الثلاثاء، 26 يوليو 2016

دائرة ديكارت المقفلة والبذور النيتشويّة/ محمد الحجيري



#‏مد16‬دائرة ديكارت المقفلة والبذور النتشويّة.
وجهة نظر..
 
 
من المعروف أن الكوجيتو الديكارتي توصّل إلى البديهية الأولى التي لا يرقى إليها الشك. والتي يجب أن تُ...عتَمَد كدعامة أولى للبناء عليها.
لقد حاول ديكارت، وهو الرياضي، أن يقيم بناءً فلسفياً على شاكلة البناء الرياضي، الذي ما زال يسمو، لأنه انطلق من بديهيات واضحة وصحيحة، أو من مسلّمات لم يثبت حتي اليوم (أيام ديكارت) أنها خاطئة، من مثل أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان..
وإذا كانت المنطلقات صحيحة، ثم جاءت طريقة البناء صحيحة أيضاً، وهي البرهان المنطقي، سيكون البناء سليماً ولن تهزّه رياح التغيير، وهو عكس ما عرفه تاريخ الفلسفة، التي كانت كلما جاء فيلسوف، يهدم ما بناه السابقون، ليبدأ عمارة الفلسفة من جديد بدلاً من إضافة مدماك على حائط الفلسفة القديم.
يظن ديكارت إذاً أنه قد وضع المدماك غير القابل للاهتزاز، وما عليه، وعلى من يأتي بعده، إلا استكمال البناء..
وقد كانت الإضافة الأولى لديكارت هي برهان وجود الله، ثم وجود المادة بعد ذلك.
الأساس الصلب عند ديكارت هو إثباته أن الفكر موجود: أنا أشك وأفكر في كل شيء، بما فيه وجودي أنا بالذات.
لكن مهما كان مضمون تفكيري وشكي، إن كان صحيحاً أم خاطئاً، لكن حالة الشك والتفكير موجودة، وإذاً فاليقين الأول هو وجود الفكر.
ولما احتج عليه غاسّندي، أو هزئ به قائلاً: لمَ تكلّف نفسك كل هذا العناء: أنا أشك، والشك فكر، إذاً أنا أفكر، إذاً أنا (كتفكير) موجود.
كان من الممكن بكل بساطة أن تقول: أنا أمشي إذاً أنا موجود.
وردّ الديكارتيون على غاسّندي بالقول: هذا اعتراض خاطئ وقليل القيمة. فهناك فارقٌ كبير بين القول أنا أفكر إذاً أنا موجود، وبين القول: أنا أمشي إذاً أنا موجود.
قد أتوهم بأني أمشي دون أن أكون أمشي بالفعل. بينما لا يمكن أن أتوهم أني أفكر دون أن أكون أفكر حقيقةً، لأني في كل الأحوال أفكر، لأنه ببساطة التوهم هو نوعٌ من التفكير، وبالتالي، بينما لا يستطيع التوهم بأني أمشي أن يثبت بأني أمشي فعلاً، فإن الوهم بأني أفكر يثبت أني أفكر.
هذا ما هو متداوَلٌ عن ديكارت ونقده، إذا صحَّ فهمي للمسألة.
لكن، هنا يمكن سَوْق بعض الملاحظات: إذا قلت بأني أمشي إذاً أنا موجود، صحيح أنها لا تثبت أني أمشي، لكنها بالتأكيد تثبت أني أفكر بأني أمشي، وبالتالي تثبت وجود الفكر، مثلها مثل القول: أنا أفكر..
إن كنت أمشي، أم أن ذلك كان وهماً، في الحالتين تثبت أني أفكر بأني أمشي.
السؤال هو: بعد هذا "الإنجاز" الديكارتي: الفكر موجود. ماذا يمكن أن نبني عليه؟
هل حقاً كان استنتاج ديكارت بوجود الله هو برهان يوصل إلى حقيقة بديهية مثل بديهية وجود الفكر؟ أم هو نوع من المماحكة الكلامية والسفسطة؟
لماذا لم تتبنَّ الفلسفة بعد ديكارت هذا البرهان على وجود إله، مثلما تبنّت وجود الفكر؟
ثم بعد ذلك يبدو لي بأن انتقال ديكارت من البرهان على وجود الله إلى البرهان على وجود العالم والمادة، هو مماحكة ثانية، بل هي أكثر وضوحا: الضمانة الإلهية لأفكاري بأنها صحيحة هي الدليل على صحتها..(؟؟)
بعد ذلك تأتي الانتقادات التي وُجِّهت إلى ديكارت، ومنها: ما هي الأمور التي يمكن أن نصل فيها إلى يقينٍ بنفس المستوى الذي أثبتنا فيه وجود الوعي أو الفكر؟
وبانتظار الوصول إلى هذا النوع من اليقين، كيف نتعامل مع معارفنا الأخرى؟
إذا وضعنا هذه المعارف بين قوسين، كما يقول هوسّرل، فيبدو أن كل معارفنا ستكون بين قوسين.
وبالتالي لن يبقى لنا إلا يقين بأن الفكر موجود. أما نسبة القرابة بين هذا الفكر وبين الواقع، فهذا ما سيبقى معلّقاً..
إذاً سنبقى داخل دائرة مقفلة، الفكر موجود، ثم نقطة ليس بعدها كلام موثوق.
هل استطاعت الفلسفة أن تبني على المدماك الكوجيتي الديكارتي؟
لا أظن ذلك.
ما فعلته هو تخفيض سقف التوقعات: كانط سيقول باستحالة معرفة "الشيء في ذاته". ليس لدينا إلا وعينا عن الأشياء، أما حقيقة الأشياء فخارج حدود الممكن.
هوسرل يقول: ليس هناك سوى هذا الظاهر، الذي يشكل الحقيقة إذا أحسنا وضع الشروط للوصول إلى فهمها..
البعض الآخر يفترض بأن فهمنا المتشابه للأشياء دليلٌ على صحتها. ولا أظن أن لهذا القول علاقة بالبرهان على الحقيقة. فالحقيقة لا نتوصل إليها بالتصويت الديموقراطي. ونحن بذلك نعود إلى ما قبل كانط الذي شرّح آلية عمل العقل البشري.
ربما هذا يجعلنا نقدّر أهمّية عبارة نيتشه الذي يقول بأنْ ليس هناك "حقيقة". ليس هناك إلا تأويلات!
وأظن أن هذا الاتجاه ينظم فعل التفلسف المعاصر، يخترقه ويشكل الخلفية الأساسية له.
إنها بذورٌ نيتشوية تنمو في حقل الفلسفة.
(محمد الحجيري؛ صيدا في 6/6/2016)

ليست هناك تعليقات: