الأحد، 7 أكتوبر 2018

نصوص فلسفية (كارل بوبر)؛ التعريفات المستحيلة.


كارل بوبر: نصوص فلسفية (من كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه")
[التعريفات المستحيلة]


يمكن تلخيص تطوّر الفكر منذ أرسطو بالقول إن كل مجال معرفي ما دام يستخدم المنهج  الأرسطي في التعريف، سيظل أسير حالة من الإطناب الفارغ والمدرسيّة الجوفاء، ويتوقف تحقيق أيِّ تقدم في أيّ علمٍ على درجة تخلّصه من المنهج الجوهراني. (29)
مما لا شك فيه أن أرسطو كان على حقٍ عندما أصرَّ على وجوب ألا نحاول إثبات "كل" معرفتنا أو البرهنة عليها. فكل دليل لا بدّ أن ينبثق عن مقدمات منطقية. ولذا، فالدليل بحد ذاته ـ أي الاشتقاق من مقدمات منطقية ـ لا يمكنه الفصل في صدق أيِّ استدلال فصلاً نهائياً، ولكنه لا يبيّن سوى أن الاستنتاج كي يكون صحيحاً لا بدّ أن تعطيه مقدماتٌ منطقيةٌ صحيحة. ولو طالبنا بضرورة البرهنة على المقدمات المنطقية أيضاً فستتزحزح مسألة الصحة [الصدق] إلى الوراء عن طريق خطوةٍ أخرى إلى مجموعةٍ جديدة من المقدمات المنطقية، وهكذا، إلى ما لا نهاية. وكان من أجل تجنب ذلك التراجع اللانهائي (كما يقول المناطِقة) إنْ قال أرسطو بضرورة افتراض وجود مقدماتٍ منطقية لا شك في صحتها ولا تحتاج إلى أيّ دليل؛ وهي ما يسميها "المقدمات المنطقية الأساسية" [فرضيات أساسية]. فإذا سلّمنا جدلاً بمناهجِ استمداد الاستدلالات من تلك المقدمات المنطقية الأساسية، فعندئذٍ يمكننا القول ـ طبقاً لأرسطو ـ بأن كل المعرفة العلمية متضمّنة في المقدمات المنطقية الأساسية، وبأننا سنمتلك المعرفة كلها لو تمكنّا من الحصول على قائمةٍ موسوعية بالمقدمات المنطقية الأساسية. لكن كيف نحصل على تلك المقدمات المنطقية الأساسية؟. اعتقد أرسطو ـ كما اعتقد أفلاطون ـ أنه يمكننا اكتساب كل المعارف عن طريق إدراك حدسي بجواهر الأشياء. يقول أرسطو: "يمكننا معرفة الشيء لو عرفنا جوهره فحسب، فمعرفة الشيء هي معرفة جوهره". وطبقاً له، ليست "المقدمة المنطقية الأساسية" سوى عبارةٍ خبرية تصف جوهر الشيء. وتلك العبارة يسميها أرسطو تعريفاً. وهكذا فكل "المقدمات المنطقية الأساسية للأدلة" هي تعريفات.
على أيّ نحوٍ يكون التعريف؟. "الجرو"، وهي تسمّى الحد المعرَّف؛ أما الكلمات "كلبٌ صغير السن" فتسمى صيغة التعريف. في العادة تكون صيغة التعريف أطول وأعقد من الحد المعرَّف، وأحياناً تطول كثيراً جداً. ويعتبر أرسطو الحد المعرَّف اسماً لجوهر الشيء، أما صيغة التعريف فهي وصف ذلك الجوهر. وهو يصرّ على أن صيغة التعريف لا بد أن تعطي وصفاً شاملاً للجوهر أو لخصائص الشيء الجوهرية محلّ البحث؛ ولذا فرغم صحة عبارةٍ كـ"الجرو لديه أربعة أرجل" فهي ليست تعريفاً كافياً، ما دامت لا تتضمن قماشة [خام] جوهرية الجروية، فهي تصدق على الحصان أيضاً. وبالمثل، رغم أن العبارة "الجرو بنيّ اللون" تصدق على بعض الجراء فلا تصدق على كل الجراء؛ لأنها تصف ما ليس جوهرياً بل خاصة عارِضة من خواص الحد المعرَّف.
لكن المسألة الأصعب هي كيف يمكننا الحصول على التعريفات أو المقدمات المنطقية الأساسية، وتأكّدُنا من صحتها، أي: لم ينكن مخطئين، ولم نمسك بالجوهر الغلط. مع أن أرسطو ليس واضحاً بهذا الشأن، فثمة قدر ضئيل من الشك في اقتفائه خطى أفلاطون بصفةٍ عامة. يقول أفلاطون إنه يمكننا إدراك الأفكار [المثل] بمعونة حدسٍ عقلي غير خاطئ؛ بمعنى أننا نتصور [نتخيل] [المثل أو الأفكار] أو ننظر إليها بـ "عين العقل"، وهي عملية يعتقد أفلاطون أنهامماثلة لفعل النظر، ولكنها تعتمد اعتماداً كلياً على عقلنا فتستبعد أيَّ عنصر يعتمد على حواسنا. أما وجهة نظر أرسطو فأقل جذرية وأقل إلهاماً من وجهة نظر أفلاطون، ولكنها ترقى إليها في نهاية المطاف. فرغم قوله بأننا لا نصل إلى التعريف إلا بعد قيامنا بملاحظات عديدة، يعترف بأن الخبرة الحسية لا تدرِك بحد ذاتها الجوهر الكلي، ولذ لا يمكنها تحديد تعريفٍ كامل. وفي النهاية يفترض أرسطو سلفاً ـ بكل بساطة ـ أننا نحوز حدساً عقلياً، بمعنى: مَلَكة ذهنية أو عقلية تمكننا من إدراك جواهر الأشياء ومعرفتها دون الوقوع في خطأ. والأكثر من هذا، يفترض أننا لو عرفنا جوهراً ما معرفةً حدسيةً فلا بد أن نكون قادرين على وصفه ومن ثَمّ تعريفه. (إن حججه في "التحليلات الثانية" لصالح تلك النظرية ضعيفةٌ بشكلٍ مدهش. فهي لا تتألف إلا من الإشارة إلى أن معرفتنا بالمقدمات المنطقية الأساسية لا يمكن البرهنة عليها ما دامت ستقودنا البرهنة إلى تراجع لانهائي، وأن المقدمات المنطقية الأساسية لا بدّ أن تكون صحيحة ويقينية كالاستدلالات المؤسَّسة عليها. يقول أرسطو: "وينتج عن ذلك عدم وجود معرفة برهانية في المقدمات المنطقية الأولية. وبما أنه لا شيء سوى الحدس العقلي أصح من المعرفة البرهانية، فيترتب على ذلك وجوباً أن الحدس العقلي هو الذي يدرك المقدمات المنطقية الأساسية". في كتابه "النفس"، وفي الجزء اللاهوتي من كتابه "الميتافيزيقا"، نجد أزيد من حجة؛ لأن لدينا هنا "نظرية" حدس عقلي يرتبط بموضوعه، الجوهر، بل يصبح وإياه شيئاً واحداً. "المعرفة الفعلية [الواقعية] متطابقة مع موضوعها").
ويتلخيص هذا التحليل الموجز يمكننا ـ في م أعتقد ـ إعطاء وصفٍ معقول [منصف] للمثل الأعلى الأرسطي الخاص بالمعرفة الكاملة والتامة لو قلنا إنه يرى الهدف الأخير من كل بحث هو جمع تصنيفي موسوعي يتضمن التعريفات الحدسية لكل الجواهر، أي أسماءها المقترنه بصيغها التعريفية؛ ويعتبر أن تقدم المعرفة يتألف من تراكم تدريجي في موسوعة من هذا القبيل، ومن توسيعها وملء الثغرات فيها، ومن الاشتقاق القائم على القياس المنطقي لـ "متن الحقائق الكامل" الذي يشكل المعرفة البرهانية. وما من شك في تناقض تلك الرؤى ووجهات النظر الجوهرانية تناقضاً كاملاً مع مناهج العلم الحديث. (ويدور في ذهني العلوم التجريبية، وليس منها ربما الرياضيات البحتة). أولاً، في العلم نبذل قصارى جهدنا للعثور على الحقييقة، ونحن على وعيٍ بأننا غير متأكدين مما إذا كنا حصلنا عليها أم لا. لقد تعلَّمنا في الماضي، من خيبات أملٍ عديدة، أننا يجب ألا نتوقع حالةً نهائيةً ثابتة [غائية]. وقد تعلمنا ألا تصيبنا خيبة أملٍ بعد الآن ما دامت نظرياتنا العلمية يتم إسقاطها [الإطاحة بها]. ففي معظم الحالات، وبثقة كبيرة، يمكننا تحديد أي النظريتين هي النظرية الأفضل. ولذا بوسعنا معرفة أننا نحرز تقدماً؛ تلك هي المعرفة التي تعوّضُنا عن فقدان وهم الغائية أو اليقين. وبكلمان أخرى، "نعرف أن نظرياتنا العلمية يجب أن تظلَّ فرضياتٍ دوماً، وأنه بوسعنا في حالات عديدةٍ مهمة اكتشاف ما إذا كانت فرضيةٌ جديدةٌ أفضل من فرضيةٍ قديمة. فلو اختلفت الفرضيات فستؤدي إلى توقعات مختلفة، يمكن اختبارها تجريبياً في كثيرٍ من الأحيان. وعلى أساس تجربةٍ حاسمة من هذا القبيل، بوسعنا أحياناً اكتشاف أن النظرية الجديدة تؤدي إلى نتائج مُرضِية فتنهار النظرية القديمة. ومن ثّمّ، يمكننا القول بأنه أثناء بحثنا عن الحقيقة، نستبدل باليقين العلمي التقدمَ العلمي. (صص 30، 33)
هامش: حين نقول عبارةً من قَبِيل "نستبدل باليقين العلمي التقدمَ العلمي"؛ فهذا معناه أن الشيء المتروك هو الوارد بعد حرف الباء مباشرةً، وليس العكس. بمعنى أنه يشيع التركيب "نستبدل اليقين العلمي بالتقدم العلمي" ظناً أن المروك هو الذي لا يلتصق به حرف الباء، وهذا خطأ تركيبي شائع بتأثير من التركيب الإنجليزي. (حسام نايل)

ليست هناك تعليقات: