الأحد، 4 سبتمبر 2016

نظرية المعرفة عند كانط، الجزء الثاني./ أشرف منصور.



 

نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)



نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)
الفصل الثاني
ملكة الفهم الخالص
مقولاتها القبلية ومبادئُها التركيبية
مقدمـــة :
رأينا في الفصل السابق كيف انتهى كانط إلى رد الوظيفة المنطقية في الربط بين التمثلات في الحكم إلى الوظيفة المعرفية في ربط الحدوس الحسية معاً لإدراك الموضوع. كما رأينا كيف ينظر كانط إلى المقولات باعتبارها وظيفة أو استعداداً قبلياً في الفهم الإنساني لتنظيم الحدوس الحسية وإضفاء الوحدة عليها بناء على مقولات الكم والكيف والعلاقة والجهة. ولأن المقولات قبلية فقد كان على كانط البحث في منشأها في ملكة الفهم، أي البحث في الاستعدادات المعرفية القبلية للفهم والتي تمكنه من تنظيم الخبرة وفق المقولات. وهذه هي المهمة التي يحققها في "تحليل التصورات"
Analytic of Concepts. أما البحث في كيفية عمل المقولات في تنظيم الخبرة فهو الموضوع الذي يتناوله تحت عنوان "تحليل المبادئ" Analytic of Principles، ويقصد بالمبادئ هنا المبادئ التركيبية التي تتركب وفقها الحدوس الحسية لإنتاج موضوع المعرفة.
وبالتالي فسوف ينقسم هذا الفصل إلى جزء يتناول تحليل التصورات وجزء يتناول تحليل المبادئ التركيبية. ولأن التصورات قبلية فإن كانط لا يبحث عنها في الخبرة التجريبية، لأن هذه الخبرة لا تشكل أصلاً لها، بل هي ذاتها نتاج الفعل التنظيمي لهذه التصورات نفسها، ولذلك كان كانط في حاجة إلى نوع آخر من التبرير يوضح به أصل الوعي بالمقولات وظهورها في الفهم، نوع لا يبحث عنها في الخبرة بل في ملكة الفهم ذاتها، أي في ما يتجاوز الخبرة التجريبية نحو الخبرة الخالصة، ولذلك فإن بحثه عنها ترانسندنتالي وليس إمبريقياً. ولأنها موجودة قبلياً وسابقة على التجربة فإن ما يحتاجه كانط هو استنباطها من ملكة الفهم الخالص، ولذلك يسمى بحثه عن الأصل القبلي للمقولات بالاستنباط الترانسندنتالي لها في مقابل استقرائها من التجربة. أما البحث عن وظيفة هذه المقولات في تنظيم الخبرة وإنتاج موضوعاتها فيسميه "تحليل المبادئ التركيبية"، لأن المقولات وهي تعمل وتقوم بوظيفة التركيب بين الحدوس الحسية تظهر على أنها مبادئ للتركيب.
هذا بالإضافة إلى أن كانط قد اكتشف ضرورة وجود مرحلة وسيطة بين الحدس الحسي والفهم الخالص، مرحلة لا هي بالتجريبية تماماً مثل الحدس الحسي ولا هي بالخالصة تماماً مثل ملكة الفهم بل تتوسط التجريبي والخالص وتعمل على الوصل بينهما، وهذه هي ما أطلق عليه "المخيلة" أو المخيلة الترانسندنتالية
Transzendentale Einbildungskraft/ Transcendental Imagination، وهي حلقة الوصل بين الحسي والتجريبي من جهة والقبلي والخالص من جهة أخرى. ونظراً لموقعها الوسيط فسوف نتناولها في العنصر الثاني من هذا الفصل، وهو نفس موقعها في كتاب كانط.


أولاً - الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات:
لأن المقولات قبلية فلا يمكن استقراؤها من التجربة، لأنها هي التي تنظم الخبرة التجريبية من البداية. صحيح أنها تظهر في الخبرة التجريبية والعملية بالأشياء، إلا أن تجميعها من الخبرة ليس إلا استقراء لها وتجريداً للعام والمشترك بين موضوعات الخبرة. ولذلك فإن كانط لا يبحث عن أصل المقولات في الخبرة على الرغم من أنها حاضرة فيها، لكنه يبحث عنها في وظائف ملكة الفهم الخالص. هذه المقولات مرتبطة بالخبرة قبلياً، أي قبل أن تعطى الحدوس الحسية لملكة الفهم كي تنظمها عن طريق المقولات، وارتباطها القبلي هذا يأتي من كونها استعدادات معرفية لتنظيم الخبرة. يقول كانط:
"من بين التصورات المتنوعة التي تشكل الشبكة المعقدة للمعرفة الإنسانية، هناك فئة منها تتميز بكونها ذات استعمال قبلي، في استقلال تام عن كل خبرة، وحقها في هذا الاستعمال يتطلب دائماً استنباطاً" (
A85/B117).
أي تبريراً لها بالكشف عن ظهورها القبلي في ملكة الفهم؛ ذلك لأن الأدلة التجريبية على ظهور المقولات في الخبرة لا تشكل تبريراً كافياً لها باعتبارها استعدادات قبلية. وبالتالي فما نحن في حاجة إليه هو
"شرح الطريقة التي ترتبط بها التصورات بالموضوعات قبلياً.. [أي] استنباط ترانسندنتالي؛ وأميزه عن الاستنباط التجريبي الذي يرينا الطريقة التي نحصل بها على التصور من الخبرة ومن الانعكاس على الخبرة، والذي لا يهتم بشرعيتها بل بنمط نشوئها التجريبي كأمر واقع" (
Ibid).
يقسم كانط المقولات إلى نوعين: الأول يضم
تمثلىّ المكان والزمان باعتبارهما الشرط القبلي لحضور الموضوعات في الوعي، فلا يمكن أن يقدم أي شئ للوعي ما لم يكن منتظماً وفق علاقات المكان والزمان. أما النوع الثاني فهو تصورات الفهم الخالص، أي مقولات الكم والكيف والعلاقة والجهة. كان كانط قد تعامل مع تمثلى المكان والزمان في الإستطيقا الترانسندنتالية وأوضح طابعمها القبلي وعدم اعتمادهما على الخبرة التجريبية بل اعتماد الأخيرة عليهما باعتبارهما تمثلين قبليين. ويذهب كانط إلى أن إثباته لقبلية المكان والزمان كان استنباطاً ترانسندنتاليا لهما (A87/B120). ويعنى هذا أن الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات لا يبدأ كما يوحي ترتيب فصول "نقد العقل الخالص" بالفصل المسمى بهذا الاسم، بل يبدأ منذ الإستطيقا الترانسندنتالية، أما فصل "الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات" فيهتم باستنباط النوع الثاني من المقولات وهي تصورات الفهم الخالص. ونستطيع بناء على ذلك القول بأن الهدف الأساسي من نظرية كانط في المعرفة هو الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات، سواء لمقولتي المكان والزمان في "الإستطيقا الترانسندنتالية" أو لتصورات الفهم في "التحليلات الترانسندنتالية"؛ ذلك لأن تحليل المبادئ التركيبية للفهم الخالص هو الآخر يحتوي على نوع ثالث من الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات، إذ يستنبطها لا باعتبارها تصورات بل باعتبارها مبادئ تركيبية تقوم بوظيفة التركيب بين الحدوس الحسية المختلفة.
لم يكن إثبات قبلية المكان والزمان يمثل مشكلة بالنسبة لكانط، لأن طابعهما القبلي واضح وهو ليس في حاجة إلا إلى اكتشاف. المشكلة الحقيقية في إثبات قبلية مقولات الفهم الأخرى، لأن قبليتها غير واضحة. وهنا يتساءل كانط كيف تكون الشروط الذاتية للخبرة هي التي تؤسس موضوعية هذه الخبرة ذاتها؟ لا شك أن المقولات خالصة ومجردة ولا تعطى لنا الخبرة إلا وفقها وبذلك تكون شروطاً ذاتية. فكيف إذن تتمتع معرفتنا بالموضوعية؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تظهر في سياق الاستنباط الترانسندنتالي نفسه والذي يوضح أن للمقولات وظائف معرفية مسبقة لتنظيم الخبرة وإنتاج موضوعات المعرفة في الوعي. وبذلك يحل كانط الإشكالية. إن الشروط الذاتية للخبرة تنتج معرفة موضوعية لأنها هي التي تنظم الخبرة منذ البداية وترتبها مقولياً.
قدم كانط استنباطاً للمقولات في الطبعة الأولى من الكتاب (1781)، ثم قام بحذف هذا الاستنباط وأحل محله استنباطاً آخر في الطبعة الثانية (1787). واستنباط الطبعة الثانية هذا يختلف عن استنباط الطبعة الأولى في أنه يركز على اكتشاف عمل المقولات في الحكم المنطقي ناظراً إلى هذا الحكم من وجهة نظر وظيفته المعرفية في الربط بين الحدوس والتصورات، في حين أن استنباط الطبعة الأولى يركز على اكتشاف المقولات انطلاقاً من وظيفة الربط بين الحدوس الحسية ذاتها، تلك المهمة التي تشترك فيها ملكة الحس مع ملكة المخيلة(1 ). إن من أهم الأسباب التي دفعت كانط إلى وضع استنباط مختلف في الطبعة الثانية هو ما رآه من صعوبة متابعة القراء وفهمهم للاستنباط في الطبعة الأولى. صحيح أن استنباط الطبعة الثانية يحمل في جوهره نفس الهدف، إلا أن كانط قد حذف منه جزءاً خطيراً ولم يقم بإعادة صياغته وهو الذي يتناول ثلاثة أنواع من التركيب يقوم بها على التوالي الحدس الحسي والمخيلة والفهم. ويبدو أن كانط حذفه لأنه رأى تأجيل موضوع التركيب القبلي إلى الجزء الثاني من التحليلات الترانسندنتالية والمعنون "تحليل المبادئ". والحقيقة أن هذا الجزء المحذوف من الاستنباط الترانسندنتالي هو ما له الدلالة الأخطر في مقارنتنا بين كانط وهوسرل، ذلك لأن الأبعاد الفينومينولوجية لدى كانط تتضح فيه، كما أن لهوسرل تحليلات شبيهة تماماً باستنباط الطبعة الأولى، وهي التحليلات التي يكون فيها أكثر اقتراباً من كانط. ولذلك سوف نقوم بعرض الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات في الطبعتين نظراً لأهمية كل منهما ودلالته المختلفة.
1 - استنباط الطبعة الأولى:
يستند استنباط الطبعة الأولى على القول بأن تصورات الفهم أو المقولات خالصة وقبلية، لكنها في الوقت نفسه تشكل شرطاً لحضور الخبرة في الوعي ولحضور الموضوعات في الحدس الحسي نفسه. فلا يمكن أن تُعطى لنا الموضوعات إلا وفق التصورات القبلية للفهم. وبذلك فإن استنباطاً ترانسندنتالياً للمقولات هو البحث عن الشروط الذاتية التي تُتَلقى وفقها الحدوس الحسية ونفكر عن طريقها في الموضوعات وفق المقولات (
A96). ومعنى هذا أنه بتجريد الخبرة من العنصر المادي فيها، أي من مادة الإدراك الحسي، والتركيز على الشكل الفكري لهذه الخبرة، نتوصل إلى التصور الخالص باعتباره وظيفة الفهم في تنظيمها.
إذا كان الفهم الإنساني مجرد متلق للتمثلات من الحدس الحسي في انفصال عن بعضها البعض، فلا يمكن أن يصنع من هذه التمثلات معرفة على الرغم من امتلاكه لاستعدادات قبلية لتنظيمها. معنى هذا أن التمثلات يجب أن تخضع لتنظيم ما قبل أن يعالجها الفهم بتصوراته، ولذلك يثبت كانط وجود نوعين من التركيب سابقين على تركيب الفهم للتمثلات وفق التصورات، وهما تركيب يقوم به الحدس الحسي وتركيب تقوم به ملكة المخيلة الترانسندنتالية. والتركيب الذي يقوم به الحدس الحسي يسميه كانط "تركيب الإدراك الباطن للحدوس الحسية"
Synthesis of Apprehension in Intuition وهو التركيب بين انطباعات الحواس لإنتاج إدراك حسي للموضوع. والتركيب الذي تقوم به المخيلة يسميه كانط: "تركيب إعادة إنتاج [الموضوع] في المخيلة"، ويقصد به القول بأن الموضوعات كي تكون خا ضعة للتفكير يجب الاحتفاظ بها في الذاكرة والإمساك بكافة صفاتها التي لا يمكن أن تكون خاضعة للحواس وقت التفكير بها. فكي يكون الشئ موضوعاً لتطبيق مقولات ملكة الفهم يجب أن يكون حاضراً لملكة وسيطة لا هي بالحسية ولا هي بالفكرية، وهذه هي المخيلة. ويسمى كانط فعل التركيب الذي تقوم به المخيلة "إعادة الإنتاج" Reproduction لأنها تعيد إنتاج موضوع الإدراك الحسي في غيابه عن الحواس، كما تعيد إنتاج كل خصائص وصفات الموضوع التي التقطها الإدراك الحسي تباعاً وعلى مراحل. أما التركيب الثالث والأخير فهو الذي تقوم به ملكة الفهم بين التمثلات والتصورات، ويسميه كانط "تركيب [الموضوع المعاد التعرف عليه] في تصور Synthesis of Recognition in a Concept، ويقصد من ذلك أن الموضوع الخاضع مباشرة لتعامل تصورات الفهم معه هو موضوع معاد التعرف عليه بعد أن التقط الإدراك الحسي الانطباعات المختلفة عنه واحتفظت به المخيلة معاً وأعادت إنتاجه عن طريق ضم الانطباعات الآتية منه باعتبارها خصائص وصفات له، وبالتالي قدم الموضوع نفسه لملكة الفهم باعتباره منتجاً أو معاداً إنتاجه من قبل الحدس الحسي والمخيلة معاً (A99-103).
ويصف كانط أفعال التركيب الثلاثة واتصالها معاً والعلاقات بينها بقوله:
"بما أن الحس يحتوي على متنوع في حدسه فإنى ألحق به رؤية مجملة
Synopsis. لكن يجب أن يقابل هذه الرؤية المجملة تركيباً؛ ذلك لأن قدرة التلقي Reciptivity لا يمكنها أن تجعل المعرفة ممكنة إلا إذا صاحبتها قدرة تلقائية Spontaneity. هذه التلقائية هي أساس تركيب ثلاثي يجب أن يوجد بالضرورة في كل معرفة؛ أي الإدراك الباطن للتمثلات باعتبارها تكيفات للذهن في الحدس، وإعادة إنتاجها في المخيلة، وإعادة التعرف عليها في تصور. وهذه [التركيبات الثلاثة] تشير إلى مصادر ذاتية ثلاثة للمعرفة" (A97).
أي الحدس الحسي والمخيلة والفهم.
ومعنى هذا أن الحدس الحسي يكشف عن قدرة على تلقي الانطباعات الحسية، لكنه في نفس الوقت لا يدرك أشتاتاً من الحدوس والانطباعات المبعثرة بل يدرك الموضوع كله إدراكاً حسياً، وبالتالي فإن به رؤية مجملة للموضوعات لا مجرد خليط لا رابط بينه من بيانات الحواس. هذه الرؤية المجملة للأشياء هي نتيجة تركيب الحدس الحسي لمتنوع الانطباعات، وهذا التركيب ليس تلقياً سلبياً بل هو قدرة تلقائية في تنظيم بيانات الحواس لإدراك الشئ إدراكاً حسياً. وبيانات الحواس المختلفة يجب الاحتفاظ بها باعتبارها تشير إلى خصائص وصفات لشئ واحد حتى بعد أن تختفي هذه البيانات من أمام الحس وحتى في غياب الموضع نفسه، وهذا التركيب من فعل المخيلة. أما معالجة الموضوعات باعتبارها تمثلات خاضعة للمقولات فهو من عمل ملكة الفهم، وهذا التعامل أيضاً هو تركيب، لأن الفهم يركب التمثلات مع التصورات القبلية لإنتاج معرفة بشئ ما.
وسوف نتناول بالشرح فيما يلي كل تركيب منهم:
أ - تركيب الإدراك الباطن في الحدس( 2):
كي يستطيع الحدس الحسي أن يدرك انطباعات الحواس باعتبارها تشكل متنوعاً
Mannigfaltigen/ Manifold، أي أجزاء مترابطة من الإدراكات الحسية الخاصة بالشئ موضوع الإدراك الحسي، يجب أن يكون قادراً على التوحيد بين هذه الانطباعات، وذلك كي لا يظهر كل انطباع ويختفي من أمام الإدراك دون أن يشكل الحدس الحسي منه إدراكاً بالشئ. وبالتالي يجب أن يمر الحدس الحسي عبر هذه الانطباعات ويمسكها معاً؛ وما يمكنه من القيام بذلك هو حصوله على مقولة الزمان باعتبارها الشرط الكلي لحضور الموضوعات في الحدس، ذلك لأن الانطباعات تظهر تباعاً في أزمنة مختلفة، وكي يحتفظ بها الحدس يجب أن يكون متمتعاً بقدرة زمانية على الإمساك بها معاً عبر اللحظات. إن الوعي الزماني، أي القدرة على تلقي الانطباعات في أزمنة مختلفة والاحتفاظ بها عبرها وضمها معاً وفق مقولة الزمان الكلي هو أساس الحدس الحسي الموحد للحظات في إدراك الشئ.
ب - تركيب إعادة إنتاج الموضوع في المخيلة(3 ):
عند تلقي حدوس حسية مختلفة في لحظات مختلفة يجب أن يكون الوعي قادراً على تجميع هذه الحدوس معاً وإعادة تذكرها بعد اختفائها. كما يجب أن يكون قادراً على الانتقال من حدس إلى آخر تباعاً مع احتفاظه بالحدس السابق في الحدس اللاحق. هذه القدرة على التذكر والاحتفاظ بالحدوس السابقة دائماً هي من عمل المخيلة. تتلقى الحواس انطباعات مختلفة عن الشئ الواحد، ولا يمكن للوعي إدراك وحدة الشئ عبر تغير انطباعاته إلا إذا احتفظ بهذه الانطباعات معاً، أي حفظها في المخيلة وتذكرها، كي يكون الإدراك على وعي بأن ما يدركه شئ واحد لا أشياء كثيرة. وفي ذلك يقول كانط:
"... يجب أن نفترض وجود تركيب ترانسندنتالي خالص للمخيلة باعتباره شارطاً لإمكانية كل خبرة. ذلك لأن الخبرة نفسها تفترض ضرورة القدرة على إعادة إنتاج الظاهرات. عندما أقوم برسم خط في ذهني أو التفكير في الوقت من الصباح إلى صباح آخر، أو حتى عندما أتمثل عدداً معيناً، فمن الواضح أن التمثلات المتنوعة المختلفة يجب أن تدرك بواسطتي واحدة بعد الأخرى. لكن إذا أسقطت من ذهني دائماً التمثلات السابقة (الأجزاء الأولى من الخط أو الأجزاء السابقة من الوقت الزمني، أو الوحدات في سياق تمثلها)، ولم أُعِد إنتاجها في الانتقال إلى تمثلات أخرى، فإن تمثلاً كاملاً لا يمكن أن يظهر" (
A102).
وبذلك تكون ملكة المخيلة الترانسندنتالية ملكة مكملة للحدس الحسي نفسه ومؤسسة للإدراك الحسي. وهي ضرورية لأنها ما يقدم للإدراك الحسي الموضوع كاملاً عبر تنوع انطباعاته لملكة الفهم.
ج - تركيب الموضوع [المعاد التعرف عليه] في تصور ( 4):
رأينا في التركيبين السابقين كيف يعمل الحدس الحسي عند تلقيه الانطباعات الحسية على المرور عبرها تباعاً والإمساك بها بفضل حصوله على وعي زماني قبلي، وكيف تعمل المخيلة على الاحتفاظ بالانطباعات السابقة أثناء تلقي انطباعات لاحقة، وذلك كي تحافظ على وحدة الموضوع عبر تنوع الانطباعات الآتية منه واستقبالها الواحدة تلو الأخرى. أما ملكة الفهم والتي تقوم بهذا التركيب الثالث فهي التي ترتب الموضوعات وفق التصورات القبلية أو المقولات. لكن أعم وأشمل تصور يعمل به الفهم ويضفي أكثر أنواع العمومية على الحدوس الحسية والتمثلات هو مقولة "الموضوع بعامة"
Gegenstand Uberhaupt/ Object in General، أي فكرة الموضوع بصرف النظر عن نوعه، أي الشئ الممتد أو الجسم ذو الأبعاد (A104-106). فلا يمكن أن يدرك الفهم أن ما يراه عبارة عن موضوع ما لم يكن ممتلكاً لقدرة قبلية على إدراك شئ ما على أنه موضوع؛ والحقيقة أن كانط يقصد بالموضوع هنا الجوهر المادي الذي يمكن أن يكون موضوعاً في حكم بالمعنى الأرسطي. وبذلك تكون أولى المقولات القبلية وأكثرها عمومية وتجريداً هي مقولة "الموضوع" باعتباره الشئ المواجه للذات، وهذا هو المعنى الحرفي للمصطلح الألماني Gegenstand. هذه القدرة القبلية على التعرف على الموضوع هي قدرة تركيبية، ذلك لأنها تركيب الصفات معاً لتنتج منها محمولها أو قوامها Substratum، أي الشئ ذي الأبعاد. فإدراكنا لمثلث على سبيل المثال يعتمد على قدرة مسبقة في الفهم، قدرة تستطيع التعرف على ثلاثة خطوط متقاطعة مكونة ثلاث زوايا داخلية، والتعرف على الشكل المكعب يعتمد على القدرة على التعرف على جهات ست متساوية للشئ. ولم يكن الفهم الإنساني ليستطيع أن يفكر بتصورات مثل المثلث والمربع والمستطيل والمكعب ما لم يكن ممتلكاً قبلياً لتمثلات مثل الخط المستقيم والزاوية والسطح والعمق والأبعاد. هذه التمثلات البسيطة هي أساس تركيب الفهم لكل الأشكال المسطحة والمجسمة والتعرف عليها في التجربة. وكذلك الحال بالنسبة لتصور "الجسم" الذي يعتمد إدراكنا له على الاستعداد القبلي للتفكير باستخدام تمثلات مثل الشكل الامتداد وعدم القابلية للاختراق… إلخ.
وهكذا حلل كانط فعل التركيب الذي تمارسه ملكة الفهم. لكن هذا التركيب يتم بناء على مقولات عديدة متنوعة، وإزاء هذا التعدد والتنوع يجب أن يكون هناك أساس واحد في الفهم الإنساني يربطها معاً، فكل تنوع يتحول إلى تشتت ما لم يكن هناك أساس يوحده، أساس تكون المقولات ذاتها متنوعة إزاءه. ولذلك ذهب كانط إلى أن هذا الأساس هو أيضاً ترانسندنتالي، أطلق عليه "الإبصار الترانسندنتالي"
die Tranzendentale Apperzeption، وهو نوع من الوعي الذاتي المعرفي، أي الوعي بوحدة الذات وبأنها هي القائمة بالأفعال المعرفية المختلفة. صحيح أن هذه الفكرة شبيهة بالأنا أفكر الديكارتي، إلا أن الإبصار الترانسندنتالي أكثر من مجرد كوجيتو، إذ أن له دوراً إبستيمولوجيا خاصاً للغاية، فهو الذي يحافظ على وحدة العمليات المعرفية بإرجاعها دائماً إلى الذات العارفة، وهو وعي بالإنتاج الذاتي للحكم وبصور هذا الحكم من نشاط للذات. إنه وعي الذات بفعلها ونشاطها المعرفي باعتباره إنتاجاً فعالاً لا مجرد تلق سلبي. وتتضح أهمية الإبصار الترانسندنتالي من أن المقولات لا يمكنها أن تكون فاعلة في تنظيم الخبرة وإنتاج المعرفة باعتبارها وظائف للفهم ما لم تكن مصاحبة بوعي ذاتي من قبل الفهم الإنساني نفسه، وعياً يدرك أنه هو الذي يقوم بتركيب التمثلات والتصورات. صحيح أن استخدام كل مقولة يكون مصاحباً بوعي ذاتي من القائم بالمعرفة وبأنه هو الذي يستخدم تصوراته لفهم الأشياء، لكن بالإضافة إلى الاستخدام الواعي لكل مقولة يجب أن يكون هناك مستوى أعلى من الوعي يوحد بين كل هذه الأفعال المعرفية باعتبارها أفعالاً للذات. وفي ذلك يقول كانط:
"يجب أن يكون هناك أساس ترانسندنتالي لوحدة الوعي في تركيب متنوع كل الحدوس.. أساس بدونه يستحيل التفكير في أي موضوع لحدوسنا.. لايمكن أن تكون لدينا أي أنماط معرفية، أو أي صلة أو وحدة لنمط من المعرفة مع الآخر بدون وحدة الوعي التي تسبق كل بيانات الحواس.. ووحدة الوعي هذه يمكن أن تكون مستحيلة إذا لم يستطع الذهن في معرفته بتنوع الحدوس أن يصبح واعياً بهوية الوظيفة التي عن طريقها يدمج تلك الحدوس تركيبياً في معرفة واحدة. إن الوعي الأصلي والضروري بوحدة الذات هو في نفس الوقت وعي بوحدة ضرورية بكل تركيب للظاهرات وفق التصورات" (
A106-107).
ومعنى هذا أن معرفة الأشياء باعتبارها وعياً بها تتأسس على الوعي بالذات أثناء ممارستها لأفعالها المعرفية المختلفة: "لا يمكن للعقل أن يعي بهويته في تنوع تمثلاته، ولا يمكنه أن يفكر في هذه الهوية قبلياً، إلا إذا كان أمام عينيه وحدة أفعاله التي يُخضع بها كل مركب للحدوس.. لوحدة ترانسندنتالية" (
A108)، أي وحدة الوعي الذاتي. وهي وحدة ترانسندنتالية بمعنى أنها ليست خاضعة للتجربة، فالوعي بالذات لا يرجع إلى التجربة أبداً، كما لا تشكل معرفة الأشياء أصلاً لها، لأنها هي ذاتها أساس معرفة الأشياء. لا يحصل الفهم على وعي بذاته بفضل معرفته بالأشياء، بل العكس، إذ أن هذه المعرفة ليست ممكنة إلا بفضل الوعي الذاتي.
وبعد أن يوضح كانط أن تركيباً بين الحدوس الحسية ليس ممكناً إلا بفضل الوعي الذاتي، الذي أطلق عليه "الإبصار الترانسندنتالي"، يشير إلى أساس زماني لهذا الوعي الذاتي. ذلك لأن تركيباً واعياً بين الحدوس يجب أن يعي تراتبها الزمني واحداً تلو الآخر، ولا يمكن إدراك هذا الترتيب أو التسلسل الزمني للحدوس ما لم تكن في الوعي قدرة قبلية على إدراك الزمان، أي الوعي بالتتابع وبالعلاقة بين السابق اللاحق؛ هذه القدرة القبلية هي في حد ذاتها زمانية، إذ هي الصورة القبلية للزمان باعتبارها شرطاً كلياً لحضور الموضوعات في الوعي. كما أن التركيب بين الحدوس الحسية التي يتم تلقيها في أزمنة مختلفة يجب أن يتم بوعي باللحظة الحاضرة وإدراك أن الوعي نفسه كان حاضراً عبر كل تلق جديد لحدس حسي جديد:
"إن الأنا [التي تتصف بالحضور وبالوعي بهذا الحضور وبالثبات الزمني] تشكل قواماً لكل التمثلات، [فمن خلال هذا الأنا] نستطيع الوعي بها. وكل وعي.. يقوم بفعله بناء على حدس داخلي خالص، أي على الزمان" (
A124).
ويتضح من ذلك أن الوعي باعتباره وعياً بالذات وإبصاراً ترانسندنتالياً بهوية الأنا يشتغل على وعي داخلي هو الوعي بالزمان. إن الوعي بالزمان الداخلي عند كانط هو قوام العملية المعرفية( 5)، والوعي في حد ذاته ليس إلا وعياً بالحضور المستمر والدائم للأنا عبر اللحظات المتعاقبة، وهذا هو الأساس الزماني الذي يشكل قوام التعرف على كل تغير زماني تجريبي.
في المعرفة الإنسانية تخضع الأشياء للشروط الذاتية للمعرفة، وهذه المعرفة تكشف عن فاعلية مقولات الفهم الإنساني، والمعرفة بذلك ليست تلقياً سلبياً لمعلومات من التجربة – لأن ما يسمى بالتجربة ليس إلا خبرة إنسانية بالعالم صنعتها الذات العارفة. وليس معنى ذلك أن المعرفة الإنسانية مجرد خبرة ذاتية أو أوهام أو صورة ذاتية للعالم لا تقابلها حقيقة موضوعية، لأن المعرفة الإنسانية هي معرفة بالظاهر لا بالأشياء في ذاتها [هذه الحجة تضعف ما أراد الكاتب أن يتوصل إليه من أن المعرفة ليست مجرد خبرة ذاتية ـ محمد ـ]. العالم لا يقدم لنا إلا الظاهر، والمعرفة هي تنظيم هذا الظاهر وفق مقولات الفهم، أما
الأشياء في ذاتها فليست معطاة لنا في الحواس أو في حدس حسي، أو بأي طريقة أخرى مثل الحدس العقلي مثلاً، ذلك لأن كانط ينكر أن تكون المعرفة البشرية قادرة على تمثل حقائق عن طريق العقل وحده في استقلال عن كل شرط حسي؛
"وبالتالي فإن النظام والانتظام في الظاهرات والذي نطلق عليه (طبيعة)، نحن الذين أدخلناه. ولا يمكننا أن نجده في الظاهرات ما لم نكن قد أدخلناه فيها. [وكي تكون] وحدة الطبيعة ضرورية، يجب أن تكون ممكنة قبلياً" (A125)
أي لكي يدرك الوعي الإنساني نظاماً في الطبيعة يجب أن يكون هو نفسه ممتلكاً لهذا النظام قبلياً. وهذا النظام هو تركيب قبلي للفهم الإنساني مستند على وحدة تركيبية، أي وعي بوحدة الذات القائمة بالتركيب.
ويجب أن ننتبه في هذا السياق إلى نقطة لم يؤكد عليها كانط مباشرة، وهي أن الوعي الذاتي ليس خاصية لملكة الفهم وحدها، بل هو حاضر في مستوى الحدس الحسي ومستوى المخيلة، ذلك لأن كل تركيب، سواء تركيب انطباعات أو حدوس في موضوعات، وهما التركيبان اللذان تقوم بهما ملكتا الحس والمخيلة على التوالي، نقول أن كل تركيب يجب أن يكون مصاحباً بهوية الذات وإدراك باطن بوحدتها عبر أفعالها التركيبية المختلفة وعبر موضوعات التركيب المتباينة. والحقيقة أن الكثير من الكتب العامة العارضة لفلسفة كانط أخطأت في اعتقادها أن الوعي الذاتي لا يظهر إلا في مرحلة الفهم أو هو خاصية لملكة الفهم وحدها( 6)، ذلك لأن كانط نفسه يؤكد، وخاصة في استنباط الطبعة الأولى هذا، ضرورة حضور الوعي الذاتي عبر كل الملكات الثلاث: الحس والمخيلة والفهم. ويبدو أن أحد أسباب هذا الاعتقاد الخاطئ أن مصطلح الوعي الذاتي لا يظهر صراحة وحرفياً إلا في تناول كانط لملكة الفهم، بجانب اعتماد أغلب العارضين لفلسفة كانط على استنباط الطبعة الثانية دون الانتباه إلى إشارة كانط في الطبعة الأولى إلى حضور الوعي الذاتي عبر الملكات الثلاث( 7).


2 - استنباط الطبعة الثانية:
إن الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات في الطبعة الثانية هو في أغلبه إعادة صياغة للأفكار الرئيسية في استنباط الطبعة الأولى، لكن مع حذف وإضافة. الحذف هو للتركيب الثلاثي الذي يقوم به الحس والمخيلة والفهم في الطبعة الأولى، والإضافة هي في توضيح كانط للصلة بين عمل المقولة على مستوى تنظيم المعرفة وبين وظيفتها في الحكم المنطقي.
وفي عرضنا لاستنباط الطبعة الثانية لن نكرر إعادة صياغة كانط للأفكار الرئيسية التي سبق ظهورها في استنباط الطبعة الأولى، بل سنوضح الأفكار التي أعطاها الأولوية في العرض، ثم نعرض للإضافة التي ظهرت في الطبعة الثانية ولم تكن موجودة في الأولى.
يبدأ كانط الاستنباط بقوله إن الحدوس تظهر مندمجة مع بعضها البعض في الإدراك الحسي، ولا يمكن أن تكون الحواس ذاتها مصدر هذا الدمج، لأن الانطباعات تعطى للحواس مشتتة وبغير رابط بينها، ولذلك يجب افتراض فعل تركيب بين الانطباعات على مستوى الإدراك الحسي(8 )، وهذا الفعل يقوم به نوع من الوعي هو البصيرة
Apperception. وهو ينظر إلى هذه البصيرة باعتبارها وعياً بالأنا أفكر:
"يجب أن يكون ممكناً للأنا أفكر أن يصاحب جميع تمثلاتي؛ إذ بدونها لا يمكن لشئ أن يمثل فيَّ ولا يمكنه أن يخضع للتفكير أبداً.. وكل متنوع الحدس لديه بالتالي صلة ضرورية مع الأنا أفكر" (
B132).
ويسمي كانط الوعي بالأنا أفكر حدساً خالصاً
Pure Intuition، لأنه لا يعتمد على الخبرة التجريبية. فالوعي بالأنا أفكر لا يعتمد على الحالات والأفعال المعرفية بالمعنى السيكولوجي، بل هو يسبق هذه الأفعال، لأنها تتضمن بالضرورة وعلى نحو قبلي وعياً بالأنا أفكر أثناء قيامها بعملها. وهذا الأنا أفكر لديه تصورٌ عن الوحدة التركيبية، أي تصورٌ يدرك أن أفعال التركيب المختلفة مترابطة ومتصلة من حيث كونها أفعالاً لذات واحدة وممارسة على موضوع خبرتها هي. هذا التصور الخاص بوحدة الأفعال التركيبية ليس هو مقولة الوحدة التي تظهر في الحكم المنطقي، ذلك لأنه لا يخص وحدة الأشياء قبلياً، أي وحدة الحدوس والتصورات في إنتاج تمثل للشئ، بل يخص وحدة الذات القائمة بالأفعال التركيبية (B131). وبذلك أوضح كانط أن مقولة الوحدة ليست هي أصل وعي الذات بوحدتها في أفعالها المعرفية، بل إن وعي الذات بوحدتها هو السابق على ظهور مقولة الوحدة باعتبارها عاملة على مستوى الخبرة. وهنا نكتشف كيف أن كانط كان على وعي بمستوى سابق على المقولة ذاتها. صحيح أن المقولات هي ذاتها قبلية، إلا أن قبليتها هذه تستند على شئ ما أكثر قبلية منها؛ إنه القبلي المؤسس للمقولات القبلية ذاتها، إنه القبلي الأصلي والأساسي( )، وهو الوعي بالأنا أفكر، الوعي الذاتي بوحدة الأفعال المعرفية وانتمائها جميعاً إلى الذات العارفة.
ومثلما ذهب كانط في الإستطيقا الترانسندنتالية إلى أن المكان والزمان هما الشرطان اللذان تُعطى وفقهما الحدوس للوعي فهو يذهب في استنباط الطبعة الثانية إلى أنهما أيضاً الشرطان اللذان يمكن للحدوس وفقهما أن تخضع للتفكير باعتبارها تمثلات وتضم جميعها في تصورات (
B137). فعن طريق المكان باعتباره شرطاً قبلياً يُعطى للفهم متنوع الحدوس، وعن طريق الزمان تدمج هذه الحدوس وتترابط معاً في وعي واحد. ومعنى هذا أن مقولة المكان تخص استقبال الحدوس باعتبارها تنوعات مترابطة مكانياً، ومقولة الزمان تخص ربط هذه الحدوس مع بعضها البعض في الوعي. وهنا نكتشف أن الزمان هو الشرط القبلي للتفكير مثلما أن المكان هو الشرط القبلي للإدراك. والملاحظ أن كانط قد عالج الزمان في استنباط الطبعة الأولى على أنه وعي بالزمان، وبالتالي فالوعي الذاتي الذي يمثل شرطاً لكل معرفة ليس سوى وعياً زمانياً، وعياً بالطابع الزماني للذات الإنسانية( 9).
عند هذا الحد من استنباط الطبعة الثانية لم يدلل كانط إلا على مصدر وحدة الأفعال التركيبية التي يمارسها الفهم والمتمثلة في الإبصار الترانسندنتالي أو الأنا أفكر، ولم يكن طوال هذا العرض قد تناول الموضوع الأساسي وهو ضرورة الانطباق القبلي للمقولات على الخبرة وعلى الحكم المنطقي. وهذا هو الموضوع الذي ينهي به استنباط الطبعة الثانية والذي يمثل الإضافة غير الموجودة في الطبعة الأولى. ويبدأ كانط في تناول هذا الموضوع في فقرة بعنوان: "يتأسس الشكل المنطقي لكل الأحكام في الوحدة الموضوعية للإدراك الباطن للتصورات التي يحتويها [هذا الشكل المنطقي]" (
B141). يريد كانط القول بأن الشكل المنطقي للحكم والمتمثل في موضوع ومحمول ورابطة، أو حدس وتصور مندمجين معاً بأداة الربط (هو ist/is/est) والتي تعبر عن الكينونة، ليس ممكناً إلا بفضل الوعي بالوحدة القبلية بين الحدس الحسي والتصور العقلي. هذه الوحدة القبلية سابقة على الحكم المنطقي نفسه وهي التي تؤسسه، لأننا لا يمكن أن نعبر منطقياً عن انطباق تصور ما على موضوع ما لم نكن قد وعينا بهذا الانطباق منذ البداية وقبل إصدار الحكم( 10)، ولا يمكن أن يطبق الحكم المنطقي محمولاً على موضوع أو يدرك شيئاً تحت مقولة ما لم يكن الوعي قد قام بذلك بالفعل قبل الحكم المنطقي، ومعنى ذلك أن هناك وحدة تركيبية بين شقي الحكم في الوعي ذاته وسابقة على الحكم المنطقي، ذلك الحكم الذي يأتي للتعبير تحليلياً عما أنجزه الوعي من تركيب قبلي. ويكون الحكم المنطقى بذلك مؤسس على فعل معرفي يركب الحدس والتصور معاً، ووعينا بهذا التركيب هو أساس التعبير المنطقي عن الرابطة بين الحدس والتصور وهو أداة الربط التي تعبر عن الكينونة.
ولا يوافق كانط على تعريف المناطقة للحكم بأنه تعبير عن علاقة بين تصورين، وذلك لأن هذا التعريف مقتصر على الحكم المقولي
Categorical Judgment، لا الحكم الشرطي المنفصل أو المتصل، ذلك لأن كلاً منهما يعبر عن علاقة بين قضيتين لا تصورين؛ الحكم المقولي لا يعبر إلا عن تضمن المحمول في الموضوع وفق مقولة الكل والأجزاء أو مقولة الجوهر والأعراض، في حين أن الحكم الشرطي المتصل يعبر عن علاقة سببية بين تصورين حسب مقولة السببية، والحكم الشرطي المنفصل يعبر عن علاقة تسبب متبادل بينهما حسب مقولة الاشتراك أو التفاعل المتبادل، هذا بالإضافة إلى أن أحكام الجهة تفهم موضوعاتها حسب مقولات أخرى غير التضمن واللزوم، مثل الإمكان والضرورة والمصادفة والاستحالة ... إلخ. إن العلاقات التي تربط بين قضيتين لا تقتصر على علاقات التضمن واللزوم. فالحكم المقولي لا يعبر إلا عن تضمن المحمول في الموضوع وفق مقولة الجوهر والأعراض أو مقولة الوحدة أو مقولتي الكل والأجزاء، في حين أن الحكم الشرطي يعبر عن علاقة السببية أو علاقة التسبب المتبادل، وأحكام الجهة تعبر عن مقولات الإمكان والضرورة والمصادفة والاستحالة…إلخ. ومعنى هذا أن ما يجب تناول أساسه القبلي الترانسندنتالي ليس مقولة التضمن أو علاقة الكل والأجزاء وحسب والتي تشير إلى الحكم المقولي، بل يجب كذلك تناول بقية المقولات التي يكشف عنها الحكم الشرطي وأحكام الجهة.
وما نلاحظه في حديث كانط عند هذه النقطة أنه يغير من أسلوب الاستنباط الترانسندنتالي مقارنة بالطبعة الأولى، فهو يلجأ إلى تحليل الحكم الحملي ليبين تعبيره عن مشروطية مقولية سابقة على الحكم، وفي ذلك يقول:
"الحكم ليس إلا الأسلوب الذي تأتي به أنماطاً معطاة من المعرفة إلى الوحدة الموضوعية للإدراك الباطن" (
B141).
أي أنه ينطلق من الحكم مباشرة إلى الكشف عن أساس الفعل المعرفي الذي ينتجه والذي يتمثل في وحدة الوعي الذاتي، وهو ما يطلق عليه "الإدراك الباطن"، بدلاً من الانتقال من الفعل المعرفي أولاً كاشفاً عن كيفية إنتاجه للحكم كما في الطبعة الأولى. فعندما نقول "كل الأجسام ثقيلة"، فإن هذا الحكم تعبير عن إدراك مسبق بالأجسام باعتبارها ثقيلة، أي باندراج الأجسام تحت مقولة الثقل. إن الإدراك السابق على الحكم يعي شيئاً واحداً هو الأجسام الثقيلة، أي يعي بالحدس الحسي والتصور في وحدة واحدة غير منفصلة، ثم يأتي الحكم المنطقي ليفصل في هذا الإدراك الواحد بين حدس وتصور، ثم يعبر عن الوحدة بينهما في صورة الرابطة
is أو فعل الكينونة؛ وما الحكم بذلك سوى تعبير تحليلي عن تلك الوحدة بين الشئ الجزئي والمقولة الكلية في الإدراك الباطن( 11). التقط كل من شلنج وهيجل وهوسرل هذه الفكرة وذهبوا إلى أن الحكم هو تقسيم وفصل تحليلي للوحدة الأصلية المقولية بين الحدس والتصور، وما أكد لديهم هذه الفكرة أن كلمة حكم بالألمانية تتكون من مقطعين UR-teil، وتعني حرفياً "الانقسام الأصلي" أو "انقسام الأصل"، وذهبوا إلى أن الحكم هو انقسام للأصل الواحد الذي يجمع بين الموضوع والمحمول أو الشئ والمقولة في الوعي القبلي( 12). ونستطيع في هذا السياق القول بأن المقولة لا تظهر باعتبارها مقولة صريحة وواضحة، أي تصوراً خالصاً للفهم، إلا بفضل هذا الانقسام للأصل، أي في صورة التعبير المنطقي الواعي عن هذه الوحدة الأصلية أو الرابطة المقولية الأصلية؛ وهذا هو بالضبط معنى قول كانط إن المقولة لا تظهر إلا في الحكم( 13)؛ لكن ليس معنى هذا أن وظيفتها منطقية وحسب، ذلك لأن وظيفتها المنطقية ذاتها مؤسسة على وظيفتها المعرفية السابقة على الحكم المنطقي المتمثلة في التوحيد بين التمثلات، وذلك كما شرحنا في الفصل الأول تحت عنوان "المقولات باعتبارها شروطاً قبلية لإمكان الخبرة". إن كانط يرد الوظيفة المنطقية للمقولات إلى الوظيفة المعرفية لملكة الفهم الخالص.
لكن أتى كانط في فقرة تالية بعبارة أدت إلى سوء فهم من قبل بعض المفكرين والشراح( 14)، يبدو فيها أنه يرد الوظيفة المعرفية للمقولة القبلية إلى الوظيفة المنطقية للمقولة في الحكم. يقول كانط:
"إن فعل ملكة الفهم هذا، والذي عن طريقه يحضر متنوع تمثلات معطاة في إدراك باطن واحد "هو" الوظيفة المنطقية للحكم، وبالتالي فكل متنوع.. متعين بالنظر إلى أحد الوظائف المنطقية للحكم، وبهذه الطريقة يتم إحضاره في وعي واحد" (
B143).
يبدو من هذه العبارة أن كانط يريد القول بأن الفعل المقولي العامل في مجال الحدس الحسي والمنظم لمتنوع الحدوس الحسية هو نفسه الوظيفة المنطقية للحكم، لكنه ليس كذلك. إن كلمة "هو" في النص السابق لا تعبر عن التساوي أو الهوية بل تعبر عن التوازي. الفعل المقولي لملكة الفهم سابق على ظهور الحكم وعلى وظيفته المنطقية. وهو عامل على مستوى الحدس الحسي في تنظيم تنوعات الحدوس والذي يسبق عمل ملكة الفهم في تنظيم التمثلات وفق المقولات. كانط إذن يقصد بذلك أن الوظيفة المنطقية للحكم متعينة ومشروطة بالوظيفة المقولية لملكة الفهم. وهذا ما يمكن أن يفسر لنا الغموض في قول كانط: "المقولات هي هذه الوظائف للحكم بالضبط، طالما كانت مستخدمة في تعيين المتنوع في حدس مُعطى" (
Ibid). معنى هذا أن المقولات هي وظائف للحكم طالما كان هذا الحكم تعبيراً عن وحدة المتنوع في حدس معطى، أي طالما كان تعبيراً عن وحدة مقولية سابقة على الحكم. ليس للمقولة من وظيفة منطقية إلا بناء على وظيفة معرفية سابقة على الحكم المنطقي تربط التمثلات ببعضها البعض وبينها وبين التصورات. وعندما يقول كانط إن "المتنوع في حدس معطى خاضع بالضرورة للمقولات" فهو لا يعني أنه خاضع للوظيفة المنطقية للمقولات بل لوظيفتها المعرفية في الحدس، أو في الخبرة السابقة على الحكم بتعبير هوسرل، أي في تنظيم متنوع الحدس وإضفاء الوحدة عليه. إن مصدر خطأ أولئك الشراح أنهم لم ينتبهوا إلى أن كانط يتناول الحكم من وجهة نظر المنطق الترانسندنتالي لا من وجهة نظر المنطق العام، ولذلك فإن تعامله مع الوظيفة المنطقية للمقولة هو تعامل قبلي ترانسندنتالي، أي معرفي وإبستيمولوجي وليس تحليلياً، تعامل يوضح الأفعال المعرفية التي تجعل المقولة تظهر في الحكم( 15).
إن سوء الفهم الذي أشرنا إليه يرجع إلى سببين: الأول أن كانط يتبع طريقة تحليل الحكم الحملي لإثبات اعتماده على مشروطية مقولية سابقة عليه، وهذا هو الأسلوب الجديد الذي اتبعه في استنباط الطبعة الثانية. انطلاقه من الحكم المنطقي إلى إثبات مشروطية مقولية سابقة عليه أدى إلى سوء الفهم القائل إن الوظيفة المنطقية للمقولة هي التي تؤسس الوظيفة المعرفية لها، في حين أن العكس التام هو الصحيح، ذلك لأنه انتقل في استنباط الطبعة الأولى من الوظيفة المعرفية للمقولات، أي أفعال التركيب وفق المقولات القبلية، إلى تأسيس هذه الأفعال للحكم المنطقي قبلياً. ولم يغير كانط في الطبعة الثانية من رأيه حول الترتيب بين الوظيفة المنطقية للمقولات في الحكم والوظيفة المعرفية القبلية لها في تنظيم الخبرة السابقة على الحكم، فالأولوية عنده هي للوظيفة المعرفية التي تؤسس الحكم المنطقي قبلياً، لكنه غيَّر من مجرد طريقة العرض، إذ بدأ في الطبعة الثانية من أعلى، أي من الحكم المنطقي منتقلاً إلى أساسه القبلي وهو الوظيفة المقولية في تنظيم الخبرة. ولا يعني ذلك أنه أعطى الأولوية للوظيفة المنطقية للمقولات بل غير من أسلوب الاستدلال، وكان ذلك استجابة منه لما رآه من قُرَّاء الطبعة الأولى في عدم فهمهم للاستنباط الترانسندنتالي وصعوبته واستغلاقه على أفهامهم. لقد عبر كانط عن وجهة نظره واضحة صريحة منذ أن رد لوحة الأحكام إلى لوحة المقولات كما رأينا في الفصل الأول. أما السبب الثاني الذي أدى إلى سوء الفهم أن كانط لم يقدم تحذيراً لقراءه من الخلط بين الوظيفة المنطقية والوظيفة المعرفية القبلية للمقولات، ولم يتوسع في التأكيد على أولوية الوظيفة المعرفية، نظراً لأنه كان متعجلاً للانتقال إلى المرحلة الثانية من التحليلات الترانسندنتالية وهي تحليل المبادئ.


ثانياً - دور المخيلة الترانسندنتالية:
على الرغم من أن كانط بدأ كتابه بالإعلان عن مصدرين للمعرفة، ملكة الحس وملكة الفهم، من حيث أن الحدس الحسي يمدنا بتمثلات حسية عن الموضوعات، والفهم يمدنا بالتصورات القبلية التي تنظم التمثلات، إلا أن إعلانه هذا كان لمجرد التبسيط كي يمهد القارئ للدخول في تفاصيل نظريته المعرفية التي مثلت اختلافاً هائلاً عما سبقها من نظريات لدى سابقيه. فالحقيقة أنه أدخل ملكة ثالثة لم يكن يتمكن من الإعلان عنها في البداية، ولذلك أجل إعلانها حتى يحين وقتها( 16). هذه الملكة هي المخيلة الترانسندنتالية
Tranzendentale Einbildungskraft / Transcendental Imagination التي نظر إليها على أنها مصدر أساسي للمعرفة. فقد ظهرت أول مرة في بحث كانط عن وظائف التركيب القبلي الثلاثة في استنباط الطبعة الأولى، ورد وظيفة الاحتفاظ بالحدوس الحسية السابقة، أي التي انتهى حضورها من أمام الحواس، أثناء تلقي حدوس لاحقة إلى ملكة مختصة بذلك هي المخيلة الترانسندنتالية. لم يكن كانط يستطيع أن يعلن عن هذه الملكة في بداية كتابه لأن مبرر وجودها لم يكن قد تأسس بعد، أما عندما بدأ كانط في تناول العلاقة بين الحدس الحسي والفهم الخالص فقد ظهرت بذلك ضرورة وجود ملكة ثالثة تتوسط بينهما، ملكة لا هي بالحسية تماماً ولا هي بالعقلية تماماً، بل تعمل كوسيط بينهما وذلك بأن تنقل الحدوس الحسية إلى مستوى التصورات المجردة.
كان الفلاسفة قبل كانط يعتقدون في مصدرين للمعرفة: الحس والعقل. صحيح أن البعض منهم قد لاحظ دور الخيال في التفكير والتذكر ورسم صورة ذهنية عن الإدراكات الحسية مثل لايبنتز وهيوم، إلا أن الخيال لم يكن مصدراً أساسياً للمعرفة عندهم، وكان دوره مساعداً وحسب. فماذا كانت مبررات كانط لجعل المخيلة مصدراً ثالثاً مستقلاً للمعرفة بجانب الحس والفهم؟ انقسم الفلاسفة قبل كانط إلى معسكرين، تجريبي ويضم لوك وهيوم والماديين الفرنسيين والذي يذهب إلى أن الحس وحده هو مصدر المعرفة وما العقل إلا تابعاً له ويقتصر دوره على تجريد التصورات العامة من بيانات الحواس، ومعسكر عقلي يضم ديكارت ولايبنتز وفولف ويذهب إلى أن العقل وحده هو مصدر المعرفة وما الحس نفسه سوى قدرة من قدرات العقل، أو هو العقل نفسه في نمط حسي. ويحل كانط هذا النزاع حول مصدر المعرفة بكشفه عن تلك الملكة الثالثة التي تتوسط بينهما. ويطلق كانط على الفلاسفة التجريبيين اسم "السيكولوجيون" لأنهم عالجوا المعرفة من جهة تأثر الحواس بالموضوعات، ونظروا إلى الأفعال المعرفية على أنها استجابة سيكولوجية لمثيرات تأتي من انطباعات الأشياء على الحواس. ويذهب كانط إلى أن هؤلاء لم يتمكنوا من اكتشاف ملكة المخيلة لأنهم اعتقدوا أن وظيفة التركيب بين الحدوس الحسية يقوم بها الحس بما أن التركيب يظهر جاهزاً ومكتملاً فيها؛ لكن قبل أن تظهر الموضوعات مركبة من حدوس جزئية في الحس يجب أن يكون هناك فعل تركيبي سابق مختصة به ملكة خاصة ليست هي الحس نفسه:
"فشل السيكولوجيون حتى الآن في إدراك أن المخيلة مكون ضروري للإدراك الحسي نفسه. ويرجع بعض السبب في ذلك إلى أن ملكة الفهم قد قُيدت بوظيفة إعادة إنتاج الموضوع [في الذاكرة] فقط، ويرجع البعض الآخر إلى الاعتقاد في أن الحواس لا تمدنا بالانطباعات وحسب بل وتدمج بينها أيضاً كي تولد صوراً عن الموضوعات. لكن لأجل هذا الغرض فإن شيئاً ما أكثر من القدرة على تلقي الانطباعات يُحتاج إليه لا شك، أي وظيفة للتركيب بينها" (
A121).
هذه الوظيفة هي التي تقوم بها ملكة المخيلة. إن نقد كانط لسابقيه فحواه أن هؤلاء قد وزعوا وظيفة المخيلة على الحس والفهم ونزعوا إلى اختزال دورها عبر هاتين الملكتين ولم يدركوا تميز وظيفة التركيب التي تقوم به والتي تتطلب ملكة خاصة. إن الحواس لا تعطينا سوى انطباعات عن الأشياء، أما وظيفة التركيب بين هذه الانطباعات لإنتاج تمثلات للأشياء فهي من عمل المخيلة، فعلى الرغم من أن التمثلات الحسية تظهر للحواس، إلا أن الحواس ليست مصدرها. قبل أن تظهر الموضوعات باعتبارها منتمية إلى المقولات في ملكة الفهم، تظهر باعتبارها صوراً للإدراك الحسي، وملكة المخيلة هي التي تنظم موضوعات الحواس في صور قبل أن تنظمها ملكة الفهم في مقولات. هكذا أثبت كانط ضرورة الفعل التركيبي للمخيلة على مستوى الإدراك الحسي نفسه.
لكن هل المخيلة مرتبطة بالحس فقط؟ أليس لها ارتباط بملكة الفهم؟ بلى، ذلك لأن من طبيعتها أن تتوسط بين الحس والفهم، وهي بذلك تحتوي على عنصر عقلي كما تحتوي على عنصر حسي. ولأنها حلقة الوصل بينهما، فإن لها تأثيرها في الاثنين وتمتد بفعلها عبر الاثنين( 17). للمخيلة دور في ملكة الحس لأنها تعمل على تركيب الانطباعات الحسية معاً، وهي في نفس الوقت تقدم تمثلات عن الأشياء لملكة الفهم، وهي التي تمد التصورات بالحدوس المناسبة لها، وهي من هذه الجهة تمتد إلى ملكة الفهم. دورها الأول على المستوى الحسي هو دور متلقٍ سلبي
Receptive، ودورها الثاني على مستوى الفهم دور إيجابي فعال يسميه كانط القدرة التلقائية Spontaneity.
ولا يقتصر دور المخيلة الترانسندنتالية على ذلك، بل إن لها دوراً أخطر، وهذا هو الذي يشرحه كانط في الفصل المعنون "إسكيمات التصورات الخالصة للفهم"
Schematismus der Reinen Verstandesbegriffe / Schematism of the Pure Concepts of the Understanding (A137/B176). رأينا كيف تتمثل وظيفة المخيلة في التوسط بين الحس والفهم، وهذا الدور الوسيط يتضح بقوة في فصل الإسكيمات هذا. يذهب كانط إلى أن التصور الخالص للفهم مجرد تماماً وقبلي وغير موجود في الحدوس الحسية، ومن جهة أخرى فإن الحدوس الحسية خالية من أي تصور قبلي، فكيف إذن يمكن للتصور أن ينطبق على الحدس الحسي وهما في مثل هذه الحالة من الاختلاف؟ يجب إذن أن توجد واسطة بينهما، أي علامة يدركها الفهم في الحسي كي يستطيع أن يطبق عليه التصور المجرد أو المقولة القبلية. وهذه العلامة هي ما يسميه كانط "الإسكيمة" Scheme( 18).
كي تستطيع التصورات الانطباق على الحدوس الحسية يجب أن يكون هناك شئ مشترك بينهما، لا هو بالتصور ولا هو بالحدس الحسي، وهذه هي الإسكيمة التي يمكن فهمها على أنها صورة ذهنية عن الموضوع تماثل شكله أو هيئته. وكونها صورة فمعنى ذلك أن في الشئ المادي علامة تشكل أساساً لهذه الصورة الذهنية. وعلى سبيل المثال فإن الدائرة باعتبارها تصوراً رياضياً تقابل الصورة المادية للقرص (
Ibid)، وهذه الصورة موجودة في الأشياء باعتبارها سمة لها مثل قرص الشمس مثلاً. فلأن الأشياء تقدم لنا أمثلة على القرص أو الشكل الدائري يستطيع الفهم التعامل مع تلك الأشياء حسب التصور الرياضي للدائرة.
والحقيقة أن هذا الدور السابق للإسكيمة واضح للغاية وسهل الاكتشاف كما يتضح من المثال، لكن المهمة الأصعب تتمثل في العثور على إسكيمات للتصورات الأكثر تجريداً مثل الجوهر والسببية. ويحذرنا كانط من الخلط بين الإسكيمة والصورة الحقيقية المادية للشئ، أي الهيئة أو الشكل الذي يظهر به. فعند تفكيرنا في العدد "5" فمن السهل علينا تخيل خمس نقاط (.....) لكن هذا التمثيل الذهني لنقاط خمس ليس هو الإسكيمة الخالصة، ذلك لأننا في التفكير في عدد آخر مثل الألف لا يمكننا تخيل ألف نقطة في أذهاننا (
A140/B179)؛ وعلى الرغم من ذلك يكون لدينا تخيلاً عن الرقم "1000"، تخيلاً بدون صورة مادية له. هذا التخيل الذهني هو ما يسميه كانط الإسكيمة ويميزه عن صورة الشئ. كما أن المثلث باعتباره شكلاً مكوناً من أضلاع ثلاثة يلتقي كل اثنين منهما صانعين ثلاث زوايا داخلية هو مثال آخر للإسكيمة، ذلك لأننا لا نجد شكلاً لمثلث حقيقي في الطبيعة؛ بالإضافة إلى أن فكرة المثلث، بصرف النظر عن نوعه، أي كونه قائم الزاوية أو منفرجها أو متساوي الأضلاع… إلخ، هي مجرد إسكيمة، أي صورة خالصة مجردة تكون أنواع المثلثات المختلفة أمثلة لها. معنى ذلك أن كانط ينظر إلى الأعداد والأشكال الهندسية الأساسية على أنها إسكيمات، صور ذهنية خالصة ومجردة، بمعنى أنها ليست صوراً لموضوعات حقيقية، إلا أنها في نفس الوقت مادية لأنها تشير إلى حدس خالص بالكم أو بالمكان. إن العدد والشكل الهندسي يشكلان هذه المرتبة الوسيطة بين الحس والفهم، والمخيلة هي المسئولة عن إنتاجهما في الذهن باعتبارهما صوراً مادية وذهنية في نفس الوقت (A141-142/B180-181) ( 19).
ويبدأ كانط بعد أن حدد طبيعة الإسكيمات في تعيين إسكيمة لكل مقولة على النحو التالي:


1 - مقولات الكم:
إسكيمة الكم هي العدد، ذلك لأن الكم نفسه تصور قبلي خالص، وكي ينطبق على الأشياء يجب أن يوجد مفهوم وسيط يقرب بينهما، أي يجب أن يكون في الأشياء شئ يمكن التعرف عليه باعتباره كما للشئ، وبالتالي فعندما نفكر في الكم يكون في أذهاننا تصور عن العدد باعتباره كم الشئ. ويقول كانط عن العدد باعتباره إسكيمة الكم أنه: "تمثل يضم الإضافة لوحدات متجانسة"، أي أن "العدد وحدة من تركيب لمتنوع خاص بحدس متجانس، وهو وحدة
Unity ناتجة عن توليدي للزمان نفسه في إدراكي للحدس" (A143/B182). يريد كانط أن يقول إننا قادرون على التفكير في الكم باعتباره عدداً، أي باعتباره وحدة من وحدات متماثلة ومتجانسة. فإذا وزنت قطعة من الحجر ووجدت أنها تزن 10 كيلوجرامات فإن هذه الـ 10 هي كمها؛ ومعنى ذلك أن الكم يتكون من مجموع وحدات متماثلة هي الكيلوجرامات، توجد معاً في عدد معين في شئ واحد متجانسة معه. أما قوله إن وحدة الكم "ناتجة عن توليدي للزمان نفسه في إدراكي للحدس" فمعناه أن إدراكي للكيلوجرامات العشرة لا يعتمد على إدراكي لكل كيلوجرام منها على حدة وإضافته للذي يليه كي أتوصل عن طريق الجمع إلى العشرة، بل يعتمد على إدراك للمجموع دفعة واحدة وفي زمان واحد، لا بطريقة متتالية ولكن بطريقة متزامنة. والزمان كشرط للإدراك ليس ضرورياً فيه أن يكون تعاقبياً Diachronic بل يمكن أن يكون تزامنياً Synchronic، فالتزامن ليس إلغاء للزمان بل هو نمط زماني أصلي.
2 - مقولات الكيف:
مقولة الواقع هي تصور قبلي عن حضور شئ ما في الواقع الخارجي، وهذه المقولة تعتمد على إسكيمة يسميها كانط أيضاً "إسكيمة الواقع"
Schema der Realitat / Scheme of the Real، وهي حضور شئ حسي في الزمان. ومقولة النفي Negation تعتمد على إسكيمة للنفي هي عدم حضور شئ حسي في الزمان، "والمواجهة بينهما تعتمد بالتالي على التمييز في الزمان الواحد نفسه بين كونه ممتلئاً وكونه خاوياً" (Ibid). ومعنى ذلك أن مقولتي الواقع والنفي تعتمدان على قدرة المخيلة على تصور شئ ما باعتباره حاضراً أو غائباً في زمن واحد. ونلاحظ هنا كيف أن مقولات الكيف مثل مقولات الكم تعتمد على العنصر الزمني بوضوح، إذ يكشف كانط بذلك عن البنية الزمانية للمعرفة والوعي الإنساني( 20).
3 - مقولات العلاقة:
أ - مقولة الجوهر:
لا يمكن لمقولة الجوهر أن تنطبق على الأشياء ما لم تكن المخيلة قادرة على تصور شئ واقعي يدوم في أزمنة مختلفة. وبذلك فإن إسكيمة الجوهر هي "دوام الواقعي في الزمان". وإذا ربطنا بين إسكيمة الجوهر وإسكيمة الواقع نجد أن إسكيمة الجوهر هي في حقيقتها دوام حضور الحسي في أزمة مختلفة وثباته عبر هذه الأزمنة مع اختلاف تعيناته الأخرى التي تكون بالنسبة له أعراض. وبذلك تكون مقولة الأعراض معتمدة على إسكيمة "تغير صفات الشئ الواحد في الزمان" مع ثبات هذا الشئ نفسه عبر أزمنة مختلفة. ومعنى هذا أن العلاقة بين الجوهر والأعراض زمانية، لأن العرض سيكون هو تغير تعينات الجوهر مع بقاء الجوهر ثابتاً.
ب - مقولة السببية:
تعتمد على إسكيمة السبب، والتي هي:
"الواقعي الذي إذا ما وُضع فإن شيئاً آخر يجب أن يتلوه دائماً. إنها تتمثل بالتالي في التوالي.. طالما كان هذا التوالي خاضعاً لقاعدة" (
A144/B183).
وهذه القاعدة هي لزوم حضور شئ ما تابعاً للشئ الأول. ونلاحظ في إسكيمة السببية نفس الطابع الزماني الذي سبق أن ظهر في المقولات السابقة، ذلك لأن إدراك تبعية شئ لاحق لشئ سابق يعتمد على قدرة زمانية على التمييز بين السابق واللاحق وكون هذا اللاحق ضروري الحضور إذا حضر السابق.
ج - مقولة الاشتراك
Gemeinschaft /Community:
تعتمد على إسكيمة التبادل
Wechselwikung/Reciprocity، أي العلاقة المتبادلة، أو "تواجد تعينات جوهر مع آخر في نفس الوقت" (A144/B184). مقولة الاشتراك هي مقولة السببية المتبادلة أو التفاعل بين جوهرين لإنتاج أعراض واحدة في وقت واحد. وتعتمد هذه الإسكيمة أيضاً على الوعي الزماني، ذلك لأن إدراك فعل جوهر في آخر يعتمد على إدراكهما معاً في زمن واحد، وإدراك نتيجة التفاعل بينهما يعتمد على تمييز زمن آخر لظهور هذه الأعراض الناتجة عن التفاعل.
4 - مقولات الجهة:
أ - إسكيمة الإمكان
Moglichkeit /Possibility:
هي حضور تمثلات مختلفة لشئ واحد في أزمنة مختلفة، حيث تعني مقولة الإمكان أن صفة ما يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد في زمن واحد، ذلك لأن حضورها الدائم في أزمنة كثيرة غير ممكن. فالصفات المتناقضة لشئ واحد لا يمكن أن تحضر فيه في زمان واحد، فالإنسان لا يمكن أن يكون طفلاً وشيخاً في نفس الوقت، ويكون الاثنين في زمنين مختلفين. الإمكان هنا إذن هو إمكان أن يكون الإنسان طفلاً وإمكان أن يكون شيخاً. وبالتالي فإسكيمة الإمكان هي عدم لزوم حضور تمثل للشئ في كل زمان، بل إمكان هذا الحضور في جزء من الزمان.
ب - إسكيمة الواقعية
Wirklichkeit / Reality:
هي الوجود في زمان معين محدد. يكون الشئ واقعياً إذا أمكن للوعي إدراك حضوره في زمن ما، فالحضور في الزمان ولو للحظة واحدة هو شرط واقعية أي شئ، بحيث إذا لم يتمكن من الحضور ولو للحظة واحدة لن يكون واقعياً. ومعنى ذلك أن إسكيمة الواقعية هي قدرة الوعي على التعرف على حضور شئ في الزمان.
ج - إسكيمة الضرورة الواقعية
Notwendigkeit / Necissity:
هي وجود موضوع ما في كل زمان. ذلك لأن الضروري هو اللازم وجوده في كل وقت والذي يستحيل اختفاؤه من أي وقت. ومعنى ذلك أن إسكيمة الضرورة تنطوي على تعيين زماني، ولا يمكن للوعي إدراك الضروري إلا لكونه حاصلاً على البعد الزماني الذي يمكنه من التعرف على شئ موجود في كل الأوقات باعتباره ضرورياً.


5 - ويؤكد كانط على الطابع الزماني للإسكيمات كلها ويركز شرح ارتباطها بالزمان بقوله:
هكذا نجد أن إسكيمة كل مقولة تُمكّن من وجود تمثل معين عن تعين للزمان. إسكيمة الكم هي توليد الزمان نفسه في إدراك موضوع ما. وإسكيمة الكيف هي.. ملئ الزمان. وإسكيمة العلاقة هي وصل التمثلات ببعضها في كل الأزمنة وفقاً لقواعد في تعيين الزمان. وأخيراً فإسكيمة الجهة وإسكيمات مقولاتها هي الزمان نفسه باعتباره لزوماً للتعينات التي تحدد كيف ينتمي موضوع ما للزمان. الإسكيمات إذن ليست إلا تعينات قبلية للزمان وفق قواعد. هذه القواعد تتصل بالزمان باعتبارها تخص مسلسل الزمان (الكم)، ومحتوى الزمان (الكيف)، ونظام الزمان (العلاقة)، وأخيراً نطاق الزمان (الجهة) بالنظر إلى كل الموضوعات الممكنة (
A145/B184).
والملاحظ أن كانط في هذا العرض السابق لإسكيمات ملكة المخيلة الترانسندنتالية يرد المقولات إلى الإسكيمات، وبذلك تظهر لنا لوحة ثالثة بعد لوحتي الأحكام والمقولات. ولقد سبق أن رأينا في الفصل الأول كيف ينطلق كانط من لوحة الأحكام باعتبارها كاشفة عن كل أشكال المعرفة الممكنة إلى رد تلك اللوحة إلى لوحة المقولات ورد كل حكم إلي مقولة تعبر عن الوظيفة المعرفية للفهم. كما رأينا كيف يعالج كانط التصورات على أنها وظائف منطقية في الحكم ووظائف معرفية في تنظيم الخبرة عن طريق المقولات القبلية، وها هو الآن يرد المقولات ذاتها إلى الإسكيمات، أي إلى صور ذهنية خالصة تتوسط بين المقولات من جهة والحدوس الحسية من جهة أخرى. لم يصرح كانط بشئ يسمى لوحة الإسكيمات ولم يضع الإسكيمات ذاتها في لوحة كما فعل مع الأحكام والمقولات، لكنه اقتصر على الربط بين كل مقولة وما يقابلها من إسكيمة؛ وبناء على ذلك نستطيع تقديم لوحة تضم الأحكام والمقولات والإسكيمات معاً لتوضيح العلاقة المترابطة بينهما على النحو التالي:
الحكم المقولة الإسكيمة
الكم كلي
جزئي
مفرد الوحدة
الكثرة
الجملة العدد – توليد نفس الزمان آنياً
(تسلسل الزمان)
الكيف موجب
سالب
لا متناهي الواقع
النفي
الحصر حضور الشئ في الزمان
عدم حضور الشئ في الزمان
حضور الشئ في زمن محدد
(الدرجة: درجة حضور الشئ في الزمان، أو ملئ الزمان)
العلاقة حملي
شرطي متصل

شرطي منفصل الجوهر (الملازم والقوام)
السببية (السبب والمسبب)
الاشتراك (التسبب المتبادل) دوام الشئ في أزمنة مختلفة
حضور شئ ثان تابعاً لشئ أول لزوماً
تواجد تعينات جوهرين في زمن واحد (نظام الزمان)
الجهة احتمالي

إخباري
يقيني الإمكان

الوجود
الضرورة حضور صفات متناقضة لشئ واحد في أزمنة مختلفة
حضور شئ في زمان معين
حضور شئ في كل الأزمنة
(نطاق الزمان)
ويجب لفت الانتباه إلى نقطة هامة قبل الانتقال إلى الموضوع التالي، وهي نقطة سوف تفيدنا عند المقارنة مع هوسرل، وهي أن كل تعينات الزمان التي أشار إليها كانط هي تعينات للزمان الداخلي لا الزمان الواقعي الخارجي، أي زمان الوعي الذاتي، الزمان باعتباره البنية الداخلية الأساسية للوعي. فالكم بأحكامه ومقولاته وإسكيماته يرجع إلى قدرتنا على توليد نفس الزمان آنياً، والكيف بأحكامه ومقولاته وإسكيماته يرجع إلى قدرتنا على التعرف على درجة حضور الشئ في زماننا نحن، والعلاقة بأحكامها ومقولاتها وإسكيماتها تعتمد على إدراك النظام الزماني لحدوث الأشياء، ولا يمكننا إدراك هذا النظام الزماني ما لم نكن حائزين قبلياً على وعي زماني، والجهة بأحكامها ومقولاتها وإسكيماتها تعتمد على قدرتنا على التعرف على شئ من حيث كونه موجوداً في زمن محدد أو موجوداً في زمان وغائباً في زمان آخر أو حضوره الدائم في كل زمان. الوعي الزماني إذن هو الشرط القبلي والأساسي الذي تُعطى لنا وفقه الظاهرات.
لكن ماذا حدث للمكان باعتباره شرطاً قبلياً لتلقي الظاهرات؟ لقد وصف كانط في الإستطيقا الترانسندنتالية المكان والزمان باعتبارهما معاً الشرطين القبليين لكل معرفة ممكنة، ونحن هنا في النقطة المركزية في نظريته في المعرفة نراه يقر بالزمان باعتباره الشرط الأساسي والأوحد لكل معرفة وعلى كافة مستوياتها، سواء في تلقي الحدوس الحسية أو في التركيب بينها وفق المقولات، وسواء أيضاً في تحديد كيفية عمل المقولات والإسكيمات في تنظيم الخبرة الحسية. فأين ذهب المكان باعتباره شرطاً قبلياً وصورة شاملة قبلية؟ ألم يكن من المفترض في كانط أن يُرجع مقولات الكم على الأقل هي وإسيكماتها إلى المكان، بناء على أن علاقات الكم يمكن ردها إلى العلاقات المكانية؟ لم يتناول كانط أياً من هذه التساؤلات وترك قراءه يتوصلون بأنفسهم إلى إجابات عنها، لكن من داخل كتابه لا من أي مصدر آخر. إن الإجابة عن هذه التساؤلات تستخلص من بعض الإشارات السريعة والعاجلة لكانط في سياق تحليلاته. وتفيد هذه الإشارات الموزعة عبر الفصل الخاص بتحليل المبادئ التركيبية للفهم أن كانط يعالج مفاهيم مكانية مثل الخط والمثلث والدائرة والشئ ذي الأبعاد مثل السطح والعمق والامتداد باعتبار أن الزمان الداخلي هو الذي يشكل الشرط القبلي لإمكان التفكير بها( 21). فعلى الرغم من أن الأشكال المكانية وعلاقاتها تعتمد على المشاهدة، فإننا عندما نحاول دراسة هذه الأشكال من حيث الكم فسوف نحتاج إلى استخدام مفهوم العدد ومفهوم الوحدة المتكررة التي تشكل مجموعاً هو كم الشئ، والتفكير بالعدد وبالوحدة المتكررة يعتمد على وعي زماني يستطيع تمييز التتابع والتسلسل والتكرار والاندماج في مجموع، وذلك كما اتضح في الأمثلة التي قدمها كانط في الفصل الخاص بالإسكيمات. ونستطيع التوصل من ذلك إلى نتيجة هامة وهي أن حدس المكان نفسه يعتمد على الوعي الزماني.


ثالثاً - المبادئ التركيبية للفهم الخالص:
حتى الآن لم يدلل كانط إلا على الأصل القبلي للمقولات، سواء كان هذا الأصل القبلي وظائف لتوحيد متنوع الحدوس الحسية في تصور كما فعل في استنباط الطبعة الأولى، أو لتوحيد الحدوس والتمثلات في تصورات كما فعل في استنباط الطبعة الثانية، أو كان هذا الأصل يرجع إلى ملكة وسيطة بين الحس والفهم تنقل الحدس الحسي إلى مستوى التصور عن طريق المخيلة وإسكيماتها. أما الفصل الخاص بالمبادئ التركيبية للفهم فهو الذي يتناول وظيفة المقولات باعتبارها وظائف لتركيب التصورات في صورة معرفية. ففي حين انشغل كانط بالتعامل مع المقولات باعتبارها عناصر مفردة يبحث لها عن أصل، فهو في هذا الفصل يعاملها باعتبارها مبادئ قبلية لتركيب الخبرة، أي يعالجها أثناء أدائها لوظيفتها المعرفية.
ولن يعالج كانط مبادئ التركيب القبلي على أنها مجرد مقولات ولن يسميها بهذا الاسم، بل سيضع اسماً خاصاً لكل مقولة؛ فمقولة الكم يعالجها تحت اسم "مسلمات الحدس"
Axiom der Anschauung / Axioms of Intuition، ومقولة الكيف يعالجها تحت اسم "استباقات الإدراك" Antizipationen der Wahrnehmung / Anticipations of Perceptions، ويطلق على مقولات العلاقة "أمثولات الخبرة" Analogien der Erfahrung / Analogies of Experience، ويطلق على مقولات الجهة "مصادرات الفكر التجريبي" Postulate des Empirischen Denken/ Postulates of Empirical Thought. والسبب الذي يجعل كانط يعالج الكم والكيف والعلاقة والجهة تحت مسميات المسلمات والاستباقات والأمثولات والمصادرات أنه لا يعالج المقولات في "تحليل المبادئ" باعتبارها عناصر قبلية للمعرفة كما فعل في "تحليل التصورات"، بل يعالجها من خلال وظيفتها القبلية في تركيب الخبرة؛ الكشف عن هذه الوظيفة يتم من خلال الكشف عن المبدأ الذي عملت على أساسه هذه الوظيفة. فمقولة الكم تعمل على تنظيم الخبرة بناء على مبدأ تركيبي هو مسلمات الحدس، ومقولة الكيف تقوم بنفس الشئ بناء على مبدأ تركيبي هو استباقات الإدراك، ومقولة العلاقة تقوم بناء على مبدأ تركيبي هو أمثولات الخبرة، ومقولة الجهة بناء على مبدأ تركيبي هو مصادرات الفكر التجريبي. معنى هذا أن الوظيفة المقولية في تنظيم الخبرة تعمل وفق مبادئ تركيبية، كل مبدأ ينتمي إلى مقولة وينظم الخبرة على أساسها. أما المقولة ذاتها فإن حضورها أثناء عمل مبادئ التركيب لا يكون حضوراً مباشراً بذاتها باعتبارها مقولة بل باعتبارها قوانين، وبذلك تصبح مقولات الكم والكيف والعلاقة والجهة قوانين الكم أو العدد والدرجة والجوهر والسببية والتفاعل والإمكان والضرورة. وهكذا انتقل كانط من الحكم إلى المقولة، ومن المقولة إلى وظائف معرفية للفهم تتم وفق المقولات، أي أنه يرد المقولات إلى وظائف قبلية للفهم.
والحقيقة أن هذا التوضيح السابق يصحح سوء الفهم لدى كثير من المفكرين والشراح الذين نظروا إلى المقولات على أنها أطر أو أشكال قبلية في الفهم تأتي الخبرة التجريبية بالمادة التي تملأها( 22). بل وذهب البعض إلى تأويل كانط تأويلاً أرسطياً بالقول بأن المعرفة لديه تتكون من مادة وصورة، المادة تأتي بها الحواس والصورة هي المقولات القبلية، وللأسف فإن هذه التأويلات استندت على بعض عبارات وردت في بداية "نقد العقل الخالص" ميز فيها كانط في المعرفة بين الشكل والمضمون؛ شكل قبلي مجرد يرجع إلى الفهم، ومضمون مادي بعدي يأتي من الخبرة التجريبية. تنتمي هذه العبارات كلها إلى المقدمة التي يميز فيها كانط بين المعرفة القبلية والخبرة التجريبية، وإلى الإستطيقا الترانسندنتالية التي يشرح فيها كانط فكرته عن قبلية المكان والزمان، وما فعله هؤلاء الشراح أنهم اعتقدوا أن قبلية المقولات كلها هي مثل قبلية المكان والزمان، وبذلك أخذوا أول معنى للقبلية على أنه المعنى الوحيد وفهموا على أساسه المقولات الأخرى؛ لكن قبلية المكان والزمان تختلف عن قبلية بقية المقولات: القبلية الأولى عامة وكلية ويمكن أن تفهم على أنها قبلية شكلية أو صورية، فالمكان والزمان هما صورتا الحس الخارجي والداخلي على التوالي، أما القبلية الثانية فهي قبلية وظيفة، أي قبلية تشرط مضمون المعرفة لا مجرد شكلها كما هو الحال مع المكان والزمان.
ينظر سوء الفهم إلى الشروط القبلية للخبرة على أنها أطر قبلية أو أشكال ذهنية فارغة تأتي بيانات الحواس لتملأها. ويمثل قول شهير لكانط أساساً لهذا الرأي الخاطئ والذي ينص فيه على أن الحدوس بدون تصورات عمياء والتصورات بدون حدوس فارغة، وهذا ما يوحي بأن الحدوس الحسية تأتي لتملأ التصورات الفارغة القبلية. لكن، وبناء على النقطة التي وصلنا إليها مع كانط، فإن الشروط القبلية للخبرة ليست أطراً عقلية فارغة تأتي بيانات الحواس لتملأها، بل هي أفعال قبلية للوعي واستعدادات ووظائف يقوم بها، وهذا ما سيتضح في عرضنا للمبادئ التركيبية للفهم، لأنها هي التي تكشف عن الوظائف المعرفية للوعي.
يبدأ كانط تناوله للمبادئ التركيبية للفهم بقوله إن إمكانية الخبرة هي إمكانية موضوعات الخبرة (
A158/B197). ويعني هذا القول أن الخبرة بشيئ لا تنشأ إلا بإدراك ظهور هذا الشئ في الوعي، إذ تعني "إمكانية موضوعات الخبرة" لا إمكانية وجودها في العالم الخارجي بل إمكانية ظهورها في الوعي.
لا تظهر الموضوعات في الوعي إلا وفق شروط ذاتية قبلية. وتنقسم هذه الشروط إلى شروط سلبية وشروط إيجابية. الشروط السلبية هي القدرة على تلقي الانطباعات الحسية وفق مقولتي المكان والزمان كما شرحها كانط في الإستطيقا الترانسندنتالية، والقدرة على الربط بين هذه الانطباعات وإحداث نظام بينها، وهذه هي وظيفة المخيلة الترانسندنتالية بإسكيماتها. أما الشروط الإيجابية فهي القدرة على التركيب بين الحدوس والتصورات والتي بحثها كانط في الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات، وهي أيضاً القدرة على تركيب كل موضوعات الخبرة وفق مبادئ تركيبية، وهذا هو ما يتناوله في الفصل الذي يحمل عنوان "العرض النسقي لكل المبادئ التركيبية للفهم الخالص" 23)؛ وهو آخر فصل يعرض فيه نظريته في المعرفة قبل أن ينتقل إلى نقده للميتافيزيقا في "الجدل الترانسندتالي".
ويصف كانط المبادئ التركيبية للفهم بأنها قواعد تُعطى لنا وفقها الموضوعاتُ:
كل شئ يمكن أن يَمثُل لنا باعتباره موضوعاً يجب أن ينتظم وفق قواعد. فبدون هذه القواعد لا يمكن للظاهرات أن تؤدي إلى أي معرفة بالموضوع (
A159/B198).
ومعنى هذا أن الموضوع باعتباره ظاهرة في الوعي هو من إنتاج هذا الوعي نفسه وفق مبادئ يركب وفقها الظاهرات في صورة موضوع. فموضوع المعرفة هو موضوع يظهر في الوعي ويختلف عن بيانات الحواس. إن ما يقدم نفسه مباشرة في الخبرة الحسية ليس إلا انطباعات وبيانات حسية، أما الموضوع نفسه باعتباره هدفاً للتعامل المعرفي معه فلا يقدم نفسه جاهزاً للحواس بل هو مُنتَج من قِبَل الوعي وفق مبادئ تركيبية، وهي تركيبية لأنها تعمل على التركيب بين الحدوس الحسية وفق شروط ذاتية قبلية. فما هي هذه المبادئ؟ إنها مسلمات الحدس واستباقات الإدراك وأمثولات الخبرة ومصادرات الفكر التجريبي. ويضع كانط هذه المبادئ على النحو التالي:
1 - مسلمات الحدس
2 - استباقات الإدراك

3 - أمثولات الخبرة
4 - مصادرات الفكر التجريبي
ونلاحظ أن هذه اللوحة تتوازى مع لوحة المقولات، إذ كانت لوحة المقولات مكونة من الكم والكيف والعلاقة والجهة وموضوعة في نفس هذه الهيئة. ويصرح كانط أن لوحة المقولات كانت هي دليله والأساس الذي بنى عليه لوحة المبادئ التركيبية ورتبها في هذا الترتيب السابق:
إن لوحة المقولات هي على نحو طبيعي دليلنا في إقامة لوحة المبادئ. ذلك لأن [المبادئ التركيبية] هي ببساطة قواعد للاستخدام الموضوعي [للمقولات] (
A161/B200).
نكتشف في هذا التصريح أن المقولات لا تشكل شروطاً قبلية لانتظام الخبرة إلا من خلال تلك المبادئ التركيبية، فالمقولات لا تعمل بذاتها مباشرة في تنظيم الخبرة بل تعمل باعتبارها وظائف تركيبية من خلال تلك المبادئ. وبالتالي فالمقولات لا تحضر بذاتها وعلى نحو صريح أثناء العمل التركيبي لملكة الفهم، بل تعمل من خلال مبادئ التركيب وفي سياقها. لكن مبادئ التركيب ذاتها معتمدة على المقولات الأربع في أنواعها وترتيبها على النحو الذي يظهر في اللوحة. فمقولات الكم تعمل من خلال مبدأ تركيبي في الحدس يظهر في صورة مسلمات، ومقولات الكيف تعمل من خلال مبدأ تركيبي في الإدراك يظهر في صورة استباقات، ومقولات العلاقة تعمل من خلال الخبرة وتظهر في صورة أمثولات، ومقولات الجهة تعمل من خلال مبادئ تركيبية في الفكر التجريبي تظهر في صورة مصادرات.
وننتقل الآن إلى عرض هذه المبادئ:
1 - مسلمات الحدس:
مسلمات الحدس
Axioms of Intuition هي المبدأ التركيبي الذي يخص الوعي بالظاهرة باعتبارها كماً Quantum. فإذا نظرنا إلى الظاهرة من حيث الكم وجدنا أن الوعي يدركها باعتبارها كمية Magnitude وكمية ممتدة على نحو الخصوص Extensive Magnitude. ويضع كانط المبدأ التركيبي لمسلمات الحدس على النحو التالي "كل الحدوس هي كميات ممتدة" (B202). ويجب التنبيه هنا على أن هذا المبدأ لا يخص الوجود الفعلي للظاهرات، أي ليس مبدأ أنطولوجياً يرينا كيف توجد الظاهرات في ذاتها أو النمط الأنطولوجي الذي توجد عليه، بل كيفية معرفة الوعي بها، ولذلك فهو مبدأ إبستيمولوجي وحسب. يريد كانط أن يقول إن الوعي يدرك الظاهرات من حيث الكم على أنها كميات ممتدة، وهو لا يبحث فيما إذا كان الكم خاصية للظاهرة في ذاتها أم لا.
وتصبح الظاهرات كميات ممتدة عندما يكون إدراك الجزء منها شرطاً لإدراك الكل، بمعنى أن الظاهرة تكتسب صفة الكم الممتد لدى الوعي عندما يقوم بربط أجزائها معاً أو دمجها للحصول على التصور الكلي لها باعتبارها كماً ممتداً. ويتم هذا بفضل حصول الوعي على قدرة قبلية لأن يدرك الظاهرة وفق العلاقات المكانية، والعلاقات المكانية تتضمن في ذاتها الامتداد والأبعاد والعمق ومفهوم الجسم والكتلة والتي تمكن الوعي من إدراك الظاهرة باعتبارها كماً من جهة وممتداً من جهة أخرى. ومن ناحية أخرى فإن الوعي يمتلك أيضاً قدرة قبلية على تجميع الحدوس الخاصة بالظاهرة التي تُعطى له في أزمنة مختلفة كي يدرك أن الأبعاد والخطوط؛ التي يعي بها متفرقة في الزمان، تشكل وحدة كمية ممتدة للظاهرة وذلك بفضل حصوله على حدس قبلي بالزمان الواحد الشامل، أي قدرة على تجميع الأزمنة المختلفة والربط بينها. ويتضح فعل التركيب القبلي لملكة الفهم - والذي يمكنها من إدراك الكم الممتد - من تناول كانط لطريقة إدراك الخط، ذلك لأن الخط هو وحدة الإدراك الأولى التي يبدأ بها الوعي في إدراك السطح والعمق وبالتالي الجسم. يقول كانط:
لا أستطيع أن أمثل لنفسي خطاً.. ما لم أستطع أن أرسمه في ذهني، أي أن أولده انطلاقاً من نقطة بأجزائه الواحد تلو الآخر. ومن خلال ذلك أستطيع التفكير فقط في ذلك الاستمرار المتوالي من لحظة إلى أخرى، إذ من خلال أجزاء الزمان وإضافة بعضها لبعض أولد كماً زمانياً.. وكل الظاهرات بالتالي تدرك على أنها إضافات، أي تشابكات من أجزاء معطاة سلفاً (
A163/B204).
ويأتي كانط بنظرة جديدة لمسلمات الهندسة مثل المسلمات الخاصة بالخط والشكل. تنطلق الهندسة من مسلمات تعتقد أنها تحليلية، أي واضحة بذاتها وغير قابلة للبرهنة
Indemonstrables، مثل أنه بين نقطتين لا يمكن رسم إلا خط واحد مستقيم، وأن خطين مستقيمين لا يمكن أن ينغلقا على شكل، وأن المساويان لثالث متساويان، وأن المتساويات إذا طرحت منها متساويات فإن البقية تكون متساوية. وتتمثل نظرة كانط الجديدة في هذا الصدد في قوله إن هذه المسلمات التي تبدو أنها واضحة بذاتها ويقينية تعتمد على قدرة قبلية في الوعي تمكنه من إدراك العلاقات الكمية بين الخطوط والأشكال بفضل حصوله على مبدأ تركيبي للظاهرات باعتبارها كميات ممتدة (A164/B205). فما يسلم به الوعي دون برهنة يقف علامة على فعل تركيبي قبلي من قبل الوعي نفسه يستطيع به إدراك الكميات والعلاقات الهندسية المكانية قبل أن يحصل على خبرة تجريبية بالموضوعات( 24). إن قبلية مسلمات الهندسة والرياضيات ناتجة عن قدرة قبلية للوعي بالكم الممتد.


2 - استباقات الإدراك:
تعامل كانط في مسلمات الحدس مع الكميات الممتدة، أما في استباقات الإدراك
Anticipations of Perception فهو يتعامل مع الكميات ذات الدرجة Degree. ويقصد بالكميات ذات الدرجة الصفات الثانوية للأشياء مثل الألوان والروائح والملموسات. وكما أن تعامل كانط مع الكميات الممتدة كان من جهة إدراك الوعي لها؛ لا من جهة وجودها الحقيقي أو هيئتها الأنطولوجية؛ فهو كذلك يتعامل مع الكميات ذات الدرجة من جهة إدراك الوعي لها أيضاً وينص مبدؤها التركيبي على أن "الواقعي في كل الظاهرات والذي يشكل موضوعاً للحس لديه كماً مشتداً Intensive Magnitude، أي درجة" (B207)، بمعنى أن الشئ الذي يمكنه أنه يقع في زمن ما وبذلك يكون واقعياً وموضوعاً للحس يكتسب صفة الدرجة. وهذه الدرجة إما أن تكون شديدة أو خفيفة، بمعنى أن الشئ إما أن يقدم نفسه للوعي بشدة أو بخفة تبعاً لتأثر الحواس به. ولا يستطيع الوعي إدراك درجة الشئ من مجرد ضغطه على الحواس، لأن حقيقة الضغط على الحواس والتأثير فيها مجرد تأثر سيكولوجي من قبل النفس ولا علاقة له بالدرجة التي هي تصور معرفي. ولا تتحول شدة الضغط على الحواس إلى مفهوم الدرجة باعتبارها مقياساً للموضوع ما لم يكن الوعي حاصلاً على قدرة قبلية تمكنه من تحويل شدة الضغط إلى مفهوم الدرجة وهذا هو ما يسميه كانط الاستباق Anticipation؛ وهو يعني أن الوعي القبلي يسبق تأثر الحواس نفسها بالشئ وذلك لامتلاكه مفهوماً عن الدرجة. إن مفهوم الدرجة لا يمكن استقاءه من التجربة لأن الخبرة لا تقدم لنا إلا اشتدادات مختلفة على الحواس، بل هو مفهوم قبلي في صورة استعداد مسبق لدى الوعي يمكنه من تحويل الشدة الحسية إلى مفهوم الدرجة ذي الطابع المعرفي.
ومعنى ذلك أن مقولات الكيف ليست ممكنة إلا بفضل فعل تركيبي قبلي من قبل الوعي يمكنه من تنظيم معرفته بالشئ وفق الدرجة( ). وتختلف درجة الشئ ابتداء من نقطة الصفر، أي ابتداء من عدم وجود إحساس بها والذي يعنى اختفاءها، إلى وجود أقل درجة من الإحساس بها والذي يعني وجودها. وبالتالي فعدم وجود الدرجة يعني عدم وجود الشئ أو نفيه
Negation، أما وجود الدرجة ولو كانت قليلة للغاية في الشئ فيعني توكيداً لحضور ذلك الشئ Affirmation، وهذا ما يجعل منه شيئاً واقعياً Real، أو واقعاً في زمان ما (A168/B210). ونلاحظ هنا كيف يستنبط كانط مقولات الكيف مثل الواقع والنفي، أو التوكيد والسلب والحصر من تحليله لفعل الوعي القبلي الذي يمكنه من إدراك درجة الشئ. ومعنى هذا أن المقولة ذاتها هي والحكم المنطقي ليساً ممكنين إلا بفضل تلك الأفعال التركيبية القبلية للوعي. فما يظهر جاهزاً في المعرفة والحكم باعتباره مقولة أو تصوراً منطقياً ليس إلا نتاجاً من قبل أفعال قبلية للوعي.


3 - أمثولات الخبرة:
بينما كانت مسلمات الحدس خاصة بالاستعداد القبلي لإدراك العلاقات المكانية والكمية في مجال الحدس الحسي، وكانت استباقات الإدراك خاصة بالإدراك الحسي للصفات الثانوية للأشياء ذات الدرجة، فإن أمثولات الخبرة
Analogies Experience خاصة بإدراك العلاقات بين الظاهرات في الخبرة التجريبية. كي تكون لدينا خبرة تجريبية بالأشياء يجب أن تكون هذه الأشياء خاضعة لعلاقات داخلية بينها وفق قوانين أو قواعد. هذه القواعد ليست موجودة في التجربة ذاتها بل هي استعداد قبلي في الوعي لأن يربط بين الإدراكات معاً، وهذا الربط عبارة عن تركيب Synthesis يحدث وفقاً لمبدأ عام. ويضع كانط هذا المبدأ بقوله: "تكون الخبرة ممكنة فقط من خلال صلة ضرورية بين الإدراكات" (A176/B218). والملاحظ في هذه العبارة أن الصلة الضرورية بين الإدراكات ليست موجودة في هذه الإدراكات ذاتها، لأن ظواهر التجربة لا تعطينا سوى أمثلة على القانون القبلي الذي تنتظم وفقه هذه الظواهر، كما أن الخبرة لا تحتوي على أي ضرورة بل على مجرد انتظامات( 25)؛ وكي يقدر الوعي على إدراك أن انتظامات الخبرة تندرج تحت قانون ضروري يجب أن يكون ممتلكاً لقدرة قبلية تمكنه من تنظيم الخبرة وفق هذا القانون الضروري ابتداءً. ومعنى هذا أن القانون الضروري ليس خاصية لعلاقة الإدراكات ببعضها( 26)، بل هو مبدأ تركيبي قبلي يمكننا من تنظيم الخبرة ابتداءً، أي استعداد في الوعي لأن تكون لديه خبرة علمية بالأشياء حتى قبل أن يمر بالتجربة. القانون الضروري إذن ليس سوى قانون تنظيم الظاهرات في الوعي( 27)، وهو ليس قانوناً أنطولوجيا أبداً يكشف عن الانتظام الحقيقي في الأشياء ذاتها بل هو مجرد قانون إبستيمولوجي يخص الذات العارفة تستطيع به تنظيم الظاهرات في الوعي. وبذلك تكون الخبرة التجريبية نتاجاً لأفعال الوعي المعرفية لا مجرد تلق سلبي عن طريق الحواس من التجربة. وهذا هو معنى قول كانط إن إمكان الخبرة هو إمكان موضوعات هذه الخبرة، بمعنى أن الخبرة بالموضوعات باعتبارها ظاهرة في الوعي ليست ممكنة إلا باعتبارها القانون الذي تظهر به موضوعات هذه الخبرة في ترابطها وانتظامها داخل الوعي.
وبما أن الخبرة بالموضوعات هي خبرة الوعي بها، وبما أن الموضوعات ذاتها لا تحصل على خاصيتها باعتبارها موضوعات مترابطة ومنتظمة إلا داخل الوعي ونتيجة لأفعاله التركيبة، فإن كل صور ترابط وانتظام الموضوعات سوف تتحدد عن طريق بنية الوعي الداخلية. هذه البنية هي بنية زمانية في المقام الأول لأن الوعي زماني بطبيعته، وهو ليس إلا وعياً بالزمان الداخلي. ومعنى ذلك أن ترابط وانتظام الموضوعات سوف يكون زمانياً. والعلاقات الزمانية ثلاثة أنواع، وهي الدوام
Duration، والتتابع Succession، والتزامن أو التواجد في زمن واحد Co-existence. وبالتالي فإن ترابط الموضوعات في الوعي سوف يتبع هذه العلاقات الزمانية الثلاث (B219)، بمعنى أن الظاهرات سوف تُدرَك عن طريق الوعي إما على أنها في دوام، أي في استمرار في الزمان، أو في تتابع، أي في تلاحق الواحدة منها بعد الأخرى، أو في تزامن أو معية، أي كونها متواجدة معاً في زمن واحد.
ويجب الانتباه هنا إلى أن هذه العلاقات الزمانية ليست علاقات تنظم الظاهرات في ذاتها وليست محددات أنطولوجية لوجود الموضوعات، بل هي علاقات في الوعي، بمعنى أن الوعي في إدراكه للأشياء إما يدركها في دوام أو في توالي أو في معية. وبذلك تكون هذه العلاقات محددات إبستيمولوجية، أي استعدادات قبلية في الوعي لتنظيم الموضوعات، ولا تكشف هذه العلاقات عن طبيعة أنطولوجية للوجود ذاته بل تكشف فقط عن طريقة إدراكنا له.
إن الخبرة بالموضوعات خبرة زمانية، بمعنى أن الوعي الزماني هو أساس انتظام موضوعات الخبرة في الوعي. يقول كانط: "..إن تعيين وجود الموضوعات في الزمان لا يمكن أن يحدث إلا من خلال علاقاتها بالزمان بعامة.." (
B219)، بمعنى أن الوعي لا يمكنه إدراك العلاقات الزمانية بين الأشياء إلا من خلال "الزمان بعامة". وهذا الزمان العام الكلي الشامل هو زمان الوعي لا زمان الأشياء الفيزيائية. فإذا كانت الخبرة التجريبية غير ممكنة إلا لوجود مبدأ يوحد ويركب بين الإدراكات الحسية المختلفة والمتنوعة، فإن هذا المبدأ لا يمكن أن يكون غير الزمان. لكن الزمان نفسه ليس معطى أثناء الخبرة التجريبية، وكل ما تعطينا إياه هذه الخبرة إدراكات حسية متنوعة لا يمكن إدراك التراتب الزمني بينها إلا بفضل حصول الوعي ابتداءً على قدرة زمانية، أي و عياً زمانياً يستطيع التمييز بين الدوام والتتابع والمعية. وبذلك يكون الزمان الداخلي، زمان الوعي، هو الشرط القبلي لإدراك الموضوعات، ولأنه شرط قبلي فهو غير ملاحظ باعتباره كذلك أثناء الإدراك.
وعلى أساس الدوام والتتابع والمعية، والتي هي خصائص الزمان الداخلي، يقيم كانط أمثولات الخبرة الثلاث. فعلى أساس الدوام باعتباره خاصية للزمان الداخلي يظهر مبدأ دوام الجوهر، وعلى أساس التتابع يظهر مبدأ التوالي الزمني وفقاً لقانون السببية، وعلى أساس المعية يظهر مبدأ المعية وفقاً لقوانين التفاعل أو الاشتراك. وبذلك يعالج كانط قوانين الخبرة الأساسية، الجوهر والسببية والتفاعل، على أنها ناتجة عن البنية الثلاثية للزمان الداخلي. ويطلق كانط على هذه المبادئ مصطلح "أمثولات"
Analogies، ويرجع السبب في اختياره لهذا المصطلح إلى أنه لا يعالج الجوهر والسببية والتفاعل في هذه المرحلة من دراسته انطلاقاً من كونها مقولات أو تصورات تظهر في الحكم، لأنه لا يعالج ظهورها المكتمل باعتبارها مقولات في خبرة علمية جاهزة وتامة، بل يعالجها باعتبارها شروطاً قبلية ومبادئ تركيبية ينظم بها الوعي خبرته بالأشياء. ولذلك فإن وجود الجوهر والسببية والتفاعل في هذا المستوى لن يكون وجوداً مقولياً، أو وجوداً في شكل تصور، بل سيكون وجوداً في شكل انتظام ما للخبرة وعلاقة معينة بين موضوعاتها. والعلاقات بين موضوعات الخبرة في المرحلة السابقة على ظهور المقولة واكتمالها تكون موجودة في شكل فعل الوعي التركيبي، أي في شكل تناسبات معينة بين الموضوعات؛ هذه التناسبات والانتظامات السابقة على تشكل المقولة هي ما يقصده كانط بمصطلح "الأمثولة". وتعني الأمثولة أن العلاقة التي تظهر في التجربة قبل ظهور المقولة ليست هي المقولة ذاتها بل هي "مثل" المقولة، إنها علاقة موازية للمقولة أو شبه مقولة، مقولة أولية في مرحلة التكوين.


أ - مبدأ دوام الجوهر:
إن امتلاك الوعي لاستعداد قبلي زماني لأن يدرك الدوام ويعي بالدائم بين الأشياء باعتباره مستمراً في الزمان وثابتاً عبر أزمنة مختلفة هو أساس ظهور مبدأ الجوهر في الخبرة، لأن الجوهر هو هذا الثبات في الزمان وغير المتغير عبر الأزمنة المختلفة. ويضع كانط هذا المبدأ في الصورة التالية: "في كل تغير للظاهرات يكون الجوهر هو الدائم؛ وكمه في الطبيعة لا يزيد ولا ينقص" (
B224). ويجب تكرار التنبيه الذي قلناه سابقاً نظراً لأهميته في موضوع الجوهر؛ فكانط لا يقصد الجوهر بالمعنى الأنطولوجي باعتباره نمطاً لوجود الشئ، بل يقصد مفهوم الجوهر كما يظهر في الوعي وكما يمكن أن يفكر فيه. فإذا كان الجوهر هو الدائم في الزمان حسب تعريفه، فإنه بذلك يعتمد على بعد زماني واضح هو الدوام. وبذلك فإننا لا ندرك دواماً لجوهر إلا إذا كان الزمان متضمناً في تفكيرنا في شكل استعداد لإدراك ما هو دائم( 28).
لكن هل من الصحيح أن الجوهر هو الدائم؟ لقد رأينا في التحليل السابق أن إدراك ما هو دائم يعتمد على وعي زماني، ومعنى ذلك أن الجوهر ليس هو الدائم من تلقاء نفسه، بل هو الذي يكون حاصلاً على صفة الدوام، أما الوعي الذي يدرك ما هو دائم فهو الدائم الحقيقي، الدائم في ذاته. الدوام صفة للجوهر يكتسبها داخل الوعي به، أي صفة يلحقها به الوعي؛ وبالتالي فإن ما يستطيع أن يدرك الدوام ويلحقه بالأشياء هو الدائم الحقيقي. وبذلك فالوعي هو هذا الدائم الحقيقي، إنه الحضور الواعي بذاته والذي يستطيع الإمساك بالزمان في صورة آن دائم عبر الآنات المتغيرة. هذه النتيجة لم يتوصل إليها كانط على هذا النحو الواضح والصريح، لكنها النتيجة التي تؤدي إليها تحليلاته إذا ما وسعنا اتجاهه المثالي الترانسندنتالي. وقد كان علينا وضع تلك النتيجة هنا وقبل أن نوضح ظهورها في فينومينولوجيا هوسرل نظراً لأهميتها المركزية لموضوعنا ولنثبتها في موقعها المناسب من فلسفة كانط.


ب - مبدأ التوالي الزمني وفقاً لقانون السببية:
تشهد الخبرة توالياً للظاهرات إحداها بعد الأخرى. وإدراك هذا التوالي في حد ذاته غير ممكن إلا بفضل حصول الوعي على قدرة تمكنه من التمييز بين السابق واللاحق. لكن إدراك التوالي هذا غير كاف لتبرير مبدأ السببية على الرغم من أن هذا الإدراك نفسه غير ممكن إلا بناء على قدرة الوعي الزمانية القبلية. فالخبرة تعطينا توالياً منتظماً للظاهرات لكنها ليست هي مصدر قانون السببية. وبالتالي فإن معرفة الوعي بالسببية ليس بناء على إدراكه لتتابع بين الظاهرات، بل هو تصور قبلي في ملكة الفهم تستطيع به إدراك أن السابق سبب للاحق، واللاحق نتيجة سببية له. ومعنى ذلك أنه بفضل امتلاك الوعي لتصور قبلي عن السببية يستطيع معرفة التوالي باعتباره توالياً سببياً.
وينص هذا المبدأ على أن "كل التغيرات تحدث وفقاً لقانون اقتران السبب والنتيجة" (
B233) والتوالي الزمني هو الآخر مقولة زمانية. وكانط هنا يقول إنه بفضل الزمان باعتباره الصورة الداخلية لحدسنا والشرط القبلي لإمكان حضور الظاهرات في وعينا فإننا نستطيع أن ندرك ارتباط السبب والنتيجة، وتكون الخبرة حاصلة على استعداد للوعي بهذا الارتباط لما للبعد الزماني من دور في تنظيم التوالي وإدراكه على أنه محكوم بالسببية( 29).
وليس مبدأ السببية مجرد قانون علمي يحكم معرفتنا العلمية بالأشياء ويدخل في صياغة القوانين العلمية، بل هو مبدأ عامل في مجال الخبرة العادية قبل العلمية. إذ يذهب كانط إلى أن السببية باعتبارها كون التغير لا يحدث إلا نتيجة لحدث سابق عليه عاملة على مستوى الإدراك البسيط. فنحن ندرك العالم بهذه الطريقة قبل صياغتنا العلمية لقانون السببية وقبل استخدامه كقانون في العلم الطبيعي. وبذلك تكون السببية شرطاً لإمكان الخبرة منذ البداية، وهي التي تجعل الإدراك الحسي ممكناً من الأصل (
A196/B241). ومعنى هذا أن مبدأ السببية هو أصل الوعي بالتوالي بين الظاهرات باعتباره توالياً سببياً. واستمراراً لتبرير السببية بإرجاعها إلى شرط إمكان الخبرة التجريبية يقول كانط: "... هناك نظام في تمثلاتنا حيث يشير كل ما هو حاضر [فيها] ... إلى حالة سابقة باعتبارها حالة ملازمة للحالة المعطاة" (A199/B244). إن التتابع وفقاً لقاعدة السببية هو شرط صوري لملكة الحس ولكل إدراك حسي، بمعنى أنه هو الذي يشكل إمكانية الإدراك الحسي للأشياء وليس العكس، أي ليس الإدراك الحسي مصدراً لقانون السببية لأن هذا القانون هو الذي ينظم الإدراك الحسي قبلياً. [..]


ج - مبدأ المعية وفقاً لقانون التبادلية أو الاشتراك:
وينص هذا المبدأ على أن "كل الجواهر من حيث يمكن أن تدرك معاً [في زمان واحد] هي في اعتماد متبادل شامل" (
B257). ويمكن التعبير عما يتضمنه هذا المبدأ من بعد زماني بالقول إن المعية هي الأخرى عبارة عن تعين زماني، فهي حضور أشياء كثيرة معاً في زمان واحد، وحضورها هذا في نفس الزمان هو الذي يجعل الوعى يدركها على أنها تؤثر في بعضها البعض وفي اعتماد متبادل. ويجب التنبيه هنا على أن حضور الأشياء معاً في زمان واحد ليس هو حضورها الحقيقي في ذاتها، بل هو حضورها معاً في الوعي وفي زمان واحد داخل الوعي، فهذا الحضور الآني في الزمان الداخلي للوعي هو أساس إدراك الوعي لما بينها من اعتماد متبادل؛ بمعنى أن إدراك الوعي للاعتماد المتبادل بين الأشياء غير ممكن إلا بفضل قدرة قبلية لديه لأن يدرك الأشياء في معية، والمعية هنا هي معيته هو، والحضور الآني ليس هو حضور الأشياء الآني في ذاتها بقدر ما هو حضورها الآني في الوعي وفي زمانه الداخلي. إن الآنية التي هي أساس المعية وأساس الوعي بالاعتماد المتبادل هي آنية الوعي الذاتي نفسه لأنه وعي زماني في الأساس.
وفي تعليق كانط على هذه المبادئ الثلاثة يتضح لنا طابعها الزماني وارتباطها لا بالزمان الفيزيائي بل بالزمان الداخلي الذي يصفه كانط على أنه صورة الحس الداخلي. يقول كانط:
هذه إذن هي أمثولات الخبرة، وهي ببساطة مبادئ تُعين وجود الظاهرات في الزمان، وفقاً لأنماطها الثلاثة كلها، أي الصلة مع الزمان نفسه باعتباره كما [كم الوجود، أي المدة التي يستغرقها]، والصلة في الزمان باعتبار الظاهرات سلسلة متتالية [وهي مقولة السببية]، وأخيراً الصلة في الزمان باعتبار الظاهرات مجموع الوجود المتزامن (
B262).
أي المعية وفقاً لقانون التفاعل أو الاشتراك. الزمان الذي يتحدث عنه كانط في هذا النص هو زمان الوعي، وهو يسميه الزمان المطلق، ويقول عنه "وهذا الزمان المطلق ليس موضوعاً للإدراك الحسي" (
B263)، لأن الخبرة الحسية لا تعطينا أي شئ مطلق، وبالتالي فإن ذلك الزمان الذي ينقسم في تعيناته إلى المدة والتوالي والمعية ليس إلا الزمان الداخلي، زمان الوعي نفسه. والمدهش حقاً أن كانط يصرح بنفسه بهذه النتيجة المتصلة بالزمان ويصرح بتسميته بالزمان المطلق، على الرغم من أن نظريته في المعرفة لا تعترف بأي مطلقات، وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي لنقد العقل الخالص هو نقد مطلقات الميتافيزيقا التقليدية، لكن يبدو أن كانط في بحثه عن أسس ينقد بناء عليها الميتافيزيقا التقليدية قد وضع يده دون أن يشعر ورغماً عنه على ميتافيزيقا جديدة، إنها ميتافيزيقا المعرفة الإنسانية. [أمثلة: الضحك والفرح، الحرارة واحمرار الحديد..]


4 - مصادرات الفكر التجريبي:
عالج كانط مقولات الكم باعتبارها تنشأ عن فعل تركيبي قبلي أطلق عليه "مسلمات الحدس"، وعالج مقولات الكيف باعتبارها تنشأ عن أفعال تركيبية قبلية أطلق عليها "إستباقات الإدراك"، وعالج مقولات العلاقة باعتبارها تنشأ عن أفعال تركيبية قبلية أطلق عليها "أمثولات الخبرة"، وبذلك أرجع مقولة الجوهر إلى فعل الوعي في إدراك الدوام، وأرجع مقولة السببية إلى فعل الوعي في إدراك التتابع، وأرجع مقولة التفاعل أو الاشتراك إلى فعل الوعي في إدراك المعية. وهو في "مصادرات الفكر التجريبي" يعالج المقولة الرابعة والأخيرة وهي مقولة الجهة والتي تتكون من مقولات الإمكان والواقع والضرورة. وهو يطلق على أفعال الوعي المؤسسة لإدراك الإمكان والواقع والضرورة مصطلح "المصادرات"
Postulates. والمصادرة مبدأ قبلي يستخدم في المعرفة لكنه لكونه مبدأ أول غير خاضع لرده إلى مبدأ أعلى منه وغير قابل للبرهنة عليه من التجربة، لأنه هو الذي يؤسس التجربة منذ البداية، فلا يمكن أن تكون لدينا خبرة تجريبية بالأشياء ما لم نستطع التمييز فيها بين الممكن وغير الممكن، وبين الوجود واللاوجود، وبين الضروري والمستحيل. معنى ذلك أن هذه المقولات يصادر عليها الفكر التجريبي، أي يستخدمها دون أن يقدم برهاناً عليها، والسبب في استحالة البرهان عليها أنها لا ترجع إلى التجربة بل هي مقولات قبلية في ملكة الفهم بدونها لا تستطيع الحصول على خبرة تجريبية بالأشياء.
صحيح أن مقولات الإمكان والواقع والضرورة مصادرات قبلية للفهم، إلا أنها تأتي نتيجة لأفعال معينة من قبل الوعي يستطيع بها إدراك الممكن والواقعي والضرورية، ويردها كانط إلى أفعال الوعي على النحو التالي:
أ - الممكن: هو ما يتفق مع الشروط الصورية للخبرة، أي مع شروط المكان والزمان، فالمتفق مع القواعد المكانية الزمانية وجوده ممكن حتى ولو لم يكن حاضراً أمام الحواس.
ب - الواقعي: هو المرتبط بالشروط المادية للخبرة، أي إذا استطاع الوعي أن يتلقى حدساً حسياً عنه، حتى ولو لم يكن هناك تصور يضمه. فالذي يؤثر في الحواس يكون قد وقع في الوجود.
ج - الضروري: هو الواقعي المتعين بالنظر إلى الشروط الكلية للخبرة، بمعنى أن الضروري هو الذي يؤثر في الحواس وبذلك يكون لدينا عنه حدساً حسياً وفي نفس الوقت يتفق مع أحد المقولات( 30).
وبعد أن يفصل كانط القول في كل مبدأ من المبادئ التركيبية القبلية للفهم يعلق على وضعه لمصطلحات مسلمات الحدس واستباقات الإدراك وأمثولات الخبرة ومصادرات الفكر التجريبي قائلاً: "لقد ا خترت هذه العناوين عن قصد، وذلك كي أبرز الاختلافات في وضوح وتطبيق المبادئ [التركيبية]" (
A161/B201). وهو يبرز الاختلافات بينها بربطها بلوحة المقولات، حيث يقابل كل مبدأ تركيبي مقولة من المقولات، وهدفه من ذلك توضيح أن المقولات القبلية عاملة في مستوى تنظيم الخبرة باعتبارها مبادئ تركيبية. ويعني كانط بذلك أن المبادئ التركيبية في مجال الحدس الحسي تأخذ شكل المسلمات. لكن مسلمات لمن؟ لا للحدس الحسي نفسه لأنها مسلمات عاملة في مجاله يركب بها الانطباعات كي يحصل على تصورات كمية، لكنها مسلمات للوعي وهو في مستوى الحدس الحسي، ذلك لأن مسلمات الحدس لا يمكن أن يعي بها الحدس باعتبارها مسلمات، بل إن الذي يعي بها باعتبارها كذلك هو الوعي الذي ينعكس على الحدس الحسي، الوعي الذي يفكر في أفعال الحدس الحسي، إنه وعي الفيلسوف الباحث في الأفعال التلقائية للحدس ويكتشف فيها مسلمات ليس الحدس نفسه واعياً بأنها مسلمات أصلاً، إنه وعي كانط نفسه لا الحدس الحسي الذي يطلق على فعل الحدس الحسي التلقائي اللاشعوري "مسلمات".
وفي مجال الإدراك الحسي لا يمكن أن توجد مبادئ التركيب إلا باعتبارها استباقات، لأنها تستبق الدرجات الكيفية للأشياء بامتلاك الوعي قبلياً لمفهوم الدرجة الكيفية. وفي مجال الخبرة التجريبية لا يمكن لمبادئ التركيب أن توجد إلا باعتبارها أمثولات، أي أفعالاً معرفية تماثل بين الظاهرات، أي تناسب العلاقات بينها من حيث الجوهر والأعراض والسبب والنتيجة، والتفاعل المتبادل بينها. وفي مجال الفكر التجريبي لا يمكن لمبادئ التركيب أن تظهر إلا باعتبارها مصادرات، ذلك لأن الإمكان والواقع والضرورة مفاهيم لا توجد في الأشياء بل في الوعي بها، وبذلك يأخذها الفكر التجريبي على أنها مصادرات لا يستطيع البرهنة عليها من التجربة لأنها هي التي تؤسس إمكان التجربة. وهذا الاختيار لأسماء مبادئ كل مجال يعكس درجة الوضوح. فهذه المبادئ تكون حاصلة على أقصى درجات البداهة والوضوح في مستوى إدراك الكميات الممتدة وبذلك لا يمكن أن تكون إلا مسلمات، وتكون حاصلة على درجة بداهة أقل في مستوى إدراك الكيفيات ذات الدرجة وبالتالي تكون استباقات، وعلى درجة بداهة أقل في مستوى الخبرة وبالتالي تكون أمثولات، وأقل مستوى من البداهة والوضوح يكون في مجال الفكر التجريبي وبالتالي تكون مبادئ التركيب مصادرات. فالترتيب المتسلسل من المسلمات إلى الاستباقات إلى الأمثولات إلى المصادرات يعكس تدرجاً في البداهة والوضوح؛ وكأن نظرية كانط في المعرفة هي التحقيق الدقيق لقاعدة البداهة لديكارت والتي تنص على البدء بأكثر الأشياء وضوحاً. إن كانط لا يستخدم قاعدة البداهة كإجراء منهجي أو أداة للبحث، بل إن هذه القاعدة تظهر في نسقه تبعاً لمضمونه والذي يسير حسب الترتيب الإبستيمولوجي للمقولات بادئاً بالكم ثم الكيف والعلاقة والجهة؛ وقد اتضح من النسق الكانطي أن هذا الترتيب هو ترتيب البداهة. والحقيقة أن هذا التدرج في البداهة هو تدرج فينومينولوجي بالدرجة الأولى، تدرج يسير حسب علاقة الوعي بموضوعاته.
وهذا ما ينقلنا إلى المرحلة التالية في دراستنا وهي الكشف عن الطابع الفينومينولوجي للتحليلات الكانطية بعد التعريف بالفينومينولوجيا. لكن قبل أن ننطلق إلى هذه المهمة يجب علينا أولاً الإمساك بمجمل نظرية كانط في المعرفة والحصول على نظرة شاملة عليها بأن نجمع الأحكام والمقولات والإسكيمات والمبادئ التركيبية في جدول واحد.


رابعاً - توحيد اللوحات الأربع في جدول واحد:
تناولنا في الفصل الأول الكيفية التي يضع بها كانط كل صور المعرفة الممكنة في لوحة للأحكام مرتبة حسب الكم والكيف والعلاقة والجهة، والكيفية التي رد بها لوحة الأحكام إلى لوحة ثانية للمقولات، ذاهباً إلى أن الوظيفة المنطقية للمقولات في الحكم معتمدة على وظيفة معرفية للمقولة في تنظيم الخبرة. ثم رأينا في الفصل الثاني وخاصة في الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات كيف ينظر كانط إلى المقولات على أنها استعدادات معرفية قبلية في ملكة الفهم لتنظيم متنوع الحدوس الحسية. وكيف أن المقولات لا يمكنها أن تعمل على الحدوس مباشرة ما لم تخضع هذه الحدوس إلى شئ من التنظيم قبل أن تندرج تحت المقولات، إذ يجب أن يكون في الحدس انتظاماً ما أو شكلاً أو هيئة تقربه من المقولة وتمكن الفهم من التعامل معه مقولياً، وهذا التنظيم السابق على المقولة هو فعل للمخيلة الترانسندنتالية التي تكتشف في الأشياء صورة أو هيئة بناء على ما لديها من إسكيمات قبلية، أي قدرة في المخيلة على صنع صورة عامة عن الموضوع. لاحظنا كذلك كيف أن هذه الإسكيمات منتظمة حسب مقولات الكم والكيف والعلاقة والجهة؛ وكيف أن لكل مقولة الإسكيمة الخاصة بها. ومعنى هذا أن هناك لوحة ثالثة للإسكيمات لم يصرح بها كانط وحاولنا نحن ضمها إلى لوحتي الأحكام والمقولات في الجدول السابق.
كما لاحظنا أن كانط يؤسس المبادئ التركيبية للفهم الخالص على نفس التقسيم الرباعي للكم والكيف والعلاقة والجهة، وهو نفس التقسيم الذي قدم لنا فيه لوحتي الأحكام والمقولات وعدد لنا على أساسه إسكيمات المخيلة الترانسندنتالية. وقد صرح كانط بنفسه في نص سبقت الإشارة إليه أنه يأخذ لوحة المقولات باعتبارها دليلاً يؤسس به لوحة المبادئ التركيبية للفهم. ومعنى ذلك أنه من الممكن لنا توحيد اللوحات الأربع في جدول واحد( )، لأن هذا الجدول الموحد لا غنى عنه في فهم مجمل نظرية كانط في المعرفة، والأهم من ذلك الكشف عن ترابط أجزاء هذه النظرية وتوضيح البعد الزماني فيها، الأمر الذي سوف يفيدنا في المقارنة مع هوسرل. ونود أن نلفت الانتباه إلى أن الجدول التالي يزيد على سابقه في خانة واحدة وهي التي تضم المبادئ التركيبية للفهم الخالص.


الحكم المقولة الإسكيمة المبدأ التركيبي
الكم كلي
جزئي
مفرد الوحدة
الكثرة
الجملة العدد – توليد نفس الزمان آنياً (تسلسل الزمان) مسلمات الحدس: كل الحدوس كميات ممتدة
الكيف موجب
سالب

لا متناهي الواقع
النفي

الحصر حضور الشئ في الزمان
عدم حضور الشئ في الزمان
حضور الشئ في زمن محدد
(الدرجة: درجة حضور الشئ في الزمان، أو ملئ الزمان) استباقات الإدراك: كل الظاهرات تمتلك كيفاً ذا درجة
العلاقة حملي الجوهر
(الملازم والقوام) دوام الشئ في أزمنة مختلفة مبدأ دوام الجوهر
شرطي
متصل السببية
(السبب والمسبب) حضور شئ ثان تابعاً لشئ أول لزوماً مبدأ التوالي الزمني وفقاً لقانون السببية
شرطي
منفصل الاشتراك
(التسبب المتبادل) تواجد تعينات جوهرين في زمن واحد
(نظام الزمان) مبدأ المعية وفقاً لقانون الاشتراك
(أمثولات الخبرة)
الجهة احتمالي

إخباري

يقيني الإمكان

الوجود

الضرورة حضور صفات منتاقضة لشئ واحد في أزمنة مختلفة
حضور شئ في زمان معين
حضور شئ في كل الأزمنة
(نطاق الزمان) الممكن هو ما يتفق مع الشروط الصورية للخبرة
الواقعي هو ما يتفق مع الشروط المادية للخبرة
الضروري هو ما يتفق مع الشروط الكلية للخبرة
تعقيـــب:
عرفنا أن "التحليلات الترانسندنتالية" هي النقطة المركزية في كتاب كانط والمحور الأساسي فيه، وأنها هي البداية الحقيقة للكتاب لا "الإستطيقا الترانسندنتالية"، وأن ما يستحق اسم الإستطيقا الترانسندنتالية هو القسم الثالث من التحليلات والمسمى "العرض النسقي لكل المبادئ التركيبية للفهم الخالص"، ذلك لأن هذا القسم الثالث هو الذي يتعامل مع مسلمات الحدس واستباقات الإدراك، وأمثولات الخبرة ومصادرات التفكير التجريبي بعامة، وما نظريته في المكان والزمان في "الإستطيقا الترانسندنتالية" إلا نتيجة مترتبة على هذا القسم. لقد كان هدف كانط نقد الميتافيزيقا التقليدية، وهذا هو ما حكم بناء الكتاب كله، وهو السبب الذي جعله يبدأ بتصوري أو مقولتي المكان والزمان لإثبات عدم إمكان انطباقهما على موضوعات ما فوق الحس وأن مجالهما المشروع هو الخبرة التجريبية. لو كان هدف كانط الأساسي تقديم نظريته في المعرفة مباشرة لكان قد بدأ كتابه بالتحليلات الترانسندنتالية مباشرة والتي ينتقل فيها من المنطق الصوري إلى المنطق الترانسندنتالي.


( 1)
Dieter Henrich: “The Proof – Structure of Kant’s Transcendental Deduction”, Review of Metaphysics 22 (1969), PP. 641-644.
( 2)
Von der Synthesis der Apprehension in der Anschauung/ The Synthesis of Apprehension in Intuition (A99).
(3 )
Von der Synthesis der Reporduktion in der Einbildung/ The Synthesis of Reproduction in Imagination.
(4 )
Van der Synthesis der Rekognition in Begriffe.
( 5) وهي نفس النتيجة التي توصل إليها هوسرل في تحليلاته للزمان الداخلي، وسوف نتوسع في هذه النقطة عندما يأتي الحديث عن هوسرل.
(6 ) من بين هذه الكتب: زكريا إبراهيم: كانت أو الفلسفة النقدية، مكتبة مصر، 1971.
إميل بوترو: فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1971.
(7 ) لكن بدأ الاهتمام في السنوات الأخيرة باستنباط الطبعة الأولى، انظر:
-
Patricia Kitcher: “Kant on self-consciousness”. The Philosophical Review, Vol. 108, Ussue3 (Jul. 1999), PP. 368-370.
-
Michael Barker: “The Proof Structure of Kant’s A-Deduction”. Kant Studien12 Jahrg. 2001, 259-282.
(8 ) لم ينتبه كثير من الشراح على نقد العقل الخالص وخاصة الأنجلوساكسون إلى هذا الدور الفاعل للتركيب بين الانطباعات على مستوى الإدراك الحسي نفسه، وكل ما اهتموا به هو التركيب بين الحدس والتصور والذي لا يظهر في كتاب كانط إلا في "تحليل المبادئ". ومن بين هؤلاء:
Strawson, Peter, The Bounds of Sense (London ,Methuen 1966); Bennett, Jonathan, Kant’s Analytic (Cambridge University Press 1966)
إن إثبات كانط لوجود فعل تركيبي على مستوى الإدراك الحسي يثبت أن الاستطيقا الترانسندنتالية ليست مقتصرة على الجزء الأول الذي يحمل هذا الاسم في "نقد العقل الخالص" بل يمتد عبر مساحات واسعة من "التحليلات الترانسندنتالية".
( 9) وهذا ما دفع المثالية الألمانية إلى النظر إلى هذا القبلي الأصلي المؤسس لقبلية المقولات على أنه قبلي أنطولوجي يؤسس القبلي الإبستيمولوجي نفسه، وبذلك نظر فشته وشلنج وهيجل، ومن بعدهم هايدجر إلى "نقد العقل الخالص" على أنه أنطولوجيا للذات العارفة لا مجرد إبستيمولوجيا، أنطولوجيا توضح صدور المعرفة عن الهيئة الأنطولوجية للوعي الخالص باعتباره وجوداً أنطولوجياً.
( 10) لم يصرح كانط بهذه النتيجة على الرغم من أن تحليلاته تشير إليها بوضوح وسوف يتأكد الطابع الزماني للمعرفة في محاضرات هوسرل "في فينومينولوجيا الوعي بالزمان الداخلي" التي لا يوضح فيها أسبقية كانط. أما مارتن هايدجر فهو الذي سيضع يده على هذا البعد في تأويله الأنطولوجي لنقد العقل الخالص في محاضرات "التفسير الفيومينولوجي لنقد العقل الخالص" وفي كتابه الشهير "كانط ومشكلة الميتافيزيقا".
( 11) هذا ما سوف يطلق عليه هوسرل "الفكر السابق على الحمل" أي الحمل المنطقي
Pre-predicative Thought في محاضراته في المنطق في العشرينات وفي كتابه الأخير "الخبرة والحكم". سوف يكون هذا هو موضوع الفصلين السابع والثامن من هذه الدراسة.
( 12) من المدهش أن نجد أن هذا التحليل للحكم يتشابه إلى حد كبير مع تحليل فلسفات التحليل والوضعية المنطقية، خاصة راسل وفتجنشتين وآير، ذلك لأن القضية الأولية عندهم تعبير عن واقعة أولية، لكن ما نظروا إليه على أنه واقعة أولية نظر إليه كانط على أنه اجتماع قبلي لحدس وتصور يرجع إلى تركيب قبلي بينهما على مستوى الوعي السابق على الحكم، سواء كان من قبل المخيلة أو من قبل الفهم. فلسفة التحليل إذن تقترب من كانط، لكنه يتجاوزها بالبحث في أصل الواقعة الأولية راجعاً به إلى فعل تركيبي من قبل المخيلة والفهم، أما فلاسفة التحليل فلم يتطرقوا إلى هذه الإشكالية لأنهم وقفوا عند حدود التحليل المنطقي للقضايا وما تشير إليه ولم يكونوا مهتمين بالبحث في الأفعال المعرفية المكونة لإدراك الواقعة. انظر في ذلك:
Russel, Our Knowledge of the External world; Witgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus; Alfred Ayer, Language Truth, and logic.
( 13) انظر فى ذلك أعمال هؤلاء فى قائمة المراجع:
Schelling, Hegel, Husserl, Ideas, Cartesian Meditations.
( 14) توصل فلاسفة التحليل إلى نفس هذه النتيجة، وقصروا المقولة على وظيفتها المنطقية، لكنهم لم يتجاوزوا الوظيفة المنطقية للبحث في الدور المعرفي للمقولة والمرتبط بأفعال الوعي، تجنباً لكانط من جهة، وتجنباً للوقوع فيما اعتقدوا أنه نزعة سيكولوجية من جهة أخرى، تلك التي حذرهم منها فريجة.
( 15) أبرز المفكرين المقصودين هم فلاسفة التحليل والوضعية المنطقية وعلى رأسهم راسل وفتجنشين وكارناب، ذلك لأنهم نظروا إلى التفكير من جانبه المنطقي فقط ولم يتجاوزوا المستوى المنطقي – الذي تحول على أياديهم إلى المستوى التحليلي اللغوي للقضايا – إلى المستوى المعرفي السابق عليه والمؤسس له؛ فالقبلي لديهم هو القبلي المنطقي فقط لا القبلي الإبستيمولوجي المؤسس للقبلي المنطقي نفسه. ومن أحدث الشراح الذي ظهر لديهم سوء الفهم هذا بياتريس لونجينيس التي أصدرت أحدث الشروح على نقد العقل الخالص:
Beatrice Longuenesse, Kant and the capacity to Judge. Sensibility and Discursivity in the Transcendental Analytic of the Critique of Pure Reason. Translated by Charles T. Wolf (New Jersey: Princeton University Press, 2000)
( 16) حاولت الدراسة التالية التعامل مع سوء الفهم هذا وتصحيحه:
Paul Guyer: “The Transcendental Deduction of the Categories” in Paul Guyer (editor), The Cambridge Companion to Kant. (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), PP. 123-146.
( 17) استندنا في شرح وظيفة ملكة المخيلة الترانسندنتالية على دراسة هايدجر الشهيرة "كانط ومشكلة الميتافيزيقا":
Martin Heidegger, Kant and The Problem of Metaphysics. Translated by Richard Taft (Bloomington: Indiana University Press, 1990), PP. 21-52.
( 18) توسع هايدجر في شرح الدور الوسيط الذي تقوم به المخيلة بين الحس والفهم في "كانط ومشكلة الميتافيزيقا" وكذلك في محاضرات "التأويل الفينومينولوجي لنقد العقل الخالص لكانط"
Heidegger, Phenomenological Interpretation of Kant’s Critique of Pure Reason. Translated by Parvis Emad and Kenneth Maly (Bloomington, Indiana University Press, 1997), PP. 221-260.
(19 ) ترجع أصول هذه الكلمة إلى جذور مشتركة للغات السامية والآرية معاً، وهذا هو السبب في أننا نعثر على معنى للإسكيمة في اللغة العربية في كلمتين الشيمة والسمة. والشيمة هي العلامة التي في الشئ أو الدليل المادي الموجود في الأشياء، وهي تقترب أيضاً من كلمة "السمة" والتي تحمل نفس المعنى السابق. و"السمة" جمعها "سيمات" أي علامات، وهي موجودة في النص القرآني "سيماهم في وجوهم من أثر السجود"، وأيضاً في "سنسمه على الخرطوم"أي سنجعل على أنفه علامة يعرف بها. لن نستخدم المقابلات العربية لكلمة إسكيمة بل سوف نلتزم بالمصطلح الأجنبي مكتفين بهذه الإشارة للقرب اللغوي بينها وبين الشيمة والسمة.
انظر في ذلك، ابن منظور: لسان العرب، مادة: و س م.
( 20) قدم أمبرتو إيكو معالجة سيميولوجية لفلسفة كانط انطلاقاً من أن الإسكيمات هي نقطة الانطلاق الحقيقة في نظريته في المعرفة:
Umberts Eco, Kant and the Platypus, op. cit., PP. 66-98.
( 21) وهذا ما سوف تكون له آثاره على الفلسفة المعاصرة خاصة برجسون وهوسرل وهايدجر. إن فينومينولوجيا هوسرل مدينة لهذا الاكتشاف الكانطي، وخاصة تحليله للوعي بالزمان الداخلي في محاضرات 1905، والتي لن يخرج فيها كثيراً عما قاله كانط، بل سوف يكرر ما قاله بدون وعي منه بتماثل نتائجه مع نتائج كانط. وهذا العنصر الزماني للخبرة هو أيضاً الذي سوف يوحي لهايدجر بالعلاقة بين الوجود الإنساني والزمانية والتي وضعها في "الوجود والزمان". وبعد نشره لـ "الوجود والزمان" اعترف هايدجر بأن كانط ومعالجته الزمانية للمقولات هي التي فتحت أمامه إمكانية التفسير الزماني للوجود الإنساني.
Heidegger, The Basic Problems of Phenomenology. Translated with Introduction and Lexicor by Albert Hofstadter (Bloomington: Indiana University Press, 1988), PP. 313-318.
(22 )
Michael Friedman: “Kant’s Theory of Geometry”. The Philosophical Review, Volume 94, Issue 4 (Oct. 1985), PP. 466-470.
( 23) يظهر سوء الفهم لدى شراح كانط الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، و أشهرهم هاملين وإميل بوترو ولالاند وبرييه؛ وقد بدأ في الظهور أولاً لدى شوبنهاور في كتابه "العالم كإرادة وفكرة"، ولدى كل من عرف كانط عن طريق شوبنهاور لا عن طريق كانط نفسه. وقد ظهر ذلك الرأي الخاطئ أيضاً في المؤلفات العربية عن كانط والتي استندت على الشراح الفرنسيين مثل مؤلفات زكريا إبراهيم وعثمان أمين، أما عبد الرحمن بدوي ومراد و هبة فلم يكررا الخطأ واقتربا من الفهم الصحيح. انظر أعمال هؤلاء في قائمة المراجع.
( 24)
Systematiche Vorstellung aller Synthetischen Grundsatze desselben/ Systematic Representation of all the Synthetic Principles of Pure Understanding.
( 25) توسعت الدراسة التالية في إثبات هذا التحليل:
Joongol Kim: “Concepts and Intuitions in Kant’s Philosophy of Geometry” in Kant-Studien 97 Jahrg., S. 138-162.
(26 ) لتحليل مفصل للمقولات الكانطية باعتبارها نتاجاً للأفعال التركيبة القبلية للوعي انظر:
Richard E Aquila, Matter in Mind: A study of Kant’s Transcendental Deduction (Bloomington: Indiana University Press, 1989), PP. 63ff.
وعلى الرغم من براعة تحليل المؤلف، إلا أنه لم يورد أي مقارنة بين كانط وهوسرل في هذه النقطة.
( 27) وهذا هو أثر نظرية هيوم في المعرفة .
(28 ) وهذا هو مضمون قانون الترابط عند هيوم
Law of Association.
( 29) من الدراسات الحديثة التي تناولت أمثولات الخبرة من منطلق فلسفة العقل وعلى خلفيتها:
Andrew Ward: “Kant’s First Analogy of Experience” in Kant-Studein 42 Jahrg., S. 387-406.
( 30) وهذه هي النقطة التي سوف تطورها المثالية الألمانية، ومن بعدها هوسرل وهايدجر، حيث سيلحقون المقولات الأنطولوجية التقليدية بالذات العارفة، وبذلك تكون هي الجوهر الحقيقي لأنها في تأويلهم هي هذا الحضور الدائم الواعي بذاته والذي على أساسه تظهر مقولة الجوهر ذاتها. ولهذا السبب فإن الأنا عند فشتة، والروح المطلق عند هيجل، والأنا الترانسندنتالي عند هوسرل، والدازاين عند هايدجر، تتصف كلها بالصفات التي ألحقها اللاهوت القديم بالإله، وبذلك قدم لنا هؤلاء أنسنة للاهوت. وبالطبع فإن هذه كلها تطورات خرجت عن اتجاه الفلسفة الكانطية، لكنها في نفس الوقت منطلقة منها.
( 31) ركزت الدراسة التالية على بحث الطابع الزماني لمبدأ السببية عند كانط:
Adrian Bardon: “Temporal Passage and Kant’s Second Analogy” in
Ratio XV (2 June 2002), PP. 139-145.
( 32) الحقيقة أن المقولات التي استعرضناها هي نفسها المقولات التي تعمل بها المذاهب الميتافيزيقية على اختلافاتها. فقبل أن يوجه كانط نقده للميتافيزيقا في الجدل الترانسندنتالي يكشف عن ارتباط المقولات بالخبرة التجريبية وعن طابعها الإبستيمولوجي البحت، وقبل أن يسحب من المقولات كل دلالة انطولوجية تتجاوز نطاق الخبرة التجريبية يربطها كلها بهذه الخبرة، أي يسحب البساط من تحت أقدام الميتافيزيقا بجذب المقولات إلى مجال المعرفة كاشفاً عن أنها طريقتنا نحن في فهم العالم لا طريقة ترتيب الوجود أو الأنماط التي يتخذها الوجود. والمدهش حقاً أن نرى كيف أن المقولات التي كانت تتمتع بمرتبة انطولوجية غير منكورة في تاريخ الميتافيزيقا تتحول على يد كانط إلى أفعال للوعي. إن كانط هو المحطم الحقيقي للميتافيزيقا قبل هايدجر وقبل فلاسفة التحليل.
(33 ) يظهر الجدول الموحد في كتاب حديث لأمبرتو إيكو:
Umberto Eco, Kant and the Platypus. Translated by Alastaire McEwen (London: Vintage, 2000), P. 72.
أشرف منصور

 

 


ليست هناك تعليقات: