الأربعاء، 14 سبتمبر 2016

البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة. (1من 6)./ حسن المصدق (السوربون)


البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة

تقنيات السيطرة على الجسد في أعمال ميشيل فوكو الفلسفية

حسن المصدق: * باحث جامعي، مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر. (السوربون)


 

أما بالنسبة إلى التنوير فلا شيء مطلوب غير الحرية، بمعناها الأكثر براءة، أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل

الميادين. إلا أني اسمع الآن وفي كل اتجاه من حولي صيحة تقول:

"لا تفكروا" فالضابط يقول لا تفكروا، عليكم أن تنفذوا.

والجابي يقول لا تفكروا، عليكم أن تدفعوا.

ورجل الدين يقول لا تفكروا، عليكم أن تؤمنوا.

وهذا الملك المستنير يجرؤ .. (على التصريح).. : فكروا قدْرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، وعليكم أن تطيعوا.

(إيمانويل كانط؛ "ما الأنوار".)
 
 
 
طرحت أبحاث ميشيل فوكو الفلسفية حول الذات والأخلاق والسلطة والعنف والحرية العديد من الاعتراضات وأثارت كثيرا من اللغط والحجاج، بعد أن طرح صاحبها في جبِّها فكرة موت الإنسان التي تعد أبرز تجلياتها. إذ لم يعد في نظره من أمل يرجى من إنسان تناثرت معتقداته وتراجعت ملَكاته وأحاسيسه الجمالية والذوقية. هذا في الوقت الذي لم تعد تنظيماته السياسية ونوازعه الأخلاقية تفي بالمراد وتجيب على حاجياته بالشكل المطلوب.
وبإزاء هذا الشرخ، ثمة خواء روحي ومادي يعصف بوحدة الجسد بعد فكرة موت "الله" النيتشوية التي تعني موت الأخلاق، إن لم تصبح مجرد أشلاء مبعثرة، متناثرة مشدودة إلى توتر الكائن وخوفه الوجودي، حيث لم يعد الإنسان يلوي على شيء أمام آليات التطويع والضبط والمراقبة والعنف والتدجين التي أصبحت تحيط به من كل الجهات. فلا لحمة تجمع بين الواقع المنفلت المتغير من جهة وإواليات الزجر والحجز والعزل اللينة منها والعنيفة من جهة أخرى، كما لا فائدة أيضا ترجى من تلك العقلانية التي لم تعد تحميه من عقابيل الحداثة وقروحها وجروحها المرضية.
قد يظن البعض أن هذه المفردات لها وجه واحد، بيد أنها تعني مجمل الممارسات والتقنيات المبثوثة في قاع المجتمع، بخاصة تلك التي تحمل طباعا تدميرية لاستقلالية الإنسان وحريته وكرامته الآدمية، فالتطويع غير التدجين والتدجين غير الضبط والضبط غير المراقبة. لكن هذه المفردات تتفق جمعاء في أن بها ما يكفي من حمولات نفسية وانسلاب اجتماعي يجعلها قادرة على إغشاء البصيرة وتعميق الإحساس بالإحباط والعجز لتستسلم النفس على غير هدى من أمرها طوعا أو كراهية. ما يفرض التعرف على
طبيعتها ومضمونها، وأي الوسائل تعتمد وكيف تصوغ خطابها وتسوغ مضامينها ومقاصدها؟
والواقع أننا لا نستطيع فهم ما تعنيه هذه المفردات، إلا إذا اتضحت لنا طبيعة العلاقة بين المعرفة والسلطة، أي كيف تصبح المعرفة سلطة والسلطة معرفة؟ حينئذ يمكن تصور ذات مفلولة فقدت كل تناغمها وفعاليتها لأنها فقدت استقلاليتها وحريتها، بعد أن دق المسمار في نعشها واستحالت المعرفة باستوائها سلطة ديدانا تنخرها. فالمعرفة من هذه الزاوية أبعد من أن تكون محركا للتحرر والوعي والعقلانية، إن لم تصبح منطقا للهيمنة والمراقبة ببأس شديد لا يقاوم.
وما يهم فوكو من من المعرفة تحليل تقنياتها المرتبطة بالواقع الإنساني والاجتماعي والثقافي في (العلم، الصحة، الأسواق والمبادلات، الإدارة، الثقافة، الحياة الجنسية، التربية..)التي منذ تزايد غسق السيطرة الحسابية والأداتية عليها، أصبحت محض تكنولوجيا تنتج "حقائق" للسيطرة والوصاية، يتم تدبيرها
بغاية التحكم في مجمل حياة الإنسان (الاقتصادية، السياسية والثقافية).
وهو ما يحاول ميشيل فوكو الوقوف عنده بتحليل وتفكيك أعراض عقلانية الحداثة السلبية، بوصفها المسؤولة عن آليات الهيمنة والتشيؤ والنرجسية والاغتراب وظاهرة العنف والتمرد، حيث يستعرض نقدا حادا للعقل الوضعي عبر تاريخ العلوم الإنسانية والكشف عن مجمل التاريخ السري الذي ساهم في تكبيل
العقل والوجدان بفعل التواطؤ بين السلطة والمعرفة.
 
الحداثة وإشكالية الفصل بين الجسد والروح
والحق أنه لن نستطيع فهم نقد الحداثة وتداعياتها سلبا أو إيجابا عند ميشيل فوكو، دون الرجوع إلى أساسها الأول، أي إلى مفهوم الذات كإحدى أبرز عناصر ومقومات العقلانية الحديثة التي كانت وراء المدنية المعاصرة من حيث هي تحقيق للحرية والاستقلالية والإرادة معا، ما كان له عظيم الأثر في التحولات المدنية التي عرفتها البشرية منذ القرن السابع عشر والثامن عشر.
بداية لا يعني ذلك أن فوكو يتنكر للحداثة، سيما أنها سمحت للذات بفك أغلال الاستيهامات السحرية في التفكير والفعل، بالإضافة إلى تحرير الإنسان من جدلية العبد والسيد واستبدال مفهوم الرعية بمفهوم المواطنة، ناهيك عما حدث من تطوير مفهوم الاستقلالية التي أدت إلى ظهور مفهوم الفردية وبالتالي المواطنة التي حررت الإنسان من القصور والاتكالية والوصاية بكل أصنافها الروحية والمادية ما دام "أن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه بحق نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام
عقله بوصاية من إنسان آخر، (...). "لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك، ذلك هو شعار التنوير". (إيمانويل كانط؛ ما هو عصر التنوير؟ 1784).
والواقع أن الضربة القاصمة التي يوجهها كانط إلى الوصاية وخضوع الإنسان إلى إنسان آخر، تبشر بفكرة مركزية في الحداثة، قوامها تحرير الذات من خلال معرفة تقطع مع تقسيم الناس إلى خاصة وعامة، حيث لا تمايز بينهم يقوم على النسب والحسب، كما الإيمان بأولوية المستقبل على الماضي والحاضر معا، مما يقدم بشرى تحقيق التطلع إلى "التقدم" وغد أفضل يقطع مع كل قديم، ويتيح الإبحار في تجارب جديدة مفعمة بالأمل تحقق للبشرية الوعي بتاريخها وتطلعاتها الإنسانية، كما أهمية الوعي بالزمن عبر الوعي بمراحله وأشواطه المتعاقبة عبر ملكة العقل.
وبالتالي التركيز على الرؤية الدنيوية والفصل بين العلم واللاهوت، بخاصة نقد كل الرؤى السحرية والأسطورية والميتافيزيقية للكون والعالم والإنسان، كما الأفكار والمؤسسات والقوى الارتكاسية التي تؤازرها. ناهيك أن العودة إلى الذات هي عودة إلى البحث عن الحرية المفقودة عند ميشيل فوكو، فهو يهتم بالذات كموضوع للمعرفة من ناحية، وبوصفها ذاتا عارفة من ناحية أخرى. وهو اختلاف لا ينجم فحسب عن مجرد اختلاف بين الذاتي والموضوعي، أي بين الذات كذات، والذات كموضوع للمعرفة، بل ثمة معنيان إذن لكلمة "الذات" في هذين المستويين:  الذات الخاضعة للآخر بواسطة المراقبة والتبعية والتدجين والتطويع والترويض والاستلاب والتحكم من جهة، ثم الذات المرتبطة بهويتها ذاتها، أي المالكة لها بواسطة الوعي أو بمعرفة الذات عن طريق المعرفة من جهة أخرى. وفي كلتا الحالتين، توحي هذه الكلمة بشكل سلطة تستبد وتستعبد الذوات، ومن ثم إنتاج معرفة تخلق إواليات مراقبة ورقابة دائمة
في المستويين معا.
وما يهمنا في هذا الصدد هو أن هذه المستويات تُمكننا من معرفة كيف يمارس الإنسان الحرية، وكيف يمكننا أن نفكر عكس ذلك في ذات مغلولة ومفلولة أعلن فوكو وفاتها. فالذات هي المدخل الأول لقبول أو رفض أي من الحقائق (قواعد ومعايير ونظم) المكونة لذات فردية أو جماعية. إذ يقترح فوكو عبر فكرة الحرية رؤية للسلطة لا تمتح شرعيتها من سلطة "العقد الاجتماعي" (روسو) أو سلطة احتكار الإكراه (هوبز)، وإنما  كقوة داخلية تمكن من بناء ورصف علاقات بين ذوات حرة.
وبهذا المنظور يصبح الاهتمام بالذات عند فوكو اهتماما بالذات في علاقتها مع الآخر. ذلك أن العودة إلى الذات عند ميشيل فوكو عودة من جديد إلى ما يشبه البحث عن مخرج، مخرج تشريح جثة الإنسان المعاصر ونهوضه من الوهدة التي يرقد فيها. وبالتالي تقديم نقد صارم لوهم الأنا الواعية لذاتها، المتيقنة من إدراكها لشفافيتها المباشرة وللعالم. والأهم من ذلك تفادي إعادة تكرار النزيف والجرح الذي ما يزال ينزف دما خاثرا من حضور السلطة الطاغي، السلطة التي أرادت تحديث المجتمع بترويض أفراده وأجسادهم وعقولهم رغما عنهم، فأوقدت بداخلهم تنورا من الاستلاب والتدجين والخنوع ما يزالون يعانون من أغلال لهيبه الذي ينهش الأجساد والأرواح معا.
مؤدى الأمر فقدان الإنسان الحديث أي إحساس بطعم الحياة، من جراء تلك السلطة التي أنتجت مواطنين خنوعين مستسلمين وقدريين في الفعل والتفكير، لا يمتلكون حرية المبادرة بل تراهم في أغلالهم مكبلين بقيود وأغلال روحية وجسدية على حد سواء.
 
أنظمة المصادرة والترويض
وفضلا عن هذا، فإن العودة إلى ميشل فوكو عودة يرجى منها تفكيك أنظمة المصادرة والترويض والتدجين والتطويع والضبط، حيث لا مجال لتحليل بنيات الرقابة بشقيها المادي أو الرمزي (في
البيت والشارع والمدرسة والجامعة والمستشفى والثكنة والمعمل... والماخور، الخ)، حيث يتشابك نظام الضبط ووسائل السيطرة بنظام القيم السائد (الغالب) عبر أيديولوجيا النسخ والمسخ بتوفير بنيات
ذهنية معطلة تفتقد القدرة على التمييز والموازنة وملكة النقد... أي الحرية والعلم والوعي والمساواة والاستقلالية.
ومما لا شك فيه أنه إذا كان نور الحداثة في أوروبا، ساهم بداية في تنوير الإنسان بأن يخضع ذاته كموضوع للمعرفة، ما أهَّله للتفكير بحرية في ذاته ومحيطه بالجِدَّة المطلوبة، كي يخلق شروط فهم ذاته
تاريخيا ومراكمة معارف عنها بطريقة موضوعية، حتى انتهت به السبل إلى بلورة تاريخ للذاتية Subjectivité كسجلٍ زمني ينكشف فيه تاريخ الإنسان بآماله وآلامه ونجاحاته وإخفاقاته.
ذلك أن بيت القصيد من هذا الرصد، الكشف عن الوعي بالذات الإنسانية وتتبعها على مدار التاريخ البشري، حيث أصبح لا مناص من التاريخ كإطار لفهم الذات موضوعيا، بل إن إخضاعها للكشف
والرصد من خلال تخصصات معرفية شتى حقق لها الوعي بذاتها وبتاريخها. لكن إذا كانت مزية هذه العلوم إخراج الإنسان من وحل القدرية والتفكير الغيبي وسلطة الاستيهام السحرية كما أشرنا، فإنها في نفس الوقت لم تعر انتباها إلى ذلك الذي يستعصي على العقل والمنطق في حياة الإنسان، بخاصة عاطفته وأحاسيسه وميوله ونوازعه التدميرية أو العنيفة...
بيد أنه من المهم أيضا الإشارة إلى أن فلاسفة الحداثة والعلوم الإنسانية لم يقتصروا على رصد ووصف وتصنيف الواقع وقراءته رياضيا، بل حاولوا إعادة إنتاج مكونات التحكم فيه والسيطرة عليه. ومن ثم، اللجوء إلى تخصصات معرفية ومباحث علمية جد دقيقة ومتمايزة عن بعضها البعض، ساهمت بخطوات حثيثة في وضع اللبنات الأولى لظهور نظم ومعايير قننت حياته على هذا الشكل أو ذاك.
والواقع إن ذلك كله يعتبر من أحد أهم المؤشرات الحداثية في نظر فوكو بعد تمايز مجالات المعرفة وظهور علوم اللغة وعلوم الاقتصاد والعلوم البيولوجية وعلوم العمران والصحة... كل في مجال اختصاصه وبوسائله ومناهجه ورجاله. الأمر الذي كان له الأثر البالغ في بلورة الأسس الأولى لما سمي بعد ذلك بالسياسة الإحيائية Biopolitique   المرتبطة بتنظيم الحياة البشرية بتقنيات ووسائل وأدوات علمية صارمة، لا تشمل الروح فحسب، وإنما تهتم بالجسد أيضا.
إجمالا يحيل هذا المصطلح في ترجمته إلى العربية على السياسة الحيوية أو السياسة الأحيائية، أي طريقة التدبير الجديدة التي تحولت إليها السلطة السياسية بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر لإدارة مجمل نواحي الحياة الإنسانية والكائنات الحية التي تعيش في جوارها.
وذلك باعتماد مجموعة من التقنيات والتدابير الإدارية والإجراءات العلمية استعارتها السياسة من البيولوجيا والاقتصاد والرياضيات وعلم الإحصاء لتدبير مجالات الكائن الحي من صحة ونظافة و عمران وتعليم، تعدتها بعد ذلك لضبط المجال العمومي والخاص بالإنسان من زواج ومواليد ووفيات وتحديد النسل وتدابير الإنقاذ والإسعاف في حالة الأوبئة والكوارث الطبيعية... الخ.
والحال أنه إذا كان التشريح الجسدي في البيولوجيا يهدف إلى تشريح أعضاء الجسد بغاية معرفة وظائفها من جهة، كي يتمكن من معرفة آليات اشتغالها ومراقبتها من جهة أخرى، فإن البيولوجيا السياسية لها وظيفة التشريح على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي بما يتحكم في جسد الإنسان وروحه، حيث حاول فوكو تطوير نظرية في الحياة Bios والسياسة politique في الفصل الأخير من كتابه المعلمة "إرادة المعرفة"، كي يتم تجريد السلطة من عموميتها وغموضها بالانتقال إلى تحليل مختلف آليات التحكم
المعلنة منها والخفية، وكذلك أشكال التدبير العلنية والخفية.
إذ نحن هنا أمام تحليل معرفة استحالت سلطة، بمعنى أن تحليل السلطة لا يهدف إلى تكوين نظرية عنها، بل إلى التعامل بوصفها معارف تتحكم بالأجساد وبالإرادات الإنسانية. ذلك أننا أمام سلطة تفوق في أهميتها تلك المؤسسات والأجهزة التي تجسدها، نظرا لكون هذه الأخيرة تتوقف على وجود تلك المعرفة وأدواتها. فهي من دونها لا تساوي شيئاً، بخاصةٍ أنها هي التي تفرض "منطقها" في المأكل  والملبس وفي الشارع وتحفظ النظام...ألخ. لاسيما منذ أصبحت المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية محط رهان وتجاذب سياسي في المجتمع، أصبحت كل واحدة منها تابعة لمجال محدد من مجالات السلطة وفق تقسيم صارم للعمل بين سائر المؤسسات ضمن منطق إنتاج حقائق خاصة بكل حقل من الحقول الإنسانية.
والسياسة الحيوية بهذا المعنى ظهرت أساسا مع ظهور الليبرالية الاقتصادية، حيث حاولت مناهجها أن تحاكي طرق اعتماد آليات نموذج العلوم الوضعية المتبع في الإنتاج الصناعي للحصول على أكبر قدر من النجاعة والفعالية بأقل تكلفة ممكنة.
 
فن تدبير الأجساد
وبالتدريج تطورت السياسة الإحيائية إلى تكنولوجيا متخصصة في فن تدبير الأجساد عبر نظم التربية والتأديب والفصل بين المدنس والمقدس، بما فيها أساليب تنميط الأذواق وضبط السلوكيات وتطويع العلاقات الاجتماعية، سواء بالتأثير وفنون الغواية أو الإغراء، في آليات الحبس والتعنيف والزجر.
بالإضافة إلى ذلك امتدت هذه السياسة إلى العناية بالجسد حتى وضعت له حدودا وقواعد ومعايير وضوابط تحدد من هو السوي ومن هو الشاذ، المألوف وغير المألوف، الصحيح والخطأ... حيث لا يمكن تجاوزها إلا بالسقوط في المحظور، إذ لم يعد الأمر كناية عن مراقبة أحادية من أعلى إلى أسفل ومن الجماعة على الفرد، بل تمايزت وتعددت أوجه المراقبة وتناثرت السلطة حبات صغيرة في كل مناحي الحياة عبر تدخل الدولة من خلال الضبط الاجتماعي في جميع أنحاء المجتمع الهرمية وغير الهرمية العليا منها والسفلى.
على أنه من المهم بعد هذا التقديم، أن ننظر إلى الحداثة من منظور التحليل الذي يقدمه فوكو لنخلص في عجالة بأن مفاهيم الذات والحرية والاستقلالية المرتبطة أشد الارتباط بميلاد الحداثة، تم استدراجها إلى مستنقع منطق جديد يشي بالتحكم والمراقبة والتدجين والترويض والتطويع والنمطية.
بيد أنه إذا تمثلنا ما يجري في العالم العربي، فإننا أبعد من أن نجد أي تجسيد لمكونات الحداثة الأساسية (الذات، الوعي، الحرية، الاستقلالية، المساواة...)، بل غياب أية ترجمة حية أو موضع قدم صحيح في حياتنا المعاصرة أو حتى تمثل سوي في أذهاننا، بل نجازف بالقول: ثمة اتجاهان يعبثان بالحداثة عندنا، الاتجاه الأول أخذ على عاتقه شيطنتها وإطلاق النار عليها ونعتها بأقبح النعوت، بينما أخذ الاتجاه الثاني على عاتقه الدفاع عنها لدرجة الولع والهيام بها حتى صار يُقدسها ومولعا بها دون أن يلتفت إلى الآثار والتداعيات السلبية التي صاحبتها منذ عصر التنوير.

وبين هذا وذاك، لا مناص من العودة إلى ممارسة الحفر والكشف عن ماهية أي خطاب، حيث نجد أن ما يوجب الرؤية الأولى ويبرر عند أصحابها اعتقادهم أن الحداثة شيطان يوجب الرجم، هو قلقهم من الحاضر وأزماته وإحساسهم بطمأنينة مفقودة وسكينة ضائعة في ظله، وفقدان القدرة على مجاراة التحولات المتسارعة والسير في ركابها. فهم في ذلك مثل عربة قديمة تجر حصانا منهوك القوى

وخائر الأنفاس ثقيل الخطى، يحاولون قدر ما يستطيعون الاحتماء بماضٍ تليد يحِنون إليه ويدفنون فيه آمالهم ويستعيضون به عن ضعفهم في الحاضر، متناسين في ذلك أن أي جديد لم يبزغ وير النور من دون خلخلة للقديم. فالقديم كان جديدا والجديد سيصير قديما، ثم إن القديم بدوره لم يسلم أبدا من القلق والتوتر ولم يكن أبدا خاليا منهما.

هذا في الوقت الذي يتمسكون فيه بقيم بالية وما يرونه جديرا بالمحاكاة يقتصر على الماضي فحسب، لكن سرعان ما يصدمهم الواقع بأن تلك القيم لن تحميهم أيضا من جبروت الخضوع لقوى تمسك بأعناقهم وبمصيرهم صاغرين تمنعهم من السير قدما بخطى واثقة...أما من يُقدسون الحداثة والمولعون بها حد الهوس، بسبب نجاحات التقنية ومنجزاتها واختراعاتها الباهرة، سقطوا في شراكها و"مكرها" ليحيطوها بالجلالة والمهابة، معتبرين إياها البديل الذي لا مردّ عنه،  متناسين أن الماضي كان موضع تحقيق

أشياء وإنجازات كبرى أيضا، والتي من دونها ولولاها لما رأى جديدُ الحاضر النور أبدا.

 

ثنائية الماضي والحاضر

والحق إن كلا العقليتين حبيسة الثنائيات القديمة (الجديد/القديم، الخير/الشر، المرأة/الرجل...)، غير قادرة على عقلية تركيبية.

لذلك نجازف بالقول أن الحداثة هو شائع عندنا لحد الآن، لأن العالم لم يبدأ معها ولن ينتهي معها أيضا، كما أن مجمل التفكير الذي أحيط بها تم من منظور شمولي أو كلي، تم في الغالب من خلال منظور رؤية الحاضر الاستبدادية تجاه الماضي أو من منظور رؤية تمجيدية للماضي على حساب الحاضر.

وهذا يمس في نظري جميع المحاولات الفكرية التي حاولت سجن الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي، ما دام ذلك يتم بغاية إيقاف عجلة التاريخ وتثبيتها في حتمية وفق رغبة أو تعليبها في أيديولوجية ما، بما فيها تلك التي تحاول اختزاله في ذكرى جميلة يتمنون عودتها، أو الذين ظلوا يخلطون بين الحداثة والتحديث، أو من يضعون بحسن نية أو سوء نية الإسلام في مواجهة الحداثة.

ولكي نخرج من هذه الثنائية حبيسة الرغبة والحتمية، أي حبيسة الوعي الزائف من خلال ثنائية الأصالة والمعاصرة أو ثنائية "تحديث الإسلام أو أسلمة الحداثة" ليس من العبث القول إن الحداثة بدأت قبل التحديث، وأول المحدثين أو الحداثيين، هم هؤلاء القدماء عندما عمدوا إلى الاعتماد على العقل والاشتغال بالحكمة، حيث قال باسكال في حقهم إنهم ممثلو شباب العقل -الروح- الدائم، ونحن أمامهم "مجرد أقزام تحملها أكتاف عمالقة"، إذ أن الماضي لم ينقطع ولم ينته بظهور جديد، فهو يحيا بين ظهرانينا حتى وإن تغيرت سيماؤه بألف شكل، وكل ما يحمل قيمة منه ما يزال صامدا يجتاز مسافات الزمان والعصور. أما إذا تم تقديسه يستحيل صنما... ووثنا...

الفيلسوف باسكال محق في ذلك لأن القدماء ما يزالون أحياء بيننا في الحاضر، وليسوا بغائبين عنا في غياهب الماضي، لأن الزمن ليس كما نظن، فالحاضر ليس قطيعة مع الماضي، كما أن هذا الأخير ليس بدوره قطيعة مع الحاضر، إذ بذل القدماء كثيرا من حيوية الشباب وعنفوانه كي يصلوا إلى ما وصلوا إليه، واستلزم بذل كثير من النضج والشيخوخة من طرف المعاصرين لكي يكملوا المشوار ويصبحوا أهل حداثة.

وبهذا المعنى لا يمكن فصل الماضي عن الحاضر، فالحداثة من دون الماضي الذي سبقها لا يمكن أن توجد، كما لن يتم أي وجود واعتراف بالماضي ذاته، إذا لم يأت بعده حاضر يعيش من خلاله فهما مرتبطان، لأن في حياة العقل وحركته شي يشبه حركة المشي، إذا رفعْت الرِّجل الأولى فأنت مجبر على رفع الثانية، وإلاّ تعرضت رغما عنك للسقوط.

هذا هو حال الماضي والحاضر في عجلة التاريخ، وإني بهذا لست بحاجة إلى تأكيد على أن ذلك هو حال الماضي مع الحاضر والحاضر مع الماضي، شيء شبيه بمنطق الزمن، فلا شيء في الحياة منته ولا شيء يبدأ حقيقة من الصفر. ثمة بداية مستمرة وغير منقطعة في حركية جميع الأشياء، ثم إعادة مستمرة لهذه

البداية إلى ما لا نهاية..

ومما لاشك فيه، أنه إذا كانت عبقرية القدماء تتجلى في كونهم وعوا أهمية شرف محاولة البداية وقاموا بها على أحسن وجه، فإن عبقرية المحدثين تمثلت في الوعي بتكرارها بإعادة البناء والاستمرار فيه إلى ما لا نهاية. مما يُخول أيضا الحق لأي أحد يأتي بعدهم أن يعيد شرف السؤال والبداية من حيث انتهى الآخرون ومن جديد، من ذلك ما قام به ميشيل فوكو بدوره عندما عمد إلى الشك في منطق تاريخ الفكر وإعادة السؤال في أسس الحداثة وفي سلطة القديم ومعرفته، ومن ثم إلى تفكيك سلطة المعرفة ومعرفة السلطة بتفكيك آليات انقلاب الحديث على القديم.

 
باحث جامعي، مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر؛ جامعة السوربون.
 

ليست هناك تعليقات: