الخميس، 15 سبتمبر 2016

البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة (3 من 6)./ حسن المصدق.


البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السطلة (3 من 6)

أوهام الوعي الذاتي والشفافية عند ميشيل فوكو.

 

حسن المصدق (باحث جامعي؛ مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر؛ السوربون)


قدم الباحث حسن المصدق في الحلقتين الماضيتين من دراسته "تقنيات السيطرة على الجسد في أعمال ميشيل فوكو الفلسفية" طبيعة العلاقة بين المعرفة والسلطة (أي كيف تصبح المعرفة سلطة والسلطة معرفة) عندها لا يمكن تخيل حجم الخواء الروحي والمادي الذي يعصف بوحدة الجسد "إذ لم تصبح مجرد أشلاء مبعثرة، متناثرة مشدودة إلى توتر الكائن وخوفه الوجودي، حيث لم يعد الإنسان يلوي على شيء أمام آليات التطويع والضبط والمراقبة والعنف والتدجين التي أصبحت تحيط به من كل الجهات.

فلا لحمة تجمع بين الواقع المنفلت المتغير من جهة وإواليات الزجر والحجز والعزل الليّنة منها والعنيفة من جهة أخرى، كما لا فائدة أيضا ترجى من تلك العقلانية التي لم تعد تحميه من عقابيل الحداثة وقروحها وجروحها المرضيّة"

كما عمد فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" إلى الكشف عن مجمل التقنيات السياسية والرمزية الخاصة بترويض الجسد عبر التاريخ، حيث يشمل عرضه وصفا كاملا لآليات الزجر والعقاب والحبس والتخويف وذهنية التحريم والمنع والحجز والمصادرة، أو ما يسميه باقتصاديات ومناهج تدبير المكان، بما فيها الإجراءات والمساطر والقوانين والنظم والأعراف التي تجعل من الأفراد طيّعين وصالحين في نظر المجتمع.

 

ينبّه ميشيل فوكو على مستوى حفريات المعرفة إلى أن خاصية عصر النهضة امتازت على مستوى التمثلات بحضور قوي للأيقونات والرموز والتماثيل، كما أن لسان القرن السابع عشر والثامن عشر بدأ يتبلور من خلال خطاب يشمل كلمات ومصطلحات ومفردات بعينها، أصبحت بمثابة إطار تتطلع نحوه العيون وتردده الحناجر في تلك الحقبة، إذ أن أفراد هذا المجتمع حاولوا تنظيم وتصنيف وتمثيل وتدوين ما يحيط بهم من ظواهر وأشياء ومعارف

في جميع المجالات، ما أضفى على عصرهم سمة عصر الأبجدية بامتياز، سيما في زمن أصبحت فيه اللغة هي المسؤولة عن نقل العلوم والمعارف والفنون والتعليم والتربية. فالكل يخضع لتلك البلاغة وما يصاحبها من تمثيلات لغوية بامتياز.

وإذا كان من تداعيات هذه الرغبة الجموحة نحو التمثيلات اللغوية، ظهور الرغبة في التنظيم والتدوين والإحصاء والتبويب والتصنيف فإن اهتمام السلطة انصرف إلى إعداد خطاب له قاموس لغوي يلوكه الناس قلبا وقالبا.

فالسيطرة على اللغة بهذا المعنى، يعني السيطرة على عقول تفكر وتتواصل بينها بمفردات واصطلاحات، كما من شأن تصويرها وتجسيدها في التماثيل والرموز والأيقونات والمعمار والأزياء يسهم في مزيد من التأثير في الوجدان والأحاسيس أيضا.

مؤدى هذا التمايز ظهور اختصاصات معرفية، ظلت الدولة تحرص وتسعى من خلال تسييد خطاب دون غيره إعادة إنتاج أفكار الكائن الحي وقولبته وفق نظمها ومعاييرها بتنميط ذوقه والتأثير في أفكاره واختيار معجمه اللغوي والقانوني والجمالي، حيث مهد هذا الضبط لرؤى عديدة من داخلها، كالرؤية الطبية والرؤية القانونية والرؤية الذوقية من خلال خطاب طبي وخطاب قانوني وجمالي... وهلم جرا. الأولى تعمل على تصنيف مختلف الأمراض والأعراض والعلل، كما يقابلها اجتماعيا التمييز بين الصحيح والمريض، العاقل والأحمق، السوي والمعوج، المرغوب فيه وغير المرغوب... الخ. ثم من بعدها الرؤية القانونية التي أصبحت هي من تميز بين المجرم والمذنب والمنحرف والمعوج من جهة... كما تحديد المقبول والمستقيم، حيث تتم ترجمة ذلك على المستوى الاجتماعي عبر مدونات الأحوال الشخصية للفصل بين ما هو عادي مسموح به وما هو غير عادي، ومن هو في تعداد الجائز أو المحرم.

هكذا ظهرت مجالات منظمة ومحددة للحياة الاجتماعية، تخضع للمراقبة بواسطة ذلك التقسيم والتمايز الذي لحق أصناف المعرفة وبين سائر العلوم المختصة، حيث يمكن القول إن الفضاء الذي تشكلت فيه العلوم الإنسانية منذ سنة 1800 أصبح محددا بداية بثلاثة علوم مختلفة (البيولوجيا والاقتصاد وفقه اللغة) التي تأسست كل منها على مبدأ عام:

- البيولوجيا (الوظيفة= البحث في وظائف الأعضاء وتشريح الجسد)

- الاقتصاد (الصراع = حول تحقيق الثروة لبلوغ مجتمع الوفرة وتنظيم الملكية)

- الثقافة (ما يتصل بالعلامة اللغوية والرموز= للتعبير والجمال والذوق).

 

إحصاء الأنفاس

ثمة علاقة حميمية بين الوظيفة كمفهوم ظهر في حقل البيولوجيا عبر دراسة وظائف الأعضاء في الجسد البشري (ضبط وظائف دقات القلب ووظائف الدورة الدموية)، وتطبيق نفس المفهوم في العلوم الإنسانية والاجتماعية. بالإضافة إلى انتقال العديد من المفاهيم

من حقل إلى آخر. من ذلك مفهوم الصراع كمفهوم مركزي في علم الاقتصاد وتوظيفاته المختلفة في علم الاجتماع. إذ بواسطة مختلف هذه العلوم وخطاباتها اللغوية، تم رسم حدود فضاءات اجتماعية وثقافية وصحية يمكن أن يحشر فيها الإنسان كليا من خلال ضبط لغة وظائف أعضائه (لغة البيولوجيا) ولغة خياله (لغة الرمز والعلامات) أو من خلال ضبط لغة علاقاته الاجتماعية والسياسية (لغة القانون) والملكية والثروة (لغة الاقتصاد).

كما أنه من اشتغالات هذه المعارف المتمايزة على الإنسان (سواء في الحقل الأدبي والخيالي المحض أو في الحقل البيولوجي أو في الواقع المادي الملموس) تكونت معرفة شملت جميع ما يحيط بالإنسان طبيعيا واقتصاديا واجتماعيا ورمزيا، بل بدأ المجتمع بالفعل يجمع ما يتصل به من معارف ليعمل على تصنيفها وتنظيمها وتنضيدها وتقنينها وضبطها وتطبيقها على الإنسان رويدا رويدا، وفق خطاب له بلاغته السياسية ومعاييره القانونية وجماليته الذوقية، وبالتالي يشكل مجموع هذا الأخير سلطةً أنتجت معرفة ومعرفة مندغمة في سلطة.

 

ومن ثم عمدت السلطة السائدة في أي مجتمع ضبط جميع مجالات الحياة الإنسانية: صحية، رمزية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية وجمالية... حتى أصبح من المستحيل أن يظل شيء في الحياة الإنسانية خارجا عن مراقبتها ورقابتها.

إذ تحاول المعرفة بهذا الصدد أن تنظم وتحصي وتوثق وتدون وتسجل جميع الأشياء المحيطة. ومن ثم إذا كانت العملية التمثيلية وسيلتها في ذلك، فإن السلطة تحاول قدر المستطاع أن تستغل تلك المعرفة في جميع الأشياء، سواء عبر إعداد المصنفات والمدونات

والسجلات والأرشيفات، كما هو حال دفاتر الوفيات وسجلات الزواج ودفاتر الحالة المدنية وعقود البيع والشراء وتصاريح السفر والبطاقات الممغنطة كما يحدث اليوم... ألخ، ما يحصي كل شاردة وواردة من حركاتنا ويبصِّص على غدونا وترحالنا. بل إن من نتائج هذا التوصيف والتبويب، إحصاء الأنفاس بمراقبة تامة تشمل جميع مناحي الحياة الإنسانية.

وبيت القصيد عند فوكو الإشارة إلى اندغام المعرفة بالسلطة، عبر محاولة نقل تطبيقات العلوم الدقيقة إلى الحياة الاجتماعية ذاتها، فلقد شملت تطبيقاتها جميع مجالات الحياة باللغة نفسها، أي أنها أخضعتها لأنظمة حسابية وإحصائية وجداول بيانية لا تعير للعواطف والأحاسيس والعلاقات والروابط الاجتماعية أي اهتمام، مما ينذر بتفصيلها من جديد على مقاسات حسابية نفعية قريبة من مصالحها، قد تفرغها من إنسانيتها وحميميتها، وبالتالي

تلغي آدميتها.

 

رقم من الأرقام

هذا إن لم تلتف على الإنسان وتخنقه رويدا رويدا، منذ أن أصبح مجرد رقم من الأرقام في تجارب العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، إذ لم يعد إلا رمزا بين الأرقام والجداول والبيانات والإحصاءات، حيث انتفى وجوده بتلك التصنيفات والأرقام والبيانات كذات حرة ومستقلة، إن لم ينطمس إحساسه بالآخرين كذوات جديرة بالاهتمام.

بل أصبح الجميع كناية عن رقم من الأرقام في سلة المنفعية والنزعة الاستهلاكية... ما يعني أن الإنسان في طور الموت البطيء من جراء تطبيقات تلك السياسة الأحيائية عليه.

ومما لا شك فيه، أن هذه العلوم أصبحت في خدمة السلطة التي بدورها أصبحت على الدوام بحاجة إلى معرفة تعيد إنتاج سلطتها وهيمنة ثقافتها، فهي لا تساوي شيئا دونها ما دامت في حاجة ماسة إلى خبرتها لتنظيم وضبط حركية المجتمع بدعوى أنها القيمة عليه وهي الساهرة على أمنه وأمانه...، كما نشأت عن تطبيقات تلك العلوم في جميع مجالات الحياة الإنسانية محاولة إخضاعها لها كليا، سواء بغاية تنظيمها التنظيم المحكم الدقيق أو بغرض أن تتحكم فيها تحكما مطلقا وبطريقة شاملة.

وصفوة القول أن ذلك ما ينقلنا إلى جوهر فلسفة فوكو، إذا لم يكن ذلك بمثابة المقدمة التي بواسطتها يتم الكشف عن كيفية تسخير السلطة للمعرفة بجميع أصنافها من أجل ضبط المجتمع وتنظيمه حتى لا تفقد السيطرة عليه.
وهذا
التنظيم والتحكم في وضع معايير وقوانين ونظم وضوابط (صنع لغة عامة يدين بها الناس) تخدم الجهات المهيمنة عليهم، يضطلع بمهمة التمييز بين ما هو عادي وغير عادي،
السوي وغير السوي، العاقل الذي يمتلك وعيا والأحمق الذي فقده، كما التمييز بين الصحيح والمعوج أو بين المريض والسليم...، بما يحقق نموذجا معياريا للحياة المرغوب فيها من طرف السلطة ويؤدي الانصهار المطلوب الذي تريد فرضه في المجتمع.

بيد انه لا يخفى أن فصلا بهذه المقاسات، هو كناية عن سلطة قائمة أو متخفية، لكنها بهذه الطريقة تنتج ضرورة سلطة مضادة لها في نظر فوكو، إذ ما الذي يمنع ذلك العظيم عالي الشأن في المجتمع من أن يصبح حقيرا وضيعا، وذلك الحقير الوضيع أن يصبح عظيما؟!

كما أنه في مجال السياسة، يمكن تطبيق المثل الشائع "لو دامت لغيرك، لما وصلت إليك"،

ما يطرح السؤال من جديد عن حقيقة من يضع هذا الفصْل المزيف في الحياة الاجتماعية، وأين تكمن الحدود بين هذين العالمين (عالم القوي والضعيف، عالم العاقل والأحمق،

الأساسي والكمالي... ومن يتحكم في القوانين والمعايير...

بالإضافة إلى ذلك يتساءل ميشيل فوكو بالقياس إلى تجارب الإنسانية ذاتها، إن كان وراء هذا الفصل فكر مخادع ومخاتل لغرض في نفس يعقوب، يحجم أن يتكلم ويفصح عن أغراضه ومصالحه! بل إن أكثر هذه الثنائيات المعبرة عن هذه الأيديولوجية: العقل والنقل، العقل والقلب، الروح والجسد، الأصالة والمعاصرة، الشرق والغرب، التراث والتجديد، المرأة والرجل، العاقل والأحمق، الخير والشر إلى غير ذلك من الثنائيات...، ما هي إلا محاولة لتنميط الحياة الإنسانية بإحكام القبضة عليها وحبس وعزل وتكميم وتنميط السلوك الإنساني المتمرد أو ذلك الذي لا يمكن وضعه في خانة ما، مما يؤدي بالضرورة إلى خلق تبريرات مزيفة، أي سلطة قائمة على الترويض عبر مؤسسات العائلة والسجون والمستشفيات والمدارس والمعامل والثكنات.. إذ تكفي الإشارة إلى أن ما كان في تعداد الحقائق المطلقة

في عصر ما، استحال وهما وأضحوكة في عصر آخر. كذلك هو شأن الحقائق السياسية والاجتماعية والجمالية التي يتم تعليبها هنا وهناك وفق هذه الأيديولوجيا أو تلك.

علاوة على ذلك، يلتفت ميشيل فوكو إلى معالجة الشكل الذي من خلاله يتم تسويغ "حقائق" السلطة ببأسٍ شديد أو بإغراءٍ لا يقاوم، لا فرق. فيشير إلى أن ما يجمع جميع مؤسسات السلطة الزجرية والترويضية معمارها الهندسي، لأنها أقرب في تقاسيمها إلى هندسة مؤسسة الحجز التي يعد السجن أبرز من يمثلها.

ذلك أن ما يهم فوكو هو التأكيد على أن تلك المؤسسات محاطة بأسوار عالية تحجب الرؤية عن ما يجري داخلها، توزع فيها حجراتها وفق تنظيم دقيق مع فروق في الشكل لا في الجوهر.إذ لا يخفى أن كل هذه البناءات الترويضية كانت مسيجة، فهي تحجب القابع فيها عن العالم، وتحصر حركته وتضيق عليها إلى أبعد حد ممكن لغة وهنداما وتفكيرا، حيث لا يجب أن نعتقد أن سبب بناء السجون كان في غايته الأولى، حماية العقلاء والشرفاء والأبرياء من

أشرار المجتمع فقط، فهي أيضا موضوعة بغاية حبس تلك الأفكار والسلوكات المتمردة على النظام السائد. لذا فهي بالحفاظ على نظمها ومعاييرها تحاول قدر الإمكان ترويض جميع الأجساد، لأن من داخل تلك المؤسسات يتم الإعلان عن ثنائيات تفصح عن ما هو مقبول وما هو ممنوع، ومن ثم هيمنة سلطة قيم وأخلاق بعينها في المجتمع.

وحري بنا أن نعرف القصد الذي يرمي فوكو تحصيله من خلال تأمل ثنائيات القيم والنظم والمعايير عبر التاريخ، سنجد أن ما تم ارتكابه فيه فظائع كثيرة، لا يجب أن تحجب عنا الحقيقة وتجعلنا نصُمُّ الآذان عن سماع آهات المعذبين في الأرض ومعرفة حجم الكوارث التي خلفتها فخاخ هذه الثنائيات من هيمنة واستغلال وتعذيب وسجن ومآس واغتراب وتمزق وضياع وإقصاء باسمها.

وهذا لعمري قمة الإفصاح عن ما هو خفي في تلك المؤسسات التي تضطلع بدورين متناقضين، بحيث يتم استعمال الممنوع لخدمة المسموح به، وكأن المجتمع بحاجة إلى نبذ المجرمين والمنحرفين ومعاقبة العاصين لكي يؤسس معاييره ونظمه على جماجمهم. دون

أن ننسى أن هذا المجتمع دائما بحاجة إلى هذا المنحرف لأنه عاجز عن منع كل أشكال الانحراف فيه، ولكي يُعلِّق على مشجبه عجزه وإخفاقاته أيضا.

إذ يكفي أن ننظر كيف يلجأ هذا المجتمع ذاته إلى التنفيس سرا -أو علنا- عن ذلك من خلال السماح ببيع الكحول والمخدرات وتعاطي الدعارة والقمار وبالاتجار في الأعضاء البشرية وتشغيل الأطفال... أو التغاضي عنها عمدا... ليتفادى بذلك انفجار المجتمع ووقوع السقف على أصحاب من يدعون مِلكية البيت بما فيه من الرقاب والعباد. غاية فوكو هي أن يحذر من أن تزايد ضبط المجتمع ومراقبته، كما محاولة تنميط السلوك والأذواق وتعزيز أشكال الرقابة المادية والرمزية عليه، سواء عبر تكييف الآراء وتدجين العقول أو ترويض الأجساد (ما نشاهده اليوم بوتيرة متسارعة)، ينذر بأن ينقلب هذا التحكم الأرعن ضد المرجو منه غالبا.

 

فضح أوهام الذاتية

ما من شك في أنه بوضع المؤسسة الاجتماعية موضع اتهام، يروم ميشيل فوكو فضح أوهام الذاتية ووضع قدرة الذات بوصفها عنصرا أساسيا في هذه المؤسسة موضع سؤال، فلا مجال عنده للحديث عن ذات بوعي شفاف تمام الشفافية، بل الوعي عنده يجب أن لا يقف عند سطح الأشياء، بل عليه أن يبدأ من البحث عن ما هو متخف بطريقة غير واعية فيها، وما يلازمها من ضعف وقصور ونقص على حد سواء.

بالمقابل تقطع هذه الفكرة مع الإرث الديكارتي الذي يعتبر الذات أس المعرفة: "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، ما نجم عنه تعزيز مكانة خاصة للروح على حساب الجسد كما أسلفنا. فالروح أصبحت بموجب ذلك موطن التسامي والفكر ورمزه اللامتناهي على حساب الجسد الذي أصبح نفاية للمكبوتات ومنبت الدوافع والغرائز، ما ليس معه مستقر ولا مهاد، فهو بهذا المعنى دنس ومأوى للألم والمرض والرغبة والشهوة والانحراف والجريمة.

لقد تعمقت القطيعة على وجه التعسف بين عالم رذيلة يمثله الجسد وعالم فضيلة تمثله الروح، حتى استبطن الإنسان داخله الجسد كرذيلة، يجب أن يحذر استغواءه وشهواته، لأن الروح هي وحدها الجديرة بالاهتمام، نظرا لكونها راعية الأسرار القدسية واللذة الحقيقية. أما الجسد فهو مجرد نفاية تغري ومثوى لذة عابرة ونزوة منحلة، بينما الروح لا تبلى ولا تتبدد، فهي الأصل الذي لا يتعطل.

في الحقيقة يرفض فوكو هذا الفصل الذي حصل بين الجسد والروح، بل ينبهنا أن له ما يقابله على مستوى اللغة أيضا، حيث طالت عواقب هذا الفصل التعسفي معجمنا ومفرداتنا ومفاهيمنا

وسلوكاتنا بدورها حتى أصبح كل ما يرتبط بلغة الجسد كناية عن الفحش والغواية وموطن التقبُّع والتفزُّع، لذلك وجب وضع قائمة من الممنوعات من الألفاظ أول ما تطال المكبوتات تحت دعوى الابتعاد عن ما يتوافق مع أهواء الجسد.

تلك هي أبرز نقطة كما نعلم، عصف بها فلاسفة الشك ماركس ونيتشه وفرويد الذين بشروا بمنطلقات فلسفية جديدة تضع الجسد في قلب الاهتمام وتجعل من العقل مجرد وظيفة له، بل إن نيتشه يرى لزاما لكي يتحرر العقل يجب تحرير الجسد أولا. فالجسد هو من يسمع ويرى ويحس ويلمس، وهو أول من يتصل بالأشياء وينفصل عنها، فبه نلمس الوجود ونعيه ونفكر به.

ومهما يكن من أمر هؤلاء العباقرة، فالجسد في الفلسفة الفوكوية هو من يستحق الاهتمام والرصد، حيث يجب أن يعبر بكل حرية وبكل تلقائية وأريحية ومن دون موانع أو قيود، لكي ينجلي المكبوت وتظهر الحقيقة عارية دون تنميق أو زيف، بخاصة الكلام عن تلك المكبوتات التي تظل ثاوية في الجسد حبيسة الإحساس بعقدة الذنب أو الخوف. آنذاك فقط يتخلص الإنسان من المعيقات وشتى الأقنعة والزيف التي تُقيده... أليس الجسد منبع الإحساس واللمس والشم والذوق؟

لذلك كله لا يرى فوكو طائلة ترجى من تغييبه... علاوة على أن هذا الجسد ظل محرما تسدل عليه الستائر، مما استدعى لجمه وترويضه على الدوام. وبالإضافة إلى ذلك، يصبح الجسد حاضرا في المنام واليقظة، وجذوته غير منطفئة في الوعي واللاوعي، كي لا يغيب التفكير في المكبوت والمحرم والمقموع.

فالانحراف والجريمة والجشع عنوان عريض لتلك الأعراض المرضية، وهي خير من يفضح قيم ثقافة زائفة اضطهدت الجسد وكبلته وعطلت طاقته ومارست عليه الحجر.

لذلك يرى أنه من اللازم إعادة الاعتبار للجسد عبر الكشف عن المستور والمسكوت عنه، فالجسد له فكره والفكر له جسده، ومن لا جسد له، لا فكر له، لأن الجسد حضور ووعي بالكينونة. فهو والروح كما يقول الفيلسوف سبينوزا صنوان لا ينفصلان، إذ لا توجد ذات

متعالية فوق الجسد ومن دونه، فهو المأوى والمثوى.

ولعل أبلغ درس تركه فرويد مؤسس علم النفس يكمن في أن الاختلالات النفسية -الكبت والحجز والزجر والقمع- تخلف أضرارا جسدية تكون مقدمة لتوترات اجتماعية كبرى، حيث تنذر هذه الآفات بتفجرها في وجه الأعراف والتقاليد والقوانين الاجتماعية اضطرابا في توازن الشخصية الإنسانية.

وفي هذا المسعى ذهب أيضا كل من ميشيل فوكو وجيل دولوز وجورج باتاي وفرانسوا ليوتار الذين اعتبروا أن تحقير الجسد وإنكاره وتغييبه بمثابة حرب مدمرة للروح أيضا، بل إن الحرب ضد جسد ما، هي كناية عن حرب موجهة ضد جميع الأجساد والأرواح معا. لذلك فإن حق الجسد في الوجود علامة أولى لوجود الروح وسعادتها أيضا. ومن ثم أصبح الجسد والاحتفال به عند ميشيل فوكو كناية عن الوجود، حيث لم يعد الفكر والوعي والعقل
والروح
كناية عن السمو والتسامي والتعالي، بل تأكد اليوم أن الجسد في مباحث الطب النفسي والفيزيولوجيا العصبية والهندسة الوراثية والعلوم الذهنية أعقد فهما وأدق تركيبا، ذلك أنه هو الذي يستوعب الفكر والوعي والعقل معا. فمع نموه ينمو العقل ومع تعثره يتعثر العقل، بالإضافة إلى أن هذه الاحتفالية بالجسد مجرد حق تم إرجاعه لنصابه، بعد أن تم تغييبه طويلا.

 

محاولة التأريخ للجسد

هكذا تستقيم الرؤية المنهجية لرد الاعتبار إلى اشتغال الفلسفة على الجسد، ليبدأ فوكو بمحاولة تأريخ للجسد، بممارسة الحفر في تاريخ الأخلاق والقيم والنظم التي كبلته، بخاصة المزيفة منها التي أدت إلى وضع الإنسان المعاصر في بوتقة الاغتراب والعزلة والخوف والقلق، حيث يشير فوكو من باب المفارقة إلى أن الحضارة الغربية حاربت الشذوذ الجنسي فزادت فيه، وحاربت الشهوة فأججتها، وحررت النساء فاستعبدتهم.

هذا إن لم يكن المشهد قد وصل في فظاعته حدا ينذر بعواقب شتى، لذلك يجب أن يخضع المجتمع المعاصر للتفكيك من خلال معاينة كافة أشكال التطويع والعبودية والكبت والزجر والتكييف والضبط في المدرسة والعيادة والسجن والماخور والثكنة... حيث يتعرض الجسد للقبض والرهن والعزل والحجز والترويض أو الوشم...

ويوحي البحث في تاريخ آليات وتقنيات المراقبة وأشكال التأديب والتطويع والضبط الجسدي في تاريخ الحضارة الغربية، بأن فوكو كان يتوخى الكشف في كتابه المعلمة "المراقبة والعقاب" عن بنيتها الثاوية.

أساسا، عمدت هذه الحضارة عبر التاريخ إلى تعنيف وتكبيل وإثقال الجسد بكل ألوان الحجز والعزل والنفي والمراقبة بشتى أنواعها، كان من تداعياتها وآثارها اليوم روحا معذبة في جميع تجلياتها، حيث يقدم فوكو تاريخا غير التاريخ الرسمي الذي يستعرض تاريخ الألقاب والأمجاد والمعارك المرتبطة بتاريخ الملوك والسلاطين،... بل تاريخ من لا تاريخ لهم... تاريخ المنبوذين والمتمردين والعلماء على حد سواء.

لكن أين نعثر على تاريخ الأجساد المهمشة والمطواعة والمثقلة بالصداع والحمق والبؤس والحرمان والفظاعات الإنسانية، بخاصة تلك التي مورست عليها كل أصناف الحرمان وأنواع الكبت والتعذيب والعقاب؟ مما يذكرنا بتاريخ الرؤوس المعلقة على أبواب المدن وساحات الإعدام الاستعراضية، كما التمثيل بالأجساد المحمولة على عربات تشق الشوارع والتنكيل بالعلماء، وقد تحلقت حولها الجموع منتشية بالأجواء الطقوسية والاستعراضية المهيبة.

ونحن نتفحص هذا المسار التاريخي الطويل... سنجد أن التاريخ الرسمي يجر معه وإن رفض، تاريخه السري الذي يكشف أن وراء عنفوان السلطة وبريقها المزيف، هناك تفاصيل تنبئنا حقيقة كيف كان المشهد الأول في مسرحية تاريخ البشرية الآسن وأن ما تخلله من أفكار نيّرة التي ما زالت حية بيننا هي في الحقيقة، تاريخ قطع أوصال ودق عظام، مرفوقة بفسخ الأيدي والأرجل وصلبها على أبواب المدن، حين كانت مشاهد القتل تنتهي بالتمثيل بالجثث أو بإلقاء السجناء والأسرى في أقفاص سباع أو في برك تماسيح ضوَّرها الجوع للمناسبة آمادا طويلة.

هكذا كان حال "روما" و"دمشق" الأموية و"بغداد" العباسية و"قاهرة" المماليك و"أستانة" العثمانيين ولا عجب، ثم كيف أتت العصور الإقطاعية الغربية بصورها الرهيبة، من محاكم تفتيش وصور المنصة والجلاد والجموع والمدعي الذي يلقي الحكم، حكم حاكم غائب حاضر، يذكر المذنب بسلطة القوة وقوة السلطة. حيث يقدم فوكو مشهد المسرحية الأصلي للسلطة حتى نتعرف على فظاعتها ونتجرع جرعة الألم مما كان يجري ويدور.

إلا أن هذا التعذيب إذا كان كناية عن نفي الجسد بالإبادة، فما يراد الكشف عنه بالتحديد من خلال سرد وقائع وقصص بعينها هو أن أي تعد على قانون الملك هو تعد على جسد الملك، مما يستوجب إعادة الهيبة له عبر تطويع الأجساد جميعا، ليصبح التعذيب بمثابة الآلية التي تعيد الحق لنصابه وللسلطة هيبتها وتمنع المس منها أو التطاول عليها.

 

عنف رمزي

غاية فوكو أن لا يشير إلى التعذيب والعنف بالمعنى المطلق، عبر ما وقع من قطع رقاب وجلد أو بتر أعضاء، فحسب بل كيف تطور العنف المادي إلى عنف رمزي بوصفه آليات تأديب وإخضاع وتطويع وتدجين، حيث ننتقل من ساحات الإعدام إلى السجون الكئيبة والمظلمة، أي الانتقال من تاريخ الدم الأحمر القاني الذي كتبت بها أمجاد البعض وبؤس الآخرين إلى كتابة تاريخ الدم الرمادي لون السجون كما يقول جيل دولوز، أي من تعذيب الجسد إلى تعذيب الروح. والقصد من ذلك الوقوف عن قرب أمام السلطة، وهي عارية لا قناع تتدثر به ودون مساحيق تخفي به تجاعيدها، لأنه ليس هناك من سبيل آخر لفهم السلطة في الحاضر إلا بالكشف عن ماضيها، لكي نعي حجم التحول الذي وقع لها في تطويع الأجساد وترويضها. فكما تحمل أجسادنا اليوم شيئا من نفحات الأجساد الماضية وعبقها وآلامها وآمالها المحبطة، تحمل السلطة الحديثة من السلطة القديمة شيئا من قماءتها وعنفها.

وأعود لأقول باختصار وتبسيط، كما كانت السلطة قديما تسعى لإثبات قوتها بالإبادة، فهي تسعى اليوم إلى أن تظهر رقيقة وساهرة، مثلها مثل عين الأم الحنون التي لا يغمض لها جفن، بدعوى حماية المواطنين وتأمين راحتهم. لكن ذلك في نظر فوكو، لا يعدو أن يكون تطورا طرأ في الشكل لا في المضمون، ما دام ذلك ما زال يدس ترويضا وتطويعا يفي بالمطلوب ويحقق المراد.

لذلك لا بد من الكشف عن صورتها الحقيقية لنرى ما وراء القناع وهي حاضرة تمارس صلفها المعهود عبر التاريخ، سيما وهي في حالة الإجهاز على جسد فرد أو تكميم أفواه تعارضها أو أقلام تناوئها وتشاكسها أو تتمرد عليها. آنذاك، لا محالة سنرى كيف سيسقط قناعها الرحيم وينكشف وجهها الذميم، إذ سنرى كيف تدور طاحونة العنف غير عابئة بعذابات الآخرين.

وحينذاك سنرى كيف يئن الجسد تحت وطأتها حاملا صورة قديمة/جديدة: جسد يئن ويتجرع الويلات من ناحية، وجسد يزهو في تعذيبه منتشيا من ناحية أخرى.

والجسد بهذا المعنى صورة لتقاطع جسدين، أحدهما يمثل جسد القوة والحضور والآخر جسد الضعف والغياب. ومن ثم يعرج فوكو في رصده لمظاهر السلطة قديمة أو حديثة، فالقديمة كانت تمارس هيبتها بدق المسمار في الأجساد تاركة إياها في حر الشمس لتنهشها الغربان، بينما هي اليوم تمارس هيمنتها وقوتها وإعادة إنتاجها بالتأديب والعزل والحجز والمنع والمراقبة والتحريم، سواء في المدرسة والعيادة والمصحة العقلية والثكنة والمصنع أو السجن.

ولعل فوكو في رصده هذا، يريد أن يقول لنا احذروا السلطة، أي سلطة. فالتعذيب ليس كناية عن الجلد والسياط فحسب، بل يبدأ من مداهمة حق أي جسد في الاعتراض والرفض.  والسلطة بذلك التدخل العنيف، تريد أن تحدّد لنا خفية ما هي الحقيقة وما هو الضلال

وبين هذا وذاك من يستحق العقاب أو الثواب.

بيد أن للسلطة في حالة التعذيب الرمزي عمق يتجاوز التعذيب الجسدي في حد ذاته، فهي من ناحية إثبات لجسد القوي وإنكار لجسد الضعيف في الحياة والاختيار والحرية وتقرير المصير.

والجسد بهذا المعنى كناية عن جسد متمرد وجسد هيمنة، الأول ينزع للثورة والثاني رمز لكبح هذه الثورة.

بل إن القصد من قمع هذه القوة المتمردة وكبحها وتجريدها من قوتها تعطيلها من الإرادة والحرية والفعل، حيث إن تحويل هذا الجسد المشاكس إلى جسد واهن لا حول ولا قوة له، يحقق قوة السلطة بحرمان الآخرين وتعطيل إرادتهم وقوتهم. التعنيف والزجر الحديثان هما في حقيقة الأمر تعديل وتطوير لآليتي الكبح والانتقام القديمتين اللتان يتمّ تنفيذها في الساحات العمومية والباحات. فهو انتقام من نفس الجمهور الذي كان يُجلب في الماضي والحاضر لمشاهدة تفاصيل هذه المسرحية المرعبة، على الرغم من أنه في الحقيقة يبقى المستهدف الحقيقي من مسرحية إنزال العقاب أو التعنيف بهؤلاء المتمردين، حتى لا يتطاولون بدورهم على قوة السلطة وهيبتها.

كما أن إنزالها العقوبة القصوى بذلك الجسد الفرد، استهداف رمزي لأجساد الجمهور ووقاية السلطة من عدوى أي خروج عن سلطتها.


ليست هناك تعليقات: