الأحد، 7 أكتوبر 2018

نصوص فلسفية (كارل بوبر)؛ التعريفات المستحيلة 2. أو التعريفات بين اليسار واليمين.




نصوص فلسفية (كارل بوبر، من كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه")
[التعريفات المستحيلة، أو التعريفات بين اليسار واليمين]


يختلف دور التعريفات، لا سيما في العلم، اختلافاً كبيراً عمّا كان يعتقده أرسطو. قال أرسطو إنه في التعريف نشير أولاً إلى الجوهر ـ عن طريق تسميته ـ ومن ثَمَّ نصفه بمعونة الصيغة المعرِّفة، كما هو الحال في عبارة عادية مثل "هذا لاجرو بُنّي اللون"؛ فنحن نشير أولاً إلى شيءٍ محدد بقولنا "هذا الجرو"، ثم نصفه بأنه "بُنّي". ويقول إنه عن طريق وصف الجوهر الذي يشير إليه الحدُّ المعَرَّف، نحدد "معنى" الحدّ أو نشرحه أيضاً. وعليه، يجيب التعريفُ في آنٍ معاً عن سؤالين مترابطين غاية الترابط. السؤال الأول: "ما هو؟"، مثلاً: "ما هذا الجرو؟"؛ فهو يتساءل عما يكونه الجوهر المشار إليه في الحدِّ المعرَّف. أما السؤال الثاني: "ماذا يعني هذا؟"، مثلاً: "ماذا تعني كلمة "جرو"؟"، فيتساءل عن معنى الحدّ [الكلمة] (على وجه التحديد، معنى الكلمة التي تشير إلى الجوهر). في السياق الحالي، ليس من الضروري التمييز بين هذين السؤالين؛ بل المهم ؤؤية ما ينطويان عليه من قواسمَ مشتركة. وإني لأريد لفت الانتباه ـ على الأخص ـ إلى أن كلا السؤالين يثيرهما الحدّ الذي يقف في عبارة التعريف على الجانب الأيس، وتجيب عنهما الصيغة المعرِّفة التي تقف على الجانب الأيمن. وتلك خصيصة تميّز الرؤية الجوهرانية التي تختلف جذرياً عن المنهج العلمي المتبع في صياغة التعريفات.
فبينما يمكننا القول بأن التفسير الجوهراني يقرأ التعريف قراءةً "عادية"، أي من "اليسار إلى اليمين"، يمكننا القول بأن التعريف كما يُستخدَم عادةً في العلم الحديث يجب أن يُقرأ من الخلف إلى الأمام أو من اليمين إلى اليسار؛ نظراً إلى أنه يبدأ بالصيغة المعرِّفة ويطلب وصفاً قصيراً له. ومن ثَمّ، فالرؤية العلمية للتعريف ـ "الجرو كلبٌ صغير السن" ـ ستكون أنه إجابة عن السؤال "ما الذي ينبغي أن نسميه كلباً صغير السن؟" وليس إجابةً عن السؤال "ما الجرو؟". (فالأسئلة من قبيل "ما الحياة؟"، أو "ما الجاذبية؟"، لا تقوم بأيّ دور في العلم). الاستخدام العلمي للتعريفات، الذي يتميز بالبدء "من اليمين إلى اليسار" يسمّى تفسيراً "إسمياً"، في مقابل التفسير الأرسطي أو "الجوهران". في العلم الحديث، التعريفات الإسمية وحدها تحدث، أي: رموز أو أوصاف مختزَلة تعطي خلاصة قصيرة. وعلى الفور نفهم من ذلك أن التعريفات "لا" تقوم بأي دورٍ مهم في العلم. وبطبيعة الحال، تحل دوماً محلّ الرموز المختزَلة تعابيرُ أطول؛ أي: الصيغة المعرِّفة التي ترمز إليها الرموز. وهذا من شأنه في بعض الحالات جعْل لغتنا العلمية عبئاً معرقِلاً؛ وهو ما يعني إضاعة الوقت والورق والحبر. لكن، ينبغي ألا نفقد أقل تفصيلة من تفصيلات المعلوما عن الوقائع. فـ"معرفتُنا العلمية"، بالمعنى الذي يمكن به استخدام هذا المصطلح استخداماً ملائماً صحيحاً، لن تتأثر بالمرّة لو ألغينا كل التعريفات؛ والأثر الوحيد الوارد يتعلق بلغتنا التي لن تفقد الدقة بل مجرد الإيجاء. (يجب ألا يُفهَم من ذلك عدم وجود ضرورة علمية ماسّة لتقديم تعريفات في العلم، تحرّياً للإيجاز). لا يوجد تباين أكبر من التباين بين تلك الرؤية للدور الذي تقوم به التعريفات ورؤية أرسطو. فالتعريفات الجوهرانية عند أرسطو هي المبادئ التي تُستمدّ منها كل معرفتنا، ومن ثَمّ تتضمن كل معرفتنا، وهي تعمل على استبدال صيغةٍ طويلة بصيغةٍ قصيرة. وعلى النقيض من هذا، لا تتضمن التعريفات العلمية أو الإسمية أية معرفة مهما كانت، ولا حتى أيَّ "رأي"؛ فهي لا تقدم سوى عناوين مختزَلة اعتباطية جديدة، إنها خلاصة قَول.
وتلك العناوين ذات فائدة كبرى في الممارسة. ومن أجل إدراك هذا، لا نحتاج سوى إلى النظر في الصعوبات الشديدة التي ستنشأ لو أن عالِماً في علم الجراثيم كلما تحدث عن سلالة من الجراثيم وجَب عليه تكرار بياناتها [وصفها] بالكامل (بما في ذلك طرائقها الصّبغية إلخ، التي تميّزها عن أنواعٍ أخلى مماثلة). ونفهم أيضاً ـ لاعتبار مماثل ـ لماذا يذهب طيّ النسيان في كثير من الأحيان، حتى من قِبل العلماء أنفسِهم، وجوب قراءة التعريفات العلمية "من اليمين إلى اليسار"، كما شرحنا أعلاه. بالنسبة إلى معظم الناس، عند الدراسة الأولى لعلمٍ ما، وليكن علم الجراثيم، لا بدّ من محاولة إيجاد معاني كل المصطلحات التقنية الجديدة التي سيقابلها الدارِس. بهذه الطريقة، سيتعلم الدارس في واقع الحال التعريف "من اليسار إلى اليمين"، كما لو أنه تعريف جوهراني، مستبدلين بالقصة القصيرة جداً قصةً طويلةً حداً. لكن ذلك مجرد مصادفة سيكولوجية؛ فالمعلِّم أو كاتبُ نصٍ في كتاب يتصرف بطريقة مختلفة تماماً؛ أي لا يقدّم مصطلحاً تقنياً إلا بعد ظهور حاجةٍ ملحّة إليه.
حتى الآن حاولت إيضاح الاختلاف الكامل بين الاستخدام العلمي أو الإسمي للتعريفات وبين النهج الجوهراني في التعريفات عند أرسطو. ومن الواضح أيضاً أن الرؤية الجوهرانية في التعريفات لا يمكن الدفاع عنها في حد ذاتها، بكل بساطة. وكيلا نطيل في هذا الاستطراد أكثر مما يجب سأنتقد اثنين فحسب من المذاهب الجوهرانية لهما مغزى وأهمية؛ لأن بعض المدارس الحديثة الفاعلة لا تزال تستند إليهما. الأول هو المذهب الباطني في الحدس العقلي، والثاني مذهب عاميّ جداً [شعبي جداً] يقول بأنه "علينا تحديد كلماتنا" لو أردنا الدقة. (صص 35، 37)

[حدس الماهيات، لا هو بالعلم ولا هو بالفلسفة]
يتفق أرسطو مع أفلاطون في أننا نحوز مَلَكَةً أو حدساً عقلياً يمكّننا من تصوّر الجواهر وإيجاد التعريف الصحيح لها، ويعتنق العديد من فلاسفة الجوهر المحدثين هذا المذهب. وثمة فلاسفةٌ آخرون من أتباع كانط يزعمون أننا لا نحوز أيَّ شيءٍ من هذا القبيل. وأرى أنه بوسعنا ـ وبسهولة ـ الاعتراف بامتلاكنا ما يوصف بأنه "حدسٌ عقليٌّ"، أو بتعبير أدق: بعض خبراتنا العقلية أو الفكرية توصَف بأنها حدوسٌ عقلية. مَن "يفهم" فكرةً أو وجهة نظر أو طريقةً في الحساب ـ مثلاً عملية الضرب الحسابي ـ بمعنى أن لديه "ألفة استعمال"، يفهم هذا الأمر حدسياً، وثمة عدد لا يُحصى من التجارب العقلية على هذه الشاكلة. ولكني من جهةٍ أخرى، أصرُّ على أن تلك التجارب ـ وهي مهمة بالنسبة إلى جهودنا العلمية ـ لا تقوم بدورٍ في إثبات صدق [صحة] أية فكرةٍ أو نظرية؛ ومع ذلك فقد يشعر شخصٌ شعوراً حدسياً قوياً بأنها صحيحة أو أنها "بديهية". إن حدوساً من هذا القبيل لا تُكوّن حجّة، مع أنها تدفعنا إلى البحث عن الحجج. وعند شخصٍ آخر قد يوجد حدسٌ قويٌّ وصائب بأن النظرية نفسها غير صحيحة أو زائفة. إن طريق العلم مرصوفٌ بنظرياتٍ مهجورة كان يقال إنها بديهية؛ فمثلاً كان فرنسيس بيكون (1561ـ 1626) يتهكم ممن أنكروا الحقيقة البديهية القائلة بأن الشمس والنجوم تدور حول الأرض التي كان من الواضح أنها لا تتحرك. لا ريب في قيام الحدس بدورٍ كبيرٍ في حياة العالِم، كالدور الذي يقوم به في حياة الشاعر. فهو يؤدي به إلى اكتشافات، وقد يؤدي به إلى إخفاقاتٍ أيضاً. ولكن يظل الحدس دوماً شأناً خاصاً بالمرء، إن جاز القول. فالعلم لا يَسأل عن الطريقة التي توصّل بها المرء إلى أفكاره، ولا يلقي بالاً سوى إلى الحجج التي يمكن لكل أحدٍ اختبارُها. وقد وصف عالِم الرياضيات العظيم غوسّ Gauss هذا الموقف وصفاً جدّ دقيق حين هتف ذات مرة: "لقد حصلتُ على فكرتي، ولكني لا أعرف كيف توصلت إليها". وبطبيعة الحال، ينطبق ذلك كلّه على مذهب أرسطو في الحدس العقلي بما يُسمّى الجواهر، الذي روّج له هيغل، ثم في زمننا روّجه هوسرل وتلامذته الكُثُر؛ وهو ما يشير إلى أن نهج "الحدس العقلي بالجواهر" أو "الفينومينولوجيا المحضة" كما يسميه هوسرل، ليس علماً، كلا، ولا فلسفة. (فالسؤال الذي كان محل جدلٍ كثير بخصوص ما إذا كان هذا المنهج اختراعاً جديداً، كما يعتقد أصحاب الفينومينولوجيا المحضة، أم ربما بلورة للديكارتية أو الهيغلية، يمكن الفصل فيه بسهولة: إنه بلوةٌ للأرسطية). (صص 38، 39)

ليست هناك تعليقات: