الخميس، 7 يوليو 2016

بول ريكور والذات المتعددة/ مصطفى بن تمسك



الذات المتعددة لدى بول ريكور
http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D8%AF%D9%89-%D8%A8%D9%88%D9%84-%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%88%D8%B1-3801
أبريل 2016

بقلم مصطفى بن تمسك

يُعتبر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور 1 أحد أكبر فلاسفة القرن العشرين لغزارة مدونته الفلسفية وخاصة
 
 
لكونه قد نهل وتشبع من روافد الفلسفة القارية والانغلوسكسونية. انصب كل اهتمامه على التوفيق والوفاق
بين التحليلية البرغماتية الانغلوسكسونية والفينمينولوجيا-التأويلية )الهرمنطيقا( الألمانية. حاول الإجابة عن
أسئلة العصر الحارقة المتصلة أساسا بتشخيص علل الذاتية الحديثة على ضوء مكتسبات العلوم الإنسانية
 
وخاصة أفعال الخطاب Les actes du discours لدى اوستين سورل ستراوسن وريكنتي 2. بيد أن تحليلاته
 
 
لم تتوقف عند مستوى المعالجة البنيوية والبرغماتية، بل انفتحت على الروافد الأنطولوجية والأنثربولوجية
 
والتأويلية كما اشتغل عليها هايدغر وهوسرل وغادمير ودلتاي 3. وبذلك تكون فلسفة بول ريكور قد نهلت من
 
 
الضفتين وعيا منها بضرورة توحيد الأقوال حول الإنسان الراهن من أجل وضع نظاما فلسفيا متكاملا قادر
على استجماع الروافد المبعثرة وتوحيدها في ذات جديدة تتعايش فيها الوحدة والتنوع.
 
 
 
لم يستنفذ الفكر الفلسفي أقواله بعد حول مسألتي الذات والذاتية، ذلك أن انفجار ثورة الآحاد على
الكليات المستبدة إبان عصر الحداثة الأوروبي، وهذا الاستبدال الضخم من عالم كان ممركزا حول الكليات
الثابتة الى آخر بات رهين التحكمات النزوية لكل ذات لم يكن ليرضي كل النفوس المتأملة في الإحتفاظ
بالانطولوجيا والتيولوجيا. رغم ولعه وتأثره بالتحليلية البرغماتية الانغلوسكسونية، ظل ريكور ذلك الفليسوف
المسيحي البروتستنتي الذي لا يتخلى عن مطلب الحقيقة «الجامعة Compréhensive » بالمعنى الأرسطي
للكلمة. إنها الكليات ومقولات الوجود الكبرى أو بلغة ريكور السرديات الجامعة والضامنة لاستمرار العيش
المشترك. في أفق ما يمكن أن يعيد مكانة الحقائق الجامعة والسرديات المشتركة وينهي الانقسامات والشروخ
التي كرستها فلسفات الذات وإيديولوجيات الفردنة L’individualisation يتنزل الجهد والمسار الريكوري
الطويل. إنه جهد يرتئي رتق شروخ عميقة في مبيان الذات الحديثة والذات المعاصرة وريثتها الطبيعية.
يحمّل ريكور مسؤولية الفهم المشروخ الى مختلف تأويلات الحداثة الغربية. لقد أوهمتنا التأويلات السائدة
انه لا مناص لنا من القبول بإحداها: إما الاحتفال بالفردانية الظافرة وبالحريات اللامبالية منذ لحظة الكوجيتو
الديكارتي وصولا إلى دعاة الليبرالية والليبرالية-الجديدة)سميث/ ستيورات ميل / بنتام/ رولس/ دواركن.
الخ(. أو السخط عليها لأنها انتصرت لمصالح الأفراد على مصالح الجماعات. وبالضرورة ألغت الإحداثيات
المشتركة للتوافق على معايير مشتركة للعيش السوي )وهو عين الموقف النقدي الذي يتزعمه في عصرنا
ما يمكن أن نسميهم بالفلاسفة الجماعتيين Les communautaires الأطلنطيين على غرار ماك انتاير /
فالزار/ ساندال وتايلور(. بحياديته عن هذين التأويلين المتطرفين، يسعى ريكور إلى تأسيس مقاربة توفيقية
ووفاقية ممكنة تؤلّف بين منظومتي التنافر المطّرد أعني منظومة الآحاد ومنظومة الكليات. تطمح القراءة
التوفيقية والوفاقية إلى تجاوز التصورات الوضعية المبتورة لحركة التاريخ عامة وللذات الحديثة خاصة:
فالتاريخ ليس تعاقبا خطيا وتصاعديا لحقب يلغي بعضها البعض كما زعم ذلك مثلا أوغست كونت، والذات
الحديثة ليست مدينة في تكوّنها للمرحلة الوضعية-العلمية فقط، بل هي محصّلة المراحل الما قبل-العلمية أي
المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافيزيقية.
تمكننا هذه القراءة التوفيقية والوفاقية من العدول عن الرهانات الضيقة التي فرضتها علينا الوضعية
والنفعانية والإجرائية، ومن ثمة توحيد الشتات الإبستمولوجي والأكسيولوجي والأنثروبولوجي والسياسي
لإنهاء وضعية «التشظي » المزدوجة: في مستوى معارف الإنسان، وفي مستوى بنية الإنسان نفسه. يتعيّن
الرهان الوفاقي في توحيد هذا الشتات والتبعثر وإنصاف المصادر المكوّنة لهوية الذات الحديثة على قدر
إسهاماتها التاريخية بعيدا عن الأحكام المسبقة الاقصائية والانتقائية. وعلى خلفية الوفاق والإنصاف ينتصر
ريكور للروح التعددية الشاملة المكونة للذات الحديثة مانحا بذلك الجزئيات المنسية حق الظهور، متصديا
بالتوازي للكليات المهيمنة، ولا سيما للرؤية الكلية التقنوية الباسطة سلطانها بلا هوادة على مجمل الوجود
الإنساني.
كيف سينجز ريكور مشروع الذات المتعددة الروافد: هل بالقطع جذريا مع نماذج الذاتية الحديثة بدءا
من نموذج الكوجيتو المتعالي وانتهاء الى نموذج الأنا الذرية أم بإعادة تأهيل الذات فينومينولوجيا وتأويليا
استعداد لغرسها من جديد داخل الفضاء العمومي للعيش المشترك؟
 
I/ الذات الحديثة: من التعالي إلى التهاوي
 
 
 
في تقديمه لكتاب الذات عينها كآخر 1 يعلن ريكور أن استئناف فلسفة الذات في هذه الأزمنة التي سيطرت
 
 
فيها المقاربات البنيوية والألسنية على مجمل الدراسات الإنسانية ليس بالأمر الهين لكونه يقتضي منا تجاوز
براديغم الكوجيتو الديكارتي وأضداده.
 
الكوجيتو المتعالي: البراديغم الديكارتي
 
 
 
يصف ريكور الكوجيتو الديكارتي بالمتبجح والمتعالي 2Le cogito exalté لأن عملية تأسيسه وقعت
 
 
في العزلة التأملية أي خارج التاريخ وفي قطيعة مع الغيرية الخارجية. ولا بأس أن نذكّر بمراحل واجرائيات
تأسيس الكوجيتو الديكارتي. انطلاقا من تجربة الشك الشهيرة يتوصل ديكارت الى البداهة التالية: الحواس
لا يمكن أن تكون أساسا لبناء العلم والفلسفة لأن من خدعنا مرة يمكنه أن يخدعنا مرات أخرى. لهذا وجب
البحث عن نقطة ارتكاز جديدة وثابتة اي واضحة ومتميزة. يجد ديكارت ضالته في العقل. بدلا من البحث
عن الحقيقة في العالم الخارجي يجب رصدها داخل الذات. لهذا يقرر ديكارت ايقاف تجربة الشك الافتراضي
والاختباري في هذا المستوى تحديدا أعني مستوى فعل الشك ذاته الصادر عن الجهة المفكرة في الانسان.
واذن لا يمكن الشك في الشك نفسه. بهذا عاد الفكر إلى ذاته الخالصة بعيدا عن كل تمثلات الأشياء الطبيعية
 
حيث كان تائها. وهكذا تنقدح الحقيقة الحدسية الأولى، وهي «أنه موجود مادام شيئا مفكرا 3» ، هكذا وصل
 
 
إلى نقطة الارتكاز التي كان يبحث عنها، وهي الكوجيتو.
الكوجيطو هو الفكر الذي يدرك كينونته ووجوده في فعل التفكير، إنه الأنا الذي يشك ويفكر، وبما أنه
 
كذلك فهو شيء ما، «أنا شيء مفكر، أي أنا إدراك أو عقل 4» . الكوجيطو هو الأنا الذي انطلق من الشك،
 
 
والذي أدرك أن طبيعته هي الفكر، في هذا الصدد يقول:
«لقد اقتنعت قبلا أنه لا يوجد في العالم شيء على الإطلاق، لا سماء، لا أرض، لا نفس، لا أجسام…
ولكنني متيقن من أني موجود… ولا يمكن لأي كائن مهما كان قويا وشديد القوة أن يضللني ويجعلني لا
 
شيء، مادامت أفكر 5» . إن إدراك الذات لذاتها تم بناء على الفكر فقط، لا على الجسم، فيقين الوجود أعطي
 
 
له من قبل الفكر، وهذا يعني أنه لكي يعي وجوده لا يحتاج إلى شهادة الحواس أو إلى الجسم، في كتابه
 
«مبادئ الفلسفة »، يؤكد ديكارت على أن المعرفة بالفكر أوضح وأيسر من المعرفة بالجسم 6، ذلك لأنه لو
 
 
كانت المعرفة بالأجسام والأشياء أيسر لانتهى إليها الشك . لكن أسبقية المعرفة بالفكر جعلته يهتدي إلى أن
المعرفة بالأشياء الأخرى تبقى منقوصة وفاقدة لليقين. فالكوجيطو خالص مكتف بذاته، إذ يمكن أن يوجد
ويشتغل ويؤدي مهامه حتى في غياب الجسد، من هنا فالفكر أصبح هو النقطة الأولى والحقيقة التي سيتم
الاعتماد عليها لتلمس مسار الفكر نحو الحقائق الأخرى في مسلسل البناء هذا. الأنا فكر خالص، والنفس
جوهر وظيفته التفكير فقط، وهي ذات طبيعة فكرية تجعلها متميزة عن الجسد الذي هو امتداد عاطل فحسب.
بهذا الكشف وبهذا التمييز بدأت مبادئ الفكر القديم، في جانبه الميتافيزيقي تنهار، إذ يسقط التحديد القديم
للإنسان بكونه مزيجا من «المادة والصورة »، لم يعد الإنسان حيوانا عاقلا، لأن الحياة خاصية للجسم، وهذا
الأخير ليس شيئا ثابتا وقارا مادامت الأرض التي يقف عليها تسبح في الكون. ما يتبقى هو الفكر الخالص،
والإنسان لا يقاس بامتداده وإنما بالفكر. هنا تظهر قيمة الشروط النظرية التي أتاحت لديكارت إمكانية
التصريح بهذا القول، ذلك أن في هذا القول مخالفات خطيرة تكشف عن مدى خطورة الموقف الديكارتي في
مرحلته التاريخية. فالقول بأن الإنسان فكر فقط، كان بمثابة رجة تهز أركان الفكر السكولائي، لأن الإنسان
في نظرهم يتموقع في منزلة وسطى بين الفكر أو الصورة الخالصة )الإله( وبين المادة الجامدة، وهو مزيج
من المادة والصورة، والقول بأنه فكر خالص يعني وضعه في منزلة الإله، وفي هذا كفر وزندقة، وبهذا
القول استحق غصب وسخط القائمين على الميتافيزيقيا القديمة. الكوجيتو: «أنا أفكر إذن أنا موجود »، كانت
بمثابة الثورة الكوبيرنيكية في ميدان الفلسفة. يعتبر ظهور الأنا المفكر كمحدد للإنسان تمردا على الجماعة
وانسحابا من دائرة الخاضعين للكل. يؤسس الكوجيتو قيمتين غير مسبوقتين في تاريخ المثالية الفلسفية:
أولاهما أن الإنسان بوصفه فكر خالص بات مساويا لله. والثانية هي ظهور مفهوم الذات اللامبالية بالعالم
وبالغيرية. ما الذي يعيبه ريكور على الكوجيتو الديكارتي وهو الذي شكل المنعرج الحاسم في ميلاد الذاتية
الحديثة وتحررها من سلطة القدامى؟
انطلاقا من الأفق الفينومنولوجي، يعتبر ريكور أن عملية تأسيس الكوجيتو رغم ثوريتها داخل سياق
عصرها، افتقرت الى حدين أساسيين لا بد أن يتموقع الوعي البشري بينهما وهما العالم الطبيعي والعالم
المجتمعي. الأنا الديكارتي صنع نفسه بنفسه في عزلة تأملية خالصة وأثناء صراعات سيكولوجية مفتعلة
ونوبات شك افتراضية تتراءى لها في أحلام اليقظة والنوم وفي وسوسات الشيطان الماكر. كما تعزو
 
حضورها في العالم إلى حدس انقدح فجأة في الذهن. يختزل البراديغم الديكارتي صيرورة تكوّن انية الهوية
 
حينئذ في السجلين السيكولوجي والتذهيني مبقيا فقط على «أنا مضخّمة »Un je grand format« 7» . يقول
 
 
بول ريكور: «تتسم هوية «كوجيتو –الهو-هو Le Cogito de la même té ’» المتمركز حول نواة الأنا
من خلال أفعال الشك والإدراك والإثبات والنفي والإرادة وعدم الإرادة والتخيل والإحساس باللا-تاريخية
An-Historique )...(.إنها هوية دقيقة Ponctuelle ولا-تاريخية «لأنا » يقع في لجج التنوع: إنها هوية
 
‘الهو’ الذي يفرّ من بدائل الديمومة والتغيّر في الزمن لأن هذا الكوجيتو ‘لحظوي’ 8» . لا يثبت «الأنا أفكّر »
 
 
انيّته داخل عالم البشر بل خارجه وبالتحديد داخل عالمه الذاتي. فهذا الأنا لكي يكون هو وليس غيره مجبر
على استبطان قواه الإدراكية الداخلية واختبار قدراته الإستدلالية خارج معطيات التجربة الحسية. لذلك لا
يجد حرجا في الاستعانة بالعقل النظري الصرف وبالمنهج الرياضي وفي نفس الوقت استدعاء الحدس
والتدخل الإلهي.
إن الرغبة في الانفصال من أجل تثبيت مركزية الهو-هو، يترجم وهم هذه الهو واعتقادها في مركزية
التأمّل ضد العمل، وفي نفس الوقت في مركزية الأنا ضد النحن، وبالتالي لا تعير أهمية للتاريخ ولجدلية
الأنا والآخر في الصيرورة التاريخية.
 
ثالوث التظنن المضاد للكوجيتو الديكارتي
 
 
 
يقول ريكور: «يلتقي الفيلسوف المعاصر بفرويد غير بعيد عن نيتشه ولا ماركس فيقف ثلاثتهم أمامه
أقطاب الظنة Le Soupçon وكاشفي الأقنعة. وينشأ مشكل جديد وهو مشكل زيف الوعي ومشكل الوعي
 
بوصفه زيفا 9» .
 
 
يصف نيتشه فلسفات الوعي الممتدة من سقراط وأفلاطون وديكارت وكانط بأنها فلسفات زهدية
Ascétique وثنائية تقوم على شطر الإنسان الى نصفين متفاضلين بالقيمة والماهية: جسد/روح. وهي إذ
توطن التفكير داخل الروح وتعتبره إحدى صفاتها، تلغي الدلالات الأنطولوجية والمعرفية للجسد، وتلقي
به في خانة الزوائل والأعراض. وتكتفي بمنحه صفة «الوعاء » أو الحامل وفي اقصى حالات التهجين
والإقصاء «قبر Soma » )أفلاطون( يتعين السعي الى مغادرته نحو الموت المحرر للروح من قبرها
الأرضي. يعتبر نيتشه أن مثل هذه الفلسفات التي اختزلت الأنا في التفكير والفضيلة المتعالية عن نزوات
 
الجسد، وقعت في المحظور الأقصى ألا وهو العدمية.وتعني باختصار إبادة قوى الحياة وقهر الرغبات 10 من
 
 
اجل مثل اعلي زهدي لا يوجد الا في أوهام أصحابه.
 
أما ماركس فيعتبر الوعي نتاجا اجتماعيا 11 يتشكل تدريجيا وتاريخيا من خلال وضعنا الطبقي
 
 
والتاريخي. وبعبارة أخرى ليس هناك وعي فردي خارج السياقات الطبقية والتاريخية. لا وجود لانا أفكر
خارج وجود الأنا ذاته وتعينه في طبقة اجتماعية واقتصادية محددة. ولو افترضنا وجود مثل هذه الأنا على
المنوال الديكارتي فلا يمكن أن يكون تفكيرها خارج الأطر المكانية والزمانية وحتى إن توغل في التجريد
والموضوعية والشكلانية فإنه حتما يخفي انتماء فكريا طبقيا وإيديولوجيا معينا. يدعو ماركس إلى الحفر
عميقا في ثنايا الفلسفات المثالية وكشف أوهامها الإيديولوجية المتسترة.
في حين يعتبر فرويد أن الأنا المتعالي لفلاسفة الوعي تهاوى نهائيا نتيجة ما تعرض له من جروح
نرجسية ثلاثة Les trois blessures narcissiques زعزعت كبريائه. يقول في كتابه «مدخل إلى
التّحليل النّفسيّ: «وجّه العلم على مدى قرون إلى أنانيّة البشر السّاذجة تكذيبين خطيرين. أمّا التّكذيب الأوّل
فقد كان لمّا بيّن العلم أنّ الأرض بعيدة كلّ البعد عن أن تكون مركز الكون، فهي لا تشكّل سوى جزء حقير
من النّظام الكوسمولوجيّ الّذي لا نكاد نستطيع تمثيل عظمته. فهذا التّبيان الأوّل قد ارتبط عندنا باسم كوبرنيك
Copernic )...( أمّا التّكذيب الثّاني فقد وجّهه البحث البيولوجيّ إلى البشريّة لمّا قضى على ادّعاءات
الإنسان قضاء تامّا في احتلاله محلاّ متميزا من نظام الخلق وذلك بتنزيله ضمن مملكة الحيوان وبيان الطّابع
الدّائم لطبيعته الحيوانيّة. وقد أنجزت هذه الثّورة الثّانية في أيّامنا هذه بفضل أعمال شارل داروين Darwin
وولاص Wallace ومن أتى بعدهم، وهي أعمال قد أثارت عند المعاصرين ردود فعل بالغة الحدّة. ويتوقّع
أن يوجّه تكذيب ثالث إلى جنون العظمة البشريّ mégalomanie بفضل البحوث النّفسانيّة الجارية في
أيّامنا، وهي تريد أن تبيّن للأنا أنّه لم يعد بمفرده سيّدا حتى في بيته، وأنّه قد أجبر على أن يرضى بمعلومات
 
نادرة ومجزّأة على ما يجري خارج وعيه، وفي حياته النّفسيّة... 12»
 
 
عمّق التحليل النفسي الجروح النرجسية عندما كشف أن الأنا لا يمثل عمق الشخصية بل فقط واجهتها
الخارجية. وفضلا عن هذا فالأنا لم يتشكل بالتمارين التفكيرية والتأملية، بل من خلال ترسبات العقد الطفولية.
وبالتالي فنحن لا نفهم عمق الشخصية من خلال ما تحاول إظهاره على شاشة وعيها بل من خلال الحفر في
مسكوت الوعي أي اللاوعي.
 
يحسم ريكور النزاع العنيف بين فلسفات الوعي وفلسفات الرجة والظنة بدعوته الى التوفيق بين الثنائيات
العسيرة المكونة لماهية الإنسان على منوال العقل والجنون/ الحرية والضرورة / الهشاشة والمسؤولية/
الوعي واللاوعي وذلك في إطار مشروع أنتروبولوجيا فلسفية شاملة توحد شتات الإنسان. على الذات أن
تتخلى عن تعالويتها المزعومة وان تخضع ذاتها للمراجعة التأويلية. وعلينا أن ندفع نحو الاستعاضة عن
 
تعريف الإنسان من «حيوان عاقل » إلى «حيوان يؤوّل ذاته ».Animals Self-Interpreting13« »
 
 
وعندما نقول أن الإنسان «حيوان يؤوّل ذاته »، فهذا يعني ’’أنه دوما صنيعة تأويله ذاته وطريقة فهمه
 
للأشياء التي لها معنى بالنسبة إليه’’ 14 . هنا تكمن أهمية الأنثروبولوجيا-التأويلية القادرة على تخليص الذات
المعاصرة من أوهام التجوهر كما من إهانات التذرية 15 والتفكك. يتعين على الهرمنطيقا أن تعود على المؤّول
 
 
حتى يغتني بروافده المنسية والمكبوتة في أعماقه.. تلكم المتعلقة أساسا بالجسد والرغبة والخيال والأسطورة
 
والذاكرة. من أوكد مهام الكوجيتو الهرمينوطيقي 16 لململة كل هذا الشتات في وحدة قادرة على منح الإنسان
توازنا انثروبولوجيا وانطولوجيا وتحصنه من هشاشة وضعيته الوجودية 17 .
 
 
 
 
II / التأسيس الفينمنولوجي للذات
 
 
 
لا شك أن انهيار العالم القديم وانزياح اللوغوس من دائرة الوجود الى دائرة الموجودات هو الحدث
الأبرز الذي ميز الحداثة الغربية منذ القرن السابع عشر. اقترنت لحظة الحداثة بحدثين متلازمين: يتمثل
الأول في ذلك الانقطاع الكلي عن العالم القديم وهجر ترسانته الميتافيزيقية الثقيلة. أما الثاني فيعلن ميلاد
الذات والذاتية الظافرة. أدى الحدث الأول إلى أفول ميتافيزيقا الهوية، وتبعا لذلك انهيار القيم العبودية
والإقطاعية والأرستقراطية القائمة على نظرية ثبات الطبائع والأدوار الاجتماعية. أما الحدث الثاني فقد أدى
إلى تنامي قيم الحرية والمساواة القانونية.
في خضم عصر الثورات هذا سينبجس الوعي الفردي باحثا عن هوية فريدة لا تكون نسخة وفية لبنية
الوجود الميتافيزيقي، بل نسخة وفية من ذاته. ويعني هذا أن الرهان بات منصبا على مدى وفاء الذات لذاتيتها
وخصوصياتها، ومدى مقاومتها للبداهات ولأشكال التبعية السلبية المعطلة للحرية والإبداع.
 
اقترنت الحرية الحديثة باستكشاف هوية الأنا وبتحمّل هذا الأنا الناشئ مسؤولية وجودا عار من كل
التحديدات القبلية الجاهزة. أزاحت هذه الهوية الناشئة الهويات التقليدية الجاهزة وحازت تبعا لذلك على
ضروب مختلفة من الحرية القانونية والسياسية والأخلاقية والمعرفية. وبذلك تحوّل هذا الأنا من موقع التابع
إلى موقع المتبوع . أصبح العقل الأداة المثلى لفهم العالم وفق ما يضعه هو فيه لا وفق ما يمليه عليه النظام
الكسمولوجي. تحررت الذات الحديثة من ثقل الهويات الجاهزة وباتت سيدة على ذاتها وعلى العالم. بيد أن
هذا الشعور بالاعتداد والاستقلالية وثقتها المفرطة في قدرات عقلها الأداتي/النفعي والحسابي سيدفعها شيئا
فشيئا إلى التخلي نهائيا عن ارتباطاتها والتزاماتها الثقافية والإجتماعية بعد انهيار سنداتهما الأنطولوجية.
من تبعات هذا التحرر المفرط هو تنامي النزعات البرغماتية الفردية في العالم الحر وتلاشي الحد الفاصل
 
بين الحرية وحق الاختلاف وظاهرة النسبوية الناعمة Relativisme doux18 التي تتساوى فيها كل الآراء
 
 
ولا تحتكم الى معايير موضوعية ومشتركة. إزاء وضع الانفلات الفردي والأخلاقي يذكرنا ريكور أن
شروط استمرار ودوام العيش السلمي المشترك تقتضي ملائمة العناصر الثلاثة التالية: أولا الحياة الجيدة.
 
ثانيا، وهي لا تكون إلا مع ومن أجل الآخر. ثالثا، وهذا الشرط لا يصح إلا اذا توفرت مؤسسات عادلة 19 .
 
 
لا بد من إعادة تصويب حرية المحدثين وورثتهم من الليبراليين الجدد بشكل يحد من لا مبالاتها ونزوتها
ويعيد غرسها في الفضاء العملي المشترك. وبعبارة أخرى أصبح هاجس ريكور هو قران الحرية الفردية
بالمسؤولية الاتيقية.
في أفق إصلاح انحرافات الذات الحديثة وما بعد الحديثة وإرفاق الحرية بالمسؤولية الاتيقية يدعونا
ريكور الى التفكير في الآخر بوصفه عين الذات. ’’الآخر - يقول ريكور- ليس ما يقابل الهو Le Même
 
بل ما يكوّن معناها الحميمي’’ 20 .
 
 
إن تمثل الآخر بوصفه غيرية ليست فقط خارجية بل داخلية هو إحدى رهانات الإصلاح الريكوري
للذات الحديثة. ولكن هل يستقيم إصلاح كهذا دون أن يحضر العالم الموضوعي الجامع للانا والآخر كمكون
قبلي لفينمينولوجيا الذات؟
تتأسس فينمنولوجيا الذات على مقومين:
أولا: التعاطي مع الآخر كجزء من غيرتنا الداخلية كما الخارجية. ثانيا: الإقرار بأن وجود العالم
مرتهن بوجود ذات تعيه وتقوله والعكس صحيح ذلك أن وجود الذات لا يكون إلا في عالم سخّر لها. يقول
ريكور: «الوجود في العالم غير منفصل عن وجود الذات. كلاهما يفترض الآخر. العالم غير موجود دون
 
ذات فاعلة والذات لا توجد دون عالم مهيأ لها 21» . الأنا الفينومينولوجية تقصد العالم وتنخرط في حراكه
 
 
وصخبه الدائمين. «يفترض وجود الذات حضور العالم بوصفه أفقا جامعا لتفكيره وفعله وإحساسه وباختصار
 
لاهتمامه 22» . تتشكل الأنا الفينومينولوجية في العالم وفي أنماط الانخراط والتكيّف معه. لا يتعلّق الأمر بانية
 
 
تعتقد في «جاهزيتها » واكتمالها منذ البدء، وفي تميّز كيانها المجرّد عن الجسم. ولا يتعلّق الأمر أيضا بأنا
 
يقظانية )نسبة الى حي ابن يقظان( تشكّلت في الوحدة الطبيعة أي دون وساطة بشرية أو تعبيرية 23 ، أو
 
 
«بأنا روبنسونية »، شبيهة في وحدتها إما بالوحش أو بالإله على حد عبارة أرسطو، بل بنوع جديد من الأنا
يتموضع في-العالم تجسّدا وانخراطا وقصدا وتحويلا واستثمارا وترميزا. فضلا عن تشكله في اللغة وفي
مختلف شبكات التواصل الرمزي. يقول ريكور: «هذه هي فرضيتي في العمل الفلسفي: إني اسميها «التفكير
المتجسد » أي الكوجيتو الذي مر عبر توسط كل عالم العلامات وذلك أن الأنا أفكر إنما يكون قد تجسد بعد
 
في كل مرة ضمن «أنا أكون » هي في ظاهرها أنا مطمئنة، لكنها في باطنها تحمل الشك المؤلم 24»
 
 
إن استيفاء هذه المهارات يظل مشروطا بحضور الأنا قبالة أنا أخرى، فهذا الحضور أو «الوجه لوجه »
 
حسب تعبير لفيناس هو الذي يجعل التفكير في العالم والكلام حوله ممكنا 25 . وندرك من هذا أن علاقة الأنا
 
 
بالعالم ليست مباشرة بل موسّطة بالآخر وبالرمز وباللغة، فالعالم -الموضوعي هو ما نتحاور بشأنه في اللغة
مع الآخر، أما ما هو في الأصل خارج أدوات التواصل مع الآخر فأمر لا ينتمي إلى وعينا التواصلي بل إلى
ما هو في ذاته. بفضل تواصل الأنا والآخر أمكن للعالم أن يغدو عالمنا-نحن، وأمكن إخراجه من مجهوليته
وغرائبيته واستملاكه في مستوى الأنا أكون.
وعليه يتبيّن أن نموذج الأنا التعددي المنشود ليس ذلك الضرب من الأنا اللا- مبالي بجسده وبالعالم،
والمستغرق في تأملاته الميتافيزيقية بعيدا عن فوضى العالم وصخبه )نموذج الكوجيتو الديكارتي والكانطي
والهوسرلي(، بل ذلك الذي يستغرقه الآخر والعالم في فعل جدلي تتبادل فيه المواقع والانتصارات. وبهذه
الخاصيات لن يكون السؤال عن كينونة الأنا سؤالا حدسيا بل سيكون سؤالا فينزمينولوجيا حيث يذهب
 
الأنا أكون الى الأشياء ليقيم بين ثناياها بالمعنى الهوسرلي للقصدية 26Intentionnalité . وبهذا يكون قد
 
 
تخلى عن صلفه في التعالي عن الظواهر والتخلي بالخصوص عن التعاطي معها وكأنها أعراضا زائفة لا
تحمل دلالات معرفية ثابتة. ولذلك كان الإغريق ولا سيما أفلاطون وأرسطو ينزعون عنها صفة الجوهرية
والماهوية ليضعونها إما في المثل او في الكليات الجامعة. بالعودة الى العالم الظاهراتي تغيرت مرجعيات
 
الأنا المعرفية تماما. لم تعد المعرفة عرفانا وإشراقا أو بحثا عن التطابق بين موضوع معرفي جاهز وذات
تحمل في داخلها بذور الحقيقة الخالدة. أضحى العالم أمام الذات موضوعا للاستكشاف والمجاهدة. وفق
التصور الفينمنولوجي لا يحمل العالم في ثناياه معرفة كامنة او حكمة ثاوية علينا التقاطها بما توفر في
دواخلنا من استعدادات لتلقي مثل هذه الحكمة )الموقف الرواقي والعرفاني نموذجان(. المعرفة ليست تطابقا
ولا تلقيا سلبيا لا يفترض حضور الآخر معنا وقبالتنا. المعرفة الفينوميونولوجية والقصدية بالخصوص هي
لقاء مزدوج مع عالم قد من طبيعتنا كما بين ذلك مرلوبونتي ثم مع آخر بوصفه شبيهنا الذي نتحاور معه من
اجل ترويض أشياء العالم خدمة لصالحنا المشترك. إن الولوج في العالم وفي الأخر)عين الذات( ليس ولوج
الذات في موضوع غريب عن ماهيتها، بل ولوج الشبيه في الشبيه واكتمال حلقات الطبيعة. وبهذا تنزاح
الثنائية الثقيلة للذات والموضوع ولتخارجهما الذي افتعلته المثالية الكلاسيكية ليحلّ «اللحم » في العالم والعالم
في «اللحم » دون أن يضمر أو يضمحل القصد أي وعي هذا الالتحام. ذلك أن الالتحام دون قصدية قد يفهم
على أنه ضرب من الحلول بالمعنى الصوفي للكلمة. والحال أن من أبرز مدلولات الالتحام القصدي الحفاظ
على البقاء. إذ لا بقاء خارج العالم إلا بحسن البقاء فيه. ولعل هذا هو مدلول لفظة «الكوناتيس Conatus »
الاسبنوزوية حيث يعمل هنا كرغبة قصدية متصلة بانخراط الإنسان في العالم من اجلب البقاء وحسن البقاء.
إن الانخراط بقصدية في عالم هو امتداد للحمنا يجعل من الإدراك الفردي إدراكا لكيفيات الانخراط في هذا
العالم. وبالنتيجة الارتقاء شيئا فشيئا من المستوى الأول للبقاء «الكوناتيس » إلى مستوى الرغبة في حسن
البقاء من خلال اندماجنا في الآخر.
 
III / التأسيس الانثروبولوجي-التأويلي للذات
 
 
 
بعد تحصيل تجربة اللقاء الفينومنولوجي المزدوج مع العالم ومع الآخر، ينتقل الأنا الفينومنولوجي الى
المرحلة الموالية والتي نسميها بمرحلة التأسيس الانثربولوجي للذات. يقتضي الدخول الى هذه العتبة أن
 
تطرح الذات على نفسها السؤال التالي: «من أكون؟ 27?Qui suis-je» .
 
 
لكن قد يوحي هذا التأسيس برغبة الذات في الانثناء على ذاتها على إثر فشلها في تجربة الغيرية
 
المزدوجة )العالم والآخر(. وقد يوحي أيضا بأننا إزاء سؤال كينوني ’’مخيف’’ 28 ربما منذرا بإجابات غير
 
 
فلسفية وقد تكون إيديولوجية مثيرة لحرب الآلهة. بيد أن ريكور سرعان ما يردف بالقول أن هذا السؤال
على وجاهته يظل في صيغته وإجاباته نظريا ومطلقا طالما لم نفككه الى منطوقاته الأربعة التالية: «من
يتكلم؟ Qui parle » ? من يفعل؟ Qui agit ? من يسرد ذاته؟ Qui se raconte ? من هي الذات الأخلاقية-
 
المسئولة؟ 29?Qui est le sujet moral d’imputation . عن السؤال الأول يجيبنا علم اللغة وعن الثاني
 
 
علم العمل وعن الثالث علم السردية وعن الرابع علم الأخلاق والاتيقا.
إن إحالة السؤال الكينوني الى مجال العلوم الإنسانية المذكورة يراد منه القول إن مبحث الكينونة سواء
في صيغته الفردي او الجماعية، لا يهدف الى استعادة البحث الأنطولوجي القديم ولا يكترث بالبحث عن
ماهية سابقة على وعينا أو بجوهر طمسته الأعراض الحسية والجسدية، أو بلحظة تذكّر نسيان ما لماهية
ثاوية في باطننا. ولا ينشد السؤال أيضا تمييزا لأنا عن أخرى على خلفية إيديولوجيا تسعى لتبرير التفوق
العرقي والعنصري لكيان على آخر. بل تنحصر انتظارات السؤال وتفريعاته في كونه سؤالا يحرضنا بشدة
على الفهم الفاعل أو على ذلك الفهم الذي لا يمكث في مستوى المناظرات السجالية حول طبيعة الإنسان. إن
مثل هكذا فهم لا ينشد التنظير أو الإمساك بماهية منفلتة، بل يتوق للفعل في الإنسان ومعه في إطار فلسفة
 
تصف نفسها ’’بالعملية’’ 30 .
*- بأي معنى يمكن اعتبار الذات الفاعلة بديلا عن الكوجيتو والكوجيتو-المضاد؟ 31
 
 
يقتضي إعادة تأسيس الذات انثروبولوجيا وضع منهج تأويلي )هرمنطيقي( جديد من شأنه أن يفتح الذات
على العالم. لهذا يعتبر ريكور أن التأويل الجديد للذات يجب أن يأخذ في الحسبان انفتاح موضوع التأويل
على التجربة والتاريخ الحي. التأويل ليس فقط نوع من الفهم الذي يراد به استنطاق باطن النص من ظاهره
)كما يعرفه الجرجاني أيضا(، بل الذهاب بالنص المؤول الى الفعل أي الى التجربة التاريخية وفتح آفاقه
 
على الراهن والوجود-هنا )الدازين( بالمعنى الهايدقري 32 . وفضلا عن ذلك يتبنى ريكور التعريف الغادمري
للهرمنطيقا، وينأى عن حصرها في مجرد العملية الفهمية مثلما فعل ذلك ويليام دلتاي 33 . فإذا كان ماركس قد
 
 
نبه سابقا الى خطأ الفلاسفة الجسيم حين اكتفوا بتأويل العالم دون أن يغيروه، فإن ريكور سيقول على إثره أن
فلاسفة الكوجيتو لم يفتحوا نوافذ الأنا على الغيرية والبينذاتية L’intersubjectivité ، واكتفوا بهرمنطيقا
 
صورية/تأملية حكمت على الخطاب الفلسفي المثالي بالتموقع خارج الصيرورة التاريخية أي خارج الفعل 34 .
يجب أن نمر دائما من هرمنطيقا النص الى مقتضيات الفعل 35 . يقول ريكور: «توجد مسافة معتبرة بين
هرمنطيقا عين الذات L’Herméneutique de Soi وفلسفات الكوجيتو. أن تقول «عين الذات Le Soi »
 
même – لا يعني أن تقول الأنا .»36
 
 
تكمن طرافة وربما عسر المحاولة الريكورية في رغبتها الاستعاضة عن مفهوم «الأنا » المتهالك
بمفهوم «عين الذات Le Soi -même » . تتموقع «هرمنطيقا عين الذات » على مسافة متساوية من الكوجيتو
 
الديكارتي المتبجح وأيضا من الكوجيتو النيتشوي المهان 37» . تبشرنا الهرمنطيقا الانثروبولوجية اذن بميلاد
كوجيتو جديد هو ما يطلق عليه جون غريتش Greisch بالكوجيتو الهرمنطيقي 38 . لا يجوز أن نفهم من
 
 
مفهوم «عين الذات » انكفاء جديدا على الأنا رغم أن تشريح المفهوم ذاته سيعطينا هذه الإمكانية، باعتبار
أن لفظة «عين » تفيد أن الشيء يظل هو عينه أي «هو هو » أو «هو نفسه » مهما تغيرت أعراض الذات
ومهما داهمتها التأثيرات الخارجية. مثلما يفيد لفظ «عين » أو «نفسه » الثبات في الشخص والدوام البيولوجي
والاستنساخ الجيني لنسله. كما يفيد أيضا قدرة الشخص على إنشاء هوية-انية Identité-Ipse قادرة على
أن تبقى هي عينها بعد أن تكون قد انخرطت وتماهت بعالم الصيرورة. يحيلنا مفهوم «عين الذات » إذن
الى ازدواجية هوية الشخص: فهو من جهة هوية-ثابتة ومتكررة هي امتداد لهوية تناسلية عرقية رقمية.
ومن جهة أخرى يكون قادرا على نحت هوية فردية/حرة من خلال الفعل مع الآخرين والتداول معهم باللغة
وبالرموز ومختلف أشكال التواصل والتذاوت.
 
الهوية-الثابتة والهوية-المتحولة
 
 
 
الهوية الثابتة أو «الصلبة « »L’identité au sens du même« » تفيد الاستمرارية في الزمن)...(
حيث تواجه المختلف، أي المتغير والمتحول. في مقابل «الهوية الانية »L’identité au sens d’ipse« »
 
وهي هوية لا «تفيد أي إثبات لنواة مزعومة ثابتة في الشخصية 39» . إن الهوية بالمعنى الأول هي النوع أو
 
 
الجوهر أو الماهية التي تكرر نفسها من خلال الأعراض المؤقتة، أو قل إنها المثال الذي لا يحيا إلا بنسخه.
أليست النسخة المنبثقة عن الأصل أو «الانية Ipséité » هي تلك الذات التي تحضر إلى العالم مجددة حياة
 
النوع. أو بلغة حنا آرنت أليس كل «قادم جديد » هو بداية جديدة للإنسانية؟ 40 . وإذن فالهوية-الإنية ليست
 
 
مجرد نسخة مطابقة للأصل من الموروث، بل كيان جديد يحمل شرط استمرار النوع. الأصل يحضر كنوع
ويختلف في الفرديات. الحيوانية والنطق وهي الصفات الماهوية أو الطبائع الثابتة في النوع البشري تتجدد
في الفرديات. شروق الشمس وغروبها ودورانها حول الأرض وتعاقب الليل والنهار والفصول طبائع
كسمولوجية تتكرر منذ الأزل ولكنها لا تتشابه أبدا. فالتكرار هنا ليس رتيبا ولو كان كذلك لتعطلت حركة الخلق
ولتوقف السيلان الأبدي. إننا بالفعل «لا يمكن أن نسبح في نفس النهر مرتين ». ذلك هو الدرس الهيراقليطسي
الذي يبسّط لنا تلازم الصيرورة في صلب الجوهر أو الحركة في صلب التكرار. » الهوية، جدلية موت وحياة
مستمرة: «ثبات » في الذات « Constance وتحولية « ،Mutabilité » ذاكرة »Passeité« » و «مستقبلية »
« »Futiration« بحيث لا يمكن أن نتمثلها إلا من منظور تاريخاني Historial هايدغري تحضر من
 
خلاله ضروب الأزمنة حيث تتبادل الظهور والاحتجاب دون أن تتنافى 41» .
 
 
وهكذا تتصالح النقائض العسيرة داخل ماهية الهوية بحيث يتعذّر على الاندماج أن يقوم دون اختلاف،
 
كما يتعذّر على الوحدة أن تقوم دون ثنائية 42 . الهوية هي إذن “لوغوس الكثرة 43» : ففيها تلتقي ضروب
 
 
الأزمنة وكل طبقات وأبنية الأنا الفردية والجماعية. فقدر الهوية أن تحيا منثنية على انشطارها إلى “هوية
 
التشابه والثبات والجماعة” و «هوية الاختلاف والتعاكس والغيرية 44» ، وبعبارات أخرى يتحكّم في بنيتها
قانوني «التفريد »Individuation« » و «التوحيد 45»Unification« » : فكل هوية تحيل في نفس الوقت
 
 
إلى ذاتها أي إلى الفرادة والفردية «الرقمية »Identité Numérique»» )مبدأ الاختلاف( والى التوحّد
 
بالأنظمة الثقافية الكبرى 46»Identité Essentielle» )مبدأ الوحدة(.
 
 
هكذا ينثني كل شخص على عناصر ثبات تمنحه استمرارا في الزمن وامتدادا في الآخرين الذين مضوا
والذين لم يمضوا والقادمون في المستقبل. إنها إحداثيات أمان حيث تمنحنا إحساسا بالجذور والانتماء للزمن
المطلق. وفي مسار مواز تفتح الإنية الإرث الثابت على الغيريات الخارجية وقد تعرّض الذات الى خطر
الذوبان في الآخرين من خلال الانخراط في علاقات القوة واستراتيجيا الاستقطاب. إن الغاية من هذا الانفتاح
 
هو الفوز في نهاية المطاف بفلسفة عملية قادرة على وضع تصور اتيقي وسياسي لهذه الذات التي لا تحقق
 
 
«الحياة الجيدة » بالمعنى الأرسطي الا بواسطة الآخرين وداخل مؤسسات عادلة. يقول ريكور: «يمكن القول
أن الرهان الإشكالي لمجمل الدراسات )الواردة في عين الذات...( هو الفعل الإنساني وان مفهوم الفعل لا
يفتأ في التوسع على امتداد هذه الأبحاث. وبهذا المعنى فالفلسفة التي تنبعث من هذا الأثر تستحق أن نطلق
 
عليها صفة العملية 47»
 
 
تؤسس الهرمنطيقا الريكورية لفلسفة عملية/ لفلسفة الذات الفاعلة/ المتألمة والملتزمة والقادرة Sujet
 
capable48 . يتشكل هذا البراديغم عبر الفعل والزمن. إنها )أي الذات الجامعة( بناء متواصل غير قابل
 
 
للانغلاق والنهائية. يقول ريكور: «إن ما نسميه الذات ليس بالمعطى منذ البدء. وإذا أعطيت فهناك خطر أن
 
تختزل الى ذات نرجسية، أنانية هزيلة 49» . في مقابل الأنا المثالي المنقطع عن العالم / المكتف بفهم ذاته دون
 
 
وسطات العالم والآخر والتاريخ والرموز. الذات العملية/الملتزمة والفاعلة تتشكل هويتها عبر الما-يحدث
L’A-dvenir أي عبر الصيرورات الزمنية. لأمر كهذا فنحن لا نفهم هويتنا الا من خلال السرد. هنا تكمن
مركزية الهوية السردية لدى ريكور.
 
الهوية السردية: اكتمال الفعل الإنساني في السرد والذاكرة
 
 
 
يحتل السرد بكل معانيه: الأدبي والروائي والتأريخي والديني مكانة مركزية في فلسفة الهوية الريكورية.
ونعني بالسرد الملفوظ والمكتوب معا أي الحكاية والرواية والقصة والحدث التاريخي. يتعين السرد في
مواضع عدة: الآثار المادية والخطية والفنية والشفوية. انه في كل حالاته إعادة تمثل لما حدث وما مر من
أحداث. انه تذكر وتوثيق مادي ورمزي في المخيال الجمعي لحدث أو أحداث يرمي من ورائها الراوي أو
المؤرخ أو الفنان إلى الإمساك بلحظة عابرة وتثبيتها في لا-زمنية متخيلة. السرد هو شكل آخر من الوجود
الفردي والجماعي قبل الحدث /أثناءه وبعده. انه الفعل في كل أزمنته. انه الفعل المروي، او الفعل المتلفظ به
في كل مراحله. لكن السرد ليس متلفظا فحسب، بل هو نص واثر يحمل دلالات لا حصر لها.
هل يمثل السرد بأنواعه آلية من آليات بناء الهوية الفردية وانفتاحها على التاريخانية؟
 
يمثل السرد امتدادا للهوية الانية داخل زمنيات الوجود وزمنية الآخر. يقول ريكور: «الهوية الشخصية
هي هوية زمنية 50» . لما كان الفرد عرض وممكن في الوجود، فإنه بحاجة دوما لحضور الآخر حتى يستقيم
 
 
وجوده ويستكمل حاجياته بالاجتماع والتعاون مع أشباهه. كما أنه لا يمسك بمعاني حياته، إلا متى أصبح
جزءا من سيرة جماعته المدنية والتاريخية واللغوية. فبحكم عرضية وجوده، لا يمكنه أن يضفي ماهية أو
معنى على حياته الجزئية طالما لم تنخرط هذه في منوال الحياة الجماعية. إن الجماعة هي التي تمنح اذن
معنى الحياة لأعضائها حين تدرجهم في منظومة سرديتها اللفظية والمادية. وهي بذلك تعترف بوجودهم
بشكل حضوري او غيابي أي بشكل تاريخاني )لا يتقيد بزمنية معينة(.
لا ينفصل الاعتراف الوجودي بالأشخاص العابرة من طرف الجماعات عن الاعتراف بحضور ذكراهم
في الوعي الجماعي. يستكمل الاعتراف بواسطة السرد او التدوين الحلقة الأخيرة للهوية الفردية. وليس
 
هذا فحسب فرواية أحداث حياتنا من طرف الآخرين لا يمنحها معنى فحسب، بل يمنحها بالخصوص خيطا
ناظما فتصبح سلسلة أحداث مترقية ومجاهدة انتهت إلى تحقق هدف نهائي أو تلوس Telos تسير على هديه
الجماعة الحاضنة 51 .
إن السرد أثر وذكرى ووثيقة يراد من خلالها تثبيت نوع من التلوس الجماعي الذي يمنح الجماعة
 
 
إحداثيات هويتها التاريخية والثقافية. لكن السرد بالنسبة لبول ريكور ليس فقط الإمساك بالذكرى من التلاشي
والتصدي للنسيان والاعتراف بالأسلاف، بل هو عنوان استمرارية الانية عبر الزمن والتغيرات والوفاء
بوعودها: «رغم التحول ننتظر من الآخر أن يجيب عن المساءلة عن أفعاله باعتباره هو نفسه الذي قام
بالأمس بفعل ما ولا بد أن يحاسب اليوم عليه وان يتحمل في الغد تبعات فعله. ولكن هل يتعلق الأمر بنفس
الهوية؟ ألا يتوجب إذا أخذنا الوعد La promesse كقاعدة لكل العقود والمواثيق والتفاهمات أن نتحدث عن
 
وجود تماسك للانا رغم التحول، أي تماسك بمعنى الوفاء بالوعد؟ 52» . الهوية السردية تعني الهوية الزمنية
 
 
التي استطاعت الصمود أمام السيلان الأبدي للحركة والزمن. إنها الهوية التي حققت المعادلة العسيرة بين
 
استمرار طبيعتنا عبر الزمن واستقرار الانية 53 .
 
 
يمكنّ السرد من تأسيس «أنطولوجيا اتيقية » وتاريخية للهوية في آن واحد لكونه ترحالا مستمرا وراء
المعنى المنكشف تارة والمحتجب طورا خلف الأحداث والممكنات العرضية. تراهن انطولوجيا السرد على
 
وصل أزمنة التاريخ ببعضها البعض في إطار رؤية تاريخانية للتاريخ يلعب فيها مبدأ «الرد الفينومينولوجي »
 
الهوسرلي ) L’époché الايبوخيا(- أي رد الأزمنة الطبيعية إلى زمانية الحضور الدائم 54 دورا مركزيا في
 
 
فهم التاريخ والحياة الفردية أو الجماعية ككل لا يتجزأ.
يستلهم ريكور نظرية السرد على ما يبدو من مقاربة آنا أرنت ويستعين في نفس الوقت بالتحليلية
الوجودية الهايدغرية. ذلك أن «عطوبية الأوضاع الإنسانية » واستحالة اكتمال الفعل الفردي والهوية الفردية
وكذا الجماعية، ليس لها من حل سوى السّرد. فهو المسافة الفاصلة بين الفعل وفاعله من جهة وبين فعل
الفاعل والفاعلون الآخرون من جهة أخرى. ففي مساحة هذه المسافات نقبض على المعنى الكلّي لا فقط لفعل
جزئ بل للحياة ككل لا يتجزأ. وتكون عملية قبض المعنى التائه منا –إبان انخراطنا في الفعل- لا فقط في
السّرد الشفوي )تعداد مناقب وخصال شخص ما بعيد وفاته(، بل وأيضا في السّرد التدويني والوثائقي)تدوين
سيرة حدث بطولي فردي أو جماعي أو مجرد تدوين سيرة ذاتية(. إن الذاكرة الأخلاقية الجماعية هي التي
تظهر الغائية الثاوية وراء أفعالنا ومن خلال وعبر السرد. ويسمح السرد التدويني بإخراج الحدث الفردي أو
الجماعي من لحظة زمانيته الضيقة إلى لحظة التاريخ الرحبة والدائمة. وبذلك نقاوم النسيان المهدد لذاكرتنا
 
الفردية والجماعية بالتلاشي والتحريف. 55 إن السّرد المدوّن ليس فقط إمساك بالذكرى بل قد يكون منهجا
 
 
تربويا وأخلاقيا تنقل بموجبه الخبرات والتجارب إلى الآخرين. السّرد هو لحظة التجميع التأليفي لمختلف
المراحل المبعثرة من حياتنا. انه لحظة الإمساك بمختلف ردهات حياتنا ككل لا ينفصم.
انتهت تأويلية الذات إلى الإيغال في إشكالية العصر الراهن وأعني بها إشكالية الهوية. بيد أن ريكور
لا يتعاطى معها بالشكل الإيديولوجي رغم أنه لا يخفي في الكثير من المواضع ميلانه العقدي للمسيحية
البروتستنتية. تدفعنا تأويلية هويتنا الى إظهار التعدد الحال في دواخلنا بين عناصر ثبات نتعرف من خلالها
الى ذواتنا ما حيينا وعناصر تحوّل تمكننا من التكيف والتلاؤم مع منطق الصيرورة الطبيعية والاصطناعية
أعني صيرورات المجتمع. وفضلا عن هذا ندرك ان تحقق الغائية النهائية لذواتنا غير قابل للتحقق الا في
استكمال الآخرين لحياتنا من بعد رحيلنا وفي حفظهم لذكرانا من النسيان وفي استذكار أثارنا ومآثرنا عبر
الزمن. تلك هي امتدادات ذات تريد أن لا تكون عين ذاتها بل وأيضا عين الآخر.
 
مسرد المراجع والاحالات
 
 
 
•جورج زيناتي، الذات عينها كآخر، الدار العربية للترجمة، بيروت، 2007
•ديكارت: تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ، . ترجمة: كمال الحاج يوسف، تونس، سراس للنشر، 2009
•عبد الغني بارة، الهرمنطيقا والفلسفة، نحو مشروع عقل تأويلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008
 
•الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، ترجمة وتقديم: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء،
1999
•ريكور، صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة: د.منذر عياشي، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة،
2005
• Ricoeur, Parcours de la reconnaissance, Paris, Stock, 2004.

• P.Ricoeur, Soi même comme un autre, Seuil, Paris, 1990

• J.Grondin, «Herméneutique», in Dictionnaire des notions philosophiques, dirigé par Sylvain



Auroux, Paris, PUF, 1990
 
• Georges.Hans.Gadamer: Méthode et vérité, Seuil, Paris, 1976

• Triki Fathi, La Stratégie de l>identité, Paris, Arcantères Edition,1998

• Pierre Moessinger, Le jeu de l < identité, Paris, ,PUF, 2000

• Fernando Gil, « Identité » , in Encyclopédia Universalis, France S.A.1996, Corpus 11



• I.Sow, «Identité masculine- identité féminine, esquisse théorique d’une analyse culturelle», Actes
 
du colloque, Psychologie différentielle des sexes, Tunis 16-20 Octobre 1984

• Paul Rasse / Nancy Nidol, Unité et Diversité, Les identité culturelles dans le jeu de la mondialisation,



L’Harmattan, 2001, Introduction.
 
• J. Habermas, Ecrits politiques. Culture, droit, histoire, Paris, Cerf, 1990

• P. Ricoeur, Le conflit des interprétations, Seuil.

• Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, éd Gallimard

• Marx et Engels, L’Idéologie Allemande, OEuvres choisies, Gallimard

• Charles Taylor, Self-Interpreting Animals», in Human agency and Language.

• Charles Taylor, La liberté des modernes, Essais, traduits et présentés par Philipe De Lara, Paris,



PUF, 1997.
 
• Jean Greisch, Le cogito herméneutique. - L’herméneutique philosophique et l’héritage cartésien,



éditions, Vrin, Paris, 2000
 
• Hannah Arendt, Condition de l’homme moderne, Paris calmann-Lérvy

ليست هناك تعليقات: