الجمعة، 16 سبتمبر 2016

البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة (5 من 6)./ حسن المصدق



 


فلسفة البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة (5 من 6)

أنظمة الضبط أو "المراقبة الليّنة على الجسد في فكر ميشيل فوكو.

حسن المصدق. (العرب الثقافي آب 2007)


 

انتهى الباحث في الحلقة السابقة من دراسته "تقنيات السيطرة على الجسد في أعمال ميشيل فوكو الفلسفية"  إلى أنه من الصعب جداً حصر مفهوم الرقابة في أعمال فوكو، حيث لا نجد استعمالا أحاديا أو تطبيقا وحيدا له يفي بالمراد، ويذهب به القول إلى أن "المصطلح غني بتعدد استعمالاته وتأويلاته الممكنة..

ويمكن القول إنه متعدد الدلالات بتعدد الاستعمالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير مستقر على دلالة بعينها، مما يجعل منه جنسا قائما بذاته يسع قوالب شتى". وتصبح المراقبة عندئذ "كياناً شريداً" ليس  له حمولة واحدة وبعينها في التاريخ.

وترسخ نظام "مجتمعات الرقابة" في الحقبة المعاصرة عبر مراحل عدة بينها المدارس من خلال ما ذهب اليه فوكو، بداية من "المجتمعات السيادية" في العهد الإقطاعي ووصولاً إلى "مجتمعات الضبط" في  العهد الصناعي وبداية الرأسمالية..

وفي هذه الحلقة من الدراسة المطولة يواصل الباحث تتبع أصل "مؤسسات الضبط" في  الحقبة المعاصرة ومختلف أشكال معاقبة الأجساد المتمردة وكسر شوكتها وعنفوانها إلى حد التفسخ التام عبر تقنيات "إعادة إنتاج الذات الإنسانية"...!

 

حملات التهويل وهوس التخويف

أهم ما نستدل به في واقع مجتمعاتنا المعاصرة تحولها بالتدريج إلى أشكال عديدة معقدة ومتطورة من آليات المراقبة وتقنياتها المختلفة، سيما أن أحد سماتها اليوم الانتقال من طور

تجسيد آليات سلطة الضبط عبر مؤسسات (السجن، المدرسة، المستشفى، المعمل، الجيش، والملاجئ أو إصلاحيات أحداث السن، والمستشفيات العقلية) إلى طور جديد لا تمارس فيه المراقبة السلطة بطريقة هرمية من أعلى إلى تحت فحسب، بل بطريقة غير هرمية ولا

مركزية وبطريقة غير مباشرة.

وتكفي الإشارة إلى حملات التهويل المبالغ فيها من الإرهاب وبالتالي هوس التخويف من الأجنبي والآخر في المجتمعات الغربية... تروم تعزيز آليات المراقبة في المجتمع عبر وضعها في إطار من الحاجة الضرورية للمجتمع كباقي حاجياته الضرورية الأخرى. وهذه المراقبة ترويض للأجساد، كما يشير إلى ذلك الهوس الأمني الذي استبد بالمجتمعات المعاصرة أفقيا وعموديا إلخ.

ومن تداعياته ظاهرة خوصصة الأمن في الأسواق والمحلات والشركات الكبرى والبنوك، بعدما كان الأمن حكرا على القطاع العام ومن اختصاص الدولة لوحدها.


كما أن المفارقة التي نتجت عن الليبرالية الجديدة رفع الدولة يدها عن الميدان الاقتصادي، مما أسقط هذا المجال في يد مراقبة من نوع آخر وجعله تحت قبضة الأنساق والشبكات الحرة (المصرفية والحكامة الإدارية والتدبيرية) التي حلت محل السلطة السياسية المنتخبة.

إذ لم تعد هذه المعايير تستجيب لحاجيات المجتمع ككل، بل هي موضوعة لتلبية حاجيات الأنساق ذاتها، حيث لم يعد السياسي يتحكم في الاقتصادي، بل أصبح هذا الأخير سيد نفسه. وهو ما يعد بتسلل سلطة الأنساق إلى الحياة اليومية في جميع مجالاتها، حيث تصبح مبثوثة فيها من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، (في شكل العمران والتنقل وقوانين العمل والهندام ونوع الرغبات المسموح بها وتنميط العواطف من خلال برامج الفرجة والتسلية...الخ).

وهو ما يعني أن المجتمع المعاصر يُولِّد من أحشائه ومن صلبه هذه المراقبة ويعممها إلى أبعد حد، إذ يكفي القول أن هذه الآليات تعززت بشكل كبير مع الهندسة المعلوماتية، بل إن الوجوه المتعددة لهذه المراقبة غير المركزية والمتناثرة وغير المرئية أحيانا، ستتحقق

من خلال مراقبة فواتير الكهرياء والماء واستعمال البطائق البنكية الممغنطة والبطائق الصحية وجذاذات وكالة الأسفار التي تحوي بيانات ومعلومات عن المسافرين.

مما يفتح المجال من جديد لاستراتيجيات جديدة للمراقبة وظهور تقنيات جديدة مختصة في كل ضروب المراقبة الاجتماعية. وبذلك ليس للمراقبة (كشكل من أشكال الهيمنة) في نظر فوكو وجه واحد عبر العصور، فهي متواجدة عبرها جميعا، والمهم هو الكشف عن تلاوينها وأشكالها وخصوصيتها في أية مرحلة وطرق تجسيدها المختلفة.

 

سلطة مندسة

مرد هذا الدفع عدم ثقة فوكو في المؤسسات وفي سلطتها المندسة، بل إنه يعارض الفيلسوف هيغل فيما ذهب إليه في كتابه "مبادئ فلسفة القانون"، حين اعتبر المؤسسات تُسهل اندماج أعضاء المجتمع وتعمل على انصهارهم بتربيتهم على محبة الصالح العام والتجرد من أنانيتهم. بل يقف في اتجاه نقيض من ذلك، كي يحذر أعضاء المجتمع منها ومن خطابها وممارستها، بحيث لا ينبغي مطلقا الوثوق في نظره بها وبإجراءاتها أو بوعودها.

فأنظمة المجتمع الحديث أصبحت عبارة عن طاحونة مؤسسات وقودها البشر، غايتها أن تجعل منهم مواطنين طيعين خانعين ومنضبطين تمام الانضباط عبر "شبكة مؤسساتية للحجز".

والمؤسسة بهذا الفهم معيارية بالدرجة الأولى وليس لها من أفق آخر تتحرك فيه غير الضبط والتقنين والتحكم، كما أنها في مجملها تكبل الحرية الإنسانية بالمراقبة والرقابة الذاتية على نحو يعمد فيه الأفراد تلقائيا لتصحيح سلوكهم فورا إذا بدر منها امتعاض أو اعتراض على ذلك، بحيث لم تعد المؤسسة في خدمة الفرد، بل وضعت الفرد في خدمتها وفي خدمة آلتها البيروقراطية الجهنمية.
 
كما إن الصيغة الحديثة للمراقبة الاجتماعية تولدت من رحم مؤسسات كانت في البداية بغية خدمة المواطنين، بيد أن المهم في هذا الباب تفسير الطريقة التي تمارس بها هاته المراقبة، وكيف تخرج من جلد وأسوار المؤسسة ذاتها. وقبل ذلك، لا بد من استعراض جملة من الآليات التي أعلنت ولادة مؤسسات الضبط والمراقبة.
خلاصة الأمر يرجع فوكو أصل مؤسسات الضبط إلى عنصرين اثنين:
- يتعلق العنصر الأول بتبدل وظيفة رسائل الأختام الملكية مع بداية القرن السابع عشر، حيث يلاحظ وجود تحول وقع في وظيفة الرسائل المختومة، بحيث كانت قبل ذلك تحمل أمرا ملكيا بالحبس والنفي أو الإعدام.
وبعد سقوط سلطة الإقطاع والتحول الذي طرأ على المجتمع في بداية العصر الصناعي، لم تعد لها نفس الوظيفة التقليدية. إذ أصبحت هذه الأوامر تتبع طريقا مغايرا: من أسفل إلى أعلى وليس كمن ذي قبل: من أعلى إلى أسفل.
أصبحت "هذه الرسائل توجه من تحت إلى أعلى (على شكل ملتمس) للاحتكام إلى الملك، قبل أن تعود ثانية عبر السلم الإداري حاملة أمره النهائي وموقعة بخاتمه، ما جعل منها أداة مراقبة محلّية وبالتالي مراقبة شعريّة Capillaire، أي تمسّ المجتمع أفقياً وعموديا كعملية مسح رأسية شاملة.
ومن ثم يلاحظ فوكو تعميمَها بالتدريج من قبل هيئات وأفراد استحوذوا على جزء من السلطة الملكية  أو يتقاسمونها معه،  لكي يزاولوا مهام مراقبة المجتمع برضاها وتواطؤها معهم.
 
آليات مراقبة شعبية
الأمر الذي أدى بالتدريج إلى ظهور "آليات مراقبة شعبية ميزت التطور الذي عرفه القرن السابع عشر والذي يفسر كيف بدأ عصر المراقبة بل (تعميم نموذج) الهندسة الدائرية مع بداية القرن التاسع عشر الذي سيشمل جميع الممارسات والقانون الجنائي برمته تقريبا".
وبالتالي لم تعد رسائل الأختام الإدارية مجرد رمز لاعتباطية الأوامر الملكية أو تعبيرا عن مزاج الواقف على هرم السلطة، بل أصبحت: "(...) أدوات مراقبة تلقائية يمارسها المجتمع من تحت على نفسه، بحيث يمكن اعتبارها طريقة لتقعيد أخلاق الحياة الاجتماعية اليومية وطريقة الجماعة (بما فيها من) جماعات أسرية، دينية، كنسية، جهوية، محلية  لتأمين مراقبتهم الأمنية ونظامهم بأنفسهم".
في المقابل يتعلق العنصر الثاني بحلول الليبرالية الاقتصادية مع بداية القرن الثامن عشر التي يمكن اعتبارها إشارة أخرى هيأت تطور المجتمع الصناعي الوليد من خلال وضع هندسة دائرية لمؤسساته  وتبني نظام سياسي جديد يقوم على منح الناس حق التدبير الذاتي لحياتهم، وكذلك تحكم الدولة في أجساد الأفراد لغاية الحفاظ على النسل وتنظيمه.
ذلك أن هذه "السياسة الإحيائية Biopolitique من دون شك عنصر ضروري في تطور الرأسمالية"، وهو ما لا ينفصل بتاتا عن الفكرة التي بموجبها" تأخذ إجراءات السلطة والمعرفة في حسابها صيرورات الحياة والعمل على مراقبتها وتغييرها وتطويرها. إذ بدأ
الإنسان الغربي يعي بالتدريج ماذا يعني أن يكون جنسا حيا في عالم حي، وأن يكون له جسد يفرض الإيفاء بمتطلباته وضروراته.
ومن ثم ضرورة توفير إمكانيات حياة وصحة فردية وجماعية، وهي (جملة) قوى يمكن تغييرها وتوزيعها في الفضاء بوجه أفضل.
إذ لأول مرة في التاريخ ومن دون شك، يتم الأخذ بالتفكير الأحيائي  البيولوجي  داخل المجال السياسي، بحيث لم تعد الحياة خاضعة لعوارض الصدف وقدريته، بل تحولت إلى مجال مراقبة المعرفة وتدخل السلطة".
ولذلك فالتحولات التي تمت عبر تحول وظيفة رسائل الأختام وما صاحبها من ظهور نظم الليبرالية الاقتصادية، عوامل استبقت وأشرت إلى ميلاد "مجتمع الضبط" الذي سيعرف عصره الذهبي (القرن 19) بتزايد انتشار أعدادٍ كبيرة من "مؤسسات المراقبة والتأديب" المرتبطة بظهور المجتمع الحديث وبغية القيام بـ "إصلاح إجتماعي" في  حياة الأفراد وتقويم ما بها من اعوجاج في السلوك أو إمكانية اتقاء "أخطار"  من قبلهم.
ويمكن تجسيد المراقبة الاجتماعية في فضاءات مرئية لها وجود مادي ملموس، بحيث يمكن التعرف عليها بسهولة في (العائلة، المدرسة، المعمل، الثكنة، المستشفى، السجن... يجمعها قاسم مشترك بينها يتمثل في شكل هندسي محدد ينفرد عن غيره من البنايات، أطلقت عليه تسمية الهندسة الدائرية panoptique والمحاط غالبا بأسوار. كما يعرض ميشيل فوكو وظيفة تلك المؤسسات التي تحاكي في وظيفتها السجن الذي أصبح أنموذجا للهندسة الضبطية ونموذجها الأوفى.
إذ يتعرض فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة، لنشأة السجن (1975) ص:201ـ 202، 
ومواصفات هذه البناية بذكر أصلها اللاتيني Panopticon)  عند الفيلسوف جريمي بنتام رائد المدرسة النفعية، بحيث يعتبرها تلك" الصورة الهندسية الدائرية، التي يمكن التعرف على مبدئها:
 
نوافذ زجاجية واسعة
في المحيط بناية دائرية، يتوسطها برج به نوافذ زجاجية واسعة من كل جهة تطل على الباحة الداخلية للدائرة، والبناية المحاذية مقسمة إلى زنازن كل واحدة منها تجتاز عرض البناية، بها نافذتان واحدة نحو الداخل تستقبل نوافذ البرج، أما الأخرى فهي منفتحة على الخارج لاستقبال الضوء الذي يجتاز الزنزانة من أقصاها إلى أقصاها.
إذ يكفي أن تضع حارسا في البرج المركزي وأن تحبس في أية زنزانة أحمق، مريضا، محكوما عليه، عاملا أو تلميذاً".
ولا يخفى على القارئ أن الأحمق كناية هنا على بناية المصحة العقلية، والمحكوم عليه يرمز إلى بناية السجن، والعامل يشير إلى المعمل والتلميذ إلى المدرسة.  وكلها بنايات دائرية أو حلزونية، تحيط بها أسوار... للضبط والمراقبة. والسجن بهذا المعنى يعد بمثابة "الشكل المكثف، النموذجي والرمزي لجميع مؤسسات الحجز في القرن التاسع عشر"، ناهيك أن فوكو يحذرنا من عدم: "الاستغراب إن أصبح السجن يشبه المعامل والمدارس والثكنات والمستشفيات التي بدورها تشبه السجون" بأسوارها العالية ونظامها الصارم.
ويعبر فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" عن تشاؤمه الكبير بتزايد أعداد هذه المؤسسات التي أصبحت وظيفتها الأساسية إعداد أفراد خنوعين وطيعين في فضاء منسجم ومعقم، بحيث قامت هذه المؤسسات بتطوير عدة تقنيات أو آليات للمراقبة التي يتم استعراضها بشكل دقيق:
 
- مراقبة جنائية وقضائية
- مراقبة أمنية
- مراقبة الخروج عن الآداب العامة
- مراقبة طبية
- مراقبة الممارسة الجنسية
- مراقبة الممارسة العلمية والمراقبة الصناعية
- مراقبة العمل والمراقبة الاقتصادية
- مراقبة الصحة والنظافة
- مراقبة أرباب العمل
- مراقبة الاستهلاك والأخبار
ومع ذلك يقر فوكو بتواضع شديد إن اللائحة ما زالت طويلة لأن تحليل "جميع آليات المراقبة التي تمارس على الأفراد، ما زالت تتطلب الإنجاز" الموسع، بحيث إذا كان العديد من أشكال المراقبة الحديثة هي من صميم مؤسسات الضبط (السجن، المدرسة، المستشفيات، الإدارة، المعمل... فإن بعضها غريب عنها. وهو ما يوضح الطبيعة المزدوجة لتقنيات المراقبة الحديثة.
إذ أنه غالبا ما يمكن التعرف عليها من خلال أماكن وفضاءات محددة تنظم إعادة إنتاجها، غير أن الحداثة غالبا ما تجعل المراقبة الاجتماعية خفية وغير مرئية مكللة بحضور دائم بحيث يسهل نقلها من مكان إلى مكان والتنقل خفية بكل حرية...
والأدهى من ذلك إن غايات المراقبة الاجتماعية الحديثة تهدف إلى ألاّ تظل حبيسة المؤسسة وأسوارها، بل تعمد إلى الخروج منها لكي تتعمم وتطال المجتمع برمته، بحيث لا يعود الضبط من مهام المؤسسات الحديثة فحسب، بل يصبح من مهام المجتمع ذاته. إذ تكون المراقبة حلزونية ودائرية وسفلية يمارسها المجتمع على ذاته ككل. ومن ثم تنقلب مؤسسات الضبط إلى استراتيجيات عديدة مستقلة ومتفرقة ومبثوثة في عموم المجتمع لتتجاوز أسوارها
ومجالها المحدد بكثير.
 
المراقبة الاجتماعية المعممة
لذلك نرجح وجود بنية مزدوجة للمراقبة في كتابه "المراقبة والمعاقبة"، من خلال حركة تبث المراقبة المؤسساتية خارج أسوار المؤسسات، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بالمراقبة الاجتماعية المعممة، بحيث يشارك الجميع في المراقبة بوعي أو بغير وعي، كي تشمل
عموم المجتمع. وبالتالي تنتفي عنها صبغة المؤسساتية لتعود دون وجه محدد لها ودون مركزية، مما يصعّب التعرف عليها.
وهو ما يعنيه فوكو حين يقول: "في الوقت الذي تتزايد فيه مؤسسات الضبط من ناحية، تتجه آلياتها نحو "عدم المأسسة" والخروج من الحصون المغلقة التي كانت موظفة فيها إلى التنقل بحرّيية، بحيث تتحلل أنظمة الضبط disciplines الكثيفة والمتراصّة إلى إجراءات لينة من المراقبة".  ومن ثم فإن أي كلام عن تكوُّن الذات يمر لزاما عبر الإبحار والغوص في تاريخ تكوين مفرداتها وسلوكها وممارستها وخطابها بوصفها البنيان الذي تقوم عليه، أي إن تكوُّن الذات وتشكُّلِها لا ينبني ولا يقوم على أساس هوية نفسية، لكن يتم عبر الممارسات التي تخفي مستويين أساسيين: المعرفة والسلطة.
من جهة المعرفة سنجد أنها تعيد إنتاج الذات بتقنيات إحياءـ سياسية Biopolitique  لها وظيفة السيطرة على الأجساد، أما من ناحية السلطة من حيث هي قوة  تجازي وتعاقب  فهي تخضع الأفراد وتنظم حياتهم وتقنن سلوكهم... كما يمكن النظر إلى هذه السياسة الأحيائية من خلال ما جرى مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، من حيث تأريخها لسياسة تنظيم حياة الأفراد بواسطة قوانين تعتمد قوالب معرفية وعلمية من خلال ضبط
النظام الاجتماعي بالزيادة في صلاحيات الدولة كما يتبادر من المصطلح الألماني المقابل
.(Polzeiwissenchaft)
إذ شملت البيولوجيا السياسية تدبير مجال الكائن الحي برمته: العمران، الصحة، النظافة، المواد الغذائية، ممارسة الجنس، الولادة، تحديد النسل، الكوارث الطبيعية والأوبئة، التربية... وذلك منذ أن أصبحت هذه المجالات محط رهانات سياسية ومجتمعية. بيد أن مفهوم البيولوجيا السياسية أو السياسة الإحيائية إذا شئنا تعبيرا عربيا مقبولا، يعني عند فوكو تجاوزا للثنائية التقليدية الدولة/المجتمع ليقوم مقامه تدبير جديد يزاوج بين اقتصاد سياسي
واقتصاد إحيائي  بيولوجي  يشمل جميع مناحي الكائن الحي، أي أن الأمر لا يتعلق بممارسة حكم على الأفراد فحسب، بل يتعداه ليشمل مجموع مجالات الأحياء وفضاء الكائنات الحية برمتها.
 
إعادة إنتاج الذات الإنسانية!
ولمعرفة كيف تعيد المعرفة والسلطة إنتاج الذات الإنسانية تاريخيا، يجب لزاما أن نعتمد اختصاصا مزدوجا في نظر فوكو:
أولا، عبر ممارسة الوصف الحفري في تشكُّل جل المعارف حول الذات، والكشف عنها لبِنة لبِنة بنفس الشكل الذي يمارس به عالم الحفريات الحفر عندما يعمد إلى الكشف عن معالم وآثار إنسانية.
- ثانيا، أن يعمد إلى البحث في ممارسات الهيمنة عبر الكشف عن تقنيات السلطة وفي استراتيجيات الحكم التي تم بها إخضاع الأفراد عن طريق السياسة الأحيائية.
مغزى هذه المرافعة أن نفك طلاسم الممارسة السلطوية، سواء منها القديمة التي كانت عنيفة وتقطع الأوصال وتدق العظام أو الجديدة منها تلك التي تسعى إلى ترويض الإنسان وأنسنة
التعذيب وتتجه نحو عقاب مؤنسن عبر المصحات العقلية والمستشفيات والمدرسة والملاجئ والتدريب في الثكنات لإفراغ الجسد من شحناته وفورانه الغض...!
فمجتمعاتنا الحالية ليست ضد العقاب، بل هي ما زالت تنادي بعقاب مؤنسن، إذ توارات المقصلة والجلاد والإعدام في الساحات العمومية لتحل محلها مصحات وعيادات نفسية وإصلاحيات خيرية تهتم بالأحداث ومدارس تربوية مسيجة بأسوار عالية، حيث يمارس الترويض والتطويع والتدجين صباح مساء.
بذلك يشير ميشيل فوكو إلى تباشير مرحلة جديدة من تاريخ حضور ونفي الجسد عبر التاريخ، فمطاردة المنبوذين والمهمشين والمعتوهين والحمقى في الطرقات العامة، كما محاولة إبادة المجرمين والمنحرفين والثوار في العصور الوسطى، تحولت إلى حجز وعزل في المصحات، بل تطور إلى حبس في السجون والثكنات لترويض العقول والأجساد.
تاريخيا، يعود ظهور مؤسسة الصحة الحديثة سنة 1657 ، التي دشنت عهد الحجز والعزل في مسلسلها الطويل من تغييب الأجساد ونفيها وتقويم ما بها من اعوجاج بيولوجي واجتماعي. فالعيادة العامة بهذا المعنى لم تعد مجرد مستشفى عام، بل في إدارة حكومية
منظمة تحت إشراف الدولة منذ أن تم تعميمها بموجب مرسوم ملكي في 16 حزيران 1676.
 
الجسد المنبوذ
انطلاقا من ذلك، لم يعد وضع الأجساد في السجون أمرا مستساغا ومقبولا في عصر الحداثة، لأن ذلك يمس كرامة المجتمع البورجوازي وما نصت عليه مبادئ عصر التنوير من حقوق الفرد التي لا تقبل المصادرة، لذا وجب إطلاق سراح هذه الأجساد من السجون ما دامت بريئة.
وفي غالب الأحيان تم حجز وعزل من يشكلون خطرا منهم في مصحات وعيادات وخيريات لتطهيرهم من الحمق والشذوذ والجنون والتشرد والتمرد... كما إن تدخل الطبيب في هذه المصحات والخيريات والملاجئ كناية عن تدخل للمعرفة في جسد السلطة، أي بما هي معرفة لها تقنياتها الخاصة في تقويم الجسد وتطويعه وترويضه وإصلاح ما به من اعوجاج حتى يستقيم ويندمج في الحياة الاجتماعية من تلقاء نفسه.
ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا الباب إلى أن مهنة تعليم الطب كانت تتم إلى وقت قريب في المستشفيات العسكرية، غير أن انتقال المجتمعات من العصور الإقطاعية إلى عصر الجمهوريات البورجوازية الحديثة صاحبه تطور في تقنيات الضبط لمراقبة ومعاقبة الأجساد المتمردة وكسر شوكتها وعنفوانها، بحيث يؤكد ميشيل فوكو إنه إذا كانت المجتمعات الإقطاعية تملك الأجساد طوعا وكراهية، فإن جميع المؤسسات بعد صعود البورجوازية للحكم
أصبحت مجرد اصطبلات بشرية للترويض.
وإذا كانت الدولة منذ أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية في سنة 323 ، تهتم بخلاص الروح من خلال مؤسسة الكنيسة، فإنها مع المرسوم الملكي السابق، سيصبح من اختصاصها أيضا الاعتناء بالأجساد من خلال مؤسسة المستشفى والمصحات.
إذ أن نشأة العيادة بهذا المعنى تعني حلول تجربة جديدة في التاريخ تقوم على الفصل بين الشر والمرض في العصر الكلاسيكي، كان المرضى والمجرمون لا فرق، يقيدون بالسلاسل ويمارس عليهم التعذيب بدعوى تطهيرهم من المس والأرواح الشريرة.
وغني عن التعريف أن بنية هذه المؤسسات بعد اعتمادها تقنيات سياسية  أحيائية تحمل معها إعادة نظر في علاقتها بالجسد بصفة عامة والكائن الحي بصفة خاصة، بحيث لم يعد يوضع المجرمون مع الحمقى والمعتوهين والمتشردين والمجانين، كما لم يعد يوضع المتشردون مع المُعوقين والمرضى.
بمعنى إن هذا الفصل وقع بناء على معرفة تماهت بموجبها السلطة والمعرفة كي تفرز نظاما وضبطا ومعاييرَ وتقسيما ًفي العمل.

ليست هناك تعليقات: