الخميس، 15 سبتمبر 2016

البيولوجيا السياسية بين سلطة العرفة ومعرفة السلطة (2 من 6)./ حسن المصدق.



البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة

السلطة وازدواجية العنف تجاه الروح والجسد.

حسن المصدق (باحث جامعي؛ مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر؛ السوربون)


في الجزء الأول من المقال، شكل ميشيل فوكو (1926ـ 1984) في أبحاثه الفلسفية في منطق تاريخ الفكر وأعاد السؤال في أسس الحداثة وفي سلطة القديم ومعرفته. ومن ثم سعى إلى تفكيك سلطة المعرفة ومعرفة السلطة بتفكيك آليات انقلاب الحديث على القديم.

وحاول ميشيل فوكو الوقوف عند تحليل وتفكيك أعراض عقلانية الحداثة السلبية، بوصفها المسؤولة عن آليات الهيمنة والتشيء والنرجسية والاغتراب وظاهرة العنف والتمرد، حيث يستعرض نقدا حادا للعقل الوضعي عبر تاريخ العلوم الإنسانية والكشف عن مجمل التاريخ السري الذي ساهم في تكبيل العقل والوجدان بفعل التواطؤ بين السلطة والمعرفة.

وفي هذا الجزء الثاني من المقال يطرح الباحث كيف كشف ميشيل فوكو عن ازدواجية  العنف الذي تمارسه السلطة على الروح والجسد معا، لا سيما في كتابه "المراقبة والمعاقبة" والذي حلل فيه بعض الأساليب الدالة على اخضاع الجسد وسجن الروح.


يمكن الرجوع إلى الدرس الأول: "كانط والثورة" الذي ألقاه سنة 1983 في الكوليج دو فرانس،  والذي ركز فيه على ما اعتور صرح الحداثة من أسئلة عصر التنوير، حيث طرحت مسألة الحداثة في الثقافة الكلاسيكية ضمن محور ذي قطبين: قطب القديم وقطب التحديث. فقد تحددت صياغة المسألة إما في اتجاه سلطة علينا قبولها أو رفضها (أي سلطة نقبل؟ وأي نموذج نتبع؟ الخ... وإما في شكل (مرتبط بالاتجاه الأول) تقويمي مقارن: هل القدامى أفضل من المحدثين؟ وهل نحن في فترة انحطاط..." عما كانوا عليه؟

ومن ثم اهتدى ميشيل فوكو إلى "صيغةٍ جديدة في طرح مسألة الحداثة، إذ لم يعد السؤال في علاقة المحاكاة مع القدامى وجدل القديم والجديد (وحكرا على هذه الثنائية  فحسب)، "بل (...) انطلاقا من آنية المتسائل: على الخطاب بدءا من الآن أن يضع في الحسبان آنيته حتى يحدد فيها مجال تواجده الخاص من جهة، وحتى يتلفظ بمعناه من جهة ثانية. حتى نميز في نهاية الأمر صيغة العمل الذي يستطيع القيام به داخل هذه الآنية" وهذه اللحظة تعني الآن وحالاً.

وبناءً على ما تقد يطرح فوكو سؤالاً: "ما هي آنيتي؟ ما معنى هذه الآنية؟ وما هو نوع العمل  الذي أقوم به حين أتحدث عن هذه الآنية؟ ذلك في رأيي ما يطرح تساؤلا جديدا حول الحداثة، أن تحيا عصرك يعني أن تجيب على قضاياه وتجد حلا لأزماته.

وهذا التراث النقدي الجديد يطرح السؤال: ما هي آنيتنا؟ وما هو المجال الحالي للتجارب الممكنة؟".

ذلك أن تحيين السؤال التاريخي ووضعه في دائرته الزمنية والمكانية، يعني استشراف المستقبل بالوقوف على حاجياته وضروراته وقضاياه المستعصية، كما يعني أيضا الوقوف على الماضي وتجاوز علاته وأوجه قصوره. أما من حيث الرؤية الفلسفية، فنحن إذن أمام عملية تفكيك ثلاثية التركيب:

- تفكيك بمعنى تشريح المعرفة (علوم ووسائط وتقنيات وأدوات مختلفة) بالنظر إلى سياقها وفلسفتها ورؤيتها وتاريخها.

- تفكيك مؤسسات السلطة في جزيئاتها وحباتها الصغيرة المتناثرة من أعلى الهرم إلى أسفله ومن أسفله إلى أعلاه.

- تفكيك التاريخ، بمعنى تفكيك تاريخ المؤسسات والعلاقات الاجتماعية والممارسات كمعايير وضوابط وقواعد ونظم وسلوك وقوانين مبثوثة في الجسد والمجتمع والمعرفة والنفس.

كل ذلك يتم من منطلق تفكيك لاعقلانية الحداثة أو قل عقلانيتها الحسابية المفرطة والفاجعة والباردة، فالتنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الحديث، هو قمة العقلانية والضبط والنجاعة والفعالية. بيد أنه في هذه العقلانية، هناك لا عقلانية وسديم وفوضى وتشظية لن يفيد أحدا إنكار ذلك. فالحداثة هي حبلى بنقيضها. أي أن السلطة بوصفها معرفة تتضمن في صلبها عناصر مقاومتها بالضرورة.

موطن الوعي والأسرار القدسية

والواقع أن هذه المؤسسات التي تنظم وتقنن وتضبط وتهيكل حبل العلاقات الاجتماعية، هي في ذات الوقت أفكار ومعارف تعج بالاضطراب والفوضى والخلل، فوضى الروح والجسد التي يكشف عنها عالم مؤسسات المصحات النفسية وعالم السجون الفظيع وكل حالات التيه والضياع والاغتراب والتشرد في الواقع الاجتماعي العنيد.

وبالتالي فإن أولى الخطوات في رحلة التفكيك هذه، تشمل العودة إلى التنديد بالفصل الذي تم بين الجسد والروح على غرار الفصل الذي تم بين المكان والزمان في العقل البشري آمادا طويلة، فصل ادّعى أو توهّم على غراره الإنسان أن يعقل كينونته على روحه فحسب. إذ من خلال هذا الفصل الذي قام به ديكارت في القرن السابع عشر، نشأت عقلانية وضعت الروح في مركز الكون، غير أنها احتقرت الجسد ووارته في تراب الخطيئة وحملته وزْرها.

ثمة رأي يرجح أن هذا الفصل قديم قدم الفصل بين السماء والأرض عند أفلاطون، لكنه ازداد حدة مع ديكارت الذي أسس بموجب هذا الفصل تنظيما جديدا للمعرفة والسلطة السياسية قائم على أقنومها: "أنا أفكر إذاً أنا موجود". ومن ثم لم يعد من معيار للحقيقة إلا من خلال تلك الروح السامية والعقل المجرد، بينما تم تغييب الجسد وتم حجبه، بل وصل الأمر إلى عدم الاعتداد به أو الارتكان إليه لأنه مهد الدوافع والنوازع، مما ليس معه مستقر أو مهاد، إن لم يكن عورة ودنس ومفرغة قاذورات ويجب نسيانه.

إذ أرسى هذا التقسيم الديكارتي الفصل بين المثالية والمادية الذي كان له تأثير كبير على الفكر الإنساني خصوصا فيما يتعلق بالفصل أو الانفصام بين الحياة العقلية التي ينفرد بها الإنسان عن سائر الحيوانات من ناحية، ثم تكوينه البيولوجي كعضوية جسدية يشاركه فيها غيره من الكائنات الحية من ناحية أخرى. لكن من شأن حجب الجسد وبلورة فصل بينه وبين الروح، أن يجعل الفكر والإحساس بالوجود حكرا على العقل والروح التي وضعها ديكارت في أبراج عاجية متعالية ووضعها أفلاطون في علياء السماء، وكان من نتائجه أيضا إحلال الجسد منزلة وضيعة في الإحساس بالوجود ومدارج الإدراك.

فمن خلال هذا الفصل وهذا التقسيم في الدور والوظيفة، تم إقصاء الجسد من دائرة الاهتمام واعتباره شرا وبلية لا بد منها. مما نشأ عنه عرض مختلف الأشياء المحيطة به على الروح ملكوت الصفاء وموطن الوعي والأسرار القدسية. كما أن هذه الروح اعتبرت صافية مطهرة من دنس الشهوات والنزوات، بل هي الجديرة ومثوى الفكر والتأمل والمناجاة السامية. بالمقابل تم وضع الجسد في موطن الغواية والاستغواء وعالم الرذيلة والفاحشة.

بيد أنه نتيجة ترجى من حضارة وثقافة تفصل بين الجسد والروح أو تفاضل بينهما، فالجسد يجب ألاّ ننسى أنه قوام الكينونة وبه يتم الإحساس بالوجود. لذلك وجب رفض المقابلة بين ما هو جسدي مدنَّس وهو روحي مقدَّس، لأن هذه الثنائية تفرعت عنها ثنائيات خاطئة في القيم كالتمييز الذي لحق العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين حاجات الروح وحاجات الجسد. وهذا ما يجب القطع معه لأنه تفاضل بين الروح والجسد، فهما زوجان لا ينفصلان و حاضران على الدوام في الفكر والممارسة والخطاب والوجدان على حدّ السواء.

ولعل المهمة الأولى التي نذر لها الفيلسوف ميشيل فوكو جهوده، هي أنه أخذ على عاتقه الكشف عمّا يكبل الجسد، لأن ذلك في نظره تكبيل للعقل أيضا. ففك أغلال الجسد من آليات التدجين والنفي والترويض هو اطلاق سراح العقول من سراديب الحجز والزيف والإثارة والحاجيات المزيفة.

ولهذا يعمد فوكو في كتابه: "المراقبة والمعاقبة" إلى الكشف عن مجمل التقنيات السياسية والرمزية الخاصة  بترويض الجسد عبر التاريخ، حيث يشمل عرضه وصفا كاملا لآليات الزجر والعقاب والحبس والتخويف وذهنية التحريم والمنع والحجز والمصادرة، أو ما يسميه باقتصاديات ومناهج تدبير المكان، بما فيها الإجراءات والمساطر والقوانين والنظم والأعراف التي تجعل من الأفراد طيعين وصالحين في نظر المجتمع من ناحية. وبالتالي فحص تقنيات تكبيل الروح من أخلاق وقيم وعادات وأعراف تلجم الجسد، بخاصة تلك التي تساعد السلطة القائمة في المجتمع على ترويض أفراده من ناحية أخرى.

غايته الإفصاح عن مجمل التقنيات المادية والثقافية للسلطة -ذلك العنوان العريض- التي تشكل ما يسميه بتاريخ الاقتصاد السياسي للجسد. ومن ثم معاينة مجمل الأفكار والممارسات الحديثة التي أدت إلى ظهور مجتمع المراقبة والمعاقبة وتعزيز آليات الرقابة المادية والذهنية فيه.

ويمكن أن نعتبر على غرار ذلك، إن تاريخ السلطة غير منفصل عن تاريخ الأفكار الذي يتضمنها ويُبشر بها، فلا فصل بينهما لأن السلطة مندغمة بمعرفة ما، وهذه توحدت بالسلطة لما أصبحت منطقها أو حقيقتها. إن لا مجال للفصل بين المؤسسة وفكرها انطلاقاً من تشريح "فيزياء" السلطة إذا جاز التعبير، حيث يغوص في أجزائها الصغيرة ومجمل تراكيبها التي إن تم تجميعها من أسفل إلى أعلى الهرم استوت مؤسسات وأجهزة قائمة الذات، تُنظم وتقنن مجموع الممارسات والسلوكيات التي تهدف التحكم وترويض ما تراه في العلاقات الاجتماعية منحرفا ومتمردا وخارجا عنها من خلال تحديد أعراض هذا الانحراف، كي تعلن للمجتمع من هو السوي ومن هو غير السوي، ومن ترضى عنه ومن ينتظره بئس المصير.

 

قلب فكرة العقد الاجتماعي

ومن الملاحظ أن حفريات فوكو في بنية السلطة التحتية يحذوها أمل الكشف عن بنية العنف المادي والرمزي الذي تمارسه الدولة على الأفراد والجماعات. ومن ثم دراسة إحدى القضايا التي استبدت بالعقل البشري طويلا: طبيعة العلاقة غير السوية بين السلطة والمواطنين، بوصف الأولى حاضنة طبيعية لآلية العنف ووسائل القوة التي تستعملها بإفراط لضمان هيبتها وسطوتها بحد الإكراه.

إذ لأول مرة يحدث في تاريخ الفلسفة أن يعمد فيلسوف إلى قلب فكرة العقد الاجتماعي التي كانت وما تزال شعار المدنية الحديثة، ولا غرابة في ذلك ما دام فوكو يمتلك مبضع التحليل المادي والتفكيك الرمزي والتشريح الدقيق للأفكار والظواهر والمؤسسات بعقل نقدي لا يهادن. إذ خرج عمّا ألفناه من فهم العلاقة الاجتماعية التي تنظم الأفراد من زاوية العقد الاجتماعي بين بعضهم البعض، أو بينهم وبين السلطة التي فوضوا لها حق تدبير أمنهم وأمانهم. وهو ما قام به الفيلسوف هوبز... عندما أقرت الفلسفة السياسية الحديثة للحاكم وحده  الدولة  حق استعمال سلطة الإكراه، حيث أصبح حق استعمال القوة من زجر وتأديب وعقاب وقصاص حقا من صلاحية الحاكم وحده، وهو كناية عن تنازل الفرد للحاكم عن حقه الطبيعي في ممارستها بنفسه، شرط أن ينعم بالأمن مقابل ذلك. وهو ما يمكن اعتباره اليوم ميثاق العقد الاجتماعي الحديث.

بيد أن فوكو يقلب هذه المعادلة رأسا على عقب عندما يُقوض أساسها الذي تنبني عليه، مستنكراً بقوّة منطلقها الداخلي، حيث يلاحظ إن: "التعاقد على المستوى الاجتماعي، بخاصة عندما يجتمع الأفراد لاختيار من يمثلهم (صاحب السيادة)،  مفوضين له سلطة مطلقة عليهم. لنتساءل، ترى لماذا يقومون بذلك؟ (...)". (ويجيب)، إنهم "يختارون ممثل السيادة (الحاكم)  لكي يتمكنوا من الحياة. وقياسا على هذا  الحد، هل تدخل الحياة بالطبع في دائرة اختصاص صلاحيات من يمثل السيادة؟ (...)، إذ لا يمكن نزع حق الحياة ووضعه من صلاحياته. فهذه الصلاحية خارج التعاقد، ما  دامت هي الباعث المبدئي والجوهري لهذا العقد" وهذا التفويض؟

بطبيعة الحال، لا يمكن أن يهِب أحد منا للحاكم حق نزع حياته، ما دام أنه تنازل وفوَّضه حمايتها للدفاع عنها كي يكون في مأمن من شريعة الغاب. فالحاكم عليه أن يحافظ عليها لا أن يسلبه إياها مهما كانت التبريرات ودعاوي ذلك ، إذ لا تنازل عن حق الحياة لأي سلطة مهما كانت.

هكذا أصبح فوكو من بين أول الداعين لإلغاء عقوبة الإعدام، وبالتالي فهو عندما يعمد لدراسة العنف بجميع أشكاله، بما فيه حق العقاب والزجر والتأديب أو التنيكل الذي تمارسه السلطة على الأجساد المتمردة، لا يجب أن ننظر خارج إطار منطق ميثاق العقد الاجتماعي ذاته لإبطال دعوى شرعية ذلك، بل يجب أن نبادر إلى تحليل منطق السلطة الداخلي، بخاصة عندما تلجأ في الغالب إلى معاقبة كل من يسمح لنفسه بالتطاول عليها. إذ لا يمكن الاستدلال على ما تقوم به وفق أية حجة وأي تبرير قد يلجأ إلى العقد الاجتماعي كسند له في مسعاه. ومن ثم لا يمكن قبول شرعية عنف السلطة تحت أي مبرر أو أية غاية، بما فيه عندما تزعم أنها تلجأ إلى ممارسة العنف المؤسساتي بدعوى الحفاظ على أمن المجتمع أو حماية حياة الأفراد من الاعتداء والموت بسلب حياة الآخرين.

مؤدى ذلك أن تفكيك مبررات عنف السلطة الذي يمارس عبر العديد من الإجراءات والممارسات والنظم والمؤسسات يشكل فهما لجوهرها وطبيعتها معا، ما دام أنه يمر عبر الآليات التي تقوم عليها السلطة ذاتها. ومن ثم أهمية إماطة اللثام عن ذلك العنف الجوهري الموجود في صلب العدالة، بخاصة منها ما يمارس في حق المنحرفين الذين يتطاولون على قانونها بحجة دفع الانحراف عن المجتمع والقضاء عليه.

 

والحال إن التنديد بعنف "مجتمع المراقبة" الحديث، لا يعود إلى كون ممارسته تتم بطريقة همجية فحسب، بل إلى كونها غالبا ما تتم بطريقة مقَنَّعة ومُتخفِّية، سواء عبر الخداع والحيل القانونية الثاوية في أحكام العدالة ذاتها، إذ يكفي الوقوف على مختلف صيغ الإدارة الحديثة وخطابها الرسمي الذي يحاول صباح مساء إصباغ الشرعية على ما تقوم به بإخفاء وجهها البشع بقناع رحيم.

وبالسؤال عن الطريقة المزدوجة التي تمارس بها السلطة عنفها على الجسد والروح معا، يحلل فوكو بنية الخطاب الذي يبرر هذا العنف الذي ترتكز عليه ميكانيكا الترويض. ذلك أن عدالة العصور الوسطى كما نعلم كانت تمارس عنفها وتأديبها المادي والرمزي في الساحات العامة عبر عرض صور ضحاياها وهي تئن وتنتحب مستعطفة رحمة الجلاد في ساحات الإعدام، أو من خلال إشاعة الرهبة والخشية في صدور الناس عبر تقطيع الأوصال وصلبها على الأبواب والتمثيل بها، ليعتبر من يعتبر.

غير أنه بفضل مبادئ الثورة الفرنسية لم يعد الجمهور بفضل واجب الاحترام للكرامة الآدمية، يقبل بعرض فظاعة الشنق والصلب والإعدام وبتر الأعضاء وممارسة التشويه الجسدي وتقطيع الأوصال والتمثيل بأصحابها وحرقها في الساحات العمومية، ما استدعى من السلطة البرجوازية الصاعدة، ابتكار آليات جديدة لترويض الأجساد المتمردة والاستعاضة عن جرها في الساحات وصلبها أو التمثيل بها على أبواب المدن، بالبحث عن طريق آخر وعلى أشكال جديدة تصِم المذنب بوصمة العار والخزي والمذلة والمهانة من خلال وضعه في قفص الاتهام أمام الملأ، وتكبيله بعقدة الذنب والتشهير به، كما التشهير به وسط الجمهور في المحاكم. وذلك قبل إنزال الحكم وعقوبة الحبس به، ليتم تسليمه بعد ذلك إلى مؤسسة أخرى تضطلع بتنفيذ الحكم وتقويم ما به من اعوجاج.

 

عنف الإقطاع.. والتدجين البورجوازي

ثمة تغيير في أساليب القهر عند البورجوازية عما كانت عليه عند الإقطاع، بدأ بالبحث عن إيجاد وسائل ترويض من خلال تقاسم الأدوار والاختصاص بين مؤسسات الدولة والفصل بين السلطات الذي تم مع إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى، حيث أصبحت مؤسسة السجن -مثلا في فرنسا- لأول مرة تحت إمرة وزارة الداخلية، كما أن تطبيق أحكام النفي والإبعاد القسري أصبح من اختصاص وزارة البحرية والمستعمرات.

وبموازاة ذلك أصبح القاضي في ظل الدولة البورجوازية، يحكم بموجب القانون وليس بما يصدر له ديوان الملك أو الكنيسة من أحكام في هذه النازلة أو تلك، حيث أصبح مبرر العدالة الأول يتمثل علنا في إصلاح المجتمع من عيوبه، كما أن حجم العقوبة المقررة أصبح يتم وفق حجم أضرار الجريمة المرتكبة من ناحية، أو بغاية الحفاظ على سلامة المجتمع وتخليصه من الانحراف وعتاة المجرمين من ناحية أخرى. مما جعل القاضي في الدولة الحديثة في وضع شبيه بالطبيب، فهو مجرد طبيب متخصص في معالجة الأمراض الاجتماعية، بينما أصبح الحراس والموظفون في السجون بمثابة ممرضين مكلفين بالعناية بجسد المذنب والمنحرف عبر إمداده بجرعات من التأديب اليومي تحددها وصفة الطبيب الاجتماعي، حتى يرجع عن غيه ويُكفِّر عن ذنبه ويستقيم اعوجاجه بقضاء المدة اللازمة للعلاج.

إذ أنه عوض التمثيل بالجسد الإنساني وقطع الأعضاء وبترها وصلبها واستعراضها في الساحات، تم تطوير آليات الزجر والتأديب والعقاب، حيث لم "(...) يعد العذاب البدني وآلام الجسد عناصر مكونة للعقوبة، بل تم تحويل العقاب من فن  الإحساس الفظيع بالألم إلى اقتصاد الحرمان من التمتع بالحقوق".

وبغض النظر عن صحة هذه الوصفة ومدى صدقيتها إذا تأملنا ما حدث في أبو غريب وما يحدث في غوانتانامو حاليا، فإنه بموجب الحرمان يتم "تجنيد جيش جرّار جرار من التقنيين مختصين في ترويض الجسد (المتمرد)، يقومون مقام الجلاد رمز  التعذيب السابق بامتياز". وذلك على نحو لم يعد التعذيب البدني والإحساس بالألم الغاية الأولى والأخيرة من أحكام العدالة المعلنة جهرا، بل إن مهام حضور الحراس والأطباء والرهبان والمحللين النفسيين والمربين في السجون، تبررها محاولة تطويع هذا الجسد المتمرد وتقويمه وتصحيح ما به من اعوجاج، كي تتم إعادة تأهيله ودمجه من جديد في المجتمع بعد أن يدفع ثمن تمرده عليه.

وهاهنا تكفينا الإشارة، إلى أن الطبيب الذي يشرف على المحكومين بالإعدام في المعابر المخصصة لذلك -غرف انتظار تنفيذ الإعدام- أصبح يعتني بأجسادهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حيث يحاول تهدئة روعهم وقلقهم الشديدين، مما يجعل دوره هنا على النقيض من الجلاد وهؤلاء الموظفين الذين سينفذون حكم الإعدام فيه بعد حين، حيث يصبح واجبه متمثلا في حقن المحكوم عليه بمسكنات أو إمداده بعقاقير مهدئة. الأمر الذي يكشف عن مفارقة فظيعة في هذه العدالة المزيفة التي قررت أن تحرِم السجين من حق الحياة، بينما هي في الوقت ذاته تحاول الظهور بمظهر إنساني رحيم، حيث تريد أن يموت دون ألم وعذاب شديدين. فهي تحرمه من جميع الحقوق بما فيها حق الحياة، غير أنها للغرابة تحاول الظهور بمظهر عطوف من خلال إعفائه من التعذيب البدني والإحساس بالألم!

 والحال أن ميشيل فوكو يحذرنا من هذا الكرم "الحاتمي" الذي انطلق مسلسله مع سنة 1760  ولا يزال، إذ لم يعد الجسد هو المستهدف الأول والأخير فحسب، بل أصبحت روح البشرية المذنبة هي المستهدفة، حيث يُمارس العقاب والحبس بغاية أن يتسرب الزجر إلى أغوار الكائن، لكي يمس أعماقه ووجدانه وإرادته، ومن ثم يصيب روحه وروح الآخرين الذين حوله في الصميم.

ناهيك أن هذا الرصد يتيح معرفة التحول الذي طرأ على الزمان في دورته مع حلول مجتمع المراقبة الحديث، لكي تحل مؤسسات الترويض المختلفة محل مؤسسة الجلاد القديمة، بخاصة عبر شخوص جديدة مقنعة مختصة في ترويض الأرواح نيابة عن ذلك الذي اعتاد فصل الرقاب وجز الأعناق وجلد الناس في الأسواق العامة.

لكن هذه المرة، من دون أن يترك التعذيب آثاره على الأجساد ندوبا وجروحا بادية. بل قل إنها استبدلت تراجيديا التعذيب عبر الجلاد ومشاهد المقصلة الوحشية يقول فوكو- بكوميديا جديدة تمحو آثار العقوبة كليا أو تكاد، يقوم فيها بأدوار البطولة هذه المرة، رجال لهم أدوار مختلفة ولهم أزياء رسمية من حراس ورجال أمن ومحامين وقضاة وأطباء وممرضين! كل يمتطي قناعه يؤدي من خلاله وظيفته في سلم التأديب وترويض تلك الروح المتمردة.

حين يتابع فوكو دراسة خصائص هذه المرحلة الحديثة-فإنه، يقف على نتائج هذا الفصل بين الروح والجسد فكريا، حيث يلاحظ أن كل هذه الإجراءات تتم مأسستها وفق خطاب له أبجديته وتضاريسه البلاغية التي تشهد عليها السجلات والدواوين والأرشيفات. وبالتالي أصبحت التمثيلات (Representations) اللغوية هي من تضع عناوين للأشياء والقادرة على تسميتها وتصبغ عليها أحكاما وقيما: الحرام/الحلال، الخير/الشر، النور/الظلام، الروح/الجسد... بل إن هناك من يرى أن هذه التمثيلات اللغوية في تساميها أصبحت صنوة الروح وتعبيرها الحي، ما يعلي من شأن اللغة.

 

 وبالتالي من قيمة الخطاب الذي يسهر على إعداد منطقها، أو قل "حقيقتها"... من هنا جاءت حاجة السلطة إلى خطاب: فمن لا لغة له، لا فكر له. أي إننا مع تباشير مرحلة حداثية يمر فيها مجمل الفكر عبر اللغة بعامة والخطاب بخاصة -قبل حلول عصر الطفرة التكنومعلوماتية-، ما ساعد على إقصاء الجسد من الحضور (كدوافع وأحاسيس وعاطفة...). الأمر الذي سمح للمجتمع بأن يستبطن الجسد كموطن للغرائز المنفلتة العقال ومصدر الخطايا، حيث أصبح كل الجهد منصبا على قمعه وترويضه وتطهيره من الرجس والخطيئة والرذيلة والشهوانية، بل تخلله الدفع إلى ظهور نظام اجتماعي يدنس أجساد النساء والعبيد والعامة والرعاع لأن عقولها ضعيفة وشهوانية لا تجيد التفكير ولا الحديث ولا بلاغة الإنشاء أو التأمل ومفتقرة إلى

خطاب عالِم. ثم انسحب ذلك بالتدريج على جميع مجالات الحياة الإنسانية (المصالح الاقتصادية والعلاقات الإنسانية والاجتماعية والإدارية) ككل، حيث أصبح الأفراد  يتعرفون على بعضهم وما يحيط بهم من خلال هذه التمثيلات اللغوية الموضوعة وفق بيان وتبيين يخضع لخطاب له قواعده وبلاغته الخاصة في السجلات والصحف وكتب التعليم واللوائح والمدونات....

إجمالا، إن هذا النبش في خصائص مرحلة ما وتميزها عن أخرى، يجد تبريره عند فوكو في محاولة استقراء كيف ترتبط الكلمات والمفردات بالبنيات الذهنية، فهو محق عندما يُلخِّص هذه العملية في ما أسْماه بالبحث عن جذرها "المعرفي"Episteme)) التي تعني في أصلها اليوناني "علم"، أو إن شئنا الحجر الأساس الذي يستعرض من خلاله فكر مرحلة ما وخصائصها المميزة.

بناء على ما تقدم، فإن الناس بهذا المعنى يتكلمون خطابا ويتمثّلون لغة ويرسمون صورا ويلبسون زيا ويبنون معمارا عبر سائر العصور والأحقاب، ما يجعل من ذلك كله سلطة في ثوب معرفة، ومعرفة في ثوب سلطة، لأن شيئا ما يتكلم قبلهم في ثقافتهم وفي ملابسهم ومعمارهم... ذلك أنهم يتكلمون دائما بهذه اللغة أو تلك، بهذا الخطاب أو ذاك، بهذه البلاغة أو تلك، لأنهم يستندون إلى شيء يتكلم فيهم من داخلهم، ومن خلال تاريخهم ومرحلتهم بالذات. والمهم عند فوكو الكشف عمّا يتكرر من تلك المعرفة في جميع المظاهر الثقافية والسلوكية والتشريعية والقيمية عامة. أي المحاور الثابتة والقواعد المتكررة التي يمكن أن تشكل الرؤية التاريخية المرتبطة بمرحلة تاريخية.

ليست هناك تعليقات: