علاقة الأنا بالأخر التي قد يتحول فيها الأخر إلى موجود في ذاته يطارده موجود لذاته أو تتحول فيها الأخرية إلى أنانية مضاعفة. لمواجهه هذه الصعوبة اتجه مرلوبونتي جهة الذات المجسدة التي لا تختزل في الذات الابستيمولوجية بل هي ذات التجربة المعيشة والوضع والإدراك والفعل والعلائق العينية والحوارية في اللغة والعمل والرغبة والتاريخ والسياسة. بالإيجاز، الأنا والأخر مقدودان من نفس اللحم ويوجدان في نفس المجال الذي هو مجال البيذاتية الذي لا يقصي فرادة الذات ولا يغفل شراكة الحضور ولا يمنح الأنا حق البكورية الذي يجرد الأخر من حريته. ف”على الأخر أن يكون مرآتي كما أنا مرآته”[42].

بالبدء، العلاقة علاقة كثرة وليست علاقة ثنائية حتى في الوضع الأوديبي[43] . فالثالث ليس مرفوعا والمركز ليس ثابتا وهرمينوطيقا الحرية هي المحور اللامرئي الذي تتقالب عليه الذات وتوائمها خارج فردوس الأنا وجهنمية الأخرين. وليس في ذلك ما يعني أنا في سلم أبدي فالحريات تتناوء تتنادى، تتمانع وتتآزر، والناس يلتقون ويتواجهون وخطر الاستبعاد لا يبرر عجرفة الذات، بل لعلنا » نعثر على الأخر لحظة نمتنع عن قهره [44]«.  فكيف يمكن لهذه الفلسفة العينية والمأساوية –التي اهتمت بشمولية التجربة وأكدت أن العقل ليس »امتيازا لخبراء الغرب « (الانسانوية والرعب، ص204) وأن » العبقرية ليست نوعا أو سلالة في البشرية « (علامات، ص39) وأنه علينا التحسب ل »عدد هام من “العقلانيين”الذين هم خطر على العقل الحي «  (علامات، ص249) وأن الاعتقاد في العالم الذي هو»عالم كل العالم « (فنومينولوجيا الادراك الحسي، ص390) مهمة أساسية للفلسفة وأن الحقيقة ترسب وصيرورة وأن اللحم عنصر أو اسطقس وأسلوب ووقائعية وتزميل ومبدأ مجسد وشيء عام (انظر،المرئي واللامرئي، ص184)-أن تكون كما يتهمها البعض فلسفة تهمش الصراع بلجوئها إلى البراءة الفنومينولوجية للحم والى جنائنية المعنى[45]؟ وكيف تتهم بعدم تجذير الحاضر في الفعل الإنساني وفي السببية الطبيعية[46] ؟ وكيف تؤاخذ على غموض المنهج وعلى الخلط بين المستويات والانحباس في دائرة المغالطة ؟ أ عالم هذه الفلسفة عالم طفولي وانسانويتها انسانوية رومنطقية ؟ وهي فلسفة يأس وحزن لأنها فلسفة قلعة الباطن[47]؟  وهل هي فعلا أقرب إلى الرواية والرسم منها إلى الفلسفة وصاحبها اقرب ما يكون من بروتاغوراس[48] ؟ أو هو أفلاطون مقلوب معاد للعقل والعلم والحرية[49] ، تلعب فلسفته على حبلين (رسالة سارتر إلى م بونتي 18/7/1953) . وهو منحاز إلى البورجوازية والى كلاب الحراسة والى أسوا ما في مثالية الجماعيين الفرنسيين[50]؟ أ هي فلسفة حنين موجع للميتافيزيقا والأنطولوجيا التقليديتين[51] ؟ أو هي فلسفة كليانية أنطولوجية، كليانية كينونة ملآى ولا تصدع فيها ؟

بعض ما عرضناه قد يجيب على هذه الطعون. ولسنا نزعم أن فلسفة مرلوبونتي هي فلسفة دون فراغات ودون متلعثمات. لكن النقد الذي ينسى وهج الفكرة وفروقات المعنى وجدة التجربة وعسر ولادة نص الفيلسوف وصرامته ومسؤوليته وقد ينسى أيضا مواقع ودوافع صدوره وأيضا ولا برفع ذاكرته إلى مقام هذا الذي يجيء إلى الحس والوعي ولا يتمكن من الاستشكالي الذي تجذر فلسفة ما وتتجذر من خلاله في ظلوعها(claudication)  أو عرجها. وليس أبلغ للتعبير عن هذا العرج من لتسأل ليس بما هو استفسار أو استجواب أو استفتاء أو استنطاق وإنما بما هو هذا الذي طاولت به الفلسفة –وما تزال – كل مناوئيها، سؤالا لا تستغرقه الإجابة بل تضمنه وتستجيب له، فهو ليس انتظارا لدلالة وليس بهتة معارضة بل هو دهشة هي محنة في الاستشكال. انه قائم في”قطعة الشمع” التي منها السؤال والسائل والإجابة. وتفاصيل الثمة (l’il y a) التي يطلع منها السؤال هي كذلك اسم للميتافيزيقا التي هي مصابرة تجريب المعنى في الرغبة  التي لا تتبدد في العوز أو في الاستحواذ لأنها هي العرج الميتافيزيقي ذاته، مقيما في صمت الأجساد وفي ايروسية التعبير وفي “العقد الطبيعي”الذي به تكون” الفلسفة في بيتها حيثما كانت*(علامات، ص199)، ليس ألفة بل غربة في اللافلسفة التي بها الفيلسوف “مبتدىء دائم” (فنومينولوجيا الادراك الحسي، ص IX) وبها الإنسان “يكون أكثر قليلا وأقل قليلا من الإنسان” (تقريظ الفلسفة، ص63).

إذا، هذه الفلسفة تسائل الكيان واللسان والوجدان، لا تبحث عن الانصهار بل عن خطوط الرشح والإفلات وعن استقبالية الحدثان (avènement) الذي لا يحرم الكينونة جدارتها ولا تخسر فيه الكائنات نقاط ارتكازها إذ هي قائمة في “الدوامة الممكنة – المزمنة “” (المرئي واللمرئي، ص298).إنها فلسفة تلازم الإلزام و الالتزام في جدلية دون شميلة حيث تتراكز المشكلات الثمة ويتعاقد الوعي مع التعبير ومعا يعملان في العنصر الحي دون هروب باتجاه “”المواقع المشمسة للفكرة “” (دروس مجمع فرنسا، ص 278) أو باتجاه عمق إنسانوي غائر، إنها فلسفة الطيات والتصاريف وإعادة النظر في مفاهيم أساسية أربعة هي : الوجود والحقيقة والذات والعقل(انظر، المرئي واللامرئي، صص 288-292). فلسفة كهذه، أليست قريبة منا وان كانت آتية من بعيد ؟

[1]Voir, Edmund Husserl, « Avant propos » au livre d’Eugen Fink, De la phénoménologie, trad. Didier Frank, Minuit, Paris, 1974, p.13.

[2]Maurice Merleau- Ponty. PHENOMENOLOGIE DE LA PERCEPTION, Gallimard, Paris, 1945, pp 1-2.

  [3] – Voir, Sens et non- sens, Nagel, Paris, 1948 « un auteur scandaleux », « L’existentialisme chez Hegel », « La querelle de l’existentialisme », « Le héros, l’homme ». نجد المقالات التالية عن الوجودية في

[4]Edmund Husserl, Méditation cartésiennes, Vrin, Paris, 1969,p.36.

[5]J.P.Sartre, L’être et le néant, Gallimard, Paris, 1943, p26.

[6] –  Maurice Merleau- Ponty. PHENOMENOLOGIE DE LA PERCEPTION, op. cité, p270.

[7]Ibid. P158.

[8]Louis Lavelle, Panorama des doctrine philosophique, Albin Michel, Paris,1967, P.154.

[9]Jean Hyppolite, Figures de la pensée philosophique, PUF, Paris,1971, T2 , p.617.

[10]IBID.

[11]M.M.Ponty, Signes, Gallimard, Paris, 1960, p.202.

[12]IBID.

[13]Maurice Merleau- Ponty. PHENOMENOLOGIE DE LA PERCEPTION, op. cité, p207.

[14]IBID, p206.

[15]– أنظر، نثر العالم ص 125.20.17، علامات ص 79.94 ، فينومينولوجيا الإدراك الحسي ص 448.446.229.207. تقريظ الحكمة، ص 34.  مرلوبونتي في السربون ، ص 567.

[16]Maurice Merleau- Ponty. L’œil et L’esprit, Gallimard, Paris, 1964, p.23.

[17] – أنظر على سبيل المثال كتاب هوسرل les méditations cartésiennes ص 120.

[18]E. Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Vrin, Paris, 1967, pp. 34-35.

[19]M.M.Ponty, Signes, op. cit , p. 105.

[20]J.T. Deanti, Phénoménologie et praxis, éds. Sociales, Paris, 1963, p. 17.

[21]Alphonse de Waelhens, Une philosophie de l’ambiguïté, Publication universitaire de Louvain, 1951, p.2.

[22] –  Maurice Merleau- Ponty. L’œil et L’esprit, Gallimard, Paris, 1964, p.35.

[23]M.M.Ponty, « Résumé de cours à la Sorbonne » in bulletin de psychologie, n° 236, novembre 1964, pp 151-152.

[24]Alphonse de Waelhens, « Situation de Merleau ponty » in les temps modernes, n 184-185, octobre 1961, pp. 392.393.

[25]Le visible et l’invisible, Gallimard, 1964, p 233.

[26]Résumé de cours au collège de France, Gallimard, 1964, p 152.

[27]–  M.M.Ponty, « Résumé de cours au collège de France 1952-1960, Gallimard, paris, 1968, p 156.

[28]Augustin Fressin, la perception chez Bergson et chez Merleau- Ponty, société d’édition d’enseignement supérieur, Paris, 1967, p 23.

[29]M.M.Ponty, La nature (cours au collège de France 1956-1960), Seuil, Paris, 1995, p44.

[30]Maurice Merleau- Ponty. PHENOMENOLOGIE DE LA PERCEPTION, op. cité, p520.

[31]Voir,  M.M.Ponty, « Résumé de cours au collège de France, pp 70-71.

[32]André robinet, Merleau ponty, sa vie, son œuvres, PUF, 1963, p63.

[33]Voir, Paul Ricœur, Préface au livre de Brent Madison, La phénoménologie de Merleau ponty, Klincksieck, paris, 1973, p 13.

[34]J.P.Sartre, Merleau ponty vivant, les temps modernes, n 184-185 , p.367.

[35]Maurice Merleau- Ponty. PHENOMENOLOGIE DE LA PERCEPTION, op. cit , p244.

[36]Maurice Merleau- Ponty. Le visible et l’invisible, op. cit, p 287.

[37]Ibid, p 234.

[38]Ibid, p 270.

[39]Ibid, p 263.

[40]Ibid, p 287.

[41]Ibid, p 266.

[42]Ibid, p 115.

[43]Ibid, p 113.

[44]M.M.Ponty, Signes, op. cit , p. 276

[45]Marc Richir, « Merleau- Ponty : un tout nouveau rapport à la psychanalyse », in les cahiers de philosophie, n07, 1989, p 178.

[46]Hervé Barreau, « Temps et devenir », in la revue métaphysique de louvain, n 69, 1988, pp 14-16.

[47]Ferdinand Alquié, « Une philosophie de l’ambiguïté : l’existentialisme de merleau- ponty », in La Revue Fontaine, n 59, 1947, p. 52, 59-60, 61-62.

– أنظر موقف برييه في النقاش الذي أعقب محاضرة مرلو بونتي ضمن Merleau- Ponty , le primat de la perception, Cynara, [48]  Grenoble, 1989, p. 37-75-78.

[49]Jean- Toussaint Desanti, « Merleau- Ponty et la décomposition de l’idéalisme », in la nouvelle critique n 37, volume 4, 1952, p64.

[50]Simone de bouvoir, Faut-il bruler sade ?, Gallimard, Paris, 1972, p.245.

[51]Pierre Trotignon, les philosophes Français aujourd’hui, P.U.F ? Pris, 1967, p.51

((Follow our page))





modernity2022@gmail.com

ليست هناك تعليقات: