الجمعة، 16 سبتمبر 2016

البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة. (6 من 6)./ حسن المصدق.



البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة(6 من 6)

أنظمة الحقيقة وبنيات المجتمعات الحديثة في فلسفة ميشيل فوكو

حسن المصدق:

 باحث جامعي، مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر؛ السوربون.


يحاول فوكو من خلال تحاليله الحفرية مراجعة مفهومين أساسيين في حقل الفلسفة، يتعلق الأمر بمفهوم الحقيقة والتاريخ، بحيث ليس هناك من حقيقة دون تاريخ وليس هناك من إطلالة صحيحة على التاريخ دون استعراض حقائقه كما هي، لا كما تستعرضها هذه السلطة أو تلك. ومن ثم وضع فوكو نصب عينيه التعرف على بنيات وأنظمة الحقيقة التي تشتغل بها المجتمعات الحديثة وتركن إليها.

لكن هذا النظام يبقى في نظره قبل كل شيء خطاب في أساسه، بوصفه معرفة للسلطة وسلطة للمعرفة، من حيث أنه يحلل ويحرم ويعيد إنتاج المعرفة التي تسهر على ديمومة السلطة ونفاذها في المجتمع.

ذلك أن ما يعنيه فوكو على وجه التحديد يكمن في الكشف عن نماذج الخطاب الذي يوظف معارف ومواقف وقرارات وقيم ومبادئ كحقائق صحيحة، فبواسطة هذا الخطاب تُميز المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية -كبيرة كانت أو صغيرة- بين ما هو خاطئ وما هو صحيح، بين من هو صالح أو طالح، ثم ما هو محلل وما هو محرم، بل ما هو مسموح به وما هو ممنوع. وبالتالي تعاقب أو تجازي بموجب ذلك... على غرار ذلك يتغير مفهوم الحقيقة مع ميشيل فوكو كليا، إن لم تعد مرتبطة بمعرفة وثوقية مطلقة، بل لم يعد السؤال:

ما هو الطريق الأضمن للحقيقة؟

ولماذا هذا التعريف أو ذاك؟

بل كيف يستعرض أي خطاب حقائقه؟
 

علاقات خالية من السلطة والهيمنة

إن إعادة بناء الحقيقة تبقى في نظر فوكو لها علاقة وطيدة مع مصفاة التاريخ، ما دام الهدف يتجلى في رغبته المعلنة عن تلك الحقيقة الغائبة والمندسة في سراديب وأقبية التاريخ السرية، تحقيق علاقات خالية من السلطة والهيمنة التي ارتبطت وعلقت بها، كما الكشف عن الآليات والمعيقات التي دفعت في اتجاه دون آخر، ما يثبت في نظره أن التاريخ ليس خطا مستقيما يسير إلى الأمام باطراد. بل إن الأهم من ذلك إمكانية تصحيح اعوجاج مساره بالنضال فيه وبالمقاومة.

وإجمالا يمكن حصر عدة خصائص للحقيقة، أبرزها:

- عادة ما تتمركز الحقيقة حول خطاب علمي ومؤسسات سلطوية تعيد إنتاجها باستمرار في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، بحيث تعمل على ذيوعها وشيوعها على أوسع نطاق، سواء عبر المؤسسات التربوية والقمعية أو الإعلامية. ذلك أن الإنتاج والتوزيع في هذا الإطار يبقى محط مراقبة بواسطة المؤسسات التالية: (العائلة،  المدرسة، الجامعة، المستشفى، السجن، الجيش، المخيمات، الإحداثيات، المؤسسات الإعلامية...) التي تستبطن دائما رهان صراع اجتماعي ونقاش سياسي عنيفين، قد يأخذ في الغالب طابع صراع "أيديولوجي" بين مكوّنات المجتمع جمعاء.

ولذلك يرى فوكو من اللازم أن نغوص في رهانات الحقيقة ولعب خطاباتها المتعددة، أي تعرية تلك العلاقات المتشابكة والمزيفة التي يتكون الفرد من خلالها تاريخيا كتجربة إنسانية تتيح له أن يصنف نفسه في خانة فرد عادي أو غير عادي، أحمق أو مريض... وما إلى ذلك من التصنيفات الرسمية...

إجمالا، إن الحقيقة وفق هذا المنظور تمر عبر تحليل شروط تكون المعرفة ومختلف صيغ الذات خارجها، لأن المعرفة والسلطة شيئان لا ينفصلان، ولا يمكن الفصل بينهما إلا على سبيل التعسف. فالمعرفة باندغامها في المؤسسات هي من تشكل الذات وترسم لها قوانين ومعايير وضوابط وحدود. وبالتالي إن مختلف الصيغ والتلاوين التي تظهر بها الذات في المجتمع ما هي في حقيقة الأمر إلا معرفة استوت لكي تسير على أرجل. ومن خلال هذه العلاقة المندغمة بين الذاتي والموضوعي في علاقة السلطة بالمعرفة والمعرفة بالسلطة، يمكن الكشف عن الحقيقة كلعبة هيمنة في المجتمع. أي أن الأمر لا يتعلق بالكشف عن حقيقة صحيحة، بل فقط عن تلك القواعد والمعايير واللوائح والمساطر التي بواسطتها يمكن أن ينعت فرد ما بالسوي أو المنحرف...

والحقيقة هنا تختلف عما يحاول المؤرخ الرسمي تصويره كذلك، أي ذلك الذي اعتاد ممارسة التحقيب وتقسيم المراحل التاريخية إلى أحداث تستحق العرض وأخرى لا. بل على النقيض من ذلك، إن الحقيقة بوصفها ممارسة حفرية في أعماق التاريخ تبحث عن خصوصية الأحداث، خاصة منها الصغيرة والهامشية والتافهة والعرضية والطارئة التي لا يلتفت إليها أحد.   

ويمكن اعتبار كتابة التاريخ بمثابة أركيولوجيا (حفريات): "أركيولوجيا لا تبحث عن إيجاد نقل مستمر وعديم الإحساس يربط بين سائر الخطابات بما يسبقها أو ما يحيط بها أو يتبعها في انحدار هادئ. ولا تتلقَّف تلك اللحظة التي لم يكن لهذه الخطابات حينها وجود وأصبحت بعدها على ما هي عليه، ولا تلك اللحظة أيضا التي تتفكك فيها صلابة صورتها كي تفقد بعدها شيئا فشيئا هويتها.
فمشكلتها عكس ذلك تماما، لأنها تسعى لوضع تعريف الخطابات في خصوصيتها، وأن تبين ما تختزله لعب قواعدها للكل. ومن ثم تصاحبها على طول تقاطعاتها الخارجية لكي تتمكن أحسن من إبرازها، فهي لا تتقدم متباطئة ولا تنطلق من مجال عمومي غامض لتبرز خصوصية النسق أو ثبات العلم نهائياً، فهي ليست قانون الواقع doxologie السائد، لكن تحليلاً مغايراً في صيغ الخطاب".


وبهذا نستشف إن التاريخ عند فوكو هو تاريخ المسكوت عنه من اختلاف ومغايرة وسلبية ولاعقل وانحراف واعوجاج وتشويه كما يتجلى في تاريخ المهمشين والمنحرفين المنبوذين والضعفاء. وهو بهذا المعنى غير تاريخ المؤسسات الرسمية والدينية والملوك والأمراء والحروب. فالحفريات بهذا المعنى تمارس نوعا من الحفر تحت أنقاض عقل -ولا عقل- مرحلة تاريخية ما، لتنزع الغبار والأوحال عما تم كبته وإخفاؤه بفسيفساء السلطة وبريقها الوهاج، بغاية أن تنفض عن أجساد المهمشين والمتمردين والمواطنين العاديين أدران التغييب والنسيان الذي لحقهم في الكتابة التاريخية الرسمية التي حجبتهم عنا. والسلطة بهذا المعنى تغدو عبارة عن "أثرٍ صامت" يجب أن ننفض عنه ما علق به من غبار وأوحال، أو كمومياء ينبغي فك أسرارها وتاريخها.

إذ لا مناص من ذلك بفك أسرار السلطة وآلياتها المختلفة، وكيف تمت ممارستها، بل يجب أيضا القيام باستقصاء طرق العنف فيها والبحث عن وسائلها والأجهزة التي أنتجتها ومكنتها من ممارستها على أشكال معينة من التعابير الإنسانية في تلك الحقبة.

 

استنطاق المعالم الصامتة

يمكن إجمال تصور فوكو للتاريخ من ثلاث زوايا:

- الزاوية الأولي تنتقد بشدة النظرة الكلاسيكية للتاريخ كتحقيب وكخط مستقيم، له بداية ونهاية (وهو مفهوم نيتشوي بالأساس. إذ يرى فوكو على العكس من ذلك إن التاريخ شذرات وتقاطعات وانعراجات وصدف وعوارض طارئة، ما يعني أن التاريخ بهذا المعنى ليس وحدة سردية منسجمة غاية الانسجام لها بداية ونهاية، كما أنها ليست فقط ما يقع من تدوين لـ"أحداث كبرى" في التاريخ الرسمي الذي يقوم بكتابته مثقفو الأمير وفقهاء السلطان.

ـ الزاوية الثانية في فهم فوكو للتاريخ يقوم على "فلسفة للحدث" من خلال الاهتمام بجمع الشذرات والتقاسيم والأحداث البسيطة والتحري عن الآثار المتخفية أو تلك التي توارت معالمها تحت الرمال، بخاصة تلك التي علاها غبار النسيان والتعتيم من خلال استنطاق المعالم الصامتة وبعثها من رمادها من جديد. فالحياة أرشيف مفتوح، والأرشيف بهذا المعنى كناية عن شاهد شهد من أهلها، يطل علينا من أعماق التاريخ...

والحال أن فوكو لا يهتم بالأحداث الهامة والعظمى أو كما تم تصويره كذلك، بل يبقى الاهتمام على نحو أكثر بمجموع الأقوال والممارسات والسلوكات اليومية في حياة الأفراد والشعوب، بخاصة ما ظهر منها وما خفي... ذلك أن ممارسة الحفر هاته تُمكِّننا من الكشف عن آثار ومعالم وأطلال الوجود المتبقية أو المغيبة، لننفذ منها بعد ذلك لمعرفة زمن تشكُّلها، وبوصفها خطابا سائدا تعلكه الألسن وقيما آمن بها الناس طوعا أو كراهية..

- أما الزاوية الأخيرة في هذا المسعى تحاول الربط بين الفلسفة والتاريخ، من خلال طرح إشكالية الممارسة الفلسفية والممارسة التاريخية. ذلك أن مغزى هذا التوجه يبرره الخروج من النظرة التقليدية التي كبلت فهم الإنسان للتاريخ من خلال تاريخ الأفكار أو ما يصطلح عليه بفلسفة التاريخ وتاريخ الفلسفة. فالحدث التاريخي بهذا المعنى لا يمكن حصره في ميلاد نظرية ومدرسة فكرية، أو واقعة بعينها: قرار، معاهدة، إعلان حرب، فترة حكم أو تسجيلا لوقائع معركة. وفالتاريخ بهذا المعنى ليس تحقيبا يشتغل وفق قياس المدة فحسب، كما أنه ليس تأريخا تعاقبيا يحصي مراحل تتعاقب أو يلجأ إلى تقسيم بين فترات متلاحقة فيما بينها، بل يتوخى فوكو إلقاء الضوء على التحولات والانزياحات والوقائع والأحاسيس والمشاعر والخطابات المهمشة والمطحونة... همه فك شفرة أسرار السلطة التي أصبحت معرفة والمعرفة التي أصبحت سلطة. لأن التاريخ تاريخ صراع، أو قل علاقة غالب بمغلوب وسلطة تم السطو عليها، لكي يستطيع الدارس النفاذ إلى عمق خطاب السلطة أو سلطة الخطاب -لا فرق- بوصفه صياغة معجم وسلوكات وكلمات يتم وضعها في أفواه الناس يرددونها بالرغم منهم غالبا كالببغاء.

 

الخطابات المتنازعة

وفي نفس الوقت ثمة كشف عن آليات الصراع بين المصالح وخطاباتها المختلفة، بخاصة تلك التي ترهن أو تؤسس لسلطة ما، ثم ما يحيط بهذه الأخيرة من صراع معلن أو خفي. بل هي بهذا المعنى رصد في كيفية صعود سلطة ما إلى الواجهة وتحلل وتآكل أو أفول نجم سلطة أخرى. وبذلك كله، يصبح التاريخ ليس تحليلا للماضي وتحقيبا له، لأن الحدث لا يمكن اختزاله في فترة من الزمن بل نقطة تقاطع بين العديد من الفترات تشكل الخطابات المتنازعة أبرز من يمثلها.

وبإيجاز شديد، يعود التاريخ بهذا المعنى تقصّيات واستكشافات وحفْريات في تحولات الوقائع، من حيث هي مرتبطة بالحدث و"تقاسيم الليل والنهار" التي تكلم عنها  الراحل العزيز عبد الرحمن منيف، فالتاريخ ليس ذاكرة رسمية بل جينيالوجيا (كشف للمبادئ والمنطلقات)، الشرط الوحيد لكي يحمينا التاريخ من منزلقات الحتمية التاريخية ومن استدعاء الماضي لحل مشاكل الحاضر. وبهذا وحده يصبح التحليل التاريخي شرطا لنقد أنطولوجي للحاضر.

إذ يغدو التاريخ بهذا المعنى بحثا في خصوصية الأحداث خارجا عن أية غائية أحادية ومنطق كلي للأشياء، فهو تاريخ نقدي يشتغل من المتعدد والمبعثر وصدف البدايات والمنعرجات والمنحنيات. كما إن فوكو لا يدَّعي في هذا المقام بأنه يتوخى العودة بالأحداث والظواهر إلى مصدرها الأصلي، فالمهم لديه ليس لماذا وقعت، بل كيف وقعت؟ ولا يريد فوكو من هذا المنطلق إعادة كتابة التاريخ من جديد، بل على العكس من ذلك تماما، يسعى جاهدا لإعادة خصوصية الأحداث بعد تطهيرها مما علقت بها من أوحال ودنس السلطة وتطهيرها من القوة والعنف الذي كتب به الأقوياء التاريخ بدماء ضحاياهم، تعمل على تذكيرنا بتاريخ من لا تاريخ لهم من الصعاليك والمهمشين والمنحرفين والفقراء والثوار والمتمردين...

 

حفريات العلوم الإنسانية

فالجينيالوجيا (كشف المبادئ والمنطلقات) تقف على حد نقيض مع النزعة الوضعية التي تعيد إنتاج المجتمع وفق أرقام وإحصاءات وبيانات وحسابات، بخاصة تقسيمها التاريخ إلى حقب ومراحل وعصور، بل يجب فهم الجينيالوجيا كمشروع حفريات للعلوم الإنسانية، ما دامت مهمتها التقصي والنبش والتحقيق والحفر في "مزابل" التاريخ الرسمية الذي تزكم رائحتها الأنوف والتي لا يقترب منها أحد، نظرا للرائحة الكريهة التي تفوح من سجلات سجونها وعهرها وقمعها واستعبادها للناس. كما أن فوكو لا يرغب أن يعيد عقارب الساعة إلى الماضي وبالموضوع إلى أصله، بقدر ما يسعى جاهدا لإعادة خصوصية الأحداث و قراءتها كما حدثت. وهذه الجينيالوجيا محقة بأن تعمد إلى تحليل المهمش والعارض والمحتمل والمعزول والبسيط والمهمش وإعطائه مكانتَه التي يستحق في تاريخ الإنسانية، لكي يتسنى كشف نظام الخطاب -خطاب المؤسسة- في مجمله وفي حقيقته وكيف تمت ممارسته على مختلف التعبيرات الإنسانية بوصفها تعبيرات حية اعتبرتها حينه أنها "غير ذات قيمة".

ذلك أن هذا المسعى إن تحقق، هو الشرط الأول لإمكانية المقاومة حتى لا نصير دمى وكراكيز وعبيد جدد في يد مؤسسة سلطوية لا ترى أبعد من أنفها، بل الأكثر من ذلك إنارة الطريق كي لا نفكر بالطريقة التي تريد المؤسسة أن نفكر بها أو نعمل وفقا لرغباتها. بل لكي نتمكن أيضا من مقاومة حيلها ومكرها. ومن هذه الزاوية فهي لا تكتفي بالكشف عن ما هو خاص في الأحداث العامة الماضية، بل تقرع أجراس الإنذار للتنبيه إلى ما يحاك منها في الحاضر أيضا. ويخلص ميشيل فوكو للتأكيد على ثلاث مجالات للحفريات:

- أنطولوجيا (جوهر الكائن بوجه عام) تاريخية توجه ذواتنا كي تنسج دليلها في علاقتها مع الحقائق وليس نحو حقيقة واحدة، مما يتيح لنا بناءها كموضوعات للمعرفة من منطلق نقد المعرفة ذاتها.

- تنظيم مجريات حياتنا في علاقتنا مع السلطة، تمكننا من الفعل كذوات حرة

فاعلة لا مسلوبة الإرادة والفعل.

- تنظيم مجريات أمورنا في علاقتنا مع الأخلاق، بحيث تمكننا أن نتكون كفاعلين أخلاقيين وليس أسيري الأوهام، إذ لا يجب وضع الحرية تحت وصاية الأخلاق، فلا أخلاق حقيقية دون حرية. إذ تتشكل هذه المستويات الثلاثة من بناء نظري متكامل، ثلاثي التركيب:

1 - إن البحث عن مستوى الحقيقة يتم في نظر فوكو من خلال مقاربته في كتابه "حفريات المعرفة" وتاريخ ولادة المؤسسة الاستشفائية: "نشأة العيادة"، أي كيف أصبحت المعرفة سلطة.

2ـ بعدها يعمد فوكو في كتابه "المراقبة والعقاب" للكشف عن آليات السلطة التي أصبحت بدورها معرفة.

3ـ ويحاول فوكو بناء مجال الأخلاق، من خلال كتابه المعلمة: "تاريخ الجنس"، تاريخ المنع والتحريم والطابو الإنساني بفك الربط بين الحرية والأخلاق التي حاولت السلطة الاستبدادية والأخلاقية الجمع بينهما.

إذ أنه في الوقت الذي كان فيه فلاسفة في عصر الأنوار يسعون بكل جهودهم التنظير إلى العقل والسعادة والعدالة بفتح طريق المعرفة وسكك النهضة وسبل التقدم والحداثة من مستودع تاريخ الأفكار والنزعة العقلية، اعتبر فوكو إن طريق التاريخ عقيم بهذا المعنى. فهو لا يعدو أن يكون إسطبلا لنفايات القوة والهيمنة والإقصاء والزجر والمنع والتحريم، كما هو حال المؤسسات البرجوازية فيه، والمهيمنة فيه سواء عبر أمراء السلطة أو مثقفيها من سدنة المعرفة. وبذلك لا يمكن أن يعول على كتب التاريخ الرسمي التي تعرض في مصنفات ومدونات وقوالب سلوكية جاهزة للتلقين والحفظ في الكتب المدرسية التي تنتج أفكارا وسلوكا ومعارف إنسانية. فكل المواقف والحقائق المعروضة فيه أخِذَت غلابا وببأس شديد، كما يحذر فوكو من الفصل بين المعرفة والسلطة، فسلطة المعرفة هي معرفة السلطة التي وراءها. هكذا أخذ فوكو على حين غرّة المشتغلين بتاريخ الأفكار، بعد أن قام بخط مسار أصيل وجديد، يلتفت إلى الهامش عوض المستقيم، إلى تاريخ المعتوه والأحمق بدل تاريخ السوي والعاقل. بل لم يعد له من إحراج أن يهاب ذلك المسكوت عنه والمحرم والمُصادر في كتب التاريخ  والمدونات الرسمية، إذ أن التاريخ أبعد بالنسبة له من أن يكون أفقيا ولا وحدة سردية كبرى متناغمة. ولعل ما يروم فوكو القطع معه يتجلى في التخلي عن اعتبار الذات الديكارتية منطلقا للفكر ومنتهاه، أو حتى اعتبارها وهما جميلا جديرا بتصديق أكاذيبه. إذ لا يجدر وضع الوعي الذاتي أمام الوقائع، بل يجب الانطلاق من وقائع الأجساد المطحونة كي نتدارك السقوط في تاريخية جلفاء لا تعي دروسا أو تحفظ عبرا، بل يرى فوكو لزاما العودة إلى ما قبل- تاريخ الحاضر وممارساته الاجتماعية المتعددة، لكي يتسنى فهم هذه الذات على ضوء العلوم الانسانية التي تحاول سبر أغوار النفس والنفاذ إلى عوالمها الداخلية والمجهولة. وبالتالي إلى تاريخ الجسد المنسي.

(انتهى)
 

ليست هناك تعليقات: