الخميس، 22 سبتمبر 2016

المحطات الأساسية لفينومينولوجيا هوسّرل./ اسماعيل المصدق.



المحطات الأساسية لفينومينولولجيا هوسرل.

اسماعيل المصدق

    مركز تكوين مفتشي التعليم-الرباط

 


يسعدني أن أهدي هذه الدراسة إلى الأستاذ Antonio F. Aguirre تعبيراً عن محبةٍ وتقديرٍ خاصين واعترافاً بما تعلمته من ندواته بجامعة Wuppertal حول كنط وهوسرل.

        بحلول سنة 2000 تكون قد مرت مائة سنة على صدور الجزء الأول من مؤلف "أبحاث منطقية". أنشأ إدموند هوسرل (1938-1859) من خلال هذا المؤلف اتجاها جديدا في الفلسفة أطلق عليه اسم الفينومينولوجيا. وقد مارس هذا الاتجاه الجديد تأثيراً حاسماً على الساحة الفلسفية سواء في ألمانيا أو خارجها. بالإضافة إلى أن عددا من الفلاسفة المرموقين في القرن العشرين يعتبرون أنفسهم منتمين إلى هذا الاتجاه، فإن كثيراً من القضايا والنقاشات والاتجاهات الفلسفية لهذا القرن مدينة بوجودها، مباشرة أو بكيفية غير مباشرة، لفينومينولوجيا هوسرل وللآفاق التي فتحتها أمام التفكير الفلسفي. وعلاوةً على ذلك، فإن تأثير الفينومينولوجيا لم يبق منحصرا في مجال الفلسفة، بل امتد إلى حقول معرفية عديدة.

        إن مرور مائة سنة على تأسيس الفينومينولوجيا هو مناسبة للاحتفال بهذا الحدث، والاحتفال بحدث مثل تأسيس اتجاه فلسفي لا يكون إلا بالرجوع إليه من أجل إعادة فهمه وإدراك أبعاده. ومهمة فهم فينومينولوجيا هوسرل وتأويلها لا زالت مطروحة على الباحثين في مجال الفلسفة بإلحاح. فهوسرل لم ينشر خلال حياته إلا جزءا ضئيلاً من دراساته وأبحاثه، وابتداءً من سنة 1950 بدأت تصدر سلسلة مؤلفاته الكاملة تحت عنوان "هوسرليانا"، وهي تضم، إضافة إلى المؤلفات التي نشرها خلال حياته، كثيراً من الكتابات التي لم ينشرها. ورغم أن ما نشر لحد الآن، وهو حوالي ثلاثين مجلدا، هزيل جدا إذا ما قورن بالكم الهائل من المخطوطات التي تركها هوسرل، فإن من شأنه أن يساهم في توضيح كثير من قضايا هوسرل ومفاهيمه، وفي تكوين صورة متكاملة عن فلسفته.

        سبق أن نشرت في العدد الأول من مجلة "مدارات فلسفية" دراسة حول "هوسرل وأزمة الثقافة الأوربية"، حاولت فيها أن أقدم عرضا عن الشكل الذي اتخذته فلسفة هوسرل في مرحلتها المتأخرة. أما في الدراسة الحالية فسأعمل على تقديم نظرة إجمالية موجزة عن فلسفة هوسرل تبرز المسار العام لهذه الفلسفة وتسلط الضوء على الحوافز التي وجهت هذا المسار.

        يفهم هوسرل الفينومينولوجيا كمنهج فلسفي. كل منهج يتحدد حسب الغاية التي يسعى إلى بلوغها. غاية هوسرل يعبر عنها عنوان أحد مقالاته الذي صدر سنة "1911: الفلسفة كعلم صارم". هكذا يعود هوسرل إلى المعادلة التي تم ترسيخها منذ أرسطو بين الفلسفة والعلم، والتي تم التخلي عنها بعد هيجل. بهذا التحديد للفلسفة يعارض هوسرل تحديدين سائدين آنذاك. يرى أول هذين التحديدين أن الفلسفة لم يبق لها موضوع خاص بها بعد نشأة العلوم الحديثة واستقلالها، والمهمة الوحيدة المتبقية للفلسفة هي كتابة تاريخها. أما التحديد الآخر الذي يعارضه هوسرل فهو ذلك الذي يختزل الفلسفة إلى مجرد رؤية للعالم تعبر عن روح العصر الذي ظهرت فيه؛ فهي، وإن كانت تفيدنا في فهم الروح المهيمنة على عصرها، إلا أنه ليس من المشروع أن تطمح إلى الحقيقة والعلمية. إن كل فلسفة لا تقوم سوى بالتعبير عن روح العصر الذي ظهرت فيه، ولهذا فهي تبقى نسبية، وليس من حقها أن تدعي صلاحية تتعدى شرطيتها التاريخية.

        في نفس الوقت يختلف تحديد هوسرل للفلسفة كعلم صارم عن تصورين آخرين كانا متداولين في تلك الفترة. تصور أول يختزل الفلسفة إلى مجرد نظرية للعلم ويحصر مهمتها في استخلاص النظرية الضمنية للممارسة العلمية؛ وتصور آخر يدعو إلى أن تتكيف الفلسفة مع مناهج العلم الحديث.

        على خلاف كل ذلك يريد هوسرل إنشاء الفلسفة كمعرفة صارمة ومتحررة جذريا من كل الآراء والأحكام المسبقة. ظل هوسرل طوال حياته متشبثا بهذا التحديد، كما ظل طوال حياته يتلمس الطريق إلى ترجمة هذا التحديد بكيفية مشخصة، سواء في مؤلفاته النسقية أو دراساته الدقيقة المتعلقة بقضايا جزئية. سنحاول في هذه الدراسة أن نتابع هذا الطريق متوقفين عند أهم محطاته. ليس المهم هو أن نبقى عند هذه المحطات، بل هو أن نتابع معه الطريق؛ فكل محطة جديدة لا تلغي المحطة السابقة، بل تحاول أن تعمقها وتجذرها، لأنها لا تنشأ إلا عبر حل الإشكالات التي تطرحها والتفكير في الصعوبات التي تواجهها.

        نتوقف في المحطة الأولى عند الشكل الأول الذي اتخذته فينومينولوجيا هوسرل في مؤلف "أبحاث منطقية". أما المحطة الثانية فتتعلق بتحويل هوسرل للفينومينولوجيا إلى فلسفة ترنسندنتالية، ويشكل الكتاب الأول من مؤلف "أفكار من أجل فينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجية" لسنة 1913 علامتها البارزة. وأخيرا تعبر المحطة الثالثة عن فلسفة هوسرل المتأخرة التي اتخذ فيها مفهوم عالم العيش أهمية مركزية. لكي تكتمل صورة القارئ عن هذه المحطة أحيله إلى الدراسة التي نشرتها في العدد الأول من هذه المجلة تحت عنوان "هوسرل وأزمة الثقافة الأوربية".

1- الفلسفة كبحث في الماهيات:

        يحمل الكتاب الأول من مؤلف "أبحاث منطقية" عنوان "مقدمات للمنطق الخالص"، ويقوم فيه هوسرل بتفنيد دعاوي النزعة السيكولوجية التي كانت منتشرة في ألمانيا آنذاك. يقوم التوجه الأساسي للنزعة السيكولوجية على اعتبار أن العمليات المنطقية هي عمليات سيكولوجية تجري فعليا في الذهن البشري، وأن القوانين التي تعتبر منطقية ليست سوى القوانين العامة التي تجري حسبها هذه العمليات. فالقوانين المنطقية هي بالنسبة للعمليات السيكولوجية بمثابة القوانين الطبيعية بالنسبة لظواهر العالم المادي. إن ما يعتبر في نظر المناطقة قوانين منطقية لا يعدو أن يكون، حسب النزعة السيكولوجية، قوانين شبه طبيعية يجرى حسبها تفكيرنا بصفته معطى تجريبيا في العالم الواقعي يمكن دراسته بنفس الأساليب المنهجية التي تدرس بها ظواهر الطبيعة، بهذا المعنى فالنزعة السيكولوجية ترفض اعتبار القوانين المنطقية بمثابة قواعد أو معايير أو ضوابط للتفكير. هكذا تفسر النزعة السيكولوجية المنطق انطلاقا من السيكولوجيا وترفع هذه الأخيرة إلى مرتبة العلم الأساسي، في حين تجرد المنطق من أي موضوع خاص به. وحيث أن هوسرل يريد أن يؤسس المنطق كنظرية معيارية للعلم، لأنه في نظره هو أساس كل معرفة علمية، فإنه يبتدئ بنقد النزعة السيكولوجية وكشف مغالطاتها.

        ينبه هوسرل في "مقدمات للمنطق الخالص" إلى مخاطر النزعة السيكولوجية التي تتجلى أساسا في أنها تقود إلى نزعة نسبية متطرفة، بل وشكية، تقضي تماما على طموح العلم نحو معرفة صارمة لها صلاحية موضوعية. إلا أن حجر الزاوية في نقد هوسرل للنزعة السيكولوجية يقوم على بيان أنها تخلط السؤال عن التفكير الصحيح مع الوصف التجريبي للعمليات الفكرية، أي تخلط بين الفكرة بصفتها ما يتم تفكيره وبين عملية التفكير. وهكذا فهي تختزل العام المفكر إلى عمليات فعلية للوعي والتفكير. في مقابل ذلك يرى هوسرل بأن العام، الذي يشكل معيارا لتفكيرنا، صحيح باستقلال عن التفكير الفعلي الذي يمكن رصده تجريبيا وعن الوضعيات المعرفية الذاتية التي يتم إنجازه فيها؛ إنه قائم بذاته موضوعيا.

        لبيان الخلط الذي تقع فيه النزعة السيكولوجية يلجأ هوسرل إلى مثال الحكم. فالنزعة السيكولوجية لا تميز بين الحكم كعملية سيكولوجية تجري واقعيا والحكم كمضمون موضوعي مستقل عن الإنجاز الفعلي لهذه العملية من طرف وعي ما: الأول يمكن وصفه تجريبيا، أما الثاني فلا يقبل هذا النوع من الوصف؛ الأول هو عملية واقعية تجري في الزمان، أما الثاني فهو يتمتع بصلاحية فوق زمنية. فمثلا الحكم بأن 2+2=4 هو بالمعنى الأول عملية واقعية قد تجري اليوم أو غدا وقد تجري من قبلي أو من قبل غير. أما الحكم 2+2=4 كمضمون موضوعي فهو لا يتكرر، وهو يتمتع بصلاحية موضوعية سواء تم إنجازه بالفعل أو لا. الحكم بالمعنى الأول يدخل في مجال اهتمام السيكولوجيا، أما بالمعنى الثاني فينتمي إلى ميدان المنطق. وهذا يعني أن القوانين والبنيات المنطقية لها قيمة موضوعية وتتوفر على صلاحية عامة. هناك إذن فرق جوهري بين القوانين السيكولوجية التي تجري حسبها تفكيرنا من حيث هو عملية تحدث فعليا في العالم الواقعي، وبين القوانين المنطقية التي هي بمثابة قواعد "مثالية" للتفكير.

        يرتبط نقد هوسرل للنزعة السيكولوجية بالتأكيد على أن العام، سواء اتخذ شكل ماهيات أو مقولات، له وجود موضوعي وصلاحية موضوعية. والأمر الحاسم عند هوسرل هو أن العام يمكن أن يعطى هو أيضا في نوع خاص من الحدس. في هذه النقطة يعارض هوسرل وجهة نظر كنط. فهذا الأخير يرى أن الخاص، سواء أكان موضوعا للحس الخارجي أو للحس الداخلي، هو وحده يعطى في الحدس، كما يرى أنه ليس هناك إلا نوع واحد من الحدس هو الحدس الحسي. وعليه فالحساسية وحدها تحدس؛ أما الفهم فلا يحدس، بل فقط يوحد ويربط المتنوع المعطى في الحدس الحسي، وهو يقوم بعملية التوحيد والربط اعتمادا على المقولات. إن المقولات تتوفر حسب كنط على صلاحية عامة وموضوعية في مجال الظواهر، إلا أنها لا تعطى في الحدس، إنها وظائف كما يقول أو كيفيات للربط تنبثق تلقائيا من فعالية الفهم؛ فموطنها هو الذات كقدرة تمثلية، إنها جزء من بنية الذات. أم هوسرل فيخرج المقولات من دائرة الذات ويمنحها وجودا موضوعيا. صحيح أن وجودها يختلف جذريا عن وجود الأشياء الواقعية الحسية؛ إلا أن ذلك لا يمنع من أنها تتمتع بوجود موضوعي. وهذا ما ينطبق حسب هوسرل على الماهيات أيضا. إن المقولات والماهيات تعطى في نوع خاص للحدس. هكذا يتكلم هوسرل عن حدس المقولات وحدس الماهيات. صحيح أن هذا النوع من الحدس يحتاج دائما إلى قاعدة يستند إليها هي الحدس الحسي، إلا أنه لا يمكن إرجاعه إلى هذا الأخير واختزاله إليه. على أن هوسرل لا يقصد بالحدس عملية خارقة تحتاج إلى قدرات خاصة؛ إن الحدس عموما هو الكيفية التي يعطي بها موضوع ما بحيث يكون حاضرا أمامنا هو ذاته، بلحمه ودمه، كما يقول هوسرل. كما أننا في الإدراك الحسي نحدس الأجسام الخارجية بحيث تكون حاضرة أمامنا هي ذاتها، فإنه بإمكاننا أيضا أن نحدس ماهية رياضية أو قانونا منطقيا بحيث يكون ما نحدسه حاضرا أمامنا هو ذاته.

        إلا أن ذلك لا يعني، من جهة أخرى، أن العام يسبح في سماء المثل الأفلاطونية. إن ما هو صحيح موضوعيا لا يمكن بلوغه في مضمونه المستقل عن الإنجازات الذاتية الفعلية إلا من خلال كيفية ذاتية للعطاء مناسبة له. وهذا صحيح كذلك بالنسبة لقوانين المنطق. إنها كأفكار مرتبطة بإنجازات فكرية تتم في وضعيات معينة. وإذا فصلناها عن هذه الوضعيات فسيتحول المنطق إلى نسق من القواعد والإرشادات التقنية التي لا ترتبط بكيفيات للعطاء. إن شعار هوسرل هو: "إلى الأشياء ذاتها"، إلا أن الأشياء ذاتها لا تتضح بالنسبة لهوسرل إلا في إنجازات ذاتية. محل هذه الإنجازات هو الوعي البشري. لهذا سيصبح الوعي الخالص هو مجال البحث الخاص بالفينومينولوجيا الهوسرلية، وذلك على الأقل ابتداء من سنة 1913. لكن ما الذي يحمي الفينومينولوجيا التي تفهم ذاتها كبحث في الوعي من السقوط في النزعة السيكولوجية؟

        للإجابة على هذا السؤال يجب أن نستحضر هنا مفهوما مركزيا عند هوسرل هو قصدية الوعي. تعني قصدية الوعي أن كل وعي هو دائما وعي بشيء ما. إلا أن هذه الصيغة المشهورة لا تضم جديدا بالمقارنة مع فلسفات سابقة، بل وحتى مع تصورنا قبل الفلسفي. ما الذي يميز إذن تصور هوسرل للقصدية؟ وما هو الأمر الأساسي في هذا التصور؟

        يرتبط مفهوم القصدية عند هوسرل بفكرة التعالق بين فعل الوعي وموضوعه ارتباطا وثيقا. إن الوعي ليس وعاءا محايدا إزاء ما يمكن أن يملأ به، بل إنه يتكون من أفعال يتحدد طابع كل منها حسب نوع الموضوع الذي يتعلق به والذي لا يمكن أن يظهر للوعي إلا في كيفيات العطاء المناسبة له. إن الأفعال هي لا شيء دون الموضوعات التي هي وعي بها. إن الفعل القصدي، سواء أكان إدراكا أو تذكرا أو تخيلا، حبا أو كرها، رغبة أو نزوعا، قرارا عمليا أو تقييما أخلاقيا، يتحدد كمعيش يتعلق انطلاقا من ذاته بموضوع ما بهذه الكيفية أو تلك. في الكتاب الأول من "الأفكار" يستعمل هوسرل لفظ Noesis للدلالة على فعل الوعي، ولفظ Noema للدلالة على موضوع الوعي. يمكن القول: إن الوعي القصدي يحمل في ذاته الارتباط بالموضوع. من هذا المنطلق يكون هوسرل قد وضع الأساس لتجاوز ثنائية الذات والموضوع التي هيمنت على الفلسفة الحديثة برمتها.

        يوجد بين الموضوعات وبين كيفيات عطائها الذاتية المقيدة بوضعيات معينة تعالق يختلف طابعه الخاص حسب نوع الموضوع. لا يمكن فصل طرفي التعالق ولا يمكن النظر إلى الموضوع إلا من خلال كيفيات عطائه. والتعالق بين نوع الموضوع وكيفيات عطائه هو قانون يمكن صياغته بعمومية لا مشروطة ويتوفر على طابع قبلي. الموضوعات من حيث ظهورها للوعي في كيفيات للعطاء هي الظواهر التي تهتم بها الفينومينولوجيا.

        ضمن الكيفيات التي يعطى لنا فيها موضوع معين هناك دائما حسب هوسرل كيفية يعطى فيها الموضوع أصليا. فكل ما يمكن الحديث عنه بكيفية جدية يجب أن يكون من الممكن أن نصل إليه في كيفيات نوعية للعطاء الأصلي. كل موضوع يتعلق به الوعي يمكن أن يظهر لنا إما في كيفية أصلية، أي حدسيا، وإما في كيفية يعرف منها الوعي أن موضوعه غير معطى أصليا وأنه، لتحقيق أو تأكيد ما يقصده في تلك الكيفية غير الأصلية، يتوقف على كيفية أصلية للعطاء، دون أن ينجزها حاليا. إن الكيفيات غير الأصلية للعطاء تحيل الوعي إلى كيفيات أصلية يعطي فيها الموضوع حدسيا. وهذا ليس صحيحا بالنسبة للمعرفة النظرية فقط، بل بالنسبة لكل أفعال الوعي: الإدراك، الرغبة، النزوع، الحب، الاعتقاد، التقييم الأخلاقي..إلخ.

        ما يميز إذن تصور هوسرل للقصدية هو اعتباره أن الوعي يعيش إحالة وتوقفا على كيفيات أصلية للعطاء، أي على ما يسميه التقليد الفلسفي البداهة. لو لم يكن الوعي يتضمن معرفة بالإحالة ويمتلك القدرة على تحقيق ما يقصده في الكيفيات غير الأصلية للعطاء، لما كان له أي موضوع قصدي. لكي يكون هناك وعي بشيء يجب أن يكون الوعي عارفا بقدرته على أن يجعل هذا الشيء يظهر حدسيا. إن قصد الوعي لموضوع ما ليس ارتباطا سكونيا بشيء، بل إنه يحمل اتجاها نحو العطاء الأصلي. إن الوعي في كل أشكاله يجد "إشباعا" في الامتلاك الحدسي للموضوع.

        يطبق هوسرل فكرة إحالة كل تجربة على كيفيات أصلية للعطاء حتى على المعرفة الفلسفية ذاتها. ذلك أنه دون قرب من الأشياء، دون حدس، يبقى التفكير الفلسفي مجرد حجاج وتركيب فارغين. ضد هذا اللعب بالألفاظ والمفاهيم يطرح هوسرل الوصف الفينومينولوجي المستند إلى البداهة، إن مبدأ كل المبادئ بالنسبة للفلسفة هو أن كل حدس مصدر للمعرفة، هو أن كل ما يقدم لنا ذاته في الحدس، يجب أن نأخذه بالكيفية التي يعطانا بها. ينبغي على الفلسفة ألا تدعي أكثر ولا أقل مما يسمح به الحدس الذي يعطي الشيء بكيفية أصلية.

        إن الفهم القصدي للوعي يحمي من إذابة الموضوع الذي تتعلق به إنجازات الوعي في هذه الإنجازات على طريقة النزعة السيكولوجية؛ ذلك أن طابع أفعال الوعي يتحدد بالضبط انطلاقا من الموضوع الذي تتعلق به. والأمر الحاسم هنا هو أن ذلك صحيح بغض النظر عن الوجود الواقعي للموضوع المقصود. ويجب الإشارة هنا إلى أن هوسرل يستعمل لفظ الموضوع بمعنى واسع جدا للدلالة على كل ما يمكن أن يتعلق به فعل من أفعال الوعي، وليس فقط على الموضوع الذي له وجود واقعي. إن الموضوع القصدي لإدراكي الآن هو مثلا هذا الكرسي من حيث هو مدرك؛ وعندما أتخيل جبلا من ذهب، يكون هذا الجبل هو الموضوع القصدي الذي يتعلق به فعل تخيلي؛ كما يمكن أن يكون الموضوع ماهية رياضية أو قانونا منطقيا؛ بل قد أجعل فعل الوعي ذاته، كما يحدث في البحث الفينومينولوجي، موضوعا لإدراك داخلي.

        إن طابع إنجازات الوعي ليس تابعا للمعطيات التجريبية الموجودة عرضا، بل لماهية الموضوعات، أي للتحديد العام لأنواعها. وهكذا فهناك أنواع من الموضوعات أو قطاعات من الوجود، كما يقول هوسرل، تتمايز حسب ماهيتها التي يمكن أن تعطى في حدس أصلي. بناءا على مبدأ التعالق، هناك تقابل بين ماهية الموضوع وماهية الفعل القصدي الذي يتعلق به. ونظرا لأنه يمكن أن ننظر إلى الأفعال وموضوعاتها باستقلال عن الوقائع الجزئية القابلة للملاحظة التجريبية، فإن تعالقها له طابع قبلي.

        تتقدم أنواع الموضوعات وكيفيات عطائها للبحث الفلسفي كحقل من المعرفة المستقلة عن التجربة. والفينومينولوجيا تسعى لصياغة قوانين ماهوية عامة وضرورية تحدد بناء أفعال الوعي وبناء قطاعات الوجود التي تظهر فيها. إن رد الخصائص العارضة للأفعال القصدية ولموضوعاتها إلى تحديدات ماهوية تكون الخصائص العارضة بالنسبة لها مجرد أمثلة قابلة للاستبدال هو ما يسميه هوسرل الإرجاع الماهوي. يتطلب الإرجاع الماهوي إذن غض النظر عن الوقائع الجزئية لفائدة عمومية الماهيات.

        اعتبر أتباع هوسرل الأوائل التحول نحو الموضوع كنتيجة أساسية لنقد هوسرل للنزعة السيكولوجية بحيث أنهم رأوا أن عمله الأساسي يكمن في أنه أعاد للفلسفة توجهها نحو الموضوع، واعتقدوا أن ذلك من شأنه أن يحرر الفلسفة من أسرها في النزعة الذاتية التي ظهرت مع بداية العصر الحديث. لقد تم فهم التحول نحو الموضوع كإنقاذ للعام ولموضوعيته وبدأ الاهتمام بالعام في لمقام الأول في مجال الماهيات. هكذا شكل البحث في بنية ماهية مجالات الموضوعات والأفعال التي تتعلق بها مهمة الفينومينولوجيا بالنسبة لرفاق هوسرل في جوتنجن وميونيخ. إن تحليلاتهم الدقيقة للماهيات المنطقية والرياضية والأخلاقية والقانونية وغيرها جعلت من الفينومينولوجيا المبكرة منهجا لدراسة الماهيات قبل كل شيء. لكن عندما استخلص هوسرل في الكتاب الأول من "الأفكار" من الاهتمام بالوعي القصدي نتائج راديكالية تخطت حدود البحث الفينومينولوجي في الماهيات، رفضوا هذه النتائج ورأوا فيها سقوطا في النزعة الذاتية.

2- الفينومينولوجيا كفلسفة ترنسندنتالية:

        تريد الفينومينولوجيا بلوغ معرفة صارمة متحررة جذريا من كل المسبقات، إلا أنها لن تستطيع تحقيق هذا الهدف إذا بقيت مقتصرة على دراسة ماهيات مجالات محددة أو قطاعات من الوجود؛ ذلك أنه، في هذه الحالة، يبقى الخطر قائما في أن تظل تحليلاتها تحت تأثير مسبقات خفية قادمة من مجالات لم تندرج بعد في المعرفة الفينومينولوجية. لكي تتجنب الفينومينولوجيا هذا الخطر، يجب أن تتحول إلى فلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة، أي إلى معرفة بكلية الموجود. يسمي هوسرل كلية الموجود العالم.

        يحدد هوسرل مفهومه للمعرفة الفلسفية انطلاقا من تعارضها مع الموقف الطبيعي، أي مع الموقف الذي يتبناه الإنسان تلقائيا وضمنيا قبل كل فلسفة. لهذا يجب البدء بتحديد الكيفية التي يبدو بها العالم للإنسان في الموقف الطبيعي.

        بناءا على مبدأ التعالق يصف هوسرل الموقف الطبيعي كما يلي: تظهر لي الموضوعات في كيفيات للعطاء مشروطة بوضعيات معينة. إن الطاولة مثلا لا يمكن أن تعطى إلا بحيث أنه في كل مرة يظهر لي جانب أو مظهر منها. هذه المظاهر لها طابع ذاتي نسبي لأنها مرتبطة بوضعيات ذاتية نسبية للعطاء. ومع ذلك فأنا أنسب للطاولة وجودا موضوعيا يتخطى كيفيات عطائها الذاتية النسبية، إنني أعني بالموضوع أكثر مما يظهر لي منه في كل كيفية للعطاء. في الموقف الطبيعي نكون مقتنعين تلقائيا بأن الموضوع قائم في ذاته وأن وجوده يتعالى على ظهوره الذاتي النسبي. بهذا المعنى فإن الوعي يصدر في الموقف الطبيعي  "حكما" ضمنيا حول وجود الموضوعات، إنه يتضمن في العادة وضعا أو إثباتا لوجود موضوعه. هذا الاقتناع التلقائي بوجود الموضوعات يتعلق في البداية بالموضوعات الفردية للأفعال القصدية، إلا أننا عندما نتفحص الأمر نجد أنه يشمل كلية الموضوعات، أي العالم.

        يصاحب الاقتناع الضمني بوجود العالم كل وعي فردي بالموضوع. كل فعل قصدي يتوفر على إمكانية توجيه الانتباه من الموضوع المعطى الآن إلى موضوعات أخرى. كما أنني مثلا عند رؤية الجانب الأمامي من الطاولة أكون واعيا بأنني أستطيع أن أدور حولها وأن أرى جانبها الخلفي، فإنني عند إدراك الطاولة أكون واعيا بأنني أستطيع أن أجعل نظري يجوب الحجرة التي توجد فيها وبأنني أستطيع أن أنظر من النافذة وأن أكتشف من هناك موضوعات أخرى، وهكذا. إن فعلي القصدي المشخص يرسم لي إذن مجالا من الإمكانيات للاهتمام التدريجي بموضوعات أخرى. إنني أتوفر على هذا المجال بحرية، لكن ليس بكيفية اعتباطية. إن الكيفية التي اهتم حسبها بالأشياء تخضع لنظام أنا متآلف نعه بكيفية ضمنية. هكذا يكون لدي دائما وعي بالإحالة من موضوع إلى موضوعات أخرى.

        يسمي هوسرل الألفة مع سياق الإحالات الذي يمكنني أن أتابع داخله تجربتي وعي الأفق، ويسمي مجال التجربة الذي ينفتح بفضله الأفق. الأفق هو دائرة رؤيتي، قطاع العالم المتوجه نحوي أنا كنقطة مركزية، إنه مجال لإمكانيات تجربتي. هكذا يمكن اعتبار وعي الأفق وعيا بإمكانياتي. وكما تحيل موضوعات التجربة بعضها إلى البعض، فإن الآفاق هي كذلك يحيل بعضها إلى البعض، وبفضل هذه الإحالة بين الآفاق ينفتح أفق شامل، أفق لكل الآفاق، هذا الأفق هو العالم.

        في مسار تجربتنا اليومية لا نتوصل دائما إلى تأكيد أو تحقيق اعتقاداتنا بوجود موضوعات معينة، بل كذلك إخفاقات. هكذا يتبين لنا أحيانا أن الموضوع الذي اعتقدنا في وجوده غير موجود، أو أن الصفة التي نسبناها له لا يوجد فيه. ولكن مع ذلك يبقى هناك اعتقاد أساسي لا يمكن المساس به هو الاعتقاد بوجود العالم كأرضية نضع عليها بمعنى ما كل الموضوعات. وهكذا يبقى الاعتقاد في وجود العالم قائم الصلاحية حتى إذا اضطررنا إلى حذف ادعاء وجود أو كيفية وجود هذا الموضوع أو ذاك. هذا الاعتقاد الضمني بوجود العالم يسميه هوسرل الأطروحة العامة للموقف الطبيعي.

        إن الإنسان يتوفر إذن في حياته الطبيعية على موقف ضمني من العالم، والمطروح على الفينومينولوجيا هو تحويل هذا الموقف الطبيعي إلى موقف فلسفي. يتحدد أفق العالم كمجال لإمكانيات تجربتي، لهذا فإن الاهتمام به صراحة لا يمكن أن يتم إلا عبر الاهتمام بالكيفيات الذاتية لعطاء الموضوعات. إن الوعي القصدي يكون في الموقف الطبيعي غارقا في الموضوعات التي ينصب عليها اهتمامه والتي يعيش في اعتقاد تلقائي بوجودها. أما كيفيات العطاء التي من خلالها يتعلق الوعي بموضوعاته، فتبقى في العادة خارج دائرة انتباهنا. لكن الفينومينولوجي يجعل من كيفيات العطاء التي تنجزها دون أن نعير لها بالا محط اهتمامه. إن اهتمامه لا يتجه قط نحو الموضوع الذي يقصده الوعي، بل نحو الموضوع في كيفيات عطائه للوعي وفي اندراج هذه الكيفيات في أفق العالم. إنه يتوقف عن إنجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات المقصودة ويتحول إلى ملاحظ غير مهتم أو غير مشارك. وهذا لا يعني أنه يتخذ موقفا شكيا ينفي وجود هذه الموضوعات، بل إنه يتوقف عن اتخاذ أي موقف يتعلق بوجود الموضوعات سواء أكان إثباتا أو نفيا أو موقفا وسطا بينهما. وبدون ذلك لن يتمكن من بلوغ ما يبقى خارج مجال الاهتمام في الحياة الطبيعية: كيفيات العطاء ووعي الأفق. إن التوقف عن اتخاذ أي موقف من هذا النوع، أي الحياد إزاء كل أشكاله الممكنة يسميه هوسرل تعليق الحكم، الإيبوخي. إن حالة الإيبوخي إزاء العالم هي الحالة التي تميز الموقف الفلسفي عن الموقف الطبيعي. الإيبوخي هو التوقف عن إنجاز الأطروحة العامة للموقف الطبيعي، وهو ما يتيح للفينومينولوجي إرجاع الموضوعات والعالم إلى كيفيات عطائها، هذا الإرجاع يسميه هوسرل الإرجاع الفينومينولوجي أو الترنسندنتالي، وهو ما يسمح بدراسة الموضوعات في تعالقها مع الكيفيات الذاتية لعطائها. إن الموضوعات منظورا إليها كمعالقات للكيفيات الذاتية للعطاء هي ما يسميه هوسرل الظواهر، وهي ما تهتم به الفينومينولوجيا.

        في الكتاب الأول من مؤلف "الأفكار" يضع هوسرل الفينومينولوجيا في إطار الفلسفة الترنسندنتالية. يحدد كنط في مقدمة الطبعة الثانية من "نقد العقل الخالص" الفلسفة الترنسندنتالية بأنها لا تهتم بالموضوعات، بل بكيفيتنا القبلية لمعرفة هذه الموضوعات. يوسع هوسرل مجال الفلسفة الترنسندنتالية بحيث أنه لا يقتصر حسبه على معرفة الموضوعات، بل يشمل كل العلاقات الممكنة للوعي بموضوعاته، أي كل أشكال ظهور أو عطاء الموضوعات، كل أشكال تعلق الوعي بموضوعه القصدي: نزوع، رغبة، حب، اهتمام عملي، تقييم أخلاقي. إلا أن هوسرل رغم هذا التوسيع يلتزم بتحديد كنط للفلسفة الترنسندنتالية، فالفينومينولوجيا هي فلسفة ترنسندنتالية لأنها لا تتساءل مباشرة عن موضوعات الوعي، بل عن الكيفيات التي تعطى بها هذه الموضوعات للوعي، ولأنها تعتبر أن هذه الكيفيات قبلية.

        لكي تكون الفينومينولوجيا فلسفة ترنسندنتالية يجب أن يكون الإيبوخي شموليا، أي يجب ألا يستثنى أي موقف إزاء وجود الموضوعات. لهذا يجد هوسرل ذاته أمام الصعوبة التالية: إن القضايا التي يصدرها الفينومينولوجي حول كيفيات عطاء الموضوعات تتضمن هي أيضا موقفا من وجود هذه الكيفيات، وبدون ذلك ستنتهي الفينومينولوجيا إلى موقف شبيه بالموقف الشكي. إن الفينومينولوجيا تحتاج إذن إلى مجال يستثنى منه الإيبوخي ويمكن أن نصدر فيه أحكاما وادعاءات، وحيث أن أحكام الفينومينولوجيا تتعلق بالأفعال القصدية للوعي، فلن يكون هذا المجال الذي نبحث عنه إلا الوعي. لكن كيف يمكن الجمع بين هذا الاستثناء وبين شمولية الإيبوخي؟

        نعتقد في الموقف الطبيعي أن الوعي خاصية الإنسان الذي هو جزء من العالم. الإيبوخي الشمولي هو التوقف عن إنجاز الاعتقاد الطبيعي بوجود العالم. لو كان الوعي ينتمي للعالم، لو كان وجود الوعي مثل وجود موضوعات العالم، لكان من غير الممكن بعد إنجاز الإيبوخي أن ننسب الوجود للوعي وأفعاله. هكذا فلكي يؤكد هوسرل أن إنجاز الإيبوخي الشمولي لا يتعارض مع إصدار أحكام وادعاءات تتعلق بمجال الوعي، كان عليه أن يبين بأن الوعي الخالص لا ينتمي إلى العالم، وأن نمط وجوده يختلف عن نمط وجود الموضوعات في العالم، بحيث أنه، رغم إنجاز الإيبوخي الشمولي بصدد العالم، يبقى هناك مجال خاص يمكن أن نصدر فيه أحكاما بالوجود هو مجال الوعي الخالص الذي يشكل ميدان بحث الفينومينولوجيا.

        بناءا على مبدأ التعالق يبين هوسرل الاختلاف الجذري بين نمط وجود الموضوعات في العالم ونمط وجود الوعي من خلال التمييز بين كيفية عطاء كل منهما. يتميز الوعي بخاصية أساسية هي إمكانية الارتباط الداخلي بذاته. عندما يدرك الوعي فعلا من أفعاله القصدية، فإن هذا الفعل يكون محايثا له، إنه لا يعطى للوعي بكيفية نسبية في مظاهر أو مقاطع متنوعة، بل إنه يعطى بكيفية مطلقة. على خلاف ذلك تتميز الموضوعات الخارجية بأنها متعالية على الوعي، أي تتخطى دائرته الداخلية، إنها لا تعطى إلا بكيفية نسبية في مقاطع أو مظاهر. نظرا لأن هذه الموضوعات الخارجية تعطى بكيفية نسبية، فإنه يمكن في أي وقت تشطيب ادعاء وجودها، فنسبية العطاء تعني إمكانية الخداع. لهذا يمكن مبدئيا التفكير في انهيار الاعتقاد في وجود العالم بأكمله؛ أما ادعاء وجود الوعي، فهو بسبب عطائه المطلق لا يمكن تشطيبه. إن ظواهر الوعي عناصر محايثة للوعي، إن وجودها فوق كل شك، لأنها متضمنة كأجراء في تيار الوعي، أما موضوعات العالم الواقعية التي تتوفر على وجود متعال خارج تيار الأفعال المحايثة للوعي، فهي غير أكيدة. بناءا على مبدأ التعالق يمكن القول إن الوعي يتمتع بوجود مطلق يختلف عن الوجود النسبي للموضوعات في العالم. ينعت هوسرل مختلف معطيات الوعي بأنها reell، ويعني ذلك أنها توجد كلحظات متضمنة في تيار الوعي. أما موضوعات العالم فينعتها بأنها real، بمعنى أنها قائمة خارج مجال الوعي؛ وحيث أنها غير متضمنة في تيار الوعي، يقول عنها هوسرل إنها irreell.

        بعد إنجاز الإيبوخي والإرجاع الفينومينولوجي تبقى المهمة المطروحة على الفلسفة الفينومينولوجية هي تفسير كيف يتوصل الوعي إلى الاعتقاد بوجود موضوعات متعالية عليه، أي كيف يتخطى دائرته الداخلية وينسب للموضوعات في العالم وجودا قائما بذاته، إن كون الوعي يعتبر أنواعا من الموضوعات موجودة في ذاتها يجب أن يفسر انطلاقا من ظهورها في كيفيات مناسبة للعطاء. عندما يتخطى الوعي بناءا على حوافز معينة العطاء الأصلي الذاتي النسبي، يتأسس كيان العالم مع مجالات موضوعاته المتمايزة حسب ماهياتها. هذا التأسيس للعالم انطلاقا من إنجازات التعالي التي يقوم بها الوعي حس حوافز معينة يسميه هوسرل البناء. هكذا تتحول المهمة الأساسية لبحث التعالقات في الفينومينولوجيا الترنسندنتالية إلى تحليل بناء مختلف مجالات الموضوعات. كيف يتم تحليل البناء؟ نوضح ذلك من خلال المثال الآتي.

        إن ظهور الموضوعات يتم عند الملاحظة الدقيقة كما يلي: كل موضوع يمثل لي في الموقف الطبيعي كشيء مطابق لذاته، كموضوع واحد، إلا أنه يقدم لي ذاته في كيفيات متعددة للعطاء تختلف حسب وضعيات ذاتية. إن كون العالم يظهر لنا في الموقف الطبيعي بموضوعات ثابتة، مطابقة لذاتها وقائمة بذاتها، يعني أن هذه الموضوعات هي أكثر مما يعطى في كل وضعية ذاتية نسبية. إن الموضوعات لا تنحل إلى ما يعطى في كل مرة. كل موضوع يقابلني كشيء له وجود يتخطى تعددية كيفيات العطاء ويتعالى عليها. على أن تأويل الموضوعات بصفتها متعالية ينبغي أن يكون له حافز، ولا يمكن أن يكمن هذا الحافز إلا في الظهور الذاتي النسبي. تتحدد المهمة الأساسية لتحليلات البناء في توضيح هذه الحوافز بالنسبة لأنواع مختلفة من الموضوعات. إن تحليلات البناء تكشف عن الكيفية التي يحفز بها إنجاز كيفيات أصلية للعطاء الوعي إلى تخطي هذه الكيفيات نحو أنواع معينة من الموضوعات وبالتالي إلى الاعتقاد في وجود الموضوعات والعالم. هوسرل ينعت كذلك الفينومينولوجيا بأنها فلسفة ترنسندنتالية transzendental لأنها كتحليل للبناء تفسر هذا التعالي Transzendenz.

        يتعلق كل تحليل من تحليلات البناء بمجال محدد من الموضوعات، إنه يظهر كيف يتم التوصل إلى الاعتقاد في وجود موضوعات تنتمي لنوع محدد من الموجودات. الخيط الموجه لهذا التحليل هو البنيات العامة لماهيات هذه المجالات من الموضوعات: موضوعات الإدراك، الأعداد، الدلالات اللغوية، قواعد الحق، القيم الأخلاقية..إلخ. بنيات هذه الماهيات يتم التوصل إليها، كما قيل سابقا، عن طريق الإرجاع الماهوي.

        هذا الشكل الذي اتخذته فينومينولوجيا هوسرل بعد ما يسمى بالتحول الترنسندنتالي لم يكن ليرضي رفاقه وأتباعه في جوتنجن وميونيخ. لقد رأى نقاد هوسرل داخل الحركة الفينومينولوجية في الإرجاع الفينومينولوجي أو الترنسندنتالي إفقارا. فالعودة إلى الوعي تفصل الفلسفة عن الوجود الموضوعي في امتلائه، وممارسة الإيبوخي تعني في نهاية الأمر عدم الاهتمام بالموضوعات. بل رأى البعض في التحول الترنسندنتالي سقوطا في النزعة الذاتية وتراجعا عن الاكتشافات الحاسمة لهوسرل في "أبحاثه المنطقية". فبفضل تصور هوسرل للقصدية تم مبدئيا فتح الطريق لتجاوز المشكلة الديكارتية للداخل والخارج. إلا أن هذه المشكلة تعود من جديد، لأن هوسرل يبالغ في التأكيد على الطابع الذاتي لكيفيات العطاء. وهذا تأويل وحيد الجانب. أكيد أن كيفيات العطاء ذاتية من حيث أنها الكيفيات التي ينجز بها الوعي القصدي أفعاله، لكنها بالإضافة إلى ذلك وفي نفس الوقت كيفيات لظهور الأشياء، كيفيات يتجلى بها الموجود ويقدم ذاته من خلالها. إننا لا يمكن أن ندرك خصوصيتها عندما نتساءل بوحي من ديكارت: هل ينبغي أن ننسبها للعالم الخارجي أو للمجال الداخلي للوعي. إنها تفجر هذه الثنائية، إنها المجال الوسطي الذي يفتح أصليا بعد الظهور القصدي. ولقد كان هذا الاكتشاف حاسما حيث فتح به هوسرل إمكانيات جديدة للتفكير الفلسفي. لقد كان هوسرل بدوره واعيا بهذه الصعوبات، وسيعمل جاهدا على تجاوزها سواء من خلال تطوير منهجه الفينومينولوجي أو من خلال أبحاثه الجزئية.

3- الفينومينولوجيا كنظرية لعالم العيش:

        إن حرص هوسرل على أن تكون الفينومينولوجيا علما صارما متحررا جذريا من كل المسبقات جعله يحول الفينومينولوجيا من بحث في الماهيات إلى فلسفة ترنسندنتالية توضح بناء موضوعات الوعي. لكن لكي تكون الفينومينولوجيا فلسفة ترنسندنتالية بمعنى الكلمة يجب أن تنشئ ترابطا نسقيا بين مختلف تحليلات البناء. لم يتمكن هوسرل في البداية من توسيع تحليل بناء مجالات الموضوعات إلى بناء العالم، لأه كان يتصور الانفعالية والفعالية كطبقتين للوعي مستقلتين. هذا التصور استوحاه هوسرل من التمييز الكنطي بين التقبلية والتلقائية، تقبلية الحساسية وتلقائية التفكير؛ إلا أنه سيتخلى عنه فيما بعد بأن يبين أن الشروط الانفعالية تتضمن هي كذلك فعالية وأن كل الإنجازات الفعالة للوعي تخضع هي الأخرى للانفعالية.

        إن كل الأشكال الانفعالية للوعي تتضمن فعالية، حتى تأثرنا الحسي بالموضوعات الخارجية لا يمكن أن يتم إلا بفضل مشاركة وعينا الحسي-الحركي؛ لكي أدرك موضوعا ما يجب أن أفتح عيني، أن أحرك رأسي، أن أمعن النظر، أن أصيخ السمع..إلخ. كما أن كل الإنجازات الفعالة التي تبتكر موضوعا جديدا تتحول إلى عادات. هذا التعود أو الترسب الذي يحدث في الوعي هو مسلسل انفعالي، لأن الفعل الخلاق للتأسيس الأصلي يتم نسيانه. وهذا معناه أنه بفضل الترسب الانفعالي للتأسيس الأصلي يتكون أفق يعيش فيه الوعي دون أن يكون مضطرا إلى أن يعيد إنجاز النشأة الأصلية لهذا الأفق في فعالية التأسيس الأصلي.

        بفضل هذه الفكرة ستتخذ تحليلات البناء بعدا جديدا تماما. إن محط اهتمامها الأساسي سيصبح هو التاريخ الداخلي للوعي، هذا التاريخ الذي فيه يتكون ويغتني أفق الوعي. هكذا تتحول الفينومينولوجيا إلى فينومينولوجيا تكوينية. على أن تمييز هوسرل بين الفينومينولوجيا الستاتيكية والفينومينولوجيا التكوينية لا يعني أن هناك تعارضا بينهما، فهو يعتبرهما إمكانيتين متكاملتين للتحليل.

        تنطلق الفينومينولوجيا الستاتيكية من أنواع من الموضوعات الثابتة، موضوعات واقعية مثل أشياء الطبيعة أو موضوعات مثالية مثل قضايا الرياضيات، وتفحص سياقات المعيشات التي تسمح ببناء هذه الأنواع من الموضوعات. هذه الموضوعات ينظر إليها في إطار الإرجاع الفينومينولوجي كمعالقات موضوعية لكيفيات من الوعي. والهدف هنا هو توضيح معنى وصلاحية هذه الموضوعات بالرجوع إلى أنساق ظهورها وأنساق تأكيدها في كيفيات أصلية للعطاء. هذه الأنساق هي قواعد لعمليات زمنية، لكن هذه العمليات ليست سوى المعالقات الذاتية لقطب ثابت مطابق لذاته، أي للموضوع الثابت الذي يظهر فيها. أما في الفينومينولوجيا التكوينية فالأمر لن يبقى متعلقا بتحليل هذه الأنساق العلائقية الجاهزة، بل بالتساؤل عن تكوينها، إنها لا تكتفي بمتابعة بناء الموضوعات، بل تنتقل إلى متابعة تكوين هذا البناء.

        الفكرة الأساسية للفينومينولوجيا التكوينية عند هوسرل هي أن الأنا ليس قطبا ثابتا مطابقا لذاته، إنه ليس مجرد صورة للأفعال والمعيشات القصدية المتتالية، كما كان يرى هوسرل في الكتاب الأول من "الأفكار" بوحي من كنط، بل هو أنا له قدرات، مواقف واقتناعات. في هذه القدرات والاقتناعات فقط يعطى للأنا عالم كأفق للاستطاعة يستطيع انطلاقا منه أن يجعل الموضوعات تعطى. هذه القدرات والاقتناعات تحيل إلى تجارب ومواقف سابقة، إنها تعودات مكتسبة من طرف الأنا لها أصلها التكويني وتاريخها. هذا التاريخ هو في نفس الوقت تاريخ الأنا وتاريخ موضوعاته، هو تاريخ مشروط من قبل مجموع ما خبرناه سواء بواسطة تجارب خاصة بنا نحن أنفسنا أو بواسطة التعلم من الآخرين والتواصل معهم. إن ذخيرة تجربتنا هي ذخيرة جماعية، حتى إنجازات الآخرين تدخل إليها وتندمج فيها، فهم يشاركون في تحديد العالم الذي نعيش فيه. لكن ذخيرة التجربة ليست ساكنة، إنها تتغير باستمرار وتتوسع، بل قد تصل إلى حد تكسير حدود العالم المعطى مسبقا. هكذا يحيل أفق إمكانيات تجربتنا ضرورة إلى صيرورة تاريخية جماعية.

        في حين أن الفينومينولوجيا الستاتيكية توضح أنساقا بنائية جاهزة تم تشكيلها مسبقا بأن تصف من خلال قوانين ماهوية المسارات المضبوطة للمعيشات القصدية التي تعطى فيها موضوعات من نوع معين، فإن الفينومينولوجيا التكوينية تسأل عن أصل هذه الأنساق، إن الأمر يتعلق فيها بتكوين هذا البناء وفي نفس الوقت بتكوين الموضوع الذي تم بناؤه. إن الموضوع لا ينظر إليه كقطب ثابت مطابق لذاته كما هو الأمر في الفينومينولوجيا الستاتيكية، بل ينظر إليه في صيرورته. الفينومينولوجيا التكوينية تتابع تاريخ الموضوع ذاته كموضوع لوعي ممكن. لكن يجب الإشارة هنا إلى الأمر لا يتعلق بتاريخ لأحداث فردية وعارضة، بل بتاريخ له طابع قبلي، لأن الفينومينولوجيا التكوينية تسعى إلى استخلاص قوانين ماهوية للتزامن والتعاقب.

        يميز هوسرل في الفينومينولوجيا التكوينية بين مجالين أساسين للتكوين: التكوين الفعال والتكوين الانفعالي. ينتمي للتكوين الفعال الإنجازات الخلاقة التي تؤدي مثلا إلى ابتكار نتاجات ثقافية واقعية (أدوات، آثار فنية، معمار...) وموضوعات مثالية (محمولات، استنتاجات، نظريات، مجموعات وأعداد...). إن أشكال المعنى التي يتم بناؤها في الوعي تضم بكيفية ضمنية تاريخا مترسبا، وللوصول إلى وضوح بشأن هذه الأشكال يجب الكشف عن هذا التاريخ. ويتم ذلك بإبراز الشكل الأكثر أصلية الذي يحيل إليه الشكل المدروس والفعالية الأصلية التي تم بفضلها بناء هذا الشكل المدروس على أساس الشكل الأكثر أصلية. هذا مثلا في مجال المنطق هو مشروع هوسرل في مؤلفه "المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي". والتحليل الفينومينولوجي التكويني ضروري في كل المجالات، لأن التأسيس الأصلي لكل أشكال المعنى يتم نسيانه، ولأن علاقة الوعي بهذه الأشكال تتحول تدريجيا إلى علاقة انفعالية. إن أشكال المعنى التي يتم بناؤها في فعالية للوعي تتحول هي كذلك إلى مكسب مترسب وتتخذ طابعا انفعاليا.

        أما المجال الثاني للتكوين فهو التكوين الانفعالي. إن كل فعالية تفترض تكوينا انفعاليا لآفاق أولية. هذا التكوين ليس له بدء في التاريخ الداخلي للوعي، بل إنه يوجد في كل وقت. ينتمي إلى هذا التكوين الانفعالي بناء الزمان، التداعي، الوعي الحسي-الحركي الذي يقصد به هوسرل الوعي القائم على مساهمتي الفعالة في الإدراك الحسي بفضل حركات أعضائي الحسية ومشاركة عضوي الحاس أي الجسم. إلا أن كل هذه السيرورات الانفعالية تتضمن أشكالا أولية للفعالية. وهكذا فليست هناك انفعالية خالصة ولا فعالية خالصة؛ كل انفعالية تحتوي أشكالا أولية للفعالية، وكل فعالية يتم تطويقها من قبل الانفعالية.

        إنه فقط بفضل فينومينولوجيا التكوين الفعال والانفعالي يمكن إنجاز التوحيد النسقي لكل تحليلات البناء في إطار شامل بحيث يتبين أن الوعي لا يبني موضوعات معزولة، بل آفاقا، وبالتالي يبني أفق الآفاق الذي هو العالم. بذلك فقط يمكن أن تصبح الفينومينولوجيا أخيرا فلسفة ترنسندنتالية، أي مساءلة لكلية الكائن من حيث ظهوره في الوعي. وسيلح هوسرل في مرحلته المتأخرة على أن إنشاء نظرية للعالم هو المهمة الأساسية للفينومينولوجيا. لهذا فإن مسألة العالم تتخذ في سياق تحليلات مؤلف هوسرل المتأخر "أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية" مكانة متميزة.

        تحاول تحليلات هذا المؤلف أن تشخص أزمة المعنى والتوجه التي ترتبط بإضفاء الطابع العلمي والتقني على العالم والحياة في العصور الحديثة. يرجع هوسرل هذه الأزمة إلى سيطرة النزعة الموضوعية وتأويلها الضيق للعلم. فالنموذج الحديث للموضوعية العلمية اللامشروطة يعتبر أن ما هو صحيح علميا ينبغي أن يكون متحررا من كل نسبية وذاتية للعطاء. إن النزعة الموضوعية تعتبر أن العالم الذي تهتم به المعرفة العلمية يجب أن يكون منقطع الصلة جذريا مع الآفاق الذاتية النسبية للتجربة. فالعالم في نظرها ليس سوى كلية الموضوعات التي توجد باستقلال عن كل تجربة وعن كل وضعية ذاتية نسبية، والتي يمكن متابعتها بمناهج ملائمة في مسلسل لانهائي للبحث من أجل معرفتها كما هي في ذاتها. إن النزعة الموضوعية تفصل إذن الموضوعات عن عطائها الذاتي النسبي في أفق العالم، كما تفصل العالم عن طابعه الأفقي.

        في هذه النقطة بالضبط يكمن المشكل حسب هوسرل، ذلك أن العالم عندما يتم فصله جذريا عن طابعه الأفقي يفقد طابعه الإنساني أيضا. إن ما هو إنساني عند هوسرل يتجسد في الحرية مفهومة كمسؤولية أتحملها كأنا ترنسندنتالي لا يمكن أن يتحول إلى موضوع. إنني مسؤول عن فعلي، وفعلي يقوم على اختيار إمكانيات، هذه الإمكانيات هي إمكانيات في العالم، أي إنها مرتبطة بوعي الأفق. إن الآفاق هي مجالات للتجربة تنفتح في الفعل وبفضله، فلا يمكن فصلها عن الإنسان بوصفه ذاتا فاعلة مسؤولة. إن محاولة العلم الحديث والنزعة الموضوعية المرتبطة به فصل وجود العالم بكيفية جذرية عن ظهوره الأفقي يؤدي إلى فقدان علاقة البحث بمسؤولية الفعل؛ فالبحث مفهوما كعملية لا نهاية متجسدة في إجراءات تقنية منهجية يتحول إلى عمل منفصل عن المسؤولية. إن أزمة العلوم الأوربية تكمن في فقدان المعنى الذي ينشأ عن أن عالما مستقلا تماما عن الذات سيلغي، إذا وجد، مسؤولية الإنسان.

        ورغم أن الإنسان يشعر أكثر فأكثر بأزمة المعنى والتوجه التي تعرفها الحياة الحديثة، فإنه لا يرى مخرجا من هذه الأزمة. فجذور الأزمة ترتبط بالتأسيس الأصلي للعلم الحديث. لكن نظرا لأن هذا التأسيس يصبح، مثل كل تأسيس أصلي، عادة بفضل الترسب الانفعالي، فإن الأصل التاريخي لنموذج الموضوعية يتم نسيانه، بحيث أن قاعدة الموضوعية اللامشروطة تصبح أمرا بديهيا. هكذا ينشأ الموقف المعرفي الموضوعي النزعة الذي يقود إلى أزمة للمعنى في العلم الحديث وفي الحياة التي أصبح هذا العلم يؤطرها ويوجهها. إن الخروج من هذه الأزمة يتطلب حسب هوسرل تفنيد النزعة الموضوعية وكشف مغالطاتها وتحريفاتها عن طريق تحليل يستعيد التأسيس الأصلي للعلم الحديث.

        سبق لهوسرل أن قام في الكتاب الثاني من مؤلف "الأفكار"، "أبحاث فينومينولوجية في البناء" الذي لم ينشر إلا بعد وفاته، بدراسة الكيفية التي يبني بها الوعي النظرية العلمية الفيزيائية ومعالقها الموضوعي: الطبيعة الفيزيائية. إلا أن هذه الدراسة بقيت في حدود الفينومينولوجيا الستاتيكية. لكن اكتشاف هوسرل للبعد التاريخي للوعي من خلال نظرية البناء التكويني سيمكنه في مؤلف "الأزمة" من ربط "العلوم الأوربية" بسلسلة من الإنجازات المرتبطة بتاريخ الفلسفة والعلم كان تأسيس علم الطبيعة الرياضي الحديث تتويجا لها.

        يبين هوسرل في تحليل دقيق كيف أن علم الطبيعة الحديث بقوانينه ونظرياته الموضوعية الدقيقة مدين بوجوده لإنجازات ذاتية للوعي القصدي. هذه الإنجازات تستند إلى معطيات التجربة اليومية السابقة للعلم. إن علم الطبيعة الحديث، إذ ينسى الإنجازات الخلاقة التي أدت إلى وجوده، ينسيك ذلك أساسه الذي هو التجارب اليومية التي تعطي في أفق العالم بكيفية نسبية ذاتية. إن النزعة الموضوعية تقوم على نسيان عالم العيش بصفته الأفق الذاتي النسبي لكل إمكانيات تجربتنا والأرضية التي تنشأ عليها كل ممارساتنا بما فيها الممارسة العلمية.

        يستعمل هوسرل مفهوم عالم العيش لكي يميز العالم كما تفهمه الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عن العالم كما تفهمه النزعة الموضوعية أي ككلية الموضوعات القائمة في ذاتها. إن عالم العيش هو عالم تجربتنا اليومية، العالم الذي نعيش فيه قبل كل موقف علمي أو نظري والذي تعطى فيه الأشياء في وضعيات ذاتية ونسبية. هذا العالم هو الأفق الشامل لكل ممارساتنا النظرية والعلمية. وحتى العالم كما تتصوره النظريات والقوانين العلمية والذي تدعي النزعة الموضوعية استقلاله المطلق عن كل نسبية إلى الذات لا يمكن أن يقوم إلا على أساس عالم العيش. إنه هو أيضا لا ينفلت من مبدأ التعالق بين الموضوع من جهة والظهور الذاتي النسبي في كيفيات للعطاء من جهة أخرى. إن موضوعات العلم الدقيق هي أيضا أشكال للمعنى مدينة بوجودها لإنجازات ذاتية، لممارسة نظرية خاصة تنتمي هي ذاتها إلى العيش في عالم العيش.

        إن عالم العيش هو في وجوده المشخص ليس سوى العالم الشامل الواحد، الأفق الشامل الذي يتعلق به الموقف الطبيعي. أكيد أن مفهوم العالم سيعرف الآن اغتناءا بالمقارنة مع صيغته السابقة في الكتاب الأول من "الأفكار"، إن عالم الموقف الطبيعي هو الآن عالم يغتني تاريخيا بالممارسات والترسبات التي تحدث داخله، إنه العالم التاريخي المشخص.

        مع سيطرة النزعة الموضوعية يسود الاعتقاد بأن العالم هو موضوع الأبحاث العلمية الجزئية، وهذا يقود إلى الادعاء بأن الفلسفة أصبحت مع تشعب التخصصات العلمية وتغطيتها لكلية العالم أمرا زائدا. على خلاف ذلك يبين هوسرل أن مجال اهتمام الفلسفة هو العالم كأفق شامل ذاتي-نسبي مغتن تاريخيا: عالم العيش. والعالم بهذا المعنى هو منسي الممارسة العلمية ذات النزعة الموضوعية. إن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية تأمل حول الذات المسؤولة التي يظهر لها العالم. أما موقف النزعة الموضوعية من العالم فهو مع نسيانه لنسبية عالم العيش ينسى الذات أيضا. إن الفلسفة لازالت ضرورية لأننا يمكن أن نثبت انطلاقا من النظرية التكوينية لبناء الآفاق كيف أن العلم الموضوعي يتوقف على التجارب اليومية التي تنتمي لعالم العيش.

        إن الخروج من أزمة المعنى لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ربط العلم الموضوعي بالآفاق الذاتية النسبية لعالم العيش، وهذا يتطلب بدوره معرفة ببنيات هذا العالم. لهذا سيصوغ هوسرل في "الأزمة" برنامج الفينومينولوجيا كعلم لعالم العيش. وحيث أن هذا العلم يسائل عالم العيش أي كلية الكائن من حيث ظهور للوعي فهو يكون في نفس الوقت فلسفة ترنسندنتالية. ونظرا لأن بنيات عالم العيش يتم النظر إليها في عموميتها كبنيات قبلية، فإن العلم الذي يهتم بها سيكون في نفس الوقت بحثا في الماهيات.

المراجع

- Logische Untersuchungen. Erster Band : Protegomena zur reinen Logik, Husserliana Bd. XVIII, hrsg. Von E. Holstein, Den Haag 1975.

- Logische Untersuchungen. Zweiter Band Untersuchungen zur Phنnomenologie und Theorie der Erkenntnis, erster Teil, Husserliana Bd. XIX/1, hrsg. Von U. Panzer, Den Haag 1984.

- Logische Untersuchungen. Zweiter Band: Untersuchungen zur Phنnomenologie und Theorie der Erkenntnis, zweiter Teil, Husserliana Bd. XIX/2, hrsg. Von U. Panzer, Den Haag 1984.

- Ideen zu einer reinen Phنnomenologie und phنnomenologische Philosophie. Erstes Buch : Allgemeine Einführung in die reine Phنnomenologie, Husserliana Bd. III/1, hrsg. von K. Schuhmann, Den Haag 1976.

- Cartesianische Meditationen und Pariser Vortrنge, Husserliana Bd. I, hrsg. von Strasser, Den Haag 1950.

- Die Krisis der europنischen Wissenschaften und die transzendentale Phنnomenologie, Husserliana Bd. VI, hrsg. von W. Biemel, Den Haag 1954.

2- دراسات تم الاعتماد عليها بشكل أساسي:

- Held, K. : Edmund Husserl, in : Hِffe, O. (Hrsg.), Klassiker der Philosophie, zweiter Band, München 1985, S. 274-297.

- Held, K. (Hrsg.): Edmund Husserl. Die phnomenologische Methode. Ausgewhte Texte I, Stuttgart 1985, Einleitung des Herausgebers, S. 5-51.

- Held, K. (Hrsg.): Edmund Husserl. Phnomenologie der Lebenswelt. Ausgewhlte Texte II, Stuttgart 1986, Einleintung des Herausgebers, S. 5-53.

- Bernet, R. / Kern, I. / Marbach, E.: Edmund Husserl. Darstellung seines Denkens, Hamburg 1989.

3- دراسات أخرى

- Aguirre, A. : Genetische Phنnomenologie und Reduktion. Zur Letztbegründung der Wissenschaft aus der radikalen Skepsis im Denken E. Husserl, Den Haag 1970.

- Aguirre, A. : Die Phنnomenologie Husserls im Licht ihrer gegenwنrtigen Interpretation und Kritik, Darmstadt 1982.

- Fink, E.: Studien zur Phنnomenologie. 1930-1939, Den Haag 1966.

- Landgrebe, L.: Der weg der Phنnomenologie. Das Problem einer ursprünglichen Erfahrung, Gütersloh, 3. Auflage 1969.

- Landgrebe, L.: Phنnomenologie und Geschichte, Gütersloh, 1968.

- Marx, W.: Die Phنnomenologie Edmund Husserls. Eine EinFührung, München 1987.

 

 

     إسماعيل المصدق
    مركز تكوين مفتشي التعليم-الرباط

 

ليست هناك تعليقات: