الأحد، 14 أكتوبر 2018

العودة الثانية لسيقموند فرويد [أو بين النفسي والدماغي]؛ ترجمة: د. متعب حامد



العودة الثانية لسيقموند فرويد
– كاثلين ماكقوان / ترجمة: د. متعب حامد

كاثلين ماكقوان، مجلة ديسكوفر

الاجتماع في مطعم أنيق، في مقاطعة هارلم في نيويورك، في الغرفة الخاصة في الدور السفلي. المكان مزدحم، وبالنسبة لاجتماع علمي، يبدو الوضع مترفا بشكل زائد. نساء كثيرات يرتدين فساتين سهرة مشعة. الرجال يرتدون ربطات عنق ثمينة. على الطاولة الممتدة، صاحب السكسوكة جو لي دو (Joe LeDoux)، المعروف بأبحاثه عن شعور الخوف التي استكشفت أراضي لم يطأها أحد من قبل. وهو أيضا معروف بتزعمه لفرقة من العلماء تشبه فرق المغنين. الطباخ الشهير الذي يملك المطعم، يرحب بالضيوف شخصيًاً.
الاجتماع غير اعتيادي، لأسباب أخرى. هو اجتماع خيري لمؤسسة النيوروسايكوأنالسيس (1) (Neuropsychoanalysis التحليل النفسي المتعلق بعلوم الأعصاب)، هو في شكل من أشكاله، احتفال بالفكرة القائلة بأن أفكارا تحليلية صرفة، كفكرة كبت (2) الغرائز، والمحرّكات اللامَوْعيَّة (3)، تبقى مهمة في هذه الحقبة التاريخية حيث تقدمت الدراسات الحيوية العصبية للدماغ. إذا كانت هذه الفكرة تبدو مدهشة، هذه الفكرة القادمة ستبدو كذلك أيضا: سيقموند فرويد، منشيء التحليل النفسي، بدأ حياته في الحقيقة كعالم أعصاب حيوي (نيوروبايولوجست)، يشرّح أعصاب سمكة جراد البحر. اصطدم فرويد بالعقبة التالية: في  أواخر القرن التاسع عشر، علوم الدماغ كانت ما تزال بدائية. حتى الطريقة التي تعمل بها الخلية العصبية كانت ماتزال غامضة. حينها، قام فرويد بالتخلي عن ما يمكن دراسته بالمجهر، وما يعتمد على الدراسة الموضوعية، وبدأ في تطوير طريقة ذاتية لفهم العقل، تعتمد على ما يقوله له مرضاه المحزونين عن عوالمهم الداخلية. التحليل النفسي، المجال الذي أنشأه فرويد، بدأ كتقنية لمساعدة التعساء، وأصبح بعدها، أكثر نظرية مؤثرة في القرن العشرين حول عمل العقل البشري، بلا منازع.

 نظرية فرويد، التي طوّرها في تسعينياّت القرن التاسع عشر، وراجعها مراراً وتكراراً، كانت شاملة، وجذريّة. خلاصتها تقريبا، هي في أننا لا نعرف أنفسنا كما نعتقد. النظرية التي صاغها فرويد تتحدث عما يلي: العقل يُنتج بشكل متواصل رغبات وتمنيات قوية لكنها مكبوتة، أو بالأحرى، مُقصاة بسبب رقيبنا الداخليّ قبل أن نعرفها حتى. أكثر ما نفكر به، وما نقوم بعمله، تم تشكيله بواسطة هذه النزعات اللّا مَوْعيَّة، دون معرفتنا. الأحلام، زلّات اللسان، وأعراض  نفسية، كلها قد تكون نتيجة رغبات قام رقيبنا الداخلي بتحويرها، وتغيير هيئتها. من خلال “العلاج بالكلام” – وهو ممارسة التحليل النفسي- يقوم المعالج بمساعدة المريض في ملاحظة هذه الأشكال التي تم تحويرها، ومساعدته في تفسير الصراعات اللّا مَوْعيَّة من خلال ما تعكسه، ومحاولة إخراج هذه الصراعات إلى حيث الضوء، ضوء المعرفة الذاتية.
بعد فرويد، تقسّم التحليل النفسي، إلى عدة مدارسَ فكرية، لكن هناك فكرة ظلت أساسية، وثابتة لا تتزحزح على الرغم من اختلافات هذه المدارس، وهي الفكرة القائلة بأن هناك عالم داخلي، بصراعات لا نعيها، وأيضا، الملاحظة المتعلقة بأهمية التجربة الشخصية المتفردة [التجربة الشخصية المتفردة هنا (4)، تقابل فكرة الفهم الجاهز بمقاس واحد للجميع-المترجم] وأن هذه التجربة الشخصية المتفرّدة، مهمة وذات معنى. هاتان الفكرتان (العالم الداخلي، وأهمية التجربة الشخصية المتفردة)، ظلتا ثابتتين لتعبّرا عن ركيزة أساسية في التحليل النفسي، ونظرة هذا المجال للطبيعة البشرية. في هذه الأثناء، علم الأعصاب الحيوي - دراسة مادة الدماغ الفيزيائية - تطور في الاتجاه الآخر. علوم الأعصاب، ركزت على مسامير الدماغ وبراغيه، إن صحت العبارة، فقد ركزت على أشياء مثل: كيف تتخاطب الخلايا العصبية باستخدام النبضات الكيميائية، والكهربائية في آن واحد، كيف يتعلم الدماغ أن يقوم بالعمليات الحسابية، وأن يتذكر. لكن علوم الأعصاب، تجنبت الحديث عن التجربة الشخصية المتفردة، موجهة اهتمامها إلى ما يمكن قياسه وملاحظته فقط. مع نهاية القرن العشرين، التحليل النفسي، وعلوم الأعصاب، ظهرا للملاحظ وكأنهما لا يتحدثان عن موضوع واحد. كان التحليل النفسي، عدائيا لفكرة اختبار الفرضيات من خلال التجربة. وعلم الأعصاب ادعى بأنه يفسر الدماغ، لكنه تجاهل مُنتج الدماغ الأبهى: الإحساس الحميمي، بالغ الإدهاش، بتجربة (الوعي) لدى البشر.
هذا التناقض بينهما أمر مُخجل، لكنه في نفس الوقت، يشكّل فرصة رائعة لإعمال الفكر في الموضوع، قال هذا المحلل النفسي، والمختص بعلم النفس العصبي، من جنوب أفريقيا، مارك سولمز، الرئيس المشارك لجمعية التحليل النفسي المتعلق بعلوم الأعصاب (نيورسايكو انالسيس.) التحليل النفسي المتعلق بعلوم الأعصاب، هو مشروع حياته الشخصي، أكثر من أي شخص آخر، بالنسبة لحفلة هذا المساء المذكورة في بداية هذا المقال، هي توشك أن تكون حفلته الخاصة. يتجوّل في الغرفة، يرحّب بأدبٍ بالنساء، ويضمّ إلى صدره الأصدقاء القديمين من الرجال بعفوية. لو بدا كمبشّرٍ متحمس يحاول ضمّ أتباع جدد إلى ديانته، فهذا التصرف له أسبابه الوجيهة. سولمز مقتنع بأن إعادة ربط التحليل النفسي، وعلم الأعصاب ببعضهما، بعد تهتّك العرى بينهما، أمر مهم، وأساسي للغاية- الطريقة الوحيدة التي قد نتمكن بها من الوصول لفهم حقيقيّ للدماغ.
هناك من يظن أن النقطة هنا تتعلق بإثبات ما إذا كان فرويد محقا حيث يتعرض إرثه للتشكيك، لكنها ليست كذلك، الفكرة هنا هي في تطبيق التقنيات الحيوية الحديثة لاستكشاف أكثر بخصوص بعض أفكاره التي بقيت عبر الزمن. الفكرة، بتعبير آخر، هي في إدخال دراسة العقل مرة أخرى، تحت مظلة دراسة الدماغ. يقول سولمز: “التالي هو موضوع دراسة النيوروساكو انالسيس (التحليل النفسي المتعلق بعلوم الأعصاب)، وملخصه الأساسي:  الأشياء التي تجعل من الشخص شخصا (دواخله، أفكاره، مشاعره.. الخ) ما هي علاقتها بالأنسجة والوظائف الحيوية، وتشريح، وكيمياء الدماغ؟.” التحليل النفسي يقدم نظريات مدهشة وعميقة، ومستفزة أحيانا، حول المشاعر، والأفكار اللامَوعيّة، وطبيعة العقل. علم الأعصاب الحيوي، لديه القدرة لاختبار هذه الأفكار باستخدام أدوات ممتازة، وشروط بحثية ملتزمة. هذان المجالان، سويّة، قد يتمكنان أخيرا، من إجابة [عن] السؤال الأعظم، ذلك السؤال الأكثر صعوبة: كيف تخرج الأحلام، والتخيلات المأمولة ، والذكريات، والمشاعر – الذات الشخصية - كيف تخرج، من تلك القطعة المتكومة في جماجمنا؟

تأثير الأخ 
الرحلة الفكرية المدهشة الحماسية لسولمز، بدأت بمعاناة قديمة. حينما كان طفلا، أحبّ ، وحمل الكثير من الاحترام والمودة، لأخيه الأكبر، لي. لبالغ حزنه، حينما بلغ سولمز ٤ سنوات، سقط الأخ الأكبر لي من سطح نادي اليخوت، على رأسه، متسببا بإصابة بالغة للدماغ. حينما عاد الأخ الأكبر، لي، من المستشفى، كان قد تغيّر كثيرا. توقف لي عن الاهتمام بألعاب الفيديو المليئة بالتخيلات التي كان الأخوان يلعبانها سوية. كان بطيئا ومتعبا، وكان مضطرا إلى ارتداء خوذة.  أصبح الأخ المقرّب  شخصا مختلفا.
مارك سولمز، تحطم قلبه الصغير بعد خسارة صديقه المفضل. مأساته لم تتوقف هنا، فقد كانت مأساة وجودية، عطفا على خسارته هذه. أرهقه التساؤل: كيف يمكن لشخصية شخص أن تُطفأ بهذه الطريقة، كشمعة ضعيفة، فقط بضربة على رأسه!؟ هذه الصدمة، شكّلت سولمز بطرق لم يستطع إدراكها بشكل كامل لسنوات. حينما ابتدأ في دراسته الجامعية، في ١٩٨٠، درس الطب، وعلوم الدماغ، مخططاً لمساعدة الناس الذين يشبهون أخاه. لكنه في الوقت ذاته، كان يبحث عن إجابات لسؤال أرّقه:  ذلك الجسم الفيزيائي- المتكوم كلحمة في الجماجم- كيف يحدّد من نكون؟
بعد وقت قريب، اكتشف اكتشافاً أربكه وأحزنه، علم الأعصاب وقتها لم يكن يتساءل ويبحث عن الذات، ولم يكن يتعلق بدراسة هذه المعضلات الغامضة عن دواخل النفس والشخصية. علم الأعصاب، في مقابلة التعقيد العظيم للدماغ، ركزَ على الأسئلة التي يمكن تفتيتها لوحدات يمكن دراستها واختبارها.   التجربة الغنية لكونك شخصا، بذات مستقل، ودوامة الوجود، أمران لم يجدهما سولمز في منهج علم الأعصاب.
متعطشا لإجابات، تجوّل سولمز داخل حلقة نقاش في مجال الفلسفة في الجامعة عن نظرية فرويد عن الأحلام. اكتشف في حلقة النقاش هذه أن عقولنا مقسمة.   تتماوج - كما اكتشف - محرّكات (7) ال(هو-id) البدائية تحت السطح. ال (هو-id) هي القوى الذهنية التي قال فرويد أنها تُنتج الرغبة اللاموعية، والعنف، والتخيّلات المأمولة المخفيّة، والتمنيات. التقنية الذهنية، لما يسمى ال (أنا-Ego) تحاول جاهدة لاحتواء هذا التماوج المنفلت. أحد نتائج هذا الصراع المستمر: الروايات الملتوية، والعجائبية في الأحلام. حلقة النقاش أيضا وصفت محاولة فرويد التي أوقفها يائساً ليبني علوم النفس بأحجار العلوم العصبية، بعد أن أدرك بأن العالم لم يكن يملك وقتها ما يكفي من هذه الأحجار.
هذه التجربة أيقظت سولمز. كانت حلقة النقاش هذه كشمس أشرقت لإيقاظه. أخيرا، وجد في فرويد، عالما أراد أن يفكر بطريقة مترابطة وعلمية بخصوص المادة الحقيقة لحياتنا الداخلية. فكر سولمز: “هنا كان أستاذ الفلسفة هذا  في حلقة النقاش،  يتحدث عن الأحلام، عن التخيلات المأمولة، عن التمنيات، عن الجنس.هذه هي الحياة، هذا أنا الداخلي.” متحمساً، ذهب سولمز إلى أستاذه، بروفسور علوم الأعصاب الحيوية، وسأله من هم العلماء أو ما هو المجال الذي يدرس هذه الأفكار مستخدما ضوء العلم الحديث. الجواب: لا أحد.! قال الأستاذ لطالبه النجيب: هذه المواضيع ليست ملائمة للعلم.! وقال له أيضا: توقف عن التساؤل بشأن هذا الأمر، محذرا إياه بلطف مُعتقدا أنه يساعده بالفعل. كان آخر ما قاله له الأستاذ:”هذه التساؤلات، لو استمرت، ستأخذك إلى طريق الفشل في حياتك الوظيفيّة.”
اصطدم رأس سولمز بهذه العقبة الفكرية كأول الواصلين. في تلك الحقبة، الأفكار النفسية التحليلة كانت القائد الأساسي في علاج المرضى النفسيين. ولكن علماء المختبرات المنهمكين في أبحاث الدماغ - علماء الأعصاب - رفضوا قماشة التحليل النفسي كاملة، في طريقهم إلى غزل نسيج فهم كامل للدماغ. بالنسبة لهم، لم يكن هناك تجارب تخص الموضوع، لم يكن هناك معلومات موضوعية ممكنة الملاحظة، لجعل الأمر ممكن الاستيعاب.
في الثمانينيات، أصبحت ملاكمة أفكار فرويد تشبه أن تكون رياضة معترف بها داخل مجال علم الأعصاب. عالم الأعصاب الحيوية من جامعة هارفرد، جي آلان هوبسون استخدم تسجيلات لنشاط المخ أثناء النوم ليستهين بالنظرية التحليلية للأحلام بحماس وجذل ، وبالإشارة والاستنباط، كان يستهين بالأفكار الفرويدية الأساسية المتعلقة بالرقيب الداخلي، والكبت. حاول هوبسون أن يؤكد، بأن ما لا يُفهم من قصص الأحلام، سببه سيالات كهربائية عشوائية في الخلايا العصبية، مسألة كهربائية كما كان يعتقد؛ الكبت لا علاقة له بالموضوع!  كتب هوبسون بعدها: “التحليل النفسي ينتمي لمجموعة خردة أفكار عصية على الترتيب في كومة الفلسفة التأملية.” سخر بأفكار فرويد، حتى يخيّل للمتابع أنه يمارس الرقص على قبره!

معضلة وجودية غامضة 
سولمز، لم تثنه هذه العقبات. بعد أن انتهى من دراسة درجة الدكتوراة، في ١٩٩٢، كان يتوجب عليه الالتحاق بالتجنيد الإجباري للبيض في جنوب أفريقيا لو بقي. غادرها لوظيفة في علم النفس العصبي في المملكة المتحدة، كان يعالج المرضى الذين أصيبوا بجلطات في الدماغ، أو إصابات دماغ من أنواع أخرى. في الصباح، كان يتجول كمقدم لخدمة الرعاية الصحية في جناح إعادة التأهيل تحت مظلة جراحة الأعصاب، في مستشفى لندن الملكي. عند حلول المساء، كان يدرس ليصبح محللاً نفسيّاً. لاحظ سولمز، أن بعض ما كان يدرسه كان تخمينيّا ودوغمائيّاً، لكن على الأقل، التحليل النفسي، استوعب فكرة أن معضلات الدماغ الغامضة، كانت وجودية. ألقى التحليل النفسي، السؤال المهم، عن معنى أن تكون عقلاً مفكراً. تجاهُل هذه المعضلات،  كما فعل علم الأعصاب، كان خطأ ً تفكيريا ضخماً. سيكون الأمر يشبه محاولة شخص دراسة النظام الشمسي، وكواكبه، وهو يتجاهل أن الجاذبية موجودة، ويتصرف كما لو لم تكن موجودة. أي إجابة تحصل عليها، مع تجاهل كهذا، ستكون خاطئة بالضرورة.
كما لا يزال يُطلب من جميع المحللين النفسانيين أثناء التدريب، سولمز أخضع نفسه للتحليل النفسي: خمسة أيام في الأسبوع، لمدة تسع سنوات. كأنواع أخرى من العلاج النفسي بالكلام، التحليل النفسي يركّز على المشاعر، وعلى الاعتقادات بشأن العالم. لكنه يختلف عن أنواع العلاج النفسي الإرشادية (Counselling) قصيرة الأمد – والمنتشرة حاليا، التحليل النفسي يختلف عنها بكونه يستشكف الأفكار اللا موعيّة، والذكريات، وأفكاراً أخرى عن الذات تتسكع في دواخلنا تحت السطح الخارجي.
في النموذج الذي طوره فرويد، الجهود المتواصلة لأجزاء أخرى من العقل، التي تحاول التحكم في هذه النزعات القادرة على أن تكون مدمرة، هذه الجهود من الممكن أن تؤدي إلى أعراض تُعيق البشر، وتُثقل أرجلهم التي تحاول المسير في  رحلة الحياة، أعراض كالقلق، والاكتئاب، والبؤس المتغلغل. المحلل النفسي يساعد المريض المحزون، في أن يلاحظ النماذج المدمّرة [أو المضرّة] في حياته الخاصة، خاصة حينما يتجنّب المريض [دون وعي] ذكريات أو مشاعر مؤلمة. يقول سولمز: ”التحليل النفسي يتعلق بأن يساعدك المحلل على مواجهة الحقائق التي كنت ستفضّل عادة أن لا تواجهها”. في ممارسة التحليل النفسي، ما يحصل عادة، أن هذا العلاج الكلامي، يجعلك أكثر معرفة بذاتك على نحو عميق.
بالنسبة لسولمز، هذه التجربة [خضوعه للتحليل النفسي]، كانت تجربة تشبه الانعتاق. ساعدته في أن يتعرف أخيرا على الدرجة التي أثر بها الحادث الذي جرى لأخيه عليه. الأخ - الذي تعرض لإصابة في رأسه - لم يتمكن من استعادة قدراته  التي فقدها، وإلى اليوم يتصارع مع هذا الخلل الذهني. مُثقلا بالشفقة على أخيه، عبر مارك سولمز قنطرة طفولته محمّلا بشعور الذنب. كان ينمو، يتعلم، ينجز، ويفعل أشياء، لن يستطيع أخوه الأكبر فعلها يوما بعد إصابته. كاد شعور الذنب هذا أن يُثني الطفل مارك، وأن يجعله يتوقف عن المضي في هذه الرحلة الناجحة. فقط من خلال التحليل النفسي، أدرك أنه كثيرا ما تجنّب طموحه الخاص دون وعي بذلك. أدرك أيضاً أن الوقت حان ليشرع في مشروعه الفكري الذي سيطر على تفكيره طيلة حياته: دراسة العقل البشري، بإمعانٍ ودقّة.
ابتدأ بالتخطيط باحثاً عن طريقة يستطيع بها أن يتفحّص المفاهيم التحليلّة بطريقة علمية، مُبتدئاً بفرويد. في الوقت ذاته، ابتدأ سولمز باستخدام تقنيات مستقاة من التحليل النفسي لمساعدة مرضاه - الذين يعانون من إصابات في الدماغ - بالتأقلم مع ارتباكهم وخوفهم. بعضهم فقد أغلب ذكرياته. آخرون فقدوا القدرة على الكلام أو المشي. والبعض الآخرلم تكن لديه أدنى فكرة عن هويته الخاصة، ونسي من يكون. من وجهة نظر أغلب  الأطباء عادة، العلاج الكلامي مع هؤلاء المرضى كان تصرفا غريباً وغير معتاد: بحسب الفكرة السائدة: عقول هؤلاء المرضى لم تكن بحاجة للمساعدة، لأن العلّة كانت في عطب حقيقي في أدمغتهم. ولكن بالنسبة لسولمز، كان الأمر منطقياً تماما؛ كان يفكر:  بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الذين تبعثرت حياتهم فجأة، لاريب في أنهم محتاجون إلى العلاج النفسي كحاجتهم إلى العلاج الطبي. جلس سولمز مع هؤلاء المرضى واستمع إلى تجاربهم.
دراسة الطريقة التي يؤثر بها عطب في الدماغ على الأفكار والسلوك، أحد أقدم الأشياء في علم الأعصاب. ابتدأ سولمز بالتقييم المنهجي لهلوسات وضلالات مرضاه، باستخدام إضاءات بعض المفاهيم الفرويدية، كمفهوم الإنكار، ومفهوم، إشباع الرغبات الداخلية. بطريقة مبسطة جداً، هذان المفهومان يقترحان أننا عادة نفضّل رؤية العالم كما نتمناه، وليس كما هو فعلا. مواجهة الحقائق مسألة صعبة، تحتاج لجهد ذهني مضنٍ، ودماغ يعمل بصورة متفوقة. الشخص الذي لا يستطيع أن يداوم على تقديم هذا الجهد الذهني المضني، ينتهي به الحال إلى أن يعيش في عالم الخيالات المتأمّلَة، خارج حدود الواقع.
كثيرون من مرضى سولمز، خانتهم قواهم الذهنية في الحقيقة. بعضهم عاش بعد أن انفجر شريان في الدماغ، وذلك نوع شائع من أنواع جلطات الدماغ، والذي يؤدي عادة إلى عطب في مناطق في الدماغ مسؤولة عن إدراك المكان والزمان. مريض كهذا، تبلغ به الحيرة كل مبلغ، يبدأ باختلاق قصص عجائبية لتفسير العالم الخارجي، وهذا يعبّر عن حالة تسمى: فقدان الذاكرة الاختلاقي (Confabulatory Amnesia). بالنسبة لسمولز، كان الأمر مدهشاً للغاية. العقل المترصّد خلف ستارة الدماغ المعطوب، يساهم بإلقاء هذه القصص  العجائبية!
على سبيل المثال، أحد المرضى - مهندس كهربائي سابق - كان كثيرا ما يرحب بسولمز عند قدومه لغرفته على أساس أنه مهندس كهربائي زميل. قام هذا المريض بإخبار سولمز، والأطباء الآخرين بأنه يمتلك سيارة بورش، وسيارة فيراري، وكثيرا ما كان يطالب أطبائه بأن يختصروا المقابلة الطبية معه، ليتمكن - كما يقول - من الذهاب للعب السكواش. قد يسأل فجأة في منتصف الفحص، موجها سؤاله إلى الطبيب الذي يفحصه،”أين ذهب كأس البيرة الخاص بي؟”، وهو يتلفت باحثا عن الكأس بعينيه في أرجاء غرفة الفحص. من ناحية عصبية حيوية، مشكلة هذا المريض، انفجار شريان دماغي متمدد، أدى إلى عطب في الفص الأمامي من الدماغ، مما أدى إلى انحسار قدرة هذا الرجل على معرفة ومراقبة ذاكرته الخاصة. في المقابل، إذا تكلمنا من وجهة نظر التحليل النفسي، هذا الرجل كان يجسّد خيالاته التي طالما تمناها على أرض الواقع: كان مهندسا كهربائيا له احترامه بدلا من أن يكون مريضا بدماغ معطوب، كان يقود سيارات سباق فارهة، ويقضي وقتا في الحانة مستمتعا. الزوايتان هنا، الزواية العصبية الحيوية، وزاوية التحليل النفسي، كلاهما رأت جوانب حقيقية من جسد الحقيقة: دماغه - بلا شك - كان معطوبا، وعقله، ركض بعدها في بستان أحلام يقظة يعرض أشجار الحرية والسعادة.
مريض آخر، أخبر سولمز بسعادة وجذل، أن صديقا قديما زاره بالضبط قبل أن يدخل سولمز لغرفته، كان المريض يقول أنها كانت مفاجئة رائعة، بالنظر إلى أن هذا الزائر المزعوم، مات منذ عشرات السنين. مرضى آخرون، مشلولون جزئيا، تبعا لعطب في أحد شقّي الدماغ، أنكروا تماماً وجود أي مشكلة. كانوا يقولون مثلا، ” القضية فقط أنني تعبت من تحريك قدمي، وليست بأنني لا أستطيع تحريكها!”، أو، يبدأون في شرحٍ صبور طويل، لمحاولة إفهام سولمز، بأن هذه الأعضاء المشلولة التي يحملونها، تخص أناساً آخرين، وليست أعضاءهم الخاصة! المهم ملاحظته هنا، أنهم لم يكونوا يكذبون بطريقة واعية، كانوا يجهلون المشكلة تماما، يجهلون أن لديهم حالة تدعى: “انوسوقنوزيا.”
يؤمن سولمز، بأن التفسير الطبي الاعتيادي، القائل بأن هذا النوع من أعطاب الدماغ يتسبب في خلل في الانتباه، لا يستطيع توضيح سبب اختراع المرضى لهذه القصص العجائبية التجريدية ليشرحوا بها أسباب شللهم. التحليل النفسي يقدم تفسيرا أكثر منطقية: بدلا من مواجهة الحقائق الموجعة، تمكن هؤلاء المرضى بصورة لاموعيّة، من أن يعيشوا خيالاتهم المتأمَّلَة بأن يكونوا بخير. فحوى ضلالاتهم تعبر عن الأمنيات البشرية المعتادة: أن نكون أصحاء، وقادرين، وحيث منازلنا الأثيرة. هذا الأمر، مدهش، ويقشعر له البدن حزنا في آن واحد. يقول سولمز: ” هناك بالطبع الكثير من المعاناة والألم في حالاتهم، ولكن من ناحية علمية صرفة، حالتهم شبيهة بأن يدلف طفل لمحل ألعاب، ويبدأ بالتقاط أحلامه المشتهاة من على الرفوف”.
هذا الفهم، ساعد سولمز في ممارسته كمختص مع المرضى. لأنه يفكر في المشاعر المختبئة خلف خيالات المرضى، استطاع أن يفسر بعض تصرفاتهم الغريبة لعائلاتهم، وأن يتحدث مع مرضاه بطريقة تساهم في تهدئتهم. شرح الضلالات الغرائبية لمريض، عند الحديث معه عنها، بعبارة كـ: ” أنت تتمنى أن تكون الحياة بهذه الطريقة التي تراها بها الآن، لأنك تشعر بالخوف من حقيقتها”، عبارة تحسن من ارتباك المريض، ويفهم منها فكرة أن ضلالاته، مشاعرُ متخيّلة مأمولة. مع بضعة زملاء، قام سولمز بدراسة اختلاقات المريض المهندس - المذكور أعلاه - منهجيا، واكتشف أنها في مجملها تمنيات، واختلاقات تملأ فراغات ذاكرته بقطعٍ إيجابيّة. ابتدأ سولمز بربط التشخيص الطبي لمرضاه، بقصصهم الشخصية عن حالاتهم من وجهة نظرهم هم، وكان يبتديء بذلك ممارسة علمية تدعى: نيوروسايكو أنالسيس ( التحليل النفسي المتعلق بعلوم الأعصاب).



د. متعب حامد، طبيب نفسي، زميل الكلية الملكية للأطباء، كندا
الهامش- ملاحظات متعلقة بالترجمة:
(1) نيوروسايكو انالسيس : Neuropsychoanalysis أغلب الحديث في هذا المقال يتعلق بهذا المجال. وهو مجال حديث يختص بدراسة العلاقة بين التحليل النفسي وعلم الأعصاب.
(2)  Repress : كبت، وهي ترجمة مشابهة ل  Suppress. ولا أعلم عن ترجمة عربية تفرق بين المفهومين، وشرح ذلك كما يلي.
Repress : تتعلق بكبت لا موعيّ.
Suppress : تتعلق بكبت واعٍ تم اختياره ، بقرار واضح.
(3) قمت بترجمة unconscious ب (لامَوْعِيّ) حينما جاءت في سياق كونها صفة لما لم يتم وعيه. وذلك بعد بحث وتمحيص وغياب المقابل العربي الدقيق، حيث تمت ترجمتها باللاوعي، واللاشعور، وهذه عبارة عن أسماء مصدر ولا يصح استخدامها كصفة. على سبيل المثال، ينتشر في أدبياتنا استخدام عبارة (فكرة لا واعية)، وهذا استخدام خاطيء ومضلل حيث أن الفكرة لا تكون لا واعية بذاتها. أو يتم الالتفاف على هذا الاستخدام اللغوي الخاطيء بعبارة ك:(فكرة في اللاوعي)، وهذا أيضا استخدام أراه يشجع سوء الفهم، حيث يتم الحديث عن اللاوعي كصندوق، مما قد يناسب النظرية الأولى (الطبوغرافية) لفرويد، لكنه لا يناسب الفهم الحالي. يصبح الحديث عن أفكار لا يعيها الشخص، أقرب إلى الفهم حينما يتم استخدام عدم الوعي بها كصفة تخصها، كما في النصوص الأصلية.
(4) قمت بترجمة Subjective Experience ك: التجربة الشخصية المتفردة، وذلك لمحاولة التقاط المعنى التقني، الذي لا تلتقطه عبارة: “التجربة الشخصية” الشائعة وحدها.
(5) التفرقة بين الدماغ (Brain) ، والعقل (Mind) تفرقة أساسية خلال هذا المقال. فالدماغ، اسم للعضو نفسه الموجود داخل الجمجمة، والعقل تعبير معنوي، يقصد به وصف للأنشطة والوظائف العقلية.
(6) التخيّلات المأمولة: .Fantasy ترجمة الكلمة المعتادة هي إما (الأحلام) أو (الخيال)، وكلاهما لا يلتقط المعنى المقصود حيث تعبر الكلمة، عن تخيلات مأمولة.
(7) في النظرية التركيبية لفرويد (1923):
الهو (id)
(ego) الأنا
(superego) الأنا الأعلى.


ليست هناك تعليقات: