الجمعة، 12 أكتوبر 2018

بين كانط وهيغل؛ كارل بوبر.



[بين كانط وهيغل]
كارل بوبر


لم يحاول هيغل أبداً دحض كانط [أو تفنيده (في قوله باستحالة الميتافيزيقا)]. لقد أبدى له احتراماً، ثم انعطف بوجهة نظره إلى نقيضها. تلك هي الكيفية التي حُوِّل بها "ديالكتيك" كانط ـ الهجوم على الميتافزيقا ـ إلى "ديالكتيك هيغلي"، وهو الأداة الرئيسية للميتافيزيقا.
لقد أكّد كانط في كتابه "نقد العقل المحض" بتأثير من هيوم ـ أن التأمل الخالص أو العقل المحض متى تجاسر على الدخول في حقلٍ لا يقبل احتمال المراجعة التجريبية، فهو معرَّضٌ للسقوط في التناقض أو "التضارب" وإنتاج ما يصفه كانط بأنه "محض أهواء" و"لغو" و"أوهام" و"دوغمائية عقيمة" و"زعم سطحي بمعرفة كل شيء".
لقد حاول كانط تبيان أن كل قولٍ ميتافيزيقي، أو "فرضيّة"، في ما يتعلق مثلاً ببدء العالم في الزمان، أو وجود الله، يتناقض مع قولٍ آخر نقيضٍ أو "فرضيّة نقيضة"؛ وكلاهما ينجمان عن الفرضيات نفسها، ويمكن إثباتُهما أو البرهنة عليهما بـ"الدليل" نفسه. وبعباراتٍ أخرى، عند مغادرة حقل التجربة، لا ينطوي تأمُّلُنا أو تفكيرنا على أيِّ تقدير علمي، ما دام يوجد لكل حجةٍ ـ حتماً ـ حجةٌ مضادة لها المشروعية نفسها. وكان كانط يهدف من هذا إلى إيقاف "التزايد اللعين" للكتَبَة والنُسّاخ المتحدثين في الميتافيزيقا، نهائياً. ولكن لسوء الحظ جاءت النتيجةُ جدَّ مختلفة. فلم يوقف كانط سوى محاولاتِ الكتبة والنُسّاخ توظيف الحجة العقلانية؛ فكفّوا عن التعليم، ولكنهم لم يكفّوا عن إغواء العامة وفتنتهم (كما قال شوبنهور). وتبعاً لهذا التطور، يتحمل كانط نفسه بلا ريب نصيباً معتبَراً من اللوم؛ لأن الأسلوب الغامض الذي اتبعه في كتابه (الذي كتبه على عجلة كبيرةٍ من أمره، وإن جاء بعد سنوات طويلة من التأمل) أسهم إلى حدٍ كبير في زيادة عدم وضوح الكتابة النظرية الألمانية. ولم يبذل الكَتَبة الميتافيزيقيون الذين جاءوا بعد كانط أية محاولة لتفنيد أفكاره أو دحضها. وهيغل على الأخص، تجرّأ على مناصرة كانط بهدف "إحياء اسم الديالكتيك وإعادته إلى القائمة المبجَّلة"؛ فقال إن كانط كان محقاً تماماً في الإشارة إلى التضارب [والتناقض] ولكن جافاه الصواب في قلقه بشأنه؛ لأن التناقضَ مباطِنٌ لطبيعة العقل نفسه الذي يناقض نفسَه حتماً، فالتناقض ليس ضعفاً في مَلَكاتنا البشرية ـ  كما يجزم هيغل ـ بل هو جوهر عيني لكل العقلانية التي لا بدّ أن تعمل من خلال التناقض والتعارض، فهو الطريق الوحيد الذي يتطوّر العقلُ به. ويؤكد هيغل أن كانط حلّل العقلَ كما لو كان شيئاً جامداً؛ فنسي أن البشرية تتطوّر، ومعها يتطوّر ميراثُنا الاجتماعي. فعقلُنا هو ثمرة هذا الميراث الاجتماعي، وثمرة التطور التاريخي للجماعة الاجتماعية التي نعيش فيها، ألا وهي الأمة [الشعب]. وهذا التطوّر ينتقل ديالكتيكياً، أي من خلال إيقاعٍ ثلاثي. فأولاً توجد الفرضية، ولكنها ستُنتِج نقداً لأن خصومَها سيناقضونها مؤكدين صحة نقيضها، أي الفرضية النقيضة؛ وفي أثناء صراع وجهات النظر هذا، نحصل على التركيب أو التوليف، أي على وحدة الأضداد التي تمثّل حلاً وسطاً توفيقياً على مستوى أعلى. فالتوليف أو التركيب يمتص، لو جاز القول، الموقفين الأصليين المتعارضين، بنسخهما كل على حدة والحلول محلهما؛ فهو يختزلهما إلى مكوناته، عن طريق الإلغاء والرفع والحفظ. بذلك يتأسّس على الفور التوليف أو التركيب، وتكرِّر العملية بكاملها نفسَها على المستوى الأعلى الذي وصلت إليه. وتكرِّرُ العملية نفسَها على المستوى الأعلى الذي وصلت إليه. ذلك بإيجاز هو إيقاع التقدم الثلاثي الذي يسميه هيغل "المثلث الديالكتيكي" [المثلث الجدلي].
وإني لأعترف بأن هذا ليس وصفاً سيئاً للطريقة التي يتقدم بها النقاش النقدي أحياناً ومن ثَمّ التفكير العلمي أيضاً. فالنقد كله يتألف من الإشارة إلى بعض التناقضات أو التضاربات، ويتألف التقدم العلمي إلى حدٍ كبير من إلغاء التناقضات متى عثرنا عليها. وهو ما يعني أن العلم يتقدم على افتراض عدم جواز التناقض، وتجنبه، بحيث يفرض اكتشاف التناقض على العالِم بذلَ كل محاولةٍ لإلغائه أو التخلص منه؛ فحين يُعترَف بوجود تناقض لا بدّ أن ينهارالعلمُ كله. لكن هيغل يستمد من مثلثه الديالكتيكي درساً جدَّ مختلف، وهو الآتي: ما دامت التناقضات هي أدواتٍ يتقدم بها العلم، يخلص هيغل إلى أن التناقضات ليست جائزةً وواردةً فحسب، بل مرغوباً في وجوداها للغاية أيضاً. تلك هي عقيدة هيغل التي تهدم حتماً أية حجة وأيَّ تقدم علمي. فالتناقضات حين تكون حتميةً ومرغوباً فيها فلا ضرورة للتخلص منها، وبهذه الطريقة وحدها يصل التقدم إلى غايته حتماً. 

 (كارل بوبر؛ "المجتمع المفتورح وأعداؤه، الكتاب الثاني؛ صص 71، 73)



ليست هناك تعليقات: