الخميس، 18 أكتوبر 2018

الفكرة القومية (نصّ)؛ كارل بوبر.


[الفكرة القومية؛ كارل بوبر]
(عن كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه)



أنتقل الآن إلى عرضٍ إجمالي شديد الإيجاز لقصةٍ غريبةٍ نوعاً ما؛ ألا وهي قصة "صعود النزعة القومية الألمانية". لا ريب في أن الاتجاهات المباطِنة لهذا التعبير تنطوي على صلةٍ قوية بالثورة على العقل والمجتمع المفتوح. فانزعة القومية تناشد استعداداتنا الفطرية [غرائزنا] القَبَلية، تناشد العاطفةَ والتحيّزَ [والأحكام المسبقة]، ورغبتنا الحنينية في التخلص من توتر المسؤولية الفردية التي تريد أن يحلَّ محلها مسؤولية جمعية أو مسؤولية الجماعة. وتماشياً مع تلك الاتجاهات نجد أن الأعمال الأقدم عن النظرية السياسية، حتى نظرية الأوليجاركية القديمة [حكم القلة القديم] ـ وهو ما نلحظه جلياً في أعمال أفلاطون وأرسطو ـ تغبّر عن رؤى قومية دون شك؛ حيث كُتِبت تلك الأعمال في محاولة لمحاربة المجتمع المفتوح والأفكار الجديدة عن الإمبريالية والكونية والمساواة. ثم توقف، في تلك المرحلة المبكرة، تطور النظرية السياسية القومية لفترة قصيرة مع أرسطو. ثم مع أمبراطورية الإسكندر اختفت النزعة القومية القَبَلية الطبيعية من الممارسة السياسية نهائياً، ولوقت طويل، من النظرية السياسية. فمنذ الإسكندر وصاعداً كانت كل الدول المتحضرة [المدنية] في أوروبا وآيسيا أمبراطوريات تحتضن سكاناً من أصولٍ مختلطة اختلاطاً غير محدود. فالحضارة الأوروبية وكل الوحدات السياسية التابعة لا ظلت دولية أو على وجه أدق بين قَبَلية منذ ذلك الوقت. (ويبد أنه ـ تقريباً ـ قبل الإسكندر بوقت طويل ـ كما كان الإسكندر قبلنا بوقت طويل ـ أبدعت أمبراطوريةُ سومر القديمة الحضارة العالمية الأولى). فما اعتُبر خيارً في الممارسة السياسية ظل خيراً في النظرية السياسية. وحتى قبل حوالي مائة سنة، كانت قد اختفت النزعة القومية الأفلاطونية الأرسطية عملياً من العقائد السياسية. (وبالطبع، ظلت المشاعر القَبَلية الضيّقة المحدودة قويةً). ثم حين أُحيِيَت النزعة القومية منذ مائة سنة، كانت في إحدى أشد المناطق اختلاطاً في أوروبا، في ألمانيا، ولا سيما بروسيا بسكانها السلافيين إلى حدٍ كبير. (وليس من المعروف أن بروسيا قبل قرنٍ تقريباً، بغلبة سكانها السلافيين، لم تكن تُعتبر دولةً إلمانية إطلاقاً؛ وإن كان ملوكها بوصفهم أمراء براندنبرغ لهم "حق اختيار" الأمبراطور الألماني، كانوا يُعتبرون أمراءً ألمان. في مؤتمر فيينا 1830 كان هيغل لا يزال يتحدث حتى عن براندنبرغ ومكلنبورغ بوصفهما مأهولين بـ "سلافيين لهم طابع ألماني").
وهكذا، لم يمضِ سوى وقت قصير حتى أعيد تقديم "مبدأ الدولة القومية" في النظرية السياسية. ورغم هذه الحقيقة، فمن المقبول على نطاق واسع في أيامنا أن يؤخذ الأمر على علاته عادةً، وفي الأغلب الأعم دون وعي به. فهو يشكل الآن ـ إن جاز التعبير ـ فرضيةً ضمنية في الفكر السياسي الشعبي، بل يعتبره الكثيرون مسلّمة أساسية في الأخلاقيات السياسية، لا سيما منذ مبدأ تحديد الذات القومية الذي أصدره عن حسن نيّة ويلسون وإن لم يُدرَس بعنايةٍ كبيرة. كيف لأيّ شخصٍ يعرف التاريخَ الأوروبي أدنى معرفة ويعرف تغيّر واختلاط كل أنواع القبائل وموجاتٍ لا تحصى من شعوب جاءت من موطنها الآسيوي الأصلي فانقسمن واختلطت عند وصولها إلى متاهة أشباه الجزر المسمّاة القارة الأوروبية، كيف لأيّ شخصٍ يعرف ذلك كله أن يضع مثل هذا المبدأ غير القابل للتطبيق؟. من الصعب أن نفهم. التفسير هو أن ويلسون، الذي كان ديموقراطياً صادقاً (ومازاريك أيضاً وهو أحد أعظم المحاربين من أجل المجتمع المفتوح)، سقط ضحية حركةٍ نجمت عن فلسفة سياسية أكثر رجعية وخنوعاً فُرَضت أكثر من أيّ وقت مضى على بشر خنعوا بعد معاناةٍ طويلة. لقد سقط ضحية تنشئته في جوّ نظريات أفلاطون وهيغل السياسية الميتافيزيقية، وضحية الحركة القومية القائمة عليها.
إن "مبدأ الدولة القومية"، أي المطالبة السياسية بضرورة تطابق أراضي كل دولة مع الأراضي التي يسكنها شعبٌ واحد، لم يكن بأيّ حال من الأحوال مبدأً بديهياً ظاهراً لكثير من الناس إلى اليوم. وحتى لو عرف أيُّ شخصٍ ما يقصده حين يتحدث عن الجنسية فلن يكون واضحاً بالمرّة لماذا ينبغي قبول الجنسية بوصفها تصنيفاً سياسياً أساسياً، أهم مثلاً من الدين أو الميلاد في منطقة جغرافية معيّنة، أو الولاء لسلالة حاكمة، أو لعقيدة سياسية كالديموقراطية (التي تشكّل كما قد يقول قائل عاملَ التوحيد بين لغات متعددة في سويسرا). لكن بينما الدين أو الإقليم أو العقيدة السياسية عامل محدّد بشكلٍ واضح تقريباً فلا أحد بمقدوره إيضاح ما يعنيه بالأمة [أو الشعب]، على نحو ما تُستخدَم بوصفها أساساً للسياسات العملية. (وبطبيعة الحال، إذا قلنا إن الأمة هي عدد من الناس الذين يعيشون أو يولدون في دولة بعينها، فسيتضح كل شيء إذاٍ؛ لكن ذلك سيعني التخلي عن مبدأ الدولة القومية الذي يطالب بأن الدولة ينبغي أن تحددها الأمة، وليس العكس). فلا نظرية من النظريات القائلة بأن الأمة يوحّدها أصلٌ مشترك أو لغةٌ مشتركة أو تاريخ مشترك، يمكن قبولها أو تطبيقها في الممارسة العملية. مبدأ الدولة القومية لا يقبل التطبيق فحسب بل غير متصوَّر [مفهوم] بشكل واضح. فهو أسطورة. إنه غير عقلاني، حلم رومانسي طوباوي، حلم بنزعة طبيعية ونزعةٍ جَمعية قَبَليّة.
ورغم ميولها الرجعية اللاعقلانية الأصلية فيها، فإن النزعة القومية الحديثة ـ الغربية بما يكفي ـ كانت في تاريخها القصير قبل هيغل عقيدةً ثوريةً وليبرالية. وبواسطة ما يشبه امصادفةً تاريخية ـ غزو الأراضي الألمانية بواسطة أول جيش قومي، هو الجيش الفرنسي بقيادة نابليون، ورد الفعل الذي سبّبه هذا الحدث ـ شقت النزعة القومية طريقها إلى معسكر الحرية. ولا يخلو من فائدة رسم تاريخ ذلك التطور، وتاريخ الطريقة التي بها أعاد هيغل النزعة القومية إلى معسكر الكلّيّانية الذي تنتسب إليه منذ أن قال أفلاطون إن اليونانيين مرتبطون بالبرابرة ارتباط السادة بالعبيد.
لقد صاغ أفلاطون للأسف ـ ولن يُنسى ذلك ـ مشكلته السياسية الجوهرية بالسؤال: من ينبغي أن يحكم؟، ومَن ينبغي أن يَسِنّ القانون؟. قبل روسّو، كان الجواب المعتاد عن هذا السؤال: الأمير.
ثم جاء روسو فأعطى الجواب الجديد الأكثر ثورية: ليس الأمير بل الشعب هو الذي ينبغي أن يحكم، ليست إرادة شخصٍ واحد بل إرادة الكل هي التي ينبغي أن تحكم. بهذه الطريقة، اخترع روسّو إرادة الشعب، أو الإرادة الجَمعيّة أو "الإرادة العامة"، كما سمّاها؛ أما الشعب الذي مُنِح فجأةً إرادةً فكان يجب رفعه [ترقيته] إلى مستوى شخصيةٍ عُليا، يقول روسّو: "بالنسبة إلى ما هو خارج عنه (أي: بالنسبة إلى شعوبٍ أخرى) يصبح الشعب وجوداً مفرداً واحداً، فرداً واحداً". ثمة قدر طيّب من نزعةٍ جَمعيةٍ رومانسية في هذا الاختراع، دون مَيلٍ إلى نزعةٍ قومية. لكن نظريات روسّو تضمنت جرثومة النزعة القومية، وعقيدتها الأكثر تميّزاً هو أن الأمم المتنوّعة تُعتبَر شخصيات متنوّعة. وقد اتُّخِذَت الخطوة العملية الكبيرة في الاتجاه القومي عندما دَشَّنت الثورةُ الفرنسية جيشَ الشعبِ القائم على التجنيد الوطني. (صص 78، 90)

ليست هناك تعليقات: