الأربعاء، 27 يوليو 2016

في تاريخ الفلسفة؛ ديكارت3؛ (آر. سي. سبرول: وهم ديكارت. 17)




أر سي سبرول: وهم ديكارت 17

ديكارت


 

في محاضرتنا السابقة استعرضت الاحتمالات العامة الأربعة لتفسير الواقع كما نراه، مقتبساً قليلاً من مقاربة القديس أوغسطينس إلى هذه المسألة، والآن سأكرر هذه المبادئ الأربعة، وأتطرق إلى كل واحدة منها تفصيلاً. إن كان شيئٌ ما موجوداً، سواءٌ هذه الطبشورة أو أيّ شيئٍ آخر، يمكن أن يكون لدينا أربعة تفسيرات ممكنة للأمر. الأمر الأول هو أن الأمر وهم، التفسير الثاني هو أنه مخلوقٌ بذاته، التفسير الثالث هو أنه موجود بذاته، والتفسير الرابع هو أن شيئاً بذاته خلقه. تلك كانت الاحتمالات الأربعة.

قد يبدو لكثير من الناس أنها لمضيعةٌ كبيرةٌ للوقت أن نكرّس وقتاً لحذف الاحتمال الأول، الذي يفيد بأن كل ما نظنه موجوداً هو مجرد وهم.. لكن ظهر فلاسفة كبار عبر التاريخ ممن حاولوا أن يثبتوا هذا الأمر تحديداً، وهو أن العالم وكل ما فيه هو مجرد حلم أحدِهم، أو أنه مجرد وهم وليس موجوداً على الإطلاق.

إذاً بغية معالجة هذا المبدأ الأول سأعتبر أن شاهدي الريسي هو رينيه ديكارت، أب العقلانية الحديثة ومفكر القرن السابع عشر، الذي كان متخصصاً بالرياضيات أيضاً، وكان قلقاً جداً في أيامه بشأن نوعٍ جديد من التشكيك الذي ظهر في أوروبا الغربية بعد الاصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، لأنه خلال يقظة الإصلاح البروتستانتي حدثت أزمة في السلطة، فقبل الاصلاح كان المسيحيون في كنيسة روما المتآلفة، إن حدثت خلافاتٌ بينهم يحتكمون إلى الكنيسة لتُصدِر حكماً، ومتى أصدرت الكنيسة حكماص كان يتم حسم الجدل، لأن سلطة الكنيسة كانت تُعتبر مقدسة على الأقل ومعصومة عن الخطأ في أحسن الأحوال. ومع تحدّي سلكة الكنيسة الناتج عن الاصلاح البروتستانتي، أصبح السؤال بشأن كيفية التأكد من أمرٍ ما مشكلةً كبيرةً بالنسبة إلى الشعب، ولم تتدهور سلطة الكنيسة فحسب، بل انهارت أيضاً السلطة العلمية، لأنه وبالاضافة إلإصلاح الذي حدث في القرن السادس عشر أيضاً، في القرن السادس عشر قامت الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس في علم الفلك، ما ولّد أزمةً كبيرة في عرف السلطة العلميّة التي تبعت النظام البطلمي القديم للكون، فضرب كوبرنيكوس بهذه عرض الحائط، وأثار شتى أنواع التساؤلات بشأن موثوقيّة العلم. هذا الجدل بشأن الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس امتد حتى القرن السابع عشر، حيث أصبحت حادثة غاليليو بارزة في حياة الكنيسة، حيث قام غاليليو، وعبر استعمال التلسكوب بتأكيد النظريات الرياضية التابعة لعلماء الفلك في القرن السادس عشر عبر توجيه التلسكوب نحو السماء وإثبات صحة نظريات القرن السادس عشر.

إذاً ليس في اللاهوت والفلسفة فحسب، بل أيضاً في العلم كانت توجد أزمة سلطة، وما كان ديكارت يحاول فعله في بحثه الفلسفي هو إعادة بناء أساس للثقة في ما يتعلق بالحقيقة، وكان يبحث عما أسماه أفكاراً واضحة ومتميّزة، أفكاراً لا سبيل إلى الشك فيها، أفكاراً لا يمكن رفضها من دون رفض المنطق في الوقت نفسه، هي أفكارٌ قادرةٌ على أن تشكل أساساً لإعادة بناء المعرفة سواءٌ كان في الدائرة العلمية أو في المجالين الفلسفي واللاهوتي.

إذاً النهج الذي اتبعه ديكارت بهدف بناء الثقة قضى باتباع نهج عدم الثقة أو التشكيك، وما فعله هو الشروع في السعي الدقيق وراء التشكيك، حيث سعى إلى إثارة الشكوك بشأن كل ما يمكنه أن يشك فيه. بتعبير آخر، أراد أن يعيد النظر في كل حقيقة مفترَضة تبناها الناس، وطرح أسئلة متعلقة بنظرية المعرفة ومنها: "هل نحن متأكدون من أن هذا الأمر حقيقيّ؟".

أحياناً أحب العودة إلى المبادئ الأولى، وفي الواقع، كل ما اعتزمت فعله في البحث الفلسفي هو العودة دائماً إلى المبادئ الأساسية.. إلى الحقائق الأساسية. وأنا غالباً ما أعدّ قائمة وأقول لنفسي: "ما هي الأمور العشرة التي أنا متأكد من صحتها؟".

سأدوّن هذه الأمور وسأخضع هذه الأمور العشرة للانتقاد الأكثر صرامةً على الإطلاق لأتأكد من أني لا أصدقها لمجرد أن شخصاً أحبه علمني إياها، أو بسبب ما سمعته من المرشدين، وتقاليدي والثقافة الفرعية التي أنتمي إليها. أريد أن أعرف "كيف أعلم أن تلك الأمور التي أعتبرها صحيحة هي صحيحة فعلاً؟".

هذا واحد من أهم مبادئ الاختراق في أيّ نوعٍ من أنواع المعرفة. أحد أهم المبادئ التي تؤدي إلى اكتشافات جديدة، مبدأ الافتراضات التي تشكّل تحدياً، لأنه بهذه الطريقة يحدث الفلاسفة اختراقاًويحدث الموسيقيون اختراقاً، وهكذا يحدث العلماء اختراقاً، حيث يعترضون على الافتراضات التي قامت بها الأجيال السابقة، وقبلتها من دون تمحيص، فانتقلت من جيل إلى آخر. هكذا عاش النظام البطلمي لأكثر من ألف سنة عبر قبول الناس النظرياتِ من دون أن يتمّ إثبات صحة هذه النظريات.

إذاً، يجب أن نفعل ذلك بأنفسنا، يجب أن نُخضِع تفكيرنا لاستجوابٍ دقيق، لأنكم رأيتم جميعاً ما يحدث في المحاكم حين تسمعون أحدهم يرفع قضيته، فتسمعون شهادة واحد من الطرفين فتجدون كلامة منطقياً، وتجلسون هناك وتوافقون على كلامه: "نعم، نعم، نعم"، إلى أن يبدأ الاستجواب ويبدأ الناس بطرح الأسئلة بشأن الشهادة التي سمعتَها، وبعد أن تنتهي من الاصغاء إلى الطرفين، لا تعرف بالتأكيد من قال الحقيقة.

إذاً ثمّة أمرٌ مهمٌّ في ذلك. هذا لا يعني أنه عليك الاذعان للتشكيك. لكن هذا ما كان ديكارت يفعله. قال "سوف أشك بكل أمرٍ يمكنني الشك فيه، سوف أشك بما أراه بعيني وبما أسمعه بأذنيّ، لأني أدرك أنه يمكن لحواسي ان تُخدَع"..

وتكلمنا عن ذلك رجوعاً إلى المجذاف المائل الذي تكلم عنه أوغسطين، عندما تنظر في المياه يبدو لك المجذاف مائلاً، وهذا ما فعله ديكارت. قال: ليس هذا فحسب ربما يسيطر على هذا العالمِ المخادعُ الكبير، الكائن الشيطاني الشرّير الكذّاب الذي يعطيني دائماً نظرةً زائفة عن الواقع، وربما هو سيد الوهم.

إذاً، هو يضع دائماً هذه الأوهام أمامي لكي يخدعني.

 كيف يمكنني أن أعرف ما إذا كانت هذه هي الحقيقة كما أراها؟ ذكروا المبادئ الرئيسية التي ذكرناها في البداية، ومن بينها الموثوقيّة الأساسية للادراك الحسي، لأننا إن لم نقدر أن نثق بحواسنا بالأشكال البدائية الأساسية لا يمكن لنا أبداً أن نخرج من أذهاننا ونتواصل مع العالم الخارجي. هذا ما يُعرَف بمشكلة الذاتي ـ الموضوعي. كيف أعلم ما إذا كان العالم الموضوعي الخارجي تماماً مثلما أراه من وجهة نظري الذاتية؟

وكما قلت، كان ديكارت واعياً على الأمر، فطرح بعض الاحتمالات المنافية للعقل وقال: "ربما ليس من المنطقي التفكير في وجود مخادعٍ كبير يولد هذا الوهم الكبير، لكن الأمر محتمل", وقال: "وإن كان الأمر محتملاً، لا يمكنني أن أعرف بالتأكيد أن الحقيقة هي تماماً مثلما أراها. إذاً، مجدداً ما الذي يمكنني أن أعرفه بالتأكيد؟". إذاً، بعد أن خضع لعملية التشكيك الدقيقة هذه، توصل إلى شعاره المعروف، الذي اشتُهِر به وهو "كوجيتو إرجو سوم"، أي "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، وقال: "مهما أصبحت مشككاً، فالأمر الوحيد الذي لا يمكنني أن أشك فيه أياً تكن الشكوك التي أثيرها، هو أني أشكّ. لأني إن كنت أشك في كوني أشك، فمن الضروري لي أن أشك في كوني أشك، بحيث أني إن كنت أشك في كوني أشك، يجب أن أشك في شكوكي في شكي. إذاً، لا يمكنني أبداً أن أهرب من حقيقة الشك". أنت تقول: "أنا أشك في الأمر". إن قلتَ: "أنا أشك في الأمر" تكون قد أثبتّ الفكرة التي يتم التنازع عليها. وقال: "الأمر الوحيد الذي لا شك فيه هو كوني أشك، لأنك إن شككت في ذلك فأنت تثبتُ فرضيتي".

إذاً، هو توصّل إلى الاستنتاج الآتي: "لاشك في كوني أشك"، ثم طرح هذا السؤال: ما الذي يتطلبه وجود الشك؟ قال: وجود الشك يتطلّب إدراكاً. الشك يتطلب تفكيراً، تقكيراً واعياً، لأن الشك عملٌ من أعمال التفكير. من دون تفكير، لا يمكن أن يوجد شك. إذاً، إن كنت أشك، فماذا أعلم بذلك؟ إني أفكر. على الأقل أنا أظن أني أفكر. وتقول إنك لا تظن أني أفكر؟ لكي تقول إنك لا تظن أني أفكر، لا بد أنك فكرتَ، إذاً، لا يمكنني الهروب من الواقع الذي يقول أني أفكر، لأن الشك يعني التفكير. ثم ينتقل إلى الافتراض التالي: إن الشك يتطلب مشككاً مثلما يتطلب التفكير مفكراً، إذاً، إن كنت أشك، يجب أن أستنتج منطقياً أني أفكر. وإن كنت أفكر، لا بد أني كائن، لا بد أني موجود، لا بد أني أفكر لأن من ليس موجوداً لا يستطيع أن يفكر، ومن لا يستطيع أن يفكر، لا يقدر أن يشك، وبما أن لا شك في كوني أشك فإن الأمر يعني أيضاً اني أفكر. وإن كنت أفكر، فأنا موجود أيضاً. وهو يقول إذاً، أنا أتوصل إلى الاستنتاج كوجيتوـ اي أنا أفكر، إرجوـ إذاً سوم ـ أنا موجود.

الأضخاص الذين ليسوا تلاميذ فلسفة ينظرون إلى هذه العملية الدقيقة التي يمر فيها ديكارت ويقولون: لهذا السبب الفلسفة تافهة جداً. أن يمضي أحدُهم هذا الوقت كله ويبذل هذا المجهود كله، ليعرف ما يعرفه أيّ شخص حيّ ويقظ وواعٍ ليكتشف أنه موجود. لا أحد ينكر وجوده فعلاً. لا أحد يؤمن فعلاً بأنه مجرد نجمة تظهر في حلم شخص آخر. لكن مجدداً، تذكروا ما أراد ديكارت فعله.

هو كان متخصصاً في الرياضيات، وهو كان يبحث عن ثقة في العالم الفلسفي تعادل من حيث القوة والالزام المنطقي الثقة التي يمكن التوصّل إليها في الرياضيات. إذاً، هو يتبع هذه العملية، وهو يريد التوصّل إلى مبدإٍ أولي. هو يقول "لكي أقدر أن أختلي بذاتي وأن أستعمل فن الاستنتاج، حيث لا أعتمد على حواسي لكي أتوصل إلى فهم الحقيقة. إذاً، أنا أبدأ بإدراك وعيي الذاتي".

قلت البارحة أو قبل محاضرتين، عندما تكلمنا عن الاعتذاريين الافتراضيين، إنه بالنسبة إلى الاعتذاريين الكلاسيكيين، نقطة الانطلاق ليست الوعي على وجود الله، لأننا نقول إن الله وحده يقدر أن ينطلق من هنا، لكن نقطة الانطلاق المعرفية لدى الاعتذاريين المسيحيين، لا بد أن تكون الوعي الذاتي، حيث تنطلق من ذهنك، لأن هذا هو الذهن الوحيد المتوافر لديك. وكل فكر يبدأ بالوعي، على الادراك الواعي لتفكير المرء أو وجوده، وبالتالي، ما أراد ديكارت قوله هنا هو الآتي، أياً يكن الأمر الذي أشك فيه، أنا لا أشك في كوني إنساناً واعياً ذاتياً وموجوداً، وليس عليّ أن أنظر إلى قدمي لأعلم أني موجود. أنا لست معتمداً على أي إدراك حسي خارجي. أنا أكتشف ذلك ببساطة من خلال عمليات التفكير الداخلية في الذهن. لست معتمداً على أي معطيات خارجية". إذاً، هو يبقى ضمن إطار الاستنتاج المنطقي في استنتاجاته. إذاً، سبب أهمية ذلك هو أن ديكارت يريد التخلص من الاحتمال الأول الذي يفيد بأن الواقع وهم. ربما توجد فعلاً أوهام في الواقع، لكن إن قلنا أن كل واقع هو وهم، فهذا يعني أن لا شيء موجود، بما في ذلك نفسي، ولا يمكنني أبداً الشك في وجود ذاتي، ما لم أثبت حقيقة نفسي. هذه هي النقطة التي يحاول التوصّل إليها. أي أن الاحتمال الأول بين الأربعة الذي قد يتم اعتباره سبباً كافياً لتفسير وجود الكون لا بد من دحضه، لأن برهانه يثبت أن شيئاً ما موجود. وإن كان شيءٌ ما موجوداً، فهو وعيه الذاتي، بتعبير آخر، ساقول ذلك بطريقةٍ أخرى، إن كنت أظن أن الطبشورة هذه وهمٌ، وهي قد تكون كذلك، أنا لم أقل إن هذه الطبشورة تثبت وجود الله، أنا أقول أنه إن كانت هذه الطبشورة موجودة فمن شأن ذلك أن يثبت وجود الله، لكن هذه الطبشورة قد تكون وهماً. إذاً، عليّ أن أتخذ منحىً آخر وأقول أنه إنكان أيُّ شيءٍ موجوداً، فلا بد أن الله موجود. بهذه الطريقة، أنا لست محصوراً بذلك الواقع البسيط، أي بتلك الطبشورة، فقد تكون هذه الطبشورة وهماً. أنا لا أظن ذلك، لكن قد يكون الأمر ممكناً نظرياً، لكن ما عليّ إثباته، إن كانت طريقتي ستنجح، هو وجود شيءٍ ما، وهنا أنا أشكر ديكارت على حلّ تلك المشكلة عبر إثبات وجوده الشخصي.

ما هي الأمور التي يفترضها لكي يتوصل إلى استنتاجاته؟

ثمة فلاسفة لا يوافقون على هذه الفرضية؟ "كوجيتو إرجو سوم" ولا يزالون يصرّون على عدم وجود أساسٍ في الواقع لتوصّله إلى ذلك الاستنتاج، وهم أصابوا في إشارتهم، حتى الآن على الأقل، إلى وجود افتراضات معيّنة يقوم بها ديكارت على طول الطريق لكي يتوصّل إلى هذا الاستنتاج، وهو يقوم بافتراضين رئيسيين لكي يتوصّل إلى الاستنتاج الذي يقول إنه بما أنه يشك، فلا بد أنه يفكر، وبما أنه يفكر، لا بد أنه موجود.

الافتراض الأول الذي قام به بوضوح هو المبدأ المعرفي لقانون عدم التناقض. إنه يفترض المنطق، إنه يفترض العقلانية، أليس كذلك؟ لأنه يقول: "إن كنت أشك، إن كان الشك موجوداً، إن كنت أشك، إن كنت أشك في كوني أشك، فلا بد أني أشك". هذا استنتاج منطقي مبني على أساس قانون عدم التناقض، حيث يمكن لغير المنطقي الإثباتي أن يقول: "إذاً، ماذا عن اللاعقلاني؟[الذي] يمكنه أن يظل يعيش في وهم، حيث يمكن للمشكك أن يشك من دون شك". أعني، هذا ما يقوله الناس اللاعقلانيين. لكن تذكروا أن الاعتذاريات الكلاسيكية تحاول أن تبيّن فحسب أن المطق يتطلب وجود كائن سرمدي موجود بذاته.

إن كان أحدهم ملحداً وقال: "أنا لا أؤمن بوجود الله لأني لا أؤمن بالمنطقية"، فإني أعطيه المذياع قائلاً: "رجاءً أخبر الجميع بأن البديل لديك عن الإيمان بالله منافٍ للعقل، وفّر عليّ عناء وصعوبة إثبات ذلك. ليس عليّ أن أبرهنه إن اعترفت أنت به".

لكني أعني أنه أبعد نفسه عن أي مناقشة ذكيّة ما إن اعترف بأن فرضيته غير منطقية. ما يحاول ديكارت قوله هو إنه كما أن علم الرياضيات منطقي، وكما أن العلم السليم منطقي، هكذا أيضاً، يجب على الفلسفة السليمة أن تكون منطقية، وإن أردتَ أن تكون عقلانياً، إن أردتَ أن تكون منطقياً، لا يمكنك أن نكر أنه لكي تشك، عليك أن تشك. والفرضية الثانية التي أخذها بعين الاعتبار هي القانون الثاني الذي تكلمنا عنه في بداية هذه السلسلة الدراسية، ألا وهو قانون السببية، عندما يقول إن الشك يستلزم مشككاً، فهو يقول إن الشك نتيجةٌ تستلزم سبباً سابقاً. إذاً يقول بعض نقاد ديكارت: "هذا لا يثبت أنه موجود لأنه يفترض المنطق، ويفترض السببية، ونحن لا نقبل تلك الفرضيات"

ونقول: "لا بأس، إن أردت أن تكون غير منطقي"، وأذكر أننا رأينا أن قانون السببية هو ببساطة امتداد لقانون عدم التناقض، وأن قانون السببية الذي يقول إنه لا بد من وجود سبب سابقٍ لكل أثر هو حقيقة قاطعة. إنه أمرٌ صحيح رسمياً مثلما أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، لأن الأمر صحيح بحكم تعريفه. إذاً، إن افترضنا.. تذكروا أني قلت في البداية: إياك ومناقشة قانون عدم التناقض، وإياك ومناقشة قانون السببية، لأنك إن فعلت، ينتهي بك الأمر في اللامعقول. لكن إن استخدمتَ هذه المبادئ الضرورية لكل حديث واضح في كل علم وكل فلسفة وكل لاهوت، عندئذٍ، لا أظن أنه يمكنك التهرب من النتيجة التي يعطيها ديكارت، وهي أنه بإمكاننا من خلال المنطق الذي لا يمكن مقاومته، ومن خلال التحليل المنطقي وحده أن تتوصل إلى استنتاج حقيقة وجودنا، ما يكفي للرد على الفرضية الأولى المتعلقة بالوهم، فنتمكن من حذفها على أنها واحدة من التفسيرات المحتملة التي تقدم سبباً كافياً لوجود العالم.

 

ليست هناك تعليقات: