الثلاثاء، 9 أكتوبر 2018

تلخيص كتاب "بنية الثورات العلمية" لـ توماس كوهن؛ يوسف زروق




تلخيص كتاب "بنية الثورات العلمية" لـ توماس كوهن.
 يوسف زروق
تمـــهــيــــــد:
سنحاول من خلال هذا التلخيص المركّز إعطاء فكرة عن الكتاب، لأن هذا هو هدف هاته المحاولة في عموميتها، ولكننا نريد الإشارة إلى بعض النقاط المتعلقة بالقراءة:

 فكما هو معلوم، النسخة التي بين أيدينا هي الترجمة العربية للكتاب، والترجمة دائما لا تخلوا من عوائق خصوصا عندما يتعلق الأمر ببعض المفاهيم المركزية. حيث نجد في هذه النسخة أن المترجم يتحدث عن "النموذج الإرشادي" حاولنا استبداله "بالبراديغم" لأنه الكلمة المعربة والأكثر تداولا و تيسيرا للفهم بالنسبة للقارئ، وتحدث المترجم كذلك عن "العلم القياسي" (أي علم ذو قواعد ثابتة) ولتوضيح المعنى أكثر اخترنا تبديله بمفهوم علم معياري ويمكن الاشارة اليه كذلك في التحليل والنقاش ب "ضوابط علمية" كما سبق للأستاذ الإشارة إليها (أنظر الفقرة الأخيرة للصفحة 135 من المحاضرات المكتوبة)
كما تجدر الإشارة إلى نقطة أخرى تتمثل في كون الكتاب يشتمل على مجموعة من الأمثلة التوضيحة المستقاة من مختلف العلوم، لذلك عملنا على نقلها في هذه القراءة حتى لا نخون الأمانة العلمية وحتى نعطي للقارئ لمحة شاملة عن حجج صاحب الكتاب...
 نرجو أن نكون قد وفقنا في هذا العمل.

البداية ستكون من الفصل الأول الذي اعتبره توماس كوهن مدخل بعنوان دور التاريخ حيث يقو : «إذا افترضنا أن العلم هو منظومة من الوقائع والنظريات والمناهج (المتبعة)، مجمعة في الكتب الراهنة؛ يصبح العلماء أولئك الأشخاص الساعين بجد سعيا ناجحا أو مخفقا، للإسهام بعنصر أو آخر في تلك المنظومة الخاصة، ويصير التطور العلمي عملية أجزاء تضاف بشكل منفرد، أو على شكل مجموعات إلى المخزن الذي لا يتوقف نموه، والذي يؤلف التقنية والمعرفة العلميتين؛ كما يصبح تاريخ العلم الفرع العلمي الذي يسجل تلك الأجزاء المتتالية والعقبات التي منعت تراكمها. ويبدو المؤرخ المهتم بتطور العلم ذا مهمتين رئيسيتين، فمن ناحية عليه أن يحدد الإنسان الذي تم على يده اكتشاف أو اختراع كل حقيقة علمية معاصرة، قانون، ونظرية، وزمان حصول ذلك، ومن ناحية أخرى يجب عليه أن يصف ويشرح مجموعة الأخطاء وما له علاقة بالأسطورة والخرافات التي منعت التراكم الأسرع لمكونات النص العلمي الحديث..»(ص: 30)
وفي مواصلة حديثه عن المنهج الذي يتبعه مؤرخو العلم - حيث يعتبرون أن التطور في العلم هو نتيجة التراكم الحاصل في النظريات - يقول كوهن بأن الأمر يزداد صعوبة عندما نطرح أسئلة من قبيل: متى تم اكتشاف الأكسجين؟ من هو أول من فكر بمبدأ حفظ الطاقة؟
إلا أن هناك عددا من العلماء الذين يعتبرون مثل هذه الأسئلة خاطئة، لأن العلم يمكنه أن يتطور بغض النظر عن التراكم في الاختراعات والاكتشافات. ويضيف كوهن أن علماء تاريخ العلم يواجهون مشكلا مرتبطا بفصل النظريات عن المكون السابق الذي وصفه أسلافهم بأنه خاطئ و خرافي/أسطوري، فنتائج بعض الأساطير لها قيمة علمية بل لها نفس منطلقات النظريات الحديثة ولها حجج (عقلية) و(منطقية) "فإن المناهج التي أفضت كل هذه الأساطير والأسباب التي دعت الى الايمان بصدقها هي نفس المناهج والأسباب التي  تقودنا الآن الى المعرفة العلمية.(ص:31) فالعودة إلى المعتقدات والأساطير معناه أنه يمكن إنتاجها بواسطة المناهج عينها، ويكون التمسك بها للأسباب نفسها التي توصل الآن إلى المعرفة العلمية.  أي ادراجها "ضمن مقولة العلم اذن فالعلم قد اشتمل على مجموعة من العقائد المتناقضة تماما مع العقائد التي نؤمن بها اليوم .

الفصل الثاني من الكتاب عنونه كوهن بـ الطريق إلى العلم القياسي/المعياري/العادي/ (ضوابط علمية)، فما الذي يعنيه العلم المعياري...؟
يعني العلم المعياري  في هذه الدراسة ذلك البحث المؤسس بصورة راسخة على واحد أو أكثر من الإنجازات العلمية السابقة، التي يعتبرها مجتمع علمي ما الأساس لممارسته العلمية أي «انجازات يعترف مجتمع علمي محدد و لفترة زمنية بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية مستقبلا»  (ص: 39)
العلم المعياري إذن هو العلم الذي اتفق حوله، وتم وضعه في الكتب التعليمية سواء الابتدائية أو الجامعية، حيث من خلالها يتم الإسهام في تكوين العقل العلمي. وفي الماضي (القريب) كانت لكتب من قبيل المبادئ والبصريات لنيوتن، والكهرباء لفرانكلين، والكيمياء لـ لافوازييه وكتاب علم الجيولوجيا لـ لايل.. كما كانت (في الماضي البعيد) لكتب من قبيل الطبيعيات لـ أرسطو، والمجسطي لـ بطليموس... وظيفة المساهمة في العقل العلمي؛ حيث تم خلالها تحديد المشكلات التي ينبغي التفكير فيها، كما قدمت الحلول لمجموعة من القضايا التي كانت تهم مختلف العلوم. ومثل هذه الأعمال هي ما يطلق عليها كوهن اسم "نماذج ارشادية"أو"باراديغمات".

فالكتب المدرسية الحالية في الفيزياء مثلا تدرس للطلاب بأن الضوء مؤلف من فوتونات أي من أجسام كمية حركية تتمتع بخصائص الموجات وبعض خصائص الجسيمات غير أن هذا التعريف وقبل تطويره من قبل العالمين بلانك وأينشتاين إبان القرن 19 لم يكن موجودا. فالتعريف السائد كان يجد أساسه في الباراديغم الذي يخص كل من يونغ وفريزنل، حيث يتم اعتبار الضوء عبارة عن موجات عرضية. إلا أن هذا التعريف الذي طبع أوائل القرن 19، كان مسبوقا بالباراديغم المنسوب إلى نيوتن والذي اعتبر الضوء عبارة عن جسيمات مادية: «إن هذه التحولات في النماذج الإرشادية "باراديغمات" لعلم البصريات الفيزيائية هي ثورات علمية، وإن عملية الانتقال من باراديغم إلى آخر عن طريق الثورة بمثابة النمط التطوري العادي الخاص بالعلم الناضج - المكتمل -»(ص:42)
إلا أن هذا التطور ليس هو ما كان سائدا قبل نيوتن!! فقبل هذا العالم كانت هناك مدارس مختلفة كل منها يحاول ويعطي تعريفا/تفسيرا للضوء، من زاوية ووجهة نظر مختلفة عن المدارس الأخرى (الأفلاطونية ـ الأرسطية ـ الأبيقورية ...) بمعنى أنه لم يكن هناك ترابط ظاهر بين القرن 17 والماضي السحيق. أي أن نيوتن هو أول من نظم تلك الوجهات النظرية المختلفة، وأعطاها لنا في شكل قانون، ورغم أنه كانت هناك مجادلات علمية بين مختلف المدارس، إلا أنها كانت موجهة للرد على المدرسة الأخرى وليس بهدف التقدم.
ما يحاول توماس كوهن إيصاله لنا في هذا الفصل، هو أن التطور الذي يحصل في أي حقل علمي إذا لم يكن مؤسسا على نموذج إرشادي (باراديغم)، فإنه يكون بطيئا وغير مرئي أحيانا. لأن كل تيار فكري في تلك الحالة يحاول أن يفسر الظواهر المختلفة حسب وجهة نظره الخاصة، كما يحاول دحض آراء المجموعة الأخرى المنافسة؛ والمثال الذي يعطيه كوهن هو التطور الحاصل في الكهرباء، حيث ظلت هذه الأخيرة جامدة لمدة طويلة بسبب عدم تناسق وتجميع المعلومات والنظريات، حتى تقدمت نظرية فرانكلين التي ورغم أنها لم تفسر سبب التنافر الكهربائي إلا أنها اعتبرت جد مهمة، فلكي تقبل نظرية ما أن تكون باراديغما عليها أن تبدوا أفضل من النظريات الأخرى المنافسة لها. ولكنها ليست بحاجة لأن تشرح كل الوقائع التي تواجهها، و فعليا لا تقوم النظرية بذلك.
خلاصة ما سبق هي أن التنظيم الذي تعرفه العلوم (التنظيم على مستوى المعلومات)، هو ما يساهم في بروز الأهم والجوهري وسقوط الثانوي الذي لا يفيد البحث فيه شيئا سوى زيادة التعقيد. ومن هنا تصدق القولة الاجتماعية لـ فرانسيس بيكون «ظهور الصدق من الخطأ هو أسرع من ظهوره من الفوضى».
والكيفية التي بحسبها يؤثر باراديغم جديد في بنية حقل المشتغلين بالعلم ما يقول كوهن إنه خلال تطور علم طبيعي، فإن أول ما يعمله باحث أو مجموعة علمية هو تأليف فكرة قادرة على اجتذاب معظم المشتغلين من الجيل التالي. وهكذا تختفي بشكل تدريجي مختلف المدارس والتيارات الأخرى ببساطة، لأن المشتغلين بها يتحولون تلقائيا إلى الباراديغم الجديد. ورغم أن بعض العلماء يظلون قابعين في مدارسهم الأولى إلا أنهم يصبحون خارج دائرة العلم وسرعان ما تفقد أعمالهم أية قيمة.
بعد هذا يتم تأسيس المجلات المختصة والجمعيات العلمية، التي من شأنها تطوير الباراديغم الجديد. وهذا - يقول كوهن - هو أول تطوير للنمط المؤسساتي للاختصاص العلمي. ومن هنا فعندما يسلم عالم ما بباراديغم ويقبله لا يكون عليه أن يبدأ في أبحاثه من المبادئ الأولية، وإنما يبدأ من حيث انتهى من سبقه. بهذا أصبحت المقالات والكتب العلمية موجهة إلى أهل الاختصاص الذين يقدرون على فهمها وليست إلى العامة من الناس.
هذه القطيعة قد تشكلت في علمي الرياضيات والفلك منذ مدة طويلة، وكذلك في الديناميكا حصل شيء مماثل في أواخر العصور الوسطى، وهذا أمر يحصل تدريجيا في أغلب العلوم وحتى العلوم الاجتماعية، فصاحب الكتاب يأسف على حصول توسيع للهوة التي تفصل العالِم المهني عن زملاءه في حقول أخرى للمعرفة؛ فقد قل الانتباه إلى العلاقة الجوهرية القائمة بين تلك الهوة وآليات التقدم العلمي الداخلي.
ما ننتهي إليه في هذا الفصل هو كون التراكم في العلوم لم يكن بصفة تدريجية، وقليلا ما كان بصورة مفاجئة وواضحة، بمعنى أن التطور كان من خلال تواثر المعطيات وتكاثرها، ومن خلال هذه المعطيات تم استخلاص الأهم منها والاستغناء عن الثانوي، والكهرباء في تطورها تعطينا خير مثال عن التطور بشكل مغاير لما تصوره العلماء الأوائل، وأصبحت تنظر في مشكلات أكثر مادية وغموضا.
نصل الآن إلى الفصل الثالث وهو طبيعة العلم المعياري، وهنا يتحدث كوهن بداية عن طبيعة مفهوم الباراديغم وهو المفهوم الذي يحتمل أكثر من معنى، و قد تم استعماله هنا ليفيد معنى النمط أو المثال. بعد هذا ينتقل للقول بأن الباراديغمات التي تحقق نجاحا كبيرا هي تلك التي تملك قدرة على حل أكبر عدد من المشكلات العلمية، ونحن هنا لا نتحدث عن حل لكل المشكلات وإنما أغلبها.
هكذا نجد بأن المشتغلين بالحقل العلمي الذي ينتمي إليه الباراديغم، يوجهون نظرهم نحو عدد محدود من الإشكالات. ومن هنا يكتسب العلم دقته ويحقق تطورا منشودا من طرف واضع الباراديغم، حيث يتم تحقيق الوعود التي تم الوعد بها في البداية. لكن هذا يعني بأن الباراديغم يشكل قفصا يتم إدخال ظواهر الطبيعة إليه وتكييفها معه وكل ما لا يمكن إدخاله في ذلك القفص يكون بصفة آلية خارج اهتمام المتخصصين ويتم التخلي عنه، حيث الباراديغم نفسه يصبح عاجزا عن إعطاء الحلول المناسبة.
 ولكي يعرض توماس كوهن بوضوح أكثر ما المقصود بالبحث المعياري أي البحث المؤسس على باراديغم، قام بمحاولة تصنيف المشكلات التي يتألف منها العلم المعياري بصورة رئيسية، ثم قام بشرحها من خلال مرحلتين:
  المرحلة الأولى: قام خلالها بتسليط الضوء على التجارب والملاحظات التي يجري وصفها في المجالات التقنية والتي عبرها ينقل العلماء إلى زملائهم المهنيين الأخبار عن النتائج التي توصلت إليها أبحاثهم المستمرة، وأعطى المثال بعلوم: الفلك، الفيزياء والكيمياء، كما قام بشرح كيف تم تقدم هذه العلوم من خلال ارتباط التجارب والملاحظات بالباراديغم، فهذا الأخير هو من مكن مجموعة من العلماء من اختراع أجهزة وتقنيات وأدوات للقياس، وغالبا ما تكون النتائج التي تم وضعها من طرف صاحب الباراديغم صحيحة، بمعنى أن الباراديغم هو بمثابة الملهم لابتكار تقنيات وأدوات علمية جديدة، وهدف العمل التجريبي هو صياغة الباراديغم صياغة مترابطة ومتسقة.
   المرحلة الثانية: خلالها تحول كوهن إلى المشكلات النظرية حيث هناك جزء من العمل النظري المعياري يَمْثٌلٌ بالرغم من كونه جزءا صغيرا في استعمال النظرية الموجودة للتنبؤ بمعلومات واقعية ذات قيمة ذاتية. وهنا يعود ليؤكد على ضرورة الباراديغم، فالنظرية هي الأساس لقيام التجارب، والهدف من الباراديغم هو قيام أعلى درجة من التطابق بين النظرية والطبيعة.
فالرجال الذين صمموا التجارب للتمييز بين مختلف النظريات المتعلقة بالتسخين بواسطة الضغط، هم عموما الرجال أنفسهم الذين وضعوا صور النسخ التي قورنت. فقد عملوا في مجالي الواقع والنظرية، ولم تكن نتيجة عملهم مجرد الحصول على معلومات جديدة، بل الحصول على باراديغم أكثر دقة عن طريق حذف نواحي الغموض التي بقيت في الأصل الذي ابتدأوا منه العمل. ومعظم العمل المعياري في علوم عديدة هو من هذا القبيل.

العلم القياسي، هذا هو الفصل الرابع من الكتاب، فيه يقول كوهن أن الشيء الأكثر إلفاتاً للنظر في كل مشكلات البحت المعياري، يتمثل في قلة استهدافها إنتاج أشياء جديدة سواء أكانت مفاهيمية أو ظواهرية!! معنى هذا هو أن النتائج غالبا ما تكون متضمنة في الباراديغم، وتوقعها يكون سابقا على التجربة، وهذه الأخيرة ليست سوى لأجل تأكيد صحة النظرية، أما الفشل في مقاربة النتيجة المتوقعة هو في العادة فشل العالِم. لكن (يقول كوهن) إذا لم يكن الهدف هو اكتشاف أشياء كبيرة وجديدة، لماذا تتم معالجة هذه المشكلات أساسا؟
إن الجواب يتمثل في أنه إذا كان الحل/النتيجة معروفة مسبقا، فإن طرق الوصول إلى ذلك الحل تبقى غامضة وصعبة، والعلماء (يتنافسون) لإيجاد (أسهل) الطرق التي من خلالها تتم عملية مطابقة النظرية بالواقع. ومن هذا المنطلق تصبح المشكلات العلمية بمثابة أحجيات والعالم هو من يقوم بحلها. هذا كله من خلال التسليم بباراديغم معين يتم استعماله من أجل الوصول إلى الحل أو الحلول الممكنة.
و كما سبقت الإشارة فإن التسليم بباراديغم يعني القبول بحدود البحث التي يعينها ذلك الباراديغم. ومن هنا فإن مشكلات كانت مقبولة سابقا سيجري عزلها لاعتبارها ميتافيزيقية؛ وكذلك الشأن بالنسبة لظواهر اجتماعية مهمة. هذا يعني بأن الباراديغم يقوم بعزل كل ما لا يمكن حله بواسطة الآليات التي يوفرها هذا الإطار. أما المشكلات العلمية التي تدخل في قفص الباراديغم والتي لم يتم إيجاد الحلول المناسبة لها فإن المشكل يتمثل أساسا في الافتقار إلى العبقرية المناسبة.
ما الذي يدفع العلماء إلى تكريس حياتهم لحل أحجيات علمية مشابهة؟
إن النتائج التي يكون المجمع – المتحد - العلمي المتبني لباراديغم معين قد توصل إليها تكون مغرية، من هنا يقوم العلماء بالتسابق من أجل اكتشاف طريقة حل جديدة، أو على طريقة أحسن من الطرق السابقة. ورغم أن النتائج أحيانا تكون محبطة فإن العلماء يستمرون في البحث نظرا للإغراء الذي يقدمه الباراديغم (وكأن كوهن هنا يذكرنا بمقولة انشتاين: إن الله لا يلعب النرد... فالعالم منظم، والفوضى توجد على مستوى عقولنا فقط).
الحلول التي يتم قبولها لابد أن تكون موافقة لقوانين ومعايير علمية متعددة فليس كل حل للأحجية يعتبر مقبولا، بل إن هناك شبكة قوية من الالتزامات التي على العالم أن يأخذها بعين الاعتبار. معنى هذا أن هناك قوانين وقواعد بموجبها يقوم العالم بتقديم الحلول المناسبة والمقبولة علميا. هذا في العموم إلا أن كوهن لديه رأي مخالف، فهو يقول: «في رأيي إن القواعد تشتق من الباراديغمات، لكن الباراديغمات تقدر على قيادة توجيه البحث حتى في حال عدم وجود (غياب) القواعد»(ص:75)

الفصل الخامس جاء تحت عنوان أسبقية النماذج الارشادية (أوأولوية الباراديغمات)، والمسألة الجوهرية التي يناقشها كوهن هنا هي أن الباراديغمات يمكنها أن تحدد العلم المعياري من دون تدخل أية قواعد يمكن اكتشافها، بمعنى أن العلم المعياري يمكنه التقدم بدون معرفة صريحة بكل القواعد التي تعتبر غير أساسية!!
 هنا لابد وأن يطرح سؤال كيف ذلك؟ يقول كوهن بأن السبب في ذلك، هو كون النظام التعليمي يقوم بإعطاء الدارسين الباراديغم في عموميته، مرفوقا بالتمرين اليدوي أي بواسطة الملاحظة والتجربة، هنا تنعدم الحاجة إلى معرفة القواعد.
إن كوهن يرسم لنا لوحة يكون فيها الباراديغم بمثابة وعاء كبير والقوانين تشكل جزءا من هذا الوعاء، ومن هنا فإن الباراديغم هو الأساسي، والتغيير في القواعد لا يعني بالضرورة التغيير على مستوى الباراديغم، حيث أن الباراديغم نفسه ليس له نفس التأثير على مختلف أجزاء وفروع العلم وما يعتبر ثورة في مجال علمي ما، لا يعتبر كذلك في مجال علمي آخر. والمجادلات العلمية الكبرى تحتد حول مسألة القواعد والقوانين ليس خلال الفترات العادية لتطور العلم المعياري وإنما تحتد و تعاود الظهور بانتظام قبل وخلال الثورات العلمية، أي خلال الفترات التي تتعرض فيها الباراديغمات للمرة الأولى لهجوم يعقبه تغيير.
 الفصل السادس جاء تحت عنوان: الشذوذ و انبثاق الاكتشافات العلمية. ينطلق كوهن هنا من فكرة مفادها أن العلم المعياري، أي ذلك النشاط المنصب على حل الألغاز هو مشروع تراكمي كبير حقق نجاحا بارزا في إصابة هدفه الذي هو توسيع مدى المعرفة العلمية ودقتها. وإذا كان العلم المعياري لا يهدف إلى الكشف عن جديد فإنه ورغم ذلك، لطالما رفع البحث العلمي الغطاء عن ظواهر جديدة وغير متوقعة كما أن العلماء ابتكروا في ظله نظريات جديدة وجذرية.
من هنا تصبح النتيجة كالتالي: البحث في ظل باراديغم لا بد أن يكون طريقة فعالة لإحداث تغيير في الباراديغم (نفسه). حيث أن ظهور جديد مفاجئ في لعبة ذات مجموعة من القواعد يقتضي تمثله صياغة مجموعة أخرى من القواعد، وبعدما تصير المجموعة الجديدة جزءا من العلم، لا يعود المشروع العلمي لأولئك الاختصاصيين الذين ظهرت الأشياء الجديدة في حقل عملهم هو المشروع ذاته على الأقل.
للوصول إلى كيفية حصول التغييرات، ينطلق توماس كوهن من تمييز يعتبره زائفا إلى حد المبالغة وهو التمييز بين الاكتشافات أو الوقائع المستجدة، وبين الإبداعات أو النظريات المستجدة. فالأولى حسبه ليست حوادث منعزلة بل هي على العكس مترابطة، ممتدة وذات بنية متكررة بانتظام.
فالاكتشافات تبدأ بالوعي بوجود حالة عدم  توقع، أي بإدراك أن الطبيعة خرجت عن التوقعات التي كان قد بعثها الباراديغم، والتي تحكم العلم المعياري. بعد ذلك يستمر باستكشاف ممتد لمنطقة التوقع. والاكتشاف لا يختتم إلا عندما تقوم نظرية ما بتكييف الباراديغم ليصبح ما كان يبدوا شاذا من نوع المتوقع، وهذا يتطلب بطبيعة الحال حسب كوهن نوعا جديدا من الوقائع أكثر من مجرد تكييف إضافي للنظرية، والواقعة الجديدة لا تكون علمية إطلاقا إلا بعد تمام ذلك التكييف، أي عندما يتعلم العلم أن ينظر إلى الطبيعة نظرة مختلفة.
من أجل إثبات وجهة نظره يقدم لنا كوهن مثالا وهو اكتشاف الأكسجين، فيقوم بتحديد أسماء من يحق لهم ادعاء هذا الاكتشاف، وهم: سيكل، جوزيف بريستلي ثم لافوازييه. لكن بعد تحليل كل ما تم تقديمه من طرف الباحثين الثلاثة، اتضح أن كل واحد منهم ساهم من جانبه بشيء ما وكان ينقصه شيء آخر، إلا أن الخلاصة التي يمكن الخروج بها هي كون الأكسجين قد تم اكتشافه بعد سنة 1774 وقبل سنة 1777، بمعنى أنه من الصعب تحديد جواب لسؤالين من قبيل من اكتشف الأكسجين، وفي أي سنة تم اكتشافه؟ إن الاكتشاف العلمي هو عملية لابد أن تتطلب وقتا...
ومن أجل زيادة التأكيد يقدم لنا صاحب الكتاب أمثلة أخرى مثل اكتشاف الأشعة السينية وانشطار اليورانيوم ومثال من علم النفس... كلها توضح أن الاكتشاف يكون من داخل الباراديغم حيث يحدث عندما تحصل ظاهرة خارجة عن التوقعات، إلا ان الخروج عنها لا يعني حصول اكتشاف يكون له تأثير مباشر على الباراديغم، كما أنه لا يعني عدم وجود مقاومة من الباراديغم نفسه بل العكس ففي الحالة العادية للاكتشاف يكون لمقاومة التغيير فائدة (كبيرة)... ومع التأكيد على أن استسلام الباراديغم لا يكون بسهولة، فإن المقاومة تتضمن بأن العلماء لن يشوش تفكيرهم بخفة، وأن ظواهر عدم التوقع التي تؤدي إلى تغيير في الباراديغم ستتغلغل في المعرفة القائمة حتى الصميم. إن حقيقة ظهور جديد علمي مهم (وغالبا ما يكون في مختبرات عدة وفي نفس الوقت) إن هو إلا دليل على الطبيعة التقليدية القوية للعلم المعياري، وإلى الكمال الذي على صورته يعد ذلك المسلك التقليدي الطريق إلى تغيير ذاته 

الفصل السابع، تحت عنوان الأزمة و انبثاق النظريات العلمية، يقول فيه كوهن بأن الاكتشافات التي سبقت الإشارة إليها في الفصل السابق، قد كان لها الأثر الكبير في التغيير الذي يمس الباراديغم. من هنا فإن الاكتشافات تكون هدامة إلى جانب كونها بنّاءة، حيث أن ظهور جديد غير متوقع لا تستطيع أي نظرية من داخل الباراديغم على تفسيره، لابد وأن يحدث تغييرا ما. بلغة أخرى فإن عدم التمكن من حل الأحجية يؤدي إلى تغيير في القواعد والقوانين المعمول بها. وفي هذا الفصل يعطي كوهن مجموعة من الأمثلة، من خلال استعادته لمثال اكتشاف الأكسجين من طرف لافوازييه والأزمة التي سبقت الاكتشاف، وأمثلة كل من الثورات: الكوبرنيكية، النيوتونية والإنشتاينية (النسبية).
كل هذه الاكتشافات التي أدت إلى تغيرات مهمة في الباراديغمات، كانت مسبوقة بأزمة عجز خلالها الباراديغم أو النظريات السابقة عن إيجاد الحلول لها. وكما سبقت الإشارة في الفصول السابقة فإن النظرية أو الباراديغم الجديد لا يعني أنه يستطيع حل كل الأحجيات، بل كل ما في الأمر هو أن النظرية/الباراديغم الجديد يذهب بالعلم إلى أقصى الحدود الممكنة في أحسن الأحوال.
كما تجدر الإشارة إلى أن التطور على المستوى النظري يرافقه تطور على مستوى أدوات وتقنيات العمل والتجربة، حيث «كلما استمرت الأدوات التي يقدمها الباراديغم في اثبات قدرتها على حل المشكلات التي يحددها (الباراديغم)، يتحرك العلم بأسرع ما يمكن ويتغلغل تغلغلا عميقا باستعماله الواثق لتلك الأدوات. أما السبب فواضح، فكما في الصناعة كذلك في العلم، إن تجديد الأدوات إسراف يجب احتفاظ العمل به للمناسبة التي تتطلبه. وإن أهمية الأزمات تمثل في الإشارة التي توفرها إلى أن مناسبة تجديد الأدوات قد حلت».
الفصل الثامن من الكتاب عنونه كوهن بــ الاستجابة لــلأزمة، وفيه نجد بأن كل الأزمات تبدأ بظاهرة تشوش على الباراديغم، يتبعها خلخلة لقواعد البحث المعياري. وفي هذا الصدد يمكن أن نقول بأن البحث يكون خلال فترة الأزمة مشابها لفترة ما قبل الباراديغم، ما عدا اختلاف أن البحث خلال مرحلة الأزمة يكون أصغر وتحديده يكون أوضح. وكل الأزمات تنتهي إلى حالة من ثلاث يقول كوهن:
1 – أحيانا قد يثبت العلم المعياري في نهاية المطاف قدرته على معالجة المشكلة التي أثارت الأزمة، بالرغم من يأس أولئك الذين رأوا فيها نهاية باراديغم قائم.
2 – أحيانا تقاوم المشكلة، حتى المقاربات الجذرية الجديدة، وعندئذ قد يخلص العلماء إلى استنتاج عدم إمكان وجود حل في الحالة الراهنة لمجال علمهم، فيلصق بالمشكلة ما يدل على نوعها، وتزاح جانبا لينظر فيها جيل آخر في المستقبل يكون مزودا بأدوات أكثر تطورا.
3 – أو قد تنتهي الأزمة بنشوء مرشح جديد لأحد الباراديغمات وما يتبعه من معركة حول قبوله.
إن عملية الانتقال من باراديغم مأزوم إلى آخر جديد يكون بمثابة نشأة تقليد جديد، بمعنى أن هذا الانتقال هو أكثر من عملية تراكمية تتحقق عن طريق صياغة باراديغم قديم أو توسيعه. الأصح هو أن هذه العملية (أي عملية الانتقال) هي بمثابة إعادة بناء أسس جديدة فهي «إعادة البناء التي تغير بعضا من أهم التعميمات النظرية الابتدائية للحقل، فضلا عن عدد كبير من طرائق الباراديغم وتطبيقاته، وسيكون خلال فترة الانتقال تداخل كبير، لكنه ليس كاملا بين المشكلات التي يمكن حلها بواسطة الباراديغم القديم والجديد، وسيكون هناك أيضا فرق حاسم في أنماط الحل»
ولكي يدقق كوهن وصفه لحالة الانتقال هذه، يقتبس قولة لأحد المؤرخين الذي يقول: أن تجدد العلم بفضل تغيير الباراديغم يشبه «التقاط العصا من طرفها الآخر»؛ بمعنى أنها عملية تشمل معالجة مجموعة المعطيات السابقة ذاتها، لكن من خلال وضعها مع بعضها البعض في نظام علاقات جديد وبواسطة تأطير مختلف.
إن الباراديغم الجديد وعلى الأقل في مرحلة جنينيته يظهر قبل أن تذهب الأزمة بعيدا في تطورها، أو قبل إدراكها إدراكا واضحا. حيث أن العالم الذي يدرك حدوث حالة عدم توقع، ويدرك وجود نوع من الأزمة يحاول أن يجد الحلول الممكنة. وهو في هذه المرحلة لا يشتغل بدون نظرية. من هنا يقوم بتوليد نظريات تأملية تكشف في حال نجاحها الطريق إلى باراديغم جديد، وفي حال العكس يتم التخلي عنها بسهولة نسبية.
كما يضيف كوهن بأنه في هذه الفترة من فترات الأزمة، فإن العلماء يتحولون إلى التحليل الفلسفي كأداة لفك أحجيات حقل عملهم. أما بخصوص الأشخاص الذين يبدعون الاختراعات أو الاكتشافات المتعلقة بباراديغم جديد فهم في الغالب من العلماء الشباب، وذلك لأنهم يكونون ضعيفي الالتزام  بالباراديغم القديم، ونظرياته و قواعده. هكذا ففي حال ظهور أزمة يستطيعون وبسهولة (نسبية) التحول إلى التفكير في طرق أخرى للحل.
الفكرة الأخير التي يمكن أن نصل إليها بعد هذه الفصول هي كون «الانتقال إلى باراديغم جديد هو ثورة علمية»
أما الفصل التاسع الثورات العلمية طبيعتها وضرورتها، فيقيم فيه كوهن علاقة موازاة وتشابه بين التطور السياسي والتطور العلمي، حيث أن الثورات السياسية تحدث عندما تصبح المؤسسات السياسية القائمة غير قادرة على إيجاد الحلول لمجموعة من المشاكل الاجتماعية. وفي هذه المرحلة يحتد الشعور بأن هناك أزمة تستوجب الحل، لتنقسم النخبة السياسية (كوهن لم يستعمل مفهوم النخبة) إلى نخبتين إحداهما مرتبطة بالمؤسسات القديمة، والثانية تنشد تغييرها. في هذه الحالة يتم اللجوء إلى الجماهير التي عليها أن تحسم الأمر. هنا يمكن القول بأن التأثير في الجماهير يكون بشكل عنيف غالب الأوقات. من هذا المنطلق يقول كوهن بأن الثورات العلمية تسير و فق نفس المعطى، ففي حالة ظهور حالات عدم توقع نصل إلى مرحلة أزمة، بعدها يأتي باراديغم جديد ليصارع القديم. و يقول كوهن: «هذه الناحية التاريخية من الموازاة بين التطور السياسي والتطور العلمي يجب التوقف عن الشك بوجودها»
ينتقل بنا بعد هذا كوهن إلى إعطاء الحجج التي تدحض الفكرة القائلة بأن تاريخ العلم هو تاريخ تراكمي فحتى لو بدا ذلك في الوهلة الأولى واضحا، فإنه غير صحيح. حيث أن تطور النظريات العلمية يبتدأ في مرحلة أولى بالاشتغال داخل نفس الباراديغم من أجل الذهاب به إلى أقصى الحدود، ثم في مرحلة ثانية تتم إضافة بعض النظريات التي لا تخرجنا من الباراديغم، بعد هذا وفي مرحلة ثالثة نصل إلى بروز ظواهر عدم توقع جديدة. وفي هذه المرحلة يتم الانتقال إلى باراديغم جديد.
في معرض حديثه عن الصراع بين النظريات العلمية يقول كوهن بأن مرد ذلك هو في كون أصحاب النظرية الأولى لا يقفون عند حدود ما تقدمه نظريتهم بل يتجاوزون ذلك إلى إعطاء تعميمات كبرى، وهذا ما حدث بين النظرية النيوتونية، والنظرية الإنشتاينية (النسبية)، وهذا ما حدث كذلك بخصوص نظرية الفلوجستون، فلو أن العلماء المعتقدين في النظريات الأولى لم يتجهوا نحو التعميم واقتصروا على ما تقدمه الملاحظة والتجربة، لما كان بمقدور أي عالم أن يتحداها.
الثورة العلمية حسب كوهن هي إزاحة لشبكة التصورات التي من خلالها ينظر العلماء إلى العالم. معنى هذا هو أنه يمكننا اعتبار النظرية القديمة بمثابة حالة خاصة بالنسبة للنظرية الجديدة. لكن المشكل يتمثل في أنه علينا تغيير كل التصورات المتعلقة بالنظرية القديمة.
إن الفروقات الموجودة بين باراديغمات قديمة وأخرى جديدة، ليست متعلقة فقط بالجوهر بل إن الباراديغم الجديد يسائل العلم الذي أنتج داخله الباراديغم القديم فــ «العالم أثناء تعلمه أحد الباراديغمات يكتسب نظرية، طرق ومعايير في صورة مزيج مترابط العناصر. لذلك فعندما تتغير الباراديغمات تحصل انتقالات مهمة في المعايير التي تحدد مشروعية المشكلات والحلول المقترحة»
الباراديغمات هي التي تؤلف العلم. بهذه الجملة يختم كوهن هذا الفصل،

و لننتقل إلى فصل عاشر بعنوان الثورات بوصفها تغييرات في النظرة إلى العالم، وننطلق من أنه بإمكان مؤرخ العلم القول بأن التغيير على مستوى الباراديغمات يغير العالم، «فالعلماء الذين يقودهم باراديغم جديد يتبنون أدوات جديدة وينظرون في أمكنة جديدة. وربما يكون الأكثر أهمية من ذلك، أن العلماء يرون خلال الثورات أشياء جديدة، ومختلفة عندما ينظرون بأدواتهم المألوفة في أمكنة كانوا قد نظروا إليها من قبل. ويبدو الأمر كما لو أن المتحد المهني قد انتقل فجأة إلى كوكب آخر ترى فيه الأشياء المألوفة في ضوء مختلف؛ كما ترى معها أشياء أخرى غير مألوفة أيضا. طبعا لم يحدث أي شيء من ذلك النوع، فليس هناك انتقال جغرافي، ولا تزال الأمور اليومية مستمرة خارج المختبرات كعادتها، ومع ذلك فإن التغييرات في الباراديغمات تجعل العلماء يرون عالم بحثهم المشتغلين فيه مختلفا. وما دام لجوء العلماء إلى ذلك العالم لا يكون إلا من خلال ما يرونه ويفعلونه، فقد نرغب في القول أنهم بعد حصول الثورة يستجيبون لعلم مختلف»
هذا ما حاول توماس كوهن أن يعطي الأدلة عليه خلال هذا الفصل. حيث قدم أمثلة من مختلف العلوم: الفلك، الفيزياء، الكيمياء وعلم النفس من خلال تجارب المدرسة الجشطالتية. والنتيجة التي يتوصل إليها هي أن العالِم بعد الثورة وبعد تبني الباراديغم الجديد يصبح يرى العالم بطريقة مغايرة لما قبل الثورة  بواسطة الباراديغم القديم.
قد يتبادر إلى ذهننا كون الباراديغم لا يغير سوى اللغة والمفاهيم العلمية التي يستعملها العلماء لتفسير الظواهر في مختلف العلوم، وهذا قد يكون صحيحا لكنه ليس بعام أو مطلق، بل العكس من ذلك فإن الباراديغمات الجديدة تغير من طبيعة فهم العلماء للأمور، كما تغير بصورة جذرية أفكارهم وطرق رؤيتهم السابقة.

الفصل الحادي عشر عنونه توماس كوهن بــ الثورات وطابعها الخفي، وفيه يتساءل عن الأسباب التي تجعل العلماء، والناس العاديين على حد سواء، يرون التقدم وكأنه عبارة عن تراكمات، يضيف اللاحق إلى السابق جديدا من خلالها. ويرجع السبب في نظره إلى وجود مصدر له سلطة، ومن هذا المصدر تستمد التصورات عن النشاط العلمي الخلاق. ومن بين مصادر السلطة هاته نجد المقررات والكتب التعليمية التي من خلالها يتم تزويد التلاميذ والطلاب بقوانين العلم المعياري. وهذه الكتب تقوم بإعطاء صورة خاطئة عن تاريخ العلم، لتجعله يبدوا تاريخا تراكميا، كما تجعلنا ننظر إلى العلماء كبناة كانوا يبحثون عن الإجابات لنفس الأسئلة، وهكذا اللاحق يستفيد من السابق ويضيف إليه. وهذا ما يعارضه كوهن وينفيه عن طريق تقديم الأدلة من تاريخ العلم، فيقول بأن بعض الأسئلة لم يكن في وسع العلماء السابقين طرحها بواسطة باراديغماتهم. لذلك فحتى الأسئلة الحديثة كانت تتطلب باراديغمات حديثة للإجابة عنها.

الفصل الثاني عشر وهو ما قبل الأخير جاء تحت عنوان انحلال الثورات، وفي البداية يقول كوهن بأن كتب التدريس التي تمت مناقشتها سابقا، لا تنتج إلا بعد ثورة علمية، فهي التي تؤسس لتقليد جديد لعلم معياري. وهنا يتم التساؤل مرة أخرى عن العملية التي من خلالها يحل باراديغم محل آخر؟ فيرجع مرة أخرى للقول بأن أي تفسير للطبيعة سواء كان اكتشافا أو نظرية علمية ينشأ في البداية داخل عقل باحث أو مجموعة صغيرة؛ وهؤلاء هم أول من يتعلم النظر إلى العلم والعالم نظرة مختلفة، وغالبا ما يكونون كما سبق ورأينا من صغار السن، وحديثي العهد بالحقل الذي تمزقه الأزمة.
السؤال المطروح هنا هو كيف يتمكن أصحاب النظرة الجديدة من تحويل المهنة كلها أو قسما من المجموعة المهنية (العلمية) إلى طريقتهم في رؤية العلم والعالم؟ وما هي الأسباب التي تجعل المجموعة تهجر تقليدا علميا من البحث المعياري، لمصلحة تقليد آخر؟
إن الباحث هو حلاّل أحجيات كما سبق رأينا، وليس فاحصا للباراديغمات، ومع أنه قد يجرب عددا من المقاربات البديلة خلال بحثه عن حل الأحجيات، فيعمل على رفض المقاربات التي تخفق في إنتاج النتيجة المرجوة، إلا أنه لا يكون بصدد فحص الباراديغم، إنه يكون مثل لاعب الشطرنج الذي تواجهه مشكلة، فيقوم بتصور وتجريب كل الحلول الممكنة، إلا أنه لا يخرج عن قواعد اللعبة (أي عن الباراديغم). وفحص الباراديغم، لا يحصل إلا بعد أن نواجه الإخفاق المتواصل في حل الأحجيات أي في مرحلة الأزمة. وحتى عندئذ لا يحصل الفحص إلا بعد أن يثير الحس بالأزمة مرشحا جديدا أي باراديغما جديدا.
بخصوص ما سبق يقول كوهن أن هناك نظريتين فلسفيتين معاصرتين، وهما من أكثر النظريات شيوعا، يتعلقان بمسألة التحقق العلمي:
§      الأولى ترى بأنه على النظرية التي يراد التحقق منها أن تجتاز اختبارا متمثلا في مقارنة هذه النظرية العلمية مع كل النظريات الموجودة أو التي يمكن تخيلها. ومن هنا يكون في مقدورنا أن نقوم بنوع من حساب الاحتمالات الممكنة المطلقة أو النسبية. وما يسجله كوهن هنا هو صعوبة القيام بمثل هذا العمل، حيث سيصبح التحقق مثل الانتقاء الطبيعي فهو ينتقي الأقدر على البقاء من بين البدائل الواقعية الموجودة في موقف تاريخي معين.
§        النظرية الثانية مختلفة عن الأولى، وقد طورها كارل بوبر الذي نفى وجود أي إجراءات تحقق إطلاقا. وبدلا من ذلك فقد أكد أهمية إثبات وجود تكذيب (تفنيد ربما سيكون أحسن استعمالا)، أي القول بأن حاصل الفحص سلبي. وما يلزم عن ذلك هو رفض النظرية القائمة، وبخصوص هذه النقطة يلمح كوهن إلى وجود تشابه بين دور التفنيد الذي يتحدث عنه بوبر وبين الدور الذي عينه هو (كوهن) لـ ظواهر عدم التوقع، حيث أن هذه الأخيرة هي التي تعد الطريق لظهور نظرية جديدة، عن طريق إثارة أزمة. إلا أن كوهن يشدد على الاختلاف الموجود ويقول بأنه يشكك حتى بوجود تكذيب/تفنيد، حيث لا وجود لنظرية تحل كل الأحجيات والحلول التي وجدت سابقا ليست بحلول كاملة. وعلى العكس من ذلك فعدم الكمال، وعدم الملاءمة بين النظرية والمعطيات هما ما يحددان الكثير من الأحجيات التي تميز العلم المعياري. وإذا كان أي فشل في الملاءمة هو افتراضا أساس رفض النظرية، لكان من الواجب أن ترفض كل النظريات وفي كل الأوقات.
إن التفنيد لا يظهر مع حالات عدم التوقع وإنما هو مرحلة لاحقة، ويمكننا استعمالها وتسميتها بالتحقق العلمي. وبين التحقق والتفنيد تأتي أهمية نظرية القائلين بالاحتمال. معنى هذا أن النظريتين السابقتين هما ضروريتان معا ولا يمكن فصلهما، حيث بواسطتهما يمكننا شرح الاتفاق أو الاختلاف الموجود بين النظرية والواقع، ويقول كوهن بأن هذا السؤال لا يصبح ممكنا وذا فائدة إلا في حالة وجود نظريتين على الأقل، فنقول أن إحداهما أكثر مطابقة مع الواقع أي مع الطبيعة.
وينبهنا كوهن إلى القضية التالية حيث يقول: بأنه قد تبدوا لنا عملية الاختيار بين الباراديغمات أمرا سهلا فنقوم بحساب عدد المشكلات التي يستطيع كل باراديغم حلها، ونستنتج لمن الأفضلية بين الباراديغمات. يقول كوهن بأن الأمر أعقد مما قد نتصور، لأن أنصار كل باراديغم لهم أهدافهم الخاصة ولو جزئيا، ومن هنا لا يقدمون كل الافتراضات اللاتجريبية للفريق الآخر (المنافس).
إن عدم إمكانية المقارنة بين معايير العلم المعياري ترجع كذلك إلى كون النظريات أو الباراديغمات الجديدة تولد وتخرج من رحم النظريات والباراديغمات القديمة، وهي لذلك تدمج مجموعة المفاهيم والأجهزة الفكرية، وما تقوم به هو أن تعيد الدمج بطريقة جديدة فتصبح النتائج مغايرة. فمثلا هل على نظرية الحركة أن تشرح قوى التجاذب بين الجسيمات المتجاذبة؟ أم عليها أن تكشف عن وجود الظاهرة فحسب؟ إن جواب نيوتن كان هو الثاني، ومن هنا تم إقصاء السؤال الأول من العلم، والجواب عنه هو ما مكن أينشتاين من الحديث عن نظريته النسبية. كما أن الناس الذين سخروا من أينشتاين عندما قال بوجود انحناءات في المكان، لم يكونوا مخطئين تماما، لأنهم تعودا أن يروا المكان منبسطا، وما فعله أينشتاين هو أنه غير من طبيعة النظرة إلى المكان. كما أن من اتهموا كوبرنيكوس بالجنون لم يكونوا مخطئين عندما قال بحركية الأرض و دورانها، لأن الأرض من بين ما تعنيه للناس هي أرضهم الفلاحية وما يبنون عليه منازلهم، وإذا كان هذا هو ما تحدث عنه كوبرنيك فسيكون مخطئا، إلا أنه غير النظرة إلى العالم من خلال علوم الفيزياء والفلك.
إن الأسئلة التي تلغى في مرحلة ما لا يتم رميها، وإنما يعاد استدعائها لاحقا ومحاولة الإجابة عنها، وهذا هو الدور الذي تلعبه الباراديغمات. خلاصة القول أن العالم من منظور باراديغم ليس نفس العالم من منظور باراديغم آخر، فهناك من يرى محاليل كيميائية في حين يرى آخر خلائط، كما هناك من يرى سقوطا حرا في حين يرى آخرون حركة نواس، من هنا صعوبة المقارنة! فالاختلاف هو في النظرة إلى العالم، والانتقال من باراديغم إلى آخر لا يكون خطوة خطوة وإنما يكون دفعة واحدة أو لا يكون.
يستشهد كوهن على ذلك ومن أجل توضيح مبتغاه، بهذه الفقرة من نهاية كتاب أصل الأنواع لـ داروين: «وبالرغم من أنني مقتنع تمام الاقتناع بصحة النظرات المقدمة في هذا المجلد... إلا أنني لا أتوقع بأي شكل من الأشكال أن أقنع الطبيعيين ذوي الخبرة الذين تخزنت في عقولهم كثرة من الحقائق، نظر إليها كلها وعلى مدى سنين طويلة من منظور مضاد مباشر لمنظوري... ولكنني بثقة أنظر إلى المستقبل، إلى علماء طبيعة شبان وناشئين، يكونون قادرين على النظر إلى وجهيْ المسألة نظرة خالية من الانحياز»
 بعد هذا ينتقل كوهن إلى طرح سؤال: ماهي الحجج التي يقدمها مناصرو الباراديغم الجديد ليقنعوا مناصري الباراديغم القديم؟
كجواب. يقول كوهن بأن الحجة التي تساهم في التحول بشكل سريع، هي تمكن الباراديغم الجديد من حل المشكلات التي أدت إلى الأزمة. إلا أن هذا لا يحدث دائما، بل هو نادرا ما يساهم في التحول، حيث أنه في بعض الحالات لا يساهم الباراديغم الجديد في حل المشكلات، وإنما يمكن فقط من طرح أسئلة لم تكن ممكنة في ظل الباراديغم السابق، كما أنه في بعض الأحيان يتم اكتشاف ظواهر لم يتنبأ بها الباراديغم الجديد لكنها تتوافق معه، ويكون لهذه الظواهر أثر الصدمة فيثبت الباراديغم فعاليته في تفسير الظاهرة الجديدة. كما أن أحد عوامل قبول الباراديغم هو في الجمالية التي صيغت بها قوانينه، قد يبدوا هذا العامل ضعيفا لكنه في بعض الأحيان يلعب دورا مهما في التحول من باراديغم إلى آخر. ويضيف كوهن أنه في البداية قد يكون الباراديغم الجديد غير قادر على حل عدد من المشاكل عكس الباراديغم السابق. من هنا يأتي عامل غريب آخر وهو عامل الإيمان بكون الباراديغم الجديد سيحل في المستقبل عددا أكبر من المشكلات. وهكذا يتمكن الباراديغم من جذب عدد قليل من العلماء في البداية، وهؤلاء يعملون على تطويره و صقله، لتنتشر المقالات، البحوث والكتب العلمية التي تجذب عددا أكبر من العلماء حتى لا يبقى سوى عدد ضئيل من كبار السن من العلماء الذين يتمسكون بالباراديغم القديم. ومع ذلك يقول كوهن لا يمكننا القول بأن هؤلاء يبنون رفضهم على أسس غير علمية.
الفصل الثالث عشر والأخير:  الثورة سبيل التقدم ، يحاول كوهن من خلاله الجواب على السؤال التالي: لماذا يتقدم المشروع العلمي الذي تم رسمه في الفصول السابقة، بثبات وبعدة طرق، ولا يحصل تقدم مثله في الفن أو النظرية السياسية أو الفلسفة؟ لماذا يعد التقدم امتيازا محفوظا للنشاطات التي نسميها علما فقط؟
إن هذا السؤال وكما هو واضح، لغوي دلالي في جزء منه، ومصطلح علم مخصص لتلك الحقول التي تتقدم فعليا بطرق واضحة. ولا يتجلى هذا بوضوح أكثر مما يتجلى في المجادلات الجارية حول ما إذا كان علم أو آخر من العلوم الاجتماعية هو علم حقا. ويقول كوهن أنه حتى في تلك الحقول التي يتم اعتبارها اليوم حقولا علمية بدون شك، قد كانت مثل العلوم الاجتماعية في فترة ما قبل الباراديغم.
هل مكمن الإشكال هو في التعريف الذي يعطى للعلم؟
 يقول كوهن أن السبب ليس في تعريف معنى العلم ومعرفته، وإنما يتمثل الإشكال في الإجماع الذي تحققه المجموعات العلمية بخصوص انجازاتها الماضية والحاضرة (أي أننا نتحدث عن النتائج). ففي السابق ساهم الفن باعتبار أن له وظيفة تمثيلية في اكتشاف مجموعة من الظواهر، لكن بعد مدة كف الفن عن لعب وظيفته التمثيلية (أي تمثيل الواقع)، وبدأ الفنانون يتعلمون من الأشكال البدائية. لكن ورغم ذلك فإننا وحتى يومنا هذا لا نزال ندعو بعض التكنولوجيات بالفنون.
الخلاصة هي أننا نميل إلى رؤية أي حقل يحصل فيه تقدم على أنه علم. لكن (يتساءل كوهن) لماذا يجب أن يكون التقدم خاصية جديرة بالملاحظة؟ وهل يتقدم الحقل لأنه علم أم هو علم لأنه يتقدم؟ ولماذا على مشروع مثل العلم المعياري أن يتقدم؟
إن الفترة التي يمارس فيها العلماء العلم بالمعنى الحالي للمفهوم، هي خلال فترة العلم المعياري، ولكن بعد نشوء الأزمات فإن كل فريق يشكك في أسس الفريق الآخر وهذه هي مرحلة التغيرات والتحول أي مرحلة الثورة. وفي سائر المجالات والحقول العلمية يحدث نفس الشيء والمقياس الذي يستعمل للدلالة على أن حقلا ما هو حقل علمي يتمثل في التقدم. إلا أن هذا التقدم يكون واضحا في حقول معينة أكثر من حقول أخرى بسب غياب المدارس المنافسة.
وكجواب على سؤال: لماذا على التقدم أن يكون المرافق الشامل والواضح للثورات العلمية؟ يقول توماس كوهن بأن الثورات تنتهي بنصر كلي لأحد المعسكرين المتنافسين، فهل يمكن أن تقول المجموعة المنتصرة أن نتيجة انتصارها هي شيء أقل من التقدم؟ وبعد نجاح الباراديغم الجديد فإن أعضاء المتحد العلمي يتخلون عن الكتب، والمقالات التي أنتجت في ظل الباراديغم السابق، وهذا يجعل الجيل القادم والناشئ في ظل الباراديغم الجديد يرون نظامهم المعرفي يسير في خط مستقيم، يرونه في تقدم دائم، هذا مثله مثل إعادة كتابة التاريخ من طرف السلطة القائمة.
إن الثورات العلمية فيها خسائر إلى جانب المكتسبات، إلا أن العلماء يميلون إلى التغاضي عن الخسائر ففكرة أن القوة تصنع الحق في الثورات، وهذه صيغة ليست خاطئة تماما إذا لم تطمس طبيعة العملية والسلطة المعرفية اللتين بهما يتم الاختيار بين الباراديغمات...
كل ما سبق يجرنا إلى التساؤل عن طبيعة المتحدات العلمية التي لها دور فعال في قبول كل ما هو علمي فهي الفيصل أولا وأخيرا، ومن الشروط الأساسية أن تكون النتائج المحصل عليها غير شخصية، بمعنى أنه على النتائج أن تقبل من طرف مجموعة من العلماء الذين يمتلكون قواعد اللعبة. ولكي يقبل باراديغم جديد من طرف المجموعة العلمية عليه أن يحقق شرطين أساسيين وهما:
أولا يجب على المرشح الجديد أن يبدو قادرا على حل مشكلة بارزة ومعروفة بصورة عامة ولا يمكن حلها بطريقة أخرى.
ثانيا على الباراديغم الجديد أن ينطوي على وعد بالمحافظة على جزء كبير نسبيا من القدرة على حل المشكلات التي أضيفت إلى العلم من خلال الباراديغمات السابقة له.
وفي هذه المرحلة يحذرنا كوهن من الاعتقاد بأن التغير على مستوى الباراديغمات يقرب العلماء والذين يتعلمون منهم من الصدق باطراد، ويضيف كوهن بأنه ليس علينا الاعتقاد بأن التقدم يقود إلى نقطة أخيرة وإلى هدف معين. لكن ماذا يمكن أن يعني التطور والتقدم في غياب هدف محدد؟
هنا يقيم كوهن مماثلة بين ما شرحه في كتابه وقدم الأدلة والحجج عليه حول تقدم العلم عبر الثورات العلمية، وبين نظرية داروين الارتقاء عن طريق الانتقاء والبقاء للأصلح، فيقول في الختام أن خمود الثورات هو انتقاء عن طريق النزاع داخل المتحد العلمي، لأنسب طريقة لممارسة العلم المستقبلي، والنتيجة الصافية لسلسلة عمليات الانتقاء هذه، المنفصل بعضها عن البعض بفترات البحث المعياري، هي مجموعة الأدوات ذات التكيف البديع التي ندعوها المعرفة العلمية الحديثة .


 يوسف زروق


ليست هناك تعليقات: